شرح مختصر الروضة
مقدمة
{انظر إبطال القياس والرأي الاستحسان لابن حزم}
الفصل الأول في تعريف أصول الفقه
الفصل الثاني: في التكليف
الفصل الثالث: في أحكام التكليف
الفصل الرابع: في اللغات
الأصول المتفق عليها، الكتاب
السنة
الآحاد
القول في النسخ
الأوامر والنواهي، الأمر
النهي
فوائد مشتركة بين الأمر والنهي
العموم والخصوص، العام
الخاص
الاستثناء
الشرط
الغاية
المطلق والمقيد
المجمل
المبين
خاتمة: فحوى اللفظ
الإجماع
استصحاب الحال
الأصول المختلف فيها، الأول: شرع من قبلنا
الثاني: قول الصحابي
الثالث: الاستحسان
الرابع: الاستصلاح
القياس
الاجتهاد، خاتمة
شرح مختصر الروضة
ـ[شرح مختصر الروضة]ـ
المؤلف: سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (المتوفى: 716هـ)
المحقق: عبد الله بن عبد المحسن التركي
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1407 هـ / 1987 م
عدد الأجزاء: 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُمَّ يَا وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَيَا مُوجِدَ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَيَا مُفِيضَ الْخَيْرِ وَالْجُودِ، عَلَى كُلِّ قَاصٍ مِنْ خَلْقِهِ وَدَانٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ نَجْمُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الطُّوفِيُّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ: قَوْلُهُ: " اللَّهُمَّ يَا وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَيَا مُوجِدَ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَيَا مُفِيضَ الْخَيْرِ وَالْجُودِ، عَلَى كُلِّ قَاصٍ مِنْ خَلْقِهِ وَدَانٍ ".
الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَنَظَائِرَهَا مِنْ خُطْبَةِ الْكِتَابِ مُرَبَّعَةٌ نُونِيَّةٌ. أَعْنِي أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْبَعِ فِقَرٍ: ثَلَاثٌ مِنْهَا عَلَى فَاصِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالرَّابِعَةُ فَاصِلَتُهَا نُونٌ، غَيْرَ أَنَّ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ تَخْتَلِفُ حُرُوفُ فَوَاصِلِ فِقَرِهَا فِي الْخُطْبَةِ، كَالدَّالِ فِي هَذِهِ، وَالْهَاءِ وَالْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهَا، كَقَوْلِهِ: " الْبَاهِرَةِ " وَ " النَّدَمِ " وَ " الْآلَاءِ " و" أَسْلَمَ " وَ " أَصْفِيَائِكَ " إِلَى آخَرِ الْخُطْبَةِ، وَالرَّابِعَةُ لَازِمَةٌ لِلنُّونِ لَا تَخْتَلِفُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ
الْخُطْبَةِ فِي التَّرْبِيعِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِرٍ: 14] . فَالْفِقَرُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ عَلَى الْكَافِ وَالْمِيمِ بِخِطَابِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَالرَّابِعَةُ عَلَى الرَّاءِ، وَالنَّظِيرُ هَاهُنَا فِي مُطْلَقِ التَّرْبِيعِ لَا فِي عَيْنِ حُرُوفِ الْفَوَاصِلِ.
وَالْفِقَرُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ جَمْعُ فِقْرَةٍ - بِسُكُونِ الْقَافِ - وَهِيَ أَجْوَدُ بَيْتٍ فِي الْقَصِيدَةِ، شُبِّهَ بِفَقَارَةِ الظَّهْرِ، ثُمَّ سُمِّيَتِ الْقِطْعَةُ مِنَ السَّجْعِ فِقْرَةً تَشْبِيهًا بِهِ، وَالْفَاصِلَةُ فِي النَّثْرِ كَالْقَافِيَّةِ فِي الشِّعْرِ، وَقَدْ حَقَّقْتُ الْقَوْلَ فِيهَا فِي كِتَابِ " بُغْيَةِ الْوَاصِلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْفَوَاصِلِ ".
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاءِ: 28] وَ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الرُّومِ: 54] لَا يَسْتَقِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ مُرَادَاتِهِ بِدُونِ إِعَانَةٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَتَوْفِيقٍ، وَعِصْمَةٍ، وَتَسْدِيدٍ. وَكَانَ دُعَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَنِدَاؤُهُ فِي الْمُهِمَّاتِ وَغَيْرِهَا مَشْرُوعًا، وَافْتِتَاحُ الْأُمُورِ الَّتِي يُرَامُ الشُّرُوعُ فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَالتَّبَرُّكِ بِذِكْرِ اسْمِهِ مَنْدُوبًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الْأَعْرَافِ: 55] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النَّمْلِ: 62] {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 83] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَعَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ مِنْ أَعْيَانِ الْبَشَرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَكَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ. وَفِي رِوَايَةِ
أَبِي دَاوُدَ: كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ، فَهُوَ أَجْذَمُ رَوَاهُ مِنْ وُجُوهٍ، وَفِي بَعْضِهَا: لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ حَمْدِهِ فَهُوَ أَقْطَعُ.
ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِإِسْنَادِهِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ فِي " الْإِفْصَاحِ " وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ
قَدَّمْتُ نِدَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَدُعَاءَهُ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَجَعَلْتُ ذَلِكَ تَوْطِئَةً إِلَى حَمْدِهِ وَاسْتِجْلَابِ مَا عِنْدَهُ مِنْ فَوَاضِلِ رِفْدِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَعَانِيهَا، فَأَقُولُ: اللَّهُمَّ: أَصْلُهُ يَا اللَّهُ، فَحُذِفَتْ " يَا " مِنْ أَوَّلِهِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْمِيمُ فِي آخِرِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا ... أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَكَانَ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْحَذْفِ وَالتَّعْوِيضِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِلَفْظِ اسْمِ اللَّهِ تَبَرُّكًا وَتَعْظِيمًا.
وَالثَّانِي: طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِتَصْيِيرِ اللَّفْظَيْنِ لَفْظًا وَاحِدًا، كَمَا قَالُوا: أَيْشٍ هَذَا، وَأَصْلُهُ أَيُّ شَيْءٍ هَذَا فِي نَظَائِرَ لَهُ كَثِيرَةٍ.
أَمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ: فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمُسْتَقِرُّ الثَّابِتُ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ عِنْدَ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ.
وَالْوُجُودُ: هُوَ الْإِثْبَاتُ الصِّرْفُ، كَمَا أَنَّ نَقِيضَهُ - وَهُوَ الْعَدَمُ - النَّفْيُ الصِّرْفُ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ الْوُجُودَ فِي الْمَعْلُومَاتِ بَدِيهَةٌ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ التَّعْرِيفِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُمْ: وَاجِبُ الْوُجُودِ عِبَارَةٌ أَحْدَثَهَا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَهِيَ لَا تُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَا فِي كَلَامِ السَّلَفِ فِيمَا عَلِمْنَا، لَكِنَّ مَعْنَاهُ ثَابِتٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَعْنَى وَاجِبِ الْوُجُودِ عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ، وَوُجُودُهُ مِنْ ذَاتِهِ لِذَاتِهِ، لَا مِنْ سَبَبٍ خَارِجٍ، وَلَا لِعِلَّةِ خَارِجَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الْحَدِيدِ: 3] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ
وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ الشَّيْءَ أَوِ الْمَعْلُومَ إِمَّا أَنْ يَجِبَ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ أَوْ يَمْتَنِعَ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ، أَوْ يَكُونَ لِذَاتِهِ جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ابْتِدَاءً أَوْ دَوَامًا، أَعْنِي دَوَامَهُ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، كَإِنْسَانٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، أَوْ عَدَمَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ، كَإِنْسَانٍ وُجِدَ ثُمَّ عُدِمَ.
فَالْأَوَّلُ: هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتُهُ الذَّاتِيَّةُ، أَيِ: الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ، كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ، وَنَحْوِهَا، لَا غَيْرَ:
وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمُحَالُ الْمُمْتَنِعُ الْوُجُودِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، أَوْ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، كَكَوْنِ الشَّيْءِ مَعْدُومًا مَوْجُودًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَجِبُ وُجُودُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ، وَيَمْتَنِعُ وَجُودُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَا كَانَ لِذَاتِهِ جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، يُسَمَّى مُمْكِنًا، كَالْعَالَمِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ سَبَبٍ آخَرَ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إِنِ افْتَقَرَ فِي وُجُودِهِ إِلَى سَبَبٍ مُؤَثِّرٍ فِيهِ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، فَهُوَ الْمُمْكِنُ الْجَائِزُ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ، فَهُوَ الْوَاجِبُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ يَخْتَصُّ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ، لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا وُجُودَ لَهُ حَتَّى يَفْتَقِرَ إِلَى مُؤَثِّرٍ خَارِجٍ، أَوْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ.
وَمَعْنَى قَوْلِنَا: وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ: أَنَّ عِلَّةَ وُجُودِهِ ذَاتُهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَوْجُودُ لِذَاتِهِ دَائِمَ الْبَقَاءِ مَا دَامَتْ ذَاتُهُ مَوْجُودَةً، بِخِلَافِ مَا عِلَّةُ وُجُودِهِ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ ذَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَوْجُودُ لِذَاتِهِ لَوْ قُدِّرَ زَوَالُ عِلَّتِهِ، وَهِيَ ذَاتُهُ، لَزَالَ.
قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ مَا عِلَّةُ وُجُودِهِ ذَاتُهُ لَا يُمْكِنُ زَوَالُ عِلَّتِهِ حَتَّى يَزُولَ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعِلْمِ الْكَلَامِيِّ.
وَقَوْلُهُ: وَيَا مُوجِدَ كُلِّ مَوْجُودٍ " يَعْنِي مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَهُوَ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي أَوْجَدَهَا، وَأَفَاضَ عَلَيْهَا وُجُودَهَا بِقُدْرَتِهِ. وَقَوْلُهُ: " وَيَا مُفِيضَ الْخَيْرِ وَالْجُودِ " الْخَيْرُ: ضِدُّ الشَّرِّ، وَهُوَ مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ الْمُعْتَدِلَ السَّلِيمَ وَيَخْتَارُهُ الْعَاقِلُ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ وَجْهُ الِاخْتِيَارِ فِي الشَّيْءِ ظَاهِرًا، كَالْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ، وَالرِّئَاسَةِ الْعَالِيَةِ، وَالْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ الْمُسْتَطَابَةِ، وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا كَامِنًا فِي ضِدِّهِ، حَتَّى إِذَا ظَهَرَ، لَاحَ وَجْهُ الِاخْتِيَارِ فِيهِ، كَالْأَمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ وَالذُّلِّ وَالْخُمُولِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الصِّحَّةِ، وَالرِّفْعَةِ فِي الْعُقْبَى، وَشُرْبِ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ الْمُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْعِلَّةِ، فَهِيَ خَيْرَاتٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا وَمَآلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شُرُورًا بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا وَحَالِهَا، وَأَفْعَالُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْوُجُودِ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَخَيْرٌ، لَكِنْ مِنْهَا مَا ظَهَرَ فِيهِ وَجْهُ الِاخْتِيَارِ، كَالنَّافِعِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَمِنْهَا مَا خَفِيَ فِيهِ ذَلِكَ كَالْمُضِرِّ مِنَ السِّبَاعِ وَأَنْوَاعِ الْعَقَارِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رِعَايَةَ مَصَالِحِ عِبَادِهِ: إِنَّ دُخُولَ النَّارِ وَالْخُلُودَ فِيهَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ.
وَالْخَيْرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ مَصْدَرُ: خَارَ يَخِيرُ خَيْرًا: إِذَا صَارَ خَيِّرًا، وَخَارَ اللَّهُ لَهُ يَخِيرُ لَهُ خَيْرًا. إِذَا اخْتَارَ لَهُ مَا يُوَافِقُهُ.
وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى: هُوَ ضِدُّ الشَّرِّ، وَهُوَ مَا وَافَقَ الْغَرَضَ بِوَجْهٍ مَا، وَهُوَ مِنَ
الْإِضَافِيَّاتِ، أَيْ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ خَيْرًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.
وَالْجُودُ: مَصْدَرُ جَادَ الرَّجُلُ بِمَالِهِ يَجُودُ جُودًا: إِذَا بَذَلَهُ لَا لِعِوَضٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَوْدِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْمَطَرُ الْغَزِيرُ، يُقَالُ: جَادَ الْمَطَرُ يَجُودُ جَوْدًا.
وَمُفِيضُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: أَفَاضَ يُفِيضُ إِفَاضَةً، فَهُوَ مُفِيضٌ، وَحَقِيقَتُهُ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ، يُقَالُ: فَاضَ الْقَدَحُ وَالْإِنَاءُ إِذَا صَبَبْتَ فِيهِ مِنَ الْمَائِعِ حَتَّى امْتَلَأَ، وَجَعَلَ يَتَبَدَّدُ مِنْ حَافَّاتِهِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعَانِي، نَحْوَ: أَفَاضَ الْخَيْرُ وَالْعَطَاءُ، وَأَفَاضُوا فِي الْحَدِيثِ، وَأَفَاضَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى إِلَى الْبَيْتِ لِلطَّوَافِ مَجَازٌ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ بِالضَّادِ، أَمَّا قَوْلُهُمْ: فَاظَتْ نَفْسُهُ فَفِيهِ مَعْنَى الْفَيْضِ إِلَّا أَنَّهُ بِالظَّاءِ، إِمَّا مُلَاحَظَةً لِمَعْنًى آخَرَ، أَوْ فَرْقًا بَيْنَ فَاضَ الْمَاءُ وَفَاظَتْ نَفْسُهُ، وَكَثِيرًا مَا يُفَرِّقُونَ بِاخْتِلَافِ الْحُرُوفِ بَيْنَ الْمَعَانِي وَالْمَدْلُولَاتِ، كَقَوْلِهِمْ: الْبَيْضُ كُلُّهُ بِالضَّادِ إِلَّا بَيْظَ النَّمْلِ بِالظَّاءِ.
وَقَوْلُهُ: «عَلَى كُلِّ قَاصٍ مِنْ خَلْقِهِ وَدَانٍ» . الْقَاصِي: الْبَعِيدُ، وَالدَّانِي: الْقَرِيبُ. وَالَّذِي خَطَرَ بِبَالِي وَقْتَ إِنْشَاءِ الْخُطْبَةِ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ الْمَكَانِيُّ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْزَاءِ الْعَالَمِ مِنْ شَخْصٍ وَمَكَانِ صِحَّةٍ إِضَافِيَّةٍ، مَثَلًا مَنْ فِي الشَّامِ أَقْرَبُ إِلَى مَنْ بِمِصْرَ مِمَّنْ بِبَغْدَادَ وَبِلَادِ الْمَشْرِقِ، وَبِالْعَكْسِ مَنْ بِالشَّامِ أَقْرَبُ إِلَى مَنْ بِبَغْدَادَ مِمَّنْ بِمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ أَقْرَبُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى
خِلَافِ الْمُشَاهَدَاتِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَالظُّهُورِ وَالْبُطُونِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اخْتِفَائِهِ، بَاطِنٌ فِي ظُهُورِهِ، قَرِيبٌ فِي بُعْدِهِ، بَعِيدٌ فِي قُرْبِهِ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْحَدِيدِ: 3] .
وَأَيْضًا كَمَا لَا يُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ، لَا يُقَالُ: بَعْضُهَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ خُصُوصًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَنْفِي الْجِهَةَ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَمَّا مَنْ يُثْبِتُ الْجِهَةَ، فَقَدْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ، وَيَجُوزُ تَخْرِيجُ الْكَلَامِ عَلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: مُفِيضَ الْخَيْرِ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ إِلَيْكَ، أَيْ: إِلَى رَحْمَتِكَ بِالطَّاعَةِ، وَكُلِّ بَعِيدٍ عَنْكَ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَسْبَغَ إِنْعَامَهُ عَلَى الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَيَا ذَا الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ الْقَاهِرَةِ، وَيَا سُلْطَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَامِعَ الْإِنْسِ وَالْجَانِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَيَا ذَا الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ الْقَاهِرَةِ، وَيَا سُلْطَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَامِعَ الْإِنْسِ وَالْجَانِّ» .
لَمَّا كَانَ الْمَرْغُوبُ فِيهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَاهُنَا هُوَ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ لِلتَّحْقِيقِ، وَالْعِصْمَةَ مِنَ الزَّلَلِ، وَالْحِرَاسَةَ مِنَ الْخَلَلِ، نَاسَبَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِالْقُدْرَةِ، وَالْقُوَّةِ وَالسَّلْطَنَةِ الْعَامَّةِ، الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْمَرْغُوبُ الْمَذْكُورُ.
وَالْقُدْرَةُ: صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ يَتَحَقَّقُ بِهَا اخْتِرَاعُ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْقَدِيمَةُ: الَّتِي لَا مَبْدَأَ لَهَا فِي الزَّمَانِ، بَلْ قَارَنَ وُجُودُهَا وُجُودَ الذَّاتِ، وَالْبَاهِرَةُ: الْغَالِبَةُ، أَيْ: غَلَبَتْ قُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلَّ مَقْدُورٍ حَتَّى انْقَادَ لَهَا وَهُوَ ذَلِيلٌ مَقْهُورٌ، يُقَالُ: بَهَرَ الْقَمَرُ: إِذَا أَضَاءَ وَغَلَبَ ضَوْؤُهُ ضَوْءَ الْكَوَاكِبِ، وَبَهَرَ فُلَانٌ فُلَانًا: إِذَا غَلَبَهُ، وَبَهَرَتْ فُلَانَةٌ النِّسَاءَ: غَلَبَتْهُنَّ حُسْنًا، وَبَهَرَهُ الْحِمْلُ: غَلَبَهُ حَتَّى تَتَابَعَ نَفَسُهُ، وَهُوَ اللَّهَثُ.
وَالْقُوَّةُ: صِفَةٌ أَثْبَتَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذَّارِيَاتِ: 58] {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الْأَحْزَابِ: 25] .
وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ وَالْأَمْرِ الْعَامِّ: مَعْنًى يَتَحَقَّقُ بِهِ قَهْرُ الْأَضْدَادِ، وَفِعْلُ مَا يُسْتَصْعَبُ فِي عُرْفِ الْمَخْلُوقِينَ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَوِيٌّ عَلَى قَمْعِ عَدُوِّهِ، وَعَلَى رَفْعِ الْحِمْلِ الثَّقِيلِ، وَحَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ بِلْقِيسَ أَنَّهُمْ قَالُوا: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ} شَدِيدٍ [النَّمْلِ: 33] ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُغَالِبُهُ عَدُوٌّ أَوْ مُضَادٌّ إِلَّا قَهَرَهُ وَقَمَعَهُ، وَلَا يُرِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ - وَإِنِ اسْتَصْعَبَهُ الْمَخْلُوقُونَ - إِلَّا هَانَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَهُونُ وَهُوَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، غَيْرَ أَنَّ قُوَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَأْثِيرَهَا لَيْسَتْ كَقُوَّةِ الْمَخْلُوقِينَ وَتَأْثِيرِهَا، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ قُوَّتُهُ بِوَاسِطَةِ الْعِلَاجِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْعِلَاجِ وَالْمِزَاجِ، كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: مَوْجُودٌ بِلَا مِزَاجٍ، فَعَّالٌ بِلَا عِلَاجٍ.
وَالسُّلْطَانُ: الْوَالِي، وَجَمْعُهُ: سَلَاطِينُ، وَهُوَ فُعْلَانُ مِنَ السَّلَاطَةِ، وَهِيَ الْقَهْرُ، وَقَدْ سَلَّطَهُ اللَّهُ فَتَسَلَّطَ.
قَوْلُهُ: «جَامِعَ الْإِنْسِ وَالْجَانِّ» مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آلِ عِمْرَانَ: 25] ، وَقَوْلُهُ: كُلُّ نَفْسٍ، أَعَمُّ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ثُمَّ قَدْ صَرَّحَ بِجَمْعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} [الْأَنْعَامِ: 128] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الْأَعْرَافِ: 38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرَّحْمَنِ: 31] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَاتِ تَنَزَّهْتَ فِي حِكْمَتِكَ عَنْ لُحُوقِ النَّدَمِ، وَتَفَرَّدْتَ فِي إِلَهِيَّتِكَ بِخَوَاصِّ الْقِدَمِ، وَتَعَالَيْتَ فِي أَزَلِيَّتِكَ عَنْ سَوَابِقِ الْعَدَمِ، وَتَقَدَّسْتَ عَنْ لَوَاحِقِ الْإِمْكَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «تَنَزَّهْتَ فِي حِكْمَتِكَ عَنْ لُحُوقِ النَّدَمِ، وَتَفَرَّدْتَ فِي إِلَهِيَّتِكَ بِخَوَاصِّ الْقِدَمِ، وَتَعَالَيْتَ فِي أَزَلِيَّتِكَ عَنْ سَوَابِقِ الْعَدَمِ، وَتَقَدَّسْتَ عَنْ لَوَاحِقِ الْإِمْكَانِ» .
تَنَزَّهْتَ، أَيْ: تَبَاعَدْتَ عَنْ لُحُوقِ النَّدَمِ، وَمَادَّةُ ن ز هـ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْبُعْدِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الصِّحَاحِ» وَفُهِمَ مِنْ فُرُوعِ الْمَادَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَاكَ. وَالْحِكْمَةُ: مَعْنًى قَامَ بِالذَّاتِ، يَتَحَقَّقُ بِهِ وُقُوعُ الْأَفْعَالِ وَسَطًا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، خَالِيَةً عَنِ التَّفْرِيطِ وَالتَّبْسِيطِ، آمِنَةً مِنْ لُحُوقِ الِاخْتِلَالِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَامِلَ الْحِكْمَةِ، لَمْ يَلْحَقْهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ نَدَمٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ كَمَالِ حِكْمَتِهِ تَامُّ الْعِلْمِ بِمَا كَانَ وَسَيَكُونُ، فَلَا يَتَطَرَّقُ عَلَيْهِ النَّدَمُ، مَعَ كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، خِلَافًا لِلْيَهُودِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَضِبَ عَلَى الْعَالَمِ فِي زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَهْلَكَهُمْ بِالطُّوفَانِ، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ وَبَكَى حَتَّى رَمَدَتْ عَيْنَاهُ، فَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فِي الرَّمَدِ، وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ الشَّرَّ لَمَّا كَثُرَ فِي زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَسِفَ الرَّبُّ وَحَزِنَ قَلْبُهُ عَلَى خَلْقِهِ لِآدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَعَزَمَ عَلَى إِهْلَاكِ مَنْ فِيهَا مِنْ كُلِّ ذِي رُوحٍ إِلَّا نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ وَجَدَ رَحْمَةً بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْلَكَ الْعَالَمَ بِالطُّوفَانِ قَالَ فِي قَلْبِهِ: لَا أَعُودُ أُبِيدُ أَهْلَ الْأَرْضِ لِمَوْضِعٍ أَنَّ ضَمِيرَ قَلْبِ الْإِنْسَانِ إِلَى الشَّرِّ مُذْ حَدَاثَتِهِ
وَلَا أَعُودُ أُهْلِكُ كُلَّ حَيٍّ كَالَّذِي فَعَلْتُ وَهَذَا عَيْنُ النَّدَمِ، وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْيَهُودِ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ.
وَتَفَرَّدْتَ، أَيْ: تَوَحَّدْتَ وَاخْتَصَصْتَ، وَالْإِلَهِيَّةُ هِيَ كَوْنُهُ إِلَهًا، كَمَا أَنَّ الْعَالِمِيَّةَ وَالْقَادِرِيَّةَ عِنْدَ مُثْبِتِي الْأَحْوَالِ كَوْنُهُ عَالِمًا قَادِرًا.
وَالْخَوَاصُّ: جَمْعُ خَاصَّةٍ، وَهُوَ مَعْنًى كُلِّيٌّ، يَلْزَمُ الشَّيْءَ وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، كَالضَّحِكِ لِلْإِنْسَانِ وَنَحْوِهِ، وَلِلْمَنْطِقِيِّينَ فِي تَعْرِيفِ الْخَاصَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ رُسُومٌ مَشْهُورَةٌ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْخَاصَّةِ أَعَمُّ مِمَّا يَذْكُرُونَهُ، لِأَنَّهُ الْمُرَادُ هَاهُنَا.
وَالْقِدَمُ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ التَّعْرِيفُ الْعَدَمِيُّ، وَهُوَ عَدَمُ الْأَوَّلِيَّةِ أَوْ عَدَمُ السَّبْقِ بِالْعَدَمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ التَّعْرِيفُ الْوُجُودِيُّ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقُ الْأَزْمِنَةِ التَّحْقِيقِيَّةِ وَالتَّقْدِيرِيَّةِ بِالْوُجُودِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا الْأَزْمِنَةَ التَّحْقِيقِيَّةَ وَالتَّقْدِيرِيَّةَ، لِأَنَّ الزَّمَانَ عِنْدَنَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: تَحْقِيقِيٍّ: وَهُوَ الصَّادِرُ عَنْ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، وَتَقْدِيرِيٍّ: وَهُوَ مَا قَبْلَ خَلْقِ الْأَفْلَاكِ، يَعْنِي أَنَّ إِيجَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ مُمْكِنًا، وَكَانَتْ حِينَئِذٍ الْأَزْمِنَةُ التَّحْقِيقِيَّةُ تَصْدُرُ عَنْهَا، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا بُدَّ فِي الْجَوَابِ عَمَّا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ
الْأَحَدِ الْحَدِيثَ، عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِنْ مُخْتَصَرِ التِّرْمِذِيِّ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِنَا، أَمَّا عَلَى رَأْيِ الْفَلَاسِفَةِ فِي قِدَمِ الزَّمَانِ التَّحْقِيقِيِّ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَوْلِنَا: وَالتَّقْدِيرِيَّةِ، وَخَوَاصُّ الْقِدَمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا، وَلَا يَكُونُ جَوْهَرًا وَلَا عَرَضًا، وَلَا يَكُونُ لَهُ بِدَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ، بَلْ هُوَ أَزَلِيٌّ سَرْمَدِيٌّ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ: أَنْ لَا يَكُونَ وُجُودُهُ زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ، وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ تَحْقِيقٌ وَنَظَرٌ.
وَالْخَوَاصُّ: جَمْعُ خَاصَّةٍ، وَهِيَ مَا يُلَازِمُ الشَّيْءَ وَلَا يُفَارِقُهُ، وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، كَانْتِصَابِ الْقَامَةِ لِلْإِنْسَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَعْنَى الْخَاصَّةِ عَنْ قُرْبٍ.
وَتَعَالَيْتَ: تَفَاعَلْتَ مِنَ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ، وَهُوَ تَعَالَى مَعْنَوِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ بِمَعْنَى الْجِهَةِ، كَمَا يُقَالُ: تَرَفَّعَ زِيدٌ عَنْ لُحُوقِ الْعَارِ وَنَحْوُهُ.
وَالْأَزَلِيَّةُ: لَفْظَةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْأَزَلِ، وَهِيَ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ عِبَارَةٌ
عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِدَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْمَسْبُوقَةِ بِالْعَدَمِ، وَيُقَابِلُونَهُ بِالْأَبَدِ، وَهُوَ عَدَمُ التَّنَاهِي فِي اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ. يَقُولُونَ مَثَلًا: ذَاتُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ الذَّاتِيَّةُ مَوْجُودَةٌ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَفِي الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، فَمَا لَا يَزَالُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَبَدِ أَيْضًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَزَلَ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مَفْهُومٍ لَمْ يَزَلْ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. لَا لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلُوا النَّفْيَ بِهَا بِمَعْنَى الْأَبَدِ، وَ «لَمْ» لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ النَّفْيَ بِهَا بِمَعْنَى الْأَزَلِ، فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَزَلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا لَمْ يَزَلْ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَزَلِ لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوْلِيدِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، فَكَأَنَّهُمُ اخْتَصَرُوا مَا لَمْ يَزَلْ فِي لَفْظِ الْأَزَلِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَزَلُ بِالتَّحْرِيكِ: الْقِدَمُ، يُقَالُ: أَزَلِيٌّ، ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَوْلُهُمْ لِلْقَدِيمِ: لَمْ يَزَلْ، ثُمَّ نُسِبَتْ إِلَى هَذَا فَلَمْ تَسْتَقِمْ إِلَّا بِاخْتِصَارٍ فَقَالُوا: يَزَلِيٌّ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِأَنَّهَا أَخَفُّ، كَمَا قَالُوا فِي الرُّمْحِ الْمَنْسُوبِ إِلَى ذِي يَزِنٍ: أَزَنِيٌّ.
أَمَّا الْأَبَدُ: فَهُوَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الدَّهْرُ، وَالْجَمْعُ آبَادُ، وَالْأَبَدُ أَيْضًا: الدَّائِمُ، وَكَأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالسَّرْمَدُ: الدَّائِمُ أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ مِنَ السَّرْدِ، وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ، فَكَأَنَّ
السَّرْمَدَ الدَّائِمُ الْمُتَتَابِعُ وَفِي التَّنْزِيلِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الْقَصَصِ: 72] الْآيَةَ، أَيْ دَائِمًا لَا يَتَخَلَّلُهُ لَيْلٌ.
وَسَوَابِقُ الْعَدَمِ: جَمْعُ سَابِقَةٍ، أَيْ لَمْ يَتَقَدَّمْ وُجُودَكَ عَدِمَاتٌ سَابِقَةٌ، أَوْ أَزْمِنَةٌ سَابِقَةٌ، لِأَنَّ أَزَلِيَّتَكَ أَبَتْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ فِي سَابِقٍ وَلَاحِقٍ، أَوْ سَابِقَةٍ وَلَاحِقَةٍ أَبْلَغَ فِي التَّبْرِئَةِ وَالتَّنْزِيهِ فَكَانَ يُقَالُ: تَنَزَّهْتَ عَنْ سَابِقِ الْعَدَمِ، وَتَقَدَّسْتَ عَنْ لَاحِقِ الْإِمْكَانِ، أَوْ عَنْ سَابِقَةِ الْعَدَمِ، وَلَاحِقَةِ الْإِمْكَانِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْفَرْدِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجَمْعِ، وَنَفْيَ الْجَمْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفَرْدِ عَلَى مَا عُرِفَ، لَكِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمْعِ أَوْلَى بِاعْتِدَالِ الْكَلَامِ وَاتِّزَانِهِ فَآثَرْنَاهُ، مَعَ أَنَّ الْخَطْبَ فِي هَذَا يَسِيرٌ.
وَتَقَدَّسْتَ: أَيْ تَطَهَّرْتَ، وَجَمِيعُ مَادَّةِ «ق د س» أَوْ غَالِبُهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ.
وَلَوَاحِقُ
الْإِمْكَانِ: مَا يَلْحَقُ الْمُمْكِنَ لِكَوْنِهِ مُمْكِنًا، كَالْحُدُوثِ،
وَالِافْتِقَارِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَالتَّرْكِيبِ إِنْ كَانَ جِسْمًا، وَشَغْلِ
الْحَيِّزِ إِنْ كَانَ جَوْهَرًا، وَالِافْتِقَارِ إِلَى مَا يَقُومُ بِهِ،
وَعَدَمِ الْتِقَاءِ زَمَانَيْنِ، أَوْ تَعَقُّبِ عَدِمِه وُجُودِهِ إِنْ كَانَ
عَرَضًا، وَبِالْجُمْلَةِ أَضْدَادُ خَوَاصِّ الْقَدِيمِ السَّابِقَةِ هِيَ مِنْ
لَوَاحِقِ الْمُمْكِنِ، وَالْإِمْكَانُ اسْتِوَاءُ نِسْبَةِ الْمَعْلُومِ إِلَى
الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ أَوْ قَابِلِيَّتُهُ لِلتَّأْثِيرِ عَنِ الْمُؤَثِّرِ. //أَحْمَدُكَ عَلَى
مَا أَسَلْتَ مِنْ وَابِلِ الْآلَاءِ، وَأَزَلْتَ مِنْ وَبِيلِ اللَّأْوَاءِ،
وَأَسْبَلْتَ مِنْ جَمِيلِ الْغِطَاءِ، وَأَزْلَلْتَ مِنْ كَفِيلِ الْإِحْسَانِ.
قَوْلُهُ: «أَحْمَدُكَ عَلَى مَا أَسَلْتَ مِنْ وَابِلِ الْآلَاءِ، وَأَزَلْتَ مِنْ وَبِيلِ اللَّأْوَاءِ، وَأَسْبَلْتَ مِنْ جَمِيلِ الْغِطَاءِ، وَأَزْلَلْتَ مِنْ كَفِيلِ الْإِحْسَانِ» .
أَحْمَدُكَ، بِفَتْحِ الْمِيمِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحَمْدُ نَقِيضُ الذَّمِّ، تَقُولُ: حَمِدْتُ الرَّجُلَ أَحْمَدُهُ حَمْدًا وَمَحْمَدَةً، فَهُوَ حَمِيدٌ وَمَحْمُودٌ، وَالتَّحْمِيدُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمْدِ، وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.
قُلْتُ: أَمَّا أَنَّ التَّحْمِيدَ أَبْلَغُ، فَلِأَنَّ بِنَاءَهُ - وَهُوَ التَّفْعِيلُ - يُفِيدُ التَّكْثِيرَ وَالتَّكْرَارَ، وَالْكَثِيرُ أَبْلَغُ مِنَ الْقَلِيلِ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَأَمَّا أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ، فَلِأَنَّ الشُّكْرَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الصَّنِيعَةِ الْمُعْتَدِيَةِ إِلَى الْغَيْرِ، وَالْحَمْدُ يَكُونُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ، كَالشَّجَاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَنَحْوِهِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «شَرْحِ الْفَصِيحِ» : الشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُجَازَاةً، وَالْحَمْدُ يَكُونُ ابْتِدَاءً وَمُجَازَاةً. قُلْتُ: هُوَ مَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ سِيَّانِ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ بِالْقَوْلِ وَالشُّكْرُ بِالْفِعْلِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَأَسَلْتَ:
أَجْرَيْتَ إِجْرَاءً مُتَتَابِعًا بِشِدَّةٍ، وَمِنْهُ السَّيْلُ لِلْمَطَرِ
إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَالْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، يُقَالُ: وَبَلَتِ
السَّمَاءُ تَبِلُ، وَأَرْضٌ مَوْبُولَةٌ. وَالْآلَاءُ: النِّعَمُ،
وَاحِدُهَا أَلًا بِالْفَتْحِ، وَقَدْ تُكْسَرُ، وَتُكْتَبُ بِالْيَاءِ مِثْلَ مِعًى وَأَمْعَاءٍ. وَأَزَلْتَ: مِنَ الْإِزَالَةِ، وَهِيَ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ، وَالْوَبِيلُ: فَعِيلٌ مِنَ الْوَبَالِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الثِّقَلُ وَالْوَخَامَةُ، وَمَرْتَعٌ وَبِيلٌ، أَيْ: وَخِيمٌ، وَلَعَلَّ الْوَبَالَ مِنْ هَذَا. وَاللَّأْوَاءُ: الشِّدَّةُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّأْوَاءَ لِذَاتِهَا صِفَةٌ وَخِيمَةٌ فَنَعُوذُ بِكَ مِنْهَا.
وَأَسْبَلْتَ: مِنْ سَبْلِ إِزَارِهِ: إِذَا أَرْخَاهُ، وَهُوَ الْإِسْبَالُ، وَالْجَمِيلُ: الْحَسَنُ، وَأَصْلُهُ: الشَّحْمُ الْمُذَابُ، قَالُوا: وَجْهٌ جَمِيلٌ أَيْ كَأَنَّهُ لِنَضَارَتِهِ وَبَرِيقِهِ دُهِنَ بِالْجَمِيلِ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ حَسَنٍ: جَمِيلٌ، وَالْغِطَاءُ أَصْلُهُ الِارْتِفَاعُ وَغَطَا الْمَاءُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِذَا ارْتَفَعَ، [وَطَالَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ غَطَا عَلَيْهِ] ، وَغَطَا اللَّيْلُ يَغْطُو وَيَغْطِي: إِذَا أَظْلَمَ، لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَيَعْلُو عَلَيْهَا فَيُخْفِيهَا، وَالْغِطَاءُ كَذَلِكَ يَعْلُو مِنْ تَحْتِهِ فَيُخْفِيهِ.
وَأَزْلَلْتَ: أَصْلُهُ مِنَ الزَّلَلِ، وَهُوَ الْمَيْلُ، يُقَالُ: زَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ وَنَحْوُهُ إِذَا مَالَ عَنْهُ، وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [الْبَقَرَةِ: 36] أَيْ أَمَالَهُمَا، فَالْمَعْنَى: أَمَلْتَ إِلَيْنَا مِنَ الْإِحْسَانِ، يُقَالُ: أَزَلَّ فُلَانٌ إِلَيَّ نِعَمَهُ، أَيْ أَمَالَهَا، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ، فَإِنَّ النِّعَمَ فِي الْأَصْلِ كُلَّهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئًا، وَنِسْبَتُهَا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْخَلْقِ عَلَى السَّوَاءِ، فَإِذَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَبْدًا بِنِعْمَةٍ مَا، فَقَدْ أَمَالَهَا إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ.
وَكَفِيلُ الْإِحْسَانِ: شَامِلُهُ وَعَامُّهُ: مِنَ الْكِفْلِ، وَهُوَ كِسَاءٌ يُدَارُ حَوْلَ سَنَامِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ يُرْكَبُ، وَيَجُوزُ فِي مَعْنَى الضَّامِنِ، أَيْ: إِحْسَانُكَ إِلَيْنَا تَكْفَّلَ لَنَا بِالْكِفَايَةِ وَالْغَنَاءِ وَكُلِّ خَيْرٍ، وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ مَطْلُوبُ كُلِّ عَاقِلٍ، وَمُتَعَلَّقُ الْحَمْدِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْعَاقِلِ، إِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ وَهُوَ اللَّأْوَاءُ، أَوْ حُصُولُ نَفْعٍ وَهُوَ إِسَالَةُ الْإِحْسَانِ وَالْآلَاءِ، وَإِسْبَالُ جَمِيلِ الْغِطَاءِ.
__________
حَمْدَ مَنْ آمَنَ بِكَ وَأَسْلَمَ، وَفَوَّضَ إِلَيْكَ أَمْرَهُ وَسَلَّمَ، وَانْقَادَ لِأَوَامِرِكَ وَاسْتَسْلَمَ، وَخَضَعَ لِعِزِّكَ الْقَاهِرِ وَدَانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «حَمْدَ مَنْ آمَنَ بِكَ وَأَسْلَمَ، وَفَوَّضَ إِلَيْكَ أَمْرَهُ وَسَلَّمَ، وَانْقَادَ لِأَوَامِرِكَ وَاسْتَسْلَمَ، وَخَضَعَ لِعِزِّكَ الْقَاهِرِ وَدَانَ» .
قَوْلُهُ: «أَحْمَدُكَ» : أَيْ: أَحْمَدُكَ حَمْدًا مِثْلَ حَمْدِ مَنْ آمَنَ بِكَ، فَحَذَفَ الْمَصْدَرَ وَصِفَتَهُ وَأَقَامَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ اخْتِصَارًا، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ لَيْسَ حَمْدِي لِلَّهِ مَثَلًا هُوَ نَفْسَ حَمْدِ مَنْ آمَنَ غَيْرِي، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَعْطَى عَطَاءَ الْأَجْوَادِ، وَبَخِلَ بُخْلَ الْأَوْغَادِ، أَيْ: مِثْلُهُ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ الْمِسْكُ مِنْهُمَا ... نَسِيمَ الصَّبَا جَاءَتْ بَرَيَّا الْقَرَنْفُلِ
أَيْ تَضَوَّعَ تَضَوُّعًا مِثْلَ تَضَوُّعِ نَسِيمِ الصَّبَا، وَهُوَ أَكْثَرُ حَذْفًا مِمَّا قُلْنَاهُ.
وَقَوْلُهُ: «مَنْ آمَنَ بِكَ وَأَسْلَمَ» إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَقَدْ نَصَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الْحُجُرَاتِ: 14] ، نَفَى الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ الْإِسْلَامَ، وَالْمَنْفِيُّ غَيْرُ الْمُثْبَتِ، فَالْإِيمَانُ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، وَالْمُتَغَايِرَانِ مُفْتَرِقَانِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ
الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ جِبْرِيلَ الصَّحِيحُ حَيْثُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الْإِيمَانُ؟ فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ - أَيْ تُصَدِّقَ بِذَلِكَ - قَالَ: فَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِيغَةٍ مُفْرَدَةٍ سُؤَالًا مُسْتَقِلًّا وَذَلِكَ قَاطِعٌ فِي الْفَرْقِ، كَمَا إِذَا قِيلَ: مَا الْإِنْسَانُ وَمَا الْأَسَدُ؟ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا قَطْعًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى الْفَرْقِ فِي السُّؤَالِ عَنْهُمَا، وَأَجَابَهُ عَنْهُمَا بِحَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَفَسَّرَ الْإِيمَانَ بِالتَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ، وَالْإِسْلَامَ بِالْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ، وَهَذَا قَاطِعٌ فِي أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا اخْتِلَافٌ كُلِّيٌّ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ أَثَرُ الْإِيمَانِ وَمُكَمِّلُهُ وَصِفَةٌ لَهُ لَا رَكْنٌ فِيهِ وَجُزْءٌ لَهُ.
وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَلَى اتِّحَادِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 35 - 36] ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ آلُ لُوطٍ، فَضَعِيفٌ، وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ تَخْصِيصًا لَهُمْ، وَمَدْحًا وَتَعْظِيمًا، أَوْ أَنَّهُ غَايَرَ بَيْنَ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ دَفْعًا لِلتَّكْرَارِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي «بُغْيَةِ الْوَاصِلِ» .
قَوْلُهُ: «وَفَوَّضَ إِلَيْكَ أَمْرَهُ وَسَلَّمَ» ، التَّفْوِيضُ: رَدُّ الْأَمْرِ إِلَى الْغَيْرِ لِيَنْظُرَ فِيهِ، وَقُوَّةُ اللَّفْظِ تُعْطِي التَّوْسِيعَ، كَأَنَّ مَنْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى غَيْرِهِ قَدْ جَعَلَهُ فِي سَعَةٍ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: أَمْوَالُهُمْ بَيْنَهُمْ فَوْضَى وَفَيْضُوضَى: إِذَا كَانُوا شُرَكَاءَ فِيهَا، وَأَمْرَهُ: أَيْ شَأْنُهُ وَكُلُّ مَا يَعْنِيهِ مِنَ اسْتِجْلَابِ خَيْرٍ، أَوِ اسْتِدْفَاعِ شَرٍّ، فَهُوَ مُفَوَّضٌ فِيهِ إِلَيْكَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ شَيْءٌ إِلَّا عَنْكَ نِعْمَةً وَبَلَاءً، وَمَنْعًا وَعَطَاءً، وَأَنَّكَ الْمُسْتَبِدُّ فِي الْخَلْقِ حُكْمًا وَقَضَاءً. وَالتَّسْلِيمُ فِي مَعْنَى التَّفْوِيضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 65] .
وَقَوْلُهُ: «وَانْقَادَ لِأَوَامِرِكَ وَاسْتَسْلَمَ» الِانْقِيَادُ: هُوَ الْمُتَابَعَةُ مَعَ الْمُطَاوَعَةِ، كَالْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ إِذَا قُيِّدَ بِزِمَامِهِ، تَابَعَ مُطَاوِعًا. وَالِاسْتِسْلَامُ: تَسْلِيمُ النَّفْسِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ، وَلَيْسَ هَذَا فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِفَاقًا، لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ نِفَاقًا كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ إِذَا أَسْلَمَ خَوْفًا مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ خَوْفَ الْمَخْلُوقِينَ غَيْرُ وَاجِبٍ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النَّحْلِ: 106] فَهَذَا اسْتِسْلَامٌ لِلْكُفْرِ تَقِيَّةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا الِانْقِيَادَ لِلْأَوَامِرِ، أَيْ نَعْتَقِدُ وُجُوبَ امْتِثَالِ أَوَامِرِكَ وَنَوَاهِيكَ فِعْلًا وَكَفًّا وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى نَحْمَدُكَ حَمْدَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَوْلُهُ: «وَخَضَعَ لِعِزِّكَ الْقَاهِرِ وَدَانَ» الْخُضُوعُ: التَّطَامُنُ وَالتَّوَاضُعُ، وَمِنْهُ خَضَعَ النَّجْمُ: إِذَا مَالَ لِلْمَغِيبِ، وَخَضَعَ الْإِنْسَانُ خَضْعًا: أَمَالَ رَأْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ وَدَنَا مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ
الْقَلْبِيُّ حَتَّى بِالْقَدَرِ، وَالْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ مَعَ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَالْخُضُوعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1 - 2] ، فَذَكَرَ الْإِيمَانَ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَظَائِفِ الْقَلْبِ، وَالصَّلَاةَ، وَهِيَ أَكْبَرُ وَظَائِفِ الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعَ وَهُوَ أَكْبَرُ الْوَظَائِفِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْخُشُوعَ تَوَاضُعٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجُلٍ رَآهُ يُصَلِّي وَهُوَ يَعْبَثُ، فَقَالَ. لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ
____________
وَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى سَيِّدِ أَصْفِيَائِكَ، وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِكَ، وَفَاتِحِ أَوْلِيَائِكَ، مُحَمَّدٍ سَيِّدِ مُعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى سَيِّدِ أَصْفِيَائِكَ وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِكَ وَفَاتِحِ أَوْلِيَائِكَ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ مُعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ» .
«وَأَسْأَلُكَ» : مَعْطُوفٌ عَلَى «أَحْمَدُكَ» ، أَيْ: أَحْمَدُكَ وَأَسْأَلُكَ، وَتَقْدِيمُ الْحَمْدِ قَبْلَ السُّؤَالِ أَجْدَرُ بِالْإِجَابَةِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي الْفَاتِحَةِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ لِتَكَوُنَ وَسِيلَةً إِلَى حُصُولِ الْإِعَانَةِ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: الرَّحْمَةُ، وَيَلْزَمُهَا مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.
وَالسَّيِّدُ: هُوَ الرَّئِيسُ الَّذِي يَسُودُ مَنْ دُونَهُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ السِّيَادَةِ وَهِيَ التَّقَدُّمُ وَالرِّئَاسَةُ.
وَالْأَصْفِيَاءُ: جَمْعُ صَفِيٍّ، وَهُوَ الصَّفْوَةُ الْمُخْتَارُ إِلَيْهِ تَشْبِيهُ مَاءٍ دُونَ الصَّافِي أَوِ الْأَصْفَى مِنَ الْمَاءِ إِلَيْهِ، فَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ تِلْكَ الصَّفْوَةِ.
وَالْأَنْبِيَاءُ جَمْعُ نَبِيءٍ، بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ، فَإِذَا هُمِزَ فَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ النَّبَأِ، وَهُوَ الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يُهْمَزْ فَهُوَ مُخَفَّفٌ مِنَ الْمَهْمُوزِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ، كَمَا خَفَّفُوا الذُّرِّيَّةَ وَالْبَرِيَّةَ وَأَصْلُهُمَا الْهَمْزُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ النَّبِيِّ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ يَهْدِي النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ كَمَا تَهْدِيهِمُ الطَّرِيقُ إِلَى مَقَاصِدِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ نَبَا: إِذَا ارْتَفَعَ مَكَانُهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفِيعُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ لِمَنْ يُطَالِبُ بِهِ.
وَالْأَوْلِيَاءُ: جَمْعُ وَلِيٍّ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ: وَلِيتُ الشَّيْءَ أَلِيهِ: إِذَا عُنِيتُ بِهِ وَنَظَرْتُ فِيهِ كَمَا يَنْظُرُ الْوَلِيُّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَنْظُرُ فِي أَمْرِ وَلَيِّهِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَالْوَلِيُّ يَنْظُرُ فِي أَوَامِرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالطَّاعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا مِنْ: وَلِيتُ الشَّيْءَ، وَوَلِيَنِي الشَّيْءُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التَّوْبَةِ: 123] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ ذَوُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، وَقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، كُلُّ هَذَا الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْوَاسِطَةِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ آيِلٌ إِلَى هَذَا أَيْضًا فَهُوَ الْأَصْلُ، فَالْوَلِيُّ يَلِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَلِيهِ رَبُّهُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَقْطَعُ الْوَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ يَصِيرُ فِي مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ الَّذِي فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُ عَبْدَهُ يَلِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُفِيضُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَارِفِ وَاللَّطَائِفِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَمَا أَعْطَى الْخَضِرَ تِلْكَ الْعُلُومَ اللَّدُنِّيَّةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَلَا مَلَكٍ مُرْسَلٍ، وَلَيْسَ هَذَا مُوجِبًا لِتَفْضِيلِ الْوَلِيِّ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ مُحْتَجًّا بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقَامَ الْوَلِيِّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَقَامُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَمَقَامَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَقَامُ الشَّرَفِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْقُوَّةِ وَالْعِصْمَةِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْمُورًا بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزِ وَإِشَاعَتِهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَالْوَلِيُّ مَأْمُورًا بِكِتْمَانِ الْكَرَامَةِ وَسَتْرِهَا عَنْ إِدْرَاكِ الْعِبَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ قَدْ يَرَى
مِسْكِينًا أَوْ يَتِيمًا، فَيَرْحَمُهُ، فَيَمْسَحُ بِرَأْسِهِ، أَوْ يُعْطِيهِ مِنْ يَدِهِ شَيْئًا، وَلَا يَصِلُ إِنْعَامُهُ إِلَى قَائِدِ جُيُوشِهِ إِلَّا بِوَسَائِطَ، مَعَ أَنَّ الْقَائِدَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ قَدْرًا وَأَعْلَى مَحِلًّا، وَكَمْ بَيْنَ مَنْ يُعْطِيهِ الْمَلِكُ سَيْفًا، وَيَقُولُ لَهُ: خُذْهُ فِي يَدِكَ مَشْهُورًا، وَاضْرِبْ بِهِ مَنْ عَصَاكَ فِي أَمْرٍ، وَبَيْنَ مَنْ يُعْطِيهِ سِكِّينًا وَيَقُولُ لَهُ: اجْعَلْهُ تَحْتَ ثِيَابِكَ، لِئَلَّا يَرَاكَ الْوَالِي أَوْ غَيْرُهُ، هَذَا تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا خَتَمَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ كَذَلِكَ افْتَتَحَ بِهِ الْأَوْلِيَاءَ، وَالنَّبِيُّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلِيِّ وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ أَوْصَافِهِ، وَقَدْ نَظَمَ الْمَعْنَى الشَّيْخُ يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ الصَّرْصَرِيُّ حَيْثُ قَالَ:
هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَفَاتِحُ الْ ... أَوْلِيَاءِ وَشُرْبُهُمْ مِنْ شُرْبِهِ
أَيْ: هُوَ مَادَّتُهُمْ وَمِنْهُ يُسْقَوْنَ.
وَمُحَمَّدٌ اسْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ مُفَعَّلٌ مِنَ الْحَمْدِ، كَمَا أَنَّ أَحْمَدَ أَفْعَلَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، وَمَعَدٌّ مَفَعْلٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ وَتَخْفِيفِهِمَا، أَبُو الْعَرَبِ، وَهَلْ مِيمُهُ زَائِدَةٌ أَوْ أَصْلِيَّةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْأَوَّلُ: اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِينَ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي عَدَدٍ.
وَالثَّانِي: اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ، لِقَوْلِهِمْ تَمَعْدَدَ.
وَعَدْنَانُ: فَعْلَانُ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ، إِذَا لَزِمَهُ وَتَوَطَّنَهُ إِقَامَةً.
وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ. إِلَى هَاهُنَا اتَّفَقَ النَّسَّابُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَدْنَانَ بْنِ أُدِّ بْنِ أُدَدِ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ حَمَلِ بْنِ نَبْتِ بْنِ قَيْدَارِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَدْنَانَ بْنِ أُدَدٍ وَلَا يَذْكُرُ أُدًّا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ عَدْنَانَ، قَالَ عُرْوَةُ: وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ [أَبِي] حَثْمَةَ يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا فِي عِلْمِ عَالِمٍ، وَلَا شِعْرِ شَاعِرٍ أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ مُعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ [يُثْبِتُ] .
(1/79)
________________________________________
وَأَنْ تَرْزُقَنِي الْعِلْمَ وَتُوَفِّقَنِي لِلْعَمَلِ، وَتُبَلِّغَنِي مِنْهُمَا نِهَايَةَ السُّولِ وَغَايَةَ الْأَمَلِ، وَتَفْسَحَ لِي فِي الْمُدَّةِ وَتَنْسَأَ لِي فِي الْأَجَلِ، فِي حُسْنِ دِينٍ وَإِصْلَاحِ شَأْنٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَأَنْ تَرْزُقَنِي الْعِلْمَ، وَتُوَفِّقَنِي لِلْعَمَلِ، وَتُبَلِّغَنِي مِنْهُمَا نِهَايَةَ السُّولِ وَغَايَةَ الْأَمَلِ، وَتَفْسَحَ لِي فِي الْمُدَّةِ، وَتَنْسَأَ لِي فِي الْأَجَلِ، فِي حُسْنِ دِينٍ وَإِصْلَاحِ شَأْنٍ ".
هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ تُصَلِّيَ، فِيمَا سَبَقَ، أَيْ: وَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى سَيِّدِ أَصْفِيَائِكَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَنِي التَّوْفِيقَ، وَهُوَ التَّيْسِيرُ لِمَا يُوَافِقُ، وَذَلِكَ بِتَحْقِيقِ الدَّوَاعِي، وَإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ وَالتَّوْفِيقَ لِلْعَمَلِ بِهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَالْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَالْعِلْمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا لِأَنَّهُ يَحْرُسُ الْعَمَلَ عَنِ الْفَسَادِ وَالِاخْتِلَالِ، وَالْعَمَلُ نَتِيجَةُ الْعِلْمِ وَمَقْصُودُهُ وَثَمَرَتُهُ، وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْخُلُودِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فُصِّلَتْ: 30 - 32] فَحَقِيقَةُ الِاسْتِقَامَةِ: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ، فَعِلْمٌ بِلَا عَمَلٍ عَقِيمٌ، وَعَمَلٌ بِلَا عِلْمٍ سَقِيمٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَلِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ كِتَابٌ سَمَّاهُ: " اقْتِضَاءُ الْعِلْمِ الْعَمَلُ " ذَكَرَ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ذَكَرْتُ جُمْلَةً صَالِحَةً مِنْهُ فِي كِتَابِ: " الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ " فَإِذَا شِئْتَ انْظُرْ هُنَاكَ.
وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي الْعَاقِلُ عَنْهُمَا، لِأَنَّ الْعِلْمَ زِينَةُ النَّفْسِ وَكَمَالُهَا وَحِلْيَتُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعَمَلَ سَبَبُ سَلَامَتِهَا فِي مَعَادِهَا، وَحُلُولِهَا بِالْمَرَاتِبِ الْفَاخِرَةِ، سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَهُ مِنْهُمَا نِهَايَةَ سُؤْلِهِ، وَغَايَةَ أَمَلِهِ. وَنِهَايَةُ الشَّيْءِ وَغَايَتُهُ: عِبَارَةٌ عَنْ آخِرِهِ وَمَوْضِعِ انْقِطَاعِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ مَخْلُوقًا مُتَنَاهِيًا كَانَ أَمَلُهُ كَذَلِكَ، وَالسُّؤْلُ مَهْمُوزًا: مَا يَسْأَلُهُ الْإِنْسَانُ، وَقُرِئَ: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} [طه: 36] بِالْهَمْزِ. وَلِمَا صَحَّ وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ خَيْرِ النَّاسِ فَقَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ ". وَعَنْ شَرِّ النَّاسِ، فَقَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَكَانَ ذَلِكَ
أَيْضًا مُتَقَرِّرًا فِي الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ ضَرُورَةً، أَوْ بِوَاسِطَةِ
النَّظَرِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَطُولَ عُمُرُهُ أَوْ يَقْصُرَ،
وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَسُوءَ عَمَلُهُ أَوْ يَحْسُنَ،
فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ، خَيْرُهَا مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ،
وَشَرُّهَا مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ، وَبَيْنَهُمَا وَاسِطَتَانِ،
خَيْرُهُمَا مَنْ قَصُرَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّهُمَا مَنْ قَصُرَ
عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ، سَأَلْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ
يَجْعَلَنِي مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِطُولِ الْعُمُرِ مَعَ حُسْنِ الدِّينِ
وَصَلَاحِ الشَّأْنِ.
وَمَعْنَى تَفْسَحُ: تُوَسِّعُ، وَالْفُسْحَةُ بِضَمِّ الْفَاءِ: السَّعَةُ، وَمِنْهُ (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْلِسِ) [الْمُجَادَلَةِ: 11] ، وَالْمُدَّةُ: الزَّمَنُ الْمُمْتَدُّ، وَالْمُرَادُ هَهُنَا زَمَنُ الْحَيَاةِ.
وَتَنْسَأُ - بِفَتْحِ السِّينِ -: تُؤَخِّرُ، وَمِنْهُ النَّسِيئَةُ: الْبَيْعُ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ} [الْبَقَرَةِ: 106] أَيْ: نُؤَخِّرُ نَسْخَهَا فَلَا نَنْسَخُهَا، وَالْأَجَلُ: نِهَايَةُ الْمُدَّةِ، وَمِنْهُ أَجْلُ الدَّيْنِ، أَيْ آخِرُ مُدَّةِ تَأْخِيرِهِ، وَأَجَلُ الْحَيِّ كَذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 34] . وَالِدِّينُ يَشْمَلُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعَهَا، عِلْمَهَا وَعَمَلَهَا، فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَأْخِيرَ الْمُدَّةِ فِي حُسْنِ اعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ.
وَالشَّأْنُ: الْأَمْرُ وَالْحَالُ، وَالْمُرَادُ إِصْلَاحُ كُلِّ مَا يَعْنِيهِ.
______
وَأَنْ تُحْيِيَنِي حَيَاةً طَيِّبَةً هَنِيئَةً، وَتَقِيَنِي فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ أَعْرَاضَ السُّوءِ الرِّدِيَّةَ، وَتَعْدِلَ بِي عَنِ السُّبُلِ الْوَبِيَّةِ إِلَى الْمَرِيَّةِ، وَتَعْصِمَنِي مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَنْ تُحْيِيَنِي حَيَاةً طَيِّبَةً هَنِيئَةً، وَتَقِيَنِي فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ أَعْرَاضَ السُّوءِ الرِّدِيَّةَ، وَتَعْدِلَ بِي عَنِ السُّبُلِ الْوَبِيَّةِ إِلَى الْمَرِيَّةِ، وَتَعْصِمَنِي مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ» .
هَذَا أَيْضًا عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالرِّزْقِ، أَيْ: أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ، وَتَرْزُقَنِي، وَتُحْيِيَنِي، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ مَنْصُوبَةً بِتَقْدِيرِ «أَنِ» الظَّاهِرَةِ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَهُوَ تُصَلِّي، وَلَمَّا كَانَ الْفَسْحُ فِي الْمُدَّةِ قَدْ يَكُونُ مَعَ حَيَاةٍ طَيِّبَةٍ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ حَيَاةٍ طَيِّبَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا مَنْ أَحْسَنَ مِنْ خَلْقِهِ، حَيْثُ قَالَ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النَّحْلِ: 97] .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا الرِّزْقُ الطَّيِّبُ فِي الدُّنْيَا، وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ: أَنَّهَا الْقَنَاعَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقِيلَ: حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ: أَنَّهَا حُصُولُ السُّرُورِ، وَعَدَمُ الشُّرُورِ، أَوْ يُقَالُ: حُصُولُ الْمُلَائِمِ، وَانْدِفَاعُ الْمُنَافِي.
وَالْهَنِيئَةُ:
مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا هَنِيءٌ، أَيْ: لَا تَعَبَ فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى:
{فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النِّسَاءِ: 4] قِيلَ: سَائِغًا طَيِّبًا،
وَحُكِيَ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ: الْهَنِيءُ: الَّذِي يُسَمِّنُ، وَالْمَرِيءُ:
غَيْرُ الْوَبِيِّ، يُقَالُ: هَنَأَنِي الطَّعَامُ وَمَرَأَنِي بِغَيْرِ أَلِفٍ،
فَإِنْ أَفْرَدْتَهُ
قُلْتَ: أَمْرَأَنِي. وَفَسَّرَهُ الْأَزْهَرِيُّ: أَنَّهُ الْهَطْمُ ذَكَرَهُ الدِّيَارِبَكْرِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» .
وَتَقِيَنِي: مِنَ الْوِقَايَةِ، أَيْ تَدْفَعُ عَنِّي وَتَكْفِينِي أَعْرَاضَ السُّوءِ الرَّدِيئَةَ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ، أَيْ: مَا يَعْرِضُ فِيهِمَا مِمَّا يَسُوءُ، كَالْخَطَأِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، وَالِانْحِرَافِ فِي مِزَاجِ الْبَدَنِ لِاعْتِرَاضِ الْعِلَلِ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ تَفَاصِيلِهَا، وَتَعْدِلَ بِي: أَيْ تَمِيلُ بِي، يُقَالُ: عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ، أَيْ: مَالَ عَنِ السَّبِيلِ، أَيِ: الطُّرُقِ الْوَبِيئَةِ الَّتِي فِيهَا الْوَبَاءُ، وَهُوَ مَرَضٌ عَامٌّ، وَهُوَ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَاسْتِعْمَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَدَنِ حَقِيقَةٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الدِّينِ مَجَازٌ عَنِ الْأَذَى فِيهِ بِاخْتِلَالِ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ. إِلَى الْمَرِيَّةِ، أَيِ: الطُّرُقِ السَّالِمَةِ مِنَ الْوَبَاءِ وَالْأَذَى الَّتِي يُسْتَمْرَى سُلُوكُهَا، أَيْ: يَكُونُ سَلِيمَ الْعَاقِبَةِ مِنَ الْأَذَى.
«وَتَعْصِمَنِي
مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ» : أَصْلُ الْعِصْمَةِ الْمَنْعُ، مَأْخُوذٌ مِنْ
عِصَامِ الْقِرْبَةِ، وَهُوَ رِبَاطُ الْقِرْبَةِ وَسَيْرُهَا الَّذِي تُحْمَلُ
بِهِ، فَهُوَ يَمْنَعُهَا مِنَ الْوُقُوعِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَبُو عَاصِمٍ
كُنْيَةُ السَّوِيقِ، لِأَنَّهُ يُمْسِكُ الرَّمَقَ، وَيَمْنَعُ السُّقُوطَ،
فَالْمُرَادُ: تَمْنَعُنِي مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ أَنْ أَقَعَ فِيهَا،
وَالْمُرَادُ بِحَبَائِلِ الشَّيْطَانِ: جَمِيعُ الشَّهَوَاتِ وَالْمَعَاصِي
الَّتِي تُغْرِي الْإِنْسَانَ بِمُوَاقَعَتِهَا، فَهِيَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِمْ كَالشِّباكِ
وَالْفِخَاخِ وَنَحْوِهَا لِلصَّيَّادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ، بِجَامِعٍ أَنَّ عَاقِبَةَ الْجَمِيعِ الْهَلَاكُ، هَؤُلَاءِ فِي الْآجِلِ، وَأُولَئِكَ فِي الْعَاجِلِ بِالذَّبْحِ وَأَكْلِ الصَّيَّادِ وَغَيْرِهِ لَهُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: النِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حَصْرَ الْحَبَائِلِ فِي النِّسَاءِ، بَلْ إِنَّهُنَّ مِنَ الْحَبَائِلِ وَأَعْظَمِهَا وَأَجْدَرِهَا بِالْوُقُوعِ فِيهَا، كَقَوْلِهِ: الْحَجُّ عَرَفَةُ، أَيْ مُعْظَمُهُ، وَوَاحِدَةُ الْحَبَائِلِ: حِبَالَةٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَتَقْبِضَنِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَجْعَلَ رَحْمَتَكَ لِي مِنَ النَّارِ جُنَّةً، وَتُدْخِلَنِي بِفَضْلِكَ وَجُودِكَ الْجَنَّةَ، وَمَنِّكَ يَا مَنَّانُ.
وَتُلْحِقَنِي بِالنَّبِيِّ الْأَفْضَلِ، وَالرَّسُولِ الْمُكَمَّلِ الْأَكْمَلِ، الَّذِي خَتَمَ النُّبُوَّةَ وَأَكْمَلَ، وَمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَتَقْبِضَنِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» : أَيْ عَلَى مَضْمُونِهِمَا وَمُقْتَضَاهُمَا، وَمَا أَفْصَحَا بِهِ، وَدَلَّا عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
قَوْلُهُ: «وَتَجْعَلَ رَحْمَتَكَ بِي مِنَ النَّارِ جُنَّةً» أَيْ سِتْرًا أَسْتَتِرُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَتَرَ شَيْئًا، فَقَدْ أَجَنَّهُ، وَهُوَ جُنَّةٌ لَهُ، بِضَمِّ الْجِيمِ، كَالدِّرْعِ وَالْجَوْشَنِ لِلْمُحَارِبِ، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرَاكِيبِهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى السَّتْرِ، كَالْجِنِّ وَالْجُنُونِ وَالْجَنَّةِ لِلْبُسْتَانِ، وَالْمِجَنِّ لِلتُّرْسِ، وَمَعْنَى السَّتْرِ فِي جَمِيعِهَا ظَاهِرٌ. نَعَمْ، اسْتِعْمَالُ الْجَنَّةِ فِي الرَّحْمَةِ مَجَازٌ، لِأَنَّ نَفْسَ الرَّحْمَةِ لَيْسَتْ هِيَ السَّاتِرَ الْحَائِلَ دُونَ النَّارِ، بَلْ إِذَا بَاعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِرَحْمَتِهِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالنَّارِ، حَتَّى لَا يَجِدَ ضَرَرَهَا، كَانَتِ الرَّحْمَةُ سَبَبًا لِزَوَالِ أَذَاهَا، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا سَاتِرٌ حَجَبَ أَذَى النَّارِ عَنِ الْوُصُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِمَّا صِفَةُ ذَاتٍ، أَوْ صِفَةُ فِعْلٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَتُهَا جُنَّةً، لِأَنَّ الصِّفَةَ الذَّاتِيَّةَ لَا تَنْتَقِلُ، وَالْفِعْلَ عَرَضٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ السَّتْرُ.
قَوْلُهُ: «وَتُدْخِلَنِي بِفَضْلِكَ وَجُودِكَ الْجَنَّةَ» الْجُودُ قَدْ سَبَقَ مَعْنَاهُ، وَالْفَضْلُ: الْإِفْضَالُ وَالْإِحْسَانُ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِ: إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ:
«وَمَنِّكَ» أَيْ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ بِفَضْلِكَ وَمَنِّكَ، وَهُوَ مَا
يَصِحُّ أَنْ تَمُنَّ بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّطَوُّلِ، وَأَصْلُ الْمَنِّ:
تَذْكِيرُ النِّعْمَةِ وَالْجَمِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [الْبَقَرَةِ: 264] ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي سَبَبِهِ وَمُصَحِّحِهِ، وَهُوَ النِّعْمَةُ.
قَوْلُهُ: «يَا مَنَّانُ» نِدَاءٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَوَصْفٌ لَهُ بِصِفَتِهِ الْجَمِيلَةِ، وَهِيَ الْمَنُّ وَالْإِنْعَامُ، لِأَنَّ الْمَسْؤُولَ إِذَا دُعِيَ بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ كَانَ أَجْدَرَ بِإِجَابَةِ السُّؤَالِ، وَالْمَنَّانُ: الْكَثِيرُ الْمَنِّ وَالْإِفْضَالِ الْمُتَكَرِّرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى صِيغَةِ فَعَّالٍ.
قَوْلُهُ: «وَتُلْحِقَنِي بِالنَّبِيِّ الْأَفْضَلِ» يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
قَوْلُهُ: «وَالرَّسُولُ الْمُكَمَّلُ الْأَكْمَلُ» ، هَهُنَا بَحْثَانِ:
أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ لَفْظِ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: دَفْعًا لِتَكْرَارِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ.
الثَّانِي: أَنَّ
لَفْظَ الرَّسُولِ هُنَا مُنَاسِبٌ لِذِكْرِ التَّكْمِيلِ، لِأَنَّهُ مِنْ
لَوَازِمَ الرِّسَالَةِ، بِخِلَافِ النَّبِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُكْمِلُ أَحَدًا،
وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَعَلَ يَمُرُّ
بِالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الْقَوْمُ، وَالنَّبِيِّ
وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَلَيْسَ
مَعَهُمْ أَحَدٌ الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، قِيلَ: بِأَنَّ النَّبِيَّ يُوحَى إِلَيْهِ مَنَامًا، وَالرَّسُولَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ يَقَظَةً، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ مَنَامًا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ رَسُولًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ الرَّسُولَ نَبِيٌّ خَاصٌّ، فَكَانَ الْوَحْيُ إِلَيْهِ مَنَامًا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَبِيًّا، وَيَكُونُ الْوَحْيُ قَدْ تَرَاخَى عَنْهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا، كَمَا انْقَطَعَ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حِينَ سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَالْإِسْكَنْدَرِ، وَعَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ: غَدًا أُخْبِرُكُمْ وَلَمْ يَسْتَثْنِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ.
وَقِيلَ: بِأَنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالنَّبِيَّ لَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ تَكُونُ نُبُوَّتُهُ وَحْيًا يَخْتَصُّ بِهِ، وَمُنَاجَاةً بَيْنِهِ وَبَيْنَ رَبِّهِ.
وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا عَبَدَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَعَبَدَ بَعْضُهُمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَرَى نَفْسَهُ فَرَجَعَ يَلُومُهَا وَيَقُولُ: يَا نَفْسُ مَا أُتِيتُ إِلَّا مِنْ قِبَلِكِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: الْآنَ حَيْثُ اعْتَرَفْتَ بِالتَّقْصِيرِ أَهَّلْتُكَ لِلْوَحْيِ، أَوْ كَمَا قَالَ.
وَحَاصِلُ هَذَا
الْوَجْهِ أَنَّ الرِّسَالَةَ مَعْنًى مُتَعَدٍّ، وَالنُّبُوَّةَ تَكُونُ
لَازِمَةً وَمُتَعَدِّيَةً، وَذَكَرَ يَعْقُوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ
الْإِسْفَرَايِينِيُّ فِي «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» : أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ
أَتَاهُ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَالرَّسُولَ مَنْ أَتَى بِشَرْعٍ ابْتِدَاءً وَبِنَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ، وَهَذَا نَحْوُ الَّذِي قَبْلَهُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا كَامِلٌ مُكَمِّلٌ، أَوْ لَا كَامِلٌ وَلَا مُكَمِّلٌ، أَوْ كَامِلٌ غَيْرُ مُكَمِّلٍ، أَوْ مُكَمِّلٌ غَيْرُ كَامِلٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ، لِأَنَّ تَكْمِيلَ الْغَيْرِ فَرْعُ كَمَالِ الذَّاتِ، فَإِذَا انْتَفَى الْأَصْلُ، اسْتَحَالَ وُجُودُ الْفَرْعِ، وَلِأَنَّ كَمَالَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ مَبْدَأُ تَكْمِيلِهِ لِغَيْرِهِ، وَالْمُحْدَثُ بِدُونِ مَبْدَأٍ مُحَالٌ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ التَّعْلِيمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَطَهُورِيَّةَ الْمَاءِ بِدُونِ طَهَارَتِهِ مُحَالٌ.
أَمَّا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ، فَأَعْلَاهَا الْكَامِلُ الْمُكَمِّلُ - بِكَسْرِ الْمِيمِ - وَلَهُ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا فِي ذَلِكَ رُتْبَةُ الْبَارِي، جَلَّ جَلَالُهُ، فَإِنَّهُ الْكَامِلُ فِي ذَاتِهِ لِذَاتِهِ لَا لِمُكَمِّلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُكَمِّلُ لِمَنْ سِوَاهُ مُطْلَقًا، لَكِنْ لِبَعْضِهِمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُحْدَثِينَ الْمُلْهَمِينَ، وَلِبَعْضِهِمْ بِوَاسِطَةِ هَؤُلَاءِ كَتَكْمِيلِ الْأُمَمِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَبَعْضِ أَشْخَاصِ الْأُمَمِ بِبَعْضٍ كَالتِّلْمِيذِ بِالْمُعَلِّمِ، وَالْقَاضِي بِالْإِمَامِ يُوَلِّيهِ الْحُكْمَ، وَالْعَدْلِ بِالْقَاضِي يَعْدِلُهُ، وَالشَّاهِدِ بِالْمُزَكِّي، وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِالْوَلِيِّ.
ثُمَّ يَلِي هَذَا الْقَسَمَ فِي الرُّتْبَةِ الْكَامِلُ غَيْرُ الْمُكَمِّلِ، كَالرَّجُلِ الصَّالِحِ الْعَارِفِ بِرَبِّهِ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ تُعَرِّفُهُ غَيْرَهُ، وَالْعَالِمِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي عَمَلِهِ وَتَعَبُّدَاتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ فَضْلُ عِلْمٍ يُعَلِّمُهُ غَيْرَهُ، أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ قُوَّةٌ يُوصَلُ بِهَا إِلَى فَهْمِ غَيْرِهِ، فَهَذَا كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ غَيْرِ الطَّهُورِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ كَالطَّهُورِ.
= وَالْقِسْمُ الْآخَرُ الَّذِي لَيْسَ بِكَامِلٍ وَلَا مُكَمِّلٍ، هُوَ كَالْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي لَا هُوَ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ سُلِبَ صِفَتَيِ الطَّهَارَةِ وَالطَّهُورِيَّةِ، فَهُوَ كَالْفَاسِقِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَدْلًا، وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَتُهُ لِمَنْ يُرِيدُ التَّعْدِيلَ، وَكَالْكَافِرِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ، وَلَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِخَيْرٍ.
إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَكَمَالُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ فِي مَرَاتِبِهِ، فَكَمَالُ الْمُحْدَثِ دُونَ كَمَالِ الْقَدِيمِ، وَكَمَالُ الْعَرَضِ دُونَ كَمَالِ الْجَوْهَرِ، وَكَمَالُ الْجَمَادِ دُونَ كَمَالِ النَّامِي، وَكَمَالُ النَّامِي دُونَ كَمَالِ الْحَسَّاسِ، وَكَمَالُ الْحَسَّاسِ - وَهُوَ الْحَيَاةُ - دُونَ كَمَالِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ يَتَفَاوَتُ الْإِنْسَانُ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ بِحَسَبِ الْمَعَانِي وَالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفَاوُتِ، فَلِهَذَا قَالَ: «وَالرَّسُولِ الْمُكَمِّلِ الْأَكْمَلِ» : أَيِ الْمُكَمِّلِ لِغَيْرِهِ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالدُّعَاءِ إِلَى سُبُلِ الرَّشَادِ، الْأَكْمَلِ مِنْ جَمِيعِ أَشْخَاصِ نَوْعِهِ وَغَيْرِهِ، فَالْكَامِلُ مِنْهُمْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي مُطْلَقِ الْكَمَالِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِرُتْبَةِ الْأَكْمَلِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: «الَّذِي خَتَمَ النُّبُوَّةَ وَأَكْمَلَ» هَذَا وَصْفٌ لِلرَّسُولِ بِأَنَّهُ خَتَمَ النُّبُوَّةَ وَأَكْمَلَهَا، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا، فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ: «وَمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ» .
هَذَا عَطْفٌ عَلَى النَّبِيِّ الْأَفْضَلِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْبَاءِ، تَقْدِيرُهُ: وَأَنْ تُلْحِقَنِي بِالنَّبِيِّ وَبِمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، مِمَّنْ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَالْقِيَامَ بِأَمْرِهِ.
______________
وَأَسْأَلُكَ التَّسْدِيدَ فِي تَأْلِيفِ كِتَابٍ فِي الْأُصُولِ. حَجْمُهُ يَقْصُرُ وَعِلْمُهُ يَطُولُ. مُتَضَمِّنٌ مَا فِي الرَّوْضَةِ الْقُدَامِيَّةِ، الصَّادِرَةِ عَنِ الصِّنَاعَةِ الْمَقْدِسِيَّةِ. غَيْرَ خَالٍ مِنْ فَوَائِدَ زَوَائِدَ، وَشَوَارِدَ فَرَائِدَ، فِي الْمَتْنِ وَالدَّلِيلِ، وَالْخِلَافِ وَالتَّعْلِيلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَسْأَلُكَ التَّسْدِيدَ» هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «أَحْمَدُكَ» ، أَيْ أَحْمَدُكَ وَأَسْأَلُكَ التَّسْدِيدَ، وَهُوَ التَّوْفِيقُ لِلسَّدَادِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَمِنْهُ تَسْدِيدُ السَّهْمِ إِلَى الْغَرَضِ، أَيْ: تَصْوِيبُهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّدَادِ وَالسَّدَدِ وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ. وَالسَّهْمُ وَالرُّمْحُ الْمُسَدَّدُ: الْمُقَوَّمُ، وَرَأْيٌ سَدِيدٌ: صَائِبٌ مُسْتَقِيمٌ.
قَوْلُهُ: «فِي تَأْلِيفِ كِتَابٍ فِي الْأُصُولِ» التَّأْلِيفُ: تَفْعِيلُ مِنْ أَلِفَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ، وَالطَّائِرُ الْوَكْرَ، إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، وَتَأْلِيفُ الْكِتَابِ: ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ حُرُوفًا وَكَلِمَاتٍ وَأَحْكَامًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَالْكِتَابُ: فِعَالُ مِنَ الْكَتْبِ، وَهُوَ الْجَمْعُ، يُقَالُ: كَتَبْتَ الْقِرْبَةَ: إِذَا خَرَزْتَهَا، وَالْكُتْبَةُ - بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ التَّاءِ: الْخَرَزَةُ، وَكَتَبْتُ الْبَغْلَةَ: جَمَعْتُ بَيْنَ شُفْرَيْهَا بِحَلْقَةٍ، وَكَتَبْتُ النَّاقَةَ: صَرَرْتُهَا، وَتَكَتَّبَتِ الْخَيْلُ: تَجَمَّعَتْ، وَالْكَتِيبَةُ: جَمَاعَةُ الْخَيْلِ.
وَالْأُصُولُ: جَمْعُ أَصْلٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ:
«حَجْمُهُ» أَيْ حَجْمُ الْكِتَابِ الْمُؤَلَّفِ «يَقْصُرُ» ، أَيْ: يَقِلُّ
وَيَسْهُلُ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ لَفْظَ الْقِصَرِ مُقَابَلَةً
لِقَوْلِهِ: «وَعِلْمُهُ يَطُولُ» فَإِنَّ الطِّبَاقَ يُحَسِّنُ الْكَلَامَ،
وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، وَحَجْمُ الشَّيْءِ: نُتُوُّهُ، يُقَالُ:
لِمَرْفَقِهِ حَجْمٌ، أَيْ: نُتُوٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ
ثَخَانَتُهُ، وَهُوَ بُعْدُ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ سِوَارَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ
هَذَا الْكِتَابَ
كَثِيرُ الْمَعْنَى، قَلِيلُ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْإِيجَازُ الْمُسْتَحْسَنُ، إِذْ خَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الِاخْتِصَارِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلَامُ اخْتِصَارًا أَيْ أُوتِيتُ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ الْجَلِيلَةَ فِي الْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ الْقَلِيلَةِ، وَأَصْلُ الِاخْتِصَارِ: هُوَ مِنْ خَصْرِ الْإِنْسَانِ: وَهُوَ مَا اسْتَدَقَّ فَوْقَ مَتْنِهِ، أَوْ مِنَ اخْتِصَارِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ سُلُوكُ أَقْرَبِهِ، وَخُصُورِ الرَّمْلِ: مَا اسْتَدَقَّ مِنْهُ وَاطْمَأَنَّ، فَسُلُوكُهُ أَقْرَبُ.
قَوْلُهُ: «مُتَضَمِّنٍ» هُوَ مَجْرُورٌ صِفَةً لِكِتَابٍ، أَيْ فِي تَأْلِيفِ كِتَابٍ مُتَضَمِّنٍ، أَيْ: فِي ضِمْنِهِ، أَيْ بَاطِنِهِ، «مَا فِي الرَّوْضَةِ الْقُدَامِيَّةِ، الصَّادِرَةِ عَنِ الصِّنَاعَةِ الْمَقْدِسِيَّةِ» يَعْنِي كِتَابَ «الرَّوْضَةِ» ، تَأْلِيفِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ مُوَفَّقِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيِّ، فَالْقُدَامِيَّةُ نِسْبَةٌ إِلَى جَدِّهِ، وَبِهِ يُعْرَفُ نَسَبًا، لِأَنَّهُ أَشْهَرُ آبَائِهِ وَأَعْرَفُهَا لَفْظًا، فَهُوَ إِذَا نُسِبَ إِلَى الْأَبِ قِيلَ: ابْنُ قُدَامَةَ، وَإِذَا نُسِبَ إِلَى الْبَلَدِ قِيلَ: الْمَقْدِسِيُّ، فَوَقَعَتِ النِّسْبَةُ هَاهُنَا إِلَيْهِمَا.
وَالصَّادِرَةُ: النَّاشِئَةُ، وَمَصْدَرُ الشَّيْءِ مَبْدَؤُهُ وَمَنْشَؤُهُ.
وَالصِّنَاعَةُ:
مَلَكَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ يَصْدُرُ عَنْهَا آثَارٌ عِلَاجِيَّةٌ لِإِفَادَةِ
كَمَالٍ فِي مَحِلٍّ،
وَاسْتِعْمَالُ الصِّنَاعَةِ فِي الْعُلُومِ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بِاعْتِبَارِ الْمُبَادَرَةِ الذِّهْنِيَّةِ وَالِاسْتِعْمَالِ الْعَامِّ لِمَا تَضَمَّنَ عِلَاجًا بَدَنِيًّا كَالنِّجَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ.
قَوْلُهُ: «غَيْرَ خَالٍ مِنْ فَوَائِدَ زَوَائِدَ» غَيْرَ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ كِتَابٍ فِي قَوْلِهِ: تَأْلِيفِ كِتَابٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً إِلَّا أَنَّهُ وُصِفَ بِصِفَاتٍ خَصَّصَتْهُ حَتَّى قَارَبَ الْمَعْرِفَةَ جِدًّا، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ تَأْلِيفٌ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ دَلَّ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ وَأَسْلَمُ أَنْ تَكُونَ «غَيْرَ» صِفَةً لِكِتَابٍ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ التَّأْلِيفَ مَصْدَرٌ مُقَدَّرٌ بِأَنْ وَالْفِعْلِ.
وَكِتَابٌ حَقُّهُ النَّصْبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: أَسْأَلُكَ التَّسْدِيدَ فِي أَنْ أُؤَلِّفَ كِتَابًا غَيْرَ خَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «غَيْرَ» مَجْرُورَةً نَعْتًا لِكِتَابٍ عَلَى اللَّفْظِ، وَالنَّصْبُ الْمُخْتَارُ نَعْتًا عَلَى الْمَحَلِّ.
وَالْفَوَائِدُ: جَمْعُ فَائِدَةٍ، وَهِيَ فَاعِلَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفُؤَادِ، لِأَنَّهَا تُرَدُّ عَلَيْهِ اسْتِفَادَةً، وَتَصْدُرُ عَنْهُ إِفَادَةً، أَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْقِلُ مَا يَسْتَفِيدُهُ بِفُؤَادِهِ، وَالْمُرَادُ قَلْبُهُ الَّذِي يُشْرِقُ عَلَيْهِ نُورُ عَقْلِهِ، أَوْ هُوَ مَحِلُّ عَقْلِهِ عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَصْدُرُ مَا يُفِيدُهُ غَيْرُهُ عَنْ فُؤَادِهِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الْأَحْقَافِ: 26] يَعْنِي يَفْهَمُونَ بِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النَّحْلِ: 78] ، أَيْ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قَدْرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ، فَتَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا.
وَزَوَائِدُ: جَمْعُ
زَائِدَةٍ، أَيْ: فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَمَّا فِي «الرَّوْضَةِ» الَّذِي هُوَ
أَصْلُ الْمُخْتَصَرِ.
قَوْلُهُ: «وَشَوَارِدَ فَرَائِدَ» هُوَ جَمْعُ شَارِدَةٍ، أَيْ: فَائِدَةٌ أَوْ نُكْتَةٌ شَارِدَةٌ يَعْنِي خَارِجَةً عَنِ الرَّوْضَةِ لَيْسَتْ فِيهَا، أَوْ عَنْ فَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ مُؤَلِّفِي الْكُتُبِ، وَالنَّاسُ لَمْ يَنْتَبِهُوا لَهَا، يُقَالُ: شَرَدَ الْبَعِيرُ وَالنَّاقَةُ: إِذَا نَفَرَا، وَالشَّرِيدُ الطَّرِيدُ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْخُرُوجِ، وَهَذَا مُسْتَعَارٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَالْفَرَائِدُ: جَمْعُ فَرِيدَةٍ، أَيْ: مُنْفَرِدَةٌ بِالْحُسْنِ فِي بَابِهَا.
قَوْلُهُ: «فِي الْمَتْنِ وَالدَّلِيلِ، وَالْخِلَافِ وَالتَّعْلِيلِ» هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: زَوَائِدَ، أَيْ هَذِهِ الزَّوَائِدُ هِيَ تَارَةً فِي الْمَتْنِ أَعْنِي الْمَسَائِلَ الْمُسْتَدَلَّ عَلَيْهَا، وَتَارَةً فِي الدَّلِيلِ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَتَارَةً فِي نَقْلِ الْخِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ، وَتَارَةً فِي تَعْلِيلِهَا، أَيْ: تَقْرِيرِ عِلَلِهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَالتَّعْلِيلُ أَخَصُّ مِنَ الدَّلِيلِ، إِذْ كُلُّ تَعْلِيلٍ دَلِيلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ تَعْلِيلًا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ وَجْهَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ بَيْنَهُمَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذِكْرَ التَّعْلِيلِ مَعَ الدَّلِيلِ تَكْرَارٌ.
وَالْمَتْنُ فِي الْأَصْلِ الْجِسْمُ، وَمَتْنَا الظَّهْرِ: مُكْتَنِفَا الصُّلْبِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ مِنْ عَصَبٍ وَلَحْمٍ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي الْكَلَامِ الْمَرْوِيِّ بِالْإِسْنَادِ وَقَابَلُوا بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: الْمَتْنُ وَالْإِسْنَادُ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَتْنِ الْحَيَوَانِ أَنَّهُ لَا ثُبُوتَ لِلْحَدِيثِ بِدُونِ مَتْنِهِ، كَمَا لَا ثُبُوتَ لِلْحَيَوَانِ بِدُونِ مَتْنِهِ، وَاسْتَعْمَلْتُهُ أَنَا هَاهُنَا فِيمَا ذَكَرْتُ، لِأَنَّ نِسْبَةَ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى دَلِيلِهَا نِسْبَةُ لَفْظِ الْحَدِيثِ إِلَى إِسْنَادِهِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلِهِ، كَمَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِإِسْنَادِهِ. _________________
مَعَ تَقْرِيبِ الْإِفْهَامِ عَلَى الْأَفْهَامِ، وَإِزَالَةِ اللَّبْسِ عَنْهُ مَعَ الْإِبْهَامِ. حَاوِيًا لِأَكْثَرَ مِنْ عِلْمِهِ، فِي دُونِ شَطْرِ حَجْمِهِ، مُقِرًّا لَهُ غَالِبًا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ إِلَى قَلْبِي بِحَبِيبٍ وَلَا قَرِيبٍ. سَائِلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وُفُورَ النَّصِيبِ، مِنْ جَمِيلِ الْأَجْرِ، وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَدُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ، وَثَنَاءٍ مُسْتَطَابٍ، اللَّهُمَّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «مَعَ تَقْرِيبِ الْإِفْهَامِ» هُوَ مَكْسُورُ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ التَّفْهِيمُ أَيْضًا، يُقَالُ: أَفْهَمْتُهُ إِفْهَامًا، وَفَهَّمْتُهُ تَفْهِيمًا، فَهُمَا مَصْدَرَانِ لِفِعْلَيْنِ مِنَ الْمَادَّةِ، كَالْإِكْرَامِ وَالتَّكْرِيمِ، غَيْرَ أَنَّ التَّفْهِيمَ وَالتَّكْرِيمَ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَالتَّكْرِيرَ عَلَى الْأَفْهَامِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ فَهْمٍ، وَهُوَ الْقُوَّةُ الَّتِي يُدْرَكُ بِهَا مَعْنَى الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى: أَنِّي مَعَ اخْتِصَارِ الْكِتَابِ لَفْظًا وَالزِّيَادَةِ فِيهِ مَعْنًى، قَرَّبْتُهُ عَلَى الْأَفْهَامِ بِتَسْهِيلِ أَلْفَاظِهِ وَوَضْعِهَا مَوَاضِعَهَا، بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ سَمِعَ ظَوَاهِرَ أَلْفَاظِهِ مُطْلَقًا أَوْ غَالِبًا، فَهِمَ بَاطِنَ مَعَانِيهِ، وَرُبَّ عِبَارَةٍ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ يُحْتَاجُ فِي تَنْزِيلِهَا عَلَى الْمُرَادِ إِلَى تَكَلُّفٍ وَتَعَسُّفٍ، وَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «وَإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ» بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ أَسْفَلَ، وَفِيهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَبْسٌ، لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْقَرِينَةُ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ زَائِلٌ. أَمَّا وَجْهُ اللَّبْسِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: «مَعَ الْإِبْهَامِ» يُحْتَمَلُ أَنِّي أَزَلْتُ اللَّبْسَ وَالْإِبْهَامَ فَاصْطَحَبَا فِي الزَّوَالِ عَنِ الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَعَلَيْهِ دَلَّ سِيَاقُ
الْكَلَامِ وَقَرِينَتُهُ، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالتَّقْرِيبِ وَالظُّهُورِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِذَلِكَ.
وَيُحْتَمَلُ أَنِّي أَلَّفْتُ الْكِتَابَ مَعَ الْإِبْهَامِ، فَيَكُونُ الِاصْطِحَابُ بَيْنَ التَّأْلِيفِ وَالْإِبْهَامِ فِي الْوُقُوعِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُرَادًا، لِأَنَّهُ يُنَافِي سِيَاقَ الْكَلَامِ، وَيُنَاقِضُ قَوْلَهُ: «مَعَ تَقْرِيبِ الْإِفْهَامِ عَلَى الْأَفْهَامِ» وَأَمَّا زَوَالُ اللَّبْسِ مِنْ حَيْثُ الْقَرِينَةُ فَبِمَا ذَكَرْتُهُ.
وَالْإِبْهَامُ: هُوَ اشْتِبَاهُ جِهَاتِ الْحَقِّ، فَلَا تُعْلَمُ عَيْنُ جِهَتِهِ يُقَالُ: أَمْرٌ مُبْهَمٌ: لَا يُدْرَى مَا وَجْهُهُ.
قَوْلُهُ: «حَاوِيًا لِأَكْثَرَ مِنْ عِلْمِهِ» أَيْ لِأَكْثَرَ مِنْ عِلْمِ كِتَابِ «الرَّوْضَةِ» «فِي دُونِ شَطْرِ حَجْمِهِ» أَيْ: نِصْفُ مِقْدَارِهِ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مَعْرُوفٌ بِالْعِيَانِ لِمَنْ قَابَلَ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ. وَ «حَاوِيًا» : مَنْصُوبٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ: «غَيْرَ خَالٍ» وَيَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «مُقِرًّا لَهُ غَالِبًا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ إِلَى قَلْبِي بِحَبِيبٍ وَلَا قَرِيبٍ» مُقِرًّا: فِي إِعْرَابِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي «غَيْرَ خَالٍ» .
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ غَالِبَ تَرْتِيبِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي «الرَّوْضَةِ» أَقْرَرْتُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ أُغَيِّرْهُ، وَإِنْ كَانَ تَرْتِيبُهُ لَيْسَ بِحَبِيبٍ إِلَيَّ، وَلَا قَرِيبٍ إِلَى قَلْبِي، لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنِّي مُخْتَصِرٌ لِكِتَابِهِ، وَحَقِيقَةُ الِاخْتِصَارِ: هُوَ ذِكْرُ جَمِيعِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَتَغْيِيرُ التَّرْتِيبِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، غَيْرَ أَنِّي تَصَرَّفْتُ فِي تَرْتِيبِهِ تَصَرُّفًا مَا، بِحَسَبِ مَا يَنْبَغِي وَيَقْرُبُ عَلَى الْفَهْمِ.
فَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلَهُ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى فُصُولٍ هِيَ كُلِّيَّاتٌ لِلْكِتَابِ، أَوْ كَالْكُلِّيَّاتِ، وَتَقْدِيمُ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ مَعْلُومُ الْحُسْنِ بِمُنَاسَبَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْكُلِّيَّاتِ هِيَ قَوَاعِدُ يُرَدُّ إِلَيْهَا، وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا جُزْئِيَّاتُ الْعِلْمِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ.
وَوَجْهُ عَدَمِ مَحَبَّتِي لِتَرْتِيبِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَقُرْبِهِ مِنْ قَلْبِي أَنَّهُ رَتَّبَ كِتَابَهُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ، هَكَذَا: حَقِيقَةُ الْحُكْمِ وَأَقْسَامِهِ، ثُمَّ تَفْصِيلُ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، ثُمَّ بَيَانُ الْأُصُولِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا، ثُمَّ تَقَاسِيمُ الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْعُمُومُ وَالِاسْتِثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ، وَنَحْوِهِ، ثُمَّ الْقِيَاسُ، ثُمَّ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ.
وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ تَقْدِيمَ تَقَاسِيمِ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ الْكَلَامُ فِي اللُّغَاتِ لِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ خِطَابِ الشَّرْعِ عَلَى فَهْمِهَا، لِوُرُودِهِ بِهَا، لَكِنَّ الْعُذْرَ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ هَذَا أَنَّهُ تَابِعٌ فِي كِتَابِهِ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» حَتَّى فِي إِثْبَاتِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ فِي أَوَّلِهِ، وَحَتَّى قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ رَأَى الْكِتَابَيْنِ: إِنَّ «الرَّوْضَةَ» مُخْتَصَرُ «الْمُسْتَصْفَى» وَيَظْهَرُ ذَلِكَ قَطْعًا فِي إِثْبَاتِهِ الْمُقَدِّمَةَ الْمَنْطِقِيَّةَ، مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْ مُتَابَعَتِهِ عَلَى ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنْ نُصُوصِ أَلْفَاظِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ.
فَأَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْتَقَطَ أَبْوَابَ «الْمُسْتَصْفَى» ، فَتَصَرَّفَ فِيهَا بِحَسَبِ رَأْيِهِ، وَأَثْبَتَهَا، وَبَنَى كِتَابَهُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَرَ الْحَاجَةَ مَاسَّةً إِلَى مَا اعْتَنَى بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مِنْ دَرْجِ الْأَبْوَابِ تَحْتَ أَقْطَابِ الْكِتَابِ، أَوْ أَنَّهُ أَحَبَّ ظُهُورَ الِامْتِيَازِ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ بِاخْتِلَافِ التَّرْتِيبِ، لِئَلَّا يَصِيرَ مُخْتَصِرًا لِكِتَابِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصْنَعُ كِتَابًا مُسْتَقِلًّا فِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ كِتَابَهُ، لِأَنَّ أَبَا حَامِدٍ أَشْعَرِيٌّ شَافِعِيٌّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ حَنْبَلِيٌّ أَثَرِيٌّ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْحُكَمَاءِ الْأَوَائِلِ وَغَيْرِهِمْ، لَا تَكَادُ تَجِدُ لَهُمْ كِتَابًا فِي طِبٍّ أَوْ فَلْسَفَةٍ إِلَّا وَقَدْ ضُبِطَتْ مَقَالَاتُهُ وَأَبْوَابُهُ فِي أَوَّلِهِ، بِحَيْثُ يَقِفُ النَّاظِرُ الذَّكِيُّ مِنْ مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا فِي أَثْنَائِهِ مِنْ تَفَاصِيلِهِ.
أَبُو حَامِدٍ الْمَنْهَجُ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ دَائِرًا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْطَابٍ:
الْأَوَّلُ: فِي الْأَحْكَامِ وَالْبِدَايَةِ بِهَا، لِأَنَّهَا الثَّمَرَةُ الْمَطْلُوبَةُ.
وَالثَّانِي: فِي الْأَدِلَّةِ الْمُثْمِرَةِ لِلْأَحْكَامِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَرَةِ أَهَمُّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُثْمِرِ.
الثَّالِثُ: فِي طَرِيقِ الِاسْتِثْمَارِ، وَهُوَ بَيَانُ وَجْهِ دَلَالَةٍ عَلَى الْأَحْكَامِ فِي الْمَنْطُوقِ وَغَيْرِهِ.
الرَّابِعُ: فِي الْمُسْتَثْمِرِ، وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَخْرِجُ لِلْحُكْمِ مِنَ الدَّلِيلِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمُقَلِّدُ يُقَابِلُهُ، وَجَبَ بَيَانُ حُكْمِهِ عِنْدَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ انْدِرَاجِ تَفَاصِيلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَعَ كَثْرَتِهَا تَحْتَ هَذِهِ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ بَيَانًا ثَانِيًا أَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَهُوَ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ، وَلَمْ أَذْكُرْهُ لِطُولِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ بَيَانًا ثَالِثًا عَلَى عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ فِي اسْتِيفَاءِ التَّفْصِيلِ.
وَقَدْ يُورِدُ
عَلَى أَبِي حَامِدٍ فِي تَرْتِيبِهِ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ الْأَدِلَّةَ، ثُمَّ
الْأَحْكَامَ، ثُمَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ، ثُمَّ أَحْكَامَ
الْمُجْتَهِدِينَ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ فِي اجْتِنَاءِ
الْأَثْمَارِ مِنَ الْأَشْجَارِ الَّذِي جَعَلَهُ نَظِيرًا لِاسْتِخْرَاجِ
الْأَحْكَامِ مِنَ الْأَدِلَّةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّجَرَةَ قَبْلَ
الثَّمَرَةِ، ثُمَّ إِذَا وُجِدَتِ الثَّمَرَةُ تَوَصَّلَ الْمُجْتَنِي إِلَى
تَحْصِيلِهَا، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَامِدٍ قَدْ نَبَّهَ عَلَى جَوَابِ هَذَا
بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا الثَّمَرَةُ الْمَطْلُوبَةُ، إِشَارَةً إِلَى تَقْدِيمِ
مَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْأَدِلَّةُ وَوَجْهُ
وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ فَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِعِلْمِ الْأُصُولِ، بَلْ هِيَ آلَةٌ لِكُلِّ عِلْمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ كَالْعِلَاوَةِ أَلْحَقَهَا بَعْضُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ بِهِ لِشِدَّةِ الْفَهْمِ لَهُ، وَالْفِطَامُ عَنِ الْمَأْلُوفِ شَدِيدٌ، وَلِذَلِكَ كُلُّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ عِلْمٌ وَأَلِفَهُ، مَزَجَ بِهِ سَائِرَ عُلُومِهِ، يُعْرَفُ ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءِ تَصَانِيفِ النَّاسِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ كَانَ فِي كِتَابِهِ مُتَابِعًا لِأَبِي حَامِدٍ، لِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا مَنْطِقِيًّا حَتَّى يُقَالَ: غَلَبَ عَلَيْهِ عِلْمُهُ الْمَأْلُوفُ، فَلَمَّا أَلْحَقَ الْمُقَدِّمَةَ بِكِتَابِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَحْضِ الْمُتَابَعَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا الثِّقَاتُ أَنَّ الشَّيْخَ إِسْحَاقَ الْعَلْثِيَّ عَاتَبَ أَبَا مُحَمَّدٍ فِي إِلْحَاقِهِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَأَسْقَطَهَا مِنَ «الرَّوْضَةِ» بَعْدَ أَنِ انْتَشَرَتْ بَيْنَ النَّاسِ فَلِهَذَا تُوجَدُ فِي نُسْخَةٍ دُونَ نُسْخَةٍ، فَتَرْكِي لِاخْتِصَارِهَا فِي جُمْلَةِ الْكِتَابِ كَانَ لِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: مَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ رُجُوعِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ النُّسْخَةَ الَّتِي اخْتَصَرْتُ مِنْهَا لَمْ تَكُنِ الْمُقَدِّمَةُ فِيهَا.
وَالثَّالِثُ:
وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ أَنِّي أَنَا لَا أُحَقِّقُ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَلَا
الشَّيْخُ أَيْضًا كَانَ يُحَقِّقُهُ، فَلَوِ اخْتَصَرْتُهَا لَظَهَرَ بَيَانُ
التَّكْلِيفِ عَلَيْهَا مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ
الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلطَّالِبِ، وَيَقْطَعُ عَلَيْهِ الْوَقْتَ، فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْعِلْمَ فَعَلَيْهِ بِأَخْذِهِ مِنْ مَظَانِّهِ مِنْ شُيُوخِهِ وَكُتُبِهِ، وَإِذَا كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ قَبْلَهُ أَلْحَقَ الْمَنْطِقَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ، اقْتَصَرَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ، وَأَحَالَ مَنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى كِتَابَيْهِ: «مِعْيَارِ الْعِلْمِ» وَ «مِحَكِّ النَّظَرِ» فَمَنْ هُوَ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالْإِحَالَةِ عَلَى كُتُبِ الْفَنِّ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا تَابَعَ أَبَا حَامِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى إِلْحَاقِ الْمَنْطِقِ بِالْأُصُولِ إِلَّا ابْنَ الْحَاجِبِ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ الَّذِي هُوَ إِمَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْمَنْطِقِ وَالْكَلَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كُتُبِهِ الْأُصُولِيَّةِ شَيْئًا مِنْهُ.
وَقَدْ رَتَّبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أُصُولَ الْفِقْهِ تَرْتِيبًا حَسَنًا، فَمِنْهُمُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْهُ، وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ سَيْفُ الدِّينِ الْآمِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمُنْتَهَى» وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ رَتَّبَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ:
الْأَوَّلُ: فِي تَحْقِيقِ مَبَادِئِهِ.
الثَّانِي: فِي الدَّلِيلِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ.
الثَّالِثُ: فِي أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَفْتِينَ.
الرَّابِعُ: فِي تَرْجِيحَاتِ طُرُقِ الْمَطْلُوبَاتِ.
وَهُوَ تَرْتِيبٌ مُخْتَصَرٌ جَامِعٌ انْتَظَمَ جَمِيعَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، عَلَى مَا فَصَّلَهُ فِي كِتَابِهِ، وَيَقَعُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِنَا تَقْسِيمَ غَيْرِهِ.
وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي «اللُّمَعِ» حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ، فَهِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْفِقْهُ، وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْأَدِلَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ.
وَالْأَدِلَّةُ
هَاهُنَا: خِطَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخِطَابُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَفْعَالُهُ وَإِقْرَارُهُ،
وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالْقِيَاسُ، وَالْبَقَاءُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ، وَفُتْيَا الْعَالِمِ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ. وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْأَدِلَّةِ، فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى تَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَوُجُوبِهَا وَتَرْتِيبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَأَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ: الْكَلَامُ فِي خِطَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِطَابِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمَا أَصْلٌ لِمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَقْسَامُ الْكَلَامِ، وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ.
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى أَقْوَالِهِ فِي الْبَيَانِ.
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْأَخْبَارِ لِأَنَّهَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُهُ دَلِيلًا بِخِطَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخِطَابِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْهُمَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ.
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُهُ دَلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَإِلَيْهَا يَسْتَنِدُ.
ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِنَّمَا يُفْزَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ.
ثُمَّ نَذْكُرُ فُتْيَا الْعَالِمِ، وَصِفَةَ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ طَرِيقًا لِلْحُكْمِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
ثُمَّ نَذْكُرُ الِاجْتِهَادَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِهِ.
وَمِنْهُمُ
الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ،
قَالَ فِي «الْمَحْصُولِ» : الْفَصْلُ الْعَاشِرُ فِي ضَبْطِ أَبْوَابِ أُصُولِ
الْفِقْهِ: وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ عِبَارَةٌ عَنْ
مَجْمُوعِ طُرُقِ الْفِقْهِ، وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَكَيْفِيَّةِ حَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا.
أَمَّا الطُّرُقُ: فَهِيَ إِمَّا عَقْلِيَّةٌ، وَلَا مَجَالَ لَهَا عِنْدَنَا فِي الْأَحْكَامِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: حُكْمُ الْعَقْلِ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ، وَفِي الْمَضَارِّ التَّحْرِيمُ. أَوْ سَمْعِيَّةٌ، وَهِيَ إِمَّا مَنْصُوصَةٌ أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ.
أَمَّا الْمَنْصُوصَةُ: فَهِيَ إِمَّا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَصْدُرُ عَمَّنْ لَا يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَمَجْمُوعُ الْأُمَّةِ، وَالصَّادِرُ عَنِ الرَّسُولِ وَعَنِ الْأُمَّةِ إِمَّا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ لَا يَدُلُّ إِلَّا مَعَ الْقَوْلِ، فَتَكُونُ الدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الدَّلَالَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَالدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي ذَاتِهَا، وَهِيَ الْأَوَامِرُ وَالْمَنَاهِي. وَإِمَّا فِي عَوَارِضِهَا، إِمَّا بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَهِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، أَوْ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ دَلَالَتِهَا، وَهِيَ الْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ، وَالنَّظَرُ فِي الذَّاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّظَرِ فِي الْعَوَارِضِ، فَلَا جَرَمَ بَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُقَدَّمٌ عَلَى بَابِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.
ثُمَّ النَّظَرُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ نَظَرٌ فِي مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ نَظَرٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِتِلْكَ الْمُتَعَلِّقَاتِ، وَمُتَعَلِّقُ الشَّيْءِ مُقَدَّمٌ عَلَى النِّسَبِ الْعَارِضَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمُتَعَلِّقِهِ، فَلَا جَرَمَ قُدِّمَ بَابُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى بَابِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَا بُدَّ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ.
ثُمَّ هَذِهِ
الدَّلَالَةُ تَارَةً تَرِدُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَتَارَةً لِرَفْعِهِ، فَلَا
بُدَّ مِنْ بَابِ النَّسَخِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى بَابِ الْإِجْمَاعِ،
لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، وَكَذَا الْقِيَاسُ،
ثُمَّ ذَكَرْنَا بَعْدَهُ بَابَ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ
وَالْأَفْعَالُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهَا مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ مَنْ
صَدَرَتْ عَنْهُ، وَلَا أَهْلَ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ هَذِهِ
الدَّلَالَةُ إِلَّا
بِالنَّقْلِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنِ النَّقْلِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالنَّقْلِ الَّذِي يُفِيدُ الظَّنَّ، وَهُوَ بَابُ الْأَخْبَارِ.
وَهَذِهِ جُمْلَةُ أَبْوَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْمَنْصُوصَةِ.
وَلَمَّا كَانَ التَّمَسُّكُ بِالْمَنْصُوصَاتِ إِنَّمَا يُمْكِنُ بِوَاسِطَةِ اللُّغَاتِ وَجَبَ تَقْدِيمُ بَابِ اللُّغَاتِ عَلَى الْكُلِّ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْمُسْتَنْبَطُ فَهُوَ الْقِيَاسُ.
فَهَذِهِ أَبْوَابُ طُرُقِ الْفِقْهِ.
أَمَّا أَبْوَابُ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، فَهُوَ بَابُ التَّرْجِيحِ.
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ حَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا، فَالَّذِي يَنْزِلُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، إِنْ كَانَ عَالِمًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ بَابُ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ وَأَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاسْتِفْتَاءِ، وَهُوَ بَابُ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي.
ثُمَّ نَخْتِمُ الْأَبْوَابَ بِذِكْرِ أُمُورٍ اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي كَوْنِهَا طُرُقًا إِلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
فَهَذِهِ مَجْمُوعُ أَبْوَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ: أَوَّلُهَا اللُّغَاتُ، ثُمَّ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، ثُمَّ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، ثُمَّ الْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ، ثُمَّ الْأَفْعَالُ، ثُمَّ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ، ثُمَّ الْأَخْبَارُ، ثُمَّ الْقِيَاسُ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ، ثُمَّ الِاجْتِهَادُ، ثُمَّ الِاسْتِفْتَاءُ، ثُمَّ الْأُمُورُ الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهَا طُرُقًا لِلْأَحْكَامِ، فَهِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَابًا.
هَذَا كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ إِلَّا أَحْرُفًا يَسِيرَةً لَخَّصْتُهَا مِنْهُ.
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ، لِأَنَّهُ أَدْرَجَهُ فِي كِتَابِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَهَذَا تَقْسِيمٌ وَتَرْتِيبٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُمُ
الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَوْحَدُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ
بْنُ إِدْرِيسَ الْمَالِكِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْقَرَافِيِّ، جَعَلَ كِتَابَهُ
«التَّنْقِيحَ» مُشْتَمِلًا عَلَى مِائَةِ فَصْلٍ وَفَصْلَيْنِ يَجْمَعُهَا
عِشْرُونَ بَابًا.
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ، ثُمَّ فِي مَعَانِي الْحُرُوفِ، ثُمَّ فِي تَعَارُضِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ، ثُمَّ فِي الْأَوَامِرِ، ثُمَّ فِي النَّوَاهِي، ثُمَّ فِي الْعُمُومَاتِ، ثُمَّ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، ثُمَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ فِي الشُّرُوطِ، ثُمَّ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، ثُمَّ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ، ثُمَّ فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، ثُمَّ فِي فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ فِي النَّسْخِ، ثُمَّ فِي الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ فِي الْأَخْبَارِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ، ثُمَّ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ، ثُمَّ فِي الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ فِي أَدِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ.
وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّرْتِيبِ قَبْلَهُ وَمُقْتَضَبٌ مِنْهُ، وَهُوَ كَثِيرًا مَا يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ فِيمَا يَصِحُّ عِنْدَهُ، عَلَى جِهَةِ التَّأَدُّبِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْفَضِيلَةِ.
وَمِنْهُمْ مِنْ مَشَايِخِ أَصْحَابِنَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ فِي «الْعُدَّةِ» : الَّذِي نَقُولُ: إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ وَأَدِلَّةَ الشَّرْعِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَصْلٌ، وَمَفْهُومُ أَصْلٍ، وَاسْتِصْحَابُ حَالٍ. وَالْأَصْلُ: ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. وَالْكِتَابُ ضَرْبَانِ: مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ. وَالسُّنَّةُ ضَرْبَانِ: مَسْمُوعٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْقُولٌ عَنْهُ.
وَالْكَلَامُ فِي الْمَنْقُولِ، فِي سَنَدِهِ مِنْ حَيْثُ التَّوَاتُرُ وَالْآحَادُ، وَفِي مَتْنِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ إِقْرَارٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْإِجْمَاعُ يُذْكَرُ.
وَمَفْهُومُ
الْأَصْلِ: ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: مَفْهُومُ الْخِطَابِ، وَدَلِيلُهُ، وَمَعْنَاهُ.
وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ: ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِصْحَابُ بَرَاءَةِ
الذِّمَّةِ، وَالثَّانِي: اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْخِلَافِ.
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ لَخَّصْتُهُ أَنَا، وَفِي ظَاهِرِ لَفْظِهِ مُنَاقَشَةٌ،
وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ: إِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: قَوْلٌ،
وَفِعْلٌ، وَإِقْرَارٌ عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ لَا
ضَرْبَانِ، فَلَعَلَّهُ جَعَلَ الْإِقْرَارَ نَوْعًا مِنَ الْفِعْلِ،
وَجَعَلَهُمَا
جَمِيعًا قَسِيمَ الْقَوْلِ، فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: الْمَتْنُ، إِمَّا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُبَاشَرَةٍ، وَإِقْرَارٍ عَلَى مُبَاشَرَةٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ كَلَامُهُ إِلَّا بِهَذَا.
قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ وَأَدِلَّةَ الشَّرْعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا طَرِيقُهُ الْأَقْوَالُ، وَالْآخَرُ: الِاسْتِخْرَاجُ.
فَأَمَّا الْأَقْوَالُ: فَهِيَ النَّصُّ وَالْعُمُومُ وَالظَّاهِرُ وَمَفْهُومُ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ وَالْإِجْمَاعُ.
وَأَمَّا الِاسْتِخْرَاجُ: فَهُوَ الْقِيَاسُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيهِ، وَذَلِكَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا.
قَالَ: وَلَمْ أَذْكُرْ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَسَأَذْكُرُهُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْقَاضِي.
وَالضَّبْطُ الَّذِي اخْتَارَهُ وَحَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ كِلَاهُمَا نَاقِصُ ضَبْطٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ.
وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَوْحَدُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الصَّيْقَلِ الْحَرَّانَيُّ الْحَنْبَلِيُّ، ضَبَطَ مَقَالَاتِ أُصُولِ الْفِقْهِ ضَبْطًا حَسَنًا مُحَقَّقًا، فَقَالَ:
أُصُولُ الْفِقْهِ: هُوَ الْعِلْمُ بِأَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا إِجْمَالًا لَا تَفْصِيلًا.
وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدُّ عَلَى ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا، وَهِيَ أَجْزَاءُ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْرَدَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَقَالَةٌ، فَاشْتَمَلَ كِتَابُنَا لِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَرْبَعِ مَقَالَاتٍ:
الْمَقَالَةُ الْأُولَى: فِي الْعِلْمِ.
الْمَقَالَةُ
الثَّانِيَةُ: فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْأَدِلَّةِ.
الْمَقَالَةُ الرَّابِعَةُ: فِي وُجُوهِ دَلَالَتِهَا.
قَالَ: وَقَدَّمْنَا النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ كَالتَّمْهِيدِ لِسَائِرِ الْمَقَالَاتِ، لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي الْعِلْمِ. وَقَدَّمْنَا النَّظَرَ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَدِلَّةِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُرَادُ لِلْإِيصَالِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ يُرَادُ لِذَاتِهِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ مَا يُرَادُ لِذَاتِهِ عَلَى مَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ أَوْلَى. وَقَدَّمْنَا النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى النَّظَرِ فِي وُجُوهِ دَلَالَتِهَا، لِأَنَّهَا حَالَةٌ لِلدَّلِيلِ، فَكَانَ النَّظَرُ فِيمَا لَهُ الْحَالُ مُقَدَّمًا عَلَى النَّظَرِ فِي الْحَالَةِ.
قَالَ: وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ مُتَسَرِّبٌ إِلَى جَمِيعِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ.
قُلْتُ: ذَكَرَ هَذَا فِي كِتَابِ «النُّكَتِ وَالْإِشَارَاتِ فِي الْأُصُولِ النَّظَرِيَّاتِ» وَجَدْتُ مِنْهُ إِلَى مَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ.
وَهَذَا الضَّبْطُ وَالتَّقْسِيمُ عَلَى إِجْمَالٍ فِيهِ، شَبِيهٌ فِي التَّلْخِيصِ وَالِاخْتِصَارِ بِضَبْطِ الشَّيْخِ سَيْفِ الدِّينِ الْآمِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.
هَذَا الَّذِي تَهَيَّأَ لِي الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ ضَبْطِ النَّاسِ لِأُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِمَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَالْكُلُّ مُوصِلٌ إِلَى الْمَقْصُودِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَحْسَنِ الطُّرُقِ إِيصَالًا. وَأَخْصَرُ مَا حَكَيْنَاهُ مِنَ الطُّرُقِ طَرِيقَةُ الْآمِدِيِّ، وَابْنِ الصَّيْقَلِ. وَأَبْيَنُهُ وَأَبْسَطُهُ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ.
وَلِي فِيهِ
طَرِيقَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ جَامِعَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَةِ
مَا قَالُوهُ، لَكِنَّ
الْكَيْفِيَّةَ مُتَغَايِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ: امْتِثَالُ الْمُكَلَّفِينَ لِأَحْكَامِهَا قَوْلًا وَعَمَلًا.
فَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الشَّرْعُ، وَمَوْرِدٌ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ الَّذِي يَتَلَقَّاهُ لِيَمْتَثِلَهُ.
ثُمَّ مَوْرِدُ الْحُكْمِ - وَهُوَ الْمُكَلَّفُ - قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا يَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ عَنْ دَلِيلِهِ، فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى وَاسِطَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ قَاصِرًا عَنْ ذَلِكَ، وَحُكْمُهُ التَّقْلِيدُ لِلْمُجْتَهِدِ، فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْمُقَلِّدِ وَالشَّرْعِ فِي إِيصَالِ الْحُكْمِ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْحُكْمِ وَدَلِيلِهِ وَمَوْرِدِهِ.
وَهُوَ ضَرْبَانِ: الْمُجْتَهِدُ، وَالْمُقَلِّدُ، وَالنَّظَرُ فِي الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ النَّظَرَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهِ، وَهِيَ الْحَاكِمُ، وَهُوَ الشَّارِعُ، وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْتَهِدٌ وَلَا مُقَلِّدٌ، وَالْمَحْكُومُ فِيهِ، وَهُوَ الْأَفْعَالُ الْمُتَّصِفَةُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَكَرَاهَةٍ وَحَظْرٍ وَصِحَّةٍ وَفَسَادٍ.
وَالنَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ يَسْتَدْعِي النَّظَرَ فِي أَقْسَامِهِ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِصْلَاحُ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا زَادَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَنَقَصُوا.
وَالنَّظَرُ فِي مَوْرِدِ الْحُكْمِ يَسْتَدْعِي الْكَلَامَ فِي الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ مِنْ حَيْثُ هُمَا كَذَلِكَ.
فَهَذَا ضَبْطٌ جَامِعٌ، مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْإِجْمَالِ الْمُخِلِّ وَالْبَيَانِ الْمُمِلِّ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ غَرِيبَةٌ لَا تُوجَدُ إِلَّا هَاهُنَا.
أَمَّا تَرْتِيبُ كِتَابِنَا هَذَا الْمُخْتَصَرِ، فَسَتَرَاهُ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «سَائِلًا
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وُفُورَ النَّصِيبِ» أَيْ أَلَّفْتُ هَذَا الْكِتَابَ
سَائِلًا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي تَأْلِيفِ كِتَابٍ. وُفُورُ
النَّصِيبِ: كَمَالُهُ، أَيْ أَنْ يُكْمِلَ
نَصِيبِي «مِنْ جَمِيلِ الْأَجْرِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ» . سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُحْسِنَ لَهُ الْأَجْرَ فِي كَيْفِيَّتِهِ بِكَوْنِهِ جَمِيلًا، وَفِي كَمِّيَّتِهِ بِكَوْنِهِ جَزِيلًا، أَيْ: كَثِيرًا. وَالْأَجْرُ وَالثَّوَابُ وَاحِدٌ، لَكِنْ سَهَّلَ تِكْرَارَهُ اخْتِلَافُ اللَّفْظِ.
قَوْلُهُ: «وَدُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ، وَثَنَاءٍ مُسْتَطَابٍ، اللَّهُمَّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» أَيْ: وُفُورَ النَّصِيبِ مِنْ دُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ، وَثَنَاءٍ مُسْتَطَابٍ، أَيْ: يَدْعُو لِي مَنْ رُبَّمَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ مِنْهُ فِيَّ. وَلَقَدْ طَالَمَا نَظَرْتُ فِي كُتُبِ الْفُضَلَاءِ، فَإِذَا رَأَيْتُ فَائِدَةً مُسْتَغْرَبَةً، أَوْ حَلَّ أَمْرٍ مُشْكِلٍ، أَقْرَأُ لِمُصَنِّفِ الْكِتَابِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَجْعَلُ لَهُ ثَوَابَهُ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ وُصُولَهُ، فَأَنَا أَرْجُو مِنَ النَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ.
أَمَّا قَوْلِي:
«وَثَنَاءٍ مُسْتَطَابِ» فَلَفْظٌ أَثْبَتُّهُ عِنْدَ اخْتِصَارِ الْكِتَابِ،
وَنَفْسِي تَنْفِرُ مِنْهُ، إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي حِينَئِذٍ إِلَّا ثَنَاءُ
النَّاسِ، وَذَلِكَ مَحْضُ الرِّيَاءِ الْمَذْمُومِ، وَالَّذِي جَرَّأَنِي عَلَى
ذَلِكَ التَّأَسِّي بِصَاحِبِ «الْمُفَصَّلِ» حَيْثُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ:
أَنْشَأْتُ هَذَا الْكِتَابَ مُنَاصَحَةً لِمُقْتَنِيهِ، أَرْجُو أَنْ أَجْتَنِيَ
مِنْهَا ثَمَرَتَيْ دُعَاءٍ يُسْتَجَابُ وَثَنَاءٍ يُسْتَطَابُ.
وَأَمَّا الْآنَ - وَقْتَ الشَّرْحِ - فَإِنَّهُ خَطَرَ لِي تَخْرِيجُهَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ طَلَبُ الثَّنَاءِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَرَمِهِ قَدْ يَشْكُرُ مِنَ الْعَبْدِ مَا هُوَ دُونَ هَذَا، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِهِ، إِذَا عَلِمَ نِيَّتَهُ فِيهِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. فَإِنْ صَحَّ لِي هَذَا التَّأْوِيلُ مَعَ تَرَاخِي الزَّمَانِ هَذَا التَّرَاخِيَ، وَإِلَّا فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلَا عَلَى مَنْ كَتَبَ هَذَا الْمُخْتَصَرِ أَنْ يُسْقِطَهَا.
«اللَّهُمَّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» . خَتَمْتُ الْخُطْبَةَ بِلَفْظِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ تَبَرُّكًا. __________
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أُصُولُ الْفِقْهِ: أَدِلَّتُهُ، فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا أَصْلًا بَعْدَ ذِكْرِ مُقْدِمَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أُصُولُ الْفِقْهِ: أَدِلَّتُهُ ". هَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَعْرِيفِ الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، أَوِ اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْفِقْهَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ فِي وُجُودِهِ إِلَيْهَا، وَلِهَذَا مَزِيدُ تَحْقِيقٍ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ " فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا ": أَيْ عَلَى الْأُصُولِ " أَصْلًا أَصْلًا، بَعْدَ ذِكْرِ مُقَدِّمَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ ".
أَيْ: فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْلًا بَعْدَ أَصْلٍ، عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الشَّرَفِ لَا فِي الْقُوَّةِ.
فَهِيَ فِي الشَّرَفِ: الْكِتَابُ، ثُمَّ السُّنَّةُ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ، لِأَنَّ الْكِتَابَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ أَجَلُّ وَأَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنَ النَّبِيِّ الَّذِي السُّنَّةُ كَلَامُهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ الْإِجْمَاعُ هُوَ اتِّفَاقُهُمْ.
وَأَمَّا فِي الْقُوَّةِ، فَالْإِجْمَاعُ، ثُمَّ الْكِتَابُ، ثُمَّ السُّنَّةُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُمَا يُنْسَخَانِ، فَيَجُوزُ أَنَّ الْآيَةَ أَوِ الْخَبَرَ الْمُعَارِضَ لِإِجْمَاعٍ يَكُونُ مَنْسُوخًا.
وَالْكِتَابُ أَقْوَى مِنَ السُّنَّةِ لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ مَحْفُوظُ الْأَلْفَاظِ لَا يَدْخُلُهُ تَبْدِيلُ قَارِئٍ، وَلَا تَحْرِيفُ رَاوٍ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ غَالِبَهَا آحَادٌ، وَالْمُتَوَاتِرُ مِنْهَا غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ أَنَّهُ عَيْنُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَجْوِيزِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى.
وَأَمَّا تَقْدِيمُنَا عَلَى ذَلِكَ مُقَدِّمَةً، فَلِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أُمُورٍ كُلِّيَّةٍ، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا مُنَاسِبًا، وَهِيَ تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهَا، ثُمَّ التَّكْلِيفُ وَمَسَائِلُهُ، ثُمَّ الْأَحْكَامُ وَأَقْسَامُهَا، ثُمَّ اللُّغَاتُ الَّتِي هِيَ كَالْبَابِ لِلْكِتَابِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
فَائِدَةٌ: تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ أَلْفَاظًا يَلِيقُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: فَلْنَتَكَلَّمْ، هَذِهِ صِيغَةُ أَمْرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ مُتَعَذِّرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَدْعِي آمِرًا وَمَأْمُورًا مُتَغَايِرَيْنِ، كَالْإِخْبَارِ يَسْتَدْعِي مُخْبِرًا وَمُخْبَرًا، وَالضَّرْبِ يَقْتَضِي ضَارِبًا وَمَضْرُوبًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، لَكِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ التَّقْدِيرِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ أَجْنَبِيٍّ يَأْمُرُهُ بِمَا يُرِيدُ، وَهَذَا مَشْهُورٌ شَائِعٌ فِي أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ نَظْمًا وَنَثْرًا.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى عَلَى: الِاسْتِعْلَاءُ، وَحَقِيقَتُهُ لَا يَصِحُّ هَاهُنَا، إِذْ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي الْأَجْسَامِ، وَالْكَلَامُ عَرَضٌ، وَالْأُصُولُ الْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا عَرَضٌ أَيْضًا، وَهُوَ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَنَحْوُهَا، فَالِاسْتِعْلَاءُ إِنَّمَا يَصِحُّ هُنَا تَقْدِيرًا، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ لَمَّا كَانَتْ مَوْضِعَ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، صَارَ الْكَلَامُ فِيهَا كَالْمُسْتَعْلِي عَلَيْهَا اسْتِعْلَاءَ اللَّوْنِ عَلَى الْجِسْمِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُهُ.
الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ: أَصْلًا أَصْلًا لِنَصْبِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَالٌ، أَيْ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا مُرَتَّبَةً أَصْلًا بَعْدَ أَصْلٍ.
الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمُفْرَدٍ هُوَ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا كَلَامًا مُرَتَّبًا فِي أَصْلٍ بَعْدَ أَصْلٍ، وَحَقِيقَةُ الْأَصْلِ لُغَةً وَعُرْفًا تُذْكَرُ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: " مُقَدِّمَةٍ "، هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَهِيَ أَوَّلُهُ، لَمْ يَحْكِ الْجَوْهَرِيُّ فِيهَا غَيْرَ الْكَسْرِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي قَادِمَتَيِ الرَّحْلِ مُقَدَّمَةً بِفَتْحِ الدَّالِ، وَهِيَ أَوَّلُهُ مِمَّا يَلِي وَجْهَ الرَّاكِبِ، وَهِيَ مُقَابِلَةٌ آخِرَ الرَّحْلِ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَرْجِعُ تَرَاكِيبُهَا إِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِيَّةِ، فَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ أَيْضًا أَوَّلُهُ، وَيَجُوزُ فِيهَا كَسْرُ الدَّالِ عَلَى صِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفَتْحُهَا عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا اسْمًا فِي كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ التَّقْدِيمُ نَحْوَ مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ وَالْكِتَابِ، وَمُقَدِّمَةِ الدَّلِيلِ وَالْقِيَاسِ، وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي تُنْتِجُ ذَلِكَ مَعَ قَضِيَّةٍ أُخْرَى، نَحْوَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: كُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّةُ، وَنَحْوَ: الْعَالِمُ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: " فُصُولٍ ": هُوَ جَمْعُ فَصْلٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَصَلَ يَفْصِلُ فَصْلًا، إِذَا قَطَعَ، وَمَادَّةُ " ف ص ل " تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْقَطْعِ وَالْإِبَانَةِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ الْمَذْكُورِ كُلُّ مَا بَيَّنَ وَمَيَّزَ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ وَقَطَعَهُ عَنْهُ، فَمِنْهَا الْفُصُولُ فِي الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ، لِأَنَّهَا تُمَيِّزُ جُمَلَ الْكَلَامِ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهَا فُصُولُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْحُدُودِ، كَالنَّاطِقِ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِمْ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَالْحَسَّاسُ فِي حَدِّ الْحَيَوَانِ فِي قَوْلِهِمْ: جِسْمٌ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ، وَمِنْهَا يَوْمُ الْفَصْلِ، وَفَصْلُ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ النِّزَاعَ بَيْنَ الْخُصُومِ.
شرح مختصر الروضة
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ: وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ، وَبِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ تَفْصِيلِيٌّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» يَعْنِي مِنْ فُصُولِ الْمُقَدِّمَةِ «فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ» .
التَّعْرِيفُ: هُوَ تَصْيِيرُ الشَّيْءِ مَعْرُوفًا بِمَا يُمَيِّزُهُ عَمَّا يُشْتَبَهُ بِهِ بِذِكْرِ جِنْسِهِ وَفَصْلِهِ، أَوْ لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِهِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، أَوْ شَرْحِ لَفْظِ الْغَرِيبِ بِلَفْظٍ مَشْهُورٍ مَأْلُوفٍ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُنَا: مَا الْإِنْسَانُ؟ فَيُقَالُ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَهُوَ الْحَدُّ التَّامُّ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُنَا فِيهِ: حَيَوَانٌ ضَاحِكٌ، أَوْ قَابِلٌ لِصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ، وَفِي الْخَمْرِ: إِنَّهُ مَائِعٌ مُزِيلٌ، وَهُوَ رَسْمِيٌّ.
وَمِثَالُ الثَّالِثِ: قَوْلُنَا: مَا الْغَضَنْفَرُ وَالدَّلَهْمَسُ؟ فَيُقَالُ: الْأَسَدُ، وَمَا الرَّحِيقُ وَالسَّلْسَبِيلُ فَيُقَالُ: الْخَمْرُ، وَهُوَ لَفْظِيٌّ.
وَبَاقِي أَحْكَامِ التَّعْرِيفِ مُسْتَوْفًى فِي مَوْضِعِهِ.
وَحَقِيقَةُ
التَّعْرِيفِ: هُوَ فِعْلُ الْمُعَرِّفِ، ثُمَّ أُطْلِقَ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى
اللَّفْظِ الْمُعَرَّفِ بِهِ مَجَازًا، لِأَنَّهُ أَثَرُ اللَّافِظِ كَمَا أَنَّ
التَّعْرِيفَ أَثَرُ الْمُعَرِّفِ، وَالتَّعْرِيفُ أَعَمُّ مِنَ الْحَدِّ، لِأَنَّ
التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِذِكْرِ لَازِمٍ، أَوْ خَاصَّةٍ، أَوْ لَفْظٍ يَحْصُلُ
مَعَهُ الِاطِّرَادُ
وَالِانْعِكَاسُ، وَالْحَدُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِجَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الْمَحْدُودِ، فَكُلُّ حَدٍّ تَعْرِيفٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَعْرِيفٍ حَدًّا، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ الذَّاتِيَّاتِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي أُصُولَ الْفِقْهِ، رَدَّ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْمُذَكَّرِ، «مُرَكَّبٌ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ» ، فَالْمُضَافُ هُوَ أَصُولُ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ هُوَ الْفِقْهُ.
وَالتَّرْكِيبُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَمِنْهُ تَرْكِيبُ الْفَصِّ فِي الْخَاتَمِ، وَالنَّصْلِ فِي السَّهْمِ، وَمِنْهُ رُكُوبُ الدَّابَّةِ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا، وَيُلَابِسُهَا.
وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ، مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، غَيْرَ أَنَّ التَّرَاكِيبَ فِيمَا يَظْهَرُ أَخَصُّ مِنَ التَّأْلِيفِ، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَلِفَ فُلَانٌ فُلَانًا، وَأَلِفَ الطَّائِرُ وَكْرَهُ يَأْلَفُهُ أَلَفًا، إِذَا لَازَمَهُ وَلَمْ يُؤْثِرْ مُفَارَقَتَهُ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِانْضِمَامَ وَالْمُلَابَسَةَ، بَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْمُقَارَبَةِ، بِخِلَافِ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّهُ تَفْعِيلٌ مِنَ الرُّكُوبِ وَالْمُمَاسَّةِ، وَالْمُلَابَسَةُ فِيهِ لَازِمَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْإِضَافَةُ، فِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْإِمَالَةُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَضَفْتُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ، أَيْ: أَمَلْتُهُ.
قُلْتُ: وَبَعْضُ
الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ يَقُولُ: الْإِضَافَةُ الْإِسْنَادُ، وَمِنْهُ
أَضَفْتُ ظَهْرِي إِلَى الْحَائِطِ، أَيْ: أَسْنَدْتُهُ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ
امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَلَمَّا دَخَلْنَاهُ أَضَفْنَا ظُهُورَنَا ... إِلَى كُلِّ حَارِيٍّ قَشِيبٍ مُشَطَّبِ
يَعْنِي أَسْنَدْنَا، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ مَعْنَى الْإِمَالَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِسْنَادَ أَخَصُّ، فَكُلُّ مُسْنَدٍ مُمَالٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مُمَالٍ مُسْنَدًا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ: اللَّفْظُ الْمُضَافُ يَمِيلُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِيُعَرِّفَهُ أَوْ يُخَصِّصَهُ، إِذْ ذَلِكَ فَائِدَةُ الْإِضَافَةِ، أَعْنِي التَّعْرِيفَ، نَحْوَ: غُلَامُ زِيدٍ، أَوِ التَّخْصِيصَ، نَحْوَ: غُلَامُ رَجُلٍ، فَغُلَامٌ تُعَرَّفُ فِي الْأَوَّلِ بِزَيْدٍ، وَتُخَصَّصُ فِي الثَّانِي بِرَجُلٍ عَنْ أَنْ يَكُونَ غُلَامَ امْرَأَةٍ.
وَعَلَى الثَّانِي: اللَّفْظُ الْمُضَافُ يُسْنِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي تَعْرِيفِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي الْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ الضَّمُّ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ التَّرْكِيبِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ مَضْمُومٌ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِفَائِدَةِ الْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: «وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ، وَبِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ تَفْصِيلِيٌّ» يَعْنِي مَا كَانَ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ مُرَكَّبًا تَرْكِيبَ إِضَافَةٍ، كَقَوْلِنَا: أُصُولُ الْفِقْهِ، وَأُصُولُ الدِّينِ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مُرَكَّبٌ، أَيْ: وَمَا كَانَ مُرَكَّبًا، فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ، أَيْ: فَتَعْرِيفُهُ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ لَفْظِهِ الَّذِي تَرَكَّبَ مِنْهُ إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ، أَيْ: يُسَمَّى بِذَلِكَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ لِمَنْ سَمَّاهُ.
وَقَوْلُهُ:
«إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ» لَفْظَانِ مَنْسُوبَانِ إِلَى الْإِجْمَالِ وَاللَّقَبِ.
وَالْإِجْمَالُ، هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ جُمْلَةً، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاللَّقَبُ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعَلَمِ.
غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اللَّقَبَ عَلَمٌ يَكْرَهُ مَنْ وُضِعَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ لِقُبْحٍ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَنْفُ النَّاقَةِ، وَعَائِدُ الْكَلْبِ، وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْأَلْقَابِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ التَّخَاطُبُ بِهِ تَنَابُزًا وَنَبْزًا، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّقَبُ وَاحِدُ الْأَلْقَابِ، وَهِيَ الْأَنْبَازُ، وَقَالَ فِي نَبَزَ: النَّبْزُ: اللَّقَبُ.
قُلْتُ: وَلَفْظُ النَّبْزِ مُشْعِرٌ بِكَرَاهَةٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّازِقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الْحُجُرَاتِ: 11] قَالَ: لَا تَقُلْ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ: يَا فَاسِقٌ، يَا مُنَافِقٌ. وَرَوَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يُسَلِّمُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُهُ مِنْ أَنَّ اللَّقَبَ عَلَمٌ يَكْرَهُهُ الْمُخَاطَبُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَلَمِ، فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ: قَدْ يَكُونُ مِمَّا يَكْرَهُ التَّخَاطُبَ بِهِ وَهُوَ اللَّقَبُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ الْعَلَمُ لَقَبًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو.
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَهِيَ قَوْلُنَا: «مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ» تَقَعُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدْ يَغْمُضُ مَعْنَاهَا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِمَّنْ لَمْ يُعَانِ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ.
وَمَعْنَى
قَوْلِهِمْ: الْحُكْمُ عَلَى هَذَا الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَا، أَيْ: مِنْ
جِهَةِ كَوْنِهِ كَذَا، لِأَنَّ حَيْثُ فِي اللُّغَةِ ظَرْفُ مَكَانٍ،
وَالْمَكَانُ مُجَاوِرٌ لِلْجِهَةِ فِي الْحَقِيقَةِ
وَالتَّصَوُّرِ، لِأَنَّ الْجِهَةَ مَقْصِدُ الْمُتَحَرِّكِ، فَلَا تَنْفِكُّ عَنِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَتَصَوُّرًا. فَقَوْلُنَا: «فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ إِجْمَالِيٌّ» أَيْ: مِنْ جِهَةِ تَرْكِيبِهِ، أَوْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا مُرَكَّبٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ، فَلَهُ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا جِهَةُ أَجْزَائِهِ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا، وَالثَّانِي جِهَةُ حَقِيقَتِهِ الْمُجْتَمِعَةِ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَيَخْتَلِفُ النَّظَرُ فِيهِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِاخْتِلَافِ جِهَتِهِ.
مِثَالُهُ: أَنَّا إِذَا عَرَفْنَا الْحِبْرَ مِنْ جِهَةِ تَرْكِيبِهِ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ الَّتِي هِيَ الْعَفْصُ وَالزَّاجُ وَالصَّمْغُ، قُلْنَا: الْحِبْرُ مَائِعٌ أَسْوَدُ يُكْتَبُ بِهِ، وَإِذَا عَرَّفْنَاهُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ، قُلْنَا: الْعَفْصُ: جَوْهَرٌ نَبَاتِيٌّ مُسْتَدِيرٌ، خَشِنُ الظَّاهِرِ مُضَرَّسٌ، وَالزَّاجُ: جَوْهَرٌ مُسْتَحْجَرٌ أَبْيَضُ، طَبْعُهُ التَّسْوِيدُ. وَالصَّمْغُ: جَوْهَرٌ تَدْفَعُهُ طَبِيعَةُ الشَّجَرِ فَيَسِيلُ عَلَى ظَاهِرِهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، فَإِذَا عَرَّفْنَا مُفْرَدَاتِ أَجْزَائِهِ، قُلْنَا: الْيَدُ عُضْوٌ آلِيٌّ مُعَدٌّ لِلْبَطْشِ، وَالرِّجْلُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ مُعَدٌّ لِلْمَشْيِ.
فَقَدْ رَأَيْتُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْحَقَائِقِ بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهَا.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا
فَمَعْنَى قَوْلِنَا: إِنَّ تَعْرِيفَ الْمُرَكَّبِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ
مُرَكَّبًا إِجْمَالِيٌّ، أَيْ: فِيهِ إِجْمَالٌ وَعُمُومٌ وَغُمُوضٌ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعْرِيفِهِ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِهِ وَمُفْرَدَاتِ
تَرْكِيبِهِ، كَمَا يَتَبَيَّنُ فِيمَا بَعْدُ، وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ هَذَا التَّعْرِيفِ لَقَبًا أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْمُعَرَّفِ لَقَبًا عَلَى مَفْهُومِهِ، مِثَالُهُ: أَنَّ لَفْظَ أُصُولِ الْفِقْهِ لَقَبٌ عَلَى مَدْلُولِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ بِهَا الْأَحْكَامُ، وَالتَّفْصِيلِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى التَّفْصِيلِ، أَيْ تَعْرِيفُهُ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِ مُفْرَدَاتِهِ.
وَقَوْلُهُ: «بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ» أَيْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ كُلِّ مُفْرَدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] ، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النِّسَاءِ: 95] ، {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النَّحْلِ: 87] . وَمِثَالُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي تَعْرِيفِهِ الْإِجْمَالِيِّ وَاللَّقَبِيِّ: أُصُولُ الدِّينِ فِيهِمَا.
فَنَقُولُ فِي تَعْرِيفِهِ الْإِجْمَالِيِّ: هُوَ الْعِلْمُ الْكَاشِفُ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ، أَوِ الْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ.
وَنَقُولُ فِي تَعْرِيفِهِ التَّفْصِيلِيِّ: الْأُصُولُ: الْأَدِلَّةُ، كَمَا قُلْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالدِّينُ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ وَالْعَادَةُ وَالشَّأْنُ وَالْجَزَاءُ وَالْمُكَافَأَةُ.
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الشَّرِيعَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالضَّرُورَةِ هَذَا أَدْخَلُ فِي الْبَيَانِ مِنَ الْأَوَّلِ.
_____________
فَأُصُولُ الْفِقْهِ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ: الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «فَأُصُولُ الْفِقْهِ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ» أَيْ بِاعْتِبَارِ تَعْرِيفِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ: هُوَ «الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ» .
الْعِلْمُ: سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ آخِرَ الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَسَاسُ الْبُنْيَانِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ يَقُولُونَ: قَاعِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَذَا: هِيَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِيهَا قَضَايَا جُزْئِيَّةٌ، كَقَوْلِنَا مَثَلًا: حُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَقَوْلِنَا: الْحِيَلُ فِي الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِيهَا قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٌ.
كَقَوْلِنَا: عُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَوَكَّلَ فِيهِ حَنِثَ، وَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ. وَقَوْلُنَا: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ، وَلَا تَخْلِيلُ الْخَمْرِ عِلَاجًا، وَلَا بَيْعُ الْعِينَةِ، وَلَا الْحِيلَةُ عَلَى إِبْطَالِ الشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْحِيَلَ بَاطِلَةٌ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لِهَذِهِ الْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةِ أُسًّا تَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَتَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا.
وَهَكَذَا
قَوْلُنَا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَلِلْفَوْرِ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ حُجَّةٌ،
وَقِيَاسُ الشَّبَهِ دَلِيلٌ
صَحِيحٌ، وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ يُحْتَجُّ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ هِيَ قَوَاعِدُ لِلْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ.
وَالتَّوَصُّلُ: هُوَ قَصْدُ الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِوَاسِطَةٍ فَهُوَ كَالتَّوَسُّلِ.
وَاسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ: اسْتِخْرَاجُهَا، وَكَذَا اسْتِنْبَاطُ الْمَاءِ، يُقَالُ: نَبَطَ الْمَاءُ يَنْبُطُ - بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا - نُبُوطًا: إِذَا نَبَعَ، وَالنَّبِيطُ: الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنْ قَعْرِ الْبِئْرِ إِذَا حُفِرَتْ.
وَالْأَحْكَامُ: يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَالشَّرْعِيَّةُ: الصَّادِرَةُ عَنِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْإِلَهِيُّ الْمَعْلُومُ بِوَاسِطَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْفَرْعِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْفَرْعِ، وَهُوَ مَا اسْتَنَدَ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ اسْتِنَادًا ثَابِتًا، وَهَذَا احْتِرَازٌ مِنَ الْمَشْرُوطِ وَنَحْوِهُ، مِمَّا اسْتِنَادُ وَجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ عَرَضِيٌّ، لِاقْتِضَاءِ الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ تَوَقُّفُهُ عَلَى وُجُودِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ ذَاتِهِ، كَالْغُصْنِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَنَحْوِهِ، هَذَا حَقِيقَةُ الْفَرْعِ.
أَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ عَلَى كَذَا، فَهُوَ مَجَازٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَبْعِيضٌ وَلَا اسْتِنَادٌ ذَاتِيٌّ.
وَالْمُرَادُ
بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ: الْقَضَايَا الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَأِ
فِي اعْتِقَادِهِ مُقْتَضَاهَا وَلَا الْعَمَلِ بِهِ قَدْحٌ فِي الدِّينِ، وَلَا
الْعَدَالَةُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، كَمَسْأَلَةِ
النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ، وَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنَفَّذُ بَاطِنًا.
بِخِلَافِ مَا يَقْدَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي الدِّينِ، كَاعْتِقَادِ قِدَمِ الْعَالَمِ، وَنَفْيِ الصَّانِعِ، وَإِنْكَارِ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِبْطَالِ النُّبُوَّاتِ، أَوْ يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، أَوِ الدِّينِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، كَالْمَسَائِلِ الَّتِي بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْأَثَرِيَّةِ، كَمَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْجِهَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَسَائِلُ الشَّرِيعَةِ، إِمَّا مُكَفِّرٌ قَطْعًا كَنَفْيِ الصَّانِعِ، أَوْ غَيْرِ مُكَفِّرٍ قَطْعًا كَاسْتِبَاحَةِ النَّبِيذِ بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ تَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، كَمَا حَقَّقْتُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .
فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ أَنَّ شُرْبَ الْحَنْبَلِيِّ لِلنَّبِيذِ، وَأَكْلَ الْحَنَفِيِّ لَحْمَ الْخَيْلِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ لَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، بَلْ مِنَ الْأُصُولِيَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا وَيَأَثَمَانِ بِهِ، وَيَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمَا. قِيلَ: نَعَمْ، هُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِمُخَالَفَةِ الْمُعْتَقَدِ، فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفُرُوعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَفْعَالِ.
قَوْلُهُ: «مِنْ أَدِلَّتِهَا» : أَيِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، أَيِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ، كَمَا سَنُبَيِّنُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
__________
وَبِالثَّانِي:
الْأُصُولُ: الْأَدِلَّةُ الْآتِي ذِكْرُهَا، وَهِيَ جَمْعُ أَصْلٍ، وَأَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَقِيلَ: مَا اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ إِلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ أَدِلَّتِهِ، وَمُسْتَنِدٌ فِي تَحَقُّقِ وَجُودِهِ إِلَيْهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَبِالثَّانِي» : أَيْ وَأُصُولُ الْفِقْهِ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي، وَهُوَ تَعْرِيفُهُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ [الْأُصُولُ الْأَدِلَّةُ] ، لِأَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ، هِيَ الْأُصُولُ وَالْفِقْهُ، فَهُمَا مُفْرَدَا ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ، فَيَحْتَاجُ فِي تَعْرِيفِهِ التَّفْصِيلِيِّ إِلَى تَعْرِيفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَّتِهِ.
فَالْأُصُولُ: «الْأَدِلَّةُ الْآتِي ذِكْرُهَا» يَعْنِي: الْكِتَابَ وَالسَّنَةَ وَالْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ، وَمَا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَهِيَ» : يَعْنِي الْأُصُولَ، «جَمْعُ أَصْلٍ» ، هَذَا بَيَانٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ جَمْعُهَا وَإِفْرَادُهَا، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ عَلَى فِعْلٍ - سَاكِنِ الْعَيْنِ - فَبَابُهُ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ عَلَى أَفْعُلٍ، نَحْوَ أَفْلُسٍ وَأَكْلُبٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى فِعَالٍ وَفُعُولٍ، نَحْوَ حَبْلٍ وَحِبَالٍ، وَكَلْبٍ وَكِلَابٍ، وَكَعْبٍ وَكِعَابٍ، وَفَصْلٍ وَفُصُولٍ، وَأَصْلٍ وَأُصُولٍ، وَفَرْعٍ وَفُرُوعٍ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اشْتِقَاقُهُ اللُّغَوِيُّ، فَلَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنِّي أَحْسَبُ أَنَّهُ مِنَ الْوَصْلِ ضِدَّ الْقَطْعِ، وَأَنَّ هَمْزَتَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، لِمَا فِي الْأَصْلِ مِنْ مَعْنَى الْوَصْلِ، وَهُوَ اتِّصَالُ فُرُوعِهِ، كَاتِّصَالِ الْغُصْنِ بِالشَّجَرَةِ حِسًّا، وَالْوَلَدِ بِوَالِدِهِ نَسَبًا وَحُكْمًا، وَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلِهِ عَقْلًا.
قَوْلُهُ: «وَأَصْلُ
الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَقِيلَ: مَا اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ
إِلَيْهِ» .
هَذَانِ تَعْرِيفَانِ لِلْأَصْلِ، فَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ فِي «الْحَاصِلِ» ، وَالثَّانِي هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْآمِدِيِّ: أَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ: مَا يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ، وَزَادَ فِي غَيْرِ «الْمُنْتَهَى» : مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ احْتِرَازًا مِنَ اسْتِنَادِ الْمُمْكِنِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَصْلًا لَهُ.
وَالتَّعْرِيفُ الثَّانِي أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيْهِ فِي وُجُودِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُسْتَنِدٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى شَيْءٍ يَكُونُ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: «وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ أَدِلَّتِهِ، وَمُسْتَنِدٌ فِي تَحَقُّقِ وَجُودِهِ إِلَيْهَا» .
هَذَا بَيَانٌ وَتَقْرِيرٌ لِكَوْنِ التَّعْرِيفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مُتَطَابِقَيْنِ لِلْمُعَرَّفِ بِهِمَا، وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ الْفِقْهَ يُسْتَمِدُّ مِنْ أَدِلَّتِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا مَادَّةٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمَعْنَى، لَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ تَرْكِيبِ الْأَلْفَاظِ، فَقَوْلُنَا: الْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى إِطْلَاقِهِ طَهُورٌ، سَوَاءٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ نَبَعَ مِنَ الْأَرْضِ، هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الْفَرْقَانِ: 48] ، {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الْأَنْفَالِ: 11] ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ تَرَاكِيبُ الصِّيَغِ، لَكِنَّ الْأَلْفَاظَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، بَلْ لِإِظْهَارِ الْمَعَانِي.
فَعَلَى هَذَا «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مَا مِنْهُ الشَّيْءُ: لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: مَا بَعْضُهُ الشَّيْءُ، وَالْفَرْعُ بَعْضُ أَصْلِهِ، كَالْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ، وَالْغُصْنُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الْفِقْهَ مُقْتَطَعٌ مِنْ أَدِلَّتِهِ اقْتِطَاعَ الْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ، وَالْغُصْنِ مِنَ الشَّجَرَةِ، أَوْ نَحْوَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ «مِنْ» فِيهِ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَدِلَّةَ
الْفِقْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَنَحْوِهَا،
هِيَ مَبْدَأُ ظُهُورِهِ، وَمِنْهَا ابْتِدَاءُ بَيَانِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ
الْمَعْنَيَيْنِ فِي «مِنْ» ، وَكَذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى التَّعْرِيفِ
الثَّانِي،
الْفِقْهُ مُسْتَنِدٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى أَدِلَّتِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُوجَدْ هِيَ لَمْ يُوجَدْ هُوَ، إِذْ لَوْ لَمْ يُوجَدْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ لَمْ يُحْكُمْ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَوْ لَمْ تُوجَدْ أَدِلَّتُهَا لَمْ يُحْكَمْ بِهَا.
وَالِاسْتِنَادُ، هُوَ اعْتِمَادُ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، بِحَيْثُ لَوْ زَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَمْ يَسْتَقِرَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَكَذَلِكَ الْفِقْهُ مَعَ أَدِلَّتِهِ، لَوْ زَالَتْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْفِقْهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوخَةِ، كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ النَّسْخِ لِبَقَاءِ أَدِلَّتِهَا مُحْكَمَةً، فَلَمَّا زَالَتِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي هِيَ مُسْتَنَدُ الْأَحْكَامِ لَمْ تَسْتَقِرَّ الْأَحْكَامُ، بَلْ زَالَتْ بِزَوَالِهَا، وَوِزَانُ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ مَنِ اسْتَنَدَ إِلَى جِدَارٍ، فَمَالَ الْجِدَارُ وَوَقَعَ، فَإِنَّ الْمُسْتَنِدَ إِلَيْهِ يَقَعُ بِالضَّرُورَةِ. هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَلْفَاظِ الْمُخْتَصَرِ.
وَقَالَ فِي «الْمَحْصُولِ» : الْأَصْلُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
وَرُدَّ، بِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى مَا لَيْسَ أَصْلًا لَهُ، كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ، وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ أَعَمُّ مِنَ الْأَصْلِ؛ إِذْ كَلُّ أَصْلٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ أَصْلًا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ - وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ -: أُصُولُ الْفِقْهِ، هِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْفِقْهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي
فِي «الْعُدَّةِ» : أُصُولُ الْفِقْهِ، عِبَارَةٌ عَمَّا تُبْنَى عَلَيْهِ
مَسَائِلُ الْفِقْهِ
وَتُعْلَمُ أَحْكَامُهَا بِهِ، لِأَنَّ أَصْلَ الشَّيْءِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَعُرِفَ مِنْهُ، إِمَّا بِاسْتِخْرَاجٍ أَوْ تَنْبِيهٍ.
قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ صَحِيحٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَصْلُ الشَّيْءِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ قَدْ يَتَعَلَّقُ الشَّيْءُ بِمَا لَيْسَ أَصْلًا لَهُ، كَتَعَلُّقِ الْحَبَلِ بِالْوَتَدِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَتَعَلُّقِ السَّبَبِ بِالْمُسَبِّبِ، وَالْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ فِي الْمَعْقُولَاتِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: أَصْلُ الشَّيْءِ: مَا مِنْهُ الشَّيْءُ لُغَةً، وَرُجْحَانُهُ وَدَلِيلُهُ اصْطِلَاحًا، يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ مَادَّتُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، نَحْوَ قَوْلِنَا: أَصْلُ السُّنْبُلَةِ الْبُرَّةُ، أَيْ: هِيَ مَادَّتُهَا.
وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَيُطْلَقُ الْأَصْلُ عَلَى رُجْحَانِ الشَّيْءِ، نَحْوَ: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، أَيْ: هُوَ رَاجِحٌ، وَلِهَذَا احْتِيجَ فِي دَعَاوَى الْحُقُوقِ إِلَى الْبَيِّنَاتِ، لِيَصِيرَ جَانِبُ الْمُدَّعِي رَاجِحًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَرْجُوحًا، وَكَقَوْلِنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النِّسَاءِ: 43] : الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الْمُلَامَسَةِ بِالْيَدِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَجَازِ.
وَالْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالْعَبْدُ الْغَائِبُ تَجِبُ فِطْرَتُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ.
وَالْمُرَادُ فِي هَذَا كُلِّهِ، أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الرَّاجِحُ، أَوْ أَنَّ الرُّجْحَانَ الْأَصْلُ.
وَيُطْلَقُ أَيْضًا
فِي الِاصْطِلَاحِ، عَلَى الدَّلِيلِ، نَحْوَ: أُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّتُهُ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ تَوَسُّطٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ
فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَادَّةُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ
الرُّجْحَانُ وَالدَّلِيلُ.
«تَنْبِيهٌ» زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَعَنِّتِينَ، أَنَّ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ بِـ «مَا» ، نَحْوَ قَوْلِنَا: أَصْلُ الشَّيْءِ: مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ، مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفِقْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَبِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّعْرِيفِ الْإِيضَاحُ وَالْإِفْهَامُ، وَلَفْظُ «مَا» شَدِيدُ الْإِبْهَامِ، فَالتَّعْرِيفُ بِهِ يُنَافِي الْمَقْصُودَ.
وَهَذَا كَلَامٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، لِأَنَّ مَا وَإِنْ كَانَتْ شَدِيدَةَ الْإِبْهَامِ، غَيْرَ أَنَّ التَّعْرِيفَ لَيْسَ بِهَا وَحْدَهَا، بَلْ بِهَا وَبِمَا بَعْدَهَا، وَبِمَجْمُوعِهِمَا يَحْصُلُ الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ.
فَلَا فَرْقَ إِذًا بَيْنَ قَوْلِنَا: أَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: أَصْلُ الشَّيْءِ مَعْلُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ أَوْ جِسْمٌ مِنْهُ الشَّيْءُ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا: مَا يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ إِلَيْهِ. وَبَيْنَ قَوْلِنَا: مَعْلُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ، أَوْ جِسْمٌ يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ إِلَيْهِ.
نَعَمْ، الْمُنَاقَشَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ شَأْنَ الْحُدُودِ وَالتَّعْرِيفَاتِ أَنْ يُوضَعَ فِيهَا الْجِنْسُ الْأَقْرَبُ، ثُمَّ يُمَيَّزُ بِمَا يَفْصِلُ النَّوْعَ الْمَقْصُودَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَلَفْظُ مَا عَامٌّ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، فَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَيُّهُمَا الْمُرَادُ.
فَلَوْ قَالَ
قَائِلٌ: الْإِنْسَانُ: مَا كَانَ نَاطِقًا، لَمْ يُعْلَمْ هَلِ الْمُرَادُ مَا
كَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ نَاطِقًا، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْجِنْسِ الْقَرِيبِ،
كَقَوْلِهِ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، أَوْ مَا كَانَ مِنَ الْأَجْسَامِ أَوِ
الْمَعْلُومَاتِ أَوِ الْمَوْجُودَاتِ نَاطِقًا، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْجِنْسِ
الْبَعِيدِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
جِسْمٌ نَاطِقٌ أَوْ مَعْلُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ نَاطِقٌ، فَيَكُونُ قَدْ أَخَلَّ بِالْمُخْتَارِ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَأَفْسَدَ الْحَدَّ بِتَنَاوُلِهِ الْمَلَكَ وَالْجِنِّيَّ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ وَمَوْجُودٌ نَاطِقٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحُذَّاقَ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ مَا فِي التَّعْرِيفِ إِلَّا مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ الْقَرِيبِ، وَالْقَرَائِنُ فِي الْمُخَاطَبَاتِ كَالْأَلْفَاظِ، بَلْ أَبْلَغُ فِي الْإِفْهَامِ، إِذْ قَدْ تَكُونُ الْقَرِينَةُ عَقْلِيَّةً قَاطِعَةً وَاللَّفْظُ مُجْمَلًا، فَتَكُونُ الْقَرِينَةُ أَدَلَّ مِنْهُ.
مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: الْعِلْمُ مَثَلًا: مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ، ثُمَّ يَقُولُ: وَالْفِقْهُ مَا عُرِفَ مِنْهُ أَحْكَامُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ.
فَإِنَّ تَقْدِيمَهُ لِتَعْرِيفِ الْعِلْمِ، دَلَّنَا عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِمَا الَّتِي عَرَّفَ بِهَا الْفِقْهَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْفِقْهُ: عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَحْكَامُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ.
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: الْكَلِمَةُ: لَفْظٌ وُضِعَ لِمَعْنًى مُفْرَدٍ، وَأَنْوَاعُهَا: اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، ثُمَّ قَالَ: الِاسْمُ: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، تَقْدِيمُهُ لِتَعْرِيفِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّ الِاسْمَ مِنْ أَنْوَاعِهَا، دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِـ «مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى» : كَلِمَةٌ دَلَّتْ عَلَى مَعْنًى.
فَأَمَّا مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمُرَادِ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ يَفْسُدُ بِهِ التَّعْرِيفُ، فَذَاكَ مِمَّنْ لَا كَلَامَ مَعَهُ بِإِقْرَارٍ وَلَا إِنْكَارٍ.
___________
وَالْفِقْهُ لُغَةً: الْفَهْمُ، وَمِنْهُ {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} ، {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ، أَيْ: مَا نَفْهَمُ، وَلَا تَفْهَمُونَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَالْفِقْهُ لُغَةً " أَيْ فِي اللُّغَةِ: " الْفَهْمُ وَمِنْهُ: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هُودٍ: 91] ، {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الْإِسْرَاءِ: 44] أَيْ: مَا نَفْهَمُ، وَلَا تَفْهَمُونَ
هَذَا تَعْرِيفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِنْ لَفْظِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفِقْهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ. وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ هَاهُنَا تَنْبِيهٌ كُلِّيٌّ، وَهُوَ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءَ جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا انْتَصَبُوا لِبَيَانِ لَفْظٍ، بَيَّنُوهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، فَقَالُوا مَثَلًا: الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: كَذَا، وَفِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: كَذَا، كَمَا نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، وَفِي الشَّرْعِ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالتَّكْبِيرِ الْمُخْتَتَمَةُ بِالتَّسْلِيمِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ، وَذَلِكَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ كِبَارِ الْمَسَائِلِ.
وَصُورَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرْعَ، هَلْ وَضَعَ لِحَقَائِقِهِ الشَّرْعِيَّةِ أَسْمَاءَ بِإِزَائِهَا وَضْعًا اسْتِقْلَالِيًّا خَارِجًا عَنْ وَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَوْ أَنَّهُ أَبْقَى الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةَ عَلَى حَالِهَا، وَزَادَ فِيهَا شَرْعًا شُرُوطًا وَأَفْعَالًا أُخَرَ؟
مِثَالُهُ: أَنَّهُ سَمَّى الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ صَلَاةً، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الصَّلَاةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَهِيَ الدُّعَاءُ، لَكِنِ اشْتَرَطَ لَهَا فِي الشَّرْعِ شُرُوطَهَا السِّتَّةَ، وَأَرْكَانَهَا الثَّلَاثَةَ عَشَرَ، وَكَذَلِكَ سَمَّى الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ صَوْمًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَزَادَهُ النِّيَّةَ، وَقَدَّرَ وَقْتَهُ.
هَذَا فِيهِ خِلَافٌ
بَيْنِ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ بِأَدِلَّتِهَا فِي فَصْلِ
اللُّغَاتِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إِلَى لَفْظِ الْمُخْتَصَرِ.
فَالْفِقْهُ فِي الْوَضْعِ: " الْفَهْمُ "، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْأَكْثَرُونَ. يُقَالُ: فَقِهْتُ الْكَلَامَ، أَيْ: فَهِمْتُ غَرَضَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ.
وَقَوْلُهُ: " وَمِنْهُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا " هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ الْفَهْمُ، أَيْ: وَمِمَّا أُطْلِقَ فِيهِ الْفِقْهُ بِمَعْنَى الْفَهْمِ، قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: {يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هُودٍ: 91] ، أَيْ مَا نَفْهَمُ كَثِيرًا مِنْ قَوْلِكَ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الْإِسْرَاءِ: 44] أَيْ لَا تَفْهَمُونَ، لِأَنَّكُمْ مَحْجُوبُو الْأَسْمَاعِ عَنْ سَمَاعِهِ، كَمَا أَنَّكُمْ مَحْجُوبُو الْأَبْصَارِ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْهَوَاءِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يُرَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الْكَهْفِ: 93] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 78] ، وَقَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 28] ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى يَفْهَمُونَ.
وَقَوْلُهُ: "
أَيْ مَا نَفْهَمُ وَلَا تَفْهَمُونَ " هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الْفِقْهِ
فِي الْآيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا مُتَوَالِيَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ
تَفْسِيرَهُمَا مُتَوَالِيًا، وَهُوَ يُسَمَّى اللَّفَّ وَالنَّشْرَ، فَتَقْدِيرُهُ:
مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا، أَيْ مَا نَفْهَمُ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ أَيْ: لَا
تَفْهَمُونَ. وَمِثْلُهُ فِي اللَّفِّ وَالنَّشْرِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الْقَصَصِ: 73] ، أَيْ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفِينَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الصَّيْقَلِ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ. يُقَالُ: فُلَانٌ يَفْقَهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَيَفْقَهُ كَلَامَ فُلَانٍ، أَيْ: يَفْهَمُهُ وَيَعْلَمُهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْعُدَّةِ ": الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمِثَالَ الْمَذْكُورَ قَبْلُ.
قَالَ: وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ الْفِقْهَ فِي اللُّغَةِ: الْفَهْمُ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْفِقْهُ: هُوَ الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ وَالشِّعْرُ وَالطِّبُّ لُغَةً، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بَعْضُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِبَعْضِ الْعُلُومِ بِسَبَبِ الْعُرْفِ، وَحَكَاهُ عَنِ الْمَازِرِيِّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ".
قُلْتُ: كُلُّ ذَلِكَ لَهُ أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي " الْمُجْمَلِ ": الْفِقْهُ الْعِلْمُ، وَكُلُّ عِلْمٍ بِشَيْءٍ فَهُوَ فِقْهٌ.
غَيْرَ أَنَّ الْجَوْهَرِيَّ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ أَنَّ الْفِقْهَ الْفَهْمُ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ الْمَشْهُورُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ مُلَازِمَةً، إِذِ الْفَهْمُ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ، وَالْعِلْمُ يَسْتَلْزِمُ فَهْمَ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ، فَيُشْبِهُ أَنَّ مَنْ سَمَّى الْفِقْهَ عِلْمًا تَجَوَّزَ فِي ذَلِكَ لِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي (فَهِمَ) : فَهِمْتُ الشَّيْءَ فَهْمًا، عَلِمْتُهُ، إِذْ لَوْ كَانَ الْفَهْمُ الْعِلْمَ حَقِيقَةً مَعَ قَوْلِهِ: الْفِقْهُ الْفَهْمُ، لَكَانَ الْفِقْهُ هُوَ الْعِلْمَ، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ الْفَهْمِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ
عَلَى تَغَايُرِ الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، أَنَّ الْفِقْهَ يَتَعَلَّقُ
بِالْمَعَانِي دُونَ الْأَعْيَانِ، وَالْعِلْمُ
يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عَلِمْتُ مَعْنَى كَلَامِهِ، وَعَلِمْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَتَقُولُ: فَقِهْتُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَفَهِمْتُهُ، وَلَا يُقَالُ: فَقِهْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ.
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ - وَلَمْ أَجِدْهُ فِي " اللُّمَعِ "، فَلَعَلَّهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهِ -: أَنَّ الْفِقْهَ فِي اللُّغَةِ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ، فَلِذَلِكَ تَقُولُ: فَهِمْتُ كَلَامَكَ، وَلَا تَقُولُ: فَهِمْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفِقْهَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، فَهَذَا اخْتِلَافُهُمَا بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِمَا.
وَأَمَّا بِحَسَبِ حَدِّهِمَا، فَالْعِلْمُ قَدْ عُلِمَ حَدُّهُ بِمَا مَرَّ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْفَهْمُ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " الْوَاضِحِ ": هُوَ إِدْرَاكُ مَعْنَى الْكَلَامِ بِسُرْعَةٍ. قُلْتُ أَنَا: وَلَا حَاجَةَ لِقَيْدِ السُّرْعَةِ، لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ كَلَامًا وَلَمْ يُدْرِكْ مَعْنَاهُ إِلَّا بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ أَكْثَرَ، قِيلَ: قَدْ فَهِمَهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: الْفَهْمُ إِمَّا بَطِيءٌ أَوْ سَرِيعٌ، فَيَنْقَسِمُ إِلَيْهِمَا وَمَوْرِدُ الْقِسْمَةِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، نَعَمْ، السُّرْعَةُ قَيْدٌ فِي الْفَهْمِ الْجَيِّدِ.
فَقَدْ تَحَقَّقَ بِمَا ذَكَرْتُهُ، أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْفَهْمُ، يُقَالُ: فَقِهَ بِكَسْرِ الْقَافِ: إِذَا صَارَ فَقِيهًا، وَفَقَهَ غَيْرَهُ، بِفَتْحِهَا: إِذَا غَلَبَهُ فِي الْفِقْهِ وَتَرَجَّحَ عَلَيْهِ، وَفَقُهَ، بِضَمِّهَا -: إِذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً وَخُلُقًا وَمَلَكَةً.
وَاصْطِلَاحًا: قِيلَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَاصْطِلَاحًا» أَيْ: وَالْفِقْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ يَعْنِي فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ.
«قِيلَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ» ، إِنَّمَا قُلْتُ: قِيلَ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأَسْئِلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدُ، فَلَمْ أَرْتَضِهِ لِذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الْأَشْبَهَ عِنْدِي فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَهَذَا التَّعْرِيفُ لِلَفْقِهِ، وَالتَّعْرِيفُ السَّابِقُ لِأُصُولِ الْفِقْهِ، هُمَا لِابْنِ الْحَاجِبِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِبَيَانِهَا، لَفْظَ «الْعِلْمِ» ، وَقَدْ وَعَدْتُ قَبْلُ أَنْ أُبَيِّنَهُ بَعْدُ، وَلَفْظُ «الْأَحْكَامِ» ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَفْظُ «الشَّرْعِيَّةِ» وَ «الْفَرْعِيَّةِ» وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا. بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
«وَالتَّفْصِيلِيَّةِ» هِيَ الْمَذْكُورَةُ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ، وَهُوَ تَمْيِيزُ أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فِيمَا تَخْتَصُّ بِهِ، كَقَوْلِنَا: إِذَا سَخُنَ الْمَاءُ، فَإِمَّا أَنْ يَسْخُنَ بِطَاهِرٍ، فَلَا يُكْرَهُ، أَوْ بِنَجَسٍ، فَإِمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ وَصُولُ النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ، فَيُمْنَعَ مِنْهُ، أَوْ لَا يَتَحَقَّقَ، فَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّجَاسَةِ حَصِينًا، لَمْ يُكْرَهْ، وَإِلَّا كُرِهَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ.
وَقَدْ خَطَرَ لِي
هَاهُنَا فَائِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، لَكِنْ
لِمُنَاسَبَةِ اللَّفْظِ، وَالْحَدِيثُ ذُو شُجُونٍ، وَالشَّيْءُ يُذْكَرُ
بِالشَّيْءِ، وَهِيَ أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ
مَقْطُوعٌ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 12] ،
فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، لِأَنَّهَا
أَشْيَاءُ،
فَتَقْتَضِي أَنَّهَا مُفَصَّلَةٌ فِي الشَّرْعِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ غَيْرَ مُفَصَّلٍ، لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، إِذْ قَدْ تَقَعُ حَوَادِثُ غَرَائِبُ، لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا كَلَامٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَحَالَ بِالتَّفْصِيلِ عَلَى مُجْتَهَدِي كُلِّ عَصْرٍ، فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُطْلِقٌ أَوْ مُقَيِّدٌ تَمَسَّكَ فِي حُكْمٍ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَانَ مَا أَفْتَى بِهِ حُكْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْصِيلًا مِنْهُ بِمُقْتَضَى النَّصِّ الْمَذْكُورِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَوْ عَلِمْنَا تَفْصِيلَهُ، وَإِنْ لَمْ نَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ، لَكِنْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَتَأْوِيلٌ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
وَأَمَّا «الِاسْتِدْلَالُ» ، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ دَلَّ يَدُلُّ، وَمُقْتَضَاهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ طَلَبُ الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ طَلَبُهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِ أَوْ غَيْرِهِ، إِذَا أَرَادَ مَعْرِفَةَ الْحُكْمِ لِيَعْمَلَ بِهِ، أَوْ يُعَلِّمَهُ غَيْرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ السَّائِلِ لِلْمُسْتَدِلِّ، كَقَوْلِ الْحَنْبَلِيِّ لِلْحَنَفِيِّ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْوُضُوءِ بِدُونِ النِّيَّةِ؟ وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْأَوَّلُ، وَهُوَ طَلَبُ الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ.
وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
____________
احْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الذَّوَاتِ، وَبِالشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْعَقْلِيَّةِ، وَبِالْفَرْعِيَّةِ عَنِ الْأُصُولِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «احْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الذَّوَاتِ» إِلَى آخِرِهِ.
الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْحَاثٍ:
الْأَوَّلُ: فِي لَفْظِ احْتَرَزَ، وَهُوَ افْتَعَلَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: تَحَرَّزْتُ مِنْ كَذَا، وَاحْتَرَزْتُ مِنْهُ: إِذَا تَوَقَّيْتُهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِرْزِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ، يُقَالُ: هَذَا حِرْزٌ حَرِيزٌ، وَيَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ: احْتَزَرْتُ بِكَذَا مِنْ كَذَا، أَيْ: صِرْتُ فِي حِرْزٍ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ مَا يُفْسِدُ كَلَامِي مِنْ جِهَةِ طَرْدٍ أَوْ عَكْسٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
الثَّانِي: فِي
مَعْنَى الِاحْتِرَازِ فِي الْكَلَامِ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْأَلْفَاظَ جُعِلَتْ دَالَّةً عَلَى الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَاتِ، وَشَأْنُ
الدَّلِيلِ أَنْ يُطَابِقَ الْمَدْلُولَ، وَالْمُعَرِّفِ أَنْ يُطَابِقَ
الْمُعَرَّفَ، أَيْ: يَكُونُ طَبَقَهُ وَمُسَاوِيًا لَهُ فِي الْعُمُومِ
وَالْخُصُوصِ. وَلَمَّا كَانَتْ أَجْنَاسُ الْأَشْيَاءِ شَامِلَةً لِأَنْوَاعِهَا،
وَأَنْوَاعُهَا شَامِلَةً لِأَشْخَاصِهَا، وَكَانَتِ الْأَجْنَاسُ وَالْأَنْوَاعُ
مُتَعَدِّدَةً، مِنْهَا الْعَالِي وَالسَّافِلُ وَالْمُتَوَسِّطُ، كَمَا أَشَرْنَا
إِلَيْهِ فِي بَابِ الْعُمُومِ، وَسَنُقَرِّرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،
وَالْأَشْخَاصُ أَيْضًا مُتَشَابِهَةٌ وَمُتَبَايِنَةٌ بِالصِّفَاتِ، وَكَانَتِ
الْأَشْخَاصُ شَائِعَةً فِي أَنْوَاعِهَا، وَالْأَنْوَاعُ شَائِعَةً فِي
أَجْنَاسِهَا، لَا جَرَمَ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْكَشْفَ عَنْ حَقِيقَةِ
شَخْصٍ مِنْ نَوْعٍ، أَوْ نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ، أَنْ يَصِفَهُ بِصِفَاتٍ
مُطَابِقَةٍ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا إِلَّا هُوَ،
فَكُلَّمَا قَلَّتْ أَوْصَافُهُ، كَانَ أَدْخَلَ فِي الْعُمُومِ وَالشُّيُوعِ
وَالِاشْتِبَاهِ، وَكُلَّمَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهُ، قَرُبَ مِنَ الْكَشْفِ
وَالتَّعَيُّنِ، وَزَوَالِ الِاشْتِبَاهِ بِغَيْرِهِ، وَقَلَّ مَا يَشْتَبِهُ بِهِ
مِنْ نَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ، فَكَانَ كُلُّ وَصْفٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ
الْمُخَصَّصَةِ مُحَصِّنًا لَهُ مِنْ طَائِفَةِ مِمَّا يُشَابِهُهُ أَوْ
يَشْتَبِهُ بِهِ، وَحِرْزًا لَهُ مِنْهُ، فَهَذَا بَيَانُ
كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ، وَيَتَّضِحُ بِالْمِثَالِ.
فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُسَمَّيَاتِ مُتَرَتِّبَةٌ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا بَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ الْأَشْخَاصِ تَحْتَ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ أَعْلَى الْأَجْنَاسِ فَوْقَ بَعْضٍ، فَأَعَمُّ الْمُسَمَّيَاتِ، قَوْلُنَا: مَعْلُومٌ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، ثُمَّ الْمَوْجُودُ يَتَنَاوَلُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ، ثُمَّ الْقَدِيمُ يَتَنَاوَلُ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ، وَالْمُحْدَثُ يَتَنَاوَلُ الْجَوْهَرَ وَالْعَرَضَ، وَالْأَعْرَاضُ أَقْسَامُهَا كَثِيرَةٌ، وَالْجَوْهَرُ يَتَنَاوَلُ الْجَامِدَ وَالنَّامِيَ، وَالنَّامِي يَتَنَاوَلُ الْحَيَوَانَ وَغَيْرَهُ، كَالشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ، وَالْحَيَوَانُ يَتَنَاوَلُ النَّاطِقَ، كَالْإِنْسَانِ، وَغَيْرَ النَّاطِقِ، كَالْفَرَسِ، فَالْإِنْسَانُ نَوْعٌ لِلْحَيَوَانِ، وَالْحَيَوَانُ نَوْعٌ لِلنَّامِي، وَالنَّامِي نَوْعٌ لِلْجَوْهَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِسْمُ، وَالْجِسْمُ نَوْعٌ لِلْمُحْدَثِ، وَالْمُحْدَثُ نَوْعٌ لِلْمَعْلُومِ، فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْإِنْسَانِ، وَيُسَمَّى نَوْعَ الْأَنْوَاعِ، وَإِنْ نَزَلَتْ مِنْ جِهَةِ الْجِنْسِ الْأَعْلَى، وَهُوَ الْمَعْلُومُ فِي مِثَالِنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنْسًا فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ أَحَدَ قِسْمَيْهِ الْمَعْدُومُ، وَالْحَقِيقَةُ الثَّابِتَةُ لَا تَتَقَوَّمُ فِي وُجُودٍ وَعَدَمٍ، وَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ، وَالْقَدِيمُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ جِنْسٍ، وَلَكِنَّا ذَكَرْنَاهُ جِنْسًا فِي الْمِثَالِ لَفْظًا، فَقُلِ: الْمَعْلُومُ جِنْسُ الْمُحْدَثِ، وَالْمُحْدَثُ جِنْسُ الْجَوْهَرِ، وَالْجِسْمُ جِنْسُ النَّامِي، وَالنَّامِي جِنْسُ الْحَيَوَانِ، فَالْمُتَوَسِّطَاتُ مِنْ هَذِهِ، وَهِيَ الْمُحْدَثُ، وَالْجِسْمُ، وَالنَّامِي، وَالْحَيَوَانُ، هِيَ أَنْوَاعٌ لِمَا فَوْقَهَا، كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِسْمِ النَّامِي، أَجْنَاسٌ لِمَا تَحْتَهَا، كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ. . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَأَنْتَ إِذَا قَالَ لَكَ قَائِلٌ: قَدْ أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مَعْلُومًا فَمَا هُوَ؟ لَاحْتَمَلَ عِنْدَكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ الَّذِي أَضْمَرَهُ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا.
فَإِذَا قُلْتَ لَهُ: زِدْنِي بَيَانًا، فَقَالَ لَكَ: الَّذِي أَضْمَرْتُهُ مُحْدَثٌ، تَخَصَّصَ بِهِ، وَأَعْرَضْتَ أَنْتَ عَنِ الْفِكْرَةِ فِي التَّقْدِيمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الضَّمِيرِ، وَصِرْتَ تَطْلُبُهُ فِي الْمُحْدَثَاتِ، لَكِنَّكَ لَا تَدْرِي هُوَ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ.
فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ جَوْهَرٌ، أَعْرَضْتَ عَنِ الْأَعْرَاضِ، وَأَجَلْتَ فِكْرَكَ فِي الْجَوَاهِرِ، لِتَسْتَخْرِجَهُ مِنْهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَامٍ أَوْ غَيْرُ نَامٍ.
فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ نَامٍ، أَعْرَضْتَ عَنِ الْجَمَادَاتِ، وَتَرَدَّدْتَ فِي النَّامِي، هَلْ هُوَ حَيَوَانٌ أَوْ غَيْرُ حَيَوَانٍ؟
فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ حَيَوَانٌ، أَعْرَضْتَ عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ، ثُمَّ تَرَدَّدْتَ، هَلْ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ نَاطِقٌ أَمْ لَا؟
فَإِذَا قَالَ لَكَ: نَاطِقٌ: أَعْرَضْتَ عَنْ نَوْعِ الْخَيْلِ وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، ثُمَّ تَرَدَّدْتَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، لَا تَدْرِي، هَلْ هُوَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، أَوْ مُوسَى، أَوْ مُحَمَّدٌ؟
فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ نَبِيٌّ، تَخَصَّصَ مَطْلُوبُكَ بِصِنْفِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَعْرَضْتَ عَنْ آحَادِ الْأُمَمِ، ثُمَّ تَرَدَّدْتَ، هَلْ هُوَ آدَمُ أَوْ مُحَمَّدٌ أَوْ وَاحِدٌ مِمَّنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ؟
فَإِذَا قَالَ لَكَ:
هُوَ أَوَّلُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، قُلْتَ: هُوَ آدَمُ أَوْ نُوحٌ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ، عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ تَخَصَّصَ بِالْأَوَّلِيَّةِ.
وَلَوْ قَالَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَقُلْتَ: هُوَ أَيُّوبُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي الْعِيصِ نَبِيٌّ غَيْرَهُ.
وَلَوْ قَالَ لَكَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ، أَوْ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، لَقُلْتَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَأَيْتَ أَنَّ مَطْلُوبَكَ كُلَّمَا تَخَصَّصَ بِوَصْفٍ بَعْدَ وَصْفٍ قَرُبَ إِدْرَاكُهُ، وَقَلَّ الصِّنْفُ الَّذِي يَشْتَبِهُ بِهِ، لِخُرُوجِ غَيْرِهِ بِالْوَصْفِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْمَطْلُوبِ، فَهَذَا كَشَفَ الْقِنَاعَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاحْتِرَازَاتِ فِي هَذَا الْحَدِّ.
قَوْلُهُ: «احْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الذَّوَاتِ» لِأَنَّ الْأَحْكَامَ هِيَ مَا عُرِفَ مِنَ الْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالنَّدْبِ. وَالذَّوَاتُ: الْحَقَائِقُ، وَذَاتُ الشَّيْءِ: حَقِيقَتُهُ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَزَعَمَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي مَأْخَذِهِ عَلَى الْمَقَامَاتِ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ فِيهَا ذَاتٌ، بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ، مُؤَنَّثُ ذُو، فَلَوْ قِيلَ: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالشَّرْعِيَّةِ، لَاحْتَمَلَ أَنَّ هُنَاكَ ذَوَاتٍ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهَا فِقْهًا، فَلَمَّا قَالَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، انْتَفَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ.
قَوْلُهُ: «وَبِالشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْعَقْلِيَّةِ» ، أَيْ: وَاحْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ، كَأَحْكَامِ الْفَلْسَفَةِ، مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعَدَدِ وَالْمَقَادِيرِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ فِي «الْمَحْصُولِ» : كَالتَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ، وَالْعِلْمِ بِقُبْحِ الظُّلْمِ، وَحُسْنِ الصِّدْقِ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِكَوْنِهِمَا عَقْلِيَّيْنِ.
فَلَوْ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّرْعِيَّةَ، لَاقْتَضَى الْحَدُّ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ فِقْهًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ: الْفَرْعِيَّةِ، إِذِ الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تُسَمَّى فَرْعِيَّةً.
نَعَمْ، الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعَقْلِيَّةِ، حَصَلَ بِالْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي الشَّرْعِيَّةَ الْفَرْعِيَّةَ، إِذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُمَا، بَلْ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْإِحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، لَدَخَلَتِ الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ.
قَوْلُهُ: «وَبِالْفَرْعِيَّةِ عَنِ الْأُصُولِيَّةِ» ، أَيِ: احْتَرِزْ بِالْفَرْعِيَّةِ عَنْهَا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا، لَاقْتَضَى أَنَّ الْأُصُولِيَّةَ، كَأُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ فِقْهٌ، لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، إِذِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَعُمُّ الْأُصُولِيَّةَ وَالْفُرُوعِيَّةَ. إِذِ الشَّرْعُ عِبَارَةٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْلٍ وَفَرْعٍ. «وَعَنْ» فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَدِلَّتِهَا، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْفَرْعِيَّةُ الصَّادِرَةُ أَوِ الْحَاصِلَةُ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، احْتِرَازًا مِنَ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ، كَأُصُولِ الْفِقْهِ، نَحْوَ قَوْلِنَا: الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، وَكَالْخِلَافِ، نَحْوَ: ثَبَتَ بِالْمُقْتَضِي، وَامْتَنَعَ بِالنَّافِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَعَنْ
فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَدِلَّتِهَا» إِلَخْ، يَعْنِي أَنَّ «عَنْ» الْمَذْكُورَةُ
فِي قَوْلِنَا: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْفَرْعِيَّةُ عَنْ أَدِلَّتِهَا
التَّفْصِيلِيَّةِ، لَا بُدَّ لَهَا مِنْ فِعْلٍ أَوْ مَعْنَى فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ
بِهِ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ إِنَّمَا وُضِعَتْ فِي الْكَلَامِ لِتَجُرَّ
مَعَانِي الْأَفْعَالِ إِلَى الْأَسْمَاءِ، نَحْوَ: ذَهَبْتٌ إِلَى زَيْدٍ،
وَجِئْتُ مِنْ عِنْدِ عَمْرٍو، فَإِلَى جَرَّتْ مَعْنَى ذَهَابِكَ إِلَى زَيْدٍ،
بِمَعْنَى أَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ ذَهَابَكَ كَانَ نَحْوَهُ، وَأَنْتَ
مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ، وَمَنْ جَرَّتْ مَعْنَى ذَهَابِكَ إِلَى عَمْرٍو، بِمَعْنَى
أَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ مَجِيئَكَ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ مُنْصَرِفًا إِلَى
غَيْرِهَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَتْ حُرُوفَ الْجَرِّ، وَمَعْنَى تَعَلُّقِ
الْحَرْفِ بِالْفِعْلِ: هُوَ أَنْ لَا يَصِحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ وَيَنْتَظِمَ
إِلَّا بِاتِّصَالِهِ بِهِ، وَلَوْ قُدِّرَ اتِّصَالُهُ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ،
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .
{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النَّحْلِ: 43 - 44] ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: بِالْبَيِّنَاتِ،
لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِتَعْلَمُونَ، وَلَا بِقَوْلِهِ: فَاسْأَلُوا، بَلْ
بِأَرْسَلْنَا، أَيْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ،
إِذْ لَا يَنْتَظِمُ أَنْ يُقَالَ: بِالزُّبُرِ، وَلَا اسْأَلُوا بِالزُّبُرِ،
فَمَتَى كَانَ فِي الْكَلَامِ فِعْلٌ مَوْجُودٌ يَصْلُحُ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَرْفُ
الْجَرِّ بِهِ، وَجَبَ تَعَلُّقُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، قُدِّرَ لَهُ فِعْلٌ
أَوْ مَعْنَاهُ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْكَلَامُ، وَلَيْسَ
فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِعْلٌ يَصْلُحُ أَنْ تَتَعَلَّقَ «عَنْ» بِهِ وَلَا
مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْفَرْعِيَّةَ أَسْمَاءٌ
مَحْضَةٌ، وَمَعْنَى الْفِعْلِ فِيهَا
خَامِلٌ خَفِيٌّ، فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ عَنْ، لِئَلَّا يَبْقَى سَائِبًا بِغَيْرِ مُتَعَلِّقٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي اللُّغَةِ، فَصَارَ تَقْدِيرُهُ كَمَا ذُكِرَ، الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ أَوِ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا، لِأَنَّا نَعْلَمُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَصْدُرُ وَتَحْصُلُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، عِنْدَ نَظَرِ الْمُسْتَدِلِّ فِيهَا، طَالِبًا لِيَعْرِفَ الْأَحْكَامَ مِنْهَا، فَقَدَّرْنَا لِانْتِظَامِ الْكَلَامِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُهُ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالشِّعْرِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا تَضَمَّنَ حَذْفًا أَوْ إِضْمَارًا، قُدِّرَ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَمَوْضِعُ بَسْطِهِ بِأَمْثِلَتِهِ «كِتَابُ الْمَجَازِ» لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
قَوْلُهُ: «عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، احْتِرَازًا مِنَ الْأَحْكَامِ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ» . قَدْ عُلِمَ مَعْنَى التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ مِمَّا سَبَقَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَوْ قَالَ: الْفِقْهُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ، لَدَخَلَ فِيهِ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَدِلَّةِ الْفِقْهِ كَقَوْلِنَا: الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، حَاصِلَةٌ عَنِ الْأَدِلَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَتْ فِقْهًا، بَلْ هِيَ أُصُولُ فِقْهٍ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ بِقَوْلِهِ: الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، خَرَجَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا الْحَدُّ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ تَعَلُّمَهَا، لِيُعْلَمَ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ فَرْعِيَّةً، بَلْ هِيَ أُصُولِيَّةٌ.
وَقَدْ يُجَابُ
عَنْهُ بِأَنَّ أَحْكَامَ أُصُولِ الْفِقْهِ هِيَ أُصُولِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ،
فُرُوعِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ،
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ الْمَقْصُودَ لِذَاتِهِ، إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِالْعَقَائِدِ الْقَلْبِيَّةِ، وَهُوَ عِلْمُ أُصُولِ الدِّينِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَوَقَعَ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا، فَهُوَ يَسْتَمِدُّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَمُدُّ فُرُوعَ الْفِقْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ مَوَادِّهِ عِلْمُ الْكَلَامِ، وَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ، وَتَصَوُّرُ فُرُوعِ الْأَحْكَامِ لِتَمَكُّنِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ عِنْدَ ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ، وَحِينَئِذٍ لَوْ لَمْ يَقُلْ: عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لَدَخَلَتِ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أُصُولًا لِلْفِقْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا فُرُوعًا لِأُصُولِ الدِّينِ، فَبِالتَّفْصِيلِيَّةِ خَرَجَتْ عَنِ الدُّخُولِ فِي حَدِّ الْفِقْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوِيٌّ.
وَأَحْسَبُ أَنِّي وَهِمْتُ فِي قَوْلِي: «الْحَاصِلَةُ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ» احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرْتُ، مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَنَحْوَهُ حُجَّةٌ، لِأَنَّ مَسَائِلَ كُلِّ عِلْمٍ وَأَحْكَامَهُ، حَاصِلَةٌ عَنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ، فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً حُكْمًا حَصَلَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُصُولِ الْفِقْهِ، وَسَيَأْتِي مِثَالُ هَذَا عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْمِثَالُ
الصَّحِيحُ لِمَا حَصَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ،
وَوَقَعَ الِاحْتِرَازُ بِالتَّفْصِيلِيَّةِ عَنْهُ، هُوَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي
فَنِّ الْخِلَافِ، نَحْوَ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْمُقْتَضِي وَانْتَفَى بِوُجُودِ
النَّافِي، فَإِنَّ هَذِهِ قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ إِجْمَالِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي
غَالِبِ الْأَحْكَامِ، إِذْ يُقَالُ مَثَلًا: وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي
الطَّهَارَةِ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضِي، وَهُوَ تَمْيِيزُ الْعِبَادَةِ عَنِ
الْعَادَةِ، وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: عَدَمُ وُجُوبِهِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى
مَسْنُونِيَّتِهِ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضِي، وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ
مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ بِدُونِ النِّيَّةِ.
وَيُقَالُ: سُقُوطُ الْقَصَاصِ عَنِ الْمُسْلِمِ الْقَاتِلِ لِلذِّمِّيِّ، حُكْمٌ ثَبَتَ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ شَرَفُ الْمُسْلِمِ وَصِيَانَتُهُ، عَنْ أَنْ يُجْعَلَ الْكَافِرُ كُفْئًا لَهُ، وَيُقَالَ: قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، حُكْمٌ انْتَفَى بِوُجُودِ نَافِيهِ، وَهُوَ تَحَقُّقُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، أَوْ بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ، وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: هُوَ حُكْمٌ ثَبَتَ بِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ عِصْمَةُ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ، فَلَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا.
وَغَالِبُ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، فَهِيَ أَدِلَّةٌ إِجْمَالِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَسْأَلَةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ، إِمَّا إِثْبَاتُ الْحُكْمِ، فَهُوَ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ نَفْيهِ فَهُوَ بِالدَّلِيلِ النَّافِي، أَوْ بِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ بِوُجُودِ الْمَانِعِ، أَوْ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ قَوَاعِدَ ضَابِطَةٌ لِمَجَارِي الْأَحْكَامِ عَلَى تَعَدُّدِ جُزْئِيَّاتِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا. وَلَوْ عُلِّقَتْ عَنِ الْعِلْمِ، لَكَانَ أَوْلَى، وَتَقْدِيرُهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الْأَدِلَّةِ. وَعَلَى هَذَا إِنْ جُعِلَتْ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ، كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ، إِذْ يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُهُ عَنْهُ، إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَوْ عُلِّقَتْ عَنْ بِالْعِلْمِ، لَكَانَ أَوْلَى، وَتَقْدِيرُهُ، الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الْأَدِلَّةِ» . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ: عَنْ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ: «عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ» لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ، وَفِيهِ احْتِمَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ سَبَقَ تَقْدِيرُهُ.
وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْمًا، وَالْمَصْدَرُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّهُ فَرْعُهُ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ، وَبِالتَّضْمِينِ، لِأَنَّهُ جُزْءُ مَدْلُولِهِ، إِذْ مَدْلُولُ الْفِعْلِ الزَّمَانُ وَالْمَصْدَرُ، فَدَلَالَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الِالْتِزَامِ وَالتَّضَمُّنِ، وَهُمَا دَلَالَتَانِ قَوِيَّتَانِ، وَالتَّعَلُّقُ الْمَذْكُورُ فِي التَّحْقِيقِ، هُوَ بِمَا فِي الْعِلْمِ مِنْ مَعْنَى الْعَقْلِ، وَهُوَ عَلِمَ أَوْ يَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تَعْلِيقَ عَنْ بِلَفْظِ الْعِلْمِ، أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِمَحْذُوفٍ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، لِأَنَّ لَفْظَ الْعِلْمِ مَوْجُودٌ فِي الْحَدِّ، فَكَأَنَّ التَّعْلِيقَ بِهِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيقِ بِمَعْدُومٍ مُقَدَّرٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّعْلِيقِ أَنْ يَكُونَ بِالْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ، وَالتَّعَلُّقُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُقَدَّرَةِ عِنْدَ عَدَمِ اللَّفْظِ الْمَوْجُودِ ضَرُورَةُ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ، فَالتَّقْدِيرُ إِذًا: الْفِقْهُ، هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَعَلَى هَذَا» أَيْ: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي مُتَعَلِّقِ عَنْ، وَهُوَ أَنَّهُ الْعِلْمُ «إِنْ جُعِلَتْ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ، كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ» ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: الْفِقْهُ، هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا.
قَوْلُهُ: «إِذْ يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا تَقْدِيرٌ وَتَوْجِيهٌ لِتَأْوِيلِ «عَنْ» بِمَعْنَى «مِنْ» ، وَهُوَ أَنَّ عَلِمَ إِنَّمَا يَتَعَدَّى فِي وَضْعِ اللُّغَةِ بِحَرْفِ «مِنْ» نَحْوَ: «عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ» مَثَلًا: عَلِمْتُ الْحُكْمَ مِنَ الدَّلِيلِ، وَعَلِمْتُ الْخَبَرَ مِنْ فُلَانٍ، «وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُهُ عَنْهُ» ، أَيْ: لَا يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ عَنِ الشَّيْءِ، وَعَلِمْتُ الْحُكْمَ عَنِ الدَّلِيلِ، وَالْخَبَرَ عَنْ فُلَانٍ، «إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ» ، وَهُوَ تَأْوِيلُ «عَنْ» بِمَعْنَى «مِنْ» . وَتَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّ «مِنْ» مَعْنَاهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَ «عَنْ» مَعْنَاهَا الْمُجَاوَزَةُ، فَمَعْنَى عَلِمْتُ الْحُكْمَ مِنَ الدَّلِيلِ، أَنَّ مَبْدَأَ عِلْمِي بِالْحُكْمِ هُوَ الدَّلِيلُ، أَوِ ابْتِدَاءُ عِلْمِي بِالْحُكْمِ كَانَ مِنَ الدَّلِيلِ، فَالدَّلِيلُ مَبْدَأُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ الدَّارَ مَبْدَأُ خُرُوجِكَ إِذَا قُلْتَ: خَرَجْتُ مِنَ الدَّارِ. وَمَعْنَى عَلِمْتُ الْحُكْمَ عَنِ الدَّلِيلِ جَاوَزَ الْعِلْمُ الدَّلِيلَ إِلَيَّ، لَكِنْ «عَنْ» الدَّالَّةُ عَلَى الْمُجَاوَزَةِ تَدُلُّ عَلَى مَبْدَأِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ بِالِالْتِزَامِ، إِذْ كُلُّ مُجَاوَزَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ ابْتِدَاءٍ، وَمِنْ، تَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْعِلْمِ وَمَبْدَئِهِ بِالْمُطَابَقَةِ الْوَضْعِيَّةِ، فَكَانَتْ أَوْلَى، لِأَنَّهَا أَقْوَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ.
فَتَحَصَّلَ مِمَّا ذَكَرْنَا: أَنَّ قَوْلَنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، هُوَ الْأَصْلُ فِي تَعَدِّي عَلِمْتُ، وَقَوْلَنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الْأَدِلَّةِ، لَا يُدَلُّ عَلَيْهِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَأْوِيلِ «عَنْ» بِمَعْنَى «مِنْ» ، فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ «مِنْ» الدَّالَّةِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ «عَنْ» الَّتِي لَا تَدُلُّ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ.
وَلَمْ آتِ أَنَا فِي الْمُخْتَصَرِ بِلَفْظِ «مِنْ» عِوَضًا عَنْ لَفْظِ «عَنْ» ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ لِابْنِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ بِلَفْظِ عَنْ، فَلَمْ أُغَيِّرْ لَفْظَهُ.
تَنْبِيهٌ يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ قَوْلِنَا: إِذْ يُقَالُ: «عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ» . وَتَقْرِيرُهُ، أَنَّ «إِذْ» وُضِعَتْ فِي اللُّغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَنِ الْمَاضِي، كَقَوْلِكَ: قُمْتُ، أَيْ: فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي الَّذِي قُمْتَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِ التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: الْحُكْمُ فِيُ كَذَا كَذَا، إِذْ يُقَالُ: أَيْ: لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَذَا لَا كَذَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: إِلَّا كَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ كَذَا، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ الْعُرْفِيُّ مُطَابِقٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَكَ: قُمْتُ إِذْ قُمْتَ فِي مَعْنَى قَوْلِكَ: قُمْتُ لَمَّا قُمْتَ، وَلِمَا فِيهَا أَيْضًا مَعْنَى الزَّمَانِ، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى حِينَ، أَيْ: قُمْتُ حِينَ قُمْتَ.
وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ
قَوْلُ الْمُعَلِّلِ أَوِ الْمُسْتَدِلِّ مَثَلًا: النَّبِيذُ حَرَامٌ إِذْ هُوَ
مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ
تَبْيِيتِ النِّيَّةِ، إِذْ هِيَ شَرْطٌ فَتَجِبُ مُقَارَنَتُهُ كَسَائِرِ
الشُّرُوطِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمَّا
كَانَ النَّبِيذُ مُسْكِرًا، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، حُرِّمَ النَّبِيذُ.
وَلَمَّا كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ، وَالشَّرْطُ تَجِبُ
لِمَشْرُوطِهِ، وَجَبَ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ، فَهَذَا وَجْهُ اسْتِعْمَالِ «إِذْ» فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ.
وَتَقْرِيرُهُ فِي عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ: لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُهُ عَنْهُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ عَلِمْتُهُ مِنْهُ، كَانَ قَوْلُنَا: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِنَا: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا. وَبِالِاسْتِدْلَالِ: قِيلَ: احْتِرَازٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَيْهِ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَقَائِقُ الْأَحْكَامِ تَابِعَةٌ لِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ احْتِرَازًا عَنِ الْمُقَلِّدِ. فَإِنَّ عِلْمَهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا. وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذِ الْمُقَلِّدُ يَخْرُجُ بِقَوْلِهِ: عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، لَيْسَ عَنْ دَلِيلٍ أَصْلًا. وَيُمْكُنُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ بِهَا عَنْ دَلِيلِ حِفْظِهِ، كَمَا حَفِظَهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِخْرَاجِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِالِاسْتِدْلَالِ، إِذِ الِاسْتِدْلَالُ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّتَهُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْمُقَلِّدِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَبِالِاسْتِدْلَالِ قِيلَ: احْتِرَازٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولَيْهِ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَقَائِقُ الْأَحْكَامِ تَابِعَةٌ لِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا» .
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّنَا بَعْدُ إِلَى الْآنِ فِي بَيَانِ الِاحْتِرَازَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا حَدُّ الْفِقْهِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى جَمِيعِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، إِلَّا قَوْلَهُ: «عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ» فَنُبَيِّنُ قَوْلَهُ: «بِالِاسْتِدْلَالِ» عَنْ أَيِّ شَيْءٍ احْتَرَزَ بِهِ.
فَقَالَ بَعْضُ
الْأُصُولِيِّينَ: الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، وَعِلْمِ رَسُولَيْهِ: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ
رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى
الْخَلْقِ، وَعِلْمُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا، أَيْ لَيْسَ هُوَ حَاصِلٌ
بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَاتِيٌّ
عَامُّ التَّعَلُّقِ بِالْأَشْيَاءِ، مُخَالِفٌ لِعُلُومِنَا الضَّرُورِيَّةِ
وَالنَّظَرِيَّةِ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ
لَذَاتِهِ،
أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ، وَالذَّاتُ لَا تُوصَفُ بِضَرُورَةٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَعِلْمُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحْيٌ يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ، أَوْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَعِلْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحْيٌ يَتَلَقَّاهُ عَنْ جِبْرِيلَ، فَلَا يَحْتَاجَانِ فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ لَهُمَا بِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبِمُرَادِهِ مِنْهُ حَاصِلٌ، وَمَعَ الْقَطْعِ، تَبْطُلُ فَائِدَةُ الِاسْتِدْلَالِ.
فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَقُلْ: بِالِاسْتِدْلَالِ، لَدَخَلَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ، لِأَنَّهَا عِلْمٌ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ عَنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، لَكِنَّهَا لَا تُسَمَّى فِقْهًا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، فَاحْتِيجَ إِلَى إِخْرَاجِهَا بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعُلُومَ لَيْسَتْ بِالِاسْتِدْلَالِ.
وَيَعْنِي بِكَوْنِهَا عَنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ: أَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: «بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالِيٌّ» يَعْنِي عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولَيْهِ، «لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ» أَيْ عَلَى مَا هُوَ بِهِ «وَحَقَائِقُ الْأَحْكَامِ تَابِعَةٌ لِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا» فَكَمَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ، يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ تَابِعًا لِدَلِيلِهِ وَعِلَّتِهِ وَأَنَّهَا كَذَا، فَكَمَا يَعْلَمُونَ مَثَلًا وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَاطِئِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، يَعْلَمُونَ أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ عُمُومُ إِفْسَادِ الصَّوْمِ أَوْ خُصُوصُهُ بِالْوَطْءِ، وَكَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، يَعْلَمُ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ أَوِ الطَّعْمُ أَوِ الِاقْتِيَاتُ مَعَ الْجِنْسِ، وَكَمَا عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الْمُخَالِطِ، عَلِمَ أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ خُصُوصُ الضَّرَرِ بِشَرِيكِهِ حَتَّى يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُقَاسِمِ، أَوْ عُمُومُهُ حَتَّى يَتَعَدَّى إِلَى الْمُلَاصِقِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولَيْهِ اسْتِدْلَالِيٌّ،
لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِدْلَالِيِّ، مَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا
بِاسْتِدْلَالٍ، وَهُوَ النَّظَرُ فِي مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ،
كَقَوْلِنَا: هَذَا مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ، فَنَاسَبَ عُقُوبَتَهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْكَالِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ، وَالْعُلُومُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا عِلْمُهُمْ بِالْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ وَدَلِيلِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ عُلُومَهُمُ اسْتِدْلَالِيَّةٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ بِدُونِ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ وَعِلَّتِهِ، كَالْإِلْهَامِيَّاتِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِهَا هُجُومًا عَلَى النَّفْسِ، بِدُونِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَفِيهَا مَا لَوْ أَرَادَ الْعَاقِلُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ عِلَّتَهُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، التَّوَسُّطُ، وَهُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَحْكَامِ، لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا لِمَا تَقَدَّمَ، وَعِلْمَ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَغَيْرِهِمُ اسْتِدْلَالِيٌّ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالِيَّ فِي عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ، أَظْهَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِمْ، لِقِلَّةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ.
بَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّ أَقَلَّ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعِلْمُ الِاسْتِدْلَالِيُّ، مُقَدِّمَتَانِ، فَإِذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ أَوْجَبْتُ الصَّلَاةَ عَلَى بَنِي آدَمَ، فَانْزِلْ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَعِلْمُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ مَسْبُوقٌ بِمُقَدِّمَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْآمِرَ لَهُ بِذَلِكَ هُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ.
وَالثَّانِيَةُ:
أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ،
أَوْ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلصَّلَاةِ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ مَا
أَوْجَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ مَعْلُومُ الْوُجُوبِ، فَإِذَا
نَزَلَ جِبْرِيلُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا،
وَأَخْبَرَهُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ
عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ، كَانَ عِلْمُ الرَّسُولِ بِوُجُوبِهَا مَسْبُوقًا بِثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مَعْصُومٌ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ، فَإِذَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، كَانَ عِلْمُهُمْ بِوُجُوبِهَا مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَاتٍ:
مِنْهَا: أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ رَسُولُ اللَّهِ تَعَالَى، فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ، وَمُسْتَنَدُ صِحَّةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ، ظُهُورُ الْمُعْجِزِ الْخَارِقِ عَلَى يَدِهِ، لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ تَصْدِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي النُّبُوَّاتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ حَقٌّ، ثُمَّ تَتَعَدَّدُ طَبَقَاتُ الْأُمَّةِ وَكَثْرَةُ الْوَسَائِطِ بِتَعَدُّدِ مُقَدِّمَاتِ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ.
فَنَقُولُ فِيمَا
أَرَدْنَا إِيجَابَهُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ: هَذَا الصَّحَابِيُّ عَدَّلَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجَازَ الِاقْتِدَاءَ
بِهِ، بِقَوْلِهِ: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ
اهْتَدَيْتُمْ، وَمَنْ عَدَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَأَجَازَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ وَرَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ، حَتَّى إِنَّ الْحَدِيثَ
الَّذِي يَبْلُغُنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِوَاسِطَةِ عَشَرَةٍ، أَوْ عِشْرِينَ مِنَ الرُّوَاةِ، هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى
مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ
الْمُقَدِّمَاتِ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِي حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ مُقَدِّمَةٌ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ.
وَإِنْ تَجَوَّزْنَا، فَقُلْنَا: النَّظَرُ فِي حَالِ مَجْمُوعِ رِجَالِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، مُقَدِّمَةٌ.
قَوْلُهُ: «فَعَلَى هَذَا» ، أَيْ: عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَرَسُولَيْهِ اسْتِدْلَالِيٌّ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: بِالِاسْتِدْلَالِ احْتِرَازٌ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِالِاسْتِدْلَالِ مُحْتَرِزًا بِهِ عَنْ شَيْءٍ، لِئَلَّا يَبْقَى ذِكْرُهُ لَاغِيًا غَيْرَ مُفِيدٍ، فَيَكُونُ مُحْتَرِزًا بِهِ عَنِ الْمُقَلِّدِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى عِلْمُهُ بِهَا فِقْهًا، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، لَا عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَالشَّرْطُ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ بِالِاسْتِدْلَالِ.
قَوْلُهُ: «وَفِيهِ نَظَرٌ» ، أَيْ: فِي كَوْنِ قَوْلِهِ: بِالِاسْتِدْلَالِ احْتِرَازٌ عَنِ الْمُقَلِّدِ نَظَرٌ لِأَنَّ عِلْمَ الْمُقَلِّدِ يَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الْفِقْهِ، وَيَحْصُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِقَوْلِنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ الْمُقَلِّدِ لِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، لَيْسَتْ عَنْ دَلِيلٍ أَصْلًا، لَا إِجْمَالِيٍّ وَلَا تَفْصِيلِيٍّ، وَشَرْطُ الْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ، وَعِلْمُ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ، فَلَا يَكُونُ فِقْهًا، وَلَا الْمُقَلِّدُ فَقِيهًا، فَيَكُونُ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الْفِقْهِ، بِقَيْدِ التَّفْصِيلِ، لَا بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى لَفْظُ الِاسْتِدْلَالِ لَاغِيًا لَا يُفِيدُ شَيْئًا.
تَنْبِيهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْقَائِلِ: فِي هَذَا الْكَلَامِ، أَوْ فِي هَذَا الرَّأْيِ نَظَرٌ، أَيْ: يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُعَادَ النَّظَرُ فِيهِ، أَوْ يَحْتَاجُ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ لِإِظْهَارِ مَا يَلُوحُ فِيهِ مِنْ فَسَادٍ، وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ مَقْطُوعٍ بِفَسَادِهِ وَلَا صِحَّتِهِ، بَلْ فِيمَا كَانَ فَسَادُهُ مُحْتَمَلًا، فَإِنْ قِيلَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ، كَانَ كِنَايَةً وَمُحَابَاةً لِلْخَصْمِ، وَإِنْ قِيلَ فِي كَلَامٍ يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ، كَانَ عِنَادًا مِنَ الْقَائِلِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: «لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بَعْضَ» هُوَ مَنْصُوبٌ بِمَعْرِفَتِهِ، لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ يَعْمَلُ عَمَلَ فِعْلِهِ، تَقْدِيرُهُ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمُقَلِّدِ، أَيْ: إِنْ عَرَفَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ. قَوْلُهُ: «وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ» هَذَا رَدٌّ لِلنَّظَرِ الْمَذْكُورِ فِي أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِدْلَالِ احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ الْمُقَلِّدِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ حَفِظَهُ كَمَا حَفِظَ الْأَحْكَامَ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْمَعَ الْمُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا يَقُولُ: الْمُرْتَدَّةُ تُقْتَلُ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ تَبْدِيلُ الدِّينِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. وَذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَحَقِّقٌ فِي الْمُرْتَدَّةِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهَا. أَوْ يَسْمَعُ حَنَفِيًّا يَقُولُ: الْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ، لِنَهْيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِنَّمَا قُتِلَ بِالرِّدَّةِ، لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْإِسْلَامِ بِتَنْقِيصِ عَدَدِ أَهْلِهِ، وَصَيْرُورَتِهِ عَوْنًا لِعَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَارْتِدَادُهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمُرْتَدَّةِ، لِأَنَّ ارْتِدَادَهَا لَا يُؤَثِّرُ، وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُوَجَّهَةِ بِدَلَائِلِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَيَكُونُ الْمُقَلِّدُ حِينَئِذٍ عَالِمًا بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ فِي حَدِّ الْفِقْهِ عَلَى ذَلِكَ، لَدَخَلَ فِيهِ الْمُقَلِّدُ، وَلَيْسَ هُوَ فَقِيهًا، وَلَا يُسَمَّى عِلْمُهُ فِقْهًا، فَاحْتِيجَ إِلَى إِخْرَاجِهِ بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّتَهُ، أَيْ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ.
وَأَهْلِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْمُقَلِّدِ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُنْتَفِيَةً فِيهِ، لَمَا كَانَ مُقَلِّدًا، لَأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُجْتَهِدٌ، وَالْمُجْتَهِدُ ضِدُّ الْمُقَلِّدِ، فَلَوْ كَانَ عِلْمُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ مَعَ فَرْضِنَا لَهُ مُقَلِّدًا، لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: يَحْتَرِزُ بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ أَيْضًا، عَنْ مِثْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا لَا يُسَمَّى فِقْهًا فِي الِاصْطِلَاحِ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِهِ، لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، كَالْعَوَامِّ وَالنِّسَاءِ وَالْحَمْقَى وَنَحْوِهِمْ.
______________
وَأُورِدَ عَلَيْهِ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الْفَرْعِيَّةَ مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: التَّفْصِيلِيَّةُ، لَا فَائِدَةَ لَهُ، إِذْ كُلُّ دَلِيلٍ فِي فَنٍّ، فَهُوَ تَفْصِيلِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لِوُجُوبِ تَطَابُقِ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ. وَأَنَّ الْأَحْكَامَ، إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْبَعْضُ، دَخَلَ الْمُقَلِّدُ لِعِلْمِهِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ فَقِيهًا، وَإِنْ أُرِيدَ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ، لَمْ يُوجَدْ فِقْهٌ وَلَا فَقِيهٌ، إِذْ جَمِيعُهَا لَا يُحِيطُ بِهَا بَشَرٌ، لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ سُئِلُوا فَقَالُوا: لَا نَدْرِي.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْحُكْمَ مَعْلُومٌ، وَالظَّنَّ فِي طَرِيقِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْفَقِيهَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا، عَلِمَ ذَلِكَ قَطْعًا بِحُصُولِ ذَلِكَ الظَّنِّ، وَبِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَاهُ، بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الظَّنَّ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ، الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوِ الْعِلْمُ بِحُصُولِ ظَنِّ الْأَحْكَامِ إِلَى آخِرِهِ. وَفِيهِ تَعَسُّفٌ لَا يَلِيقُ بِالتَّعْرِيفَاتِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ مَجَازًا، وَهُوَ أَيْضًا لَا يَلِيقُ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ بِأَدِلَّتِهَا أَوْ أَمَارَاتِهَا. وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْلَمُهَا كَذَلِكَ. أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُهَا بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ، أَيْ تَهَيُّؤُهُ لِلْعِلْمِ بِالْجَمِيعِ، لِأَهْلِيَّتِهِ لِلِاجْتِهَادِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عِلْمُهُ بِجَمِيعِهَا بِالْفِعْلِ، فَلَا يَضُرُّ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ: لَا نَدْرِي، مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ قَرِيبًا.
وَلَوْ قِيلَ: ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، بِاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ وَخَفَّ الْإِشْكَالُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأُورِدَ عَلَيْهِ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَأُورِدَ عَلَى حَدِّ الْفِقْهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَسْئِلَةٌ، وَمَعْنَى إِيرَادِ السُّؤَالِ عَلَى الْكَلَامِ: مُعَارَضَتُهُ بِمَا يُنَاقِضُهُ وَيُبْطِلُهُ مِنْ جِهَةِ الطَّرْدِ، أَوِ الْعَكْسُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَالْأَسْئِلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمُخْتَصَرِ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: «أَنَّ
الْأَحْكَامَ الْفَرْعِيَّةَ مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ»
.
وَتَقْرِيرُ هَذَا السُّؤَالِ، أَنَّكُمْ قَدْ عَرَّفْتُمُ الْفِقْهَ: بِأَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ. وَالْعِلْمُ: هُوَ الْحُكْمُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ، وَالْأَحْكَامُ الْفَرْعِيَّةُ، أَوْ غَالِبُهَا، مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْلُومِ وَالْمَظْنُونِ، أَنَّ الْمَعْلُومَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، كَالْبَدِيهِيَّاتِ وَالتَّوَاتُرِيَّاتِ، وَالْمَظْنُونُ يَحْتَمِلُهُ، كَقَوْلِنَا: جِلْدُ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَلَا تَزُولُ النَّجَاسَةُ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ، فَإِنَّ هَذَا وَإِنِ اعْتَقَدْنَا ظُهُورَهُ، فَخِلَافُهُ مُحْتَمَلٌ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ جَامِعًا، فَتَخْرُجُ غَالِبُ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ كَوْنِهَا فِقْهًا.
السُّؤَالُ
الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَكُمْ: عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لَا فَائِدَةَ
لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ، فَهُوَ
تَفْصِيلِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْفَنِّ، لِوُجُوبِ تَطَابُقِ
الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ: أَيْ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُتَطَابِقَيْنِ، أَيْ:
أَحَدُهُمَا طَبَقُ الْآخَرِ، أَيْ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ،
وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا، بِجَوَازِ كَوْنِ الْفُتْيَا أَعَمَّ مِنَ
السُّؤَالِ، نَحْوَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ:
أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ
مَيْتَتُهُ، فَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ حُكْمٍ بِالْجَوَابِ عَنْ حُكْمَيْنِ،
وَلَا بِمَا أَجَازَهُ بَعْضُ النُّظَّارِ، مِنْ جَوَازِ كَوْنِ الْجَوَابِ
أَخَصَّ، كَعَكْسِ الْحُكْمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا لَوْ سُئِلَ عَنِ التَّوَضُّؤِ
بِمَاءِ الْبَحْرِ وَأَكْلِ مَيْتَتِهِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ
فَحَسْبُ، أَوْ هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَقَطْ، وَكَمَا لَوْ قَالَ السَّائِلُ:
هَلْ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ؟ فَيَقُولُ الْمُجِيبُ:
يَجُوزُ فِعْلُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لِأَنَّ دَلِيلَ كُلِّ
حُكْمٍ مَا يَثْبُتُ بِهِ مُسَاوِيًا لَهُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ مَحِلِّ السُّؤَالِ
بِعُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ، لَيْسَ دَلِيلًا وَلَا بَعْضًا مِنَ الدَّلِيلِ
الْمَسْؤُولِ عَنْهُ، فَالدَّلِيلُ فِي الْحَدِيثِ، هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِمْ:
أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ أَمَّا قَوْلُهُ: الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَهُوَ
خَارِجٌ عَنْ مَحِلِّ السُّؤَالِ
عَلَى جِهَةِ ابْتِدَاءِ شَرْعِ هَذَا الْحُكْمِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُكُمْ: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، إِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، دَخَلَ الْمُقَلِّدُ فِي الْفِقْهِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، فَيَكُونُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ غَيْرَ مَانِعٍ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ، لَمْ يَكُنِ الْحَدُّ جَامِعَهَا، بَلْ لَمْ يُوجَدْ فِقْهٌ وَلَا فَقِيهٌ، إِذْ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ لَا يُحِيطُ بِهَا بَشَرٌ، لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَغَيْرَهُمْ سُئِلُوا عَنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَقَالُوا: لَا نَدْرِي، كَمَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ سِتَّةَ عَشَرَ حُكْمًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقَالَ فِي الْبَاقِي: لَا أَدْرِي. وَحُكِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: جُنَّةُ الْعَالِمِ لَا أَدْرِي، فَإِذَا أَخْطَأَهَا، أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ. وَالْجُنَّةُ: بِضَمِّ الْجِيمِ السُّتْرَةُ، وَقَوْلُ: لَا أَدْرِي فِي كَلَامِ أَحْمَدَ كَثِيرٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، هَذَا شُرُوعٌ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَرْتِيبِهَا أَوَّلٍ فَأَوَّلٍ.
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُورِدُونَ الْأَسْئِلَةَ ثُمَّ يُورِدُونَ أَجْوِبَتَهَا مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا، وَطَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ يَذْكُرُونَ جَوَابَ كُلِّ سُؤَالٍ عَقِيبَهُ، وَهَذِهِ أَيْسَرُ عَلَى الْفَهْمِ، وَفِي كِلَا الطَّرِيقَيْنِ حِكْمَةٌ، وَأَنَا سَلَكْتُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ غَالِبًا الطَّرِيقَةَ الْأُولَى، لِأَنَّهَا أَعْوَنُ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالِاخْتِصَارِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَقَدْ أُجِيبَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، فَيَخْرُجُ عَنِ التَّعْرِيفِ بِالْعِلْمِ، بِأَنَّ الْحُكْمَ مَعْلُومٌ وَالظَّنَّ فِي طَرِيقِهِ.
وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْفَقِيهَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا، عَلِمَ قَطْعًا بِحُصُولِ ذَلِكَ الظَّنِّ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ وِجْدَانِيٌّ، كَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ، يَقْطَعُ الْإِنْسَانُ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَعَلِمَ قَطْعًا بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الظَّنِّ، بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الظَّنَّ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ، أَيْ: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَالْفُتْيَا إِذَا سُئِلَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ.
وَدَلِيلُ أَنَّ
الظَّنَّ يُوجِبُ الْعَمَلَ: الْإِجْمَاعُ، وَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْكَامِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الظُّنُونِ،
وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ
أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ
مَا أَسْمَعُ الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي
وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ الظَّنَّ، وَنَحْوُ
ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ. وَمِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، أَنَّ غَالِبَ أَدِلَّةِ
الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ
بِالظَّنِّ، لَبَطَلَتْ أَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، أَوْ لَزِمَ الْمُكَلَّفُ
أَنْ لَا يَعْمَلَ إِلَّا بِالْقَطْعِ، مَعَ أَنَّ دَلِيلَ الشَّرْعِ لَا
يُفِيدُهُ، وَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ
جَائِزًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْفُرُوعِ.
وَهَذَا هُوَ جَوَابُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِي «الْمَحْصُولِ» ، وَلَفْظُهُ: فَإِنْ قُلْتَ: الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، فَكَيْفَ جَعَلْتَهُ عِلْمًا؟ قُلْتُ: الْمُجْتَهِدُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مُشَارَكَةُ صُورَةٍ لِصُورَةٍ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ ظَنُّهُ، فَالْحُكْمُ مَعْلُومٌ قَطْعًا، وَالظَّنُّ وَقَعَ فِي طَرِيقِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَمِثَالُهُ، قَوْلُنَا: الْخَمْرُ مُحَرَّمٌ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ، وَهِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَالنَّبِيذُ يُشَارِكُ الْخَمْرَ فِي الْعِلَّةِ، فَغَلَبَ بِذَلِكَ عَلَى ظَنِّنَا تَحْرِيمُ النَّبِيذِ، وَعَلِمْنَا بِالْإِجْمَاعِ وُجُوبَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَاجْتِنَابِهِ، بِمُقْتَضَى هَذَا الظَّنِّ، فَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ، هُوَ وُجُوبُ اجْتِنَابِهَا، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الظَّنُّ فِي طَرِيقِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُنَا: النَّبِيذُ يُشَارِكُ الْخَمْرَ فِي الْإِسْكَارِ، الَّذِي هُوَ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَإِذَا شَارَكَهُ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهِ.
فَهَذَا قِيَاسٌ تَوَصَّلْنَا بِهِ إِلَى حُصُولِ الظَّنِّ بِتَحْرِيمِ النَّبِيذِ، وَهُوَ قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ، فَلَمَّا حَصَلَ لَنَا الظَّنُّ مِنَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ، حَكَمْنَا بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ ظَنِّيٌّ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، فَالْإِجْمَاعُ الْقَاطِعُ أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ الْحَاصِلِ عَنِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ.
وَقَالَ ابْنُ الصَّيْقَلِ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: الظُّنُونُ لَيْسَتْ فِقْهًا، وَإِنَّمَا الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ قِيَامِ الظُّنُونِ.
وَقَدْ أَكْثَرْتُ
فِي هَذَا الْمَكَانِ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْتَشْكِلُ فَهْمُهُ، فَقَصَدْتُ
بِالْإِكْثَارِ فِيهِ
إِيضَاحَهُ.
قَوْلُهُ: «وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي» . إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ صُورَةُ مُنَاقَشَةٍ عَلَى حَدِّ الْفِقْهِ الْمَذْكُورِ، وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي أَنَّ تَقْدِيرَ لَفْظِ الْحَدِّ هَكَذَا: الْفِقْهُ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوِ الْعِلْمُ بِحُصُولِ الظَّنِّ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ، أَوِ الْعِلْمُ بِحُصُولِ ظَنِّ الْأَحْكَامِ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ إِلَى آخِرِ الْحَدِّ، يَعْنِي الْعِلْمَ بِحُصُولِ ظَنِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي جَوَابِنَا عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِنَا: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا حُكْمٌ، عَلِمْنَا بِالْإِجْمَاعِ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ، فَصَارَ بِالضَّرُورَةِ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي الْحَدِّ: أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْحَاصِلَةِ عَنِ الطُّرُقِ الظَّنِّيَّةِ، وَفِيهِ تَعَسُّفٌ لَا يَلِيقُ بِالتَّعْرِيفَاتِ - وَالتَّعَسُّفُ وَالْعَسْفُ وَالِاعْتِسَافُ: الْأَخْذُ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ - وَوَجْهُ التَّعَسُّفِ فِي ذَلِكَ كَثْرَةُ الْحَذْفِ وَالْإِضْمَارِ فِي الْحَدِّ، وَالْحَذْفُ يَقْتَضِي إِبْهَامَ الْمَعْنَى وَخَفَاءَهُ، وَالْحَدُّ يَقْتَضِي كَشْفَهُ وَإِظْهَارَهُ، فَيَتَنَافَيَانِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ مَجَازًا» . هَذَا صُورَةُ اعْتِذَارٍ عَنِ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، وَتَمْشِيَةٍ لَهُ، وَدَفْعٍ لِلسُّؤَالِ الْأَوَّلِ عَنْهُ.
وَتَقْرِيرُهُ:
أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِنَا: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، الْفِقْهُ هُوَ
ظَنُّ الْأَحْكَامِ،
فَلَا يَرِدُ قَوْلُهُمُ: الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، فَكَيْفَ يُسَمُّونَهُ عِلْمًا؟ لِأَنَّ مُرَادَنَا بِالْعِلْمِ الظَّنُّ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ قَدْرًا مُشْتَرَكًا، وَهُوَ الرُّجْحَانُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ حُكْمٌ جَازِمٌ، وَالظَّنَّ حُكْمٌ رَاجِحٌ غَيْرُ جَازِمٍ، وَهَذَا الرُّجْحَانُ الْمُشْتَرَكُ صَحَّحَ إِطْلَاقَ الْعِلْمِ وَإِرَادَةَ الظَّنِّ مَجَازًا، وَهُوَ الْعَلَاقَةُ الْمُجَوِّزَةُ، كَمَا سَيَأْتِي فِي اللُّغَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: «وَهُوَ أَيْضًا لَا يَلِيقُ» لِأَنَّ الْحُدُودَ يَجِبُ أَنْ يُجْتَنَبَ فِيهَا الْإِبْهَامُ وَمَظِنَّتُهُ، كَاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ وَالْمَجَازِ وَالْغَرِيبِ، خُصُوصًا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَجَازُ وَاضِحًا، وَهُوَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مُرَادَكُمْ بِالْعِلْمِ هَاهُنَا الظَّنُّ، حَتَّى فَسَّرْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَقُلْتُمْ: أَرَدْنَا بِهِ الظَّنَّ، وَإِنَّمَا فَسَّرْتُمُوهُ بِذَلِكَ فِرَارًا مِنَ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَفِي ذَلِكَ أَيْضًا مَحْذُورٌ لَفْظِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا فُسِّرَ الْعِلْمُ بِالظَّنِّ، وَصِيغَةُ الْحَدِّ بِحَالِهَا، صَارَ التَّقْدِيرُ: الْفِقْهُ، هُوَ الظَّنُّ بِالْأَحْكَامِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ قَبِيحَةٌ، لِأَنَّ ظَنَنْتَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، نَحْوُ ظَنَنْتُ الْأَمْرَ، وَلَا يُقَالُ ظَنَنْتُ بِالْأَمْرِ، بِخِلَافِ عَلِمْتُ، لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِحَرْفِ الْجَرِّ، نَحْوُ عَلِمْتُ الشَّيْءَ وَعَلِمْتُ بِالشَّيْءِ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُقَالَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَجُزِ الظَّنُّ بِالْأَحْكَامِ، وَإِنْ غُيِّرَتْ صِيغَةُ الْحَدِّ فَقِيلَ: الْفِقْهُ، ظَنُّ الْأَحْكَامِ، أَفْضَى إِلَى التَّجَوُّزِ فِيهَا وَإِسْقَاطِ بَعْضِ حُرُوفِهَا، وَفِيهِ خَبْطٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ الْمَعْلُومَةُ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَظْنُونَةً.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُ
الْقَائِلِ: هَذَا لَا يَلِيقُ، وَهَذَا لَيْسَ بِلَائِقٍ، مَعْنَاهُ: لَا
يُمَاسُّ وَلَا يُلَاصَقُ وَلَا يَعْلُقُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: مَا لَاقَتِ
الْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا، أَيْ: مَا أُلْصِقَتْ بِقَلْبِهِ، وَهَذَا
الْأَمْرُ لَا يَلِيقُ بِكَ، أَيْ لَا يعْلَقُ بِكَ، وَفُلَانٌ مَا يَلِيقُ
دِرْهَمًا مِنْ جُودِهِ، أَيْ مَا يُمْسِكُهُ، وَلَاقَ بِهِ فُلَانٌ: لَاذَ بِهِ.
قُلْتُ: وَالْمَادَّةُ رَاجِعَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ الِاصْطِلَاحِيِّ، إِذْ مَعْنَى لَا يَلِيقُ: لَا يُنَاسِبُ.
وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِجَوَابٍ الْتَزَمَ فِيهِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مَعْلُومَةٌ - وَظَاهِرُهُ الْغَلَطُ أَوِ الْمُغَالَطَةُ - وَقَرَّرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ مَعْلُومٌ، فَكُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ كُلَّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِمَّا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ، فَقَدْ صَارَتِ الْأَحْكَامُ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ الظُّنُونِ، فَكُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ مَعْلُومٌ، فَبِنَاءً عَلَى عِصْمَةِ الْإِجْمَاعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَ: كُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ثَابِتٌ بِمُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَ بِمُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ، فَهُوَ مَعْلُومٌ، فَكُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مَعْلُومٌ.
وَفَرْضُ الْكَلَامِ فِي حُكْمٍ بِتَقْرِيرٍ يَطَّرِدُ فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ التَّدْلِيكِ فِي الطَّهَارَاتِ مَظْنُونٌ لِمَالِكٍ قَطْعًا عَمَلًا بِالْوِجْدَانِ، وَكُلُّ مَا ظَنَّهُ مَالِكٌ، فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا عَمَلًا بِالْإِجْمَاعِ، فَوَجَبَ أَنَّ التَّدْلِيكَ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا.
وَأَمَّا أَنَّ مَا
ثَبَتَ بِمُقَدِّمَتَيْنِ قَطْعِيَّتَيْنِ مَعْلُومٌ، فَهُوَ ظَاهِرٌ.
قُلْتُ: وَوَجْهُ الْخَلَلِ فِي هَذَا التَّقْرِيرِ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَقَوْلُهُ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ حُكْمٌ، فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ.
قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ نَحْنُ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِقْهٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِقْهُ مُجْتَهِدٍ خَاصٍّ، إِذْ ذَلِكَ يَصِيرُ إِثْبَاتًا لِلْمَطْلُوبِ الْعَامِّ بِالتَّقْرِيرِ الْخَاصِّ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: فَقَدْ صَارَتِ الْأَحْكَامُ فِي مَوَاضِعِ الْخِلَافِ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ.
إِنْ أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ عُمُومَهُ، فَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمٍ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ مُجْتَهِدٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَنْ حَصَلَ لَهُ ظَنُّ تِلْكَ الْأَحْكَامِ، رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ تَقْرِيرِ الدَّعْوَى الْعَامَّةِ بِالطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ.
وَأَمَّا بَيَانُ الْخَلَلِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، فَبِنَحْوِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: وُجُوبُ التَّدْلِيكِ مَظْنُونٌ لِمَالِكٍ، فَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا.
إِنْ أَرَادَ بِهِ حُكْمَ اللَّهِ قَطْعًا فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأَئِمَّةِ صَرَّحُوا بِخِلَافِهِ.
وَإِنْ أَرَادَ بِهِ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّ مَالِكٍ، فَصَحِيحٌ، لَكِنْ نَحْنُ كَلَامُنَا فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ الْمُطْلَقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الشَّرِيعَةِ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِفَرْضِ الْكَلَامِ فِي فِقْهِ مَالِكٍ أَوْ غَيْرِهِ بِخُصُوصِهِ.
ثُمَّ لَوْ قَالَ الشَّفَعَوِيُّ: عَدَمُ وُجُوبِ التَّدْلِيكِ مَظْنُونٌ لِلشَّافِعِيِّ عَمَلًا بِالْوِجْدَانِ، فَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ قَطْعًا فِي حَقِّهِ، عَمَلًا بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْقَطْعِ فِيمَا قَرَّرَهُ الْقَطْعُ الْعَامُّ، تَنَاقَصَتِ الْقَطْعِيَّاتُ، لِأَنَّ هَذَا يَقْطَعُ بِالْوُجُوبِ، وَهَذَا بِعَدَمِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَإِنْ أَرَادَ الْقَطْعَ الْخَاصَّ فِي حَقِّ كُلِّ إِمَامٍ بِحَسَبِ مُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، رَجَعْنَا إِلَى تَقْرِيرِ الدَّعْوَى الْعَامَّةِ بِالطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ.
فَهُوَ كَمَنْ يَقُولُ: كُلُّ حَيَوَانٍ ضَحَّاكٍ، فَإِذَا أُبْطِلَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرِ الْحَيَوَانَاتِ، قَالَ: أَنَا أَرَدْتُ كُلَّ حَيَوَانٍ نَاطِقٍ ضَحَّاكٍ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى تَخْصِيصِ الدَّعْوَى، وَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ.
نَعَمْ لَوْ قَالَ: فِقْهُ مَالِكٍ مَعْلُومٌ، أَوِ الْأَحْكَامُ عِنْدَ مَالِكٍ مَعْلُومَةٌ، ثُمَّ سَلَكَ فِي تَقْرِيرِهِ الطَّرِيقَةَ الْمَذْكُورَةَ، لَاسْتَقَامَ لَهُ، لِأَنَّهُ تَقْرِيرُ خَاصٍّ بِخَاصٍّ.
أَمَّا مَا ذَكَرَهُ تَقْرِيرًا، لِكَوْنِ أَحْكَامِ الْفِقْهِ الْمُطْلَقِ مَعْلُومَةً، فَتَقْرِيرُهُ فِي فَرْضِهِ الْخَاصِّ، وُجُوبُ التَّدْلِيكِ عِنْدَ مَالِكٍ مَعْلُومٌ قَطْعًا، فَيَكُونُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ كَمَا تَرَاهُ.
قَوْلُهُ: «وَعَنِ الثَّالِثِ» ، أَيْ: وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُكُمْ: إِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْفِقْهَ الْعِلْمُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، دَخَلَ فِيهِ الْمُقَلِّدُ، وَإِنْ أُرِيدَ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ، لَمْ يُوجَدْ فِقْهٌ وَلَا فَقِيهٌ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ
لَنَا الْتِزَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، فَإِنِ الْتَزَمْنَا أَنَّ
الْمُرَادَ الْعِلْمُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَالْمُرَادُ الْعِلْمُ بِهَا
بِأَدِلَّتِهَا وَأَمَارَاتِهَا وَوَجْهِ اسْتِفَادَتِهَا مِنْهَا، وَالْمُقَلِّدُ
لَا يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ كَذَلِكَ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِّ،
فَيَكُونُ مَانِعًا. وَإِنِ الْتَزَمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْعِلْمُ بِجَمِيعِ
الْأَحْكَامِ، فَالْمُرَادُ الْعِلْمُ بِجَمِيعِهَا بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ
الْفِعْلِ،
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ تَهَيُّؤُهُ، يَعْنِي تَهَيُّؤَ الْمُجْتَهِدِ لِلْعِلْمِ بِالْجَمِيعِ لِأَهْلِيَّتِهِ لِلِاجْتِهَادِ، لِمَا عِنْدَهُ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ بِمَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ، وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا، وَكَيْفِيَّةِ اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، وَذَلِكَ هُوَ أَصُولُ الْفِقْهِ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ، أَنَّهُ لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ بِالْفِعْلِ، أَعْنِي يَسْتَحْضِرُهَا فِي الْحَالِ، بَلْ بَعْضُهَا بِالْفِعْلِ وَالِاسْتِحْضَارِ، وَبَعْضُهَا بِالْقُوَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهَا بِعَرْضِهَا عَلَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الَّتِي قَدِ اسْتَعَدَّ بِمَعْرِفَتِهَا لِذَلِكَ، وَهُوَ الْقُوَّةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْفِعْلِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعِلْمِ بِهَا الْعِلْمُ بِجَمِيعِهَا بِالْفِعْلِ، فَلَا يَضُرُّ قَوْلُ الْأَئِمَّةَ: لَا نَدْرِي فِي جَوَابِ مَا سُئِلُوا عَنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ قَرِيبًا، أَيْ: عَلَى قُرْبٍ مِنَ الزَّمَانِ. بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ حُكْمٍ لَا يَسْتَحْضِرُهُ قَرِيبًا وَلَا بَعِيدًا، وَهَذَا شَرْحُ قَوْلِهِ:
«وَعَنِ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ إِلَى آخِرِهِ» ، وَرَجَعَ حَاصِلُهُ إِلَى الْأَحْكَامِ بِأَدِلَّتِهَا أَوْ أَمَارَاتِهَا، أَوْ إِلَى تَخْصِيصِ الْعِلْمِ بِمَا كَانَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ.
قُلْتُ: فَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: عَنْ أَدِلَّتِهَا «التَّفْصِيلِيَّةِ لَا فَائِدَةَ لَهُ» لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ لَمْ أُجِبْ عَنْهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْطُرْ لِي عَنْهُ حِينَ الِاخْتِصَارِ جَوَابٌ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ
الْآنَ: أَنَّهُ إِنَّمَا ذُكِرَ عَلَى جِهَةِ التَّبْيِينِ لَا عَلَى جِهَةِ
التَّقْيِيدِ، أَيْ: لَمْ تُقَيَّدِ الْأَدِلَّةُ بِالتَّفْصِيلِيَّةِ،
اعْتِقَادًا بِأَنَّ بَعْضَ الْعُلُومِ تَكُونُ أَدِلَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ
غَيْرَ
تَفْصِيلِيَّةٍ، بَلْ أَرَدْنَا تَبْيِينَ أَنَّ أَدِلَّةَ هَذَا الْعِلْمِ تَفْصِيلِيَّةٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ التَّفْصِيلِ عَنْ أَدِلَّةِ غَيْرِهِ وَلَا إِثْبَاتُهُ.
قَوْلُهُ: «وَلَوْ قِيلَ: ظَنُّ جُمْلَةٍ» أَيْ: لَوْ قِيلَ: الْفِقْهُ: «ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، بِاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ» يَعْنِي مَقْصُودَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ، أَوْ مَقْصُودَ حَدِّ الْفِقْهِ، إِذْ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا، «وَخَفَّ الْإِشْكَالُ» ، لِأَنَّ الْإِشْكَالَ الَّذِي وَرَدَ عَلَى لَفْظِ الْعِلْمِ فِي الْحَدِّ الْأَوَّلِ لَا يَرِدُ هَاهُنَا.
وَكَذَلِكَ السُّؤَالُ الْوَارِدُ عَلَى لَفْظِ «الْأَحْكَامِ» ، هَلِ الْمُرَادُ بَعْضُهَا أَوْ جَمِيعُهَا؟ وَلَا يَرِدُ أَيْضًا، لِقَوْلِنَا: «ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ» ، وَقُلْتُ: خَفَّ الْإِشْكَالُ، وَلَمْ أَقُلْ: زَالَ الْإِشْكَالُ، لِأَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ شَأْنَ الْحَدِّ التَّحْقِيقُ. وَقَوْلُنَا: «ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ» لَيْسَ تَحْقِيقًا، بَلِ الْجُمْلَةُ مَجْهُولَةُ الْكَمِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَيَّدَهَا الْآمِدِيُّ فِي «الْمُنْتَهَى» بِقَوْلِهِ: الْعِلْمُ بِجُمْلَةٍ غَالِبَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ.
وَفِيهِ أَيْضًا إِجْمَالٌ، لِأَنَّ غَلَبَةَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا يُعْلَمُ حَدُّهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: ظَنُّ جُمْلَةٍ غَالِبًا عُرْفًا، وَأَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنِ الشِّرِمْسَاحِيِّ - وَأَظُنُّ أَنِّي رَأَيْتُهُ فِي كِتَابِهِ - أَنَّهُ رَامَ التَّخَلُّصَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِقَوْلِهِ: ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، يَخْرُجُ بِهَا عَنْ عِدَادِ الْعَامَّةِ فِي الْعُرْفِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَا قَبْلَهُ.
________
وَأَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالُوا: الْفِقْهُ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. وَقِيلَ: النَّاسُ، لِيَدْخُلَ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ. وَلَا يَرِدُ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الْبَهِيمَةِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِفِعْلِهَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَالِكِهَا، لَا إِلَيْهَا نَفْسِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَكْثَرُ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالُوا: الْفِقْهُ، مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ» وَهَذِهِ عِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْإِحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ.
وَلَفْظُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي «الرَّوْضَةِ» : الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وَلَمْ يَقْصِدُوا بِذَلِكَ تَحْقِيقَ الْمُتَأَخِّرِينَ، بَلْ أَرَادُوا الْإِشَارَةَ إِلَى حَقِيقَةِ الْفِقْهِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: النَّاسُ» أَيْ: وَقِيلَ: مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ النَّاسِ «لِيَدْخُلَ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ» ، كَالْمَجْنُونِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، كَضَمَانِ إِتْلَافَاتِهِمَا وَغَرَامَاتِهِمَا، إِذْ هُمَا مِنَ النَّاسِ فَيَتَنَاوَلُهُمَا هَذَا التَّعْرِيفُ، وَلَيْسَا مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فَيَخْرُجَانِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
لَكِنَّ هَذَا يَرِدُ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا حَاوَلْنَا إِدْخَالَ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالِهِمَا فِي حَدِّ الْفِقْهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لِأَفْعَالِهِمَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ فَيَكُونَانِ مُكَلَّفَيْنِ.
وَقَدْ يُجَابُ
عَنْهُ: بِأَنَّ تَعَلُّقَ الضَّمَانِ بِأَفْعَالِهِمَا، إِنَّمَا هُوَ
بِالنَّظَرِ إِلَى وَلِيِّهِمَا، كَمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الدَّابَّةِ
بِالنَّظَرِ إِلَى مَالِكِهَا، وَلَيْسَتْ مُكَلَّفَةً، أَوْ أَنَّهُ مِنْ بَابِ
رَبْطِ الْحُكْمِ
بِالسَّبَبِ، كَمَا سَنُقَرِّرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَلَا يَرِدُ مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الْبَهِيمَةِ» أَيْ: لَا يَرِدُ عَلَى قَوْلِنَا: «الثَّابِتَةُ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ أَوِ النَّاسِ» مَا تَعَلَّقَ بِفِعْلِ الْبَهِيمَةِ، كَضَمَانِ مَا أَتْلَفَتْهُ مِنْ زَرْعٍ وَغَيْرِهِ، نَقْضًا، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بِفِعْلِهَا، وَلَيْسَتْ مُكَلَّفَةً، وَلَا مِنَ النَّاسِ «لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِفِعْلِهَا بِالنَّظَرِ إِلَى مَالِكِهَا لَا إِلَيْهَا نَفْسِهَا» فَكَأَنَّهَا كَالْآلَةِ لَهُ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِهَا، وَيَرْجِعُ إِلَى رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ.
وَقَالَ فِي «الْمَحْصُولِ» : الْفِقْهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَى أَعْيَانِهَا بِحَيْثُ لَا نَعْلَمُ كَوْنَهَا مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، وَالسُّؤَالُ عَلَى لَفْظِ الْعِلْمِ قَدْ سَبَقَ وَجَوَابُهُ. وَالْعَمَلِيَّةِ: احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ حُجَّةً، فَإِنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ مِنَ الْفِقْهِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَمَلِيَّةً، أَيْ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِهَا عِلْمًا بِكَيْفِيَّةِ عَمَلٍ. وَالْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَعْيَانِهَا: احْتِرَازٌ مِنْ عِلْمِ الْمُقَلِّدِ لِأَنَّهُ عَنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ، كَمَا سَبَقَ.
خَاتِمَةٌ لِهَذَا الْفَصْلِ: كُنْتُ قَدْ وَعَدْتُ بِذِكْرِ الْعِلْمِ، لِوُقُوعِهِ فِي حَدِّ الْفِقْهِ، وَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ الظَّنُّ وَالْمَعْرِفَةُ أَيْضًا، لِوُقُوعِهِمَا فِي الْحُدُودِ، فَلْنَذْكُرْ ذَلِكَ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّا يَلِيقُ ذِكْرُهُ هَاهُنَا.
فَنَقُولُ: أَمَّا
الْعِلْمُ فَالْكَلَامُ فِي حَدِّهِ وَأَقْسَامِهِ وَمَدَارِكِهِ، أَمَّا حَدُّهُ،
فَقَدْ كَثُرَ لَهَجُ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ بِقَوْلِهِمْ: مَعْرِفَةُ
الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي «الْعُدَّةِ»
وَقَالَ: لَوِ اقْتَصَرْنَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْمَعْلُومِ لَكَفَى، لَأَنَّ
مَعْرِفَتَهُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ
مَعْرِفَةً لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ، وَلَمْ نَقُلِ:
الشَّيْءَ، لِأَنَّ الْمَعْلُومَ
أَعَمُّ، لِتَنَاوُلِهِ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، وَهُوَ مَعْلُومٌ أَيْضًا، أَيْ: يَتَعَلَّقُ بِهِ الْعِلْمُ، وَالشَّيْءُ خَاصٌّ بِالْمَوْجُودِ، فَلَيْسَ الْمَعْدُومُ شَيْئًا عَلَى رَأْيِنَا.
وَأُبْطِلُ هَذَا التَّعْرِيفُ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُرَادِفَةٌ لِلْعِلْمِ، يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ وَعَرَفْتُهُ، بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلِهَذَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الْأَنْفَالِ: 60] ، أَيْ: لَا تَعْرِفُونَهُمْ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمُرَادِفِهِ لَا يَصِحُّ، إِذْ هُوَ تَعْرِيفٌ لَهُ بِنَفْسِهِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعْرِيفٌ دَوْرِيٌّ، لِأَنَّ لَفْظَ الْمَعْلُومِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعِلْمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ، وَهُوَ دَوْرٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْعِلْمُ مَا أَوْجَبَ لِمَنْ قَامَ بِهِ كَوْنَهُ عَالِمًا.
وَهُوَ دَوْرِيٌّ أَيْضًا، لِأَنَّ الْعَالِمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: الْعِلْمُ: مَا أَوْجَبَ لِمَنْ قَامَ بِهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِلْمُ.
وَحُكِيَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْعِلْمُ: هُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: مَعَ سُكُونِ النَّفْسِ إِلَى مُعْتَقَدِهِ.
وَهُوَ بَاطِلٌ، بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا يُسَمَّى اعْتِقَادًا، وَبِاعْتِقَادِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الشَّيْءَ وَيَسْكُنُونَ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَجَهْلًا، وَبِأَنَّ الشَّيْءَ يَخُصُّ الْمَوْجُودَ عِنْدَنَا وَالْمَعْدُومَ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْحَدُّ، فَيَكُونُ غَيْرَ جَامِعٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي «الْوَاضِحِ» : الْعِلْمُ وِجْدَانُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ لِلْأُمُورِ بِحَقَائِقِهَا.
وَفِيهِ مِنَ الْخَلَلِ، أَنَّ لَفْظَ «وِجْدَانُ» مُشْتَرِكٌ أَوْ مُتَرَدِّدٌ، غَيْرَ أَنَّ قَرِينَةَ التَّعْرِيفِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِدْرَاكُ، فَيَقْرُبُ الْأَمْرُ.
وَفِيهِ أَنَّ عِلْمَ الْبَارِئِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَخْرُجُ مِنْهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ نَفْسًا نَاطِقَةً، فَلَوْ قَالَ: وِجْدَانُ النَّفْسِ لِلْأُمُورِ بِحَقَائِقِهَا، لَأَمْكَنَ دُخُولُ عِلْمِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِيهِ، عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [الْمَائِدَةِ: 116] اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَقِيلٍ عَرَّفَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ الْعِلْمَ الْمُحْدَثَ، وَقَدْ بَعُدَ عَهْدِي بِكَلَامِهِ.
وَقَدِ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَدِّ الْعِلْمِ عِبَارَاتٍ.
فَمِنْهُمُ ابْنُ الصَّيْقَلِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ: الْعِلْمُ هُوَ الْقَضَاءُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَا، مَعَ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا قَضَاءً لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ، وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ، وَهَذِهِ عِبَارَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَنْطِقِيِّينَ.
فَقَوْلُهُ: الْقَضَاءُ بِأَنَّ الْأَمْرَ كَذَا، جِنْسُ الْحَدِّ، وَقَوْلُهُ: مَعَ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا، فَصْلٌ يَخْرُجُ بِهِ الظَّنُّ، لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ كَذَا، لَكِنْ مَعَ إِمْكَانِ أَلَّا يَكُونَ، وَقَوْلُهُ: لَا يُمْكِنُ زَوَالُهُ، يَفْصِلُهُ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ الْمُصَمِّمِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ زَوَالُهُ بِالتَّشْكِيكِ أَوْ بِتَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ، وَقَوْلُهُ: وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ، يَفْصِلُهُ عَنِ الْجَهْلِ، لِأَنَّهُ قَضَاءٌ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ.
وَمِنْهُمْ سَيْفُ الدِّينِ الْآمِدِيُّ، قَالَ: الْعِلْمُ، عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا لِنَفْسِ الْمُتَّصِفِ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ تَمْيِيزًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ مُقَابِلِهِ.
وَمِنْهُمُ ابْنُ الْحَاجِبِ، اخْتَصَرَ ذَلِكَ، فَقَالَ: الْعِلْمُ صِفَةٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ.
فَقَوْلُهُ: صِفَةُ،
جِنْسٌ لِلْحَدِّ، يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ، كَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ
وَالْإِرَادَةِ، وَقَوْلُهُ: تُوجِبُ تَمْيِيزًا، أَخْرَجَ جَمِيعَ ذَلِكَ إِلَّا
الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ، لَكِنْ بَقِيَ الْحَدُّ مُتَنَاوِلًا لِلظَّنِّ
وَالشَّكِّ وَالْوَهْمِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا صِفَاتٌ تُوجِبُ تَمْيِيزًا،
فَبِقَوْلِهِ: لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، خَرَجَ ذَلِكَ، وَبَقِيَ الْحَدُّ
مُسْتَقِلًّا بِصِفَةِ الْعِلْمِ.
وَالَّذِي فُهِمَ مِنْ كَلَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِي أَثْنَاءِ تَقْسِيمِ ذِكْرِهِ: أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْحُكْمُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِمُوجَبٍ.
فَالْحُكْمُ، هُوَ إِسْنَادُ الذِّهْنِ أَمْرًا إِلَى آخَرَ بِإِيجَابٍ أَوْ سَلْبٍ، كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ أَوْ لَيْسَ بِقَدِيمٍ، وَالْجَازِمُ: الْقَاطِعُ الَّذِي لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الظَّنُّ وَالشَّكُّ وَالْوَهْمُ، وَالْمُطَابِقُ: الْمُوَافِقُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ غَيْرِهِ: وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ كَذَلِكَ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْجَازِمُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَلَيْسَ فِيهَا، وَقَوْلُهُ: لِمُوجَبٍ، أَيْ: لِمُدْرَكٍ، اسْتَنَدَ الْحُكْمُ إِلَيْهِ مِنْ عَقْلٍ أَوْ حِسٍّ أَوْ مَا تَرَكَّبَ مِنْهُمَا، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنِ اعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ الْمُطَابِقِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ جَازِمٌ مُطَابِقٌ وَلَيْسَ بِعِلْمٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمُوجِبٍ.
هَذَا مَا اتَّفَقَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفِيهِ لِلنَّاسِ غَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا أَقْسَامُ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ إِلَى قَدِيمٍ، وَهُوَ مَا لَا أَوَّلَ لَهُ، وَهُوَ عِلْمُ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَهُوَ عِلْمٌ وَاحِدٌ لَيْسَ بِعَرَضٍ وَلَا ضَرُورِيٍّ، يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَإِلَى مُحْدَثٍ، وَهُوَ مَالَهُ أَوَّلٌ، وَهُوَ عِلْمُ مَنْ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى تَصَوُّرٍ، وَهُوَ إِدْرَاكُ الْحَقَائِقِ مُجَرَّدَةً عَنِ الْأَحْكَامِ، وَقِيلَ: حُصُولُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ.
وَإِلَى تَصْدِيقٍ، وَهُوَ نِسْبَةٌ حُكْمِيَّةٌ بَيْنَ الْحَقَائِقِ بِالْإِيجَابِ أَوِ السَّلْبِ، وَقِيلَ: إِسْنَادُ أَمْرٍ إِلَى آخَرَ إِيجَابًا أَوْ سَلْبًا، كَقَوْلِنَا: الْعِلْمُ حَسَنٌ، أَوْ لَيْسَ بِقَبِيحٍ، وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ
مِنَ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ، إِمَّا بَدَهِيٌّ غَنِيٌّ عَنِ الْكَسْبِ،
كَتَصَوُّرِنَا مَعْنَى
النَّارِ، وَأَنَّهَا حَارَّةٌ، وَمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَإِمَّا كَسْبِيٌّ، كَتَصَوُّرِنَا مَعْنَى الْمَلَكِ، وَأَنَّهُ مِنْ نُورٍ، وَمَعْنَى الْجِنِّيِّ، وَأَنَّهُ مِنْ نَارٍ.
وَأَمَّا مَدَارِكُ الْعِلْمِ، وَهِيَ الطُّرُقُ الَّتِي يُدْرَكُ بِهَا، فَهِيَ عَلَى تَعَدُّدِهَا، إِمَّا حِسٌّ أَوْ عَقْلٌ أَوْ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا.
وَالْحِسُّ: إِمَّا بَاطِنٌ، وَهُوَ الْوِجْدَانُ، كَمَا يَجِدُهُ الْحَيُّ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَوَارِضِ النَّفْسِ، وَإِمَّا ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ: السَّمْعُ، وَالْبَصَرُ، وَالشَّمُّ، وَالذَّوْقُ، وَاللَّمْسُ.
وَالْعَقْلُ: غَرِيزَةٌ طَبَعِيَّةٌ يُدْرَكُ بِهَا الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةُ، وَقِيلَ: عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ، وَهِيَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ، وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ، وَقِيلَ: جَوْهَرٌ بَسِيطٌ يُدْرِكُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَطَلْتُ الْقَوْلَ فِيهِ لَفْظًا وَمَعْنًى فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» وَهَلْ مَحَلُّهُ الرَّأْسُ أَوِ الْقَلْبُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلنَّاسِ، وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ فِي الرَّأْسِ، وَهَلْ يَخْتَلِفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: نَعَمْ، لِأَنَّ كَمَالَ الشَّيْءِ وَنَقْصَهُ يُعْرَفُ بِكَمَالِ آثَارِهِ وَأَفْعَالِهِ وَنَقْصِهَا، وَنَحْنُ نُشَاهِدُ قَطْعًا تَفَاوُتَ آثَارِ الْعُقُولِ فِي الْآرَاءِ وَالْحِكَمِ وَالْحِيَلِ وَنَحْوِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ الْعُقُولِ نَفْسِهَا، وَأَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ أَقَلُّ عَقْلًا مِنْ فُلَانٍ، أَوْ أَكْمَلُ عَقْلًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَحَكَوْا عَنِ
الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَقْلَ حُجَّةٌ
عَامَّةٌ يَرْجِعُ إِلَيْهَا النَّاسُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَوْ تَفَاوَتَتِ
الْعُقُولُ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ السَّفْسَطَةُ،
إِذْ كَانَ يَتَّسِعُ لِبَعْضِ النَّاسِ إِذَا أُلْزِمَ أَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ،
أَوِ اسْتِحَالَةِ
اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، أَنْ يَقُولَ: أَنْتُمْ تُدْرِكُونَ ذَلِكَ وَأَنَا لَا أُدْرِكُهُ، وَلَمَّا رَأَيْنَا الْحُجَّةَ تَقُومُ مُطْلَقًا عَلَى عُمُومِ النَّاسِ، عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى هَذِهِ الْقَضَايَا، عَلِمْنَا اسْتِوَاءَ النَّاسِ فِي الْعُقُولِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُجَّةَ قَوِيَّةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ مَوْرِدُهُ وَاحِدًا، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، أَنَّ الْعَقْلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: طَبْعِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ فِي الْعُقَلَاءِ، وَكَسْبِيٌّ تَجْرِيبِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ.
وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أَنَّ الْعَقْلَ الطَّبِيعِيَّ يَتَنَاهَى إِلَى سَبْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَالتَّجْرِيبِيَّ لَا يَتَنَاهَى إِلَّا بِالْمَوْتِ.
ثُمَّ الْعَقْلُ، تَارَةً يُصَدِّقُ بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ تَصَوُّرِ طَرَفَيْ قَضِيَّتِهِ، كَقَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَهِيَ الْبَدِيهِيَّاتُ وَالضَّرُورِيَّاتُ، وَتَارَةً يَحْتَاجُ فِي التَّصْدِيقِ إِلَى وَاسِطَةِ النَّظَرِ، كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ، فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْوَاسِطَةِ، فَنَقُولُ: الْعَالَمُ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ، وَهِيَ النَّظَرِيَّاتُ، وَيَنْتَهِي إِلَى الضَّرُورِيَّاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُصَدِّقْ بِأَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ، وَصَدَّقَ بِأَنَّهُ مُؤَلَّفٌ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَهُ مُشَاهَدٌ، وَصَدَّقَ بِأَنَّ الْمُؤَلَّفَ مُحْدَثٌ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا، إِذِ الْمُحْدَثُ مَا لَهُ أَوَّلٌ، وَالْمُؤَلَّفُ مِنْ ضَرُورَتِهِ التَّأْلِيفُ، وَقَبْلَ تَأْلِيفِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَلَّفًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الْمُؤَلَّفَ لَهُ أَوَّلٌ، فَيَكُونُ مُحْدَثًا.
وَالْمُرَكَّبُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، كَالْمُتَوَاتِرَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ حِسِّ السَّمْعِ وَالْعِلْمِ بِالْعَقْلِ أَنَّ عَدَدَ التَّوَاتُرِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ عَادَةً، وَكَالتَّجْرِيبِيَّاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ التَّجْرِبَةِ، وَالْعِلْمُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الِاتِّفَاقَ لَا يَكُونُ مُطَّرِدًا وَلَا أَكْثَرِيًّا، وَبَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى الْقَضَايَا وَأَنْوَاعِهَا مَوْضِعُهُ كُتُبُ الْمَنْطِقِ.
وَأَمَّا الظَّنُّ، فَهُوَ رُجْحَانُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَإِنْ شِئْتَ فَقُلْ: هُوَ الْحُكْمُ الرَّاجِحُ غَيْرُ الْجَازِمِ، وَسَنُدْرِجُهُ فِي تَقْسِيمٍ حَاصِرٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ، بَلْ وَبَعْضِ الْأُصُولِيَّةِ، كَقَوْلِنَا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْفَوْرِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ قَائِلَ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ بِهِ، بَلْ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ.
وَأَمَّا الْمَعْرِفَةُ، فَقِيلَ: هِيَ الْعِلْمُ، لِمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ تَعْرِيفِ الْعِلْمِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَسْتَدْعِي سَابِقَةَ جَهْلٍ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ، وَلِهَذَا لَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ، فَلَا يُقَالُ: عَرَفَ اللَّهُ كَذَا، فَهُوَ عَارِفٌ، بِخِلَافِ عَلِمَ فَهُوَ عَالِمٌ، وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: غَيْرُ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: حُكْمُ الْعَقْلِ بِأَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ، إِمَّا جَازِمٌ أَوْ غَيْرُ جَازِمٍ، وَالْجَازِمُ إِمَّا غَيْرُ مُطَابِقٍ، وَهُوَ الْجَهْلُ الْمُرَكَّبُ، أَوْ مُطَابِقٌ، وَهُوَ إِمَّا لِغَيْرِ مُوجِبٍ، وَهُوَ التَّقْلِيدُ، كَاعْتِقَادِ الْعَوَامِّ، أَوْ لِمُوجِبٍ، وَهُوَ إِمَّا عَقْلٌ وَحْدَهُ أَوْ حِسٌّ أَوْ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا، فَالْعَقْلِيُّ إِنِ اسْتَغْنَى عَنِ الْكَسْبِ، فَهُوَ الْبَدِيهِيُّ، وَإِلَّا فَهُوَ النَّظَرِيُّ.
وَالْحِسِّيُّ وَحْدَهُ: هُوَ الْمَحْسُوسَاتُ الْخَمْسُ، وَالْوِجْدَانِيَّاتُ مِنْهَا كَمَا سَبَقَ، أَوْ مُلْحَقَةٌ بِهَا لِاشْتِبَاهِهِمَا، إِذْ يُقَالُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَحْسَسْتُ بِكَذَا، وَأَنَا أُحِسُّ بِكَذَا.
وَالْمُرَكَّبُ مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ: هُوَ الْقَضَايَا الْمُتَوَاتِرَاتُ وَالتَّجْرِيبِيَّاتُ وَالْحَدْسِيَّاتُ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ غَيْرُ الْجَازِمِ، فَإِنِ اسْتَوَى طَرَفَاهُ، أَيْ: تَرَدَّدَ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ فَهُوَ شَكٌّ، وَإِلَّا، فَالرَّاجِحُ ظَنٌّ، وَالْمَرْجُوحُ وَهْمٌ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ ذِكْرُ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ الْحُكْمُ الْجَازِمُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ، وَالْجَهْلُ الْبَسِيطُ هُوَ عَدَمُ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ.
فَإِذَا قِيلَ
لِلْفَقِيهِ أَوْ غَيْرِهِ مَثَلًا: هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ
عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ؟ فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ، كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا بَسِيطًا.
وَلَوْ قَالَ: لَا يَجُوزُ، كَانَ جَهْلًا مُرَكَّبًا، لِأَنَّهُ تَرَكَّبَ مِنْ
عَدَمِ الْفُتْيَا بِالْحُكْمِ الصَّحِيحِ، وَمِنَ الْفُتْيَا بِالْحُكْمِ
الْبَاطِلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
شرح مختصر الروضة
الْفَصْلُ الثَّانِي
فِي التَّكْلِيفِ
وَهُوَ لُغَةً: إِلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، أَيْ مَشَقَّةٌ.
وَشَرْعًا: قِيلَ: الْخِطَابُ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ. إِلَّا أَنْ نَقُولَ: الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ عَلَى رَأْيٍ مَرْجُوحٍ، فَتَرِدُ عَلَيْهِ طَرْدًا وَعَكْسًا. فَهُوَ إِذَنْ إِلْزَامُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ. وَلَهُ شُرُوطٌ، يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِالْمُكَلَّفِ، وَبَعْضُهَا بِالْمُكَلَّفِ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ فِي الْمُخْتَصَرِ: «الْفَصْلُ الثَّانِي فِي التَّكْلِيفِ. وَهُوَ لُغَةً» ، أَيْ: فِي اللُّغَةِ «إِلْزَامُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ أَيْ: مَشَقَّةٌ» .
قُلْتُ: إِلْزَامُ الشَّيْءِ وَالْإِلْزَامُ بِهِ: هُوَ تَصْيِيرُهُ لَازِمًا لِغَيْرِهِ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ مُطْلَقًا أَوْ وَقْتًا مَا.
قَالَ
الْجَوْهَرِيُّ: وَالْكُلْفَةُ مَا يَتَكَلَّفُهُ مِنْ نَائِبَةٍ أَوْ حَقٍّ،
وَكَلَّفَهُ تَكْلِيفًا: إِذَا أَمَرَهُ بِمَا يَشُقُّ. قُلْتُ: هَذَا تَعْرِيفٌ
لُغَوِيٌّ بِنَاءً عَلَى مَا اشْتُهِرَ مِنْ حَقِيقَةِ الْكُلْفَةِ،
وَتَعْرِيفُهَا الصِّنَاعِيُّ قَدْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: كَلَّفَهُ، أَيْ:
أَمَرَهُ بِمَا يَشُقُّ، فَهِيَ إِذًا كَمَا قُلْنَاهُ: إِلْزَامُ مَا يَشُقُّ.
وَالشِّقُّ وَالْمَشَقَّةُ وَاحِدٌ، وَهُوَ لُحُوقُ مَا يُسْتَصْعَبُ بِالنَّفْسِ،
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النَّحْلِ: 7] . وَأَنْشَدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ مُسْتَشْهِدًا عَلَى التَّكْلِيفِ قَوْلَ الْخَنْسَاءِ فِي أَخِيهَا صَخْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ:
يُكَلِّفُهُ الْقَوْمُ مَا نَابَهُمْ ... وَإِنْ كَانَ أَصْغَرَهُمْ مَوْلِدَا
أَيْ: يُلْزِمُونَهُ ذَلِكَ بِحُكْمِ رِئَاسَتِهِ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» أَيْ: وَالتَّكْلِيفُ شَرْعًا، أَيْ: فِي الشَّرْعِ، «قِيلَ: الْخِطَابُ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ» .
هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَإِنَّمَا قُلْتُ فِيهِ: قِيلَ، لِمَا ذَكَرْتَهُ بَعْدُ مِنَ التَّفْصِيلِ، فَإِنَّهُ عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ يَكُونُ مَنْقُوضًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» أَيْ تَعْرِيفُ التَّكْلِيفِ بِمَا ذُكِرَ «صَحِيحٌ، إِلَّا أَنْ نَقُولَ: الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ عَلَى رَأْيٍ مَرْجُوحٍ، فَتَرِدُ عَلَيْهِ» يَعْنِي: تَرِدُ الْإِبَاحَةُ عَلَى تَعْرِيفِ التَّكْلِيفِ الْمَذْكُورِ «طَرْدًا وَعَكْسًا» أَيْ: مِنْ جِهَةِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ.
قُلْتُ: قَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي الْإِبَاحَةِ، هَلْ هِيَ تَكْلِيفٌ أَمْ لَا؟ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَتْ تَكْلِيفًا، صَحَّ تَعْرِيفُ التَّكْلِيفِ بِمَا ذُكِرَ، فَيَكُونُ كُلُّ تَكْلِيفٍ خِطَابًا بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، وَكُلُّ خِطَابٍ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ تَكْلِيفًا.
وَإِنْ قُلْنَا: الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ، انْتَقَضَ التَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ بِهَا مِنْ جِهَةِ الطَّرْدِ، وَهُوَ وُجُودُ الْحَدِّ بِدُونِ الْمَحْدُودِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلَّمَا وُجِدَ الْخِطَابُ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، وُجِدَ التَّكْلِيفُ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} [الْأَعْرَافِ: 31] {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الْأَحْزَابِ: 53] {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [الْمَائِدَةِ: 2] ، وَنَحْوُهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، خِطَابٌ بِأَمْرٍ، وَلَيْسَ تَكْلِيفًا.
وَكَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَكْسِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْمَحْدُودِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَدِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلَّمَا انْتَفَى الْخِطَابُ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، انْتَفَى التَّكْلِيفُ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ قَدْ يَنْتَفِي، وَيَكُونُ التَّكْلِيفُ مَوْجُودًا فِي الْمُبَاحَاتِ، إِذْ حَقِيقَةُ الْإِبَاحَةِ، التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ، نَحْوَ إِنْ شِئْتَ فَافْعَلْ، وَإِنْ شِئْتَ لَا تَفْعَلْ. وَحَقِيقَةُ التَّخْيِيرِ، غَيْرُ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
فَإِذَا قُلْنَا: الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ، فَقَدْ صَحَّ وُجُودُ التَّكْلِيفِ مَعَ انْتِفَاءِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
تَنْبِيهٌ: اطِّرَادُ الْحَدِّ، كَوْنُهُ جَامِعًا لِأَجْزَاءِ الْمَحْدُودِ، وَانْعِكَاسُهُ، كَوْنُهُ مَانِعًا. فَمَعْنَى كَوْنِهِ مُطَّرِدًا مُنْعَكِسًا، هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ جَامِعًا مَانِعًا.
فَإِذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، هُوَ مُطَّرِدٌ، لِأَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ، وُجِدَ الْإِنْسَانُ، وَمُنْعَكِسٌ، لِأَنَّهُ حَيْثُ انْتَفَى الْحَيَوَانُ النَّاطِقُ، انْتَفَى الْإِنْسَانُ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: هُوَ جَامِعٌ، لِأَنَّهُ جَمَعَ أَجْزَاءَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهُ، وَهُوَ مَانِعٌ، لِأَنَّهُ مَنَعَ شَيْئًا مِنْ أَجْزَاءِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ.
وَالِاطِّرَادُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّرْدِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: طَرَدْتُ الْإِبِلَ طَرْدًا وَطَرَدًا، أَيْ: ضَمَمْتُهَا مِنْ نَوَاحِيهَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: اطَّرَدَ الْأَمْرُ، أَيِ: اسْتَقَامَ، وَاطَّرَدَ الشَّيْءُ: تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي اطِّرَادِ الْحَدِّ، لِأَنَّهُ يَضُمُّ أَجْزَاءَ الْمَحْدُودِ وَيَجْمَعُهَا، وَيَتْبَعُ الْمَحْدُودَ، بِحَيْثُ يُوجَدُ حَيْثُ وُجِدَ، وَيَسْتَقِيمُ بِذَلِكَ وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الِانْعِكَاسُ: فَهُوَ انْفِعَالٌ مِنَ الْعَكْسِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ رَدُّكَ آخِرَ الشَّيْءِ إِلَى أَوَّلِهِ، وَالْعَكْسُ فِي الِاصْطِلَاحِ، أَعَمُّ مِنْ هَذَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا: إِذَا وُجِدَ وُجِدَ.
قُلْتُ: وَإِذَا انْتَفَى، فِيهِ مَعْنَى الْعَكْسِ، لِأَنَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَالْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «فَهُوَ إِذًا» أَيْ: فَالتَّكْلِيفُ إِذًا «إِلْزَامُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ» ، أَيْ حَيْثُ قُلْنَا: الْإِبَاحَةُ تَكْلِيفٌ، وَوَرَدَتْ نَقْضًا عَلَى حَدِّ التَّكْلِيفِ بِأَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ.
فَحَدُّهُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا يَنْتَقِضُ بِالْإِبَاحَةِ، هُوَ قَوْلُنَا: إِلْزَامُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْإِبَاحَةَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إِنْ شِئْتَ افْعَلْ وَإِنْ شِئْتَ لَا تَفْعَلْ، لِأَنَّهَا خِطَابُ الشَّرْعِ، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ خِطَابُ الشَّرْعِ.
فَالتَّكْلِيفُ: إِلْزَامُ مُقْتَضَى هَذَا الْخِطَابِ، وَهُوَ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ الْحَاصِلَيْنِ عَنِ الْأَمْرِ، وَالْحَظْرُ وَالْكَرَاهَةُ الْحَاصِلَيْنِ عَنِ النَّهْيِ، وَالْإِبَاحَةُ الْحَاصِلَةُ عَنِ التَّخْيِيرِ، كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: مُقْتَضَى الْإِبَاحَةِ لَا يَلْزَمُ، قُلْنَا: يَأْتِي جَوَابُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَلَهُ شُرُوطٌ» أَيْ: لِلتَّكْلِيفِ شُرُوطٌ «يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِالْمُكَلَّفِ» وَهُوَ الْعَاقِلُ الْمُخَاطَبُ، «وَبَعْضُهَا بِالْمُكَلَّفِ بِهِ» وَهُوَ الْفِعْلُ الْمُسْتَدْعَى بِالْخِطَابِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ، فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: مِنْ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ: الْعَقْلُ، وَفَهْمُ الْخِطَابِ. فَلَا تَكْلِيفَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ، لِعَدَمِ الْمُصَحِّحِ لِلِامْتِثَالِ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَصْدُ الطَّاعَةِ. وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ وَالْغَرَامَاتِ فِي مَالَيْهِمَا، غَيْرُ وَارِدٍ، إِذْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ، كَوُجُوبِ الضَّمَانِ بِبَعْضِ أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «أَمَّا الْأَوَّلُ» يَعْنِي الْمُتَعَلِّقَ مِنَ الشُّرُوطِ بِالْمُكَلَّفِ «فَفِيهِ مَسَائِلُ» :
«الْأُولَى: مِنْ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ الْعَقْلُ وَفَهْمُ الْخِطَابِ» ، أَيْ: يَكُونُ عَاقِلًا يَفْهَمُ الْخِطَابَ، وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَقْلِ فَهْمُ الْخِطَابِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ، كَالصَّبِيِّ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْعُقَلَاءِ مُطْلَقًا، أَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَهُمَا لَا يَفْهَمَانِ.
قَوْلُهُ: «فَلَا تَكْلِيفَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ» هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْعَقْلُ وَالْفَهْمُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ، فَلَا تَكْلِيفَ عَلَى صَبِيٍّ، لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ، وَلَا مَجْنُونٍ، لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «لِعَدَمِ الْمُصَحِّحِ لِلِامْتِثَالِ مِنْهُمَا، وَهُوَ قَصْدُ الطَّاعَةِ» . أَيْ: إِنَّ مُقْتَضَى التَّكْلِيفِ: الِامْتِثَالُ، وَهُوَ قَصْدُ الطَّاعَةِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيِّ تَحْقِيقًا لِامْتِحَانِ الْمُكَلَّفِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هُودٍ: 7] .
وَشَرْطُ كَوْنِ
الِامْتِثَالِ طَاعَةً، قَصْدُهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، رَغْبَةً
وَرَهْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَهَذَا الْقَصْدُ، هُوَ
الْمُصَحِّحُ لِكَوْنِ الِامْتِثَالِ طَاعَةً، وَهُوَ
مَفْقُودٌ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَفْهَمَانِ، وَمَنْ لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ، لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ قَصْدُ مُقْتَضَاهُ.
قَوْلُهُ: «وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ وَالْغَرَامَاتِ فِي مَالِهِمَا، غَيْرُ وَارِدٍ، إِذْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ، كَوُجُوبِ الضَّمَانِ بِبَعْضِ أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ» .
هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ، إِذَا كَانَا غَيْرَ مُكَلَّفَيْنِ فَلِمَ أَوْجَبْتُمُ الزَّكَاةَ، وَغَرَامَةَ مَا أَتْلَفَاهُ فِي مَالِهِمَا؟ وَالزَّكَاةُ وَالْغَرَامَاتُ إِنَّمَا ثَبَتَا بِخِطَابِ الشَّرْعِ، وَقَدْ ثَبَتَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا مُخَاطَبَيْنِ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ وَالْغَرَامَاتِ فِي مَالِهِمَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ الْخِطَابِيِّ لَهُمَا، إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِأَسْبَابِهَا، كَمَا أَنَّ الْبَهِيمَةَ إِذَا أَتْلَفَتْ زَرْعًا بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ بِتَفْرِيطِ صَاحِبِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الضَّمَانِ بِأَفْعَالِ الْبَهَائِمِ، ضَمِنَ صَاحِبُهَا، مَعَ أَنَّ الْبَهِيمَةَ لَيْسَتْ مُخَاطَبَةً، وَلَا مُكَلَّفَةً بِالْإِجْمَاعِ.
وَمَعْنَى رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ: أَنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ أَسْبَابًا تَقْتَضِي أَحْكَامًا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ فِي خَلْقِهِ، وَلِمُرَاعَاةِ مَصَالِحِهِمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ، لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا تَكْلِيفٌ وَلَا عِلْمٌ، حَتَّى كَأَنَّ الشَّرْعَ قَالَ: إِذَا وَقَعَ الشَّيْءُ الْفُلَانِيُّ فِي الْوُجُودِ، فَاعْلَمُوا أَنِّي حَكَمْتُ بِكَذَا، كَالْمَوْتِ مَثَلًا، إِذْ هُوَ سَبَبُ انْتِقَالِ مَالِ الْمَيِّتِ إِلَى وَارِثِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا أَوْ غَيْرَ عَاقِلٍ، عَالِمًا أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ، مُخْتَارًا أَوْ غَيْرَ مُخْتَارٍ، فَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إِلَيْهِ قَهْرًا حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، لَهُ عِتْقٌ عَلَيْهِ، وَلَوْ بَاعَ مَالَ مُوَرِّثِهِ يَعْتَقِدُ حَيَاتَهُ، فَبَانَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَيْعِ مَيِّتًا، صَحَّ الْبَيْعُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَكَذَلِكَ حَوَلَانُ الْحَوْلِ عَلَى اللُّقَطَةِ إِذَا عُرِّفَتْ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُلْتَقِطِ لَهَا قَهْرًا، وَتَنَصُّفُ الْمَهْرِ بَعْدَ قَبْضِ الزَّوْجَةِ لَهُ، سَبَبٌ لِمِلْكِ الزَّوْجِ لِنِصْفِهِ قَهْرًا، كَالْإِرْثِ، إِذْ لَوْ كَانَ الصَّدَاقُ بَاقِيًا نَصَّفْتَهُ عَلَى خِلَافٍ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ.
وَشِرَاءُ الْمُضَارِبِ زَوْجَةَ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْهُ، سَبَبٌ لِفَسْخِ النِّكَاحِ وَالْعِتْقِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ.
وَإِحْبَالُ الْأَمَةِ سَبَبٌ لِصَيْرُورَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ مَجْنُونًا.
وَإِعْسَارُ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ، سَبَبٌ لِفَسْخِ النِّكَاحِ، حَيْثُ يُقَالُ بِهِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا.
وَهُوَ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ، الْآتِي ذِكْرُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَذَلِكَ مَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَضَعَهُ الشَّرْعُ سَبَبًا لِتَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ، وَالْمُخَاطَبُ بِالْإِخْرَاجِ الْوَلِيُّ. وَكَذَلِكَ إِتْلَافَاتُهُمَا سَبَبٌ لِتَعَلُّقِ الضَّمَانِ بِمَالِهِمَا، وَإِتْلَافُ الْبَهِيمَةِ لِمَا أَتْلَفَتْهُ سَبَبٌ لِضَمَانِ مَالِكِهَا، وَهُوَ الْمُخَاطَبُ.
تَنْبِيهٌ: مَأْخَذُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، هُوَ تَرَدُّدُ الزَّكَاةِ بَيْنَ كَوْنِهَا عِبَادَةً، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا، لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا، كَالصَّلَاةِ، أَوْ مُؤْنَةً مَالِيَّةً، فَتَجِبُ فِي مَالِهِمَا، كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ
فِيهَا الشَّائِبَتَيْنِ، أَمَّا شَائِبَةُ الْعِبَادَةِ، فَبِدَلِيلِ أَنَّ
النِّيَّةَ تَجِبُ فِيهَا،
حَتَّى لَوْ أُخْرِجَتْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ مِنَ الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ، لَمْ تَقَعِ الْمَوْقِعَ، وَإِذَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ قَهْرًا مِنَ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا، أَجْزَأَتْ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِهَا ثَانِيًا، لَا بِمَعْنَى بَرَاءَةِ عُهْدَتِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا شَائِبَةُ النَّفَقَةِ الْمَالِيَّةِ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ مَصْرِفَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَصْنَافِ، فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ نَفَقَةَ الْفُقَرَاءِ بِقَرَابَةِ الْإِسْلَامِ، فَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الزَّكَاةِ حِكْمَتَانِ ظَاهِرَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: فِي مَصْدَرِهَا، وَهُمُ الْأَغْنِيَاءُ، بِالِابْتِلَاءِ بِبَذْلِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ فِي طَاعَةِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ.
وَالثَّانِيَةُ: فِي مَوْرِدِهَا، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ، بِإِقَامَةِ أَوَدِهِمْ مِنْ جِهَةِ الْأَغْنِيَاءِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: الْفُقَرَاءُ عِيَالُ الْأَغْنِيَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلْقَهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ كِفَايَتَهُمْ فِي مَالِ الْأَغْنِيَاءِ، لَكِنَّ الْأَغْنِيَاءَ ضَيَّقُوا عَلَى الْفُقَرَاءِ، إِمَّا بِمَنْعِ مَا يَجِبُ، أَوْ بِأَخْذِ مَا لَا يُسْتَحَقُّ.
وَإِذَا ثَبَتَ
تَرَدُّدُ الزَّكَاةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالنَّفَقَةِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ
غَلَّبَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَغَيْرُهُ غَلَّبَ مَعْنَى النَّفَقَةِ، وَهُوَ
الْأَظْهَرُ، لِأَنَّا نَقُولُ: بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِي نَظَرِ
الشَّارِعِ فِيهَا الْعِبَادَةَ، يَتَضَرَّرُ الصَّبِيُّ بِإِيجَابِهَا فِي مَالِهِ، إِذْ يُوجِبُ فِي مَالِهِ مَالٌ لَا يَلْزَمُهُ.
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ فِيهَا النَّفَقَةَ، يَتَضَرَّرُ الْفُقَرَاءُ بِمَنْعِهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَإِذَا تَعَارَضَ الضَّرَرُ، فَمُرَاعَاةُ جَانِبِ الْفُقَرَاءِ أَوْلَى، لِأَنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنَ الْمَالِ، وَالْبَاقِي أَكْثَرُ، وَقَدْ رَاعَى الْعُلَمَاءُ جَانِبَهُمْ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ بَابِ الزَّكَاةِ، كَضَمِّ أَنْوَاعِ الْجِنْسِ مِنَ الْمَالِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ، وَفِي الْإِخْرَاجِ بِالْوَزْنِ أَوْ بِالْقِيمَةِ، وَفِي تَقْوِيمِ الْعُرُوضِ بِمَا هُوَ أَحَظُّ لَهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِهِمَا، وَإِتْلَافِ كُلِّ مُخْطِئٍ، وَإِتْلَافِ الْبَهِيمَةِ لِلْأَمْوَالِ، فَأَصْلُهُ أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّكْلِيفِ وَالْعَدْلِ، وَبَابُهُمَا مُخْتَلِفٌ، كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي «الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى» .
وَمِنَ الْعَدْلِ، أَلَّا تَذْهَبَ حُقُوقُ النَّاسِ الْمَالِيَّةُ هَدْرًا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لِمَا عُلِمَ مِنْ وَضْعِ أَمْرِهِمْ عَلَى الْفَقْرِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى قِوَامِ الْمَعَاشِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ سَبَبًا لِاسْتِدْرَاكِ الضَّرَرِ الْمَالِيِّ، وَإِنْ صَدَرَتْ عَنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ، تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْقَاعِدَةُ الشَّرْعِيَّةُ، أَنَّ الْعُقُوبَاتِ لَا تُنَاسِبُ إِلَّا مَنْ قَصَدَ انْتِهَاكَ الْمَحَارِمِ، وَالْمُخْطِئُ وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَنْتَهِكْ حُرْمَةً حَتَّى يُعَاقَبَ عَلَيْهَا بِالْغَرَامَةِ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ، لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ زَاجِرٌ، وَالضَّمَانُ جَابِرٌ، وَلِهَذَا لَمْ تَتَدَاخَلْ، بِخِلَافِ بَعْضِ الزَّوَاجِرِ، كَالْحُدُودِ، فَإِنَّهَا تَتَدَاخَلُ، فَعَلَى هَذَا وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ، زَاجِرٌ تَرَتَّبَ عَلَى خِطَابٍ تَكْلِيفِيٍّ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ، جَابِرٌ تَرَتَّبَ عَلَى خِطَابٍ وَضْعِيٍّ سَبَبِيٍّ، وَكَذَلِكَ الْحَدُّ عَلَى الزِّنَى بِالْمُكْرَهَةِ، زَاجِرٌ، وَوُجُوبُ الْمَهْرِ لَهَا وَلِلْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ جَابِرٌ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ.
الثَّانِي: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمَانَ عُقُوبَةٌ، وَأَنَّ عَدَمَ انْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ يَقْتَضِي دَفْعَهَا، غَيْرَ أَنَّ هَذَا يُعَارِضُهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ الضَّمَانِ مِنْ تَضَرُّرِ الْإِنْسَانِ، لِفَوَاتِ عَيْنِ مَالِهِ، فَرَجَّحَ الشَّارِعُ هَذَا الْمُعَارِضَ، وَتَرَكَ لَهُ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي بَابِ الْعُقُوبَاتِ، وَجَعَلَهُ عَدْلًا عَامًّا بَيْنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَارَةً يَكُونُ مُتْلِفًا، فَيَضْمَنُ، وَتَارَةً يَكُونُ مُتْلَفًا لَهُ، فَيَأْخُذُ، وَتَارَةً تُتْلِفُ دَابَّتُهُ مَالَ غَيْرِهِ فَيَضْمَنُ لَهُ، وَتَارَةً تُتْلِفُ دَابَّةُ غَيْرِهِ مَالَهُ فَيُضْمَنُهُ، فَكَانَ هَذَا أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ حُقُوقِ النَّاسِ، لِمُرَاعَاةِ قَاعِدَةٍ مُنَاسِبَةٍ لَا يَضُرُّ انْخِرَامُهَا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ. ___________
وَفِي تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ، قَوْلَانِ: الْإِثْبَاتُ، لِفَهْمِهِ الْخِطَابَ. وَالْأَظْهَرُ النَّفْيُ، إِذْ أَوَّلُ وَقْتٍ يَفْهَمُ فِيهِ الْخِطَابَ، غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَنُصِبَ لَهُ عَلَمٌ ظَاهِرٌ يُكَلَّفُ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْبُلُوغُ.
وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهِ، وَصِحَّةِ وَصِيَّتِهِ وَعِتْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَطَلَاقِهِ وَظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ وَنَحْوِهَا، مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَفِي تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ، قَوْلَانِ» عَنْ أَحْمَدَ:
«الْإِثْبَاتُ» أَيْ: أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ، إِثْبَاتُ تَكْلِيفِهِ، لِأَنَّهُ يَفْهَمُ الْخِطَابَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مُمَيِّزًا، لِأَنَّهُ يُمَيِّزُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، خَيْرًا وَشَرًّا، وَجَيِّدًا وَرَدِيئًا.
وَالتَّمْيِيزُ: التَّخْلِيصُ وَالتَّفْصِيلُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «اللُّمَعِ» : التَّمْيِيزُ: تَخْلِيصُ الْأَجْنَاسِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَيُقَالُ: مَيَّزْتُ هَذَا مِنْ هَذَا، أَيْ: أَفْرَزْتُهُ عَنْهُ، وَفَصَلْتُهُ مِنْهُ، فَإِذَا فَهِمَ الْمُمَيِّزُ الْخِطَابَ، كَانَ مُكَلَّفًا، كَالْبَالِغِ.
«وَالْأَظْهَرُ» يَعْنِي مِنَ الْقَوْلَيْنِ، «النَّفْيُ» يَعْنِي: نَفْيَ تَكْلِيفِ الْمُمَيِّزِ، «إِذْ أَوَّلُ وَقْتٍ يَفْهَمُ فِيهِ الْخِطَابَ، غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَنُصِبَ لَهُ عَلَمٌ ظَاهِرٌ يُكَلَّفُ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْبُلُوغُ» .
قُلْتُ: هَذَا
تَوْجِيهٌ ظَاهِرٌ، وَأَزِيدُهُ كَشْفًا بِأَنْ نَقُولَ: الْعَقْلُ قُوَّةٌ
غَرِيزِيَّةٌ، يُدْرَكُ بِهَا الْكُلِّيَّاتُ وَغَيْرُهَا، وَهُوَ يُوجَدُ
بِوُجُودِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ يَتَزَايَدُ بِتَزَايُدِ الْبَدَنِ تَزَايُدًا تَدْرِيجِيًّا
خَفِيًّا عَنِ الْحِسِّ، كَتَزَايُدِ الْأَجْسَامِ النَّبَاتِيَّةِ
وَالْحَيَوَانِيَّةِ فِي النَّمَاءِ، وَضَوْءُ الصُّبْحِ، وَظِلُّ الشَّمْسِ،
وَنَحْوُهَا مِنَ الْمُتَزَايِدَاتِ الْخَفِيَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ
عَلَى أَوَّلِ
وَقْتٍ يُفْهَمُ فِيهِ الْخِطَابُ، فَجَعَلَ الشَّرْعُ بُلُوغَهُ عَلَمًا ظَاهِرًا عَلَى أَهْلِيَّتِهِ لِلتَّكْلِيفِ، وَضَابِطًا لَهُ.
وَعَلَامَاتُ الْبُلُوغِ: الِاحْتِلَامُ، أَوِ الْإِنْبَاتُ، أَوِ اسْتِكْمَالُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، كَمَا ذُكِرَ فِي الْفِقْهِ، يَعْنِي مِنْ أَحْكَامِهِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا.
قَوْلُهُ: «وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهِ، وَصِحَّةِ وَصِيَّتِهِ وَعِتْقِهِ، وَتَدْبِيرِهِ وَطَلَاقِهِ، وَظِهَارِهِ وَإِيلَائِهِ، وَنَحْوِهَا» يَعْنِي: مِنْ أَحْكَامِهِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا «مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ» ، أَيْ: عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ، أَوْ لَا.
وَكُلُّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ عَلَى تَفَاصِيلَ ذُكِرَتْ فِي الْفِقْهِ، فَإِنْ ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّ الْخِلَافَ فِيهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، فَقَدْ تَبِعَتِ الْفُرُوعُ أَصْلَهَا وَلَا كَلَامَ، وَإِنْ ثَبَتَ فِي حَقِّهِ شَيْءٌ مِنْهَا، مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ، كَمَا سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ وَالْغَرَامَةِ فِي مَالِهِ. _______________
الثَّانِيَةُ: لَا تَكْلِيفَ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِعَدَمِ الْفَهْمِ. وَمَا ثَبَتَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ، كَغَرَامَةٍ، وَنُفُوذِ طَلَاقٍ، فَسَبَبِيٌّ، كَمَا سَبَقَ. فَأَمَّا {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ، إِمَّا عَلَى مَعْنَى: لَا تَسْكَرُوا ثُمَّ تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، أَوْ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَبَادِي النَّشَاطِ وَالطَّرَبِ وَلَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَكْلِيفُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ:
قَوْلُهُ: «الثَّانِيَةُ» ، أَيِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ، «لَا تَكْلِيفَ عَلَى النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَالسَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، لِعَدَمِ الْفَهْمِ» يَعْنِي: لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ لِلْخِطَابِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِجَامِعِ عَدَمِ الْفَهْمِ، وَإِنِ افْتَرَقُوا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، مِثْلُ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ، لَا يَسْتَدْرِكَانِ مَا تَرَكَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، فَإِنَّهُمْ يَقْضُونَ مَا فَاتَهُمْ مِنْهَا، لَسَبْقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ.
تَنْبِيهٌ: عَدَمُ
الْفَهْمِ فِي هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ مُخْتَلِفٌ، فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ،
لَا يُدْرِكَانِ مَعْنَى كَلَامِ الشَّرْعِ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَبِالْأَصَالَةِ،
لِأَنَّ عَقْلَهُ الَّذِي يَفْهَمُ ذَلِكَ بِهِ لَمْ يَكْمُلْ بِحَيْثُ يَقْوَى
عَلَى الْإِدْرَاكِ، وَأَمَّا الْمَجْنُونُ، فَبِعَارِضٍ قَوِيٍّ قَهْرِيٍّ،
وَهُوَ الْجُنُونُ، وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ، عَدَمُ فَهْمِهِ لِعَارِضٍ،
لَكِنَّهُ اخْتِيَارِيٌّ، فَلِذَلِكَ اخْتُلِفَ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، هَلْ
هُوَ كَالصَّاحِي أَوْ كَالْمَجْنُونِ؟ وَالنَّائِمُ، عَدَمُ فَهْمِهِ لِعَارِضٍ
طَبِيعِيٍّ، وَهُوَ النَّوْمُ، أَمَّا النَّاسِي، فَيُخَالِفُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ
فِي السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، أَمَّا السَّبَبُ، فَلِأَنَّ سَبَبَ عَدَمِ
فَهْمِهِ عَارِضٌ ضَرُورِيٌّ خَفِيفٌ أَخَفُّ مِنْ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ،
لِأَنَّهُ يُذَكَّرُ بِكَلِمَةٍ، فَيَذَّكَّرُ، بِخِلَافِ النَّائِمِ
وَالسَّكْرَانِ. وَأَمَّا فِي الْمُسَبَّبِ - وَهُوَ عَدَمُ الْفَهْمِ -
فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي غَيْرِهِ عَدَمُ الْإِدْرَاكِ، بِحَيْثُ لَوْ خُوطِبَ أَحَدُهُمْ بِخِطَابِ الشَّرْعِ لَمْ يَفْهَمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي النَّاسِي، انْقِطَاعُ اتِّصَالِ ذِكْرِهِ لِلتَّكْلِيفِ فَقَطْ، بِحَيْثُ لَوْ سَهَا عَنِ الصَّلَاةِ، فَقِيلَ لَهُ: صَلِّ، أَوْ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَنَحْوُهُ، سَمِعَ وَفَهِمَ وَتَذَكَّرَ، وَهَذَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمُسْقِطَاتِ لِلتَّكْلِيفِ، وَهُوَ الْكَافِي مِنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَرْطَ تَوْجِيهِ التَّكْلِيفِ، ذِكْرُ الْإِنْسَانِ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا.
وَشَرْطُ الشَّيْءِ، يَجِبُ دَوَامُهُ وَاتِّصَالُهُ، كَاسْتِصْحَابِ حُكْمِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَنَحْوِهِ، فَمَتَى انْقَطَعَ اتِّصَالُهُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، زَالَ التَّكْلِيفُ لِزَوَالِ شَرْطِهِ، كَمَا لَوِ انْقَطَعَتْ نِيَّةُ الْوُضُوءِ أَوِ الصَّلَاةِ أَوِ الصَّوْمِ فِي أَثْنَائِهَا، أَوْ زَالَ قَبْضُ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّهْنِ فِي وَقْتٍ مَا، زَالَ لُزُومُهُ الَّذِي الْقَبْضُ شَرْطٌ لَهُ. فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: هَؤُلَاءِ لَا يُكَلَّفُونَ، لِأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ، فَهُوَ مُلَاحَظَةٌ لِأَمْرٍ تَقْدِيرِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ خِطَابَ الشَّارِعِ فِي تَقْدِيرِ التَّجَدُّدِ عِنْدَ بُلُوغِ كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَعِنْدَ تَكْلِيفِهِ بِكُلِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، لِأَنَّ أَسْبَابَ الْأَحْكَامِ الْمُتَكَرِّرَةِ هِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْخِطَابِ بِمُسَبَّبَاتِهَا، عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ، وَسَنُقَرِّرُهُ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَالْمُكَلَّفُ كُلَّ يَوْمٍ، هُوَ مُخَاطَبٌ فِي التَّقْدِيرِ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ. عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا بِخِطَابٍ مُقَدَّرٍ مُتَجَدِّدٍ، وَالْأُمُورُ التَّقْدِيرِيَّةُ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، قَالُوا: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَفْهَمُونَ الْخِطَابَ، أَيْ: لَوْ أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ الْمُقَدَّرَ خُوطِبُوا بِهِ الْآنَ تَحْقِيقًا، لَمْ يَفْهَمُوهُ، إِلَّا النَّاسِيَ بِوَاسِطَةِ التَّذَكُّرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ.
قَوْلُهُ: «وَمَا
ثَبَتَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ» يَعْنِي: أَحْكَامَ النَّائِمِ وَالنَّاسِي
وَالسَّكْرَانِ، «كَغَرَامَةٍ، وَنُفُوذِ طَلَاقٍ، فَسَبَبِيٌّ» .
هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُكَلَّفِينَ، لَمَا ثَبَتَتْ أَحْكَامُهُمْ، كَالْغَرَامَاتِ عَنِ الْجِنَايَاتِ، كَالنَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى مَالٍ فَيُتْلِفُهُ، أَوْ إِنْسَانٍ فَيَقْتُلُهُ، وَنُفُوذُ الطَّلَاقِ، وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ فِي حَقِّهِمْ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ، بَلْ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ، «كَمَا سَبَقَ» فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: الْغَرَامَةُ لَازِمَةٌ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِيمَا جَنَوْهُ عَلَى الْأَمْوَالِ، وَفِيمَا يُوجِبُهَا، كَقَتْلِ الْخَطَأِ، تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ كَمَا سَبَقَ.
أَمَّا الطَّلَاقُ، فَلَا يَقَعُ مِنَ النَّائِمِ، لِأَنَّ شَرْطَهُ قَصْدُ الْإِيقَاعِ، وَلَا قَصْدَ لِلنَّائِمِ، بَلْ كَلَامُهُ فِي مَنَامِهِ، كَكَلَامِ الْمُبَرْسَمِ فِي بِرْسَامِهِ.
أَمَّا النَّاسِي وَالسَّكْرَانُ، فَفِي طَلَاقِهِمَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي النَّاسِي قَوْلَانِ، وَفِي السَّكْرَانِ أَقْوَالٌ، ثَالِثُهَا الْوَقْفُ، وَالْمَشْهُورُ بَيْنَ الْأَصْحَابِ فِيهِمَا، الْوُقُوعُ، وَالْأَشْبَهُ عَدَمُهُ، لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُكَلَّفَيْنِ، وَلَا عِبَادَةَ لِغَيْرِ مُكَلَّفٍ.
فَإِنْ جَعَلُوا الْوُقُوعَ فِيهِمَا سَبَبًا، عَارَضَهُمْ فِي النَّاسِي قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَفِي السَّكْرَانِ - حَيْثُ قَالُوا: يَقَعُ طَلَاقُهُ عُقُوبَةً لَهُ، لِأَنَّهُ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ - أَنَّهُمْ قَدْ عَاقَبُوهُ بِإِيجَابِ الْحَدِّ فِي الدُّنْيَا، وَجَعْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْجِنَايَةُ شَرْعًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ عُقُوبَتَانِ.
وَقَوْلُنَا: مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، احْتِرَازٌ مِنْ قَتْلِ الْمُحْرِمِ صَيْدًا مَمْلُوكًا، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْقِيمَةُ لِحَقِّ الْمَالِكِ، فَهُمَا جِهَتَانِ.
قَوْلُهُ: «فَأَمَّا {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} » [النِّسَاءِ: 43] ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: إِنَّ قَوْلَكُمْ: إِنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، يَرُدُّهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النِّسَاءِ: 43] وَهُوَ خِطَابٌ لِلسُّكَارَى، وَلَا يُخَاطِبُ الشَّارِعُ إِلَّا مُكَلَّفًا، فَالسَّكْرَانُ مُكَلَّفٌ، وَجَوَابُهُ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، تَأْوِيلُهَا وَاجِبٌ، وَلَهَا تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ
مَعْنَاهُ: «لَا تَسْكَرُوا ثُمَّ تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ» ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] ، أَيِ:
اسْتَمِرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَوْتُ، وَقَوْلُنَا: لَا
تَقْرَبِ التَّهَجُّدَ وَأَنْتَ شَبْعَانُ، أَيِ: اسْتَمِرَّ عَلَى خِفَّةِ
الْبَدَنِ، حَتَّى تَقُومَ لِلتَّهَجُّدِ، فَكَذَلِكَ الْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ:
اسْتَمِرُّوا عَلَى الصَّحْوِ حَتَّى تَدْخُلُوا الصَّلَاةَ، وَتَفْرَغُوا
مِنْهَا، وَلَا تَدْخُلُوهَا سُكَارَى، فَتَضْطَرِبَ عَلَيْكُمْ صَلَاتُكُمْ.
وَحَاصِلُ هَذَا، أَنَّهُمْ خُوطِبُوا فِي حَالِ الصَّحْوِ، بِأَنْ لَا تَقْرَبُوا
الصَّلَاةَ سُكَارَى، لَا أَنَّهُمْ خُوطِبُوا حَالَ السُّكْرِ، وَهَذَا أَوْضَحُ
فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنْتُمْ سُكَارَى، جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ، أَيْ:
فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا، فَالسُّكْرُ
مُتَعَلِّقٌ بِقُرْبَانِ الصَّلَاةِ، لَا بِخِطَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لِلْمُصَلِّينَ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ تَقْدِيرُ
الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنْتُمْ سُكَارَى - أَيْ أَدْعُوكُمْ وَأُخَاطِبُكُمْ وَأَنْتُمْ سُكَارَى - لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ، وَلَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ خِلَافُ ذَلِكَ ظَاهِرَ الْكَلَامِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ خِلَافَ صَرِيحِهِ وَنَصِّهِ الْقَاطِعِ.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَنْبَغِي أَنَّ يُسَمَّى هَذَا الْوَجْهُ تَأْوِيلًا، بَلْ هُوَ مَنْعٌ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ لِلسُّكَارَى، بَلْ لِلصُّحَاةِ، بِأَنْ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ سُكَارَى، وَفِي حَالِ السُّكْرِ يَنْقَطِعُ عَنْهُمُ الْخِطَابُ.
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ خِطَابٌ لِلسُّكَارَى، فَالْمُرَادُ مِنْهُمْ «مَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَبَادِي النَّشَاطِ وَالطَّرَبِ، وَلَمْ يَزُلْ عَقْلُهُ» ، وَهَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الثَّانِي «جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ» . أَيْ: يَجِبُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعًا، أَيْ: لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَهِيَ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي أَشْعَرَتْ بِخِطَابِ السَّكْرَانِ، وَعَدَمِ الْفَهْمِ، الَّذِي دَلَّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ خِطَابِهِ، وَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ وَحَمْلُهَا عَلَى مَا يُوَافِقُهُ مُتَعَيِّنًا لِتَعَذُّرِ الْعَكْسِ، إِذِ الْقَاطِعُ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ.
تَنْبِيهٌ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَابِ الْآيَةِ، كَانَ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَتِ الْخَمْرُ مُبَاحَةً، أَمَّا الْآنَ، فَقَدْ حُرِّمَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْهَا وَمَبَادِيهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا مَعَ وُضُوحِهِ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّشْأَةِ، حَيْثُ يَرَى النَّاسَ يَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى مَنْ وُجِدَتْ مِنْهُ مَبَادِي النَّشَاطِ وَالطَّرَبِ، فَيَظُنُّ ذَلِكَ مُبَاحًا أَوْ مُخْتَلَفًا فِيهِ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ دَاوُدَ الظَّاهِرِيَّ يَقُولُ بِطَهَارَتِهَا، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ
(1/192)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَرَى إِبَاحَتَهَا، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْهُمْ فِي كِتَابِ «مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ» ، فَتَقْوَى الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِهِ.
وَالنَّشَاطُ: خِفَّةٌ فِي الْبَدَنِ تَكُونُ عِنْدَ سُرُورِ النَّفْسِ وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ.
وَالطَّرَبُ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ خِفَّةٌ تُصِيبُ الْإِنْسَانَ، لِشِدَّةِ حُزْنٍ أَوْ سُرُورٍ.
قُلْتُ: وَهُوَ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ مُخْتَصٌّ بِمَا كَانَ عَنْ سُرُورٍ، وَهُوَ مِمَّا حَرَّفُوهُ، وَكَانَ عَامًّا فَخَصُّوهُ، كَالْمَأْتَمِ: هُوَ اسْمٌ لِجَمْعِ النِّسَاءِ، فِي فَرَحٍ أَوْ حُزْنٍ، فَخَصُّوهُ بِالْحُزْنِ.
(1/193)
________________________________________
الثَّالِثَةُ: الْمُكْرَهُ، قِيلَ: إِنْ بَلَغَ بِهِ الْإِكْرَاهُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ، فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ مُكَلَّفٌ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
لَنَا: عَاقِلٌ قَادِرٌ يَفْهَمُ، فَكُلِّفَ كَغَيْرِهِ. وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، أَوِ الصَّلَاةِ فَصَلَّى، قِيلَ: أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ. ثُمَّ إِنْ قَصَدَ التَّقِيَّةِ كَانَ عَاصِيًا، وَإِلَّا كَانَ مُطِيعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الثَّالِثَةُ» ، أَيِ: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ «الْمُكْرَهِ، قِيلَ: إِنْ بَلَغَ بِهِ الْإِكْرَاهُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ، فَلَيْسَ بِمُكَلَّفٍ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: هُوَ مُكَلَّفٌ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ» .
قُلْتُ: حَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ حَيْثُ النَّقْلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا مُطْلَقًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ مُطْلَقًا.
الثَّالِثُ: إِنْ بَلَغَ بِهِ الْإِكْرَاهُ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَصِحَّ مِنْهُ التَّرْكُ، كَمَنْ أُلْقِيَ مِنْ شَاهِقٍ عَلَى إِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ، أَوْ مَالٍ فَأَتْلَفَهُ، أَوْ صَائِمٌ أُلْقِيَ مَكْتُوفًا فِي الْمَاءِ فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ وَنَحْوُهُ لَمْ يُكَلَّفْ، وَإِلَّا كُلِّفَ.
وَهَذَا التَّفْصِيلُ حَكَاهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي «الْوَاضِحِ» عَنْ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ، وَقَدْ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ.
وَالْإِلْجَاءُ إِلَى الشَّيْءِ: الِاضْطِرَارُ إِلَيْهِ.
وَإِنَّمَا قُلْتُ: «الْمُكْرَهُ، قِيلَ: إِنْ بَلَغَ بِهِ» إِلَى آخِرِهِ، لِأَنِّي أَخْتَارُ عَدَمَ تَكْلِيفِهِ مُطْلَقًا، كَمَا ذَكَرْتُ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا حَكَيْتُ فِي أَوَّلِهَا مَا عَلِمْتُهُ قِيلَ فِيهَا.
(1/194)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا» هَذَا شُرُوعٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى لِسَانِ أَصْحَابِنَا، أَيْ: لَنَا، أَنَّ الْمُكْرَهَ «عَاقِلٌ قَادِرٌ يَفْهَمُ، فَكُلِّفَ، كَغَيْرِهِ» أَيْ: كَغَيْرِ الْمُكْرَهِ، وَحَاصِلُهُ، أَنَّهُ قِيَاسٌ لِلْمُكْرَهِ عَلَى الْمُخْتَارِ، بِجَامِعِ الْعَقْلِ وَالْقُدْرَةِ.
قَوْلُهُ: «وَإِذَا أُكْرِهَ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ ثَانٍ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ إِذَا أُكْرِهَ «عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، أَوِ الصَّلَاةِ فَصَلَّى، قِيلَ» يَعْنِي: فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَغَيْرِهِ: قَدْ «أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ» فَيُسَمَّى مَا أَدَّاهُ مُكْرَهًا تَكْلِيفًا.
قَوْلُهُ: ثُمَّ إِنْ قَصَدَ التَّقِيَّةَ إِلَى آخِرِهِ. هَذَا بِمَثَابَةِ تَحْقِيقِ الدَّلِيلِ، وَدَفْعِ الشُّبْهَةِ عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بِوُقُوعِ الِاصْطِلَاحِ عَلَى قَوْلِنَا: أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ، حَصَلَ لَنَا الْمَقْصُودُ مِنْ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا.
أَمَّا كَوْنُهُ مُطِيعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ غَيْرَ مُطِيعٍ، فَذَاكَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْحُكْمِ بِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا ظَاهِرًا.
أَمَّا كَوْنُهُ مُطِيعًا أَوْ عَاصِيًا، فَنَقُولُ: إِنْ قَصَدَ التَّقِيَّةَ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، يَعْنِي أَنَّهُ إِنَّمَا أَسْلَمَ أَوْ صَلَّى اتِّقَاءً لِلْقَتْلِ، لَا انْقِيَادًا بِالْبَاطِنِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ، كَانَ عَاصِيًا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ تَقِيَّةً، بَلْ إِيمَانًا وَانْقِيَادًا صَحِيحًا خَالِصًا، كَانَ مُطِيعًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
(1/195)
________________________________________
قَالُوا: الْإِكْرَاهُ يُرَجِّحُ فِعْلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَجِبُ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ غَيْرُهُ فَهُوَ كَالْآلَةِ، فَالْفِعْلُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُكْرَهِ. وَتَرْجِيحُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ بَقَاءَ نَفْسِهِ يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، فَلِذَلِكَ يُقْتَلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ مِنْ مَنْعِ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ «الْإِكْرَاهَ يُرَجِّحُ فِعْلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ» وَإِذَا رَجَّحَ مِنْهُ فِعْلَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، صَارَ وَاجِبًا، «لَا يَصِحُّ مِنْهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ كَالْآلَةِ» ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ وَنَحْوِهِمَا، مِمَّا يُقْتَلُ بِهِ، وَالْفِعْلُ مَنْسُوبٌ إِلَى الْمُكْرِهِ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - وَإِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ - بِفَتْحِهَا - كَالْآلَةِ، لَمْ يَجُزْ تَكْلِيفُهُ، كَمَا لَا تُكَلَّفُ الْآلَاتُ.
قُلْتُ: هَذَا تَقْرِيرٌ ظَاهِرٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُمْ: صَارَ الْفِعْلُ مِنْهُ وَاجِبًا، لَا يَصِحُّ مِنْهُ غَيْرُهُ:
إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُلْجَأُ إِلَى الْفِعْلِ، كَالْمُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ، فَهُوَ وَاضِحٌ.
وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُهُ، كَالْمُكْرَهِ بِضَرْبٍ وَنَحْوِهِ، لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُوبُ الْفِعْلِ عَقْلًا، لِجَوَازِ أَنْ يَحْتَمِلَ الضَّرْبَ وَالْحَبْسَ وَلَا يَفْعَلَ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ شَرْعًا، بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ رَفَعَ الضِّرَارَ، وَأَقَامَ الْأَعْذَارَ، حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النَّحْلِ: 106] ، فَأَجَازَ الْإِقْدَامَ عَلَى التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّفْسِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ: «وَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» .
(1/196)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ، دَفْعُ ضَرَرِ الضَّرْبِ وَنَحْوِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِإِجَابَةِ الْمُكْرِهِ لَهُ إِلَى مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا سَلَكَ طَرِيقَ الرُّخْصَةِ وَالْجَوَازِ الْمَذْكُورِ، صَارَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا وَاجِبًا، أَيْ: رَاجِحَ الْوُقُوعِ شَرْعًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ الرُّخْصَةِ الْمَذْكُورَةِ إِلَّا بِالْإِجَابَةِ، فَصَارَتْ مِمَّا لَا تَتِمُّ الرُّخْصَةُ إِلَّا بِهِ، فَكَانَتْ - أَعْنِي الْإِجَابَةَ - رُخْصَةً رَاجِحَةَ الْوُقُوعِ شَرْعًا، لِتَوَقُّفِ حُصُولِ الرُّخْصَةِ الْمَقْصُودَةِ - وَهِيَ دَفْعُ الضَّرَرِ - عَلَيْهَا. فَهَذَا تَحْقِيقٌ لَا يُغْفَلُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «وَتَرْجِيحُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ بَقَاءَ نَفْسِهِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَرَدٌّ عَلَى دَلِيلِ الْمَانِعِينَ لِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ.
وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا، لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْقَتْلِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَلَمَا أَثِمَ بِفِعْلِهِ، وَلَمَا وَجَبَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ بِهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّرْكُ، وَيَأْثَمُ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا.
(1/197)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ تَرْجِيحَهُ بَقَاءُ نَفْسِهِ، يُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، فَلَا يَكُونُ مُكْرَهًا، وَبَيَانُهُ: أَنَّ أَعْظَمَ مَا يَكُونُ بِهِ الْإِكْرَاهُ الْقَتْلُ، بِأَنْ يُقَالَ لِزَيْدٍ مَثَلًا: إِنْ قَتَلْتَ عَمْرًا وَإِلَّا قَتَلْنَاكَ، فَيَقَعُ التَّعَارُضُ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ فَيَسْلَمَ، أَوْ يَمْتَنِعَ فَيُقْتَلُ، فَقَدْ دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ تَفْوِيتِ نَفْسِهِ وَنَفْسِ غَيْرِهِ، وَهُمَا سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدْلِ الشَّرْعِ، فَإِذَا أَقْدَمَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَقَدْ رَجَّحَ بَقَاءَ نَفْسِهِ عَلَى فَوَاتِهَا وَبَقَاءَ نَفْسِ غَيْرِهِ، فَصَارَ مُخْتَارًا، وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ زَيْنَبَ، فَطَلَّقَ عَمْرَةَ، أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِدَرَاهِمَ، فَأَقَرَّ بِدَنَانِيرَ، أَوْ بِالْعَكْسِ فِيهِمَا، فَإِنَّ طَلَاقَهُ وَإِقْرَارَهُ يَصِحُّ، لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ فِي صُورَةِ الْقَتْلِ أَوْلَى بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ رُجْحَانِ حُرْمَةِ الدِّمَاءِ عَلَى الْأَمْوَالِ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ بِهَذَا أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْقَتْلِ، يَخْرُجُ بِهِ حَدُّ الْإِكْرَاهِ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ يَصِيرُ عِنْدَ الْقَتْلِ مُخْتَارًا لَا مُكْرَهًا، فَلِذَلِكَ يُقْتَلُ.
(1/198)
________________________________________
وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ، مَنْ رَآهَا خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ بِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، إِذْ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ وَاجِبَةٌ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالتَّكْلِيفُ بِإِيجَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْهَا وَتَركِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَهَذَا أَبْلَغُ. وَمَنْ لَا، فَلَا. وَالْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ الظَّاهِرُ، يَقْتَضِي عَدَمَ تَكْلِيفِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ» . هَذَا مَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ اسْتَخْرَجْتُهُ أَنَا بِالنَّظَرِ، وَهُوَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، يُنَاسِبُ بِنَاؤُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ، «فَمَنْ رَآهَا خَلْقَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» اتَّجَهَ لَهُ أَنْ يَقُولَ «بِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ» لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الْمَخْلُوقَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِهِ، كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ «رَدِّ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْعَالَ تَصِيرُ بِخَلْقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهَا وَاجِبَةً، صَارَ التَّكْلِيفُ بِهَا مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، سَوَاءً كَانَ التَّكْلِيفُ بِإِيجَادِ مَأْمُورٍ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، أَوْ بِتَرْكِ مَنْهِيٍّ، كَالزِّنَى وَالرِّبَا، لِأَنَّ مَا اسْتَقَلَّتْ قُدْرَةُ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ بِخَلْقِهِ وَإِيجَادِهِ، كَانَ تَأْثِيرُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فِيهِ تَحْصِيلًا لِلْحَاصِلِ، وَإِيجَادًا لِلْمَوْجُودِ، وَخَلْقًا لِلْمَخْلُوقِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ سَائِرَ التَّكْلِيفِ الْإِنْسَانِيِّ تَكْلِيفٌ بِغَيْرِ مَقْدُورٍ، فَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِي الْمُكْرَهِ: إِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ، فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَخَلْقِهِ، فَلْيَصِحَّ هَاهُنَا أَيْضًا، لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرِهِ جَمِيعًا
(1/199)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَخْلُوقٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَهَذَا أَبْلَغُ» يَعْنِي: أَنَّ تَكْلِيفَ الْعَبْدِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ أَنَّ أَفْعَالَهُ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لَهُ، أَبْلَغُ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِمَّا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَقْلًا بِاحْتِمَالِ أَلَمِ الْإِكْرَاهِ، وَقَدْ شُوهِدَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ مِمَّا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَمَنْ لَا، فَلَا» ، أَيْ: وَمَنْ لَا يَرَى أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَمْ يَرَ تَكْلِيفَ الْمُكْرَهِ، لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ، لَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، تَحْقِيقًا لِعَدْلِهِ، إِذْ لَوْ خَلَقَهَا، ثُمَّ عَاقَبَ عَلَيْهَا، كَانَ ذَلِكَ جَوْرًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِهِمْ تَقْرِيرُ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ كُلَّهُ بِغَيْرِ مَقْدُورٍ، فَيَلْحَقُ بِهِ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى.
وَذَكَرَ الْكِنَانِيُّ لِلْمَسْأَلَةِ مَأْخَذًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ فِي التَّخْوِيفِ وَالْإِكْرَاهِ مَا يَتَضَمَّنُ ضَرُورِيَّةَ الْفِعْلِ لِدَاعٍ، أَيْ: مَا يَقْتَضِي اضْطِرَارَ الْمُكْرَهِ إِلَى الْفِعْلِ لِدَاعِي الطَّبْعِ، أَمْ لَا؟
قُلْتُ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ وُقُوعُهُ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَالْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ الظَّاهِرُ يَقْتَضِي عَدَمَ تَكْلِيفِهِ» يَعْنِي تَكْلِيفَ الْمُكْرَهِ مُطْلَقًا، أَمَّا الَّذِي بَلَغَ إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ، فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمُكْرَهُ بِمُطْلَقِ الْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا عُرِّفَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ فَلِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ وَاجِبٌ مِنْهُ شَرْعًا، فَفِي الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِهِ إِضْرَارٌ بِهِ، وَتَضْيِيقٌ لِمَا وَسَّعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ
(1/200)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيُرْوَى: عُفِيَ لِأُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: «وَالْعَدْلُ الشَّرْعِيُّ الظَّاهِرُ» إِشَارَةٌ إِلَى سِرِّ الْقَدَرِ وَنُكْتَتِهِ الَّتِي تَاهَتْ فِيهَا الْعُقُولُ، وَتَقْرِيرُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي خَلْقِهِ تَصَرُّفَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: تَكْوِينِيٌّ بِحُكْمِ إِيجَادِهِ وَاخْتِرَاعِهِ لَهُمْ، فَبِذَلِكَ التَّصَرُّفِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ وَغَيْرِهِ، وَ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 23] ، وَهُوَ عَدْلٌ بَاطِنٌ، لِمَا سَنُقَرِّرُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالتَّصَرُّفُ الثَّانِي: تَكْلِيفِيٌّ بِحُكْمِ اسْتِدْعَائِهِ مِنْهُمُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي.
فَفِي هَذَا التَّصَرُّفِ، سَلَكَ مَعَهُمْ مَسْلَكَ أَهْلِ الْعَدْلِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، فَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ مُحَالًا فِي الظَّاهِرِ، بَلْ أَزَاحَ جَمِيعَ عِلَلِهِمْ، حَتَّى إِنَّ الْمَرْأَةَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهَا الْمَحْرَمُ، فَلَا يُوجَبُ عَلَيْهَا الْحَجُّ، وَالرَّجُلُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَحْمَلٌ يَسْوي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُ الْحَجِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّخْفِيفَاتِ، وَلَمْ يُوجَدْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَلَا الْأُصُولِ إِلَّا مَسْأَلَةَ خَلْقِ الْأَفْعَالِ، وَهِيَ مِنَ التَّصَرُّفِ الْأَوَّلِ، لَا مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ. وَهَذَا هُوَ الْعَدْلُ الظَّاهِرُ، فَمُقْتَضَاهُ: أَنْ لَا يُكَلَّفَ الْمُكْرَهُ، لِأَنَّهُ كَالْآلَةِ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ غَيْرُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْإِسْرَاءِ: 15] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ تَقْرِيرِ نُكْتَةِ الْقَدَرِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ بِمَا كَانَ،
(1/201)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَا يَكُونُ، وَبِمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْخَلْقَ مُسْتَقِلِّينَ بِأَفْعَالِهِمْ خَلْقًا وَإِيجَادًا، لَكَانُوا كَمَا هُمُ الْآنَ، طَائِعٌ وَعَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ. فَعَلِمَ أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَكُونُ كَافِرًا، وَأَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَكُونُ مُؤْمِنًا، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْحَالَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِقْلَالِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ، وَإِجْبَارِهِمْ عَلَيْهَا بِسِرِّ الْقَدَرِ سَوَاءٌ، رَجَّحَ جَانِبَ ضَبْطِ الْوُجُودِ، وَتَعْمِيمِ الْمَوْجُودَاتِ بِالْإِسْنَادِ إِلَى خَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَعَلَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الْأَنْفَالِ: 23] ، إِلَى هَذَا، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ هَذَا الْكَلَامَ وَغَيْرَهُ فِي كِتَابِ «رَدِّ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .
وَحَاصِلُ هَذَا: أَنَّ سِرَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِخَلْقِهِ، بِسِرِّ الْقَدَرِ فِي الْبَاطِنِ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ عَدْلٌ بَاطِنٌ، وَإِزَاحَتُهُ لِعِلَلِهِمْ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ ظَاهِرًا عَدْلٌ ظَاهِرٌ، فَالْوَاجِبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الْعَدْلِ الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا. أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْأَفْعَالِ، إِذَا كَانَتِ التَّكَالِيفُ بِأَسْرِهَا غَيْرَ مَقْدُورَةٍ، فَلْيَكُنِ الْمُكْرَهُ مُكَلَّفًا، لِأَنَّ غَايَةَ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا بِغَيْرِ مَقْدُورٍ، فَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إِنْ كَلَّفَ خَلْقَهُ بِمَا لَيْسَ مَقْدُورًا لَهُمْ، فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى تَصَرُّفِهِ الْكَوْنِيِّ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ خَاصٌّ بِهِ، لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ حَتَّى يَلْحَقَ الْمُكْرَهُ بِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ - أَعْنِي مَسْأَلَةَ تَكْلِيفِ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ - أَصْلٌ لِأَحْكَامِ
(1/202)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَفْعَالِهِمَا، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَمَنْ قَالَ بِتَكْلِيفِهِمَا، رَتَّبَ عَلَى أَفْعَالِهِمَا أَحْكَامَ التَّكْلِيفِ الْخِطَابِيِّ، فَيُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِالْكَلَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ مُنَافِيَاتِهَا، نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ وَالْإِحْرَامَ، وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ كَذَلِكَ، وَيَلْزَمُ الْحِنْثُ فِي الْأَيْمَانِ، وَالطَّلَاقُ مَعَ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِتَكْلِيفِهِمَا، مِنْهُمْ مَنْ طَرَدَ أَصْلَهُ، وَأَلْغَى أَفْعَالَهُمَا، فَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهَا تَكْلِيفًا، لَا أَقُولُ عَدْلِيًّا، إِذْ قَدْ فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا. أَعْنِي: بَيْنَ التَّكْلِيفِ وَالْعَدْلِ فِيمَا سَبَقَ. فَلَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا، ضَمِنَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَتَّبَ عَلَى أَفْعَالِهِمَا أَحْكَامَ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ، وَجَعَلَهَا مِنْ بَابِ رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْأَسْبَابِ، فَكَلَامُهُمَا فِي الصَّلَاةِ سَبَبُ بُطْلَانِهَا. وَوَطْؤُهُمَا فِي الصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ سَبَبُ بُطْلَانِهِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِهِ، وَالْحِنْثُ مِنْهُمَا، سَبَبٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَوُجُوبِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: وَإِضَافَةُ الطَّلَاقِ إِلَى مَحَلِّهِ سَبَبٌ لِوُقُوعِهِ، كَقَوْلِ الْمُكْرَهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، يَقَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا أُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَى، فَزَنَتْ، لَمْ تُحَدَّ، وَإِنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ، لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا بِجَامِعِ الْإِكْرَاهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُحَدُّ، فَرْقًا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّجُلَ فَاعِلٌ، وَالْمَرْأَةُ مَحَلٌّ لِلْفِعْلِ، وَبِأَنَّهُ لَوْلَا الدَّاعِي الِاخْتِيَارِيُّ لَمَا انْتَشَرَتْ آلَتُهُ لِلْفِعْلِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النُّورِ: 2] فَأَضَافَ الْفِعْلَ إِلَيْهِمَا، وَبَدَأَ
(1/203)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِذِكْرِهَا، فَحَظُّهَا مِنَ الزِّنَى أَوْفَرُ، وَلِهَذَا أَخَّرَهَا فِي قَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [الْمَائِدَةِ: 38] ، لِمَا كَانَ حَظُّ الرَّجُلِ مِنَ السَّرِقَةِ أَوْفَرُ.
وَأَمَّا انْتِشَارُ الْآلَةِ، فَإِنَّمَا حَصَلَ بَعْدَ الْإِكْرَاهِ، وَهُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ، وَلَيْسَ حَدُّ الزَّانِي الْمُخْتَارِ عَلَى انْتِشَارِ آلَتِهِ، بَلْ عَلَى إِقْدَامِهِ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى الزِّنَى. فَلَعَلَّ هَذَا لَوْ لَمْ يُكْرَهْ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى الزِّنَى.
وَالْمُخْتَارُ فِيهِمَا، أَنْ لَا يَتَرَتَّبَ عَلَى أَفْعَالِهِمَا حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ، لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا، إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِمِثْلِهِ، فَيَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ حِينَئِذٍ وَضْعِيًّا سَبَبِيًّا.
أَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَلَانِ جَمِيعًا، الْمُكْرَهُ الْحَامِلُ لِتَسَبُّبِهِ، وَالْقَاتِلُ لِمُبَاشَرَتِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُلْجَأٌ، وَالْحَامِلَ مُتَسَبِّبٌ غَيْرُ مُبَاشِرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ الْحَامِلِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ فَعَلَهُ بِالْإِكْرَاهِ بِوَاسِطَةِ الْقَاتِلِ، وَالْقَاتِلُ كَالْآلَةِ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ: يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ لِمُبَاشَرَتِهِ دُونَ الْحَامِلِ، فَجَعَلُوهُ مِنْ بَابِ اجْتِمَاعِ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَهُوَ أَيْضًا مُوَافِقٌ لِمَسْأَلَةِ الْأَصْلِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/204)
________________________________________
الرَّابِعَةُ: الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّانِي: لَا يُخَاطَبُونَ مِنْهَا بِغَيْرِ النَّوَاهِي، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ عَدَمُ تَكْلِيفِهِمْ مُطْلَقًا. وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ، لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ عِنْدَنَا، دُونَهُمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الرَّابِعَةُ» أَيِ: الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ، «الْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَالثَّانِي» أَيِ: الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدَنَا «لَا يُخَاطَبُونَ مِنْهَا بِغَيْرِ النَّوَاهِي، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ» يَعْنِي أَكْثَرَهُمْ كَمَا نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، «وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ» يَعْنِي: أَصْحَابَ الرَّأْيِ «عَدَمُ تَكْلِيفِهِمْ مُطْلَقًا» يَعْنِي: بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
قَالَ الْآمِدِيُّ: تَكْلِيفُهُمْ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَوَاقِعٌ شَرْعًا، خِلَافًا لِأَكْثَرِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي خِطَابِهِمْ بِالْفُرُوعِ.
قَالَ الْبَاجِيُّ: وَظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ خِطَابُهُمْ بِهَا، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيِّ.
قُلْتُ: وَالْحَاصِلُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، ثَلَاثَةٌ، ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ النَّوَاهِي وَالْأَوَامِرِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
(1/205)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَثَمَّ قَوْلٌ رَابِعٌ، حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَغَيْرِهِ، فَيُخَاطَبُ الْمُرْتَدُّ دُونَ الْأَصْلِيِّ.
قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ، وَهُوَ مُؤَاخَذَتُهُ بِسَابِقَةِ الْتِزَامِهِ حُكْمَ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي الرِّدَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ.
عُدْنَا إِلَى تَوْجِيهِ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
قَوْلُهُ: «وَحَرْفُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكَلُّفِ عِنْدَنَا دُونَهُمْ» .
هَذَا، مَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ مُخْتَصَرٌ نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَهُوَ أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ - وَهُوَ الْإِيمَانُ هَاهُنَا - لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ عِنْدَنَا، فَلَا يَتَوَقَّفُ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَ شَرْطًا، فَيُكَلَّفُونَ بِالْفُرُوعِ، بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ مَوْجُودًا حَالَ تَكْلِيفِهِمْ، وَإِنَّمَا الْإِيمَانُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ أَدَاءِ الْفُرُوعِ مِنْهُمْ، لَا فِي حِصَّةِ التَّكْلِيفِ، فَيَكُونُ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْفُرُوعِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِهِ تَوَقُّفَ الْمَشْرُوطِ عَلَى شَرْطِهِ، وَبَيَانُ عَدَمِ تَوَقُّفِهِ، يَظْهَرُ بِمَا يَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(1/206)
________________________________________
لَنَا: الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ، كَأَمْرِ الْمُحَدِّثِ بِالصَّلَاةِ، بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ. وَمَنْعُ الْأَصْلِ، يَسْتَلْزِمُ أَنْ لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عُمْرَهُ لَا يُعَاقَبُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ وَالنَّصُّ، نَحْوَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ» إِلَى آخِرِهِ. يَعْنِي أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ، إِمَّا فِي جَوَازِهَا عَقْلًا، أَوْ فِي وُقُوعِهَا شَرْعًا.
أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا، فَمَقْطُوعٌ بِهِ، إِذْ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا، بِشَرْطِ أَنْ تُقَدِّمُوا الشَّهَادَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْمُحَدِّثَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ.
قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ الْأَصْلِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: مَنْعُ أَنَّ الْمُحْدِثَ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ، «يَسْتَلْزِمُ أَنَّ» الْمُحْدِثَ «لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عُمْرَهُ لَا يُعَاقَبُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ» لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ مَأْمُورًا بِغَيْرِهِ، ثُمَّ إِذَا فَعَلَهُ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ «وَالْإِجْمَاعُ خِلَافُهُ» أَيْ: خِلَافُ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوُضُوءِ، بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ طُولَ عُمْرِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهَا.
وَفَرَّعَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ عَلَى هَذَا الْإِلْزَامِ، أَنَّ الْمُحْدِثَ لَوْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ، يَلْزَمُ أَنْ لَا يُعَاقَبَ إِلَّا عَلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، لِاشْتِرَاطِ تَقْدِيمِهَا، وَهُوَ إِلْزَامٌ غَيْرُ جَيِّدٍ، لِأَنَّ التَّكْبِيرَةَ جُزْءُ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَةً مُسْتَقِلَّةً مُنْفَرِدَةً عَنْهَا، كَالْوُضُوءِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُنْزِلُوا أَجْزَاءَهَا مَنْزِلَةَ الْحَقَائِقِ الْمُسْتَقِلَّةِ، مُؤَاخَذَةً بِمَا اقْتَضَاهُ لَفْظُ الْخَصْمِ مِنَ
(1/207)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اشْتِرَاطِ التَّقْدِيمِ، وَجُزْءُ الشَّيْءِ يَتَقَدَّمُهُ، وَيَتَوَقَّفُ الشَّيْءُ عَلَيْهِ. وَبِالْجُمْلَةِ: هَذَا تَدْقِيقٌ، لَيْسَ وَرَاءَهُ تَحْقِيقٌ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ إِعْنَاتِ الْخَصْمِ.
وَقَوْلِي: «وَمَنْعُ الْأَصْلِ» أَيْ: مَنْعُ حُكْمِ الْمُحْدِثِ الْمَذْكُورِ، يَسْتَلْزِمُ مَا قَرَّرْنَاهُ، لِأَنَّا جَعَلْنَا حُكْمَ الْمُحْدِثِ - وَهُوَ تَكْلِيفُهُ بِالصَّلَاةِ - بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ، أَصْلًا لِحُكْمِ الْكَافِرِ - وَهُوَ تَكْلِيفُهُ بِالْفُرُوعِ - بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ.
قَالَ الْكِنَانِيُّ فِي «مَطَالِعِ الْأَحْكَامِ» : مَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِي تَرْتِيبِ الثَّوَانِي عَلَى الْأَوَائِلِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُمْكِنَةً.
قُلْتُ: مَعْنَاهُ، أَنَّ تَرْتِيبَ التَّكْلِيفِ عَلَى اشْتِرَاطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ، هُوَ تَرْتِيبُ أَمْرٍ ثَانٍ عَلَى وُجُودِ أَمْرٍ أَوَّلٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا، وَلَا مُوجِبًا لِلِامْتِنَاعِ، كَالْآحَادِ الْمُتَرَتِّبَةِ فِي مَرَاتِبِ الْعَدَدِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُتَرَتِّبُ الْوُجُودِ عَلَى مَا قَبْلَهُ، الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثُ عَلَى الثَّانِي، وَهَلُمَّ جَرَّا.
قَالَ أَيْضًا: وَإِذَا ثَبَتَ مُعَاقَبَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ إِجْمَاعًا فَلْتَصِحَّ مُعَاقَبَتُهُمْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، إِذَا مَضَى مِنَ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ، يَعْنِي إِذَا مَضَى مِنْ وَقْتِ التَّكْلِيفِ بِبَلَاغِ الْخِطَابِ مَا يَسَعُ فِعْلَ الْإِيمَانِ، بِأَنْ يَقُولَ الْكَافِرُ: آمَنْتُ، أَوْ يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ، أَوْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَالنَّصُّ» إِلَى آخِرِهِ. هُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الْقَطْعُ، فِي قَوْلِهِ: «لَنَا، الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ» أَيْ: لَنَا الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ وَالنَّصُّ عَلَى الْوُقُوعِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْجَوَازِ، نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] ، وَقَوْلِهِ
(1/208)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الْبَقَرَةِ: 21] . وَسَائِرُ الْخِطَابِ الْوَارِدِ بِلَفْظِ النَّاسِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ، بَلْ هُوَ فِي الْأَصْلِ لِلْكُفَّارِ، لِأَنَّ الْعَالَمَ كُلَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا قَبْلَ وُرُودِ الْخِطَابِ، فَلَمَّا وَرَدَ لَمْ يَرِدْ إِلَّا عَلَى كَافِرٍ، فَهَدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِاتِّبَاعِهِ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ.
وَالْحِجُّ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ فُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَالْعِبَادَةُ فِي الثَّانِيَةِ تَعُمُّ جَمِيعَ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ، لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ التَّذَلُّلُ، وَفِي الشَّرْعِ التَّذَلُّلُ بِمُتَابَعَةِ مَرْسُومِ الشَّرْعِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ.
(1/209)
________________________________________
قَالُوا: وَجُوبُهَا مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهَا فِي الْكُفْرِ، وَانْتِفَاءُ قَضَائِهَا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُفِيدٍ.
قُلْنَا: الْوُجُوبُ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الشَّرْطِ، كَمَا سَبَقَ. وَالْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، أَوْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنِ انْتَفَى بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، نَحْوَ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» . وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ، عِقَابُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ النَّصُّ، نَحْوَ: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} . وَالتَّكْلِيفُ بِالْمَنَاهِي، يَسْتَدْعِي نِيَّةَ التَّرْكِ تَقَرُّبًا. وَلَا نِيَّةَ لِكَافِرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا: وَجُوبُهَا مَعَ اسْتِحَالَةِ فِعْلِهَا فِي الْكُفْرِ، وَانْتِفَاءِ قَضَائِهَا فِي الْإِسْلَامِ، غَيْرُ مُفِيدٍ» .
هَذَا دَلِيلُ الْمَانِعِينَ مِنْ تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ التَّكْلِيفَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفِيدًا، إِذْ هُوَ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ عَبَثٌ مُحَالٌ عَلَى الشَّرْعِ. وَالْفَائِدَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ فِعْلِهَا حَالَ الْكُفْرِ، أَوْ وُجُوبُ قَضَائِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا تَصِحُّ مِنْهُ عِبَادَةٌ فَرْعِيَّةٌ حَالَ كُفْرِهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَيَنْتَفِي التَّكْلِيفُ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ السُّؤَالِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ دَلِيلُهُمْ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ وُجُوبَهَا حَالَ الْكُفْرِ، إِنَّمَا هُوَ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الشَّرْطِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ - كَمَا سَبَقَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يَرِدُ قَوْلُهُمْ: إِنَّ وُجُوبَهَا حَالَ الْكُفْرِ مَعَ عَدَمِ صِحَّتِهَا مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْمُحَالَ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ أَوْجَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ مُطْلَقًا، وَنَحْنُ إِنَّمَا نُوجِبُهَا بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ قَضَائِهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَنَقُولُ:
قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ اخْتُلِفَ فِيهِ، هَلْ هُوَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، أَوْ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ؟ يَعْنِي:
(1/210)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْخِطَابَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ أَصْلُ التَّكْلِيفِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، سَقَطَ السُّؤَالُ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ، إِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، لِانْتِفَاءِ وُرُودِ الْأَمْرِ الْجَدِيدِ بِهَا، لَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ حَالَ الْكُفْرِ.
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْقَضَاءَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، قُلْنَا: هُمْ مَأْمُورُونَ بِهَا حَالَ الْكُفْرِ، لَكِنْ سَقَطَ قَضَاؤُهَا عَنْهُمْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَجَدِّدٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْإِسْلَامُ - يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالْحَجُّ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا أَيْ: يَقْطَعُ مَا قَبْلَهُ مِنْ أَحْكَامِ الْكُفْرِ، حَتَّى كَأَنَّ الْكَافِرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَصْلًا، وَلَحَظَ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً عَامَّةً، وَهُوَ تَيْسِيرُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ، وَتَكْثِيرُهُ مِنْهُمْ، إِذْ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ فِي الْكُفْرِ، لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ صَلَوَاتِهَا، وَسَائِرِ عِبَادَاتِهَا، لَجَبُنَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، سَهُلَ عَلَيْهِ بِالضَّرُورَةِ.
أَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَلَا يُسْقِطُهَا الْإِسْلَامُ، تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ الْعَامِّ بَيْنَ الْعَالَمِ.
قَوْلُهُ: «وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ عِقَابُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا فِي الْآخِرَةِ» هَذَا مِنْ تَمَامِ
(1/211)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْجَوَابِ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَكْلِيفَهُمْ بِالْفُرُوعِ غَيْرُ مُفِيدٍ، بَلْ فَائِدَتُهُ عِقَابُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَيُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِالتَّخْلِيدِ، وَعَلَى تَرْكِ فُرُوعِهِ بِالتَّضْعِيفِ، وَهُوَ زِيَادَةُ كَمِّيَّةِ الْعَذَابِ أَضْعَافًا يَسْتَحِقُّونَهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ صَرَّحَ النَّصُّ بِذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فُصِّلَتْ: 6 - 7] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [الْمُدَّثِّرِ: 40 - 45]- وَهَذِهِ كُلُّهَا فُرُوعٌ - {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [الْمُدَّثِّرِ: 46] ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بِتَرْكِهِ وَالْجَزْمِ بِضِدِّهِ يَكُونُ الْإِيمَانُ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الْفُرْقَانِ: 68 - 69] .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ النُّصُوصِ، أَنَّهُ رَتَّبَ الْوَعِيدَ فِيهَا عَلَى مَجْمُوعِ تَرْكِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَكَانَتِ الْفُرُوعُ جُزْءًا مِنْ سَبَبِ الْوَعِيدِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَا، فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْتَقِلُّ بِالْوَعِيدِ فِي هَذِهِ النُّصُوصِ هُوَ الْكُفْرُ وَحْدَهُ، بِدَلِيلِ اسْتِقْلَالِهِ بِالتَّخْلِيدِ.
فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ اسْتِقْلَالَهُ بِالْوَعِيدِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، بَلِ الْوَعِيدُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، لِأَنَّ الْفُرُوعَ فِي النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ، مَعْطُوفَةٌ بِالْوَاوِ وَهِيَ لِلْجَمْعِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ مَجْمُوعُ الْإِشْرَاكِ وَمَنَعَ الزَّكَاةَ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُثْبِتُوا اسْتِقْلَالَ الْكُفْرِ بِالتَّخْلِيدِ، وَإِنْ كُنَّا نُوَافِقُهُمْ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، لِأَنَّكُمْ لَوْ فَرَضْتُمْ كَافِرًا أَتَى فِي حَالِ كُفْرِهِ بِجَمِيعِ الْفُرُوعِ [لَمْ يُقْبَلْ] مِنْهُ مَعَ كُفْرِهِ، وَإِنَّمَا كُلِّفَ بِهَا بِشَرْطِ
(1/212)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنْ يُوقِعَهَا مُسْلِمًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْكُفْرَ وَإِنِ اسْتَقَلَّ بِالتَّخْلِيدِ، لَكِنْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْفُرُوعِ بِالْمُضَاعَفَةِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} يَعْنِي الْإِشْرَاكَ وَالْقَتْلَ وَالزِّنَى {يَلْقَ أَثَامًا} {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} ، يَعْنِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعَذَّبُ ضِعْفًا مِنَ الْعَذَابِ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْفَائِدَةُ، أَعْنِي عِقَابَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْفُرُوعِ فِي الْآخِرَةِ، بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ يُعَيِّنُهَا، أَيْ: لَا فَائِدَةَ لِتَكْلِيفِهِمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ هُنَا فَوَائِدَ:
مِنْهَا: تَيْسِيرُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكَافِرِ، فَإِنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهَا رُبَّمَا سَهُلَ عَلَيْهِ فِعْلُهَا، دُونَ فِعْلِ أَصْلِهَا وَهُوَ الْإِيمَانُ، لِأَنَّ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ كُلُّهَا حَسَنٌ عَقْلًا، تَمِيلُ الطِّبَاعُ إِلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَنْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ إِلَّا الشَّهَادَتَانِ. مِثْلُ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ جُودِهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِلْعَدْلِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّوَكُّلِ، وَالْإِيمَانِ بِالْمَعَادِ، وَبَعْضُ مَنْ أَدْرَكَ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، أَجَابَ إِلَى جَمِيعِ مَا وَرَدَتْ بِهِ، وَامْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِرْغَامِ الْأُنُوفِ، فَإِذَا عَلِمَ الْكَافِرُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهَا، وَفَعَلَهَا بِنِيَّةِ الطَّاعَةِ، وَالْإِجَابَةِ لِدَاعِي الشَّرْعِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ صَحِيحَةٌ - فَرُبَّمَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْهُدَى بِبَرَكَةِ ذَلِكَ الْمَعْرُوفِ وَالْبِرِّ. وَيُرْوَى فِي الْحَدِيثِ، أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُخْتَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهِ، فَيُنَاسِبُ أَنْ يُخْتَمَ لِلْكَافِرِ بِالْإِيمَانِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ حَسَنَاتِهِ.
(1/213)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهَا: التَّرْغِيبُ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْفُرُوعِ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْوُجُوبُ وَالْحَظْرُ، وَقَدْ أَتَى مِنْهَا بِكَبَائِرَ، كَالْقَتْلِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَأَنَّ إِثْمَ ذَلِكَ لَاحِقٌ لَهُ، ثُمَّ عَرَفَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ ذَلِكَ كُلَّهُ، رُبَّمَا اسْتَشْعَرَ الْخَوْفَ مِنْ عَاقِبَةِ مَا فَعَلَ مِنْهَا، فَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ الْهَادِمِ لَهَا.
وَمِنْهَا: الْحُكْمُ بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِ بِفِعْلِ بَعْضِ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكِ بَعْضِ الشُّرُورِ، إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِهَا، وَفَعَلَهَا جَازَ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ الْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ فِيهَا مُتَفَاوِتُونَ فِي الْمَنَازِلِ وَالدِّرَكَاتِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مُتَفَاوِتُونَ فِيهَا فِي الْمَنَازِلِ وَالدَّرَجَاتِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. كَمَا قَرَّرْتُهُ فِي «الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى» .
ذَكَرَ هَذِهِ الْفَوَائِدَ الثَّلَاثَ الْقَرَافِيُّ فِي «شَرْحِ التَّنْقِيحِ» وَأَحَالَ بِفَوَائِدَ أُخَرَ عَلَى شَرْحِهِ لِـ «الْمَحْصُولِ» .
وَمِنَ الْمَآخِذِ السَّمْعِيَّةِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا النَّاسَ عَامَّةً إِلَى قَبُولِ جَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ.
قَوْلُهُ: «وَالتَّكْلِيفُ بِالْمَنَاهِي، يَسْتَدْعِي نِيَّةَ التَّرْكِ تَقَرُّبًا، وَلَا نِيَّةَ لِكَافِرٍ» .
هَذَا تَقْرِيرٌ لِضَعْفِ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُكَلَّفُونَ بِمَنَاهِي الشَّرْعِ الْفَرْعِيَّةِ، كَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، دُونَ مَأْمُورَاتِهِ، كَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى قَوْلِهِمْ: هُوَ أَنَّ مَقْصُودَ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِيجَادِهَا، وَمَا
(1/214)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ، كَإِغْنَاءِ الْفُقَرَاءِ بِالزَّكَاةِ، وَنَحْوِهِ. وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ. فَمَقْصُودُ الْأَوَامِرِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنَ الْكَافِرِ قَبْلَ الْإِيمَانِ، بِخِلَافِ الْمَنَاهِي، فَإِنَّ مَقْصُودَهَا إِعْدَامُ مَفْسَدَتِهَا الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهَا، كَمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ وَالزِّنَى وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَتَرْكُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ وَبَرَاءَةُ تَارِكِهَا مِنْ عُهْدَتِهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقٍ وَلَا إِيمَانٍ، وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ فِيهِ سِيَّانِ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: قَوْلُكُمُ: التَّقَرُّبُ بِالْمَأْمُورَاتِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ. قُلْنَا: نَعَمْ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ، لَكِنْ لَيْسَ كَلَامُنَا فِي الصِّحَّةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي التَّكْلِيفِ بِهَا حَالَ الْكُفْرِ، بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ عَلَى فِعْلِهَا، وَقَدْ سَبَقَ دَلِيلُ ذَلِكَ وَفَوَائِدُهُ.
أَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْكَافِرَ يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِتَرْكِهِ، فَيَصِحُّ تَكْلِيفُهُ بِهِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورَاتِ.
قُلْنَا: هَذَا مَوْضِعُ تَحْقِيقٍ وَتَفْصِيلٍ، وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْعِ مُثَابٌ وَمُعَاقَبٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ وَمَنْهِيٌّ، فَثَوَابُهُ يَحْصُلُ تَارَةً عَنْ فِعْلِ مَأْمُورٍ، كَالصَّلَاةِ، وَتَارَةً عَنْ تَرْكِ مَحْظُورٍ، كَالزِّنَى وَالرِّبَا، وَعِقَابُهُ يَحْصُلُ، تَارَةً عَنْ فِعْلِ مَحْظُورٍ، كَالزِّنَى، وَتَارَةً عَنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ، كَالصَّلَاةِ، وَمَدَارُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، فَفَاعِلُ الْمَأْمُورِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ
(1/215)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّوَابَ الشَّرْعِيَّ إِلَّا بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ، وَتَارِكُ الْمَحْظُورِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ الثَّوَابَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ ثَوَابُ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَخَافَهُ، وَآثَرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَرَكَ شَهَوَاتِهِ لِرِضَاهُ، إِلَّا بِنِيَّةِ ذَلِكَ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مِنْ آثَارِ التَّكْلِيفِ، وَكَلَامُنَا فِيهِ.
أَمَّا بَرَاءَةُ الْعُهْدَةِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمَنْهِيِّ بِتَرْكِهِ، فَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْعَدْلِ، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكُفَّارُ، وَالْعُقَلَاءُ وَغَيْرُهُمْ، حَتَّى إِنَّ الْمَجْنُونَ لَوْ أَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَى، وَجَبَ مَهْرُهَا فِي مَالِهِ، وَلَوْ هَمَّ بِهَا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهَا، خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْغَرَامَةِ الَّتِي كَانَتْ مُتَوَقَّعَةً بِفِعْلِهِ لَوْ فَعَلَ، وَلَمْ يَجِبْ فِي مَالِهِ شَيْءٌ، وَكَذَلِكَ الْعَاقِلُ الْمُسْلِمُ، لَوْ فَعَلَ هَذَا بِعَيْنِهِ، لَلَزِمَهُ الْمَهْرُ مِنْ حَيْثُ الْعَدْلِ، وَالْإِثْمُ مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفِ، وَلَوْ كَفَّ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ هَمَّ بِهَا نَاوِيًا التَّقَرُّبَ، لَبَرِئَ مِنْ عُهْدَةِ الْمَهْرِ، مِنْ حَيْثُ الْعَدْلِ، وَمِنْ عُهْدَةِ الْحَدِّ، مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفِ، وَلَحَصَلَ لَهُ أَجْرُ الْكَفِّ، وَثَوَابُ الْمُتَّقِينَ، مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفِ أَيْضًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النَّازِعَاتِ: 40 - 41] ، وَلَوْ كَفَّ عَنْهَا غَيْرَ نَاوٍ لِلْقُرْبَةِ، بَرِئَ مِنْ عُهْدَةِ الْمَهْرِ، مِنْ حَيْثُ الْعَدْلِ الثَّابِتِ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَبَرِئَ مِنْ عُهْدَةِ الْحَدِّ، مِنْ حَيْثُ التَّكْلِيفِ بِمُقْتَضَى الْعَدْلِ الثَّابِتِ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَخَلْقِهِ، ثُمَّ نَظَرْنَا، فَإِنْ كَانَ كَفُّهُ خَوْفًا مِنْ مَخْلُوقٍ، فَهُوَ جُبْنٌ لَا تَقْوَى، وَإِنْ كَانَ إِيثَارًا لِطَهَارَةِ الْعِرْضِ، وَالشَّجَاعَةِ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَافَاهُ أَصْحَابُ الْهِمَمِ وَالنُّفُوسِ الْفَاضِلَةِ الْأَبِيَّةِ، فَهَذَا مَحْمُودٌ عَلَى عَفَافِهِ الْعُرْفِيِّ، وَبِالضَّرُورَةِ لَا يُسَاوِي مَنْ كَانَ كَفُّهُ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَغْبَةً فِيمَا عِنْدَهُ.
(1/216)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، قُلْنَا: قَوْلُكُمْ: الْكَافِرُ يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَةِ الْمَنْهِيِّ بِتَرْكِهِ، فَيَصِحُّ تَكْلِيفُهُ. إِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ عُهْدَةِ الْعَدْلِ، كَالْغَرَامَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْمَنَاهِي، فَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ، بَلْ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ.
وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ عُهْدَةِ أَذًى يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ، فَهَذَا مِنْ بَابِ الْجُبْنِ أَوِ الْعَفَافِ الْعُرْفِيِّ.
وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ الْمُتَّقِينَ، وَمَنْ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ، وَلَا نِيَّةَ لِكَافِرٍ، بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ الشَّرْعِيُّ، فَهَذَا تَقْرِيرُ قَوْلِهِ: «وَالتَّكْلِيفُ بِالْمَنَاهِي يَسْتَدْعِي نِيَّةَ التَّرْكِ تَقَرُّبًا، وَلَا نِيَّةَ لِكَافِرٍ» .
فُرُوعٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْجِهَادَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَقِيلَ: لَمْ يُكَلَّفُ بِهِ الْكُفَّارُ بِالْأَصَالَةِ، لِعَدَمِ حُصُولِ مَصْلَحَتِهِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَيْثُ أَمَرَ بِالْجِهَادِ لَمْ يُعَيِّنِ الْكُفَّارَ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِيغَةً يَنْدَرِجُونَ فِيهَا، بَلْ قَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} [التَّوْبَةِ: 72] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا} [التَّوْبَةِ: 123] ، اللَّهُمَّ إِلَّا عُمُومَاتٍ بَعِيدَةً، نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الْحَجِّ: 1] ، وَمِنَ التَّقْوَى فِعْلُ الْمَأْمُورِ، وَمِنَ الْمَأْمُورِ الْجِهَادٌ، فَتَتَنَاوَلُهُمْ هَذِهِ الْعُمُومَاتُ عَلَى بُعْدِهَا، وَهُوَ أَصَحُّ طَرْدًا لِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ فِي جَمِيعِ الْفُرُوعِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ شَيْءٍ مِنْهَا.
وَأَمَّا عَدَمُ حُصُولِ مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ مِنْهُمْ، فَهُوَ مَصْلَحَةُ الصَّلَاةِ لَا تَحْصُلُ
(1/217)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِفِعْلِهَا حَالَ الْكُفْرِ، وَلَكِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْفُرُوعِ، بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِسْلَامِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِي سَنَتِنَا هَذِهِ - وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ وَسَبْعِمِائَةٍ لِلْهِجْرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى مُنْشِئِهَا - فِي أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ أَمْ لَا؟
وَاسْتُفْتِيَ فِيهَا شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَةَ بِالْقَاهِرَةِ - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَجَابَ فِيهَا بِمَا مُلَخَّصُهُ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَا بِالْجُمْلَةِ، لَكِنْ لَا عَلَى حَدِّ تَكْلِيفِ الْإِنْسِ بِهَا، لِأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِلْإِنْسِ بِالْحَدِّ فَبِالضَّرُورَةِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي بَعْضِ التَّكَالِيفِ.
قُلْتُ: مِثَالُهُ، أَنَّ الْجِنَّ قَدْ أُعْطِيَ بَعْضُهُمْ قُوَّةَ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ، فَهَذَا يُخَاطَبُ بِقَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْحَجِّ طَائِرًا.
وَالْإِنْسَانُ لِعَدَمِ تِلْكَ الْقُوَّةِ فِيهِ، لَا يُخَاطَبُ بِذَلِكَ، فَهَذَا فِي طَرَفِ زِيَادَةِ تَكْلِيفِهِمْ عَلَى تَكْلِيفِ الْإِنْسِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ نَقْصِ تَكْلِيفِهِمْ عَنْ تَكْلِيفِ الْإِنْسِ، فَكُلُّ تَكْلِيفٍ يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ طَبِيعَةِ الْإِنْسِ، يَنْتَفِي فِي حَقِّ الْجِنِّ، لِعَدَمِ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ فِيهِمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى تَكْلِيفِ الْجِنِّ بِالْفُرُوعِ، الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ - النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرْسِلَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَجَمِيعُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ مُتَوَجِّهَةٌ إِلَى الْجِنْسَيْنِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ
(1/218)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، نَحْوُ: {آمِنُوا بِاللَّهِ} [الْحَدِيدِ: 7] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43] .
وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الدَّلِيلُ، عَلَى أَنَّ كُفَّارَ الْإِنْسِ مُخَاطَبُونَ بِهَا، وَكَذَلِكَ كُفَّارُ الْجِنِّ، لِتَوَجُّهِ الْقُرْآنِ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ إِلَى مُؤْمِنِي الْجِنْسَيْنِ وَكُفَّارِهِمْ.
الْفَرْعُ الثَّالِثُ: ذَكَرَ الزَّنْجَانِيُّ فِي كِتَابِ «تَخْرِيجِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ» أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ.
فَإِنْ قُلْنَا: هُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَا، لَمْ يَمْلِكُوهَا، لِأَنَّ مِنَ الْفُرُوعِ تَحْرِيمَ أَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ بِالْقَهْرِ، وَالْمَأْخُوذُ بِسَبَبٍ حَرَامٍ لَا يُمْلَكُ، وَهُمْ قَدْ أَخَذُوا أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ، وَتَحْرِيمُهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِمْ، فَلَا يَمْلِكُونَهَا بِهِ.
وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسُوا مُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ، مَلَكُوا الْأَمْوَالَ بِالْقَهْرِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِمْ، فَيَكُونُ أَخْذُهُمْ لَهَا مُبَاحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ.
قُلْتُ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا، وَهُوَ يُنَافِي أَصْلَهُ فِي أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالْفُرُوعِ، لَكِنَّ مَأْخَذَهُ فِي مِلْكِهِمْ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُعَوَّضُونَ عَنْ أَمْوَالِهِمُ الْأَجْرَ، فَلَوْ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِهِمْ، لَاجْتَمَعَ لَهُمُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ، وَهُوَ بَاطِلٌ عَقْلًا، وَغَيْرُ مَعْهُودٍ شَرْعًا.
قُلْتُ: وَهُوَ تَقْرِيرٌ لَطِيفٌ حَسَنٌ، غَيْرَ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى مُصِيبَتِهِ فِي مَالِهِ الْمَغْصُوبِ، مَعَ أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ إِلَّا الْكُفْرُ وَالْإِسْلَامُ وَدَارَاهُمَا، وَلَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ فِي الْحُكْمِ، وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْأَجْرَ لَيْسَ عِوَضًا
(1/219)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَالِيًّا، وَامْتِنَاعُ الْعِوَضِ وَالْمُعَوِّضِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَالِيَّاتِ، فَتَخْرِيجُ مِلْكِ الْكُفَّارِ لِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ جَيِّدٌ.
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لَا يَمْلِكُونَهَا، فَكَانَ قَوْلُهُ أَحْرَى عَلَى أُصُولِ أَحْمَدَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا -.
(1/220)
________________________________________
وَأَمَّا الثَّانِي، وَهِيَ شُرُوطُ الْمُكَلَّفِ بِهِ. فَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْحَقِيقَةِ لِلْمُكَلَّفِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَوَجَّهْ قَصْدُهُ إِلَيْهِ. مَعْلُومًا كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ. مَعْدُومًا، إِذْ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ. وَفِي انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ يَنْقَطِعُ، خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ. وَأَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، إِذِ الْمُكَلَّفُ بِهِ مُسْتَدْعًى حُصُولُهُ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ تَصَوُّرَ وُقُوعِهِ، وَالْمُحَالُ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، فَلَا يُسْتَدْعَى حُصُولُهُ، فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ، هَذَا مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالِ.
أَمَّا التَّفْصِيلُ: فَالْمُحَالُ ضَرْبَانِ، مُحَالٌ لِنَفْسِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَلِغَيْرِهِ، كَإِيمَانٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ. فَالْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالثَّانِي، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بِالْأَوَّلِ، لِمَا سَبَقَ، وَخَالَفَ قَوْمٌ، وَهُوَ أَظْهَرُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَمَّا الثَّانِي» أَيْ: وَأَمَّا الْبَعْضُ الثَّانِي مِنْ شُرُوطِ التَّكْلِيفِ، «وَهِيَ شُرُوطُ الْمُكَلَّفِ بِهِ» ، وَهُوَ الْفِعْلُ «فَأَنْ» أَيْ: فَمِنْهَا: أَنْ «يَكُونَ مَعْلُومَ الْحَقِيقَةِ لِلْمُكَلَّفِ وَإِلَّا» أَيْ: لَوْ لَمْ يَعْلَمِ الْمُكَلَّفُ حَقِيقَةَ مَا كُلِّفَ بِهِ «لَمْ يَتَوَجَّهْ قَصْدُهُ إِلَيْهِ» حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ قَصْدُهُ إِلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ وَجُودُهُ مِنْهُ، لِأَنَّ تَوَجُّهَ الْقَصْدِ إِلَى الْفِعْلِ مِنْ لَوَازِمِ إِيجَادِهِ، فَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ الَّذِي هُوَ الْقَصْدُ، انْتَفَى الْمَلْزُومُ وَهُوَ الْإِيجَادُ.
مِثَالُهُ: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالصَّلَاةِ، يَجِبُ أَوَّلًا أَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَتَهَا، وَأَنَّهَا جُمْلَةُ أَفْعَالٍ، مِنْ قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَجُلُوسٍ، يَتَخَلَّلُهَا أَذْكَارٌ مَخْصُوصَةٌ، مُفْتَتَحَةٌ بِالتَّكْبِيرِ، مُخْتَتَمَةٌ بِالتَّسْلِيمِ، حَتَّى يَصِحَّ قَصْدُهُ لِهَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَيَشْرَعَ فِيهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ مَا حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ، لَمْ يَدْرِ فِي أَيِّ فِعْلٍ يَشْرَعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَفْعَالِ، فَيَكُونُ تَكْلِيفُهُ بِفِعْلِ مَا لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ.
(1/221)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «مَعْلُومًا كَوْنُهُ مَأْمُورًا» ، أَيْ: وَمِنْ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، أَنْ يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ «بِهِ، وَإِلَّا» أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، «لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ» بِفِعْلِهِ، إِذِ الطَّاعَةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، وَالِامْتِثَالُ: هُوَ جَعْلُ الْأَمْرِ مِثَالًا يُتَّبَعُ مُقْتَضَاهُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْأَمْرَ لَمْ يُتَصَوَّرْ مُوَافَقَتُهُ لَهُ، وَلَا نَصْبُهُ مِثَالًا يَعْتَمِدُهُ، فَيَكُونُ أَيْضًا مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُنَا مَثَلًا: يَجِبُ كَذَا، أَوْ لَا يَجِبُ كَذَا، وَإِلَّا كَانَ كَذَا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ كَذَا، تَقْدِيرُهُ: يَجِبُ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ كَذَا، كَانَ كَذَا، فَهِيَ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، أَصْلُهَا (إِنْ) الشَّرْطِيَّةُ، وَبَعْدَهَا (لَا) النَّافِيَةُ مَفْصُولَةً مِنْهَا، هَكَذَا: يَجِبُ كَذَا، وَإِنْ لَا يَجِبُ كَذَا كَانَ كَذَا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَا، أَيْ: وَإِنِ انْتَفَى وُجُوبُ كَذَا، كَانَ كَذَا، لَكِنْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَصَلُوا (لَا) بِإِنْ، وَأَدْغَمُوا نُونَ (إِنِ) الشُّرْطِيَّةَ فِي لَامِ (لَا) النَّافِيَةِ، فَصَارَتْ هَكَذَا: وَإِلَّا يَكُنْ كَذَا، كَانَ كَذَا، ثُمَّ حَذَفُوا الشَّرْطَ، لِظُهُورِهِ مِمَّا فِي سِيَاقِهِ، فَقَالُوا: يَجِبُ كَذَا، وَإِلَّا كَانَ كَذَا. وَهَذِهِ الصِّيَغُ فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يُوسُفَ: 33] ، {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ} [التَّوْبَةِ: 39] {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التَّوْبَةِ: 40] ، فَقَوْلُنَا هَاهُنَا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَعْلُومًا لِلْمُكَلَّفِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَوَجَّهْ قَصْدُهُ إِلَيْهِ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْحَقِيقَةِ لِلْمُكَلَّفِ، لَمْ يَتَوَجَّهْ قَصْدُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ حُذِفَ الشَّرْطُ، وَبَقِيَ جَوَابُهُ يَلِي الشَّرْطَ،
(1/222)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقِيلَ: وَإِلَّا لَمْ يَتَوَجَّهْ، وَهَذَا مِنَ التَّرْكِيبَاتِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي تُلُقِّيَتْ بِالْعَادَةِ، وَلَا يَتَنَبَّهُ لِوَجْهِ تَرْكِيبِهَا كُلُّ أَحَدٍ.
قَوْلُهُ: «مَعْدُومًا» أَيْ: وَمِنْ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا، كَصَلَاةِ الظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ «إِذْ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ» كَمَا يُقَالُ لِمَنْ بَنَى حَائِطًا أَوْ كَتَبَ كِتَابًا: ابْنِهِ، أَوِ اكْتُبْهُ بِعَيْنِهِ، مَعَ بَقَائِهِ مَبْنِيًّا مَكْتُوبًا مَرَّةً أُخْرَى.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: «إِذْ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ» ، لِأَنَّ الْإِيجَادَ هُوَ تَأْثِيرُ الْقُدْرَةِ فِي إِخْرَاجِ الْمَعْلُومِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، فَلَوْ أُوجِدَ مَرَّةً ثَانِيَةً، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا، لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى الْإِخْرَاجِ مِنَ الْعَدَمِ، مَوْجُودًا بِالْإِيجَادِ الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَعْدُومًا، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «وَفِي انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ يَنْقَطِعُ، خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ» .
لَيْسَتْ هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الرَّوْضَةِ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ، ذَكَرَهَا الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا، وَهِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، فَلِذَلِكَ خَرَجَ فِيهَا الْخِلَافُ، وَهُوَ شَأْنُ مَا كَانَ وَاسِطَةً بَيْنَ طَرَفَيْنِ غَالِبًا.
وَبَيَانُهُ، أَنَّ الْفِعْلَ يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الزَّمَانِ مَاضٍ وَحَالٌ وَمُسْتَقْبَلٌ، وَلَهُ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ، قَبْلُ وَبَعْدُ وَحَالٌ، وَهُوَ الْوَاسِطَةُ. فَالتَّكْلِيفُ إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ، كَالْحَرَكَةِ قَبْلَ التَّحَرُّكِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ، إِلَّا عِنْدَ شُذُوذٍ مِنَ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ بَعْدَ حُدُوثِهِ، كَالْحَرَكَةِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا بِانْقِضَاءِ التَّحَرُّكِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ اتِّفَاقًا، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حَالَ حُدُوثِهِ، كَالْحَرَكَةِ فِي أَوَّلِ زَمَانِ التَّحَرُّكِ، فَهُوَ جَائِزٌ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
(1/223)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَنَا: أَنَّهُ مَقْدُورٌ، وَكُلُّ مَقْدُورٍ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ. أَمَّا أَنَّهُ مَقْدُورٌ فَبِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَقْدُورٍ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ، فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إِيجَادُهُ، وَالتَّكْلِيفُ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ.
قُلْتُ: هَذَا الْمَقَامُ فِيهِ تَحْقِيقٌ، وَذَلِكَ أَنَّا إِذَا فَسَّرْنَا حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ بِأَنَّهُ أَوَّلُ زَمَنِ وُجُودِهِ، صَحَّ التَّكْلِيفُ بِهِ وَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْلِيفًا بِإِتْمَامِهِ وَإِيجَادَ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِحَالِ حُدُوثِهِ زَمَنُ وُجُودِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ لَمْ يَصِحَّ مُطْلَقًا، بَلْ يَصِحُّ فِي أَوَّلِ زَمَنِ وُجُودِهِ أَنْ يُكَلَّفَ بِإِتْمَامِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ آخِرِ زَمَنِ وُجُودِهِ يَكُونُ قَدْ وُجِدَ وَانْقَضَى، فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ إِيجَادِ الْمَوْجُودِ.
وَهَذَا الْبَحْثُ يَنْزِعُ إِلَى مَسْأَلَةِ الْحَرَكَةِ وَأَنَّهَا تَقْبَلُ الْقِسْمَةَ أَوَّلًا، وَمَوْضِعُ ذَلِكَ غَيْرُ هَاهُنَا.
وَكَأَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ مَنْ أَجَازَ التَّكْلِيفَ عَلَّقَهُ بِأَوَّلِ زَمَنِ الْحُدُوثِ، وَمَنْ مَنَعَهُ عَلَّقَهُ بِآخِرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَأَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا» أَيْ: وَمِنْ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا «إِذِ الْمُكَلَّفُ بِهِ مُسْتَدْعًى حُصُولُهُ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: يُشْتَرَطُ إِمْكَانُ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، لِأَنَّ حُصُولَهُ مُسْتَدْعًى، أَيْ: مَطْلُوبٌ لِلشَّرْعِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مَطْلُوبَ الْحُصُولِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُقُوعِ، فَالْمُكَلَّفُ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُقُوعِ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ مُمْكِنًا، لَكِنَّ الْمُحَالَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، وَمَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، لَا يُسْتَدْعَى حُصُولُهُ.
(1/224)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا أَنَّ الْمُحَالَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، فَلِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَمَّا أَنَّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، لَا يُسْتَدْعَى حُصُولُهُ، فَلِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْحُصُولِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِفَائِدَةٍ، وَحُصُولُ الْفَائِدَةِ مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، لَا يُعْقَلُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُحَالَ لَا يُسْتَدْعَى حُصُولُهُ، فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ لِعَدَمِ فَائِدَةِ التَّكْلِيفِ بِهِ.
قَوْلُهُ: «هَذَا مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالِ» أَيْ: هَذَا تَقْرِيرُ اشْتِرَاطِ إِمْكَانِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلِ كَلَامٌ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذَا الشَّرْطِ، هُوَ الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهَا تَكْلِيفُ الْمُحَالِ.
وَطَرِيقُ التَّفْصِيلِ فِيهَا أَنَّ الْمُحَالَ ضَرْبَانِ: " مُحَالٌ لِنَفْسِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ " كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، " وَلِغَيْرِهِ " أَيِ: الضَّرْبُ الثَّانِي " مُحَالٌ لِغَيْرِهِ " كَإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، كَفِرْعَوْنَ وَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْكُفَّارِ، إِيمَانُهُمْ مُمْتَنِعٌ لَا لِذَاتِهِ، أَيْ: لَا لِكَوْنِهِ إِيمَانًا، إِذْ لَوِ امْتَنَعَ إِيمَانُهُمْ لِكَوْنِهِ إِيمَانًا، لَمَا وُجِدَ الْإِيمَانُ مِنْ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ إِيمَانُهُمْ لِغَيْرِهِ، أَيْ: لِعِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنْهُ، وَهُوَ تَعَلُّقُ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِرَادَتِهِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَخِلَافُ مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَاتِهِ مُحَالٌ لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَإِنَّهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ جَمْعًا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، فَعِلَّةُ امْتِنَاعِهِ ذَاتُهُ، لَا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْهُ، فَهَذَا
(1/225)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَحْقِيقُ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ وَلِغَيْرِهِ، وَقَدْ سَبَقَ نَحْوُ هَذَا فِي الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي شَرْحِ الْخُطْبَةِ.
قَوْلُهُ: " فَالْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالثَّانِي " يَعْنِي: الْمُحَالَ لِغَيْرِهِ، " وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بِالْأَوَّلِ " يَعْنِي الْمُحَالَ لِذَاتِهِ " لِمَا سَبَقَ "، يَعْنِي فِي التَّقْرِيرِ الْإِجْمَالِيِّ مِنْ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، فَلَا يُسْتَدْعَى حُصُولُهُ.
قَوْلُهُ: " وَخَالَفَ قَوْمٌ "، أَيْ: فِي هَذَا الضَّرْبِ، وَهُوَ الْمُحَالُ لِذَاتِهِ، فَقَالُوا: يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ، " وَهُوَ أَظْهَرُ " يَعْنِي فِي النَّظَرِ، لِمَا يُتَقَرَّرُ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُحَالَ لِغَيْرِهِ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ إِجْمَاعًا، وَفِي الْمُحَالِ لِذَاتِهِ، قَوْلَانِ لِلنَّاسِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ جَوَازُ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: امْتِنَاعُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ بِالْمُمْتَنِعِ لِغَيْرِهِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الثَّنَوِيَّةِ.
قَالَ: وَالْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ الْأَوَّلِ، وَجَوَازُ الثَّانِي.
قُلْتُ: فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْخِلَافُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ قِسْمَيِ الْمُمْتَنِعِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الْعِلْمِ. وَالتَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ دَاخِلٌ فِي الْخِلَافِ، لِأَنَّهُ اخْتَارَ فِي كُلِّ قِسْمٍ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ، فَهُوَ كَالْخِلَافِ الَّذِي لَا يَرْفَعُ الْإِجْمَاعَ.
وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ الظَّاهِرِيُّ فِي كِتَابِ " الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ " أَنَّ الْمُحَالَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مُحَالٌ مُطْلَقٌ: وَهُوَ كُلُّ مَا أَوْجَبَ عَلَى ذَاتِ الْبَارِئِ تَغَيُّرًا أَوْ نَقْصًا، فَهُوَ مُحَالٌ
(1/226)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِعَيْنِهِ.
وَمُحَالٌ فِيمَا بَيَّنَّا فِي بَيِّنَةِ الْعَقْلِ، كَكَوْنِ الْمَرْءُ قَائِمًا قَاعِدًا، وَنَحْوِهِ مِنَ اجْتِمَاعِ الْأَضْدَادِ وَالنَّقَائِضِ.
وَمُحَالٌ فِي الْوُجُودِ، كَانْقِلَابِ الْجَمَادِ حَيَوَانًا، وَانْقِلَابِ نَوْعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ نَوْعًا مِنْهُ آخَرَ، كَانْقِلَابِ الْفَرَسِ جَمَلًا أَوْ ثَوْرًا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمُحَالٌ بِالْإِضَافَةِ، كَنَبَاتِ اللِّحْيَةِ لِابْنِ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِحْبَالِهِ النِّسَاءَ، وَكَلَامِ الْأَبْلَهِ الْغَبِيِّ فِي دَقَائِقِ الْمَنْطِقِ، وَصَنْعَةِ الشِّعْرِ الْبَدِيعِ، فَهَذَا مُحَالٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الصَّبِيِّ وَالْأَبْلَهِ، أَمَّا إِلَى الرَّجُلِ الْبَالِغِ وَالذَّكِيِّ الْفَاضِلِ، فَهُوَ مُمْكِنٌ قَرِيبٌ.
وَزَعَمَ ابْنُ حَزْمٍ، أَنَّ الْبَارِئَ - جَلَّ جَلَالُهُ - قَادِرٌ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ مِنَ الْمُحَالِ جَمِيعِهَا، خَلَا الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، لِاسْتِحَالَتِهِ لِعَيْنِهِ، وَعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ الْمَقْدُورِ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ لَيْسَ بِسُؤَالٍ أَصْلًا، حَتَّى قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا، صَرَّحَ بِذَلِكَ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} الْآيَةَ [الزُّمَرِ: 4] .
وَذَكَرَ الْكِنَانِيُّ فِي " مَطَالِعِ الشَّرِيعَةِ " أَنَّ امْتِنَاعَ الْعَقْلِ قَدْ يَكُونُ لِعَيْنِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى بَعْضِ الْقَادِرِينَ، كَخَلْقِ الْأَجْسَامِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ، كَطَيَرَانِ الْآدَمِيِّ وَفَقْدِ الْآلَةِ فِي تَكْلِيفِ الْأَعْمَى نَقْطَ الْمُصْحَفِ، وَلِعَدَمِ الْقُدْرَةِ فِي تَكْلِيفِ الْقَائِمِ الْقُعُودَ، عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَمْنَعُ تَقَدُّمَ الْقُدْرَةِ عَلَى
(1/227)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفِعْلِ، وَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ، كَالْمَيِّتِ.
وَقَدِ اضْطَرَبَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ، فِي جَوَازِ أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي هَذَا النَّوْعِ الْأَخِيرِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِ الْبَابِ، هَذَا لَفْظُهُ. وَذَكَرَ مَأْخَذَ الْخِلَافِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(1/228)
________________________________________
لَنَا، إِنْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، صَحَّ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ، وَقَدْ صَحَّ ثَمَّ، فَلْيَصِحَّ هُنَا.
أَمَّا الْمُلَازَمَةُ، فَلِأَنَّ الْمُحَالَ، مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ. أَمَّا الْأُولَى فَظَاهِرَةٌ، إِذِ اشْتِقَاقُ الْمُحَالِ مِنَ الْحُؤُولِ عَنْ جِهَةِ إِمْكَانِ الْوُجُودِ. أَمَّا الثَّانِيَةُ، فَلِأَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَبِهِ احْتَجَّ آدَمُ عَلَى مُوسَى، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، وَإِلَّا انْقَلَبَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ جَهْلًا. . وَقَدْ جَازَ التَّكْلِيفُ بِهِ إِجْمَاعًا، فَلْيَجُزْ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ، بِجَامِعِ الِاسْتِحَالَةِ، وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بِالْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ، لِانْتِسَاخِهِ بِالِاسْتِحَالَةِ بِالْغَيْرِ الْعَرَضِيَّةِ. وَأَيْضًا فَكُلُّ مُكَلَّفٍ بِهِ، إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِوُجُودِهِ، فَيَجِبُ. أَوْ لَا، فَيَمْتَنِعُ، وَالتَّكْلِيفُ بِهِمَا مُحَالٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا، إِنْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، صَحَّ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ، وَقَدْ صَحَّ ثَمَّ، فَلْيَصِحَّ هُنَا» .
هَذَا حِينَ الشُّرُوعِ فِي تَقْرِيرِ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ، عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ أَنَّ الْمُحَالَ لِذَاتِهِ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ: إِنْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، كَإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَقَدْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى تَكْلِيفِ كُلِّ كَافِرٍ بِالْإِيمَانِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ، هَذَا تَقْرِيرُ نَظْمِ الدَّلِيلِ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا الْمُلَازَمَةُ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَقْرِيرُ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ، وَالْمُلَازَمَةُ، هِيَ كَوْنُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مُلَازِمًا لِلْآخَرِ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، فَيُسْتَدَلُّ بِوُجُودِ الْمَلْزُومِ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ، لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ مَلْزُومٍ لَا لَازِمَ لَهُ. وَهُوَ كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَ هَذَا إِنْسَانًا، فَهُوَ
(1/229)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَيَوَانٌ، لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ، فَهُوَ حَيَوَانٌ، فَالْإِنْسَانُ مَلْزُومٌ لِلْحَيَوَانِ، وَالْحَيَوَانُ لَازِمٌ لِلْإِنْسَانِ فَلَا جَرَمَ لَمَّا وُجِدَ الْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ الْمَلْزُومُ، لَزِمَ وُجُودُ الْحَيَوَانِ الَّذِي هُوَ اللَّازِمُ، عُدْنَا إِلَى تَقْرِيرِ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» .
فَقَوْلُنَا: إِنَّ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ، هَذَا هُوَ الْمُلَازَمَةُ الَّتِي نُرِيدُ تَقْرِيرَهَا.
وَتَكْلِيفُ الْمُحَالِ لِغَيْرِهِ مَلْزُومٌ لِتَكْلِيفِ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ. وَمَقْصُودُنَا، أَنَّ الْأَوَّلَ مَلْزُومٌ لِلثَّانِي، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ، لَزِمَ مِنْ صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، صِحَّةَ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَلْزُومٌ لِلثَّانِي، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْإِنْسَانِ وُجُودُ الْحَيَوَانِ، لِأَنَّهُ مَلْزُومٌ لِلْحَيَوَانِ.
وَوَجْهُ تَقْرِيرِ الْمُلَازَمَةِ الْمَذْكُورَةِ، هُوَ: أَنَّ «الْمُحَالَ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ» أَيْ: عَدَمُ تَصَوُّرِ الْوُقُوعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَهُمَا الْمُحَالُ لِذَاتِهِ وَلِغَيْرِهِ: أَيْ: كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ، كَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ الْمُحَالِ لِغَيْرِهِ.
وَنَعْنِي بِعَدَمِ تَصَوُّرِ وُقُوعِهِ، أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَهُ، لَزِمَ مِنْهُ مُحَالٌ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا الْأُولَى فَظَاهِرَةٌ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي تَقْرِيرِ الْمُلَازَمَةِ مُرَكَّبٌ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ قَضِيَّةٌ جُعِلَتْ جُزْءَ قِيَاسٍ، وَهُوَ الدَّلِيلُ، وَأَقَلُّ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الدَّلِيلُ مُقَدِّمَتَانِ:
(1/230)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي هَذَا الدَّلِيلِ قَوْلُنَا: الْمُحَالُ: مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُنَا: وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَنَحْتَاجُ أَنْ نَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، لِتَكُونَ الدَّعْوَى الَّتِي أَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَيْهَا، وَهِيَ لَازِمَةٌ عَنْهُ، صَحِيحَةً، وَهِيَ أَنَّ الْمُحَالَ لِذَاتِهِ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِهِ.
وَتَقْرِيرُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى: وَهِيَ قَوْلُنَا: الْمُحَالُ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، «إِذِ اشْتِقَاقُ الْمُحَالِ مِنَ الْحُؤُولِ عَنْ جِهَةِ إِمْكَانِ الْوُجُودِ» وَهَذَا تَقْرِيرٌ اشْتِقَاقِيٌّ لُغَوِيٌّ، يُقَالُ: حَالَ الشَّيْءُ يَحُولُ حَوْلًا وَحُؤُولًا، إِذَا تَغَيَّرَ وَانْقَلَبَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ. وَأَصْلُ مَادَّةِ «ح ول» يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّغَيُّرِ وَالِانْتِقَالِ وَالتَّحَوُّلِ مِنْ حَالٍ أَوْ مَكَانٍ إِلَى غَيْرِهِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَرْضٌ وَقَوْسٌ مُسْتَحِيلَةٌ، أَيْ: لَيْسَتْ بِمُسْتَوِيَةٍ، لِأَنَّهَا اسْتَحَالَتْ عَنْ الِاسْتِوَاءِ إِلَى الْعِوَجِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الِاشْتِقَاقِ، أَنَّ أَرْكَانَهُ مُشْتَقٌّ، وَمُشْتَقٌّ مِنْهُ، وَمَادَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ، وَهِيَ الْحُرُوفُ الْأُصُولُ فِيهِمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرٍ مَا، بِحَرْفٍ أَوْ بِحَرَكَةٍ أَوْ بِهِمَا، بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، أَوْ بِهِمَا، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوَاضِعِهِ، فَمَتَى وُجِدَ ذَلِكَ، صَحَّ الِاشْتِقَاقُ، وَهَذَا كُلُّهُ مَوْجُودٌ هَهُنَا، فَالْمُشْتَقُّ هُوَ الْمُحَالُ، وَالْمُشْتَقُّ مِنْهُ هُوَ الْحَوَلُ وَالتَّحَوُّلُ،
(1/231)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْحُرُوفُ الْأُصُولُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَهِيَ «ح ول» ، فَالْمُحَالُ مُفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَصْلُهُ مَحْوُلٌ، مِثْلُ مَكْرُمٍ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ، وَقُلِبَتِ الْوَاوُ أَلِفًا لِتَحَرُّكِهَا وَانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ حَوْلٌ الَّذِي هُوَ أَصْلُ حَالَ. أَوْ أَنَّ الْمُحَالَ أُعِلَّ تَبَعًا لِأَصْلِهِ، وَهُوَ حَالٌ وَالْحُؤُولُ فُعُولٌ، مِثْلُ جُلُوسٍ وَقُعُودٍ، مِنْ حَالَ يَحُولُ، فَالْوَاوُ الثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ، وَالتَّغْيِيرُ بَيْنَ الْمُحَالِ وَالْحُؤُولِ ظَاهِرٌ فِي الْبِنَاءِ وَالْحُرُوفِ الزَّوَائِدِ فِيهِمَا، إِذِ الْمُحَالُ وَزْنُهُ مُفْعَلٌ، وَالزَّائِدُ فِيهِ مِيمٌ، وَالْحُؤُولُ وَزْنُهُ فُعُولٌ، وَالزَّائِدُ فِيهِ وَاوٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُحَالَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَوَلِ ثُمَّ رَأَيْنَا أَهْلَ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ يُرِيدُونَ بِالْمُحَالِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا وُجُودَ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ فِيهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ جِهَةَ اشْتِقَاقِهِ مِنَ الْحُؤُولِ، وَهُوَ كَوْنُهُ حَالَ، أَيِ: انْتَقَلَ وَانْقَلَبَ عَنْ جِهَةِ الْإِمْكَانِ، إِلَى جِهَةِ الِامْتِنَاعِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَلَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا: انْتَقَلَ عَنْ جِهَةِ الْإِمْكَانِ، أَنَّهُ كَانَ مُمْكِنًا ثُمَّ صَارَ مُحَالًا مُطْلَقًا، بَلْ ذَلِكَ فِي الْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ مُمْكِنٌ، وَبِاعْتِبَارِ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ صَارَ مُحَالًا. وَأَمَّا الْمُحَالُ لِذَاتِهِ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ.
وَمُرَادُنَا بِانْتِقَالِهِ عَنْ جِهَةِ الْإِمْكَانِ، فِي الذِّهْنِ، لَا فِي الْخَارِجِ. يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ مَا يُتَلَفَّظُ بِاسْمِهِ مُمْكِنًا، إِذْ يَجْعَلُ لَنَا قُوَّةً نُدْرِكُ ذَلِكَ، فَانْتَقَلَ مُسَمَّى الْمُحَالِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مِنْ الِاسْتِحَالَةِ، وَهَذَا مَوْضِعٌ وَقَفَ أَكْثَرُ النَّاسِ دُونَهُ، فَلْنَقِفْ عِنْدَهُ، وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ
(1/232)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَقِفُ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ هَهُنَا، يَظُنُّ أَنَّهُ سَفْسَطَةٌ، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ.
هَذَا تَقْرِيرُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُنَا: «الْمُحَالُ مَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ» بِقَوْلِنَا: «إِذِ اشْتِقَاقُ الْمُحَالِ مِنَ الْحُؤُولِ عَنْ جِهَةِ إِمْكَانِ الْوُجُودِ» .
«أَمَّا» تَقْرِيرُ «الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ» وَهِيَ قَوْلُنَا: وَهُوَ، أَيْ: عَدَمُ تَصَوُّرِ الْوُقُوعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ «فَلِأَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، وَبِهِ احْتَجَّ آدَمُ عَلَى مُوسَى» - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - فِيمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ، أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، أَغْوَيْتَ النَّاسَ، وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ ! فَقَالَ آدَمُ: وَأَنْتَ يَا مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى عَمَلٍ عَمِلْتُهُ، كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الرُّوَاةِ أَنَّ آدَمَ هَهُنَا مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلُ حَاجَّ وَمُوسَى مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مَحْجُوجٌ، وَإِنَّمَا عَكَسَ ذَلِكَ الْقَدَرِيَّةُ تَصْحِيحًا لِمَذْهَبِهِمْ.
(1/233)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبَيَانُ أَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ، هُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ، مُحَالٌ، فَهُوَ مُحَالٌ، أَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، أَيْ: لَا يَقْبَلُ تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ فِي إِيجَادِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَبَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ، فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْدُورُ الْوُجُودِ، مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ عَدَمِ الْوُجُودِ، وَمُرَادُ عَدَمِ الْوُجُودِ، لَلَزِمَ تَنَاقُضُ مُقْتَضَى الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ، فَإِنْ تَمَّ مُقْتَضَى الْقُدْرَةِ بِالْوُجُودِ، تَخَلَّفَ مُقْتَضَى الْعِلْمِ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ بِالْوُجُودِ، فَانْقَلَبَ الْعِلْمُ جَهْلًا، وَإِنْ تَمَّ مُقْتَضَى الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْوُجُودِ، تَخَلَّفَ مُقْتَضَى الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْوُجُودُ، فَانْقَلَبَتِ الْقُدْرَةُ عَجْزًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ خِلَافَ مَعْلُومِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَقْدُورٍ، فَهُوَ مُحَالٌ، وَأَمَّا أَنَّ مَا كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ، فَهُوَ مُحَالٌ، فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ كُلَّهَا إِنَّمَا تَصْدُرُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَوْ فُرِضَ وُجُودُ مَا لَيْسَ مَقْدُورًا لَهُ، لَلَزِمَ إِثْبَاتُ خَالِقٍ آخَرَ مَعَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَالرَّدُّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِهِ، مُسْتَقْصًى مَعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» ، وَقَدْ بَانَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ مَعْنَى قَوْلِنَا: «فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ» أَيْ: لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُ خِلَافِ مَعْلُومِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِاسْتِحَالَتِهِ،
(1/234)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وَإِلَّا انْقَلَبَ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ جَهْلًا» ، وَثَبَتَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ قَوْلُنَا: «إِنْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، صَحَّ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ» .
قَوْلُهُ: «وَقَدْ جَازَ التَّكْلِيفُ بِهِ إِجْمَاعًا» أَيْ: بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ «فَلْيَجُزْ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ» .
هَذَا تَقْرِيرٌ لِقَوْلِنَا بَعْدَ الْمُلَازَمَةِ الْمَذْكُورَةِ: «وَقَدْ صَحَّ ثَمَّ، فَلْيَصِحَّ هُنَا» وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّمِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، قَدْ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ «بِجَامِعِ الِاسْتِحَالَةِ» أَيْ: أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا كَوْنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَالَ الْوُقُوعِ. أَمَّا الْمُحَالُ لِذَاتِهِ، فَبِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا الْمُحَالُ لِغَيْرِهِ، فَبِمَا قَرَّرْنَاهُ، وَقَدْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِأَحَدِهِمَا، فَلْيَصِحَّ بِالْآخَرِ، عَمَلًا بِالْجَامِعِ الْمُؤَثِّرِ، وَهُوَ الِاسْتِحَالَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِثْلَيْنِ وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: «وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بِالْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ، لِانْتِسَاخِهِ بِالِاسْتِحَالَةِ بِالْغَيْرِ الْعَرَضِيَّةِ» . هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْمُحَالُ لِذَاتِهِ، وَالْمُحَالُ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا اسْتِحَالَةُ الْوُقُوعِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُحَالَ لِغَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَلَهُ حَظٌّ فِي الْإِمْكَانِ، وَتَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ لَا يَسْلُبُهُ هَذَا الْإِمْكَانَ الذَّاتِيَّ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُمْكِنًا، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ بِهِ، بِخِلَافِ الْمُحَالِ لِذَاتِهِ، فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْإِمْكَانِ بِوَجْهٍ مَا، فَالتَّكْلِيفُ بِهِ يَجِبُ أَنْ لَا يَصِحَّ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا أَثَرَ لَهُ، لِأَنَّ الْإِمْكَانَ الذَّاتِيَّ فِي الْمُحَالِ لِغَيْرِهِ انْتَسَخَ بِمَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ لَهُ بِالْغَيْرِ، فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّهُ اسْتَحَالَ وُجُودُهُ، فَصَارَ الْحُكْمُ لِلِاسْتِحَالَةِ الْعَرَضِيَّةِ، النَّاسِخَةِ لِحُكْمِ الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ، فَاسْتَوَى حِينَئِذٍ الْمُحَالُ لِذَاتِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي اسْتِحَالَةِ الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْجَامِعُ الْمُؤَثِّرُ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِمَا، وَالْفَرْقُ بِالْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، بَطَلَ حُكْمُهُ، وَعَفَا أَثَرُهُ، لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لِذَاتِهِ مُمْكِنًا ثُمَّ تَعَلَّقَتِ الصِّفَاتُ الْأَزَلِيَّةُ الذَّاتِيَّةُ
(1/235)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِاسْتِحَالَةِ وَجُودِهِ، كَانَ مُقْتَضَى تَعَلُّقِهَا الْعَرَضِيِّ - وَهُوَ الِامْتِنَاعُ - نَاسِخًا لِمُقْتَضَى الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ، وَهُوَ الْوُجُودُ.
قَوْلُهُ: «وَأَيْضًا فَكُلُّ مُكَلَّفٍ بِهِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مُكَلَّفٍ بِهِ «إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِوُجُودِهِ فَيَجِبُ، أَوْ لَا» يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهِ «فَيَمْتَنِعُ» . فَإِنْ تَعَلَّقَ بِوُجُودِهِ وَجَبَ وُجُودُهُ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِوُجُودِهِ، كَانَ وَجُودُهُ مُمْتَنِعًا، إِذْ لَا مُوجِدَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا مَوْجُودَ إِلَّا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَـ «التَّكْلِيفُ بِهِمَا» أَيْ: بِمَا وَجَبَ وُجُودُهُ، وَبِمَا امْتَنَعَ وُجُودُهُ «مُحَالٌ» ، أَمَّا التَّكْلِيفُ بِمَا وَجَبَ وُجُودُهُ، فَلِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَأَمَّا التَّكْلِيفُ بِمَا امْتَنَعَ وُجُودُهُ، فَلِأَنَّهُ إِيجَادُ الْمُمْتَنِعِ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ لَهُ أُسْوَةُ غَيْرِهِ مِنْ ذَلِكَ.
(1/236)
________________________________________
قَالُوا: هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ التَّكَالِيفَ بِأَسْرِهَا تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. قُلْنَا: مُلْتَزَمٌ. وَالْإِجْمَاعُ إِنْ عَنَيْتُمْ بِهِ الْعَقْلِيَّ فَمَمْنُوعٌ، أَوِ الشَّرْعِيَّ، فَالْمَسْأَلَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا فِيهَا لِظَنِّيَّتِهِ، بِدَلِيلِ الْخِلَافِ فِي تَكْفِيرِ مُنْكِرِ حُكْمِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا: هَذَا» اعْتِرَاضٌ عَلَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ «يَسْتَلْزِمُ أَنَّ التَّكَالِيفَ بِأَسْرِهَا، تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ» .
أَمَّا كَوْنُهُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، فَلِأَنَّ التَّكَالِيفَ بِأَسْرِهَا إِمَّا مَعْلُومُ الْوُجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ مَعْلُومُ الْعَدَمِ، وَقَدْ بَيَّنْتُمْ أَنَّ إِيجَادَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَالٌ، وَالتَّكَالِيفُ تُرَادُ لِلْإِيجَادِ، فَالتَّكْلِيفُ بِهَا تَكْلِيفٌ بِإِيجَادِ الْمُحَالِ، فَثَبَتَ أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ التَّكَالِيفَ بِأَسْرِهَا تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ.
وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ، فَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَعْلُومَاتِ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى وَاجِبٍ، وَمُمْتَنِعٍ، وَمُمْكِنٍ، وَالْأَفْعَالُ الْمُكَلَّفُ بِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْلُومَاتِ، فَيَكُونُ فِيهَا الْمُمْكِنُ، وَذَلِكَ يَنْفِي مَا اسْتَلْزَمَهُ قَوْلُكُمْ مِنْ أَنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ تَنْتَقِضُ بِالصُّورَةِ الْجُزْئِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مُلْتَزَمٌ» أَيْ: مَا أَلْزَمْتُمُونَاهُ، وَهُوَ أَنَّ التَّكَالِيفَ كُلَّهَا تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ مُلْتَزَمٌ، نَلْتَزِمُهُ وَنَقُولُ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: هُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَنَقُولُ: مَا تَعْنُونَ
(1/237)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي اسْتَنَدْتُمْ إِلَيْهِ فِي بُطْلَانِ قَوْلِنَا؟ إِنْ عَنَيْتُمْ بِهِ الْإِجْمَاعَ الْعَقْلِيَّ، وَهُوَ إِجْمَاعُ الْعُقَلَاءِ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَعْلُومَاتِ مُمْكِنٌ، وَالتَّكَالِيفُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، فَيَكُونُ بَعْضُهَا مُمْكِنًا، فَيَبْطُلُ كَوْنُ جَمِيعِهَا مُحَالًا؟
قُلْنَا: الْمُمْكِن ُ الَّذِي أَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى وُجُودِهِ فِي عُمُومِ الْمَعْلُومَاتِ وَخُصُوصِ التَّكَالِيفِ، هُوَ الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ، أَمَّا الْمُمْكِنُ لِغَيْرِهِ، فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فِي التَّكَالِيفِ بِمَا قَرَّرْنَاهُ، وَالْإِجْمَاعُ الْعَقْلِيُّ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ.
وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ الْإِجْمَاعَ الشَّرْعِيَّ الصَّادِرَ عَنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا عِلْمِيَّةٌ، أَيِ: الْمَطْلُوبُ فِيهَا الْعِلْمُ الْجَازِمُ، لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ تَتَّجِهُ فِيهَا، وَالْإِجْمَاعُ الشَّرْعِيُّ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَظَائِرِهَا مِنَ الْعِلْمِيَّاتِ لِظَنِّيَّتِهِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا، أَيْ: مُسْتَنَدُهُ أَدِلَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ لَا الْقَطْعَ، وَالْمَطَالِبُ الْعِلْمِيَّةُ لَا تَحْصُلُ بِالْمَدَارِكِ الظَّنِّيَّةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الشَّرْعِيَّ ظَنِّيٌّ - كَمَا قُلْنَا - أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ مُنْكِرِ حُكْمِهِ، أَيْ: مَنْ أَنْكَرَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَسْوِيغِ هَذَا الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَ عِلْمِيًّا، لَمَا اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ حُكْمَهُ، كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ حُكْمًا شَرْعِيًّا ضَرُورِيًّا، كَوُجُودِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَوُجُوبِ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ.
وَأَيْضًا، فَأَهْلُ الْإِجْمَاعِ الشَّرْعِيِّ إِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الظَّاهِرَةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَكَلَامُنَا هَهُنَا فِي سِرِّ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي تَاهَتْ فِيهِ الْعُقُولُ، وَهُوَ الْقَدَرُ،
(1/238)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَخَلْقُ الْأَفْعَالِ، وَالتَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ، وَالتَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهِيَ أَحْكَامٌ بَاطِنَةٌ عِلْمِيَّةٌ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي آخِرِ مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، فَأَيْنَ مَوْضُوعُ نَظَرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ مِنْ هَذَا، حَتَّى يَسْتَنِدَ إِلَيْهِ فِي بُطْلَانِ مَا ذَكَرْنَا؟
وَنَحْنُ نَرَى أَهْلَ الْإِجْمَاعِ الشَّرْعِيِّ يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ بِمَا يَقَعُ لَهُمْ، ثُمَّ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، انْقَسَمُوا هُمْ بِأَعْيَانِهِمْ إِلَى جَبْرِيَّةٍ وَقَدَرِيَّةٍ وَمُتَوَسِّطَةٍ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الشَّرْعِيَّ حُجَّةٌ، لَكِنْ فِي الْعِلْمِيَّاتِ وَالظَّنِّيَّاتِ، وَلَا يَرْتَبِطُونَ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ. فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الشَّرْعِيَّ لَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِبُطْلَانِ مَا الْتَزَمْنَاهُ، مِنْ أَنَّ التَّكَالِيفَ بِأَسْرِهَا تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، بِالْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرْنَاهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: حَيْثُ انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ «الْمُخْتَصَرِ» ، فَلْنَذْكُرْ جُمْلَةَ مَآخِذِ الْمَسْأَلَةِ عَقْلًا وَسَمْعًا.
أَمَّا مَأْخَذُهَا عَقْلًا، فَذَكَرَهُ الْكِنَانِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَلْ يَتَحَقَّقُ الطَّلَبُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْعَالِمِ بِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْمَطْلُوبِ أَمْ لَا؟ خُصُوصًا إِنِ اشْتُرِطَتِ الْإِرَادَةُ فِي الْأَمْرِ، هَلْ يَتَنَاقَضُ عِلْمُهُ بِأَنْ لَا يَقَعَ، مَعَ إِرَادَتِهِ لِأَنْ يَقَعَ أَمْ لَا؟
قُلْتُ: فَإِنْ تَحَقَّقَ الطَّلَبُ، وَلَمْ تَتَنَاقَضْ صِفَةُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، جَازَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِلَّا فَلَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ، هَلْ يُسْتَحَقَّانِ عَلَى الْأَعْمَالِ أَوِ الْأَعْمَالُ فِي حُكْمِ الْأَعْلَامِ عَلَيْهَا؟
(1/239)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: فَإِنْ قُلْنَا: الثَّوَابُ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مُمْكِنًا، مُتَصَوَّرَ الْوُقُوعِ، لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ، وَإِنْ قُلْنَا: الْعَمَلُ عَلَمٌ عَلَى الثَّوَابِ، لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مُتَصَوَّرَ الْوُقُوعِ، وَكَانَ عَدَمُهُ لِامْتِنَاعِهِ عَلَمًا عَلَى مَا يُرَادُ بِالْمُكَلَّفِ مِنَ الْجَزَاءِ، كَالْكَافِرِ، كَانَ عَدَمُ إِيمَانِهِ عَلَمًا عَلَى عَذَابِهِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى سِرِّ الْقَدَرِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَأَمَّا مَأْخَذُهَا سَمْعًا فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 286] ، أَقَرَّ قَائِلِيهِ عَلَيْهِ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ لَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزًا لَمَا سَأَلُوا دَفْعَهُ، وَلَا أَقَرَّهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ لِمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سَأَلُوهُ وَأَقَرَّهُمْ، دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا قَاطِعٌ، وَأُجِيبُ عَنْهُ، بِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، إِذْ قَدْ يَقَعُ السُّؤَالُ بِمَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ غَيْرُهُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الْأَنْبِيَاءِ: 112] ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْبَاطِلِ، وَيُمْدَحَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا أَنْ لَا يُكَلِّفَهُمْ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا مُتَعَارَفٌ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ لِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ: لَا أُطِيقُهُ، لَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا جَوَازَ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، فَسَأَلُوا نَفْيَهُ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ بِعَيْنِهَا، وَفِي آيَاتٍ غَيْرِهَا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الْبَقَرَةِ: 286] ، وَالْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا سَبَقَ.
أَمَّا وُقُوعُ مَا لَا يُطَاقُ، فَلَمْ يَقَعْ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي أُصُولِهَا، فِي
(1/240)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَلْقِ الْأَفْعَالِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَفُرُوعُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالْفِقْهِ كَثِيرَةٌ، جَمَعْتُ جُمْلَةً مِنْهَا فِي كِتَابِ «رَدِّ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» فَلَمْ يَجِبْ عَلَيَّ ذِكْرُهَا هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/241)
________________________________________
خَاتِمَةٌ
لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ، وَمُتَعَلِّقُهُ فِي النَّهْيِ كَفُّ النَّفْسِ، وَقِيلَ: ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «خَاتِمَةٌ» أَيْ: لِهَذَا الْفَصْلِ - التَّكْلِيفِ - وَخَتَمْتُ بِهَا الْفَصْلَ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي تَنْوِيعِهِ إِلَى فِعْلٍ وَكَفٍّ.
قَوْلُهُ: «لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِفِعْلٍ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: مُتَعَلِّقُ التَّكْلِيفِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِعْلًا، وَلَا يُطْلَبُ مِنَ الْمُكَلَّفِ إِلَّا فِعْلٌ. أَمَّا فِي الْأَمْرِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ إِيجَادُ فِعْلٍ مَأْمُورٍ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَأَمَّا فِي النَّهْيِ، فَمُتَعَلِّقُ التَّكْلِيفِ فِيهِ، كَفُّ النَّفْسِ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَالْكَفِّ عَنِ الزِّنَى، «وَقِيلَ: ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ» أَيْ: ضِدٌّ مِنْ أَضْدَادِهِ كَانَ، إِذْ بِتَلَبُّسِهِ بِضِدِّهِ يَكُونُ تَارِكًا لَهُ. «وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ» هُوَ ابْنُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَاسْمُهُ: أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَأَبُو هَاشِمٍ: اسْمُهُ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ فِي الطَّبَقَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ طَبَقَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَبُوهُ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّامِنَةِ.
قَالَ أَبُو هَاشِمٍ: «الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ» أَيْ: مُتَعَلِّقُ النَّهْيِ الْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفْعَلَ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الضِّدِّ.
(1/242)
________________________________________
لَنَا: الْمُكَلَّفُ بِهِ مَقْدُورٌ، وَالْعَدَمُ غَيْرُ مَقْدُورٍ فَلَا يَكُونُ مُكَلَّفًا، فَهُوَ إِمَّا كَفُّ النَّفْسِ، أَوْ ضِدُّ الْمَنْهِيِّ، وَكِلَاهُمَا فِعْلٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«لَنَا» أَيْ: عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ: «الْمُكَلَّفُ بِهِ مَقْدُورٌ، وَالْعَدَمُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، فَلَا يَكُونُ مُكَلَّفًا» بِهِ.
أَمَّا أَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ، فَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَكُلُّ مَا كَانَ سَبَبَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، فَهُوَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النَّحْلِ: 32] ، {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فُصِّلَتْ: 28] ، {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النَّجْمِ: 39] ، وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ.
وَأَمَّا أَنَّ الْعَدَمَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْمُكَلَّفِ، فَلِأَنَّهُ نَفْيٌ مَحْضٌ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِلْقُدْرَةِ، وَلَا قَابِلًا لِأَثَرِهَا، وَكُلُّ مَقْدُورٍ، فَهُوَ قَابِلٌ لِتَأْثِيرِ الْقُدْرَةِ، فَالْعَدَمُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، فَلَا يَكُونُ مُكَلَّفًا بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ «فَهُوَ» - يَعْنِي مُتَعَلِّقَ التَّكْلِيفِ فِي النَّهْيِ - «إِمَّا كَفُّ النَّفْسِ» عَنِ الْمَنْهِيِّ، أَيْ: حَبْسُهَا عَنْهُ بِعِنَانِ التَّقْوَى «أَوْ ضِدُّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ» ، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُ مَعَهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ، «وَكِلَاهُمَا» يَعْنِي كَفَّ النَّفْسِ وَضِدَّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ «فِعْلٌ» .
أَمَّا كَوْنُ الْكَفِّ فِعْلًا، فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ صَرْفُ النَّفْسِ عَمَّا تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَهْرُهَا عَلَى ذَلِكَ، وَزَجْرُهَا عَمَّا هَمَّتْ بِهِ، وَهَذِهِ أَفْعَالٌ حَقِيقِيَّةٌ. غَيْرَ أَنَّ
(1/243)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُتَعَلِّقَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُشَاهَدًا - وَهُوَ النَّفْسُ - خَفِيَ أَمْرُهَا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُفُّ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ؟ قُلْنَا: هَذَا سُؤَالٌ، يَتَعَلَّقُ جَوَابُهُ بِعُلُومِ الْبَاطِنِ، وَاسْتِقْصَاؤُهُ يَخْرُجُ بِنَا عَمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، مِنْ تَقْرِيرِ أُصُولِ الشَّرْعِ، لَكِنَّا نُشِيرُ إِلَى الْجَوَابِ إِشَارَةً خَفِيفَةً، فَنَقُولُ:
إِنَّ الْإِنْسَانَ عِبَارَةٌ عَنْ هَيْكَلٍ مَحْسُوسٍ، اشْتَمَلَ عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي، مِنْهَا: النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ وَالْهَوَى، وَمِنْهَا: الْعَقْلُ وَالْإِيمَانُ وَالْحَيَاءُ، فَالْمُتَوَجِّهُ إِلَى مُقَارَفَةِ الْمَعَاصِي، هُمَا الْمَعْنَيَانِ الْأَوَّلَانِ، وَالزَّاجِرُ عَنْهَا الْمُفَارِقُ لَهَا هُمَا الْمَعْنَيَانِ الْآخَرَانِ، وَهَمَا كَجَيْشَيْنِ فِي دَارٍ يَقْتَتِلَانِ وَيَتَضَادَّانِ، فَالْغَالِبُ مَنْ صَحِبَهُ التَّوْفِيقُ، وَالْمَغْلُوبُ مَنْ صَحِبَهُ الْخِذْلَانُ.
وَأَمَّا كَوْنُ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِعْلًا، فَلِأَنَّ الْمُرَادَ التَّلَبُّسُ بِضِدِّهِ، كَمَنْ نُهِيَ عَنِ الزِّنَى، فَتَشَاغَلَ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ، أَوْ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ، فَتَلَبَّسَ بِالْإِفْطَارِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضِدُّ الشَّيْءِ إِلَّا تَرْكَهُ، لَكَانَ فِعْلًا، لِأَنَّ تَرْكَ الشَّيْءِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ فِعْلِهِ، وَالْإِعْرَاضُ فِعْلٌ، نَعَمْ، تَارَةً يَكُونُ بِالْبَدَنِ، فَيَظْهَرُ لِلْحِسِّ، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْقَلْبِ وَالنَّفْسِ، فَيُدْرَكُ عَقْلًا لَا حِسًّا. وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ الْفَصِيحُ:
إِذَا انْصَرَفَتْ نَفْسِي عَنِ الشَّيْءِ لَمْ تَكُنْ ... إِلَى نَحْوِهِ مِنْ آخِرِ الدَّهْرِ تَرْجِعُ
فَوَصَفَ النَّفْسَ بِالِانْصِرَافِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
(1/244)
________________________________________
احْتُجَّ بِأَنَّ تَارِكَ الزِّنَى مَمْدُوحٌ، حَتَّى مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ ضِدِّيَّةِ تَرْكِ الزِّنَى، فَلَيْسَ إِلَّا الْعَدَمُ.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلْ إِنَّمَا يُمْدَحُ عَلَى كَفِّ نَفْسِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«احْتَجَّ» أَبُو هَاشِمٍ عَلَى أَنَّ مُتَعَلِّقَ النَّهْيِ الْعَدَمُ الْمَحْضُ، «بِأَنَّ تَارِكَ الزِّنَى مَمْدُوحٌ، حَتَّى مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ ضِدِّيَّةِ تَرْكِ الزِّنَى» أَيْ: يُمْدَحُ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّ تَرْكَ الزِّنَى ضِدٌّ لِلزِّنَى، بَلْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ ذَلِكَ، وَمُتَعَلِّقُ التَّكْلِيفِ فِي النَّهْيِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْمُكَلَّفِ، وَقَصْدُ الشَّيْءِ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ تَصَوُّرِهِ، وَتَصَوُّرُ ضِدِّ الشَّيْءِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ مُحَالٌ، فَإِذَنْ «لَيْسَ» مُتَعَلِّقُ مَدْحِ تَارِكِ الزِّنَى، وَلَا مُتَعَلِّقُ التَّكْلِيفِ بِتَرْكِهِ «إِلَّا الْعَدَمُ» .
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مَمْنُوعٌ، بَلْ إِنَّمَا يُمْدَحُ تَارِكُ الزِّنَى عَلَى كَفِّ نَفْسِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ فِعْلٌ كَمَا سَبَقَ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ كَفَّ نَفْسِهِ عَنِ الزِّنَى، لَيْسَ مُتَعَلِّقَ مَدْحِهِ عَلَى تَرْكِهِ، لَكِنْ، لَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَ غَفْلَتِهِ عَنْ ضِدِّيَّةِ تَرْكِ الزِّنَى لِلزِّنَى، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا، أَنَّ تَرْكَ الشَّيْءِ، هُوَ الْإِعْرَاضُ الْبَدَنِيُّ أَوِ الْقَلْبِيُّ عَنْهُ، وَالْإِعْرَاضُ فِعْلٌ، فَمَنْ تَرَكَ الزِّنَى، فَقَدْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَذَلِكَ الْإِعْرَاضُ فِعْلٌ، وَفِعْلُ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ
(1/245)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ الْمَدْحَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرًا لَهُ عِنْدَ إِيجَادِهِ، وَإِذَا كَانَ تَارِكُ الزِّنَى مُتَصَوِّرًا لِإِعْرَاضِهِ عَنْهُ عِنْدَ تَرْكِهِ لَهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ تَرْكِ الزِّنَى مُتَصَوِّرًا لِضِدِّيَّةِ تَرْكِهِ لَهُ، لِأَنَّ ضِدَّ الشَّيْءِ مَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ، وَعَدَمُ اجْتِمَاعِ الزِّنَى وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ مِنَ الْبَدِيهِيَّاتِ، نَعَمْ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ حَدَّ ضِدِّ الشَّيْءِ مَا لَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ هَذِهِ جَهَالَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَلْفَاظِ وَالِاصْطِلَاحَاتِ، لَا إِلَى الْحَقَائِقِ وَالذَّوَاتِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْإِدْرَاكِيَّةِ مُتَصَوِّرٌ جَازِمٌ بِأَنَّ تَرْكَ الزِّنَى ضِدٌّ لَهُ. وَالْغَفْلَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ تَعْرِيفَ الضِّدِّ مَا هُوَ؟ أَوْ أَنَّ مَا تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهُ مَعَ غَيْرِهِ ضِدٌّ لَهُ أَوْ لَا؟ ثُمَّ عَلَى أَبِي هَاشِمٍ فِي حُجَّتِهِ سُؤَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَعْوَاكَ فِي أَنَّ مُتَعَلِّقَ التَّكْلِيفِ الْعَدَمُ الْمَحْضُ كُلِّيَّةً، وَإِنَّمَا أَثْبَتَهَا بِمِثَالٍ جُزْئِيٍّ، وَهُوَ مَدْحُ تَارِكِ الزِّنَى مَعَ غَفْلَتِهِ عَنْ أَنَّ تَرْكَهُ ضِدٌّ لَهُ، وَالصُّوَرُ الْجُزْئِيَّةُ لَا تُثْبِتُ الدَّعَاوَى الْكُلِّيَّةَ، إِذْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: كُلُّ إِنْسَانٍ عَالِمٌ، لِأَنَّ زَيْدًا عَالِمٌ، أَوْ كُلُّ حَيَوَانٍ عَاقِلٌ، لِأَنَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ عَاقِلٌ، لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ التَّكْلِيفِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ الْفِعْلَ، وَفِي بَعْضِهَا الْعَدَمَ، فَقَدْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تُبَرْهِنَ عَلَى عُمُومِ دَعَوَاكَ بِبُرْهَانٍ عَامٍّ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: مُتَعَلِّقُ التَّكْلِيفِ فِي النَّهْيِ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْمُكَلَّفِ يَنْعَكِسُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ مُتَعَلَّقَهُ عِنْدَهُ الْعَدَمُ الْمَحْضُ، وَقَصْدُهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، إِنَّمَا الْمُمْكِنُ قَصْدُ إِعْدَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْإِعْدَامُ فِعْلٌ كَمَا نَقُولُ نَحْنُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْعَدَمِ وَالْإِعْدَامِ، كَمَا بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْإِيجَادِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(1/246)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ
وَهِيَ خَمْسَةٌ كَمَا سَيَأْتِي قِسْمَتُهَا. وَالْحُكْمُ، قِيلَ: خِطَابُ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ. وَقِيلَ: أَوِ الْوَضْعِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ، فَلَا يَرِدُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْخِطَابُ قَدِيمٌ، فَكَيْفَ يُعَلَّلُ بِالْعِلَلِ الْحَادِثَةِ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ نَظْمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ قَطْعًا، بَلْ مُقْتَضَاهُ، وَهُوَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمُ الزِّنَى عِنْدَ اسْتِدْعَاءِ الشَّرْعِ مِنَّا تَنْجِيزُ التَّكْلِيفِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحْكَامُ التَّكْلِيفِ
قَوْلُهُ: «الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، وَهِيَ خَمْسَةٌ، كَمَا سَيَأْتِي قِسْمَتُهَا» .
الْأَحْكَامُ: جَمْعُ حُكْمٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحُكْمُ مَصْدَرُ قَوْلِكَ: حَكَمَ بَيْنَهُمْ يَحْكُمُ حُكْمًا، إِذَا قَضَى. قُلْتُ: وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ تَرَاكِيبُ مَادَّةِ «ح ك م» ، أَوْ أَكْثَرُهَا، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُكَ: حَكَّمْتُ الرَّجُلَ تَحْكِيمًا، إِذَا مَنَعْتَهُ مِمَّا أَرَادَ، وَحَكَمْتُ السَّفِيهَ - بِالتَّخْفِيفِ - وَأَحْكَمْتُهُ، إِذَا أَخَذْتَ عَلَى يَدِهِ.
أَنْشَدَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ لِجَرِيرٍ:
أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا
وَسُمِّي الْقَاضِي حَاكِمًا، لِمَنْعِهِ الْخُصُومَ مِنَ التَّظَالُمِ.
(1/247)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا بَيَانُ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ فِي الِاصْطِلَاحِ، فَقَدْ ذُكِرَتْ بَعْدُ. وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي، نَحْوُ: الْوُجُوبُ وَالْحَظْرُ وَغَيْرُهُمَا أَحْكَامًا، لِأَنَّ مَعْنَى الْمَنْعِ مَوْجُودٌ فِيهَا، إِذْ حَقِيقَةُ الْوُجُوبِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ اسْتِدْعَاءِ الْفِعْلِ وَالْمَنْعِ مِنَ التَّرْكِ، وَالْحَظْرُ مُرَكَّبٌ مِنَ اسْتِدْعَاءِ التَّرْكِ وَالْمَنْعِ مِنَ الْفِعْلِ.
أَمَّا النَّدْبُ وَالْكَرَاهَةُ، فَمَعْنَى الْمَنْعِ فِيهِمَا مَوْجُودٌ، لَكِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْهُ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ، وَلِهَذَا، أَوْ نَحْوِهِ، اخْتُلِفَ فِي تَنَاوُلِ التَّكْلِيفِ لَهُمَا لِعَدَمِ الْمَشَقَّةِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ فِيهِمَا.
أَمَّا النَّدْبُ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَرْكِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى طَلَبِ ثَوَابِهِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، إِذْ لَيْسَ ثَوَابُ مَنْ تَرَكَ الْمَنْدُوبَاتِ كَثَوَابِ مَنْ فَعَلَهَا، وَحَافَظَ عَلَيْهَا، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِين} َ لَا يَعْلَمُونَ [الزُّمَرِ: 9] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ثَوَابُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ. وَالْإِجْمَاعُ عَلَى هَذَا، وَهُوَ مِنْ
(1/248)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضَرُورِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ إِلَّا مَا نَدَرَ مِنْ إِلْحَاقِ بَعْضِ الْقَاصِرِينَ بِالْمُجْتَهِدِينَ بِحَسَبِ السَّابِقَةِ، وَالسَّعَادَةِ اللَّاحِقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ، أَوْ شُبْهَةِ سَبَبٍ. فَحِينَئِذٍ نَقُولُ: الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ يَمْنَعَانِ مِنْ تَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ اسْتِصْلَاحًا وَنَظَرًا، لَا عَزْمًا وَجَزْمًا، وَإِذَا ثَبَتَ مَعْنَى الْمَنْعِ فِي فِعْلِ الْمَنْدُوبِ، فَافْهَمْ مِثْلَهُ فِي تَرْكِ الْمَكْرُوهِ، لِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ وَسِيَّانِ فِي الْوَزْنِ، فَكَمَا يُمْنَعُ الْمُكَلَّفُ الْمُفْطِرُ مِنْ تَرْكِ السِّوَاكِ مَنْعًا غَيْرَ جَازِمٍ، كَذَلِكَ يُمْنَعُ الصَّائِمُ مِنَ السِّوَاكِ بَعْدَ الزَّوَالِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مَنْعًا غَيْرَ جَازِمٍ، لِأَنَّ تَرْكَ السِّوَاكِ لِلْأَوَّلِ مَكْرُوهٌ، وَلِلثَّانِي مَنْدُوبٌ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى وُجُودِ مُطْلَقِ مَعْنَى الْمَنْعِ فِي النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ، لَحِقَا بِالْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ، فِي تَنَاوُلِ التَّكْلِيفِ لَهُمَا، وَبِالنَّظَرِ إِلَى [أَنَّ] الْمَنْعَ فِيهِمَا اصْطِلَاحٌ لَا عَزْمَ وَجَزْمَ قَصْرًا، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا التَّكْلِيفُ.
وَإِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إِلَى التَّكْلِيفِ، فِي قَوْلِنَا: «أَحْكَامُ التَّكْلِيفِ» هِيَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَقِّنَا، لِأَنَّا لَمَّا أُلْزِمْنَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ تَرْكَ الْمَعَاصِيَ، وَفِعْلَ الطَّاعَاتِ، ثَبَتَ فِي حَقِّنَا تَحْرِيمُ الْمَحْظُورَاتِ، وَوُجُوبُ الْوَاجِبَاتِ.
(1/249)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَالْحُكْمُ، قِيلَ: خِطَابُ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ» .
أَقُولُ: إِنَّمَا قُلْتُ: قِيلَ، لِمَا ذَكَرْتُ بَعْدُ، مِنْ أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ، مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ، وَالْكَلَامُ الْآنَ عَلَى التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالْكَلَامُ أَوَّلًا فِي حَقَائِقِ أَلْفَاظِهِ لُغَةً، ثُمَّ فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ وَاحْتِرَازَاتِهِ.
أَمَّا حَقَائِقُ أَلْفَاظِهِ، فَالْحُكْمُ قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ لُغَةً.
وَأَمَّا الْخِطَابُ، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ خَاطَبَهُ بِالْكَلَامِ يُخَاطِبُهُ مُخَاطَبَةً وَخِطَابًا، وَهُوَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْمُفَاعَلَةِ، نَحْوَ ضَارَبَهُ مُضَارَبَةً وَضِرَابًا، وَلَيْسَ الْخِطَابُ هُوَ الْكَلَامُ وَالْمُكَالَمَةُ، وَهِيَ تَوَجُّهُ الْكَلَامِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ خَاطَبَهُ بِالْكَلَامِ، فَلَوْ كَانَ الْخِطَابُ هُوَ الْكَلَامُ، لَكَانَ التَّقْدِيرُ: كَالَمَهُ أَوْ كَلَّمَهُ بِالْكَلَامِ، فَيَكُونُ تَكْرَارًا أَوْ تَأْكِيدًا، وَالْأَصْلُ، خِلَافُهُ. نَعَمِ، اسْتُعْمِلَ الْخِطَابُ فِي الِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ، فَصَارَ حَقِيقَةً اصْطِلَاحِيَّةً.
وَالْأَفْعَالُ: جَمْعُ فِعْلٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَشْهُورٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرِ الْجَوْهَرِيُّ حَقِيقَتَهُ، بَلْ تَصَارِيفَ مَادَّتِهِ.
أَمَّا فِي التَّحْقِيقِ، فَهُوَ مَعْنَى ذَاتٍ تَشْمَلُ مَا صَدَرَ مِنَ الْأَفْعَالِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعَنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُنَا: اخْتِيَارًا وَاضْطِرَارًا، لِيَتَنَاوَلَ فِعْلَ الْمُرْتَعِشِ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ، فَإِنَّهَا أَفْعَالٌ اضْطِرَارِيَّةٌ.
(1/250)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالِاقْتِضَاءُ: افْتِعَالٌ، مِنْ قَضَى يَقْضِي: إِذَا طَلَبَ وَحَكَمَ، فَالِاقْتِضَاءُ: هُوَ الطَّلَبُ، وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْعُقَلَاءِ نَحْوَ: اقْتَضَى زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو الدَّيْنَ، أَيْ: طَلَبَهُ، وَاقْتَضَى مِنْهُ أَنْ يَخْدِمَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَفِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، نَحْوُ قَوْلِنَا: الْعِلَّةُ تَقْتَضِي الْمَعْلُولَ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْتَضِي كَذَا، أَيْ يَطْلُبُ الْمَعْنَى الْفُلَانِيَّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ فِي الِاصْطِلَاحِ يَشْعُرُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالتَّخْيِيرُ: تَفْعِيلٌ مِنْ خَارَ يَخِيرُ، وَاخْتَارَ يَخْتَارُ، وَهُوَ رَدُّ الْعَاقِلِ إِلَى اخْتِيَارِهِ، إِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْ. هَذَا الْكَلَامُ عَلَيْهِ لُغَةً.
أَمَّا بَيَانُ حَقِيقَتِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِرَازَاتِ، فَقَوْلُهُمْ: خِطَابُ اللَّهِ، أَيْ: كَلَامُهُ، وَقَدْ عَدَلَ الْقَرَافِيُّ فِي «شَرْحِ التَّنْقِيحِ» عَنْ لَفْظِ: خِطَابِ اللَّهِ إِلَى لَفْظِ: كَلَامِ اللَّهِ، قَالَ: لِأَنَّ الْخِطَابَ وَالْمُخَاطَبَةَ لُغَةً، إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ، فَلَا يَصِحُّ فِيهِ الْخِطَابُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَادِثِ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ عِنْدَهُ، فَلَا يَظْهَرُ مِنْهُ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَكُونَ خِطَابًا.
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدِيمٌ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ مَنْ يُخَاطِبُهُ.
وَالْأَوَّلُ - وَهُوَ الْبِنَاءُ عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ - هُوَ مُنَازَعٌ فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي اللُّغَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْخَطْبُ فِيهِ يَسِيرٌ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُخَاطَبَةِ
(1/251)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَخِطَابِهِ لِخَلْقِهِ، أَنْ يَكُونُوا مَعَهُ أَزَلًا، إِذْ قَدِ اتَّفَقْنَا وَالْأَشَاعِرَةُ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ الْمَعْدُومِ، بِمَعْنَى تَوَجُّهِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَيْهِ إِذَا وُجِدَ، فَكَذَا يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ إِلَيْهِ إِذَا وُجِدَ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخِطَابَ صَارَ فِي الِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَى الْكَلَامِ. نَعَمِ، الْعُدُولُ عَنْ لَفْظِ الْخِطَابِ إِلَى لَفْظِ الْكَلَامِ يَكُونُ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
وَعَدَلَ الْآمِدِيُّ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ إِلَى «خِطَابِ الشَّارِعِ» كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَشْمَلَ كَلَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَكَلَامَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ عِنْدَ التَّحْقِيقِ أَوْلَى. وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ خِطَابَ الرَّسُولِ هُوَ خِطَابُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْهُ، وَمُبَيِّنٌ لَهُ.
وَزَادَ الْقَرَافِيُّ صِفَةَ الْقَدِيمِ، فَقَالَ: «كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ» احْتِرَازًا مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، الَّتِي هِيَ أَدِلَّةُ الْحُكْمِ، لَا نَفْسُ الْحُكْمِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي خَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ، مَعْنًى قَائِمٌ بِالنَّفْسِ، فَلَوْ لَمْ يَقُلِ: الْقَدِيمُ، لَدَخَلَتْ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ فِي حَدِّ الْحُكْمِ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْحُكْمَ، بَلْ أَدِلَّةَ الْحُكْمِ، فَكَانَ يَتَّحِدُ الدَّلِيلُ وَالْمَدْلُولُ، وَهَذَا أَصْلٌ مُنَازَعٌ فِيهِ.
وَقَوْلُهُمُ: «الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ» احْتِرَازٌ مِمَّا تَعَلَّقَ بِذَوَاتِ الْمُكَلَّفِينَ، نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} [النَّحْلِ: 70] ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الرُّومِ: 20] ، وَاحْتِرَازٌ مِمَّا تَعَلَّقَ بِأَفْعَالِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ، كَالْجَمَادَاتِ وَنَحْوِهَا، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النَّمْلِ: 88] ، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} [الْكَهْفِ: 47] .
فَبِقَوْلِهِمُ: الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ، خَرَجَ الْمُتَعَلِّقُ بِذَوَاتِ الْمُكَلَّفِينَ.
(1/252)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبِقَوْلِهِمُ: الْمُكَلَّفِينَ، خَرَجَ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ.
وَقَوْلُهُمْ: «بِالِاقْتِضَاءِ» احْتِرَازٌ مِنْ مِثْلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الْكَهْفِ: 50] ، {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [الْبَقَرَةِ: 58] ، {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْلِ: 51] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَيْسَ بِحُكْمٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ، بَلْ هُوَ خَبَرٌ عَنْ تَكْلِيفٍ سَابِقٍ أَوْ حَاضِرٍ، إِذْ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النَّحْلِ: 51] ، هُوَ إِخْبَارٌ حَالِيٌّ لِلْمُخَاطَبِينَ بِنَهْيهِ لَهُمْ عَنِ الشِّرْكِ. وَقَوْلُهُمْ: «أَوِ التَّخْيِيرِ» تَكْمِيلٌ لِلْحَدِّ، لِيَدْخُلَ فِيهِ الْمُبَاحُ، إِذْ الِاقْتِضَاءُ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَهِيَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمَحْظُورُ وَالْمَكْرُوهُ، فَلَوِ اقْتُصِرَ، لَكَانَ نَاقِصًا. فَبِقَوْلِهِمْ: أَوِ التَّخْيِيرِ، كَمُلَ بِدُخُولِ الْمُبَاحِ فِيهِ.
وَيُورِدُ الْمُتَعَنِّتُونَ عَلَى مِثْلِ قَوْلِنَا: أَوِ التَّخْيِيرِ، أَنَّ «أَوْ» لِلشَّكِّ وَالتَّرْدِيدِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحُدُودِ الْكَشْفُ وَالتَّحْقِيقُ، وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ.
وَأُجِيبُ عَنْهُ، بِأَنَّ «أَوْ» لَهَا مَعَانٍ تُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي مَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، مِنْهَا التَّنْوِيعُ، نَحْوُ: الْإِنْسَانُ إِمَّا ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى، وَالْعَدَدُ: إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، أَيْ: هُوَ مُتَنَوِّعٌ إِلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَيِ: الْحُكْمُ لَهُ نَوْعَانِ: اقْتِضَاءٌ وَتَخْيِيرٌ، وَالتَّنْوِيعُ، هُوَ نَفْسُ الْكَشْفِ وَالتَّحْقِيقِ، لَا مُنَافٍ لَهُ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَنْ مِثْلِ هَذَا، أَنَّهُ حُكْمٌ بِالتَّرْدِيدِ، لَا تَرْدِيدٌ فِي
(1/253)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمِ، وَالشَّكُّ، هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّهُ جَزْمٌ لَا شَكٌّ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ لِـ «أَوْ» مَعَانٍ، فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ، وَالْمُشْتَرَكَاتُ لَا تَصْلُحُ فِي الْحُدُودِ لِإِجْمَالِهَا.
قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ الْإِجْمَالُ، لِجَوَازِ تَعْيِينِ الْمُرَادِ بِقَرِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَيَزُولُ الْإِجْمَالُ، فَيَجُوزُ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا وَنَحْوُهُ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْأَصْلِ: بِـ: مِنْهُ الشَّيْءُ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: أَوِ الْوَضْعِ» أَيْ: قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: الْحُكْمُ خِطَابُ اللَّهِ، الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، أَوِ الْوَضْعِ. وَأَرَادَ بِذَلِكَ دُخُولَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِأَسْبَابٍ وَضْعِيَّةٍ، وَهُوَ الْمُسَمَّى خِطَابُ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَذَلِكَ نَحْوُ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ، وَقَضَاءِ الْعِبَادَةِ وَأَدَائِهَا، وَنَصْبُ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ عَلَامَاتٌ عَلَى أَحْكَامِهَا، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ خِطَابًا اقْتِضَاءً وَلَا تَخْيِيرًا، فَإِذَا قِيلَ: أَوِ الْوَضْعِ، دَخَلَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ فَكَمُلَ، وَالْعُذْرُ لِمَنْ لَمْ يَقُلْ: أَوِ الْوَضْعِ، هُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ ضَرْبَانِ: خِطَابِيٌّ، أَيْ: ثَابِتٌ بِالْخِطَابِ، وَوَضْعِيٌّ إِخْبَارِيٌّ، أَيْ: ثَابِتٌ بِالْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ، وَغَرَضُهُ بِالتَّعْرِيفِ هَاهُنَا الْحُكْمُ الْخِطَابِيُّ لَا الْوَضْعِيُّ، إِذْ ذَلِكَ يُعْقَدُ لَهُ بَابٌ مُسْتَقِلٌّ يُذْكَرُ فِيهِ.
وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا: أَنَّ أَحَدَهُمَا يُرِيدُ تَعْرِيفَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ الْخِطَابِيُّ. أَمَّا الْوَضْعِيُّ، فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لِضَرُورَةٍ قَدْ بَيَّنَّاهَا عِنْدَ ذِكْرِ خِطَابِ الْوَضْعِ. وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِيمَا سَبَقَ: إِنَّ الْأَحْكَامَ السَّبَبِيَّةَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
(1/254)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ» الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ اقْتِضَاءً أَوْ تَخْيِيرًا، فَقَوْلُنَا: خِطَابُ الشَّرْعِ، لِيَتَنَاوَلَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، كَمَا حَكَيْنَاهُ عَنِ الْآمِدِيِّ، وَهُوَ أَوْلَى.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: مُقْتَضَى الْخِطَابِ، فَقَدْ بَيَّنَ فَائِدَتَهُ بِقَوْلِهِ: «فَلَا يَرِدُ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ الْخِطَابُ قَدِيمٌ» إِلَى آخِرِهِ.
وَفَائِدَتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ أَوْرَدُوا عَلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ أَسْئِلَةً:
مِنْهَا: أَنَّ الْخِطَابَ، هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَدِيمٌ عِنْدَكُمْ. وَالْحُكْمُ يُعَلَّلُ بِالْعِلَلِ الْحَادِثَةِ، نَحْوَ قَوْلِنَا: حَلَّتِ الْمَرْأَةُ بِالنِّكَاحِ، وَحَرُمَتْ بِالطَّلَاقِ، وَالْمُعَلَّلُ بِالْحَوَادِثِ حَادِثٌ، فَيَلْزَمُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَكُمْ حَادِثٌ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ صِفَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا فِعْلٌ حَرَامٌ، وَهَذَا فِعْلٌ وَاجِبٌ، وَصِفَةُ الْحَادِثِ تَكُونُ حَادِثَةً، فَإِذَا قُلْتُمْ: إِنَّ الْحُكْمَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ وَصْفٌ لِلْفِعْلِ الْحَادِثِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى حَادِثًا.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْأَحْكَامَ مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ، إِذْ يُقَالُ: حَلَّتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَلَالًا، وَحَرُمَتْ بِالطَّلَاقِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَرَامًا، وَحَرُمَ الْعَصِيرُ بِالتَّخْمِيرِ، وَحَلَّ بِالِانْقِلَابِ، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَالْمَسْبُوقُ بِالْعَدَمِ حَادِثٌ، فَاحْتَاجَ الَّذِينَ عَرَّفُوا الْحُكْمَ بِالْخِطَابِ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ.
(1/255)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَجَابُوا عَنِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ يُعَلَّلُ بِالْحَوَادِثِ فَيَكُونُ حَادِثًا - بِأَنْ قَالُوا: عِلَلُ الشَّرْعِ مُعَرِّفَاتٌ لَا مُؤَثِّرَاتٌ، وَالْمُعَرِّفُ لِلشَّيْءِ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، كَمَا عُرِفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِصَنْعَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ.
وَأَجَابُوا عَنِ الثَّانِي - وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ صِفَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، وَصِفَةُ الْحَادِثِ حَادِثَةٌ - بِأَنْ قَالُوا: إِنَّمَا تَكُونُ صِفَةُ الْحَادِثِ حَادِثَةً إِذَا قَامَتْ بِهِ، كَاللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَنَحْوِهِمَا بِالْجِسْمِ. أَمَّا إِذَا لَمْ تَقُمِ الصِّفَةُ بِالْمَوْصُوفِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ حَادِثَةً، كَقَوْلِنَا فِي قِيَامِ السَّاعَةِ: إِنَّهُ مَعْلُومٌ وَمَذْكُورٌ، أَيْ: بِعِلْمٍ وَذِكْرٍ قَائِمٍ بِنَا لَا بِهِ، وَتَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ قَائِمَةٌ بِالْمُكَلَّفِينَ، وَالْأَحْكَامُ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعْنًى أَوْ عِبَارَةً، كَمَا إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَسْرِجِ الدَّابَّةَ، فَإِنَّ الْإِسْرَاجَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِإِيجَابٍ قَامَ بِالسَّيِّدِ.
وَأَجَابُوا عَنِ الثَّالِثِ - وَهُوَ أَنَّ الْأَحْكَامَ مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ فَتَكُونُ حَادِثَةً - بِأَنْ قَالُوا: لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: حَلَّتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَلَالًا، أَنَّ الْحِلَّ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، حَتَّى يَلْزَمَ حُدُوثُ الْحُكْمِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ الْقَائِمَ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى - وَهُوَ الْحِلُّ أَوِ الْإِحْلَالُ - تَعَلَّقَ فِي الْأَزَلِ بِوُجُودِ حَالَةٍ، وَهِيَ حَالَةُ اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ النِّكَاحِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، فَتِلْكَ الْحَالَةُ هِيَ الَّتِي وُجِدَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تُوجَدْ، لَا الْحُكْمُ.
قُلْتُ: فَإِذَا قُلْنَا: الْحُكْمُ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ، لَمْ تَرِدْ عَلَيْنَا هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ،
(1/256)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنَّا لَا نَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ بِالْحَوَادِثِ هُوَ نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْكَلَامِ وَمُقْتَضَاهُ، إِذِ الْكَلَامُ إِمَّا مَعْنًى نَفْسِيٌّ، أَوْ قَوْلٌ دَالٌّ. وَمُقْتَضَى الْكَلَامِ هُوَ مَدْلُولُ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَالْمَطْلُوبُ بِهِ. وَفِيمَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْجَوَابِ عَنْ أَسْئِلَةِ الْمُعْتَزِلَةِ، نَوْعُ تَكَلُّفٍ وَلَعَلَّهُمْ إِذَا حُوقِقُوا عَلَيْهِ رُبَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ تَمْشِيَتُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ فِي الْمُخْتَصَرِ مِنْ أَسْئِلَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَاحِدًا عَلَى جِهَةِ ضَرْبِ الْمِثَالِ لِمَا يَرِدُ عَلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ، وَهَاهُنَا زِدْتُ السُّؤَالَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَجَوَابَهُمَا تَكْمِيلًا لِفَائِدَةِ النَّاظِرِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُنَا: مُقْتَضَى الْخِطَابِ هُوَ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَظْمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43] ، فِي الْأَمْرِ، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الْإِسْرَاءِ: 32] ، فِي النَّهْيِ، لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ قَطْعًا، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ هُوَ مُقْتَضَى هَذِهِ الصِّيَغِ الْمَنْظُومَةِ وَمَدْلُولُهَا، وَهُوَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ، وَتَحْرِيمُ الزِّنَى الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ، وَإِذَا كُنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ، لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ، فَلَا مَعْنًى لِتَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ.
وَقَوْلُنَا: «عِنْدَ اسْتِدْعَاءِ الشَّرْعِ مِنَّا تَنْجِيزُ التَّكْلِيفِ» أَيِ: الْحُكْمُ مُقْتَضَى الْخِطَابِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ وَالتَّحْرِيمُ، عِنْدَ أَمْرِ الشَّارِعِ لَنَا بِإِيقَاعِ الْوَاجِبَاتِ،
(1/257)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَهَذَا احْتِرَازٌ مِنْ قَوْلِ قَائِلٍ يَقُولُ: الَّذِي فَرَرْتُمْ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ، هُوَ لَازِمٌ لَكُمْ فِي تَعْرِيفِهِ بِمُقْتَضَى الْخِطَابِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ مُقْتَضَى الْكَلَامِ قَدِيمٌ، كَمَا أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ قَدِيمٌ، إِذْ كَلَامٌ لَا مُقْتَضًى لَهُ يَكُونُ لَغْوًا مُهْمَلًا، وَكَلَامُ الشَّارِعِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى الْكَلَامِ قَدِيمٌ، وَقَدْ فَسَّرْتُمُ الْحُكْمَ بِهِ، لَزِمَكُمْ مَا سَبَقَ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِالْحَوَادِثِ وَنَحْوِهِ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا، أَنْ يُقَالَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ كَلَامَ الشَّارِعِ لَهُ مُقْتَضًى لَازِمٌ لَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا وَحَيْثُ كَانَ، بَلْ نَقُولُ: إِنَّ الْحُكْمَ هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ عِنْدَ طَلَبِهِ مِنَّا إِيقَاعَ الْوَاجِبَاتِ، وَاجْتِنَابَ الْمُحَرَّمَاتِ، لَا مُطْلَقًا، إِذْ قَبْلَ تَكْلِيفِ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهِ حُكْمٌ أَصْلًا، فَكَيْفَ قَبْلَ وُجُودِهِ؟ فَكَيْفَ فِي الْأَزَلِ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ؟ فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: تَعَلَّقَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ بِاقْتِضَاءِ الْأَفْعَالِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ إِذَا وُجِدُوا، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ الْمَعْدُومِ، وَهِيَ إِذَا حُقِّقَتْ لَفْظِيَّةٌ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ: إِنَّ الشَّارِعَ اسْتَدْعَى مِنَّا التَّكَالِيفَ لِنُوقِعَهَا حَالَ عَدَمِنَا، وَلَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ عِلْمُهُ وَأَمْرُهُ لَنَا بِإِيقَاعِهَا بَعْدَ الْوُجُودِ وَأَهْلِيَّةِ التَّكْلِيفِ، بِنَاءً عَلَى تَحْقِيقِ كَلَامِ النَّفْسِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَوْلُكُمْ: إِنَّ نَظْمَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ، لَيْسَ هُوَ الْحُكْمُ، بَلْ مُقْتَضَاهُ، إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى رَبِّكُمْ فِي أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْعِبَارَاتُ الْمَسْمُوعَةُ. أَمَّا الْمُثْبِتُونَ لِكَلَامِ النَّفْسِ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بِالْحَقِيقَةِ، وَهُوَ حُكْمُهُ الْمُتَوَجِّهُ إِلَى خَلْقِهِ بِإِيقَاعِ التَّكَالِيفِ عِنْدَ وُجُودِهِمْ،
(1/258)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَيْضًا، فَإِنَّ حُكْمَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِيجَابٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، لَا وُجُوبَ، بَلِ الْوُجُوبُ أَثَرُ الْإِيجَابِ، وَكَذَلِكَ الْحَظْرُ وَالنَّدْبُ وَالْكَرَاهِيَةُ، هِيَ أَحْكَامٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ، وَهِيَ نَفْسُ كَلَامِهِ.
قُلْنَا: أَمَّا كَلَامُ النَّفْسِ، فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي اللُّغَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا كَلَامٌ وَرَاءَ مَا نَزَلْ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -، وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْحُكْمِ هُوَ الْإِيجَابُ لَا الْوُجُوبُ، فَهُوَ قَرِيبٌ، لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّنَا، فَإِنَّا إِذَا حَقَّقْنَا مَعْنَى الْإِيجَابِ، وَجَدْنَاهُ أَيْضًا مُقْتَضَى الْكَلَامِ، لِأَنَّا نَقُولُ: أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا بِكَلَامِهِ كَذَا وَكَذَا إِيجَابًا، وَالْكَلَامُ هُوَ الْمُقْتَضِي لِلْإِيجَابِ، وَالْإِيجَابُ مُقْتَضَى الْكَلَامِ، إِذْ مَعْنَى الْإِيجَابِ: الْإِثْبَاتُ وَالْإِلْزَامُ، فَمَعْنَى إِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا الصَّلَاةَ إِثْبَاتُهَا عَلَيْنَا، وَإِلْزَامُهُ إِيَّانَا بِهَا، وَلَيْسَتْ حَقِيقَةُ الْإِلْزَامِ هِيَ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعْنًى أَوْ عِبَارَةً، وَهَذَا ضَرُورِيٌّ، وَالنِّزَاعُ فِيهِ سَفْسَطَةٌ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ وَالْإِلْزَامَ هُوَ تَصْيِيرُ الشَّيْءِ وَاجِبًا وَلَازِمًا، وَالتَّصْيِيرُ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ، وَالْكَلَامُ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ فِي تَقْرِيرِ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ مُقْتَضَى الْخِطَابِ لَا نَفْسُ الْخِطَابِ لَازِمٌ لِلْقَائِلِينَ بِكَلَامِ النَّفْسِ بِحَقِّ الْأَصْلِ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ خِلَافِنَا لَهُمْ فِي كَلَامِ النَّفْسِ، وَلَازِمٌ لِمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ أَوِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ الْمَتْلُوُّ الْمَسْمُوعُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صِيغَتَهُ لَيْسَتْ هِيَ الْأَحْكَامُ، بَلْ مُقْتَضَاهَا، وَهُوَ: وُجُوبُ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمُ الزِّنَى، وَمَنْدُوبِيَّةُ السِّوَاكِ، وَكَرَاهَةُ رَفْعِ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ مَثَلًا، وَإِبَاحَةُ الْمُبَاحَاتِ.
(1/259)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَا جَرَمَ أَنَّ ابْنَ الصَّيْقَلِ مِنْ أَصْحَابِنَا كَأَنَّهُ حَقَّقَ هَذَا الْأَمْرَ، فَذَكَرَ لِلْحُكْمِ حُدُودًا، وَهِيَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْحُكْمُ تَعَلُّقُ خِطَابِ الشَّرْعِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: الْعِبَادِ، لِيَتَنَاوَلَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمُ: الْحُكْمُ وُرُودُ خِطَابِ الشَّرْعِ فِي أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِاقْتِضَاءٍ أَوْ تَخْيِيرٍ، أَوْ نَصْبِ سَبَبٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ مَانِعٍ، ثُمَّ أَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَاخْتَارَ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ قَضَاءُ الشَّارِعِ عَلَى الْمَعْلُومِ بِوَصْفٍ شَرْعِيٍّ.
قَالَ: وَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الشَّرْعِيِّ، هُوَ مَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، لَا مَعْنًى لَهُ سِوَى ذَلِكَ، نَحْوَ كَوْنِ الْفِعْلِ حَرَامًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا وَنَحْوَهُ.
قُلْتُ: فَالْقَضَاءُ فِعْلٌ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا: إِنَّ الْحُكْمَ مُقْتَضَى الْخِطَابِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَنَحْوُهُ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ فِعْلٌ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ: حَكَمَ الْحَاكِمُ: إِذَا قَضَى. وَقَدْ أَطَلْتُ الْكَلَامَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ مَوْضِعٌ يَسْتَحِقُّ التَّطْوِيلَ لِكَثْرَةِ الْخَبْطِ فِيهِ.
(1/260)
________________________________________
ثُمَّ الْخِطَابُ، إِمَّا أَنْ يَرِدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ مَعَ الْجَزْمِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، أَوْ لَا مَعَ الْجَزْمِ، وَهُوَ النَّدْبُ، أَوْ بِاقْتِضَاءِ التَّرْكِ مَعَ الْجَزْمِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ. أَوْ لَا مَعَ الْجَزْمِ، وَهُوَ الْكَرَاهَةُ. أَوْ بِالتَّخْيِيرِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ. فَهِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، إِذْ هِيَ مِنْ خِطَابِ الشَّرْعِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، لِأَنَّهَا انْتِفَاءُ الْحَرَجِ، وَهُوَ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَفِي كَوْنِهَا تَكْلِيفًا خِلَافٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْخِطَابُ، إِمَّا أَنْ يَرِدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا مَوْضِعُ قِسْمَةِ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ الَّتِي وَعَدْنَا بِهَا أَوَّلَ الْفَصْلِ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ، إِمَّا أَنْ يَرِدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ، أَوْ بِاقْتِضَاءِ التَّرْكِ، أَوْ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ.
فَإِنْ وَرَدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ، فَهُوَ إِمَّا مَعَ الْجَزْمِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ اقْتِضَاؤُهُ الْفِعْلَ مَعَ الْجَزْمِ - وَهُوَ الْقَطْعُ الْمُقْتَضِي لِلْوَعِيدِ عَلَى التَّرْكِ - فَهُوَ الْإِيجَابُ نَحْوَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43] .
وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ مَعَ الْجَزْمِ، فَهُوَ النَّدْبُ، نَحْوَ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [الْبَقَرَةِ: 282] ، {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النِّسَاءِ: 6] ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اسْتَاكُوا.
(1/261)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَإِنْ وَرَدَ الْخِطَابُ بِاقْتِضَاءِ التَّرْكِ، إِمَّا مَعَ الْجَزْمِ الْمُقْتَضِي لِلْوَعِيدِ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ، نَحْوَ: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آلِ عِمْرَانَ: 130] ، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الْإِسْرَاءِ: 32] .
أَوْ لَا مَعَ الْجَزْمِ، وَهُوَ الْكَرَاهَةُ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الْمَسْجِدِ، فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَالنَّوَاهِي الَّتِي أُرِيدَ بِهَا الْكَرَاهَةُ كَثِيرَةٌ.
وَإِنْ وَرَدَ الْخِطَابُ بِالتَّخْيِيرِ، فَهُوَ الْإِبَاحَةُ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ: إِنْ شِئْتَ، فَتَوَضَّأْ، وَإِنْ شِئْتَ، فَلَا تَتَوَضَّأْ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الشَّرْعِ.
قَوْلُهُ: «فَهِيَ» أَيِ: الْإِبَاحَةُ «حُكْمٌ شَرْعِيٌّ» ، لِأَنَّهَا «مِنْ خِطَابِ الشَّرْعِ» أَيْ: مُقْتَضَاهُ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَإِذَا كَانَتْ مِنْ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ، كَانَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، كَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ.
وَبَيَانُ أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ الشَّرْعِ، هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنِ انْقِسَامِ خِطَابِ الشَّرْعِ إِلَى اقْتِضَاءٍ وَتَخْيِيرٍ، وَمَوْرِدُ الْقِسْمَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَقْسَامِهِ، «خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ» فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَتِ الْإِبَاحَةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا «لِأَنَّهَا» عِبَارَةٌ عَنِ «انْتِفَاءِ الْحَرَجِ» فِي الْفِعْلِ «وَهُوَ» مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ «قَبْلَ الشَّرْعِ» لِأَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ، وَالتَّنَفُّسَ فِي الْهَوَاءِ، وَأَكْلَ الطَّيِّبَاتِ، وَلُبْسَ
(1/262)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النَّاعِمَاتِ، كَانَ الْحَرَجُ فِيهِ مُنْتَفِيًا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَهُوَ بَعْدَ الشَّرْعِ عَلَى مَا كَانَ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، كَانَ الشَّرْعُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهَا، كَالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ انْتِفَاءُ الْحَرَجِ، بَلْ هِيَ تَخْيِيرٌ شَرْعِيٌّ يَلْزَمُ عَنْهُ انْتِفَاءُ الْحَرَجِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا انْتِفَاءُ الْحَرَجِ، لَكِنْ إِنْ عَنَيْتُمْ بِانْتِفَاءِ الْحَرَجِ الْمُسْتَفَادَ مِنْ تَخْيِيرِ الشَّرْعِ، فَهِيَ شَرْعِيَّةٌ كَمَا قُلْنَا. وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّهُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ حُكْمِ الْعَقْلِ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ حَاكِمٌ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَهُمَا أَصْلَانِ مَمْنُوعَانِ، وَقَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً، لَكَانَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهَا، قُلْنَا: كَذَلِكَ نَقُولُ: الشَّرْعُ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهَا، وَلَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الشَّرْعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ قَبْلَهُ عَلَى الْحَظْرِ. وَالتَّنَفُّسُ فِي الْهَوَاءِ أَمْرٌ طَبْعِيٌّ ضَرُورِيٌّ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، فَذَلِكَ عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ، فَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَخْبَارِ الشَّرْعِ، فَهُوَ مِنْ حُكْمِهِ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ حَتَّى وَرَدَ الشَّرْعُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ إِبَاحَتَهَا قَبْلَ الشَّرْعِ عَقْلِيَّةٌ، لَكُنَّا نَقُولُ: إِبَاحَةُ الْعَقْلِ انْتَهَتْ بِوُرُودِ الشَّرْعِ، وَالْإِبَاحَةُ الثَّابِتَةُ بِالشَّرْعِ أَنْشَأَهَا الشَّرْعُ، مِثْلُ الْعَقْلِيَّةِ لَا نَفْسُهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا غَيْرَ هَاهُنَا أَنَّ الْعَقْلَ يَنْعَزِلُ بِوُرُودِ الشَّرْعِ مِنْ كُلِّ تَصَرُّفٍ لَمْ يُفَوِّضْهُ الشَّرْعُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ بَيْنَ يَدَيِ الشَّرْعِ.
قَوْلُهُ: «وَفِي كَوْنِهَا» أَيْ: فِي كَوْنِ الْإِبَاحَةِ «تَكْلِيفًا خِلَافٌ» .
قُلْتُ: قَدْ حَكَيْنَا الْخِلَافَ فِي النَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ: هَلْ هُمَا تَكْلِيفٌ أَمْ لَا؟ وَإِذَا خَرَجَ الْخِلَافُ فِيهِمَا مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ خِطَابِ الِاقْتِضَاءِ، فَخُرُوجُهُ فِي الْإِبَاحَةِ مَعَ أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ التَّخْيِيرِ أَوْلَى، مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَوْنِهَا تَكْلِيفًا لَفْظِيٌّ، إِذْ مَنْ قَالَ: لَيْسَتْ
(1/263)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَكْلِيفًا، نَظَرَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَشَقَّةٌ جَازِمَةٌ، كَمَشَقَّةِ الْوَاجِبِ وَالْمَحْظُورِ، وَلَا غَيْرُ جَازِمَةٍ، كَمَا بَيَّنَّا فِي مَشَقَّةِ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، وَهِيَ مَشَقَّةُ فَوَاتِ الْفَضِيلَةِ، إِذْ لَا فَضِيلَةَ فِي الْمُبَاحِ لِذَاتِهِ، يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَوَاتُهَا بِتَرْكِهِ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ تَكْلِيفٌ - وَهُوَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ - أَرَادَ ; أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مُبَاحًا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُهُ الْأَوَّلُ، وَالْأُسْتَاذُ لَا يَمْنَعُ أَنْ لَا مَشَقَّةَ فِي الْمُبَاحِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، لِعَدَمِ وُرُودِهِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، إِذِ الْأَوَّلُ يَقُولُ: الْإِبَاحَةُ لَا مَشَقَّةَ فِيهَا، وَالْأُسْتَاذُ يَقُولُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ الْمُبَاحَ لَيْسَ وَاجِبًا، وَلَا مَحْظُورًا، وَلَا مَنْدُوبًا، وَلَا مَكْرُوهًا.
(1/264)
________________________________________
فَالْوَاجِبُ، قِيلَ: مَا عُوقِبَ تَارِكُهُ. وَرُدَّ بِجَوَازِ الْعَفْوِ. وَقِيلَ: مَا تُوُعِّدَ عَلَى تَرْكِهِ بِالْعِقَابِ. وَرُدَّ بِصِدْقِ إِيعَادِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى أَصْلِنَا، لِجَوَازِ تَعْلِيقِ إِيقَاعِ الْوَعِيدِ بِالْمَشِيئَةِ، أَوْ لِأَنَّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ مِنَ الْكَرَمِ شَاهِدًا، فَلَا يَقْبُحُ غَائِبًا. ثُمَّ قَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، جَوَازُ أَنْ يُضْمَرَ فِي الْكَلَامِ مَا يَخْتَلُّ بِهِ مَعْنَى ظَاهِرِهِ، وَهَذَا مِنْهُ. وَالْمُخْتَارُ مَا ذُمَّ شَرْعًا تَارِكُهُ مُطْلَقًا. وَهُوَ مُرَادِفٌ لِلْفَرْضِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، الْفَرْضُ: الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَالْوَاجِبُ: الْمَظْنُونُ، إِذِ الْوُجُوبُ لُغَةً: السُّقُوطُ، وَالْفَرْضُ: التَّأْثِيرُ وَهُوَ أَخَصُّ، فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِقُوَّةٍ حُكْمًا، كَمَا اخْتُصَّ لُغَةً. وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ، إِذْ لَا نِزَاعَ فِي انْقِسَامِ الْوَاجِبِ إِلَى ظَنِّيٍ وَقَطْعِيٍ. فَلْيُسَمُّوا هُمُ الْقَطْعِيَّ مَا شَاءُوا. ثُمَّ لِنَتَكَلَّمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْكَامِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " فَالْوَاجِبُ، قِيلَ: مَا عُوقِبَ تَارِكُهُ ". لَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، وَقِسْمَةِ أَنْوَاعِهِ إِلَى الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، أَخَذَ يُبَيِّنُ تَعْرِيفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ. وَنَحْنُ قَبْلَ ذَلِكَ نُشِيرُ إِلَى حُدُودِهَا الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ طَرِيقِ قِسْمَتِهَا.
فَالْوَاجِبُ: هُوَ مَا اقْتَضَى الشَّرْعُ فِعْلَهُ اقْتِضَاءً جَازِمًا.
وَالْمَنْدُوبُ: هُوَ مَا اقْتَضَى فِعْلُهُ اقْتِضَاءً غَيْرَ جَازِمٍ.
وَالْمَحْظُورُ: مَا اقْتَضَى تَرْكُهُ اقْتِضَاءً جَازِمًا.
وَالْمَكْرُوهُ: مَا اقْتَضَى تَرْكُهُ اقْتِضَاءً غَيْرَ جَازِمٍ.
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ مَحَالُّ الْأَحْكَامِ وَمُتَعَلِّقَاتُهَا، أَمَّا الْأَحْكَامُ نَفْسُهَا فَهِيَ:
الْإِيجَابُ: وَهُوَ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ الْجَازِمِ.
(1/265)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالنَّدْبُ: وَهُوَ اقْتِضَاءُ الْفِعْلِ غَيْرِ الْجَازِمِ.
وَالْحَظْرُ وَالْكَرَاهَةُ جَمِيعًا: اقْتِضَاءُ تَرْكِ الْفِعْلِ الْجَازِمِ أَوْ غَيْرِ الْجَازِمِ.
وَالْوَاجِبُ، مُشْتَقٌّ مِنْ: وَجَبَ وُجُوبًا، وَالْوُجُوبُ فِي اللُّغَةِ: اللُّزُومُ، وَالِاسْتِحْقَاقُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَجَبَ الشَّيْءُ، أَيْ: لَزِمَ، يَجِبُ وُجُوبًا، وَأَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَاسْتَوْجَبَهُ، أَيِ: اسْتَحَقَّهُ.
قُلْتُ: فَالْوَاجِبُ، هُوَ اللَّازِمُ الْمُسْتَحَقُّ، وَقَدِ اشْتُهِرَ فِي أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي اللُّغَةِ: السُّقُوطُ، وَهُوَ أَيْضًا عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْوَجْبَةُ، السَّقْطَةُ مَعَ الْهَدَّةِ، وَوَجَبَ الْمَيِّتُ، إِذَا سَقَطَ وَمَاتَ.
غَيْرَ أَنَّ بَعْضَهُمُ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، فَأَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ إِشْكَالًا، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَقُولُ: مَنْ زَوَّجَ عَبْدَهُ مَنْ أَمَتِهِ لَمْ يَجِبْ مَهْرٌ، وَقِيلَ: يَجِبُ وَيَسْقُطُ. قَالَ: فَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ مَعْنَاهُ السُّقُوطُ، لَكَانَ تَقْدِيرُ هَذَا الْكَلَامِ، وَقِيلَ: يَسْقُطُ وَيَسْقُطُ. وَهَذَا تَكْرَارٌ غَيْرُ مُفِيدٍ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا وَقَعَ اللَّبْسُ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ لَفْظِ السُّقُوطِ، فَإِنَّهُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى وُقُوعِ الشَّيْءِ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، كَقَوْلِنَا: سَقَطَ الْحَجَرُ مِنَ الْجَبَلِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سَبَأٍ: 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا} [الْإِسْرَاءِ: 92] ، {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطُّورِ: 44] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ بِمَعْنَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِمَّا كَانَتْ مَشْغُولَةً بِهِ، وَزَوَالُ اللُّزُومِ، كَقَوْلِنَا: سَقَطَ الْمَهْرُ وَالدَّيْنُ وَنَحْوِهِ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْقَضَاءِ، أَيْ: بَرِئَتِ الذِّمَّةُ مِنْهُ، وَزَالَ لُزُومُهُ لَهَا، وَحِينَئِذٍ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْوُجُوبُ فِي اللُّغَةِ: السُّقُوطُ، هُوَ أَنَّا نَتَخَيَّلُ الْحُكْمَ أَوِ الشَّيْءَ الْوَاجِبَ جَزْمًا سَقَطَ، أَيْ: وَقَعَ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الَّذِي هُوَ فَوْقَ عِبَادِهِ، سَوَاءٌ قِيلَ: إِنَّهَا فَوْقِيَّةٌ رُتْبَةً، أَوْ
(1/266)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَوْقِيَّةٌ جِهَةً، وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ غَيْرَ مُفِيدَةٍ، لِأَنَّ أَحَدَ السُّقُوطَيْنِ فِيهَا غَيْرُ الْآخَرِ.
قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ فِي الْوُجُوبِ لُغَةً: أَنَّهُ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى تَرْجِعُ فُرُوعُ مَادَّتِهِ بِالِاسْتِقْرَاءِ. فَمَعْنَى وَجَبَتِ الشَّمْسُ: ثَبَتَ غُرُوبُهَا وَاسْتَقَرَّ، أَوْ أَنَّهَا اسْتَقَرَّتْ فِي سُفْلِ الْفَلَكِ، وَوَجَبَ الْمَيِّتُ: ثَبَتَ مَوْتُهُ وَاسْتَقَرَّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الْحَجِّ: 36] ، أَيْ: ثَبَتَتْ وَاسْتَقَرَّتْ بِالْأَرْضِ، وَوَجَبَ الْمَهْرُ وَالدَّيْنُ: ثَبَتَ فِي مَحَلِّهِ وَاسْتَقَرَّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فُرُوعِ الْمَادَّةِ الْمَذْكُورَةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا، عُدْنَا إِلَى قَوْلِهِ: " فَالْوَاجِبُ، قِيلَ: مَا عُوقِبَ تَارِكُهُ ". وَإِنَّمَا قُلْتُ: قِيلَ، لِأَنَّ الْمُخْتَارَ فِي حَدِّ الْوَاجِبِ يَأْتِي بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: " وَرُدَّ " يَعْنِي: هَذَا التَّعْرِيفُ لِلْوَاجِبِ مَرْدُودٌ " بِجَوَازِ الْعَفْوِ "، وَوَجْهُ رَدِّهِ: هُوَ أَنَّ قَوْلَهُمُ: الْوَاجِبُ مَا عُوقِبَ تَارِكُهُ، يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ، فَإِنَّ تَارِكَهُ يُعَاقَبُ، لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ تَارِكِ الْوَاجِبِ، أَوْ يُسْقِطَ الْعِقَابَ عَنْهُ بِتَوْبَةٍ، أَوِ اسْتِغْفَارٍ، أَوْ دُعَاءِ دَاعٍ، أَوْ بِتَكْمِيلِ فَرْضٍ بِنَفْلٍ، عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَتَرْكُ الْوَاجِبِ، وَفِعْلُ الْمَحْظُورِ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَ يَجُوزُ
(1/267)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَخَلُّفُهُ عَنْ سَبَبِهِ لِمَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءِ شَرْطٍ، أَوْ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ أَوْ رَاجِحٍ، وَإِذَا جَازَ الْعَفْوُ عَنْ تَارِكِ الْوَاجِبِ، اقْتَضَى الْحَدُّ الْمَذْكُورُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا الْوَاجِبُ الْمَتْرُوكُ وَاجِبًا، لِأَنَّ تَارِكَهُ لَمْ يُعَاقَبْ.
مِثَالُهُ: لَوْ تَرَكَ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، ثُمَّ تَخَلَّفَ الْعِقَابُ عَنْهُ لِأَحَدِ الْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ، لَزِمَ بِمُقْتَضَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ أَنْ لَا تَكُونَ الْمَكْتُوبَةُ وَاجِبَةً، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَهَذَا النَّقْضُ مِنْ حَيْثُ الْعَكْسِ، وَهُوَ قَوْلُنَا: كُلُّ مَا لَمْ يُعَاقَبْ عَلَى تَرْكِهِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَيَبْطُلُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الطَّرْدِ، ضَرْبُ ابْنِ عَشْرٍ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، إِذِ الصَّلَاةُ هَاهُنَا فِعْلٌ عُوقِبَ تَارِكُهُ، وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا أُدِّبَ الصِّبْيَانُ عَلَى تَرْكِهِ هُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: " وَقِيلَ: مَا تُوُعِّدَ " أَيِ: الْوَاجِبُ مَا تُوُعِّدَ " عَلَى تَرْكِهِ بِالْعِقَابِ ".
هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلْوَاجِبِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ كُلَّ مُعَاقَبٍ عَلَى تَرْكِهِ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُتَوَعَّدٍ عَلَى تَرْكِهِ بِالْعِقَابِ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ، لِجَوَازِ الْعَفْوِ بَعْدَ الْوَعِيدِ، وَصَاحِبُ هَذَا التَّعْرِيفِ فَرَّ مِمَّا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ.
(1/268)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَرُدَّ " هَذَا التَّعْرِيفُ أَيْضًا رُدَّ " بِصِدْقِ إِيعَادِ اللَّهِ تَعَالَى ".
وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْوَعِيدَ خَبَرٌ، وَخَبَرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صَادِقٌ، لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ مَخْبَرِهِ، وَإِذَا لَزِمَ وُقُوعُ مُقْتَضَى الْوَعِيدِ، صَارَ هَذَا التَّعْرِيفُ مِثْلَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُمُ: الْوَاجِبُ مَا عُوقِبَ تَارِكُهُ، فَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ.
قَوْلُهُ: " وَلَيْسَ بِوَارِدٍ " أَيْ: لَيْسَ مَا ذُكِرَ مِنْ صِدْقِ إِيعَادِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِوَارِدٍ عَلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ. " عَلَى أَصْلِنَا ". وَالْأَصْلُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ مَا تَنَازَعَ فِيهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ مِنْ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ فَاعِلِ الْكَبِيرَةِ مَا لَمْ يَتُبْ مُحَالٌ عِنْدَهُمْ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ: " إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ " وَبَيَانُ عَدَمِ وُرُودِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: " جَوَازُ تَعْلِيقِ إِيقَاعِ الْوَعِيدِ بِالْمَشِيئَةِ " مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: صَلِّ، فَإِنْ تَرَكْتَ الصَّلَاةَ عَذَّبْتُكَ إِنْ شِئْتُ، فَإِذَا تَرَكَهَا، بَقِيَ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ بِمُقْتَضَى الْوَعِيدِ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ بِمُقْتَضَى الرَّحْمَةِ وَالْجُودِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النِّسَاءِ: 48 وَ 116] ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ فِي الصَّلَاةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ، مَنْ أَتَى بِهِنَّ، لَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِنَّ، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
(1/269)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِذَا جَازَ تَعْلِيقُ إِيقَاعِ الْوَعِيدِ بِالْمَشِيئَةِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ صِدْقِ الْإِيعَادِ وُقُوعُ مُقْتَضَاهُ مِنَ الْعِقَابِ لِجَوَازِ أَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ، وَلَمْ يَشَأْ إِيقَاعَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَوْلُنَا: الْوَاجِبُ: مَا تُوُعِّدَ عَلَى تَرْكِهِ، فَاسِدًا كَقَوْلِنَا: الْوَاجِبُ مَا عُوقِبَ تَارِكُهُ، لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِ الْوَعِيدِ الْوُقُوعَ، فَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا مَا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: " أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ مِنَ الْكَرَمِ شَاهِدًا " أَيْ: فِيمَا يُشَاهَدُ مِنْ أَحْوَالِ الْعُقَلَاءِ. " فَلَا يَقْبُحُ " يَعْنِي: إِخْلَافَ الْوَعِيدِ " غَائِبًا " أَيْ: فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ غَائِبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَإِنْ كَانَ شَاهِدًا لِخَلْقِهِ كَمَا يَشَاءُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
أَمَّا أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ مِنَ الْكَرَمِ فِي الشَّاهِدِ، فَلِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ عَلَى حُسْنِ الْعَفْوِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ جَوَازِ الْعُقُوبَةِ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِخْلَافِ الْوَعِيدِ مُطْلَقًا أَوْ غَالِبًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَرْكُ الْوَعِيدِ إِلَى الْعَفْوِ حَسَنٌ، مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي عُرْفِ النَّاسِ، وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ. بِأَنَّ خَبَرَ النَّاسِ يَجُوزُ إِخْلَافُهُ، بِخِلَافِ خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ الْخُلْفَ فِي الْخَبَرِ كَذِبٌ، وَالْكَذِبُ قَبِيحٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، خُصُوصًا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ قُبْحَهُ ذَاتِيٌّ لَا يَخْتَلِفُ. ثُمَّ قَدْ جَازَ إِخْلَافُ الْوَعِيدِ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي عُرْفِهِمْ، فَكَذَلِكَ إِخْلَافُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ مِنْ بَابِ الْكَرَمِ، لَا مِنْ بَابِ الْكَذِبِ، وَفِي هَذَا الْبَابِ أَنْشَدَ عَمْرُو بْنُ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ قَوْلَ الشَّاعِرِ:
(1/270)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنِّيَ إِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي
وَأَمَّا أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ لَا يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ لَازِمٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَصْلِهِمُ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَنَّ مَا قَبُحَ مِنَ الْخَلْقِ، قَبُحَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا لَا، فَلَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إِخْلَافَ الْوَعِيدِ لَا يَقْبُحُ مِنَ الْخَلْقِ، فَلَا يَقْبُحُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ لَازِمٌ لِقَاعِدَتِهِمْ، وَهِيَ أَنَّ الْأَفْعَالَ حَسَنَةٌ أَوْ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا، أَوْ لِوَصْفٍ قَائِمٍ بِهَا، وَحِينَئِذٍ مَا أَدْرَكَ الْعَقْلُ قُبْحَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْخَلْقِ أَوْ حُسْنَهُ، أَدْرَكَ حُسْنَهُ أَوْ قُبْحَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَقِّ. وَلِهَذَا قَطَعُوا بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ، لِأَنَّهُ يَقْبُحُ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا وَيُعَاقِبَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَكَذَلِكَ اللَّهُ تَعَالَى يَقْبُحُ ذَلِكَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ قَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ "، جَوَازُ أَنْ يُضْمَرَ فِي الْكَلَامِ مَا يَخْتَلُّ بِهِ مَعْنَى ظَاهِرِهِ، وَهَذَا مِنْهُ ".
هَذَا تَقْرِيرٌ لِجَوَازِ تَعْلِيقِ الْعِقَابِ بِالْمَشِيئَةِ عَلَى مَنْ يَسْتَبْعِدُهُ، وَإِلْزَامٌ لِلْمُعْتَزِلَةِ بِمِثْلِهِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ.
وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ: أَكْثَرُ مَا فِي تَعْلِيقِ الْعِقَابِ بِالْمَشِيئَةِ أَنَّهُ أَضْمَرَ فِي الْكَلَامِ مَا اخْتَلَّ بِهِ مَعْنَى ظَاهِرِهِ، إِذْ قَوْلُهُ: إِنْ تَرَكْتَ الصَّلَاةَ عَاقَبْتُكَ، ظَاهِرُهُ وُقُوعُ الْعِقَابِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا، وَأَنَّهُ شَاءَ ذَلِكَ.
فَقَوْلُهُ: إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُعَاقِبَكَ إِنْ شِئْتُ، تَقْيِيدٌ مُخَصِّصٌ رَافِعٌ لِحُكْمِ ظَاهِرِ
(1/271)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مُخِلٌّ بِالظَّاهِرِ، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا جَائِزٌ عَقْلًا، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، وَوَاقِعٌ شَرْعًا، إِذْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْصِيصٌ، وَقَدْ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ كَثِيرًا، وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ مِثْلُهُ فِي التَّعْرِيضِ، وَبَيَانُهُ: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ: إِنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يُعْلَمُ حُسْنُهُ أَوْ قُبْحُهُ بِالْعَقْلِ، كَالْكَذِبِ، فَإِنَّهُ قَبِيحٌ فِي الْعَقْلِ لِذَاتِهِ، قُلْنَا لَهُمْ: لَوْ كَانَ الْكَذِبُ قَبِيحًا لِذَاتِهِ، لَمَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، لَكِنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ، فَإِنَّا لَوْ رَأَيْنَا كَافِرًا يَطْلُبُ نَبِيًّا لِيَقْتُلَهُ، فَدَخَلَ دَارًا، فَجَاءَ الْكَافِرُ، فَقَالَ: أَيْنَ الرَّسُولُ، هَلْ هُوَ عِنْدَكُمْ؟ لَوَجَبَ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ الْكَذِبُ هَاهُنَا، لِئَلَّا يُهْدِرَ دَمَ الرَّسُولِ ظُلْمًا.
وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا بِأَنْ قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْكَذِبِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ دَافِعًا عَنِ الرَّسُولِ، إِذْ فِي التَّعْرِيضِ غَنْيَةٌ عَنْهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لَنَا: هَلْ رَأَيْتُمُ الرَّسُولَ؟ فَنَقُولُ: مَا رَأَيْنَا الرَّسُولَ، وَنَعْنِي بِهِ رَسُولَ زَيْدٍ. أَوْ يَقُولُ لَنَا: هَلْ عِنْدَكُمُ الرَّسُولُ؟ فَنَقُولُ: لَا، وَنُرِيدُ بِهِ رَسُولَ السُّلْطَانِ، وَهَذَا إِضْمَارٌ يُخِلُّ بِمَعْنَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ، وَقَدْ قَالُوا بِهِ، فَلْيَجُزْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ إِيقَاعِ الْعِقَابِ بِالْمَشِيئَةِ، لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنَ التَّعْرِيضِ، وَقَعَ لِفَائِدَةِ التَّرْهِيبِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " وَهَذَا مِنْهُ ".
قَوْلُهُ: " وَالْمُخْتَارُ " أَيْ: وَالْمُخْتَارُ فِي حَدِّ الْوَاجِبِ أَنَّهُ: " مَا ذُمَّ شَرْعًا تَارِكُهُ مُطْلَقًا ".
وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ التَّعْرِيفَيْنِ قَبْلَهُ، لِأَنَّ كُلَّ مُعَاقَبٍ أَوْ مُتَوَعَّدٍ بِالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ
(1/272)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَذْمُومٌ، أَيْ: يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، وَلَيْسَ كُلُّ مَذْمُومٍ مُعَاقَبًا، أَوْ مُتَوَعَّدًا عَلَى التَّرْكِ، لِجَوَازِ أَنْ يُقَالَ: صَلِّ أَوْ صُمْ. فَإِنْ تَرَكْتَ، فَقَدْ أَخْطَأْتَ وَعَصَيْتَ وَلَا عِقَابَ عَلَيْكَ، لِأَنَّ الْعِقَابَ مَوْضُوعٌ شَرْعِيٌّ، فَلِلشَّرْعِ أَنْ يَضَعَهُ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَالذَّمُّ هُوَ الْعَيْبُ، وَهُوَ نَقِيضُ الْمَدْحِ وَالْحَمْدِ، يُقَالُ: ذَمَّهُ يَذُمُّهُ: إِذَا عَابَهُ، وَالْعَيْبُ: النَّقْصُ. فَكَانَ الذَّمُّ نِسْبَةَ النَّقْصِ إِلَى الشَّخْصِ، فَقَوْلُنَا: " مَا ذُمَّ "، أَيْ: مَا عِيبَ " شَرْعًا "، أَيِ: احْتِرَازٌ مِمَّا عِيبَ عَقْلًا أَوْ عُرْفًا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَفْعَالِ يُذَمُّ فَاعِلُهُ عُرْفًا لَا شَرْعًا، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا، لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالذَّمِّ الشَّرْعِيِّ.
وَقَوْلُنَا: " مُطْلَقًا ": احْتِرَازٌ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، وَالْمُخَيَّرِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ التَّرْكَ يَلْحَقُهَا بِالْجُمْلَةِ، وَهُوَ تَرْكُ الْمُوَسَّعِ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ وَقْتِهِ، وَتَرْكُ بَعْضِ أَعْيَانِ الْمُخَيَّرِ، وَتَرْكُ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ تَرْكًا مُطْلَقًا، إِذِ الْمُوَسَّعُ إِنْ تُرِكَ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ وَقْتِهِ فُعِلَ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَمُخَيَّرٌ إِنْ تَرَكَ بَعْضَ أَعْيَانِهِ، فَعَلَ الْبَعْضَ الْآخَرَ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ إِنْ تَرَكَهُ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ، فَعَلَهُ الْبَعْضُ الْآخَرُ، وَكُلُّهُمْ فِيهِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا التَّرْكِ ذَمٌّ، لِأَنَّهُ لَيْسَ تَرْكًا مُطْلَقًا، بِمَعْنَى خُلُوِّ مَحَلِّ التَّكْلِيفِ عَنْ إِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ بِهِ.
وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ يَذْكُرُ قَيْدَ الْإِطْلَاقِ فِي " الرَّوْضَةِ "، بَلْ قَالَ: وَقِيلَ: مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا. فَتُرَدُّ الْوَاجِبَاتُ الثَّلَاثَةُ حَيْثُ يَلْحَقُهَا التَّرْكُ.
(1/273)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْوَاجِبُ: مَا تَرْكُهُ سَبَبٌ لِلذَّمِّ شَرْعًا فِي حَالَةٍ مَا. فَقَوْلُهُ: فِي حَالَةٍ مَا، مُحَافَظَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ تَرْكَهَا إِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلذَّمِّ. وَقَالَ ابْنُ الصَّيْقَلِ: الْوَاجِبُ: هُوَ الْفِعْلُ الْمُقْتَضَى مِنَ الشَّارِعِ، الَّذِي يُلَامُ تَارِكُهُ شَرْعًا، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا، غَيْرَ أَنَّ اللَّوْمَ أَخَفُّ مِنَ الذَّمِّ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّوْمُ: الْعَذْلُ. وَقَالَ أَيْضًا: اسْتَلَامَ الرَّجُلُ إِلَى النَّاسِ: اسْتَذَمَّ.
فَعَلَى هَذَا هُمَا سَوَاءٌ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي حَدِّ الْوَاجِبِ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ، فَإِنَّ تَارِكَهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالنَّائِمِ وَالنَّاسِي، فَإِنَّهُمَا يَتْرُكَانِ الْوَاجِبَاتِ حَالَ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ وَلَا يُذَمَّانِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوُجُوبَ وَالذَّمَّ مِنْ لَوَاحِقِ التَّكْلِيفِ، وَالنَّاسِي وَالنَّائِمِ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ، غَيْرُ مُكَلَّفٍ عِنْدَنَا فِي حَالِ الْعُذْرِ، وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي. وَإِذَا كَانَا غَيْرَ مُكَلَّفَيْنِ لَمْ يَنْتَقِضِ الْحَدُّ بِهِمَا، كَمَا لَا يَنْتَقِضُ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَقِيلَ: حَدُّ الْوَاجِبِ: مَا يَتَعَرَّضُ تَارِكُهُ لِلْعِقَابِ وَاللَّوْمِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْوَاجِبِ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْوَاجِبَ «مُرَادِفٌ لِلْفَرْضِ عَلَى الْأَصَحِّ» أَيْ: أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. «وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: الْفَرْضُ
(1/274)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَالْوَاجِبُ الْمَظْنُونُ» يَعْنِي أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، فَقَالُوا: الْفَرْضُ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ شَرْعًا، كَنَصِّ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْوَاجِبُ: مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍ كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَمَعْنَى قَوْلِنَا: «مُرَادِفٌ لِلْفَرْضِ» ، أَيْ: مُسَاوِيهِ فِي الْمَعْنَى، تَشْبِيهًا لَهُ بِرَدِيفِ الرَّاكِبِ، وَهُوَ الَّذِي عَلَى رِدْفِ الدَّابَّةِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَيْنِ اسْمَانِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّ ذَيْنَكَ رَاكِبَانِ عَلَى مَرْكُوبٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: «إِذِ الْوُجُوبُ لُغَةً: السُّقُوطُ، وَالْفَرْضُ: التَّأْثِيرُ، وَهُوَ أَخَصُّ، فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِقُوَّةٍ حُكْمًا، كَمَا اخْتُصَّ لُغَةً» .
هَذَا تَقْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْوُجُوبَ فِي اللُّغَةِ السُّقُوطُ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَالْفَرْضُ: التَّأْثِيرُ، وَإِلَى مَعْنَاهُ يَرْجِعُ أَكْثَرُ فُرُوعِ مَادَّتِهِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفَرْضُ: الْحَزُّ فِي الشَّيْءِ، وَفَرْضُ الْقَوْسِ: هُوَ الْحَزُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْوَتَرُ، وَالْفَرِيضُ: السَّهْمُ الْمَفْرُوضُ فَوْقَهُ، وَالتَّفْرِيضُ: التَّحْزِيزُ، وَالْمِفْرَضُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُحَزُّ بِهَا، وَالْفِرَاضُ: فُوَّهَةُ النَّهْرِ.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَالْفَرْضُ أَخَصُّ مِنَ السُّقُوطِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مَثَلًا مِنْ سُقُوطِ
(1/275)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْأَرْضِ، أَنْ يَحُزَّ وَيُؤَثِّرَ فِيهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ حَزِّهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْ يَكُونَ قَدْ سَقَطَ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَجَبَ اخْتِصَاصُ الْفَرْضِ بِقُوَّةٍ فِي الْحُكْمِ، كَمَا اخْتُصَّ بِقُوَّةٍ فِي اللُّغَةِ، حَمْلًا لِلْمُسَمَّيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّغْيِيرِ.
وَقَوْلُنَا: الْفَرْضُ مَا كَانَ طَرِيقُ ثُبُوتِهِ قَطْعِيًّا، هُوَ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ لَهُ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.
قَوْلُهُ: «وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ، إِنَّمَا هُوَ فِي اللَّفْظِ، مَعَ اتِّفَاقِنَا عَلَى الْمَعْنَى. إِذْ لَا نِزَاعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي انْقِسَامِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ عَلَيْنَا وَأَلْزَمَنَا إِيَّاهُ مِنَ التَّكَالِيفِ، إِلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ. وَاتَّفَقْنَا عَلَى تَسْمِيَةِ الظَّنِّيِّ وَاجِبًا، وَبَقِيَ النِّزَاعُ فِي الْقَطْعِيِّ، فَنَحْنُ نُسَمِّيهِ وَاجِبًا وَفَرْضًا بِطَرِيقِ التَّرَادُفِ، وَهُمْ يَخُصُّونَهُ بِاسْمِ الْفَرْضِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَضُرُّنَا وَإِيَّاهُمْ، فَلْيُسَمُّوهُ مَا شَاءُوا.
ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ لَهُ مَعَالِمَ وَحُدُودًا، وَقَالَ فِي الْبَابِ أَيْضًا: فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْنَا كَذَا، وَافْتَرَضَ، أَيْ: أَوْجَبَ، وَالِاسْمُ الْفَرِيضَةُ. هَذَا نَقَلَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ.
وَإِذَا اسْتَوَى الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ فِيمَا قُلْنَا فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الشَّرْعِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ
(1/276)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّغْيِيرِ، وَاخْتِلَافُ طَرِيقِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْقَطْعِ وَالظَّنِّ، لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ حَقِيقَتِهِ فِي نَفْسِهِ.
تَنْبِيهٌ: الَّذِي نَصَرَهُ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ مُرَادِفٌ لِلْفَرْضِ، لَكِنَّ أَحْكَامَ الْفُرُوعِ قَدْ بُنِيَتْ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ ذَكَرُوا أَنَّ الصَّلَاةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فُرُوضٍ وَوَاجِبَاتٍ وَمَسْنُونَاتٍ، وَأَرَادُوا بِالْفُرُوضِ الْأَرْكَانَ.
وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ طَرِيقَ الْفَرْضِ مِنْهَا أَقْوَى مِنْ طَرِيقِ الْوَاجِبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ يُجْبَرُ إِذَا تُرِكَ نِسْيَانًا بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَالْفَرْضُ لَا يَقْبَلُ الْجَبْرَ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي فُرُوضِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتِهِ، حَيْثُ جُبِرَتْ بِالدَّمِ دُونَ الْأَرْكَانِ.
وَأَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِلَى الْوَجْهَيْنِ، فَقَالَ: الْفَرْضُ: هُوَ الْوَاجِبُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، لِاسْتِوَاءِ حَدِّهِمَا، وَالثَّانِيَةُ: الْفَرْضُ آكَدٌ، فَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِمَا يُقْطَعُ بِوُجُوبِهِ، وَقِيلَ: مَا لَا يُسَامَحُ فِي تَرْكِهِ عَمْدًا وَلَا سَهْوًا، نَحْوَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ.
قُلْتُ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا: هِيَ وَاجِبَةٌ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَهَا، وَهَذَا تَسْوِيَةٌ مِنْهُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ، وَأَنَا مَا أَجْتَرِئُ أَنْ أَقُولَ: إِنَّهَا فَرْضٌ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ يَدْفَعُ أَنَّهَا فَرْضٌ، وَهَذَا فَرْقٌ مِنْهُ بَيْنَهُمَا.
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ، وَهَلْ هُمَا فَرْضٌ أَوْ
(1/277)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاجِبٌ؟ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ. وَصَحَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي «الْفُصُولِ» أَنَّهُمَا وَاجِبٌ لَا فَرْضٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ لِنَتَكَلَّمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَحْكَامِ» يَعْنِي فِي مَسَائِلِهِ. وَالْكَلَامُ السَّابِقُ، كَأَنَّهُ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ مُتَعَلِّقٍ بِالْوَاجِبِ، فَجُعِلَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ فِي حَدِّهِ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُهُ مَسْأَلَةً مِنْ مَسَائِلِ الْوَاجِبِ. وَهُوَ كَذَلِكَ وَلَا حَرَجَ.
(1/278)
________________________________________
الْوَاجِبُ
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنٍ، كَإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ، وَالتَّكْفِيرِ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ، وَإِلَى مُبْهَمٍ فِي أَقْسَامٍ مَحْصُورَةٍ كَإِحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْجَمِيعُ وَاجِبٌ، وَهُوَ لَفْظِيٌّ. وَبَعْضُهُمْ: مَا يُفْعَلُ، وَبَعْضُهُمْ: وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، وَيَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْوَاجِبُ» ، أَيْ: ذِكْرُ الْكَلَامِ عَلَى الْوَاجِبِ فِي أَحْكَامِهِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ. «وَفِيهِ مَسَائِلُ» :
«الْأُولَى: الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُعَيَّنٍ، كَإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ» إِلَى آخِرِهِ.
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَهُوَ وُجُوبٌ وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ مِنْ أَشْيَاءَ.
وَتَلْخِيصُ الْقَوْلِ فِيهِ:
إِنَّ الْوَاجِبَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، كَإِعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ، مِثْلَ أَنْ يَنْذُرَ عِتْقَ هَذَا الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ، أَوْ عِتْقَ زَيْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ، فَيَكُونُ مُخَاطَبًا بِعِتْقِهِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ بِعَيْنِهِ، كَهَذِهِ الدَّنَانِيرِ، أَوِ الْإِبِلِ أَوِ الْخَيْلِ وَنَحْوِهِ، كَانَ مُخَاطَبًا بِالصَّدَقَةِ بِهِ بِعَيْنِهِ حَسَبَ مَا الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ. وَكَذَا لَوْ فُرِضَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ التَّكْفِيرَ عَلَى عِبَادِهِ أَوْ بَعْضِهِمْ، فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ غَيْرِهَا، بِخَصْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْمَشْرُوعَةِ، كَالْإِعْتَاقِ أَوِ الْإِطْعَامِ أَوِ الْكُسْوَةِ، وَجَبَتْ تِلْكَ الْخَصْلَةُ بِعَيْنِهَا.
(1/279)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبْهَمًا فِي أَقْسَامٍ مَحْصُورَةٍ، كَإِحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [الْمَائِدَةِ: 89] .
قُلْتُ: وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى قَوْلِنَا: فِي أَقْسَامٍ مَحْصُورَةٍ، لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اخْدِمْنِي الْيَوْمَ نَوْعًا مِنَ الْخِدْمَةِ، أَيَّ أَنْوَاعِهَا شِئْتَ، أَوْ تَصَدَّقْ عَنِّي بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَالِي، أَيَّهَا شِئْتَ، أَوْ أَكْرِمْ شَخْصًا مِنَ النَّاسِ، أَوْ مِنْ أَصْحَابِي أَيَّهُمْ شِئْتَ، صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ عَقْلًا، وَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَقْسَامُ مَحْصُورَةً فِي الْخِطَابِ.
وَلَكِنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ تَابَعَ أَبَا حَامِدٍ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَذَكَرَ صِفَةَ الْحَصْرِ وَهِيَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ.
«وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْجَمِيعُ وَاجِبٌ» وَهَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ. أَطْلَقَا الْقَوْلَ بِوُجُوبِ جَمِيعِ الْخِصَالِ عَلَى التَّخْيِيرِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ لَفْظِيٌّ» يَعْنِي الْخِلَافَ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، وَبَيْنَ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ. وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي «شَرْحِ الْعَهْدِ» بِأَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، أَيْ: فِي اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ جَمِيعَ الْخِصَالِ، لَمْ يُثَبْ ثَوَابَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ إِلَّا عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ، لَمْ يُعَاقَبْ عِقَابَ تَرْكِ الْوَاجِبِ إِلَّا عَلَى وَاحِدَةٍ، وَلَوْ وَجَبَ الْجَمِيعُ، لَتَرَتَّبَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى جَمِيعِ الْخِصَالِ، وَتَقَدَّرَ بِهِ، وَلَمَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِفِعْلِ وَاحِدَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ
(1/280)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْإِجْمَاعِ. وَوَافَقَ الْخَصْمُ عَلَى هَذَا فَلَمْ يَبْقَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي اللَّفْظِ. غَيْرَ أَنَّ نَصْبَ الْخِلَافِ مَعَهُمْ جَرَى عَلَى عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ، وَدَفْعًا لِشُبْهَةِ غَالِطٍ إِنْ كَانَ.
ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُمْ: يَجِبُ الْجَمِيعُ عَلَى التَّخْيِيرِ، كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ، إِذْ مُقْتَضَى وُجُوبُ الْجَمِيعِ: أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ إِلَّا بِفِعْلِ الْجَمِيعِ. وَمُقْتَضَى التَّخْيِيرِ: أَنَّهُ يَبْرَأُ بِفِعْلِ أَيِّهَا شَاءَ، وَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْجَمِيعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ فِعْلِ الْجَمِيعِ، أَوْ وُجُوبُ الْجَمِيعِ عَلَى الْبَدَلِ، لَا عَلَى الْجَمْعِ. بِمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا افْعَلْ هَذَا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي مَعْنَاهُ: إِنَّ الْوُجُوبَ تَعَلُّقٌ بِالْجَمِيعِ عَلَى وَجْهٍ تَبْرَأُ الذِّمَّةُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قُلْنَاهُ: وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْغَلَطَ فِي الْمَسْأَلَةِ، إِمَّا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْوُجُوبَ مَعَ التَّخْيِيرِ لَا يَجْتَمِعَانِ، أَوْ مِنَ الْجُمْهُورِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، بِأَنْ رَأَوْا لَهُمْ عِبَارَةً مُوهِمَةً أَوْ بَعِيدَةَ الْغَوْرِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ أَرَادُوا وُجُوبَ الْجَمِيعِ، كَمَا وَهَّمُوا عَلَيْهِمْ فِي تَلْخِيصِ مَسْأَلَةِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُوجَدُ فِي كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ، عَلَى خِلَافِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ فِيهَا، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ «رَدِّ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ بِالتَّحْسِينِ
(1/281)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالتَّقْبِيحِ» .
قَوْلُهُ: «وَبَعْضُهُمْ: مَا يَفْعَلُ، وَبَعْضُهُمْ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ» أَيْ: وَقَالَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ: الْوَاجِبُ مِنْ خِصَالِ الْوَاجِبِ مِنْهَا وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ، «وَيَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ»
(1/282)
________________________________________
لَنَا: الْقَطْعُ بِجَوَازِ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: خِطْ هَذَا الثَّوْبَ، أَوِ ابْنِ هَذِهِ الْحَائِطَ، لَا أُوجِبُهُمَا عَلَيْكَ جَمِيعًا، وَلَا وَاحِدًا مُعَيَّنًا، بَلْ أَنْتَ مُطِيعٌ بِفِعْلِ أَيِّهِمَا شِئْتَ. وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِلَفْظِ (أَوْ) ، وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبْهَامِ.
قَالُوا: فَإِنِ اسْتَوَتِ الْخِصَالُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ وَجَبَتْ، وَإِلَّا اخْتُصَّ بَعْضُهَا بِذَلِكَ، فَيَجِبُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا: الْقَطْعُ» هَذَا حِينَ الشُّرُوعِ فِي أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ.
وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ: أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِيجَابِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ جَائِزٌ عَقْلًا وَشَرْعًا.
أَمَّا عَقْلًا، فَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: «خِطْ هَذَا الثَّوْبَ، أَوِ ابْنِ هَذَا الْحَائِطَ، لَا أُوجِبُهُمَا عَلَيْكَ جَمِيعًا، وَلَا وَاحِدًا» مِنْهُمَا «مُعَيَّنًا، بَلْ أَنْتَ مُطِيعٌ بِفِعْلِ أَيِّهِمَا شِئْتَ» فَهَذَا وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ، لِأَنَّهُ نَفَى وُجُوبَ الْجَمِيعِ، وَوُجُوبَ الْمُعَيَّنِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ أَحَدُهُمَا، فَلَا يَصِحُّ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُمَا مَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ، إِذْ يَلْزَمُ أَنَّ قَبْلَ فِعْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِسَبْقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ يُعَيِّنُهُ بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا شَرْعًا، فَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي خِصَالِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِلَفْظِ (أَوْ) ، وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبْهَامِ، فَيَقْتَضِي أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهَا وَاحِدٌ مُخَيَّرٌ، كَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَاسْتِدْلَالُنَا هَهُنَا عَلَى الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ الْوُقُوعُ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَوَازِ.
قُلْتُ: وَفِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْجَوَازِ بِالْوُقُوعِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ خَصْمٌ مُنَازِعٌ، كَانَ دَعْوَى الْوُقُوعِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، بَلْ هُوَ يَقُولُ: الْوَاجِبُ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْجَمِيعُ، لِأَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
(1/283)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَنْبِيهٌ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، إِنَّمَا وَضَعَهَا الْأُصُولِيُّونَ لِأَجْلِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ التَّخْيِيرِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا تَكَادُ تَجِدُ أَحَدًا مِنْهُمْ يُمَثِّلُ إِلَّا بِهَا. وَبَعْضُهُمْ يَذْكُرُ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [الْبَقَرَةِ: 196] فِي فِدْيَةِ الْحَلْقِ فِي الْإِحْرَامِ.
وَتَمَسُّكُ الْجُمْهُورِ فِي التَّخْيِيرِ إِنَّمَا هُوَ بِلَفْظِ «أَوْ» فِي الْكَفَّارَةِ وَشِبْهِهَا، فَيَنْبَغِي لَنَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى «أَوْ» لُغَةً، ثُمَّ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ شَرْعًا، إِذْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ لَمْ يَعْقِدْ لِحُرُوفِ الْمَعَانِي بَابًا مُفْرَدًا عَلَى عَادَةِ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ، يَذْكُرُ أَحْكَامَ «أَوْ» وَغَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ فِيهِ، وَتَابَعْتُهُ عَلَى ذَلِكَ.
أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى «أَوْ» مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، فَأَنَا أُلَخِّصُ أَقْوَالَ مَنْ وَقَفْتُ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَأُنَبِّهُ عَلَى مَا فِي كَلَامِهِمْ مِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَقَدْ سَبَقَ الْوَعْدُ مِنِّي بِذِكْرِ أَقْسَامِ «أَوْ» عِنْدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ.
فَقَالَ الْقَرَافِيُّ: «أَوْ» لَهَا خَمْسَةُ مَعَانٍ: الْإِبَاحَةُ وَالتَّخْيِيرُ، نَحْوَ: اصْحَبِ الْعُلَمَاءَ أَوِ الزُّهَّادَ، فَلَكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَخُذِ الثَّوْبَ أَوِ الدِّينَارَ، فَلَيْسَ لَكَ الْجَمْعُ
(1/284)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَيْنَهُمَا، وَالشَّكُّ، نَحْوَ: جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَأَنْتَ لَا تَدْرِي الْآتِيَ مِنْهُمَا، وَالْإِبْهَامُ نَحْوَ: جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَأَنْتَ تَعْلَمُ الْآتِيَ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا قَصَدْتَ الْإِبْهَامَ عَلَى السَّامِعِ خَشْيَةَ مَفْسَدَةِ التَّعْيِينِ. وَالتَّنْوِيعُ: نَحْوَ: الْعَدَدُ إِمَّا زَوْجٌ أَوْ فَرْدٌ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ.
قُلْتُ: وَمُقْتَضَى تَقْسِيمِهِ، أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ قِسْمَانِ مِنْ أَقْسَامِهَا الْخَمْسَةِ، وَكَلَامُهُ نَصٌّ فِي ذَلِكَ.
وَالتَّحْقِيقُ، أَنَّهُمَا قِسْمٌ وَاحِدٌ، كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُبَرِّدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِبَاحَةِ هِيَ التَّخْيِيرُ، بِأَنْ يُقَالَ: إِنْ شِئْتَ افْعَلْ كَذَا، وَإِنْ شِئْتَ لَا تَفْعَلْ.
هَذَا هُوَ مَعْنَاهَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، فَجَعْلُهُمَا قِسْمَيْنِ يُوهِمُ أَنَّ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ فِي الصُّحْبَةِ، دُونَ الثَّوْبِ وَالدِّينَارِ فِي الْأَخْذِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَرِينَةٍ عُرْفِيَّةٍ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ صُحْبَةِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ لَا خَسَارَةَ فِيهِ وَلَا نَقْصَ، بَلْ هُوَ زِيَادَةٌ فِي دِينِ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ وَمُرُوءَتِهِمَا، بِخِلَافِ أَخْذِ الثَّوْبِ وَالدِّينَارِ، فَإِنَّ اجْتِمَاعَهُمَا لِلْمَأْمُورِ نَقْصٌ فِي مَالِيَّةِ الْآمِرِ، إِذَا كَانَ بَائِعًا أَوْ وَاهِبًا وَنَحْوَهُ، وَهُوَ فِي الْعُرْفِ لَا يُوثِرُ ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ مُشَارٌ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُبَرِّدِ، فِي كِتَابِ «حُرُوفِ الْقُرْآنِ» ، لَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الْبَقَرَةِ: 19] ، حَيْثُ قَالَ: وَأَوْ، تَكُونُ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَوِ الْأَشْيَاءِ، وَتَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ وَاحِدٌ.
(1/285)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: تَبَيَّنَ بِهَذَا مَا قُلْتُهُ، مِنْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ قِسْمٌ وَاحِدٌ.
ثُمَّ قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْمِثَالِ: تَقُولُ: جَالِسْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَوْ خَالِدًا، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَهْلٌ لِلْمُجَالَسَةِ، فَإِنْ جَالَسْتَ الْجَمِيعَ، فَأَنْتَ مُطِيعٌ، وَإِنْ جَالَسْتَ وَاحِدًا لَمْ تَعْصِ. فَإِذَا قُلْتُ: خُذْ مِنِّي ثَوْبًا أَوْ دِينَارًا، فَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلٌ لِأَنْ تَأْخُذَهُ، وَلَكِنَّ الْمُعْطِيَ يَمْنَعُكَ، فَإِنَّهُمَا وَاحِدٌ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَضِيٌّ، إِلَّا أَنَّ لِأَحَدِهِمَا مَانِعًا.
قُلْتُ: قَوْلُهُ: وَلَكِنَّ الْمُعْطِيَ يَمْنَعُكَ، يَعْنِي الْجَمْعَ بَيْنَ الثَّوْبِ وَالدِّينَارِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْقَائِلِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ إِلَّا قَرِينَةُ الْعُرْفِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَإِلَّا فَلَفْظُ «أَوْ» مَعْنَاهَا فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَوْ: حَرْفٌ، إِذَا دَخَلَ عَلَى الْخَبَرِ دَلَّ عَلَى الشَّكِّ وَالْإِبْهَامِ، وَإِذَا دَخَلَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، دَلَّ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ. فَالشَّكُّ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، وَالْإِبْهَامُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سَبَأٍ: 24] ، وَالتَّخْيِيرُ، كَقَوْلِكَ: كُلِ السَّمَكَ أَوِ اشْرَبِ اللَّبَنَ، أَيْ: لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا، وَالْإِبَاحَةُ كَقَوْلِكَ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ.
قُلْتُ: فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ، حَيْثُ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِلَفْظٍ
(1/286)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِثَالٍ. وَكَذَلِكَ ابْنُ جِنِّي فِي «اللُّمَعِ» وَغَيْرُهُ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، فَكَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ جَوَازَ الْجَمْعِ فِي الْإِبَاحَةِ دُونَ التَّخْيِيرِ.
قُلْتُ: وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْقَرِينَةِ الْعُرْفِيَّةِ كَمَا ذَكَرْتُ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّمَكِ وَاللَّبَنِ فِي الْأَكْلِ مُضِرٌّ مَذْمُومٌ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ فِي الْمُجَالَسَةِ، فَلِذَلِكَ فَهِمُوا الْفَرْقَ، لَا لِمَعْنًى خَاصٍّ بِالتَّخْيِيرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي «مُشْكِلِ الْقُرْآنِ» : «أَوْ» تَأْتِي لِلشَّكِّ نَحْوَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ أَوْ مُحَمَّدًا، وَتَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ، كَمَا فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ، وَفِدْيَةِ الْحَلْقِ، وَتَلَاهُمَا.
قُلْتُ: وَقَدْ لَاحَ مِنْ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالتَّخْيِيرِ، وَبَقِيَّةُ مَعَانِي «أَوْ» ، وَأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَالتَّخْيِيرَ، فِي الطَّلَبِ، وَالشَّكِّ وَالْإِبْهَامِ وَالتَّنْوِيعِ، فِي الْخَبَرِ. وَصَرَّحَ الْقَرَافِيُّ بِهَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ اللُّغَةِ، أَنَّ «أَوْ» جَاءَتْ عَلَى غَيْرِ بَابِهَا فِي اقْتِضَائِهَا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ، وَنُبَيِّنُ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مُقْتَضَى «أَوْ» فِي أَصْلِ الْبَابِ، وَأَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ إِمَّا تَسَامُحٌ، أَوْ وَهْمٌ مِمَّنْ قَالَهُ.
وَقَدْ قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي «اللُّمَعِ» - وَهُوَ مِنْ فُحُولِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَئِمَّتِهِمْ -: وَأَيْنَ وَقَعَتْ «أَوْ» فَهِيَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ. وَكَذَلِكَ حَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي «الْعُدَّةِ» عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ الْمُخْتَارُ، وَهُوَ حَمْلُ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا الظَّاهِرَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ قَاطِعٌ أَوْ رَاجِحٌ، وَلَا يَتَسَارَعُ إِلَى تَحْرِيفِهَا عَنْ مَوْضُوعَاتِهَا بِأَدْنَى احْتِمَالٍ، فَمِنَ الْمَوَاضِعِ
(1/287)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَذْكُورَةِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [الْمُرْسَلَاتِ: 5 - 6] ، {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] ، أَنَّ «أَوْ» فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ بِمَعْنَى وَاوِ النَّسَقِ.
قُلْتُ: وَتَوْجِيهُهَا عَلَى أَصْلِ الْبَابِ، أَنَّهَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} لِلتَّنْوِيعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُلْقِي الذِّكْرَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مُنَوَّعًا، أَيْ: إِعْذَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَإِنْذَارٌ لَهُمْ. وَالْكَلَامُ هُنَا فِي سِيَاقِ الْقَسَمِ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: أَقْسَمْتُ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُلْقِيَاتِ الذِّكْرَ، إِعْذَارًا أَوْ إِنْذَارًا، أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، أَوْ شِئْتُمْ أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، فَهُوَ قَسَمٌ عَظِيمٌ، كَقَوْلِهِ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الْوَاقِعَةِ: 75 - 76] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الْإِسْرَاءِ: 110] ، أَيْ: بِأَيِّهِمَا دَعَوْتَهُ فَهُوَ عَظِيمٌ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، فَمَعْنَاهُ: أَلِينَا لَهُ الْقَوْلَ، عَلَى رَجَاءٍ مِنْكُمَا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ، تَذَكُّرُهُ أَوْ خَشِيَتُهُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ - وَهُوَ إِيمَانُهُ - يَتَرَتَّبُ غَالِبًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ تَعَالَى آمَنَ بِهِ، وَمَنْ تَذَكَّرَ وَأَجَادَ النَّظَرَ، تَرَتَّبَ عَلَى تَذَكُّرِهِ الْعِلْمُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ الْإِيمَانُ.
وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ} - يَعْنِي الْقُرْآنَ - {لَهُمْ ذِكْرًا} [طَه: 113] أَيْ: صَرَّفْنَا لَهُمُ الْوَعِيدَ فِي الْقُرْآنِ، وَعَامَلْنَاهُمْ
(1/288)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُعَامَلَةَ مَنْ يَرْجُو مِنْهُمْ، أَوْ لَهُمْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: التَّقْوَى أَوْ إِحْدَاثَ الذِّكْرَى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بِالتَّقْوَى بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، أَوْ بِالذِّكْرِ بِوَاسِطَةِ التَّقْوَى، لِأَنَّ مَنْ حَدَثَ لَهُ ذِكْرٌ وَنَظَرٌ، اتَّقَى اللَّهَ غَالِبًا، كَمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النَّحْلِ: 77] ، {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصَّافَّاتِ: 147] ، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النَّجْمِ: 9] فَقَالَ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ «أَوْ» فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، بِمَعْنَى بَلْ، عَلَى مَذْهَبِ التَّدَارُكِ لِكَلَامٍ غُلِطَ فِيهِ. قَالَ: وَلَيْسَ كَمَا تَأَوَّلُوا، بَلْ هِيَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِمَعْنَى الْوَاوِ.
قُلْتُ: وَتَوْجِيهُ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَصْلِ الْبَابِ.
أَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} فَمَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: لَوْ كَشَفَ لَكُمْ عَنْ أَمْرِ السَّاعَةِ وَسُرْعَتِهِ، لَتَرَدَّدْتُمْ: هَلْ هُوَ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ أَقْرَبَ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ، فَقَدْ ذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِيهَا قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بِمَعْنَى بَلْ يَزِيدُونَ، وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ قَوْلَ ذِي الرُّمَّةِ:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُورَتُهَا أَوْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
أَيْ: بَلْ أَنْتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى أَصْلِهَا فِي التَّرَدُّدِ وَالشَّكِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ: أَيْ: لَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ، لَتَرَدَّدْتُمْ. هَلْ هُمْ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ؟ قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
(1/289)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} [آلِ عِمْرَانَ: 13] ، قَالَ: هَذَا كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، لِأَنَّ هَهُنَا الْمَرْئِيَّ لَيْسَ إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمَا، لَا يَجْتَمِعُ أَحَدُهُمَا مَعَ الْآخَرِ، وَهَهُنَا قَدْ ثَبَتَ مِائَةُ أَلْفٍ مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِهَا. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ فِي هَذَا. قُلْتُ وَأَمَّا بَيْتُ ذِي الرُّمَّةِ، فَهُوَ مُتَّجِهٌ عَلَى أَصْلِ الْبَابِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْهُ أَنَّ مَحْبُوبَتَهُ لِفَرْطِ جَمَالِهَا يَتَرَدَّدُ النَّاظِرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صُورَةِ الشَّمْسِ أَيُّهُمَا أَمْلَحُ، كَمَا قَالَ الْآخَرُ:
فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي أَأَنْتِ كَمَا أَرَى ... أَمِ الْعَيْنُ مَزْهُوٌّ إِلَيْهَا حَبِيبُهَا
أَيْ: إِنِّي مُتَرَدِّدٌ فِي أَمْرِكَ، فَمَا أَدْرِي: هَلْ بِجَمَالِكَ الَّذِي أُدْرِكُهُ تَحَقَّقَ فِيَّ نَفْسُ الْأَمْرِ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ يُخَيَّلُ إِلَيَّ لِفَرْطِ حُبِّي إِيَّاكَ؟
وَمِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الْبَقَرَةِ: 19] ، زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَبَعْضُهُمْ بِمَعْنَى بَلْ، تَقْدِيرُهُ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُسْتَوْقِدِ وَالصَّيِّبِ، أَوْ كَمَثَلِ الْمُسْتَوْقَدِ بَلِ الصَّيِّبِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، بَلْ هِيَ عَلَى أَصْلِهَا فِي التَّخْيِيرِ، كَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ لِلْمُخَاطَبِينَ: قَدْ عَلِمْتُمْ حَالَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، فَلَكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الْمُسْتَوْقِدِ، أَوِ الصَّيِّبِ، لِأَنَّ تَمَثُّلَهُمْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ مُطَابِقٌ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}
(1/290)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الْبَقَرَةِ: 74] ، كَمَا ذُكِرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَزِيدُونَ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا، بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَوْ بَلْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَتَخَرُّجُهُمَا عَلَى أَصْلِ الْبَابِ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْمُبَرِّدُ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّقْدِيرَ: لَوْ كَشَفَ لَكُمْ عَنْ قُلُوبِكُمْ فِي قَسَاوَتِهَا، لَتَرَدَّدْتُمْ، هَلْ هِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً؟ كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ: {أَوْ يَزِيدُونَ} .
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِلتَّنْوِيعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَكُمْ قُلُوبُهُمْ كَالْحِجَارَةِ، وَبَعْضَكُمْ قُلُوبُهُمْ أَقْسَى، كَمَا يُقَالُ: أَتَيْتُ بَنِي فُلَانٍ، فَمَا رَأَيْتُ إِلَّا فَقِيهًا أَوْ قَارِئًا.
هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ، لَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ إِلَّا بِالْقُوَّةِ. وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ «أَوْ» تَكُونُ بِمَعْنَى «إِلَى» كَقَوْلِكَ: لَأَضْرِبَنَّهُ أَوْ يَتُوبَ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يَنْتَصِبُ بَعْدَهَا الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بِإِضْمَارِ «أَنْ» ، وَأَمْثِلَتُهَا كَثِيرَةٌ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلِ الْبَابِ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: لَأُخَيِّرَنَّهُ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالضَّرْبِ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
خَسْفَانِ ثُكْلٌ وَغَدْرٌ أَنْتَ بَيْنَهُمَا ... فَاخْتَرْ وَمَا فِيهِمَا حَظٌّ لِمُخْتَارِ
وَكَذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
[فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ] إِنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
أَيْ: غَايَةُ سَعْيِنَا وَمُحَاوَلَتِنَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ: إِمَّا الْمُلْكُ، أَوِ الْمَوْتُ دُونَهُ فَنُعْذَرُ.
(1/291)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الْإِنْسَانِ: 24] ، فَلَمْ يَحْضُرْنِي الْآنَ كَلَامُ أَحَدٍ فِيهِ، إِلَّا الْقَاضِي أَبَا يَعْلَى فِي «الْعُدَّةِ» فَقَالَ: «أَوْ» إِذَا كَانَتْ فِي الْخَبَرِ، فَهِيَ لِلشَّكِّ، وَإِذَا كَانَتْ فِي الطَّلَبِ وَالْأَمْرِ فَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ، وَإِذَا كَانَتْ فِي النَّهْيِ، فَقَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} . وَقِيلَ: تَكُونُ لِلتَّخْيِيرِ، لِأَنَّ النَّهْيَ أَمْرٌ بِالتَّرْكِ، وَأَيَّهُمَا تَرَكَ كَانَ مُطِيعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
قُلْتُ: أَمَّا التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَأْمُورٌ بِمَعْصِيَةِ الْآثِمِ مِنْهُمْ وَالْكَفُورِ جَمِيعًا، فَلَا يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِمَعْصِيَةِ أَحَدِهِمَا.
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْآيَةِ، فَالتَّخْيِيرُ مُحْتَمَلٌ، نَحْوَ: لَا تَأْكُلْ خُبْزًا أَوْ تَمْرًا، أَوْ لَا تَصْحَبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا. أَيْ: أَنْتَ مَنْهِيٌّ عَنْ أَكْلِ أَوْ صُحْبَةِ أَحَدِهِمَا أَيَّهُمَا شِئْتَ.
وَمَعْنَى كَوْنِ النَّهْيِ بِأَوْ لِلْجَمْعِ، مَا ذَكَرَهُ الْمُبَرِّدُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الْبَقَرَةِ: 19] ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالنَّهْيُ أَنْ تَقُولَ: لَا تُجَالِسْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، لَيْسَ فِيهِمَا رِضًى، فَإِنْ جَالَسَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، أَوْ الِاجْتِمَاعِ، فَهُوَ عَاصٍ.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ «أَوْ» فِيهَا
(1/292)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِمَعْنَى وَلَا، أَيْ لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا وَلَا كَفُورًا، تَحْقِيقًا لِإِفَادَةِ الْجَمْعِ، وَهُوَ غُلُوٌّ فِي التَّحْرِيفِ.
وَبَعْضُهُمْ قَالَ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَقْدِيرُهُ: لَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا وَكَفُورًا.
وَهُوَ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى عَنْ طَاعَتِهِمَا جَمِيعًا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ طَاعَةِ أَحَدِهِمَا. وَالْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ طَاعَتِهِمَا عَلَى الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ.
وَالْأَقْرَبُ فِي تَخْرِيجِهِمَا عَلَى أَصْلِ الْبَابِ، أَنَّهَا لِلتَّنْوِيعِ، إِذْ مِنَ الْقَوْمِ مَنْ كَانَ يُكَذِّبُهُ وَلَا يَأْتَمِنُهُ عَلَى مَا يَقُولُ، فَهَذَا كَفُورٌ، كَأَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ مُصَدِّقًا لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَكِنْ مَنَعَهُ الْحَيَاءُ وَالنَّخْوَةُ مِنْ مُتَابَعَتِهِ، كَأَبِي طَالِبٍ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 144] ، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 146] ، فَهَذَا النَّوْعُ، مِنْهُمْ آثِمٌ، وَلَيْسَ كَافِرًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، لِأَنَّهُ مُعْتَقِدٌ لِلصِّدْقِ وَإِنَّمَا كُفْرُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ الِاسْتِكْبَارُ وَالِاحْتِشَامُ عَنْ مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، كَكُفْرِ إِبْلِيسَ بِالِاسْتِكْبَارِ مَعَ الْعِيَانِ، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَاهُ عَنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَوَّعَهُمْ لَهُ إِلَى مُصَدِّقٍ آثِمٍ بِالِاسْتِكْبَارِ، وَإِلَى
(1/293)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُكَذِّبٍ كَافِرٍ بِالتَّكْذِيبِ، فَتَقْدِيرُهُ: لَا تُطِعْ مِنْهُمْ أَحَدًا، لَا مِنْ نَوْعِ الْأَثَمَةِ وَلَا مِنْ نَوْعِ الْكَفَرَةِ. مَعَ أَنَّ النَّوْعَيْنِ يَجْمَعُهُمُ الْكُفْرُ، لَكِنَّ جِهَةَ كُفْرِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا بَيَّنَّا، فَهَذَا مَا اتَّفَقَ مِنْ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي مَعْنَى «أَوْ» لُغَةً.
وَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَقِفُ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ يَزْعُمُ أَنِّي أَطْنَبْتُ فِيهِ، وَخَرَجْتُ عَمًّا أَنَا بِصَدَدِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ إِلَى مَبَاحِثِ اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا قَصَدْتُ أَنْ أُقَرِّرَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، لِأَنَّهَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهَا الْخُلْفُ وَالِاضْطِرَابُ، فَكَانَ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهَا كَشْفُ اللَّبْسِ عَنِ النَّاظِرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ مَنْ تَدَبَّرَ تَخْرِيجَنَا لِلصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَصْلِ الْبَابِ فِي «أَوْ» ، أَمْكَنَهُ أَنْ يُخَرِّجَ عَلَى ذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي لَمْ نَذْكُرْهَا، وَإِنَّمَا وَضَعْنَا هَذَا لِلْمُحَقِّقِينَ الْعَارِفِينَ لِلْعِلْمِ وَالنَّظَرِ فِيهِ، وَلَا عِبْرَةَ بِأَهْلِ الضَّجَرِ وَضَعْفِ النَّظَرِ.
وَأَمَّا مَا يَنْبَنِي عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْأَحْكَامِ شَرْعًا، فَمِنْهُ الْكَفَّارَاتُ، وَمِنْهَا كَفَّارَةُ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ، وَهَلْ هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ عِتْقِ رَقَبَةٍ وَصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَقَوْلَانِ لِأَحْمَدَ، أَظْهَرَهُمَا التَّرْتِيبُ، إِلْحَاقًا لَهَا بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ قِيَاسًا، وَلِظَاهِرِ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ بَدَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِالْعِتْقِ، ثُمَّ الصِّيَامِ، ثُمَّ الْإِطْعَامِ.
(1/294)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهَا كَفَّارَتَا الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، وَهُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْخِصَالِ الثَّلَاثِ، وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا قَالَ فِيهِمَا بِالتَّخْيِيرِ، لِنَصِّ الْكِتَابِ عَلَى التَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ، {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [الْمُجَادَلَةِ: 4] .
وَمِنْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَهِيَ تَجْمَعُ التَّرْتِيبَ وَالتَّخْيِيرَ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [الْمَائِدَةِ: 89] ، فَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثِ، وَالتَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [الْمَائِدَةِ: 89] .
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلِلتَّخْيِيرِ وَالتَّرْتِيبِ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهِمَا فِي اللُّغَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتُهُ لِلْفُقَهَاءِ أَنَّ صِيغَةَ «أَوْ» تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، نَحْوُ: افْعَلُوا كَذَا أَوْ كَذَا، وَكَذَلِكَ صِيغَةُ: افْعَلُوا إِمَّا كَذَا وَإِمَّا كَذَا، وَصِيغَةُ: مَنْ لَمْ يَجِدْ، أَوْ: إِنْ لَمْ تَجِدْ كَذَا فَكَذَا، تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَهُوَ أَلَّا يَعْدِلَ إِلَى الثَّانِي إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَوَّلِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا سُؤَالًا، وَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ، يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ أَوْ لَا يُشَرَّعَ اسْتِشْهَادُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ رَجُلَيْنِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [الْبَقَرَةِ: 282] ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَيَلْزَمُ إِمَّا أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ لَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ، وَإِمَّا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فِي امْتِنَاعِ اسْتِشْهَادِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، مَعَ وُجُودِ رَجُلَيْنِ.
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، بِمَا حَاصِلُهُ: إِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ صِيغَةَ الشَّرْطِ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي دَلَالَتِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، بَلْ كَمَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ تَارَةً، فَهِيَ تُفِيدُ الْحَصْرَ أُخْرَى، كَقَوْلِنَا: مَنْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا، فَهُوَ مَيِّتٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَيْدٌ مُتَحَرِّكًا، فَهُوَ سَاكِنٌ،
(1/295)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ حَالُهُ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَإِذَا كَانَتْ تَصْلُحُ لِلتَّرْتِيبِ وَالْحَصْرِ لَمْ تَتَعَيَّنْ لِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِدَلِيلٍ أَوْ قَرِينَةٍ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي التَّرْتِيبَ أَوِ الْحَصْرَ، فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ.
وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ، مَعْنَاهَا حَصْرُ الْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْكَامِلَةِ، مِنَ الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ، فِي الرَّجُلَيْنِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ. أَمَّا الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ، أَوِ النُّكُولُ وَالْيَمِينُ، فَلَيْسَ حُجَّةً كَامِلَةً مِنَ الشَّهَادَةِ الْمَحْضَةِ، بَلْ مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ الْيَمِينُ مَعَ الشَّاهِدِ.
قُلْتُ: هَذَا حَاصِلٌ جَوَابُهُ، وَهُوَ جَيِّدٌ، غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ: صِيغَةُ الشَّرْطِ لَا تَحْسُنُ إِلَّا فِي التَّرْتِيبِ وَالْحَصْرِ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ، فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ قَدْ جَاءَتْ لِمَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ التَّسْوِيَةُ فِي أَصْلِ الْمَقْصُودِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ تَفَاوَتَا فِي كَمَالِهِ.
كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَقَدْ أُغِيرَ عَلَى أَمْوَالِهِ فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ إِلَّا أَعْنُزٌ:
إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ غَنَمٌ فَمِعْزًى ... كَأَنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا عِصِيُّ
فَتَمْلَأُ بَيْتَنَا أَقِطًا وَسَمْنًا ... وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيٌّ
أَيِ: الْمَقْصُودُ مِنَ الْغَنَمِ حَاصِلٌ مِنَ الْمِعْزَى، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْغَنَمِ أَكْمَلَ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِالْآيَةِ أَنْسَبُ، أَيْ: مَقْصُودُ الشَّاهِدَيْنِ حَاصِلٌ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الرَّجُلَيْنِ أَكْمَلَ، لِبُعْدِهِمَا عَنِ الْغَلَطِ، وَاحْتِيَاجِهِمَا إِلَى التَّذَاكُرِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَرْأَتَيْنِ: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [الْبَقَرَةِ: 282] ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَتَرَجَّحُ الرَّجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَ التَّعَارُضِ، لِحُصُولِ أَصْلِ
(1/296)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَقْصُودِ، وَإِنْ كَانَ التَّرْجِيحُ بِذَلِكَ يَتَعَدَّى تَحْصِيلًا لِكَمَالِ الْمَقْصُودِ.
وَمِنْهَا: فِدْيَةُ حَلْقِ الرَّأْسِ فِي الْإِحْرَامِ، وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِعُذْرٍ أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [الْبَقَرَةِ: 196] ، وَلِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، وَكَانَ مَعْذُورًا، فِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْلِقْ رَأْسَكَ، وَانْسُكْ نَسِيكَةً، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: التَّخْيِيرُ لِلَفْظِ الْآيَةِ، وَالتَّرْتِيبُ تَغْلِيظًا عَلَى الْحَالِقِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَتَخْصِيصًا لِلتَّخْيِيرِ بِسَبَبِ الْآيَةِ، وَهُوَ حَالُ الْعُذْرِ.
وَمِنْهَا، الْفِدْيَةُ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْإِحْرَامِ. وَفِيهِ قَوْلَانِ عَنْ أَحْمَدَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُخَيِّرَةٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [الْمَائِدَةِ: 95] .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ. إِنْ تَعَذَّرَ مِثْلُ الصَّيْدِ أَطْعَمَ، فَمَنْ لَمْ يَجِدِ الْإِطْعَامَ، صَامَ. وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ، إِلْحَاقُهَا بِالْكَفَّارَاتِ الْمُرَتَّبَةِ، لَكِنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ خِلَافُهُ، فَيَكُونُ قِيَاسًا مُصَادِمًا لِلنَّصِّ.
وَمِنْهَا، الْمُسْتَحَاضَةُ الْمُتَحَيِّرَةُ تَجْلِسُ سِتًّا أَوْ سَبْعًا، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحَمْنَةَ
(1/297)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِنْتِ جَحْشٍ كَانَتْ مُسْتَحَاضَةً: تَحَيَّضِي سِتَّةَ أَيَّامٍ أَوْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي عِلْمِ اللَّهِ، فَهَذِهِ صِيغَةُ تَخْيِيرٍ، لَكِنَّهُ تَخْيِيرُ اجْتِهَادٍ، لَا تَخْيِيرُ تَشَهٍّ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهَا تَجْتَهِدُ فِي السِّتِّ وَالسَّبْعِ، فَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا جَلَسَتْهُ، إِذْ لَوْ كَانَ تَخْيِيرًا مَحْضًا، لَلَزِمَ مِنْهُ جَوَازُ أَنْ تَجْلِسَ سَبْعًا مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّهَا أَنَّ حَيْضَهَا سِتٌّ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى تَجْوِيزِ تَرْكِ الصَّلَاةِ فِي زَمَنٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا وَجُوبُهَا فِيهِ، وَلَيْسَ بِجَائِزٍ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ فِي هَذَا الْمَكَانِ، إِلَى أَنَّ «أَوْ» إِمَّا إِبْهَامِيَّةٌ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمِقْدَارَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ قَدِ اسْتَبْهَمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَلَيْهَا أَنْ تَتَعَيَّنَ لِلْجُلُوسِ فِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ضَبْطٌ لَهُ، وَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهَا. وَإِمَّا تَنْوِيعِيَّةٌ: أَيِ: الزَّمَنُ الَّذِي تَجْلِسِينَ فِيهِ شَرْعًا، يَتَنَوَّعُ إِلَى سِتَّةٍ وَسَبْعَةٍ، فَاجْلِسِي أَحَدَهُمَا بِالِاجْتِهَادِ.
وَمِنْهُ فِي الْبُيُوعِ: بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، نَحْوُ: بِعْتُكَ بِعَشَرَةٍ نَقْدًا، أَوْ بِعِشْرِينَ نَسِيئَةً، فَلَا يَصِحُّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِلْجَهَالَةِ، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ، وَيَصْلُحُ أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} [الْقَصَصِ: 28] ، بِنَاءً عَلَى شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، إِذْ هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: تَزَوَّجْتُ ابْنَتَكَ عَلَى أَنْ أَرْعَى لَكَ ثَمَانِيَ أَوْ عَشَرَ سِنِينَ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِجَاجِ كَلَامٌ لَا يَخْفَى.
(1/298)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذَا، وَأَنْكَحْتُكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أَوْ هَذِهِ، فَلَا يَصِحُّ، لِاقْتِضَاءِ «أَوْ» أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ. وَشَرْطُ صِحَّةِ ذَلِكَ التَّعْيِينُ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَمِنْهُ فِي الطَّلَاقِ: إِذَا قَالَ لِثَلَاثِ نِسْوَةٍ: هَذِهِ أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَالِقٌ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الثَّالِثَةَ تُطَلَّقُ مَعَ إِحْدَى الْأُولَتَيْنِ، وَتَخْرُجُ بِالْقُرْعَةِ، وَقِيلَ: بَلْ يُقْرِعُ بَيْنَ الْأُولَى وَبَيْنَ الْأُخْرَيَيْنِ مَعًا، فَإِنْ وَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى الْأُولَى طُلِّقَتْ وَحْدَهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْأُخْرَيَيْنِ طُلِّقَتَا جَمِيعًا دُونَ الْأُولَى.
قُلْتُ: وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ: أَنَّ التَّرَدُّدَ بِأَوْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، هَلْ هُوَ بَيْنَ الْأُولَيَيْنِ، فَتَكُونُ إِحْدَاهُمَا الْمُطَلَّقَةَ مَعَ الثَّالِثَةِ، أَوْ بَيْنَ الْأُولَى وَحْدَهَا وَالْأُخْرَيَيْنِ مَعًا، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا ذَكَرْنَا وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى الْأَوَّلِ إِحْدَى هَاتَيْنِ طَالِقٌ وَهَذِهِ الثَّالِثَةُ طَالِقٌ، أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ الثَّالِثَةُ طَالِقٌ، وَهَذِهِ الثَّالِثَةُ طَالِقٌ فَطَلَاقُ الثَّالِثَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَالتَّرَدُّدُ فِي إِحْدَى الْأُولَتَيْنِ؟
وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي تَقْدِيرُهُ: هَذِهِ الْأُولَى طَالِقٌ، أَوْ هَاتَانِ الْأُخْرَيَانِ طَالِقَتَانِ فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ طَلَاقِ الْأُولَى وَحْدَهَا، وَطَلَاقِ الْأُخْرَيَيْنِ مَعًا. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ يُطَلِّقُ
(1/299)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْهُمَا اثْنَتَانِ بِالْجُمْلَةِ، لَكِنَّ عَلَى الْأَوَّلِ تُطَلَّقُ إِحْدَى الْأُولَتَيْنِ مَعَ الثَّالِثَةِ وَلَا بُدَّ، وَعَلَى الثَّانِي تُطَلَّقُ إِمَّا الْأُولَى وَحْدَهَا، وَإِمَّا الْأُخْرَيَانِ، فَطَلَاقُ الِاثْنَتَيْنِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ عَلَى أَحَدِ تَقْدِيرَيْنِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ.
وَرُجْحَانُهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَهِيَ: أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لَهُ فِي الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ، فَنَقُولُ: الزَّيْدُونَ قَائِمُونَ، وَلَا يَجُوزُ قَائِمٌ، وَزَيْدٌ قَائِمٌ، وَلَا يَجُوزُ قَائِمُونَ، وَتَقُولُ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو قَائِمٌ، وَلَا يَجُوزُ قَائِمَانِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَزَيْدٌ وَعَمْرٌو قَائِمَانِ، وَلَا يَجُوزُ قَائِمٌ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْهُمَا جَمِيعًا، كَمَا لَا تَقُولُ: الزَّيْدَانِ قَائِمٌ إِلَّا بِتَقْدِيرِ تَكْرَارِ الْخَبَرِ تَقْدِيرًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَتَقْدِيرُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هَذِهِ أَوْ هَذِهِ طَالِقٌ وَهَذِهِ، فَالْخَبَرَانِ مُطَابِقَانِ. وَتَقْدِيرُهَا عَلَى الثَّانِي: هَذِهِ طَالِقٌ، أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَالِقٌ، فَالْخَبَرُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ مُطَابِقٍ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: أَوْ هَذِهِ وَهَذِهِ طَالِقَتَانِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِالطَّلَاقِ عَنْهُمَا جَمِيعًا لَا عَنْ إِحْدَاهُمَا، فَهَذَا كَشْفُ الْمَسْأَلَةِ. وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا عَلَيْكَ تَوَقُّفٌ فَاسْتَخْرِجْهُ بِالنَّظَرِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ ظَهَرَ.
أَمَّا لَوْ قَالَ لِإِحْدَى زَوْجَتَيْهِ أَوْ أَمَتَيْهِ: أَنْتِ أَوْ هَذِهِ طَالِقٌ أَوْ حُرَّةٌ، احْتُمِلَ أَنْ تُطَلَّقَ وَتُعْتَقَ الْمُخَاطَبَةُ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْمُخَاطَبِ لِسَبْقِهِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا، قَطْعًا لِإِشْكَالِ التَّرَدُّدِ بِالْقُرْعَةِ.
(1/300)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهُ الْحُكْمُ فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [الْمَائِدَةِ: 33] ، فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ أَيَّ ذَلِكَ شَاءَ فَعَلَ بِهِمْ. وَحَكَى ابْنُ الْبَنَّا فِي شَرْحِ الْخِرَقِيِّ هَذَا التَّخْيِيرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ. قُلْتُ: هُوَ نَظَرٌ إِلَى اقْتِضَاءِ «أَوْ» التَّخْيِيرَ، وَمَنَعَ الْجُمْهُورُ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، لِأَنَّ الْقَتْلَ إِذَا جَازَ تَرْكُهُ لَمْ يَجُزْ فِعْلُهُ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ، وَلَا يَكُونُ السُّلْطَانُ مُخَيَّرًا فِي قَتْلِهِ. وَهَؤُلَاءِ حَمَلُوا «أَوْ» فِي هَذِهِ بِهَذَا الدَّلِيلِ عَلَى التَّنْوِيعِ، أَيْ: إِنَّ عَذَابَ الْمُحَارِبِينَ يَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ تَنَوُّعِ أَفْعَالِهِمْ.
فَمَذْهَبُ أَحْمَدَ أَنَّهُ إِنْ أَخَافَ السَّبِيلَ إِخَافَةً مُجَرَّدَةً، نُفِيَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ أَخْذًا مُجَرَّدًا، قُطِّعَ فِيمَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ، وَإِنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ، قُتِلَ، وَفِي صَلْبِهِ قَوْلَانِ. وَإِنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ، قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَذَلِكَ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ إِذَا قَصَدُوا قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَأُخِذُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا مَالًا، أَوْ يَقْتُلُوا نَفْسًا، حَبَسَهُمُ الْإِمَامُ حَتَّى يَتُوبُوا، وَإِنْ أَخَذُوا مِنْ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ، قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ
(1/301)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَأْخُذُوا مَالًا، قُتِلُوا حَدًّا، لَا يُسْقِطُهُ عَفْوُ أَوْلِيَاءِ مَنْ قَتَلُوهُ، وَإِنْ قَتَلُوا، وَأَخَذُوا الْمَالَ، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ: إِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَ، يَصْلُبُ أَحَدَهُمْ حَيًّا، وَيَبْعَجُ بَطْنَهُ بِرُمْحٍ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِنْ شَاءَ، قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ.
وَمِنْهُ أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ: الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ، وَمُسْتَنَدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ، وَفِي لَفْظٍ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ، وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ تَقَعُ فِي كِتَابِ الْجِنَايَاتِ.
وَمِنْ فُرُوعِ التَّخْيِيرِ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا جَنَى خَطَأً، فَسَيِّدُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِ وَتَسْلِيمِهِ فِي الْجِنَايَةِ، فَإِنِ اخْتَارَ فَدَاءَهُ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ أَرْشُ جِنَايَتِهِ، وَلَهُ فِدَاؤُهُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، لِأَنَّهُ إِنْ أَدَّى أَقَلَّهُمَا، فَهُوَ الْوَاجِبُ، وَإِنْ أَدَّى أَكْثَرَهُمَا، فَقَدِ الْتُزِمَ ضَرَرَ الزِّيَادَةِ، وَهُوَ لَا يُمْنَعُ، وَإِنِ اسْتَوَتِ الْقِيمَةُ وَالْأَرْشُ، صَارَ التَّخْيِيرُ ضَرُورِيًّا، إِذْ لَا أَقَلَّ، فَيَجِبُ، وَلَا أَكْثَرَ، فَيَلْزَمُ ضَرُورَةً، وَإِنْ سَلَّمَهُ، فَأَبَى وَلِيُّ الْجِنَايَةِ قَبُولَهُ، وَقَالَ: بِعْهُ أَنْتَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَشْبَهُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ، وَيَبْرَأُ بِالتَّسْلِيمِ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَيَبْرَأُ بِأَحَدِهِمَا، كَالتَّكْفِيرِ بِإِحْدَى الْخِصَالِ.
(1/302)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَوْ جَنَى الْعَبْدُ عَمْدًا، فَعَفَا الْوَلِيُّ عَنِ الْقِصَاصِ عَلَى رَقَبَةِ الْعَبْدِ، فَهَلْ يَمْلِكُهُ بِغَيْرِ رِضَا السَّيِّدِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَصَحُّهُمَا لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِ رِضَاهُ، لِأَنَّهُ بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ صَارَتْ جِنَايَتُهُ كَالْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ، وَالسَّيِّدُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ كَمَا سَبَقَ، وَمِلْكُ الْوَلِيِّ لِرَقَبَتِهِ بِدُونِ رِضَا السَّيِّدِ يُنَافِي التَّخْيِيرَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ هَذَا فُرُوعٌ مُؤْنِسَةٌ بِهَذَا الْأَصْلِ، لِيَتَبَيَّنَ لِلنَّاظِرِ كَيْفَ تُفَرَّعُ الْأَحْكَامُ عَنْ أُصُولِهَا، وَاقْتِنَاصُهَا مِنْهَا.
وَثَمَّ فُرُوعٌ أُخَرُ لَمْ أَذْكُرْهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ اللُّغَوِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ فِي أَثْنَاءِ مَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ قَبْلَ كَمَالِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِنَا: «وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِلَفْظِ» أَوْ «وَهِيَ لِلتَّخْيِيرِ وَالْإِبْهَامِ» .
قَوْلُهُ: «قَالُوا: فَإِنِ اسْتَوَتِ الْخِصَالُ» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ جَمِيعُ الْخِصَالِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ خِصَالَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، إِمَّا أَنْ تَسْتَوِيَ فِي تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ أَوْ لَا تَسْتَوِيَ؟ فَإِنِ اسْتَوَتْ، بِأَنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ مَثَلًا فِي التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ مِثْلَ مَصْلَحَتِهِ فِي التَّكْفِيرِ بِالصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا وَاجِبًا، لِأَنَّ اخْتِيَارَ التَّكْفِيرِ بِبَعْضِهَا مَعَ تَسَاوِيهَا فِي الْمَصْلَحَةِ يَكُونُ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوِ الْجَمِيعُ فِي الْمَصْلَحَةِ، بَلِ اخْتُصَّ بِهَا بَعْضُ الْخِصَالِ، أَوْ تَرَجَّحَ فِيهَا، مِثْلُ إِنِ اخْتُصَّ الْعِتْقُ
(1/303)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِمَصْلَحَةِ التَّكْفِيرِ، أَوْ كَانَ أَرْجَحُ فِي حُصُولِهَا مِنَ الصِّيَامِ وَالْإِطْعَامِ، وَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ ذَلِكَ الْبَعْضُ فَيَكُونُ هُوَ الْوَاجِبَ عَيْنًا لَا عَلَى التَّخْيِيرِ.
(1/304)
________________________________________
قُلْنَا: مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ، وَعَلَى أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ ذَاتِيَّانِ، أَوْ بِصِفَةٍ، وَهُمَا مَمْنُوعَانِ، بَلْ ذَلِكَ شَرْعِيٌّ، فَلِلشَّرْعِ فِعْلُ مَا شَاءَ مِنْ تَخْصِيصٍ وَإِبْهَامٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَبْنِيٌّ» أَيْ: قُلْنَا هَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ مَمْنُوعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ لِلْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ أَصْلٌ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا، وَيَكْفِينَا مَنْعُهُ فِي إِبْطَالِ دَلِيلِكُمُ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ تَبَرَّعْنَا بِمُسْتَنَدِ الْمَنْعِ، فَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ رِعَايَةِ الْأَصْلَحِ أَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَلَزِمَ أَنَّ خَلْقَ الْكُفَّارِ، وَتَسْلِيطَ الشَّيْطَانِ الْمُضِلِّ، وَالشَّهَوَاتِ الْمُسْتَمِيلَةِ لَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ، وَافْتِقَارَ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ، وَتَخْلِيدَ الْجَمِيعِ فِي النَّارِ، أَصْلَحُ لَهُمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ، وَقَدِ اضْطُرَّ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ فِي تَمْشِيَةِ هَذَا الْأَصْلِ إِلَى أَنِ الْتَزَمَ أَنَّ تَخْلِيدَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ أَصْلَحُ لَهُمْ. وَمَذْهَبٌ يَنْتَهِي إِلَى هَذَا الْفَسَادِ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا. وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ التَّكْلِيفِ بِخِصَالِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ مَصْلَحَةُ الْمُكَلَّفِ، حَتَّى يَنْظُرَ: هَلْ تَسْتَوِي فِي حُصُولِهِ مَصْلَحَتُهُ أَوْ تَتَفَاوَتُ؟ بَلِ الْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّعَبُّدُ الْمَحْضُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَصْلَحَةُ الْمُكَلَّفِ، وُجُوبًا عَلَى قَوْلِهِمْ، أَوْ تَفَضُّلًا عَلَى قَوْلِنَا، لَكِنْ لَا نَلْتَزِمُ أَنَّهَا اسْتَوَتْ فِي حُصُولِ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ.
وَفَوَّضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى الْمُكَلَّفِ اخْتِيَارَ بَعْضِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ التَّفْوِيضُ
(1/305)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُوَ الْمُرَجِّحُ، فَلَا يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَدَلَّ عَلَى التَّفْوِيضِ الْمَذْكُورِ وُرُودُ النَّصِّ بِلَفْظِ «أَوْ» الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّخْيِيرِ فِي اللِّسَانِ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنَّ حُسْنَ الْفِعْلِ وَقُبْحَ الْفِعْلِ عِنْدَهُمْ ذَاتِيَّانِ بِصِفَةٍ. أَيْ: أَنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ، مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ لِمَعْنًى، أَوْ وَصْفٍ قَائِمٍ بِهِ اقْتَضَى كَوْنَهُ حَسَنًا، وَمِنْهَا مَا هُوَ قَبِيحٌ لِوَصْفٍ قَامَ بِهِ اقْتَضَى أَحَدُهُمَا حُسْنَ الصِّدْقِ وَالْآخَرُ قُبْحَ الْكَذِبِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ هَذَا، اقْتَضَى عِنْدَهُمْ أَنَّ خِصَالَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، لَا بُدَّ وَأَنْ تَقُومَ بِهَا أَوْصَافٌ تَقْتَضِي حُسْنَهَا، فَإِنْ تَسَاوَتْ فِي تِلْكَ الصِّفَاتِ تَسَاوَتْ فِي الْحُسْنِ، وَتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، فَيَلْزَمُ إِيجَابُ جَمِيعِهَا، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي صِفَاتِهَا، تَعَيَّنَ مِنْهَا الْأَرْجَحُ الْأَصْلَحُ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
وَهَذَا الْأَصْلُ مَمْنُوعٌ أَيْضًا عِنْدَنَا، بَلْ حُسْنُ الْأَفْعَالِ وَقُبْحُهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ، لَا مِنْ ذَوَاتِهَا، وَلَا مِنْ صِفَاتٍ قَامَتْ بِهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «بَلْ ذَلِكَ» يَعْنِي: الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ «شَرْعِيٌّ» «فَلِلشَّرْعِ فِعْلُ مَا شَاءَ مِنْ تَخْصِيصٍ وَإِبْهَامٍ» أَيْ: مِنْ تَعْيِينِ الْوَاجِبِ وَالتَّخْيِيرِ فِيهِ، وَلِهَذَا مَزِيدُ تَحْقِيقٍ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُنَا عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ: ذَاتِيَّانِ بِصِفَةٍ، هُوَ مَنْقُولٌ ثَابِتٌ عَنِ
(1/306)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأُصُولِيِّينَ، وَفِيهِ تَنَاقُضٌ نُنَبِّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْكَرَّامِيَّةَ وَالْبَرَاهِمَةَ قَالُوا: الْأَفْعَالُ حَسَنَةٌ أَوْ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ صِفَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هِيَ كَذَلِكَ بِصِفَةٍ كَمَا شَرَحْنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ قَبِيحَةٌ بِصِفَةٍ قَامَتْ بِهَا، وَهِيَ حَسَنَةٌ لِذَاتِهَا بِغَيْرِ صِفَةٍ، وَالْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ يَلْزَمُهُمَا التَّنَاقُضُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: هَذَا قَبِيحٌ أَوْ حَسَنٌ لِذَاتِهِ أَنَّ عِلَّةَ قُبْحِهِ وَحُسْنِهِ ذَاتُهُ وَحَقِيقَتُهُ، وَمَعْنَى قَوْلِنَا: هَذَا حَسَنٌ أَوْ قَبِيحٌ بِصِفَةٍ، أَنَّ عِلَّةَ حُسْنِهِ أَوْ قُبْحِهِ صِفَةٌ قَامَتْ بِهِ، فَقَوْلُنَا مَثَلًا: الْكَذِبُ قَبِيحٌ لِذَاتِهِ، أَيْ: هُوَ قَبِيحٌ لِكَوْنِهِ كَذِبًا، وَإِذَا قُلْنَا هُوَ قَبِيحٌ بِصِفَةٍ، مَعْنَاهُ: هُوَ قَبِيحٌ لِقِيَامِ صِفَةٍ بِهِ أَوْجَبَتْ كَوْنَهُ قَبِيحًا، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: الْأَفْعَالُ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا بِصِفَةٍ، وَإِسْنَادُهُمُ الْقُبْحَ إِلَيْهَا حُكْمٌ عَقْلِيٌّ، وَقَدْ جَعَلُوا لَهُ عِلَّتَيْنِ: ذَوَاتَ الْأَفْعَالِ وَصِفَاتِهَا الْقَائِمَةَ بِهَا، وَالْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ لَا تَتَعَدَّدُ عِلَّتُهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ مُؤَثِّرَانِ عَقْلًا لِمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: إِنْ كَانَتِ الْأَفْعَالُ قَبِيحَةً لِذَاتِهَا وَلِصِفَةٍ قَامَتْ بِهَا، فَهُوَ تَنَاقُضٌ، وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ مَعَ مَا يَقْتَضِي عَدَمَهُ. وَعَلَى هَذَا فَالصَّوَابُ فِي عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ أَنْ يُقَالَ: «عَلَى أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ ذَاتِيَّانِ أَوْ بِصِفَةٍ» بِلَفْظِ «أَوْ» وَتَكُونُ لِتَنْوِيعِ مَذْهَبِهِمْ إِلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ حَسَنَةٌ أَوْ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا، وَإِلَى أَنَّهَا كَذَلِكَ لِأَوْصَافٍ قَامَتْ بِهَا. اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّنَاقُضِ إِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ قُلْنَا: الْأَفْعَالُ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا وَلِصِفَةٍ،
(1/307)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَنَحْنُ إِنَّمَا قُلْنَا: هِيَ قَبِيحَةٌ لِذَاتِهَا بِصِفَةٍ بِالْبَاءِ لَا بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّعْلِيلِ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ قُبْحِهَا ذَاتَهَا. وَالصِّفَةُ الْقَائِمَةُ بِهَا شَرْطٌ، لَا عِلَّةٌ ثَابِتَةٌ، وَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْأَثَرِ مُؤَثِّرَانِ، فَلَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ، وَهَذَا اعْتِذَارٌ جَيِّدٌ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، فَتَصِحُّ عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَأَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ أَصْلِ دَلِيلِهِمُ الْمَذْكُورِ بِجَوَابٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ تَسَاوِيَ الْخِصَالِ فِي الْمَصْلَحَةِ، عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، يَمْنَعُ مِنْ تَعْيِينِ بَعْضِهَا، لِلُزُومِ التَّرْجِيحِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَحُصُولُ الْمَصْلَحَةِ بِوَاحِدٍ مِنْهَا يَمْنَعُ مِنْ إِيجَابِ مَا فَوْقَهُ، لِأَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ، حَصَلَتِ الْمَصْلَحَةُ بِدُونِهِ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.
قُلْتُ: وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ هُنَا إِلَّا مَنْعُ حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِوَاحِدٍ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّارَةِ.
(1/308)
________________________________________
قَالُوا: عَلِمَ مَا أَوْجَبَ، وَمَا يَفْعَلُ الْمُكَلَّفُ، فَكَانَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا.
قُلْنَا: عِلْمُهُ تَابِعٌ لِإِيجَابِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنِ الْمَحَلِّ، وَإِلَّا لَعَلِمَهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَفِعْلُ الْمُكَلَّفِ يُعَيَّنُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا: عَلِمَ مَا أَوْجَبَ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُخَيَّرِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ خِصَالِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَيَعْلَمُ الْخَصْلَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْمُكَلَّفُ، فَيَكُونُ مُعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: عِلْمُهُ تَابِعٌ لِإِيجَابِهِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى تَعْيِينِ الْوَاجِبِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا أَوْجَبَ، لَكِنَّا نَقُولُ: عِلْمُهُ تَابِعٌ لِإِيجَابِهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتْبَعُ الْمَعْلُومَ، أَيْ: يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ. وَإِيجَابُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرُ مُعَيَّنِ الْمَحَلِّ، أَيْ مَحَلِّ الْإِيجَابِ، أَيْ: مُتَعَلَّقُهُ مِنْ أَقْسَامِ الْوَاجِبِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: مَنْ حَنِثَ، فَكَفَّارَةُ حِنْثِهِ الْعِتْقُ بِعَيْنِهِ مَثَلًا، وَالْإِطْعَامُ بِعَيْنِهِ، بَلْ قَالَ: كَفَّارَتُهُ إِطْعَامٌ أَوْ كِسْوَةٌ أَوْ عِتْقٌ، فَثَبَتَ أَنَّ مَحَلَّ الْإِيجَابِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، إِذْ لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا لَعَلِمَهُ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُبْهَمٌ فِي أَقْسَامٍ وَهُوَ
(1/309)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَهُ مُعَيَّنًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ انْقِلَابَ الْعِلْمِ جَهْلًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ غَيْرُ مُعَيَّنِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ أَوْجَبَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ.
وَأَمَّا فِعْلُ الْمُكَلَّفِ لِلْعِتْقِ، أَوِ الْإِطْعَامِ، أَوِ الْكِسْوَةِ، فَلَيْسَ فِعْلًا لِمَا كَانَ مُعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بَلْ هُوَ تَعْيِينٌ لِمَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا، وَقَدْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ سَيُعَيِّنُهُ بِفِعْلِهِ. فَحَاصِلُ الْجَوَابِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِلْمُهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَتَعَيَّنُ، وَالْعِلْمُ أَنَّهُ سَيَتَعَيَّنُ لَيْسَ فِي لَفْظِ «الْمُخْتَصَرِ» دَلَالَةٌ عَلَيْهِ.
ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: لَوْ أَتَى الْمُكَلَّفُ بِالْجَمِيعِ، أَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ، كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُعَيَّنُ وَاحِدًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؟
قُلْتُ: فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا لَا يَرِدُ، لِأَنَّ الْخَصْمَ يَقُولُ: إِنَّمَا يَكُونُ الْوَاجِبُ وَاحِدًا مُعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُعَيِّنُ وَاحِدًا بِفِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَتَى بِالْجَمِيعِ، فَالْمُعَيَّنُ لِلْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَاحِدٌ، وَالزَّائِدُ تَطَوُّعٌ.
قُلْنَا: فَمَنْ تَرَكَ الْجَمِيعَ، يَلْزَمُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَصْلًا.
قُلْتُ: وَالَّذِي رَأَيْتُهُ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ هُوَ هَذَا، وَهُوَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، وَوَجْهُ الْقَدْحِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ يُعَيِّنُ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيِّنًا، بَلْ يُؤَدِّي مَا كَانَ مُتَعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُكَلَّفَ أَدَّى مَا أُوجِبَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالَّذِي أَدَّاهُ مُتَعَيِّنٌ فِي
(1/310)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَفْسِهِ، وَفِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَلْيَكُنْ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ هُوَ هُوَ.
الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ أَوْجَبَهُ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَلِمَ عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، كُلِّيِّهَا وَجَزِّئِيِّهَا، مَاضِيًا وَحَالًا وَمُسْتَقْبَلًا، أَوْ عَلِمَ عَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ، وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ هُوَ عَيْنُ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ أَوْ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ عَيْنَ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ، فَقَدْ أَوْجَبَهُ مُعَيَّنًا، لِأَنَّهُ عَلِمَهُ مُعَيَّنًا، وَمُتَعَلِّقُهُمَا وَاحِدٌ، فَالْوَاجِبُ مُعَيَّنٌ. وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقُ الْإِيجَابِ غَيْرَ مُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ، لَزِمَ أَنَّ مَا عَلِمَهُ غَيْرُ مَا أَوْجَبُهُ، فَالْمُكَلَّفُ إِنَّمَا أَدَّى الْمَعْلُومَ لَا الْوَاجِبَ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ، هَذَانِ الْوَجْهَانِ مَقْصُودُهُمَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ طَرِيقُ تَقْرِيرِهِمَا وَالْعِبَارَةُ فِيهِمَا.
وَالْمُخْتَارُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُوجِبُهُ مُعَيَّنًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِهِ بِهِ، مُبْهَمًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِينَ، لَكِنَّ مَوْضُوعَ النَّظَرِ فِي الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ الْإِيجَابُ أَوِ الْوَاجِبُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِينَ لَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَهَذَا يُشْبِهُ مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ، مِنْ أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي خَلْقِهِ تَصْرِيفَيْنِ: تَكْوِينِيٌّ يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِيهِ مَا لَا يُطِيقُونَهُ، وَتَكْلِيفِيٌّ لَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ فِيهِ إِلَّا مَا يُطِيقُونَهُ.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ: أَنَّ مَا اخْتُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنَّا، مِنْ عِلْمٍ وَإِرَادَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَ مَوْضُوعَ نَظَرِنَا، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجِبَ عَلَيْنَا شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي عِلْمِهِ، مُبْهَمًا فِي عِلْمِنَا، وَيَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْجِهَتَيْنِ.
(1/311)
________________________________________
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
وَقْتُ الْوَاجِبِ إِمَّا بِقَدْرِ فِعْلِهِ، وَهُوَ الْمُضَيَّقُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَالتَّكْلِيفُ بِهِ خَارِجٌ عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُوَسَّعُ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَنَا، لَهُ فِعْلُهُ فِي أَيِّ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ شَاءَ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، إِلَّا بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ فِيهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ.
وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُوَسَّعَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَاجِبُ الْمُضَيَّقُ وَالْمُوَسَّعُ
«الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ» مِنْ مَسَائِلِ الْوَاجِبِ: «وَقْتُ الْوَاجِبِ إِمَّا بِقَدْرِ فِعْلِهِ» كَالْيَوْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّوْمِ «وَهُوَ» الْوَاجِبُ «الْمَضَيَّقُ» أَيْ: ضُيِّقَ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِيهِ، حَتَّى لَا يَجِدَ سَعَةً يُؤَخِّرُ فِيهَا الْفِعْلَ أَوْ بَعْضَهُ، ثُمَّ يَتَدَارَكُهُ، إِذْ كُلُّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ لَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهُ إِلَّا قَضَاءً، أَوْ يَكُونُ وَقْتُ الْوَاجِبِ أَقَلَّ مِنْ قَدْرِ فِعْلِهِ كَإِيجَابِ عِشْرِينَ رَكْعَةً فِي زَمَنٍ لَا يَسَعُ أَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَالتَّكْلِيفُ بِهِ خَارِجٌ عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ الْمَعْرُوفِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، إِنْ جَازَ التَّكْلِيفُ بِفِعْلٍ لَا يَتَّسِعُ وَقْتُهُ الْمُقَدَّرُ لَهُ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَا لَا يُطَاقُ، «أَوْ» يَكُونُ وَقْتُ الْوَاجِبِ «أَكْثَرَ» مِنْ قَدْرِ فِعْلِهِ «وَهُوَ الْمُوَسَّعُ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَنَا، لَهُ فِعْلُهُ» أَيْ: فِعْلُ الْوَاجِبِ مِنَ الصَّلَوَاتِ «فِي أَيِّ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ شَاءَ» فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ أَوْ وَسَطِهِ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْهُ «وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ إِلَّا بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ فِيهِ» أَيْ: فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ «وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ» يَعْنِي الْعَزْمَ «وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُوَسَّعَ» وَقَالُوا: وَقْتُ الْوُجُوبِ هُوَ آخِرُ الْوَقْتِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْفِعْلِ
(1/312)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَاقِعِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ نَفْلٌ يَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهِ، وَالْكَرْخِيُّ مِنْهُمْ، تَارَةً يَقُولُ بِتَعْيِينِ الْوَاجِبِ بِالْفِعْلِ، فِي أَيِّ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ كَانَ، وَتَارَةً يَقُولُ: إِنْ بَقِيَ الْفَاعِلُ مُكَلَّفًا إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ فِعْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَاجِبًا، وَإِلَّا فَهُوَ نَفْلٌ.
(1/313)
________________________________________
لَنَا: الْقَطْعُ بِجَوَازِ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: افْعَلِ الْيَوْمَ كَذَا، فِي أَيِّ جُزْءٍ شِئْتَ مِنْهُ، وَأَنْتَ مُطِيعٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَعَاصٍ إِنْ خَرَجَ الْيَوْمُ وَلَمْ تَفْعَلْ، وَأَيْضًا، النَّصُّ قَيَّدَ الْوُجُوبَ بِجَمِيعِ الْوَقْتِ، فَتَخْصِيصُ بَعْضِهِ بِالْإِيجَابِ تَحَكُّمٌ.
قَالُوا: جَوَازُ التَّرْكِ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ يُنَافِي الْوُجُوبَ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْوُجُوبِ بِالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ التَّرْكُ فِيهِ، وَهُوَ آخِرُهُ، وَجَوَازُ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ رُخْصَةٌ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ.
قُلْنَا: مَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، لَا نُسَلِّمُ مُنَافَاةَ التَّرْكِ الْوُجُوبَ.
قَالُوا: لَا دَلِيلَ فِي النَّصِّ عَلَى وُجُوبِ الْعَزْمِ، فَإِيجَابُهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ.
قُلْنَا: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَأَيْضًا، لَمَّا حَرُمَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ، حَرُمَ تَرْكُ الْعَزْمِ عَلَيْهَا، وَفِعْلُ مَا يَحْرُمُ تَرْكُهُ وَاجِبٌ، وَمَحْذُورُ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، كَوْنُهُ نَسْخًا عِنْدَكُمْ، وَنَحْنُ نَمْنَعُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«لَنَا: الْقَطْعُ بِجَوَازِ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: افْعَلِ الْيَوْمَ كَذَا» مِثْلُ أَنْ قَالَ: ابْنِ لِي هَذَا الْحَائِطَ، أَوْ خِطْ لِي هَذَا الثَّوْبَ «فِي أَيِّ جُزْءٍ شِئْتَ مِنْهُ وَأَنْتَ مُطِيعٌ إِنْ فَعَلْتَ، وَعَاصٍ إِنْ خَرَجَ الْيَوْمُ وَلَمْ تَفْعَلْ» فَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ لِجَوَازِهِ عَقْلًا، فَهَذَا دَلِيلُ الْعَقْلِ قَاطِعٌ فِي جَوَازِهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِنْكَارُ لَهُ شَرْعًا، فَدَلِيلُ الشَّرْعِ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ «أَيْضًا» وَذَلِكَ لِأَنَّ «النَّصَّ قَيَّدَ الْوُجُوبَ بِجَمِيعِ الْوَقْتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الْإِسْرَاءِ: 78] ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ فَبَيَّنَ لَهُ بِفِعْلِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: الْوَقْتُ مَا بَيْنَ
(1/314)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَيْنِ يَعْنِي: مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ، وَإِذَا قَيَّدَ النَّصُّ الْوُجُوبَ بِجَمِيعِ الْوَقْتِ «فَتَخْصِيصُ بَعْضِهِ» بِأَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ «تَحَكُّمٌ» عَلَى النَّصِّ بِالتَّخْصِيصِ.
«قَالُوا: جَوَازُ التَّرْكِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا حُجَّةُ مَنْ أَنْكَرَ الْمُوَسَّعَ، وَهُوَ أَنَّ جَوَازَ تَرْكِ الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ يُنَافِي وُجُوبَهُ فِيهِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي زَمَنٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْوَاجِبُ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ وُجُوبِ الْفِعْلِ بِالْجُزْءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِ مِنَ الْوَقْتِ، وَهُوَ آخِرُهُ.
وَأَمَّا جَوَازُ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَفِعْلِ الصَّلَوَاتِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا فَهُوَ رُخْصَةٌ، كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، الْعَامِ وَالْعَامَيْنِ، وَتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ إِلَى وَقْتِ الْأَوْلَى بِالْجَمْعِ.
«قُلْنَا: مَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: قُلْنَا: جَوَازُ التَّرْكِ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ يُنَافِي الْوُجُوبَ فِيهِ، مَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فِي آخِرِهِ، أَوْ مَعَ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ.
الْأَوَّلُ: مَمْنُوعٌ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ، يُنَافِي تَرْكُ الْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْوَقْتِ وُجُوبَهُ فِيهِ، لِأَنَّ التَّرْكَ إِنَّمَا يُنَافِي الْوُجُوبَ إِذَا خَلَا الْوَقْتُ مِنَ الْوَاجِبِ أَوْ بَدَلِهِ، وَمَعَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ لَمْ يَخْلُ الْوَقْتُ مِنْهُمَا، لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْفِعْلِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَإِنْ فَاتَ، لَكِنَّ بَدَلَهُ - وَهُوَ الْعَزْمُ - لَمْ يَفُتْ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ جَوَازُ التَّرْكِ مَعَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ، مُسَلَّمٌ أَنَّهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ، لَكِنَّا
(1/315)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا نَقُولُ بِهِ.
«قَالُوا: لَا دَلِيلَ فِي النَّصِّ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا مَنْعٌ لِاشْتِرَاطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ.
وَتَقْرِيرُهُ، أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي النَّصِّ عَلَى وُجُوبِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ إِذَا تُرِكَ فِي أَوَّلِهِ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَوَاقِيتِ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى إِيقَاعِ الْعِبَادَةِ فِي الْوَقْتِ، فَإِيجَابُ الْعَزْمِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
«قُلْنَا» يَعْنِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ» ، وَالْعَزْمُ هَهُنَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَيَكُونُ وَاجِبًا.
أَمَّا الْأُولَى: فَسَيَأْتِي تَقْرِيرُهَا فِي مَكَانِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَتَقَرَّرَ بِبَيَانِ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ «لَمَّا حَرُمَ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ، حُرُمَ تَرْكُ الْعَزْمِ عَلَيْهَا» فَكَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الْآنَ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِهَا إِذَا دَخَلَ وَقْتُهَا، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ الشَّرْعِيَّ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْأَبْدَانِ بِالْأَفْعَالِ، وَإِلَى الْقُلُوبِ بِالنِّيَّاتِ وَالْعَزَائِمِ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْعَزْمِ عَلَى الطَّاعَةِ تَهَاوُنٌ بِأَمْرِ الشَّرْعِ، فَيَكُونُ حَرَامًا وَإِذَا حَرُمَ تَرْكُ الْعَزْمِ عَلَى الطَّاعَةِ، كَانَ الْعَزْمُ عَلَيْهَا وَاجِبًا، لِأَنَّ «فِعْلَ مَا يَحْرُمُ تَرْكُهُ وَاجِبٌ» وَالْحَرَامُ يَجِبُ تَرْكُهُ،
(1/316)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ إِلَّا بِفِعْلِ ضِدِّهِ، وَالْحَرَامُ هُنَا تَرْكُ الْعَزْمِ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ بِفِعْلِ الْعَزْمِ وَاجِبًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: «وَمَحْذُورُ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِيجَابُ الْعَزْمِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، وَمَعْنَى الْجَوَابِ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّنَا، لِأَنَّ الْمَحْذُورَ مِنْهُ كَوْنُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَكُمْ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ ذَلِكَ، كَمَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ النَّسْخِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْمَانِعِينَ مِنَ اشْتِرَاطِ الْعَزْمِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَسْئِلَةً:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِمَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا، فَيَكُونُ عَاصِيًا، أَوْ عَلَى فِعْلِهَا، فَيَكُونُ مُطِيعًا، أَوْ لَا عَلَى تَرْكِهَا وَلَا فِعْلِهَا، وَهَذِهِ الْحَالُ وَاسِطَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهَا حَرَامٌ، مَعَ أَنَّ تَرْكَ الْعَزْمِ عَلَى الصَّلَاةِ يُسَاوِي الْعَزْمَ عَلَى تَرْكِهَا؟
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، قَدْ لَاحَ مِمَّا سَبَقَ وَنَزِيدُهُ إِيضَاحًا بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ أَسْبَابِ إِيقَاعِهَا، وَإِيقَاعُهَا وَاجِبٌ، وَسَبَبُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْعَزْمَ عَلَيْهَا مِنْ أَسْبَابِ إِيقَاعِهَا، لِأَنَّ سَبَبَ الْفِعْلِ مَا تُوُصِّلَ بِهِ إِلَيْهِ، وَأَعَانَ عَلَيْهِ. وَالْعَزْمُ عَلَى الْعِبَادَةِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَيْهَا، وَيُعِينُ عَلَيْهَا، فَيَكُونُ مِنْ أَسْبَابِهَا، فَيَكُونُ وَاجِبًا.
ثُمَّ إِنَّ لَنَا مَنْعَ تَصَوُّرِ الْوَاسِطَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّخْصَ إِنْ كَانَ سَاهِيًا
(1/317)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْ غَافِلًا، فَلَيْسَ مُكَلَّفًا، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا مُتَيَقِّظًا عَالِمًا بِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ، فَهَذَا لَا يَخْلُو مَنْ قَصْدٍ يَتَعَلَّقُ بِهَا، فَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ قَصْدُهُ بِأَنْ يَفْعَلَهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ، أَوْ بِأَنْ لَا يَفْعَلَهَا، وَالْوَاسِطَةُ الَّتِي وَسَّطْتُمُوهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى صَلَاةِ مَنْ قَصَدَ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَزْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ الْفِعْلِ، أَوْ عَنْ تَعْجِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ، لَزِمَ سُقُوطُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَنْ لَا يَجِبَ فِعْلُهُ آخِرَ الْوَقْتِ، لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ، وَإِنْ كَانَ بَدَلًا عَنْ تَعْجِيلِ الْفِعْلِ، فَقَدْ صَارَ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَعْجِيلِهِ وَتَأْخِيرِهِ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ آخِرَ الْوَقْتِ، فَاسْتَحَالَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى مَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَزَالَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَصَارَتِ الْمَسْأَلَتَانِ وَاحِدَةً.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعَزْمَ بَدَلٌ عَنْ تَعْجِيلِ الْفِعْلِ، لَا عَنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّعْجِيلِ، وَالتَّأْخِيرِ مَعَ الْعَزْمِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي زَوَالَ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَا يُنَافِيهِ، بَلِ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ ثَابِتٌ، وَلَهُ نَظَرٌ إِلَى الْمُخَيَّرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَتَعَلُّقٌ بِهِ.
أَوْ نَقُولُ: هُوَ مُوَسَّعٌ مِنْ وَجْهٍ، مُخَيَّرٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّخْيِيرُ، انْبَنَى عَلَيْهِ التَّوْسِيعُ. وَسَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ بَيْنَ الْمُوَسَّعِ وَالْمُخَيَّرِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ قَدْرًا مُشْتَرِكًا، تَصِيرُ جَمِيعُهَا مِنْ جِهَتِهِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ وُجُوبَ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ الْعَامَّةِ، لَا مِنْ خَصَائِصِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي اشْتِرَاطَهُ وَبَدَلِيَّتَهُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ إِمَّا مِنَ
(1/318)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْجِهَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ جِهَةُ كَوْنِ الْوَاجِبِ إِيمَانًا، أَوْ مِنْ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ، أَوْ مِنَ الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ كَوْنُهُ شَرْطًا، وَبَدَلًا فِي الْمُوَسَّعِ، وَيَكُونُ ثُبُوتُهُ بِشَيْئَيْنِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ.
(1/319)
________________________________________
قَالُوا: نَدْبٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِجَوَازِ تَرْكِهِ فِيهِ. وَاجِبٌ فِي آخِرِهِ لِعَدَمِ ذَلِكَ.
قُلْنَا: النَّدْبُ يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا، وَهَذَا بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ، فَلَيْسَ بِنَدْبٍ، بَلْ مُوَسَّعٌ فِي أَوَّلِهِ مُضَيَّقٌ عِنْدَ بَقَاءِ قَدْرِ فِعْلِهِ.
قَالُوا: لَوْ غَفَلَ عَنِ الْعَزْمِ وَمَاتَ، لَمْ يَعْصِ.
قُلْنَا: لِأَنَّ الْغَافِلَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، حَتَّى لَوْ تَنَبَّهَ لَهُ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَرْكِهِ عَصَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«قَالُوا: نَدْبٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ لَهُمْ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمُوَسَّعَ مَنْدُوبٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِ، وَكُلُّ مَا جَازَ تَرْكُهُ فِي وَقْتٍ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِيهِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، فَهُوَ وَاجِبٌ فِي آخِرِهِ، لِعَدَمِ ذَلِكَ، أَيْ: لِعَدَمِ جَوَازِ تَرْكِهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ نَظَرًا لَفْظِيًّا، وَهُوَ أَنَّ وَجْهَ تَقْرِيرِهِ عَلَى لَفْظِهِ، أَنَّ الْمُوَسَّعَ نَدْبٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَمَا جَازَ تَرْكُهُ، فَهُوَ نَدْبٌ، لَكِنَّهُ يَبْطُلُ بِالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْحَرَامِ، إِذْ كُلُّهَا يَجُوزُ تَرْكُهَا، وَلَيْسَتْ نَدْبًا، وَوَجْهُ تَصْحِيحِهِ، مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي تَقْرِيرِهِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: نَدْبٌ: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَتَقْرِيرُهُ إِذًا هَكَذَا:
الْمُوَسَّعُ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ فِيهِ، وَكُلُّ مَا جَازَ تَرْكُهُ فَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ.
«قُلْنَا» : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ نَدْبٌ فِي أَوَّلِهِ، وَلَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. قَوْلُكُمْ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُهُ، قُلْنَا: مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْعَزْمِ. الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ
(1/320)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَكُونُ نَدْبًا، لِأَنَّ النَّدْبَ يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا، وَالْمُوَسَّعُ إِنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ، فَلَيْسَ بِنَدْبٍ، بَلْ مُوَسَّعٌ فِي أَوَّلِهِ لِجَوَازِ تَرْكِهِ، مُضَيَّقٌ فِي آخِرِهِ عِنْدَ بَقَاءِ قَدْرِ فِعْلِهِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ: إِمَّا أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ الْمُضَيَّقُ، أَوْ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ النَّدْبُ، أَوْ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لَا فِي بَعْضِ أَجْزَائِهِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ.
سَمَّيْنَاهُ وَاجِبًا لِلُحُوقِ الْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ بِالْجُمْلَةِ، وَسَمَّيْنَاهُ مُوَسَّعًا لِحُصُولِ التَّوْسِعَةِ فِي وَقْتِهِ عَنْ قَدْرِ فِعْلِهِ، وَعَلَى الْمُكَلَّفِ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ وَقْتِهِ.
«قَالُوا: لَوْ غَفَلَ عَنِ الْعَزْمِ وَمَاتَ لَمْ يَعْصِ» . أَيْ: وَلَوْ كَانَ الْعَزْمُ وَاجِبًا لَعَصَى بِمَوْتِهِ وَهُوَ تَارِكٌ لَهُ، لِأَنَّ تَارِكَ الْوَاجِبِ عَاصٍ.
قُلْنَا: إِنَّمَا لَمْ يَعْصِ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْغَافِلَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، لِمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي، حَتَّى إِنَّ هَذَا الْغَافِلَ لَوْ تَنَبَّهَ لِلْعَزْمِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَرْكِهِ عَصَى، لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي وُجُوبِ الْعَزْمِ. وَتَارِكُ الْوَاجِبِ إِنَّمَا يَكُونُ عَاصِيًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا. وَهَذَا مَعْذُورٌ بِالْغَفْلَةِ، فَلَا يَكُونُ عَاصِيًا.
(1/321)
________________________________________
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
إِذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْمُوَسَّعِ، قَبْلَ فِعْلِهِ وَضِيقِ وَقْتِهِ، لَمْ يَمُتْ عَاصِيًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مُبَاحًا، وَهُوَ التَّأْخِيرُ الْجَائِزُ. لَا يُقَالُ: إِنَّمَا جَازَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ غَيْبٌ، فَلَيْسَ إِلَيْنَا، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ، الْعَزْمُ وَالتَّأْخِيرُ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْبَقَاءُ إِلَيْهِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ مَعَ ظَنِّ الْمَوْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ، عَصَى اتِّفَاقًا، فَلَوْ لَمْ يَمُتْ، ثُمَّ فَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَدَاءٌ لِوُقُوعِهِ فِي وَقْتِهِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ قَضَاءٌ؛ لِأَنَّهُ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ الْمَوْتَ قَبْلَ فِعْلِهِ، فَفِعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنِ الْوَقْتِ الْمُضَيَّقِ. وَقَدْ أَلْزَمَ وُجُوبَ نِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، إِذْ لَا قَضَاءَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ لَوِ اعْتَقَدَ قَبْلَ الْوَقْتِ انْقِضَاءَهُ، عَصَى بِالتَّأْخِيرِ وَلَهُ الْتِزَامُهُ وَمَنْعُ وَقْتِ الْأَدَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَتَعْصِيَتُهُ فِي الثَّانِي، لِعُدُولِهِ عَمَّا ظَنَّهُ الْحَقَّ. وَالظَّنُّ مَنَاطُ التَّعَبُّدِ، بِدَلِيلِ عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ مِثْلَهُ.
"
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ "
" إِذَا مَاتَ " يَعْنِي الْمُكَلَّفَ " فِي أَثْنَاءِ " وَقْتِ الْوَاجِبِ " الْمُوَسَّعِ قَبْلَ فِعْلِهِ، وَضِيقِ وَقْتِهِ " مِثْلَ أَنْ مَاتَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الظُّهْرِ مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهَا، وَلَمْ يُصَلِّهَا " لَمْ يَمُتْ عَاصِيًا، لِأَنَّهُ فَعَلَ مُبَاحًا وَهُوَ التَّأْخِيرُ الْجَائِزُ " بِحُكْمِ تَوْسِيعِ الْوَقْتِ.
أَمَّا لَوْ أَخَّرَهُ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ فِعْلِهِ، مِثْلَ أَنْ مَاتَ وَلَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ مَا يَتَّسِعُ إِلَّا لِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، فَإِنَّهُ يَمُوتُ عَاصِيًا.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنْ يَكُونَ عِصْيَانُهُ مُقَدَّرًا بِقَدْرِ مَا أَخَّرَهُ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْهُ. إِنْ
(1/322)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضَاقَ عَنْ رَكْعَةٍ أَوْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، كَانَ عَاصِيًا بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَلَا يُجْعَلُ فِي مَعْصِيَتِهِ كَمَنْ فَوَّتَ الْوَاجِبَ كُلَّهُ.
قَوْلُهُ: " لَا يُقَالُ " إِلَى آخِرِهِ، هَذَا إِيرَادُ اعْتِرَاضٍ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنْ يُقَالَ: " إِنَّمَا جَازَ " التَّأْخِيرُ فِي الْمُوَسَّعِ " بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ " وَهُوَ أَنْ يَبْقَى إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، فَيَفْعَلُ الْوَاجِبَ، أَمَّا مَعَ مَوْتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا جَوَازُ التَّأْخِيرِ؟
وَجَوَابُهُ: " أَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ " يَعْنِي سَلَامَةَ الْعَاقِبَةِ " غَيْبٌ، فَلَيْسَ " يَعْنِي الْغَيْبَ " إِلَيْنَا " أَيْ: لَمْ نُكَلَّفْ عِلْمَهُ، وَلَا بِنَاءَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا نَعْلَمُ هَلْ يَبْقَى إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، فَيَفْعَلُ الْوَاجِبَ أَوْ لَا؟ وَلَا يَجُوزُ لَنَا لَوْ سَأَلْنَا أَنْ نُعَلِّقَ الْجَوَابَ، فَنَقُولُ: إِنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّكَ تَعِيشُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، جَازَ لَكَ التَّأْخِيرُ، وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّهُ إِحَالَةٌ لَهُ عَلَى الْجَهَالَةِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ الْبَيَانُ، وَإِنَّمَا سَأَلَ لِيُبَيَّنَ لَهُ.
قَوْلُهُ: " وَإِنَّمَا الشَّرْطُ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَيْسَتْ سَلَامَةُ الْعَاقِبَةِ بِشَرْطٍ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْمُوَسَّعِ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ " الْعَزْمُ " فِيهِ كَمَا سَبَقَ " وَالتَّأْخِيرُ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْبَقَاءُ إِلَيْهِ " كَأَوَاخِرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فِعْلِهَا، وَإِلَى شَعْبَانَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قَضَاءِ رَمَضَانَ فِي حَقِّ شَابٍّ، أَوْ شَيْخٍ صَحِيحِ الْجِسْمِ، لَيْسَ بِهِ سَبَبُ عِلَّةٍ، وَالسَّنَةِ
(1/323)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالسَّنَتَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَجِّ فِي حَقِّ الشَّابِّ، وَنَحْوِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: يَخْتَلِفُ الظَّنُّ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَقُوَى الرِّجَالِ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْبَقَاءُ إِلَى وَقْتٍ، جَازَ تَأْخِيرُ الْمُوَسَّعِ إِلَيْهِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ، وَهُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَمُسْتَنَدٌ مَرْضِيٌّ.
قَوْلُهُ: " فَلَوْ أَخَّرَهُ مَعَ ظَنِّ الْمَوْتِ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَوْ أَخَّرَ الْمُوَسَّعَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِهِ، مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ، مِثْلَ أَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَمُوتُ بَعْدَ الزَّوَالِ بِقَدْرِ فِعْلِهِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَأَخَّرَهُ مَعَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُبَادِرْ بِفِعْلِهِ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِهِ، عَصَى بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّأْخِيرِ بِاتِّفَاقِ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ فِي وَقْتِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى فِعْلِهِ، وَظَنَّ مَوْتَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَعَدَمَ اسْتِدْرَاكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَارَ كَمَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، فَتَرَكَ إِزَالَتَهَا مِنْ مَكَانٍ ظَنَّ أَنَّ النَّارَ سَتَأْتِي عَلَيْهَا فِيهِ فَتُحْرِقُهَا، وَمَنَاطُ الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ تَرْكُ إِحْرَازِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، مَعَ ظَنِّ فَوَاتِهِ.
قَوْلُهُ: " فَلَوْ لَمْ يَمُتْ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: فَلَوْ أَخَّرَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ مَعَ ظَنِّ فَوَاتِهِ بِالْمَوْتِ، ثُمَّ بَانَ خَطَأُ ظَنِّهِ فَلَمْ يَمُتْ، ثُمَّ فَعَلَ الْوَاجِبَ فِي الْوَقْتِ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ أَدَاءٌ لِوُقُوعِهِ فِي وَقْتِهِ.
(1/324)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ قَضَاءٌ، لِأَنَّهُ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ الْمَوْتَ قَبْلَ فِعْلِهِ "، أَيْ: لَمَّا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ فِعْلِهِ، صَارَ مُضَيَّقًا فِي حَقِّهِ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ ذَلِكَ، وَصَارَ كَأَنَّ آخِرَ وَقْتِهِ هُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ الَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ يَمُوتُ فِيهِ، فَصَارَ فِعْلُهُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْوَقْتِ الْمُضَيَّقِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا، وَهُوَ عِنْدَ صَيْرُورَةِ ظِلِّ الشَّيْءِ مِثْلَهُ فِي الظُّهْرِ.
وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ: أَنَّ الْمُلَاحَظَ هَاهُنَا هُوَ تَصَرُّفُ الشَّرْعِ فِي تَقْدِيرِ الْوَقْتِ فِي الْأَصْلِ، أَوْ تَصَرُّفِهِ فِي التَّعَبُّدِ بِالظَّنِّ، لِأَنَّا إِنْ لَاحَظْنَا الْأَوَّلَ، فَالْوَقْتُ الْأَصْلِيُّ بَاقٍ، وَأَلْغَيْنَا ظَنَّ الْمَوْتِ قَبْلَ الْفِعْلِ لِتَبَيُّنِ بُطْلَانِهِ، وَإِنْ لَاحَظْنَا الثَّانِيَ، فَقَدْ عَصَى بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ الْمَذْكُورِ، وَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَانْتَقَلَ الْحُكْمُ مِنَ التَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ إِلَى مُقْتَضَى التَّعَبُّدِ الِاجْتِهَادِيِّ الظَّنِّيِّ.
قَوْلُهُ: " وَقَدْ أَلْزَمَ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَقَدْ أَلْزَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ " نِيَّةَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ بَعِيدٌ " أَيْ: أَلْزَمَهُ الْأُصُولِيُّونَ، فَقَالُوا لَهُ. إِذَا قُلْتَ: إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ قَضَاءٌ، لَزِمَكَ أَنْ تُوجِبَ إِيقَاعَهُ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ بَاقٍ، وَلَا قَضَاءَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ، لِأَنَّ الْأَدَاءَ وَالْقَضَاءَ مُتَنَافِيَانِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي
(1/325)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَيَانِهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: " وَأَنَّهُ لَوِ اعْتَقَدَ قَبْلَ الْوَقْتِ انْقِضَاءَهُ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَأَلْزَمَ أَبُو بَكْرٍ أَيْضًا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوِ اعْتَقَدَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ انْقِضَاءَ الْوَقْتِ، مِثْلَ أَنْ ظَنَّ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ قَدِ انْقَضَى، أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا بِالتَّأْخِيرِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى شَيْءٍ غَلِطَ فِيهِ وَهْمُهُ، وَوَقْتُ الْعِبَادَةِ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ، وَلَمْ يُخَاطِبْ بِفِعْلِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَعْدُ. حَتَّى لَوْ صَلَّى حِينَئِذٍ يَنْوِي فَرِيضَةَ الْوَقْتِ انْقَلَبَتْ نَفْلًا، لِعَدَمِ مُصَادَفَتِهَا وَقْتَهَا، فَالْقَوْلُ بِتَعْصِيَتِهِ مَعَ هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ: " وَلَهُ الْتِزَامُهُ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لِأَبِي بَكْرٍ الْتِزَامُ مَا أَلْزَمَهُ مِنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُمَا وُجُوبُ نِيَّةِ الْقَضَاءِ فِيمَا يَفْعَلُهُ هَذَا الشَّخْصُ، وَتَعْصِيَتُهُ فِيمَا إِذَا اعْتَقَدَ قَبْلَ الْوَقْتِ انْقِضَاءَهُ.
" وَمَنْعُ "، أَيْ: وَلَهُ مَنْعُ الْأَدَاءِ فِي الْأَوَّلِ، وَتَعْصِيَتُهُ فِي الثَّانِي ".
أَيْ: لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِلْزَامِ الْأَوَّلِ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ بَاقٍ، حَتَّى يَكُونَ إِيجَابِي نِيَّةَ الْقَضَاءِ فِيهِ عَلَيْهِ بَعِيدًا، بَلْ وَقْتُ الْأَدَاءِ خَرَجَ بِمُقْتَضَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا
(1/326)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الزَّمَنَ الَّذِي بَقِيَ هُوَ آخِرُ حَيَاتِهِ، فَإِذَا كَذَبَ ظَنُّهُ، وَاسْتَمَرَّتْ حَيَاتُهُ، صَارَ كَمَا لَوْ مَاتَ، ثُمَّ عَاشَ فِي الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ الصَّلَاةَ بِتَكْلِيفٍ ثَانٍ، مُنْقَطِعٍ عَنِ الْأَوَّلِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْأَدَاءِ بِظَنِّ الْمَوْتِ، وَيَتَضَيَّقُ الْوَقْتُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَتَكُونُ حَيَاتُهُ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، كَالْمُسْتَجَدَّةِ فِي زَمَنٍ مُسْتَأْنَفٍ، وَنَشْأَةٍ ثَانِيَةٍ.
وَلَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِلْزَامِ الثَّانِي: يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ الَّذِي ظَنَّهُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ - وَلَمْ يَكُنِ الْوَقْتُ قَدْ دَخَلَ بَعْدُ - لِعُدُولِهِ عَمَّا ظَنَّهُ الْحَقَّ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ ظَنَّ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى أَنَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهِ إِلَّا قَدْرُ فِعْلِهِ، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْهُ بِالتَّأْخِيرِ، صَارَ مُخَالِفًا، فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ مَنْ ظَنَّ الْحَقَّ ظَنًّا صَحِيحًا مُطَابِقًا، ثُمَّ عَدَلَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَخَّرَ الْوَاجِبَ حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهُ، فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ مَنْ خَالَفَ الظَّنَّ الْمُطَابِقَ، لِأَنَّ الظَّنَّ مَنَاطُ التَّعَبُّدِ، أَيْ: مُتَعَلِّقُ التَّعَبُّدِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ التَّعَبُّدَاتِ بِوُجُودِ الظُّنُونِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُطَابِقَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَقَالَ مَثَلًا: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّكُمْ أَنَّ هَذِهِ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فَصَلُّوا إِلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا، وَلَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ لَمْ يَأْثَمْ، وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً أَثِمَ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَدُّ لِمُصَادَفَةِ الْمَحَلِّ الْقَابِلِ، كُلُّ هَذَا تَعْلِيقًا لِلْأَحْكَامِ بِالظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَقَدْ أُرِيقَتِ الدِّمَاءُ، وَاسْتُبِيحَتِ الْفُرُوجُ، وَمُلِكَتِ الْأَمْوَالُ شَرْعًا، بِنَاءً عَلَى ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ، وَالْعُمُومَاتِ وَالْأَقْيِسَةِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَالْبَيِّنَاتِ الْمَالِيَّةِ. وَإِنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ جَمِيعُهُ الظَّنَّ، وَلَيْسَ الْأَمْرَانِ اللَّازِمَانِ لِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيَثْبُتَانِ بِمُقْتَضَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ الْمَذْكُورِ، الَّذِي جُعِلَ هُوَ وَحَقِيقَتُهُ مَنَاطًا لِلْأَحْكَامِ شَرْعًا.
(1/327)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " بِدَلِيلِ عَدَمِ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ مِثْلَهُ " هَذَا تَقْرِيرٌ لِكَوْنِ الظَّنِّ مَنَاطَ التَّعَبُّدِ، أَيْ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ مَنَاطُ التَّعَبُّدِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ مِثْلِهِ، كَمَا ذَكَرَ فِي آخِرِ " الْمُخْتَصَرِ "، وَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ ظَنَّ الْمُجْتَهِدِ جُعِلَ مَنَاطًا لِتَعَبُّدِهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، كَانَ ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ. وَالَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَيْسَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ، بَلْ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، لِجَوَازِ تَفَاوُتِ الِاجْتِهَادَيْنِ بِأَنْ يُخْطِئَ أَحَدُهُمَا، وَيُصِيبَ الْآخَرُ، فَأُلْزِمَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ، لِأَنَّهُ كَسْبُهُ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ. لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ. فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي حَقِّ هَذَا الْمُكَلَّفِ الْمَذْكُورِ: يَلْزَمُهُ مُقْتَضَى ظَنِّهِ، لِأَنَّهُ مَنَاطُ تَكْلِيفِهِ، بِدَلِيلِ شَوَاهِدِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّهِ، دُونَ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ طَرِيقَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ جَمِيعَ الْوَقْتِ كَانَ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ قَبْلَ ظَنِّ الْمُكَلَّفِ تَضْيِيقَهُ بِالْمَوْتِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، ثُمَّ ظَنَّ الْمُكَلَّفُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا أَثَّرَ فِي تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْثِيمِهِ بِالتَّأْخِيرِ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ بَقَاءُ الْوَقْتِ الْأَصْلِيِّ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ فِي حَقِّهِ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ، فَإِنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيِّ بَاقٍ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ وَافَقَ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ.
(1/328)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَهَذَا قَدْ لَاحَ مِنْهُ مَنْزَعٌ صَعْبٌ عَلَى الْقَاضِي. وَهُوَ أَنَّ الْأَدَاءَ وَالْقَضَاءَ وَنَحْوَهُ، مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَالْإِثْمُ عَلَى التَّأْخِيرِ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَظَنُّ الْمُكَلَّفِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ تَأْثِيرَهُ فِي الْأُمُورِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَيَقْلِبُ حَقَائِقَهَا، لِأَنَّهَا أُمُورٌ تَقْدِيرِيَّةٌ أَوْ إِلْزَامِيَّةٌ، كَالْإِثْمِ وَالثَّوَابِ، فَجَازَ أَنْ تَتْبَعَ الظُّنُونَ وَالِاعْتِقَادَاتِ، أَمَّا الْأُمُورُ الْوَضْعِيَّةُ كَأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا، فَلَا يَقْوَى ظَنُّ الْمُكَلَّفِ عَلَى قَلْبِ حَقَائِقِهَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ الْقَاضِي: إِنَّ بِمُقْتَضَى ظَنِّ هَذَا الْمُكَلَّفِ صَارَ وَقْتُ الْأَدَاءِ الْأَصْلِيُّ وَقْتَ قَضَاءٍ فِي حَقِّهِ هُوَ قَلْبٌ لِحَقِيقَةِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى ثُبُوتِهِ. أَمَّا الصُّورَةُ الَّتِي قَاسَ عَلَيْهَا الْآمِدِيُّ، وَهِيَ تَأْخِيرُ الْمُوَسَّعِ بِدُونِ الْعَزْمِ، فَلِلْقَاضِي أَنَّ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ هَذَا الْمُكَلَّفَ لَمَّا أَخَّرَ الْوَاجِبَ مَعَ ظَنِّ الْمَوْتِ قَبْلَ فِعْلِهِ، حَصَلَ هُنَا ظَنٌّ نَاسَبَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَالظَّنُّ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ. بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخَّرَ الْوَاجِبَ تَارِكًا لِلْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ عَصَى مَعْصِيَةً عَدَمِيَّةً، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا، فَلَا يَقْوَى عَلَى مُنَاسَبَةِ تَغْيِيرِ أَمْرٍ وَضْعِيٍّ، بِخِلَافِ الظَّنِّ الْوُجُودِيِّ، الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَنَاطُ تَكْلِيفِهِ، وَأَمَارَةُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي حَقِّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: نَحْنُ إِلَى الْآنَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَفُرُوعِهِ، بِحَسَبِ تَقْرِيرِ مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» فَلْنَذْكُرْ هَاهُنَا فِيهِ أَبْحَاثًا مِنْ بَابِ التَّحْقِيقِ وَالتَّكْمِلَةِ لَهُ: الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: النَّاسُ إِمَّا مُنْكِرٌ لِلْمُوَسَّعِ، أَوْ مُثْبِتٌ لَهُ، وَالْمُنْكِرُ إِمَّا مُخَصِّصٌ لِلْوُجُوبِ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ، أَوْ بِآخِرِهِ، أَوْ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
(1/329)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّافِعِيَّةِ، مَنْقُولٌ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى مَا حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ.
قُلْتُ: وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِمْ فِي الْمَغْرِبِ: يَنْقَضِي وَقْتُهَا بِمُضِيِّ قَدْرِ وُضُوءٍ، وَسَتْرِ عَوْرَةٍ، وَأَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ، وَخَمْسِ رَكَعَاتٍ، لَكِنَّهُمُ الْيَوْمَ قَائِلُونَ بِالْمُوَسَّعِ، مُنْكِرُونَ لِخِلَافِهِ، وَمَدْرَكُ قَوْلِهِمْ فِي الْمَغْرِبِ سَمْعِي، مَعَ أَنَّ الْقَدِيمَ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّ لَهَا وَقْتَيْنِ كَغَيْرِهَا، وَرَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي «الْمِنْهَاجِ» .
وَوَجْهُ هَذَا الْمَذْهَبِ عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِهِ: أَنَّ الْوَقْتَ سَبَبُ الْوُجُوبِ، وَبِدُخُولِ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ يَتَحَقَّقُ دُخُولُهُ بِتَحَقُّقِ السَّبَبِ، وَالْأَصْلُ تَرَتُّبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا، فَيَتَعَلَّقُ الْوُجُوبُ بِمَا تَحَقَّقَتْ بِهِ سَبَبِيَّتُهُ، وَهُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْوَاقِعُ بَعْدَ ذَلِكَ قَضَاءً، سَدَّ مَسَدَّ الْأَدَاءِ.
وَضُعِّفَ هَذَا الْمَذْهَبُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِذْنُ فِي تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ لِفِعْلِ الْقَضَاءِ، لِغَيْرِ عُذْرٍ، لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الصَّلَوَاتِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الشَّرِيعَةِ، بِخِلَافِ تَفْوِيتِ الْأَدَاءِ لِفِعْلِ الْقَضَاءِ لِعُذْرٍ، كَمَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْحَائِضِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ تَخْصِيصُ الْوُجُوبِ بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الشَّيْءَ يَدُورُ مَعَ خَاصَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، يَثْبُتُ لِثُبُوتِهَا، وَيَنْتَفِي لِانْتِفَائِهَا. وَخَاصَّةُ الْوُجُوبِ الْإِثْمُ عَلَى التَّرْكِ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ
(1/330)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَوَسَطِهِ، ثَابِتَةٌ فِي آخِرِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَقْتُ الْوُجُوبِ لَا غَيْرُ.
وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا، أَنَّ إِيقَاعَ الْفِعْلِ قَبْلَ آخِرِ الْوَقْتِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، وَإِجْزَاءُ غَيْرِ الْوَاجِبِ عَنِ الْوَاجِبِ خِلَافُ الْأَصْلِ وَالْقَوَاعِدِ، وَالرُّخْصَةُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلُهَا فِي الصَّلَاةِ، بِخِلَافِهَا فِي الزَّكَاةِ.
وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، مِنْهُ قَوْلَانِ لِلْكَرْخِيِّ الْمُتَقَدِّمُ حِكَايَتُهُمَا فِي الْكَلَامِ عَلَى عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» :
أَحَدُهُمَا: إِنْ بَقِيَ الْفَاعِلُ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ بِصِفَةِ التَّكْلِيفِ، كَانَ مَا فَعَلَهُ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَاجِبًا، فَمَا أَجْزَأَ عَنِ الْوَاجِبِ إِلَّا وَاجِبٌ، وَإِلَّا كَانَ نَفْلًا.
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إِلَى آخِرِهِ، لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ نَفْلٌ وَلَا فَرْضٌ، وَهُوَ خِلَافُ الْقَوَاعِدِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي لَهُ: أَنَّ زَمَنَ الْوُجُوبِ يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ وَالْإِيقَاعِ، بِمَعْنَى أَنَّ زَمَنَ الْوُجُوبِ هُوَ زَمَنُ الْإِيقَاعِ، أَيَّ وَقْتٍ كَانَ لَا يَتَعَدَّاهُ، حَذَرًا مِنَ الْإِشْكَالَاتِ السَّابِقَةِ.
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ تَحَقُّقَ الْوُجُوبِ لَابُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْفِعْلَ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، يَكُونُ الْوُجُوبُ تَابِعًا لِلْفِعْلِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ.
ثُمَّ قَوْلٌ خَامِسٌ لِمُنْكِرِي الْمُوَسَّعِ، ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ وَلَمْ أُحَقِّقْهُ أَنَا، وَكَأَنَّهُ مُكَرَّرٌ أَوْ مُتَدَاخِلٌ مَعَ مَا سَبَقَ، فَلَمْ أَذْكُرْهُ.
(1/331)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا الْمُثْبِتُ لِلْمُوَسَّعِ، وَهُمْ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَصِفَتُهُ مَا سَبَقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى «الْمُخْتَصَرِ» .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ - وَهُوَ الْبَحْثُ الثَّانِي هَاهُنَا - أَنَّ الْخِطَابَ فِي الْمُوَسَّعِ وَالْمُخَيَّرِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ جَمِيعًا مُتَعَلِّقٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ، وَيَحْرُمُ تَعْطِيلُهُ.
فَالْمُشْتَرَكُ فِي الْمُوَسَّعِ وَهُوَ مَفْهُومُ الزَّمَانِ وَمُطْلَقُهُ مِنَ الْوَقْتِ الْمُقَرَّرِ الْمَحْدُودِ شَرْعًا، بِمَعْنَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِيقَاعُهُ فِيمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ زَمَنٍ مِنْ أَزْمِنَةِ الْوَقْتِ الشَّرْعِيِّ. أَعْنِي مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنَّ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ فِي الظُّهْرِ مَثَلًا، فَمَتَى أَوْقَعَ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْمُطْلَقِ كَانَ آتِيًا بِالْمُشْتَرَكِ، فَيَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ أَدَاءً، وَإِنْ أَخَّرَهُ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ الشَّرْعِيُّ، كَانَ مُعَطَّلًا لِلْمُشْتَرَكِ عَنِ الْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ فِيهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ، وَيَلْزَمُهُ اسْتِدْرَاكُهُ قَضَاءً.
وَالْمُشْتَرَكُ فِي الْمُخَيَّرِ هُوَ مَفْهُومُ أَحَدِ الْخِصَالِ، فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ، فَهُوَ خُصُوصِيَّاتُ الْخِصَالِ، مِنْ إِطْعَامٍ أَوْ كُسْوَةٍ أَوْ عِتْقٍ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِإِحْدَى الْخِصَالِ وَلَا بُدَّ، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ جَمِيعِهَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا إِحْدَى الْخِصَالِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ الْجَمِيعِ، لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ الْمُشْتَرَكُ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَعَمُّ مِنَ الْمُشْتَرَكِ، وَتَارِكُ الْأَعَمِّ تَارِكٌ لِلْأَخَصِّ وَمُعَطِّلٌ لَهُ، وَلَهُ
(1/332)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْخِيَارُ بَيْنَ خُصُوصِيَّاتِ الْخِصَالِ، إِنْ شَاءَ أَطْعَمَ، أَوْ كَسَا، أَوْ عَتَقَ، فَالْوَاجِبُ - وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ - لَا تَخْيِيرَ فِيهِ، إِذْ لَا قَائِلَ بِأَنَّهُ إِنْ شَاءَ فَعَلَ إِحْدَى الْخِصَالِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَالْمُخَيَّرُ فِيهِ - وَهُوَ خُصُوصِيَّاتُ الْخِصَالِ - لَا وُجُوبَ فِيهِ، إِذْ لَا قَائِلَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْخِصَالِ عَلَى الْجَمْعِ.
وَالْمُشْتَرَكُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ هُوَ مَفْهُومُ أَيِّ طَوَائِفِ الْمُكَلَّفِينَ، كَإِحْدَى الْخِصَالِ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، غَيْرَ أَنَّ الْخِطَابَ تَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، لِتَعَذُّرِ خِطَابِ بَعْضِ مَجْهُولٍ أَوْ مُعَيَّنٍ، مَعَ تَسَاوِي الْجَمِيعِ فِيهِ، فَيَكُونُ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَلَا جَرَمَ أَنَّهُ سَقَطَ الْوُجُوبُ عَنِ الْجَمِيعِ بِفِعْلِ إِحْدَى الطَّوَائِفِ، لِحُصُولِ الْمُشْتَرَكِ الْوَافِي بِالْمَقْصُودِ، وَأَثِمَ الْجَمِيعُ بِتَرْكِ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ لَهُ، لِتَعَطُّلِ الْمُشْتَرَكِ، فَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَبْوَابِ الثَّلَاثَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ، وَفِي الْمُخَيَّرِ هُوَ الْوَاجِبُ نَفْسُهُ، وَهُوَ إِحْدَى الْخِصَالِ، وَفِي الْمُوَسَّعِ هُوَ الْوَاجِبُ فِيهِ، وَهُوَ الزَّمَانُ.
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ عَنَّا سُؤَالٌ قَدْ يَسْتَصْعِبُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَمْ تَقُولُوا: إِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُخَيَّرِ جَمِيعُ الْخِصَالِ، وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ بَعْضِهَا، كَمَا قُلْتُمْ: إِنَّ الْوُجُوبَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ؟ فَيُقَالُ: لِأَنَّ إِيجَابَ أَحَدِ
(1/333)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَيْنِ، أَوْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى زَيْدٍ مَعْقُولٌ، وَيُجْعَلُ الْخِيَارُ فِي التَّعْيِينِ إِلَيْهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْطِيلُ الْوَاجِبِ. بِخِلَافِ إِيجَابِ شَيْءٍ مَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ، أَوْ هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَتَوَاكَلُوا، وَيُحِيلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا مُرَجِّحَ فِيهِ، فَيَتَعَطَّلُ الْوَاجِبُ بِالْكُلِّيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَعُودَ الْمُوجِبُ، فَيُعَيِّنَ لِلْفِعْلِ أَحَدَهُمْ، فَيَكُونَ إِيجَابًا مُبْتَدَأً مُعَيَّنًا، لَكِنْ فِيهِ تَطْوِيلٌ لِطَرِيقِ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ، وَتَمَادٍ فِي إِيقَاعِهَا، فَكَانَ مَا سَلَكْنَاهُ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَقْرَبُ، وَهُوَ أَنْ يُخَاطَبَ الْجَمِيعُ بِالْوَاجِبِ، فَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ تَوَفَّرَتْ دَوَاعِيهِمْ، أَوْ دَاعِيَةُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، فَيَخْرُجُ الْجَمِيعُ بِذَلِكَ، وَلَا يَسَعُهُمُ التَّوَاكُلُ.
(1/334)
________________________________________
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، إِمَّا غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْمُكَلَّفِ، كَالْقُدْرَةِ وَالْيَدِ فِي الْكِتَابَةِ، وَحُضُورِ الْإِمَامِ وَالْعَدَدِ فِي الْجُمُعَةِ، فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، إِلَّا عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ. أَوْ مَقْدُورٌ، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِعَدَمِ إِيجَابِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ»
مِنْ مَسَائِلِ الْوَاجِبِ: فِيمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسْأَلَةِ «الْمُخْتَصَرِ» ، نَذْكُرُ تَحْقِيقًا، وَهُوَ أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْوَاجِبِ، فَلَا يَجِبُ إِجْمَاعًا، سَوَاءً كَانَ سَبَبًا، أَوْ شَرْطًا، أَوِ انْتِفَاءَ مَانِعٍ.
فَالسَّبَبُ، كَالنِّصَابِ، يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الزَّكَاةِ، فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، لِتَجِبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ.
وَالشَّرْطُ، كَالْإِقَامَةِ، هِيَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ الصَّوْمِ، فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إِذَا عَرَضَ مُقْتَضَى السَّفَرِ، لِيَجِبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّوْمِ.
وَالْمَانِعُ، كَالدَّيْنِ، لَا يَجِبُ نَفْيُهُ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ.
وَأَمَّا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِيقَاعُ الْوَاجِبِ، فَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ إِمَّا غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْمُكَلَّفِ» إِلَى آخِرِهِ، مَعْنَاهُ: أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْمُكَلَّفِ، أَيْ: لَيْسَ فِي قُدْرَتِهِ وَوُسْعِهِ وَطَاقَتِهِ تَحْصِيلُهُ، وَلَا هُوَ إِلَيْهِ، كَالْقُدْرَةِ وَالْيَدِ فِي الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُمَا شَرْطٌ فِيهَا، وَهُمَا مَخْلُوقَانِ لِلَّهِ تَعَالَى
(1/335)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمُكَلَّفُ، لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إِيجَادِهِمَا. وَحُضُورُ الْإِمَامِ وَالْعَدَدِ الْمُشْتَرَطِ لِلْجُمُعَةِ فِي الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُمَا شَرْطٌ لَهَا، وَلَيْسَ إِلَى آحَادِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْجُمُعَةِ إِحْضَارُ الْخَطِيبِ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ، وَلَا إِحْضَارُ آحَادِ النَّاسِ لِيُتِمَّ بِهِمُ الْعَدَدَ، فَهَذَا الضَّرْبُ غَيْرُ وَاجِبٍ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ الْمُحَالِ، لِأَنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، لِأَنَّ مَنْ قِيلَ لَهُ: أَوْجَبْنَا عَلَيْكَ أَنْ تَعْمَلَ لِنَفْسِكَ قُدْرَةً وَيَدًا، ثُمَّ تَكْتُبُ، فَقَدْ كُلِّفَ مُحَالًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا كَمَا سَبَقَ، لِأَنَّ الْيَدَ وَالْقُدْرَةَ شَرْطَانِ لِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ عَقْلًا، وَحُضُورُ الْإِمَامِ وَالْعَدَدِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْجُمُعَةِ شَرْعًا.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا هُوَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ، ثُمَّ هُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الْفِعْلِ، أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ، فَإِنْ كَانَ شَرْطًا كَالطَّهَارَةِ وَسَائِرِ الشُّرُوطِ لِلصَّلَاةِ، وَكَالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَإِنْ صَرَّحَ بِعَدَمِ إِيجَابِهِ، كَقَوْلِهِ: صَلِّ، وَلَا أُوجِبُ عَلَيْكَ الْوُضُوءَ، لَمْ يَجِبْ عَمَلًا بِمُوجِبِ التَّصْرِيحِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِإِيجَابِهِ، وَجَبَ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِإِيجَابٍ وَلَا عَدَمِهِ، بَلْ أَطْلَقَ، وَجَبَ أَيْضًا عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَجِبُ، وَإِلَى التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ أَشَرْتُ. فَهُوَ وَاجِبٌ إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِعَدَمِ إِيجَابِهِ، فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ، وَهُوَ مَا إِذَا صَرَّحَ بِالْإِيجَابِ أَوْ أَطْلَقَ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا» هُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُقُوعُ الْوَاجِبِ لَوْ لَمْ يَجِبْ، لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لِلْوَاجِبِ، لَكِنَّهُ شَرْطٌ لَهُ، فَيَكُونُ وَاجِبًا.
أَمَّا الْمُلَازَمَةُ، فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ فِي شَيْءٍ فَهُوَ وَاجِبٌ لَهُ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْمُتَنَازَعَ فِيهِ شَرْطٌ، فَلِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَإِذَا كَانَ شَرْطًا، كَانَ وَاجِبًا، لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ لَازِمٌ لِلشَّرْطِ، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ - الَّذِي هُوَ الشَّرْطُ
(1/336)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُنَا - يُوجِبُ وُجُودَ اللَّازِمِ - الَّذِي هُوَ الْوَاجِبُ -، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمُتَنَازَعُ فِيهِ شَرْطًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ شَرْطٌ. هَذَا خُلْفٌ.
وَتَلْخِيصُ الدَّلِيلِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطُ الْفِعْلِ وَاجِبًا، لَمَا كَانَ شَرْطًا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ شَرْطًا، هَذَا تَنَاقُضٌ.
(1/337)
________________________________________
فَإِنْ قِيلَ: الْخِطَابُ اسْتِدْعَاءُ الْمَشْرُوطِ، فَأَيْنَ دَلِيلُ وُجُوبِ الشَّرْطِ؟ قُلْنَا: الشَّرْطُ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ، وَالْأَمْرُ بِاللَّازِمِ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ بِالْمَلْزُومِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا، لَمْ يَجِبْ، خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ.
قَالُوا: لَابُدَّ مِنْهُ فِيهِ.
قُلْنَا: لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِلَّا لَوَجَبَتْ نِيَّتُهُ، وَلَزِمَ تَعَقُّلُ الْمُوجِبِ لَهُ، وَعُصِيَ بِتَرْكِهِ بِتَقْدِيرِ إِمْكَانِ انْفِكَاكِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «فَإِنْ قِيلَ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الشَّرْطِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْخِطَابَ إِنَّمَا اسْتَدْعَى الْمَشْرُوطَ - وَهُوَ الصَّلَاةُ مَثَلًا - فِي قَوْلِهِ: صَلِّ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِإِيجَابِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، وَالسُّتْرَةِ، وَالِاسْتِقْبَالُ، وَغَيْرُهَا، وَمَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِإِيجَابِهِ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِهِ، فَأَيْنَ دَلِيلُهُ؟
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: الشَّرْطُ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابُ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ، أَيْ: لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، كَمَا لَا يَنْفَكُّ الْجِدَارُ عَنِ السَّقْفِ، حَيْثُ كَانَ لَازِمًا لَهُ، «وَالْأَمْرُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ بِالْمَلْزُومِ» أَيْ: يَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْمَلْزُومِ - وَهُوَ الصَّلَاةُ هَاهُنَا - الْأَمْرَ بِاللَّازِمِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، كَمَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ بِبِنَاءِ السَّقْفِ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ الْحَائِطِ عَقْلًا «وَإِلَّا» أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِاللَّازِمِ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ بِالْمَلْزُومِ، لَكَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: صَلِّ صَلَاةً شَرْعِيَّةً، مِنْ
(1/338)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَرْطِ صِحَّتِهَا الْوُضُوءُ، وَلَسْتَ مَأْمُورًا بِهِ، أَوْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ. وَوُجُودُ صَلَاةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدُونِ وُضُوءٍ مُحَالٌ، كَمَا أَنَّ وُجُودَ سَقْفٍ لَا جِدَارَ تَحْتَهُ يَلْزَمُهُ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ» ، أَيْ: عَدَمُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، لَا أَنَّا نَمْنَعُ جَوَازَهُ، إِذْ قَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ، فَلَا يَسَعُنَا هَاهُنَا مَنْعُهُ، بَلْ هُوَ جَائِزٌ، لَكِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَلِأَنَّ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ الْفَرْعِيَّةَ لَمْ يَقَعْ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمُحَالِ، فَجَعْلُ هَذَا الْحُكْمِ مِنْهَا أَوْلَى مِنْ إِخْرَاجِهِ عَنْهَا. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ لَمْ يَقَعْ إِلَّا فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ.
وَتَلْخِيصُ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّهُ بِالْمَنْعِ، لِقَوْلِهِمْ: مَعَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِإِيجَابِ الشَّرْطِ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِهِ.
وَمَعْنَاهُ: لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ طَرِيقِ الْإِيجَابِ فِي التَّصْرِيحِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْإِيجَابُ تَصْرِيحًا وَمُطَابَقَةً، وَقَدْ يَكُونُ إِيمَاءً وَالْتِزَامًا، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَلْزُومِ أَمْرٌ بِاللَّازِمِ.
قَوْلُهُ: «وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ شَرْطًا، كَمَسْحِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْوُضُوءِ، وَالثَّانِي لَيْسَ شَرْطًا فِي الصَّوْمِ، بِخِلَافِ النِّيَّةِ فِيهِمَا، وَالْوُضُوءِ فِي الصَّلَاةِ، فَهَذَا لَا يَجِبُ، خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ، حَيْثُ قَالُوا بِوُجُوبِهِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: لَابُدَّ مِنْهُ فِيهِ» . هَذَا دَلِيلُ الْأَكْثَرِينَ عَلَى وُجُوبِهِ.
(1/339)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ لَابُدَّ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ، وَمَا لَابُدَّ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ يَكُونُ وَاجِبًا.
أَمَّا الْأُولَى: فَبِاتِّفَاقٍ. إِذْ لَابُدَّ فِي الْوُضُوءِ مِنْ غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ اللَّازِمُ، وَمَا لَابُدَّ مِنْهُ لَازِمٌ، فَمَا لَابُدَّ مِنْهُ وَاجِبٌ، فَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَاجِبٌ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ» أَيْ: كَوْنُ مَا لَا يُتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ لَابُدَّ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا. أَمَّا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: لَابُدَّ مِنَ الشَّيْءِ أَنَّ فِعْلَهُ لَازِمٌ، لَكِنَّ اللُّزُومَ تَارَةً شَرْعِيٌّ، وَتَارَةً عَقْلِيٌّ، وَالشَّرْعِيُّ مُنْتَفٍ، لِانْتِفَاءِ الْخِطَابِ الْمُقْتَضِي، إِذِ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْوَاجِبِ مُطْلَقًا، لِمَنْ يَتَعَرَّضُ لِمَا لَمْ يَتِمَّ إِلَّا بِهِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا. وَالْعَقْلِيُّ أَيْضًا. مُنْتَفٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ اللُّزُومَ الْعَقْلِيَّ مَوْجُودٌ، لَكِنْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، إِذْ مَوْضُوعُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ اللُّزُومُ الشَّرْعِيُّ. أَعْنِي مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الشَّرْعِيُّ شَرْعًا إِلَّا بِهِ، وَلَيْسَ شَرْطًا فِيهِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْخِطَابَ الشَّرْعِيَّ مُنْتَفٍ فَيَنْتَفِي الْوُجُوبُ.
قُلْتُ: وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ يَلْزَمُ نَافِي الْوُجُوبِ هُنَا مَا لَزِمَ نَافِيهِ فِي الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَابُدَّ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَلْزُومِ أَمْرٌ بِاللَّازِمِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَمَدَارُ حُجَّةِ الْمُثْبِتِينَ هَاهُنَا عَلَيْهِ.
(1/340)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَوَجَبَتْ نِيَّتُهُ إِلَى آخِرِهِ» هَذِهِ إِلْزَامَاتٌ ثَلَاثَةٌ، تُلْزِمُ مَنْ قَالَ بِالْوُجُوبِ هُنَا. وَتَقْرِيرُهَا:
أَمَّا الْإِلْزَامُ الْأَوَّلُ، فَيُقَالُ: لَوْ كَانَ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ - وَهُوَ غَيْرُ شَرْطٍ - وَاجِبًا، لَوَجَبَتْ نِيَّتُهُ، أَيِ: النِّيَّةُ لِفِعْلِهِ، كَالنِّيَّةِ لِغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، لَكِنْ لَا تَجِبُ نِيَّتُهُ بِاتِّفَاقٍ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا. أَمَّا الْمُلَازَمَةُ، فَلِأَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ تَجِبُ لَهُ النِّيَّةُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ، فَكُلُّ وَاجِبٍ تَجِبُ لَهُ النِّيَّةُ. وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَجِبُ نِيَّتُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، فَلِأَنَّ النِّيَّةَ مِنْ لَوَازِمِ الْوَاجِبِ، وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى مَلْزُومُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النِّيَّةَ مِنْ لَوَازِمِ الْوَاجِبِ، إِذْ بَعْضُ الْوَاجِبَاتِ لَا تَجِبُ فِيهَا النِّيَّةُ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَسَائِلِ الْوَاجِبِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وُجُوبُ نِيَّتِهِ.
قُلْنَا: النِّيَّةُ إِنَّمَا تَسْقُطُ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَوْنِهِ عِبَادَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فِعْلًا وَتَرْكًا، فَلَا، وَنَحْنُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ نَعْتَبِرُهُ، وَنَشْتَرِطُ فِيهِ النِّيَّةَ.
وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّانِي، فَيُقَالُ: لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَاجِبًا، لَزِمَ تَعَقُّلُ الْمُوجِبِ لَهُ، أَيْ: لَزِمَ أَنْ يَتَعَقَّلَ الْمُكَلَّفُ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا يَجِبُ تَعَقُّلُ الْمُوجِبِ لَهُ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةَ صَحِيحَةٌ، إِذْ لَابُدَّ فِي الْوَاجِبِ مِنْ مُوجِبٍ لَهُ، يَلْزَمُ مِنْ تَعَقُّلِ الْوَاجِبِ تَعَقُّلُهُ، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَقُّلِ الْفِعْلِ تَعَقُّلُ فَاعِلِهِ، وَمِنْ تَعَقُّلِ الْأَثَرِ تَعَقُّلُ
(1/341)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُؤَثِّرِهِ، لَكِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ - وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَعَقُّلُ الْمُوجِبِ لِمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ - مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا دَلَّ الدَّلِيلُ الِالْتِزَامِيُّ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ تَحْقِيقًا لِغَسْلِ الْوَجْهِ، كَانَ الْمُوجِبُ لِغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ هُوَ الْمُوجِبُ لِغَسْلِ الْوَجْهِ، فَالْمُوجِبُ الْمُتَعَقَّلُ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ هُوَ بِعَيْنِهِ مُتَعَقَّلٌ فِي غَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّالِثُ، فَيُقَالُ: لَوْ كَانَ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَاجِبًا، لَكَانَ بِتَقْدِيرِ انْفِكَاكِهِ عَنِ الْوَاجِبِ يَعْصِي الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَعْصِي بِتَرْكِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ إِمْكَانُ اسْتِيعَابِ غَسْلِ الْوَجْهِ بِدُونِ غَسْلِ شَيْءٍ مِنَ الرَّأْسِ وَاسْتِيعَابِ الْيَوْمِ بِدُونِ إِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، لَمَا عَصَى بِتَرْكِ الْجُزْءِ مِنْهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَعْصِ بِتَرْكِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، لِأَنَّ الْعِصْيَانَ بِالتَّرْكِ مِنْ خَوَاصِّ الْوَاجِبِ، وَإِذَا انْتَفَتْ خَاصَّةُ الشَّيْءِ انْتَفَى ذَلِكَ الشَّيْءُ.
وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا الْإِلْزَامِ أَنْ يُقَالَ: الِانْفِكَاكُ الَّذِي قَدَّرْتُمُوهُ مُحَالٌ فِي الْعَادَةِ، لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ حَدِّ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ تَحْقِيقًا، بِحَيْثُ يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِحُكْمِهِ دُونَ جُزْءٍ مِنْ مُجَاوَرِهِ مِمَّا لَا قُوَّةَ لِلْبَشَرِ عَلَى تَحْقِيقِهِ، وَإِذَا كَانَ مُحَالًا فِي الْعَادَةِ جَازَ أَنْ يَلْزَمَهُ مُحَالٌ عَادِيٌّ، وَهُوَ عَدَمُ التَّعْصِيَةِ بِتَرْكِهِ، فَيَكُونُ عَدَمُ تَعْصِيَتِهِ بِتَرْكِهِ مُحَالًا لَازِمًا لِمُحَالٍ، وَالْمُحَالُ يَلْزَمُهُ الْمُحَالُ.
أَوْ يُقَالُ: الْوَاجِبُ شَرْعًا عَلَى وِزَانِ الْوَاجِبِ عَقْلًا، وَكَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا تَارَةً يَكُونُ وُجُوبُهُ لِذَاتِهِ، وَتَارَةً لِغَيْرِهِ. فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ شَرْعًا، تَارَةً يَجِبُ قَصْدًا بِالنَّظَرِ إِلَى
(1/342)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَفْسِهِ، وَتَارَةً يَجِبُ تَبَعًا بِالنَّظَرِ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ غَسْلَ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ وَنَحْوَهُ لَيْسَ وَاجِبًا بِالْقَصْدِ، بَلْ تَبَعًا لِغَسْلِ الْوَجْهِ، مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ غَسْلُهُ إِلَّا بِهِ، فَإِذَا أَمْكَنَ اسْتِيعَابُ غَسْلِ الْوَجْهِ بِدُونِهِ انْتَفَتِ الْجِهَةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا وَجَبَ، وَعَادَ إِلَى جِهَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَدَمُ وُجُوبِهِ بِتَقْدِيرِ الِانْفِكَاكِ مَحَلَّ وِفَاقٍ، خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ مَادَامَ كَذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ قَدْ يَتَعَارَضُ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَيُرَجِّحُ أَهَمَّهُمَا، أَوْ يَتَوَقَّفُ إِنِ اسْتَوَيَا، وَذَلِكَ كَالْمُحْرِمَةِ يَجِبُ عَلَيْهَا كَشْفُ وَجْهِهَا، وَسَتْرُ رَأْسِهَا، وَلَابُدَّ فِي اسْتِيعَابِ كَشْفِ الْوَجْهِ مِنْ كَشْفِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، وَلَابُدَّ فِي اسْتِيعَابِ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، مِنْ تَغْطِيَةِ جُزْءٍ مِنَ الْوَجْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ تُغَطِّيَ جُزْءًا مِنْ وَجْهِهَا تَبَعًا لِرَأْسِهَا، مُحَافَظَةً عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، إِذْ أَمْرُهَا فِي الْإِحْرَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ لِذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكْشِفَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِهَا تَبَعًا لِوَجْهِهَا، مُحَافَظَةً عَلَى وَظِيفَةِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ الْعِبَادَةُ الْحَاضِرَةُ النَّادِرَةُ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَوْلُنَا: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ أَوْلَى مِنْ قَوْلِنَا: يَجِبُ التَّوَصُّلُ إِلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، إِذْ قَوْلُنَا: يَجِبُ مَا لَيْسَ
(1/343)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِوَاجِبٍ مُتَنَاقِضٌ.
قُلْتُ: وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ، وَإِنَّمَا تَابَعَ فِيهِ أَبَا حَامِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَبَيَانُ عَدَمِ التَّنَاقُضِ فِيهِ: هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ إِثْبَاتِ الْوُجُوبِ وَنَفْيِهِ فِي الْعِبَارَةِ لَيْسَ مُتَّحِدًا، بَلْ مُتَعَدِّدًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ لَوْ كَانَ مُتَّحِدًا، كَقَوْلِنَا: يَجِبُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، أَوْ يَجِبُ التَّوَصُّلُ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَبَيَانُ تَعَدُّدِ مَوْضُوعِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ قَوْلُنَا: يَجِبُ مَوْضُوعُهُ، أَيِ: التَّوَصُّلُ، فَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لَهُ.
وَقَوْلُنَا بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مَوْضُوعُهُ الَّذِي سُلِبَ عَنْهُ هُوَ «مَا» الَّتِي بِمَعْنَى الَّذِي.
وَتَقْدِيرُهُ بِالْمِثَالِ: يَجِبُ التَّوَصُّلُ إِلَى غَسْلِ الْوَجْهِ الْوَاجِبِ بِغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ، فَمَا صَارَ قَوْلُهُ يَجِبُ التَّوَصُّلُ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، كَقَوْلِهِ: يَجِبُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ حَتَّى يَكُونَ مُتَنَاقِضًا، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْعِبَارَتَيْنِ سَوَاءٌ، لَكِنَّ قَوْلَنَا: يَجِبُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ مُتَنَاقِضًا، لِأَنَّ شَرْطَ التَّنَاقُضِ اتِّحَادُ الْجِهَةِ، وَهِيَ هَاهُنَا غَيْرُ مُتَّحِدَةٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: يَجِبُ مِنْ حَيْثُ تَوَقُّفِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ بِالنَّظَرِ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا شَرَحْنَاهُ.
وَثَبَتَ بِهَذَا، أَنَّ قَوْلَنَا: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَاجِبٌ، وَقَوْلَنَا: التَّوَصُّلُ إِلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مَقْصُودِ هَذَا الْبَابِ. وَإِنَّمَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَنَاقُضٌ لَفْظِيٌّ، لِكَوْنِهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ لَفْظِ الْوُجُوبِ وَنَفْيِهِ، مَعَ اخْتِلَافِ مَحَلِّهِ، فَظَنَّاهُ تَنَاقُضًا مَعْنَوِيًّا، أَوْ لَعَلَّهُمَا كَرِهَا التَّنَاقُضَ اللَّفْظِيَّ فَعَدَلَا عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(1/344)
________________________________________
فَرْعَانِ
أَحَدُهُمَا: إِذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ، حَرُمَتَا، إِحْدَاهُمَا بِالْأَصَالَةِ، وَالْأُخْرَى بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ. وَقِيلَ: تُبَاحُ الْمُذَكَّاةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ، لَكِنْ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا، وَهُوَ تَنَاقُضٌ، إِذْ لَا مَعْنَى لِتَحْرِيمِهِمَا إِلَّا وُجُوبُ الْكَفِّ. وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ، يَعْنِي أَنَّ تَحْرِيمَهُمَا عَرَضِيٌّ، وَتَحْرِيمُ الْأُخْرَيَيْنِ أَصْلِيٌّ، فَالْخِلَافُ إِذَنْ لَفْظِيٌّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «فَرْعَانِ»
يَعْنِي لِمَسْأَلَةٍ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ وَسِيلَةٌ إِلَى الْوَاجِبِ الْمَقْصُودِ.
ثُمَّ الْوَسِيلَةُ، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَيْهَا وُجُودُ الْمَقْصُودِ، أَوْ وُجُودُ مَعْنًى فِي الْمَقْصُودِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَقْصُودِ.
وَالتَّوَقُّفُ فِي الْأَوَّلِ، إِمَّا شَرْعِيٌّ، كَتَوَقُّفِ وُجُودِ الصَّلَاةِ عَلَى الطَّهَارَةِ، أَوْ عُرْفِيٌّ، كَتَوَقُّفِ وُجُودِ صُعُودِ السَّطْحِ عَلَى نَصْبِ السُّلَّمِ، أَوْ عَقْلِيٌّ، كَتَوَقُّفِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا عَلَى تَرْكِ الِاسْتِدْبَارِ.
وَالثَّانِي: كَإِيجَابِ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِتَعْيِينِ صَلَاةٍ مَنْسِيَّةٍ فِي نَفْسِهَا، أَوْ لِلْقَطْعِ بِفِعْلِهَا، وَكَالتَّوَقُّفِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ النَّجِسِ بِالطَّاهِرِ، وَالْمَيْتَةِ بِالْمُذَكَّاةِ، وَالْمَنْكُوحَةِ بِالْأُخْتِ، وَكَغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ، وَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ مَعَ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ تَحْصِيلًا لِلِاسْتِيعَابِ. وَهَذَا الْكَلَامُ كَالْمُقَدِّمَةِ عَلَى هَذَا الْفَرْعِ، لِأَنَّهُ كُلِّيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَكْمِيلًا لِفَائِدَتِهِ.
قَوْلُهُ: «إِذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ حَرُمَتَا» يَعْنِي الْأُخْتَ فِيمَا إِذَا اشْتَبَهَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهِمَا، وَالزَّوْجَةُ إِذَا اشْتَبَهَتْ
(1/345)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِأَجْنَبِيَّةٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَهُمَا، وَالْمُذَكَّاةُ إِذَا اشْتَبَهَتْ بِالْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَهُمَا، «إِحْدَاهُمَا بِالْأَصَالَةِ» وَهِيَ الْأُخْتُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ وَالْمَيْتَةُ، «وَالْأُخْرَى بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ» وَهِيَ الزَّوْجَةُ وَالْمُذَكَّاةُ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالْأَصَالَةِ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ، وَلَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إِلَّا بِاجْتِنَابِ مَا اشْتَبَهَ بِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، فَاجْتِنَابُ مَا اشْتَبَهَ بِالْمُحَرَّمِ بِالْأَصَالَةِ وَاجِبٌ.
«وَقِيلَ: تُبَاحُ الْمُذَكَّاةُ وَالْأَجْنَبِيَّةُ، لَكِنْ يَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا. وَهُوَ تَنَاقُضٌ، إِذْ لَا مَعْنَى لِتَحْرِيمِهِمَا إِلَّا وُجُوبُ الْكَفِّ» عَنْهُمَا، فَقَوْلُهُ: يُبَاحَانِ وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا، كَقَوْلِهِ: يُبَاحَانِ وَيَحْرُمَانِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو حَامِدٍ: وَإِنَّمَا تَوَهَّمَ هَذَا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لَهُمَا، قَائِمٌ بِذَاتَيْهِمَا، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَانِ بِالْفِعْلِ، وَهَمَا: الْإِذْنُ فِي الْفِعْلِ، وَوُجُوبُ الْكَفِّ، وَحِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ التَّنَاقُضُ.
قَوْلُهُ: «وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا مُحَاوَلَةٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قَوْلَ هَذَا الْقَائِلِ: يُبَاحَانِ، وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْهُمَا، يُرِيدُ أَنَّ تَحْرِيمَهُمَا - يَعْنِي تَحْرِيمَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْمُذَكَّاةِ - عَرَضِيٌّ، أَيْ: بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ كَمَا سَبَقَ، وَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُبَاحَانِ، وَتَحْرِيمَ الْأُخْرَيَيْنِ، وَهُمَا الْأُخْتُ وَالْمَيْتَةُ، أَصْلِيٌّ، أَيْ: بِالْأَصَالَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بِدَلِيلِ الشَّرْعِ الْأَصْلِيِّ الِابْتِدَائِيِّ، «فَالْخِلَافُ
(1/346)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِذًا» أَيْ: عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ «لَفْظِيٌّ» أَيْ: فِي اللَّفْظِ، لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَارَ كَالْأَوَّلِ، سَوَاءً فِي أَنَّ إِحْدَاهُمَا حَرُمَتْ بِالْأَصَالَةِ، وَالْأُخْرَى بِعَارِضِ الِاشْتِبَاهِ.
تَنْبِيهٌ: إِذَا قَرَّرْنَا شَيْئًا، ثُمَّ قُلْنَا: فَالْحُكْمُ إِذًا كَذَا، مَعْنَاهُ، الْحُكْمُ إِذْ ذَاكَ، أَوْ إِذِ الْحَالُ عَلَى مَا وَصَفَ كَذَا، فَإِذًا هَاهُنَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ إِذِ الَّتِي هِيَ ظَرْفُ زَمَنٍ مَاضٍ، وَمِنْ جُمْلَةٍ بَعْدَهَا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا لَكِنْ حُذِفَتِ الْجُمْلَةُ تَخْفِيفًا، وَأُبْدِلَ مِنْهَا التَّنْوِينُ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: حِينَئِذٍ وَسَاعَتَئِذٍ وَلَيْلَتَئِذٍ، وَالْمَعْنَى: حِينَ إِذْ كَانَ ذَلِكَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
نَهَيْتُكَ عَنْ طِلَابِكَ أُمَّ عَمْرٍو ... بِعَافِيَةٍ وَأَنْتَ إِذٍ صَحِيحُ
أَيْ: وَأَنْتَ إِذْ نَهَيْتُكَ صَحِيحٌ، وَلَيْسَتْ «إِذًا» هَذِهِ هِيَ النَّاصِبَةُ لِلْفِعْلِ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ تِلْكَ تَخْتَصُّ بِهِ، وَلِذَلِكَ عَمِلَتْ فِيهِ، وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا مَا يَخْتَصُّ، وَهَذِهِ لَا تَخْتَصُّ بِهِ بَلْ تَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 67] ، {إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الْإِسْرَاءِ: 100] ، {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} [الْإِسْرَاءِ: 75] ، وَعَلَى الِاسْمِ كَقَوْلِكَ: إِذَا كُنْتُ ظَالِمًا فَإِذًا حُكْمُكَ فِيَّ مَاضٍ. عَلَى أَنِّي لَوْلَا قَوْلُ النُّحَاةِ: أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَا اخْتَصَّ، وَإِذًا عَامِلَةٌ فِي الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ النَّصْبَ، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِهِ، لَقُلْتُ: إِنَّ «إِذًا» فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّ مَعْنَاهُ تَقْيِيدُ مَا بَعْدَهَا بِزَمَنٍ أَوْ حَالٍ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: أَنَا إِذَنْ أُكْرِمَكَ، وَأَنَا إِذَنْ أَزُورَكَ، فَيَقُولُ السَّامِعُ: إِذَنْ أُكْرِمَكَ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنَا أُكْرِمَكَ زَمَنَ، أَوْ حَالَ، أَوْ عِنْدَ زِيَارَتِكَ لِي.
(1/347)
________________________________________
الثَّانِي: الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ، إِنْ تَمَيَّزَتْ، كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَكْتُوبَاتِ، فَنَدْبٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ، كَالزِّيَادَةِ فِي الطُّمَأْنِينَةِ، وَالرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَمُدَّةِ الْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ عَلَى أَقَلِّ الْوَاجِبِ، فَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَ الْقَاضِي، نَدْبٌ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ تَرْكُهُ. وَالنَّدْبُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الثَّانِي» يَعْنِي: الْفَرْعَ الثَّانِيَ مِنَ الْفَرْعَيْنِ عَلَى مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ. وَوَجْهُ فَرْعِيَّتِهِ: أَنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ فِيهِ لَاحِقٌ لَهُ مِنْ آخِرِهِ، وَفِيمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ هُوَ لَاحِقٌ لَهُ مِنْ أَوَّلِهِ، وَكِلَاهُمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ كَمَا رَأَيْتَ، وَسَتَرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
«الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ» ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُتَمَيِّزَةً عَنْهُ أَوْ لَا. «فَإِنْ تَمَيَّزَتْ» عَنْهُ «كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَكْتُوبَاتِ» فَهِيَ - يَعْنِي الزِّيَادَةَ الْمُتَمَيِّزَةَ - «نَدْبٌ اتِّفَاقًا» ، إِذْ لَا نَصَّ فِي وُجُوبِهَا وَلَا إِجْمَاعَ، وَلَا جَامِعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْوَاجِبِ حَتَّى تُقَاسَ عَلَيْهِ، وَلَا اشْتَدَّتْ مُلَابَسَتُهَا لِلْوَاجِبِ حَتَّى تَلْحَقَ بِهِ، وَلَا مَدْرَكَ لِثُبُوتِ الْأَحْكَامِ شَرْعًا إِلَّا هَذِهِ الْأَدِلَّةُ: النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِدْلَالُ.
«وَإِنْ لَمْ تَتَمَيَّزْ» الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبِ، أَيْ: لَا تَنْفَصِلُ حَقِيقَتُهَا مِنْ حَقِيقَتِهِ حِسًّا، «كَالزِّيَادَةِ فِي الطُّمَأْنِينَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمُدَّةِ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ عَلَى أَقَلِّ الْوَاجِبِ» ، وَهُوَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَهِيَ - يَعْنِي الزِّيَادَةَ الَّتِي هَذَا شَأْنُهَا -
(1/348)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وَاجِبٌ عِنْدَ الْقَاضِي» أَبِي يَعْلَى، «نَدْبٌ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَهُوَ الصَّوَابُ» .
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَمَا جَازَ تَرْكُهُ» ، أَيْ: لَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ نَدْبًا «لَمَا جَازَ تَرْكُهُ» أَيْ: تَرْكُ النَّدْبِ، أَوِ الْفِعْلِ الَّذِي تَحَقَّقَتْ بِهِ الزِّيَادَةُ، لَكِنْ قَدْ جَازَ تَرْكُهُ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا.
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ التَّرْكِ مِنْ لَوَازِمِ الْوَاجِبِ وَخَوَاصِّهِ. فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَاجِبًا لَثَبَتَتْ لَهُ هَذِهِ الْخَاصَّةُ، وَهِيَ عَدَمُ جَوَازِ التَّرْكِ، لَكِنَّهَا مَا ثَبَتَتْ، بِدَلِيلِ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ دُونَهَا، وَتَرْكِهَا بَعْدَ التَّلَبُّسِ بِهَا، مِثْلَ: أَنْ زَادَ فِي الرُّكُوعِ عَلَى الِانْحِنَاءِ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ مَسُّ رُكْبَتَيْهِ بِيَدَيْهِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُجْزِئُ فِيهِ، ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ، وَإِذَا جَازَ تَرْكُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، لِأَنَّ جَوَازَ التَّرْكِ وَالْوُجُوبِ مُتَنَافِيَانِ، فَيَكُونُ مَنْدُوبًا.
قَوْلُهُ: «وَالنَّدْبُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ» هَذَا اسْتِيفَاءٌ لِلدَّلِيلِ وَجَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ يَجُوزُ تَرْكُهَا، بِمَعْنَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُجْزِئِ دُونَهَا، وَتَرْكُهَا ابْتِدَاءً، فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّهُ إِذَا أَتَى بِهَا عَلَى الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ، وَتَلَبَّسَ بِهَا لَا تَجِبُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ دُونَهَا عَدَمُ وُجُوبِهَا إِذَا تَلَبَّسَ بِهَا؟ فَكَانَ الْجَوَابُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ بِالتَّلَبُّسِ بِهَا، لَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ لُزُومِ النَّقْلِ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَالنَّدْبُ عِنْدَنَا لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ، وَالْقَاضِي يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ.
حُجَّةُ الْقَاضِي عَلَى الْوُجُوبِ: أَنَّ نِسْبَةَ الْوَاجِبِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إِلَى الْأَمْرِ وَاحِدَةٌ،
(1/349)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَمْرُ إِيجَابٍ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ مِنَ الْآخَرِ، فَانْتَظَمَهُمَا انْتِظَامًا وَاحِدًا، وَالْكُلُّ امْتِثَالٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ مَمْنُوعَةٌ، إِذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نِسْبَتَهَا إِلَى الْأَمْرِ وَاحِدَةٌ، بَلِ الْوَاجِبُ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ بِالْوُجُوبِ، وَالزِّيَادَةُ بِالنُّدْبِيَّةِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ فِي لَفْظِهِ، أَمَّا فِي حَقِيقَتِهِ فَهُوَ فِي تَقْدِيرِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا جَازِمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَاجِبِ، وَالثَّانِي غَيْرُ جَازِمٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزِّيَادَةِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ انْتَظَمَهُمَا انْتِظَامًا وَاحِدًا، بَلْ بِالْوُجُوبِ وَالنُّدْبِيَّةِ كَمَا قَرَّرْنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِهَذَا الْأَصْلِ مَأْخَذًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُعَلَّقَ عَلَى الِاسْمِ: هَلْ يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى أَوَّلِ ذَلِكَ الِاسْمِ وَالْبَاقِي سَاقِطٌ، أَوْ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ ذَلِكَ الِاسْمِ؟
فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَلْهَجُ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ مِنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَأْخَذًا لِهَذَا الْفَرْعِ، وَإِلَّا فَهُوَ يُشْبِهُهُ.
تَنْبِيهٌ: لَوْ مَسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ، فَعِنْدَ مَنْ لَا يَرَى وُجُوبَ اسْتِيعَابِهِ، هَلْ يَقَعُ مَسْحُ جَمِيعِهِ وَاجِبًا، أَوِ الزَّائِدُ عَلَى الْمُجْزِئِ مِنْهُ نَفْلٌ؟ عَلَى الْخِلَافِ. أَمَّا تَطْوِيلُ التَّحْجِيلِ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، فَهُوَ نَدْبٌ بِلَا خِلَافٍ، لِتَمَيُّزِهِ بِتَمْيِيزِ أَجْزَاءِ مَحَلِّهِ، وَهُوَ الْعُضْوُ الْمَغْسُولُ، وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ هَذَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ مُعْتَمَدَ الْفَرْقِ غَسْلُ الْيَدِ مَحْدُودٌ، يَعْنِي بِخِلَافِ مَسْحِ
(1/350)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرَّأْسِ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَلَا كُلُّ مُحَرَّمٍ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَنَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالدَّوَابِّ، وَرَدِّ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ وَالدُّيُونِ وَالْعَوَارِي، فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَإِذَا فَعَلَهَا الْإِنْسَانُ غَافِلًا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا وَقَعَتْ وَاجِبَةً، مُجْزِئَةً، مُبْرِئَةً، وَلَا يُثَابُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ، فَضْلًا عَنِ الْقَصْدِ إِلَيْهَا، حَتَّى يَنْوِيَ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، فَلَا ثَوَابَ حِينَئِذٍ. نَعَمْ مَتَى اقْتَرَنَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ فِي الْجَمِيعِ حَصَلَ الثَّوَابُ.
قُلْتُ: هَذَا الْكَلَامُ مُوهِمٌ، بَلْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ، وَالْآخَرُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ. وَكَذَلِكَ الْحَرَامُ ضَرْبَانِ: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ الثَّوَابُ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَعِنْدِي فِي هَذَا نَظَرٌ.
بَلِ التَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: الْوَاجِبُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ جَزْمًا، وَشَرْطُ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِفِعْلِهِ، وَالْحَرَامُ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ جَزْمًا، وَشَرْطُ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى تَرْكِهِ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهِ، فَتَرَتُّبُ الثَّوَابِ وَعَدَمُهُ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ الْحَرَامِ وَعَدَمِهِمَا رَاجِعٌ إِلَى وُجُودِ شَرْطِ الثَّوَابِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، لَا إِلَى انْقِسَامِ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ فِي نَفْسِهِمَا.
(1/351)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُحَرَّمَاتُ يَخْرُجُ الْإِنْسَانُ عَنْ عُهْدَتِهَا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهَا، وَإِنْ لَمْ يَشْعُرْ، فَفِيهِ تَحْقِيقٌ سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ.
وَقَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ فِي الْوَاجِبِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
(1/352)
________________________________________
النَّدْبُ لُغَةً: الدُّعَاءُ إِلَى الْفِعْلِ، وَشَرْعًا: مَا أُثِيبَ فَاعِلُهُ، وَلَمْ يُعَاقَبْ تَارِكُهُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: مَأْمُورٌ بِهِ، يَجُوزُ تَرْكُهُ، لَا إِلَى بَدَلٍ. وَهُوَ مُرَادِفُ السُّنَّةِ وَالْمُسْتَحَبِّ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَالرَّازِيِّ.
لَنَا: مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِسْمَةِ الْأَمْرِ إِلَى إِيجَابٍ وَنَدْبٍ. وَمَوْرِدُ الْقِسْمَةِ مُشْتَرَكٌ، وَلِأَنَّهُ طَاعَةٌ، وَكُلُّ طَاعَةٍ مَأْمُورٌ بِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «النَّدْبُ لُغَةً» ، أَيْ: فِي اللُّغَةِ «الدُّعَاءُ إِلَى الْفِعْلِ» . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: نَدَبَهُ لِلْأَمْرِ، فَانْتَدَبَ لَهُ، أَيْ: دَعَاهُ لَهُ، فَأَجَابَ. وَأَنْشَدَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ الْحَمَاسِيِّ:
لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانًا
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: النَّدْبُ فِي اللُّغَةِ، هُوَ الدُّعَاءُ إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَهُوَ أَخَصُّ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنْسَبُ وَأَشْهَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَغْلَبُ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ عُمُومُ كَلَامِ غَيْرِهِ.
وَالنَّدْبُ فِي الْأَصْلِ: مَصْدَرُ نَدَبَهُ يَنْدُبُهُ نَدْبًا، وَالْمَفْعُولُ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ الْمُقَابِلُ، وَيُقَالُ لَهُ: نَدَبَ، إِطْلَاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ مَجَازًا.
قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» أَيْ: وَالنَّدْبُ فِي الشَّرْعِ: «مَا أُثِيبَ فَاعِلُهُ وَلَمْ يُعَاقَبْ تَارِكُهُ» .
فَالْأَوَّلُ جِنْسٌ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالنَّدَبَ - أَعْنِي الْمَنْدُوبَ -، وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُنَا: وَلَمْ يُعَاقَبْ تَارِكُهُ، فَصْلٌ لَهُ عَنِ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُعَاقَبُ تَارِكُهُ.
(1/353)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وَقِيلَ: مَأْمُورٌ بِهِ» أَيْ: وَقِيلَ فِي الْمَنْدُوبِ تَعْرِيفٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ «يَجُوزُ تَرْكُهُ لَا إِلَى بَدَلٍ» فَقَوْلُنَا: مَأْمُورٌ بِهِ. جِنْسٌ يَتَنَاوَلُهُ وَالْوَاجِبَ، لِأَنَّهُ قَسِيمُهُ عَلَى مَا مَرَّ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَقَوْلُنَا: يَجُوزُ تَرْكُهُ: هُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ مُطْلَقًا، أَوْ إِلَى بَدَلٍ، فَيَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ وَالْمُخَيَّرَ وَفَرْضَ الْكِفَايَةِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا مَأْمُورٌ بِهِ يَجُوزُ تَرْكُهُ، لَكِنْ إِلَى بَدَلٍ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. فَبِقَوْلِنَا: لَا إِلَى بَدَلٍ، خَرَجَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَنَحْوُهَا.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْمَنْدُوبُ هُوَ الْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ شَرْعًا وَلَا ذَمَّ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ مَا رَجَحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ. وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مُتَقَارِبَةٌ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْمَنْدُوبَ «مُرَادِفُ السُّنَّةِ، وَالْمُسْتَحَبِّ» ، أَيْ: هُوَ مُسَاوِيهِمَا فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْأَلْفَاظُ، وَالْمُتَرَادِفُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَعَدِّدُ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، كَالْأَسَدِ وَالْغَضَنْفَرِ، وَالْمُدَامِ وَالْخَمْرِ، وَالْحَرَامِ وَالْمَحْظُورِ، وَالْمَنْدُوبِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُسْتَحَبِّ. فَالسِّوَاكُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ وَنَحْوُهُ، يُقَالُ لَهُ: مَنْدُوبٌ وَمُسْتَحَبٌّ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْمَنْدُوبَ «مَأْمُورٌ بِهِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ» مِنَ الْحَنَفِيَّةِ «وَ» أَبِي بَكْرٍ «الرَّازِيِّ. لَنَا» أَيْ عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ «مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِسْمَةِ الْأَمْرِ إِلَى إِيجَابٍ وَنَدْبٍ، وَمَوْرِدُ الْقِسْمَةِ مُشْتَرَكٌ» ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِسْمَةِ الْأَحْكَامِ إِلَى خَمْسَةٍ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ إِمَّا أَنْ يَرِدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ أَوْ تَرْكِهِ، وَاقْتِضَاءُ الْفِعْلِ هُوَ طَلَبُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ، ثُمَّ الْأَمْرُ إِمَّا مَعَ الْجَزْمِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، أَوْ لَا مَعَ الْجَزْمِ، وَهُوَ النَّدْبُ.
فَقَدِ انْقَسَمَ الْأَمْرُ إِلَى إِيجَابٍ وَنَدْبٍ. وَكُلُّ شَيْءٍ قُسِّمَ أَقْسَامًا، فَاسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ
(1/354)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صَادِقٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ، كَمَا إِذَا قُلْنَا: الْحَيَوَانُ إِمَّا نَاطِقٌ أَوْ غَيْرُ نَاطِقٍ كَالْفَرَسِ وَالشَّاةِ وَالطَّائِرِ، فَاسْمُ الْحَيَوَانِ صَادِقٌ عَلَى الْجَمِيعِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ يُسَمَّى حَيَوَانًا، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاجِبِ وَالنَّدْبِ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: مَوْرِدُ الْقِسْمَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَقْسَامِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَيَكُونُ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورًا بِهِ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَلِأَنَّهُ طَاعَةٌ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلٌ ثَانٍ عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ طَاعَةٌ، وَلِأَنَّهُ مُثَابٌ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مُثَابٍ عَلَيْهِ طَاعَةٌ، فَالْمَنْدُوبُ طَاعَةٌ. وَالْمُقَدِّمَتَانِ ظَاهِرَتَانِ، وَأَمَّا أَنَّ كَلَّ طَاعَةٍ مَأْمُورٌ بِهَا، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النِّسَاءِ: 59] ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْمَقَالِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَطِيعُونِي، وَلِأَنَّ الطَّاعَةَ امْتِثَالُ الطَّلَبِ، وَامْتِثَالُ الطَّلَبِ مَأْمُورٌ بِهِ. فَالطَّاعَةُ مَأْمُورٌ بِهَا.
وَيَعْنِي امْتِثَالَ الطَّلَبِ أَنَّ الشَّارِعَ إِذَا طَلَبَ مِنَّا شَيْئًا، أَمَرَنَا بِامْتِثَالِهِ، كَقَوْلِهِ: صَلُّوا وَاسْتَاكُو.
وَقَالَ الْكِنَانِيُّ: كَوْنُ الْمَنْدُوبِ طَاعَةً لَا يَدُلُّ فِي الْأَصَحِّ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، إِذْ لَيْسَتِ الطَّاعَةُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَمْرِ، لِتَنَاوُلِهَا السُّؤَالَ وَالشَّفَاعَةَ.
قُلْتُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُوَافَقَتَهُ السُّؤَالَ وَالشَّفَاعَةَ طَاعَةٌ مُوَافِقَةٌ لِلْأَمْرِ فَقَطْ.
(1/355)
________________________________________
قَالَا: لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ، لَعَصَى تَارِكُهُ، إِذِ الْمَعْصِيَةُ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَلَتَنَاقَضَ «لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ» ، مَعَ تَصْرِيحِهِ بِالْأَمْرِ مُؤَكِّدًا.
قُلْنَا: الْمُرَادُ: أَمْرُ الْإِيجَابِ فِيهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالَا» يَعْنِي الْكَرْخِيَّ وَالرَّازِيَّ، هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: «لَوْ كَانَ» الْمَنْدُوبُ «مَأْمُورًا بِهِ لَعَصَى تَارِكُهُ» لَكِنَّهُ لَا يَعْصِي تَارِكُهُ، فَلَا يَكُونُ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورًا بِهِ، أَمَّا الْمُلَازَمَةُ فَلِأَنَّ «الْمَعْصِيَةَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طَه: 93] ، وَالْمَعْنَى: عَصَيْتَنِي بِمُخَالَفَةِ أَمْرِي. فَلَوْ كَانَ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورًا بِهِ، لَعَصَى تَارِكُهُ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ، وَمُخَالِفُ الْأَمْرِ عَاصٍ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَعْصِي بِتَرْكِ الْمَنْدُوبِ، فَبِالِاتِّفَاقِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورًا بِهِ «لَتَنَاقَضَ» قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ، «مَعَ تَصْرِيحِهِ بِالْأَمْرِ» بِالسِّوَاكِ أَمْرًا «مُؤَكَّدًا» نَحْوَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اسْتَاكُوا طَهِّرُوا مَسَالِكَ الْقُرْآنِ فِي أَحَادِيثَ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَوَجْهُ التَّنَاقُضِ: أَنَّ «لَوْلَا» تَقْتَضِي فِي اللِّسَانِ امْتِنَاعَ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ، فَقَوْلُهُ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ أَمْرِهِ لَهُمْ بِالسِّوَاكِ، لِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ. وَقَوْلُهُ: اسْتَاكُوا وَنَحْوُهُ، تَصْرِيحٌ بِالْأَمْرِ بِهِ،
(1/356)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَصَارَ آمِرًا بِهِ غَيْرَ آمِرٍ بِهِ وَهُوَ عَيْنُ التَّنَاقُضِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ هَذَا التَّنَاقُضَ مِنْ قَوْلِنَا: الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ، لِأَنَّ مَلْزُومَ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ.
أَمَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْمَنْدُوبَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، لَا يَلْزَمُ هَذَا التَّنَاقُضَ، لِأَنَّا نَقُولُ مَثَلًا: السِّوَاكُ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمَا فُهِمْ مِنْ قَوْلِهِ: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مِنْ عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: الْمُرَادُ أَمْرُ الْإِيجَابِ فِيهِمَا» . هَذَا جَوَابٌ عَنِ الدَّلِيلَيْنِ جَمِيعًا.
وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ أَنْ نَقُولَ: قَوْلُكُمْ: لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ، لَعَصَى تَارِكُهُ.
إِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ الْمَأْمُورَ مُطْلَقًا يَعْصِي تَارِكُهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، كَمَا أَنَّ فَاعِلَ الْمَنْهِيِّ مُطْلَقًا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَاصِيًا، بِدَلِيلِ فَاعِلِ الْمَكْرُوهِ. ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ الْمَكْرُوهَ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، لِأَنَّهُ مُقَابِلُ الْمَنْدُوبِ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ الْمَأْمُورَ الْجَازِمَ يَعْصِي تَارِكُهُ، فَهُوَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْمَنْدُوبَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ جَزْمًا حَتَّى يَعْصِيَ تَارِكُهُ.
وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ الْمُرَادُ بِهِ: لَأَمَرْتُهُمْ أَمْرَ إِيجَابٍ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْمَشَقَّةُ. أَمَّا الْأَمْرُ لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَابِ، فَلَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي تَصْرِيحَهُ بِالْأَمْرِ عَلَى طَرِيقِ النَّدْبِ.
قُلْتُ: مَأْخَذُ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ تَرَدُّدُ الْمَنْدُوبِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُبَاحِ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُقْتَضًى وَمُسْتَدْعًى وَمَطْلُوبٌ وَمُثَابٌ عَلَيْهِ أَشْبَهَ الْوَاجِبَ، فَأُلْحِقَ بِهِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا عِقَابَ فِي تَرْكِهِ أَشْبَهَ الْمُبَاحَ، فَأُلْحِقَ بِهِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ قُصُورِ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ عَنْ تَنَاوُلِ التَّكْلِيفِ لَهُمَا، وَالْمَادَّةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مُتَقَارِبَةٌ.
(1/357)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ الْكِنَانِيُّ: مَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ هَلْ يُشَارِكُ الْوَاجِبَ فِي حَقِيقَتِهِ؟
قُلْتُ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ إِنْ عَنَى أَنَّ بَيْنَهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا، فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ يُشَارِكُ الْوَاجِبَ فِي كَمَالِ حَقِيقَتِهِ، فَلَا نِزَاعَ أَيْضًا فِي عَدَمِ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمَنْدُوبُ وَاجِبًا. وَقَدِ افْتَرَقَا فِي الْعِقَابِ أَوِ الْوَعِيدِ عَلَى التَّرْكِ وَعَدَمِهِ.
قَالَ: وَفَائِدَةُ الْمَسْأَلَةِ تَظْهَرُ فِي تَعْيِينِ مُجْمَلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا، أَوْ قَوْلِ الرَّاوِي عَنْهُ: أَمَرَ بِكَذَا.
قُلْتُ: يَعْنِي إِنْ قُلْنَا: الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ، كَانَ الْأَمْرُ الْمَحْكِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ إِرَادَةِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ. وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ تَعَيَّنَ لِلْوُجُوبِ.
(1/358)
________________________________________
الْحَرَامُ، ضِدُّ الْوَاجِبِ. وَهُوَ مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ شَرْعًا. وَلَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى مُطْلَقًا، لِعَدَمِ الْحَرَامِ الْمُوَسَّعِ، وَعَلَى الْكِفَايَةِ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْحَرَامُ ضِدُّ الْوَاجِبِ» ، لَمَّا ذَكَرَ الِاقْتِضَاءَ الْفِعْلِيَّ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِقِسْمَيْهِ، وَهُمَا الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، أَخَذَ هُنَا يُبَيِّنُ حُكْمَ اقْتِضَاءِ الْكَفِّ، وَهُوَ النَّهْيُ بِقِسْمَيْهِ، وَهُمَا الْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ، ثُمَّ قَسَّمَ التَّخْيِيرَ، وَهُوَ الْمُبَاحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَالْحَرَامُ ضِدُّ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى الْجَزْمِ، مُثَابٌ عَلَى فِعْلِهِ، مُعَاقَبٌ عَلَى تَرْكِهِ، فَالْحَرَامُ إِذًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ عَلَى الْجَزْمِ، مُثَابٌ عَلَى تَرْكِهِ، مُعَاقَبٌ عَلَى فِعْلِهِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحَرَامُ ضِدُّ الْحَلَالِ.
قُلْتُ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحُرْمَةِ، وَهِيَ مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهُ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْحَرَامَ «مَا ذُمَّ فَاعِلُهُ شَرْعًا» كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ مَا ذُمَّ تَارِكُهُ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَلَا حَاجَةَ هُنَا إِلَى مُطْلَقًا» ، أَيْ لَا يُحْتَاجُ أَنْ نَقُولَ: الْحَرَامُ مَا ذُمَّ شَرْعًا فَاعِلُهُ مُطْلَقًا، كَمَا قُلْنَا فِي الْوَاجِبِ مَا ذُمَّ شَرْعًا تَارِكُهُ مُطْلَقًا «لِعَدَمِ الْحَرَامِ الْمُوَسَّعِ، وَعَلَى الْكِفَايَةِ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ» وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا قَيَّدْنَا فِي الْوَاجِبِ بِقَوْلِنَا: مُطْلَقًا، لِيَتَنَاوَلَ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ، وَالْوَاجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ، كَمَا شَرَحَ هُنَاكَ، وَالْحَرَامُ لَيْسَ
(1/359)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِيهِ مُوَسَّعٌ وَلَا مُضَيَّقٌ، وَلَا عَلَى الْعَيْنِ وَالْكِفَايَةِ، فَلَا حَاجَةَ بِنَا فِيهِ إِلَى التَّقْيِيدِ بِقَوْلِنَا مُطْلَقًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ فِي ذَلِكَ، هُوَ أَنَّ مَقْصُودَ الْوَاجِبِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمُوَسَّعُ وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ، تَعْلِيقًا لِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَالْأَعْيَانِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، بِخِلَافِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ نَفْيُ الْمَفْسَدَةِ. وَالْمَفْسَدَةُ يَجِبُ نَفْيُهَا عَقْلًا وَشَرْعًا مُطْلَقًا، فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، مِنْ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَعْيَانِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ.
أَمَّا الْحَرَامُ الْمُخَيَّرُ، فَيَجُوزُ وُرُودُهُ، كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَالْأَشْيَاءِ، كَمَا تَتَعَلَّقُ الْمَصْلَحَةُ بِهِ، فَكَمَا جَازَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: إِذَا حَنِثْتَ فِي يَمِينِكَ فَأَطْعِمْ، أَوِ اكْسُ، أَوْ أَعْتِقْ، كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: لَا تَنْكِحْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، أَوْ أُخْتَهَا، أَوْ بِنْتَ أُخْتِهَا، أَوْ أَخِيهَا، فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُمَا عَلَى التَّخْيِيرِ، أَيَّتَهُمَا شَاءَ اجْتَنَبَ وَنَكَحَ الْأُخْرَى، كَمَا أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ عَلَيْهِمَا، قِيلَ لَهُ: طَلِّقْ إِحْدَاهُمَا وَأَمْسِكِ الْأُخْرَى أَيَّتَهُمَا شِئْتَ.
(1/360)
________________________________________
ثُمَّ الْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ. . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ، كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ، وَصَلَاةِ الضُّحَى مَثَلًا، وَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ.
أَمَّا الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مَوْرِدًا لَهُمَا، مِنْ جِهَةٍ. أَمَّا مِنْ جِهَتَيْنِ، كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَلَا تَصِحُّ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ لَنَا، خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ.
وَقِيلَ: يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لَا بِهَا. وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ، أَنَّ النَّظَرَ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ أَوْ إِلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ وَأَشْخَاصِهِ» إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ: أَنَّ الْأَشْيَاءَ بِالنَّظَرِ إِلَى كُلِّيَّتِهَا وَجُزْئِيَّتِهَا وَعُمُومِهَا وَخُصُوصِهَا مَرَاتِبُ، أَعْلَاهَا الْجِنْسُ، ثُمَّ النَّوْعُ، ثُمَّ الشَّخْصُ. كَقَوْلِنَا: الْحَيَوَانُ، الْإِنْسَانُ، زَيْدٌ، فَالْحَيَوَانُ جِنْسٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، وَالْإِنْسَانُ نَوْعٌ لَهُ، وَزَيْدٌ شَخْصٌ مِنَ النَّوْعِ، وَكَقَوْلِنَا: الْعِبَادَةُ، الزَّكَاةُ وَالصَّلَاةُ، هَذِهِ الصَّلَاةُ، فَالْعِبَادَةُ جِنْسٌ، وَالزَّكَاةُ وَالصَّلَاةُ نَوْعٌ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ شَخْصٌ.
وَمَعْنَى قَوْلِنَا: الْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ أَوِ النَّوْعِ أَنَّهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَمُسَمًّى وَاحِدٌ، دَلَّ عَلَى جِنْسٍ كَالْحَيَوَانِ، أَوْ دَلَّ عَلَى نَوْعٍ كَالْإِنْسَانِ.
(1/361)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَالْوَاحِدُ بِالْجِنْسِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَيْ: يُرَدُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَيَتَوَجَّهَانِ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ، أَيْ يَتَوَجَّهُ الْأَمْرُ إِلَى بَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَالنَّهْيُ إِلَى بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا.
وَكَذَلِكَ الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ يَجُوزُ تَوَجُّهُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَشْخَاصِهِ أَيِ: الْأَمْرُ إِلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ، وَالنَّهْيُ إِلَى بَعْضٍ آخَرَ، كَالْأَمْرِ بِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ نَوْعٌ لِجِنْسِ الْعِبَادَةِ، وَالْأَمْرُ بِصَلَاةِ الضُّحَى الَّتِي هِيَ بِاعْتِبَارِ إِطْلَاقِ نَوْعٍ أَوْ صِنْفٍ لِلصَّلَاةِ، وَبِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهَا بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ شَخْصٌ مِنْ أَشْخَاصِ نَوْعِ الصَّلَاةِ، وَكَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ، فَقَدْ تَوَجَّهَ الْأَمْرُ إِلَى الزَّكَاةِ وَصَلَاةِ الضُّحَى مِنْ حَيْثُ هُمَا نَوْعَانِ لِلْعِبَادَةِ، وَتَوَجَّهَ النَّهْيُ إِلَى صَلَاةِ الضُّحَى وَالصَّلَاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ هُمَا شَخْصَانِ لِنَوْعِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الصَّلَاةُ.
وَهَذَا الْمِثَالُ إِنْ لَاحَ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مُطَابَقَتِهِ شَيْءٌ، فَأَنْتَ قَدْ عَرَفْتَ الْقَاعِدَةَ، وَهِيَ صِحَّةُ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ إِلَى الْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ وَإِلَى النَّوْعِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَشْخَاصِهِ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ» إِلَى آخِرِهِ أَيِ: اللَّفْظُ وَالْمُسَمَّى الْوَاحِدُ إِذَا كَانَ مَفْهُومُهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا «فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ مَوْرِدًا لَهُمَا» أَيْ: لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، أَيْ: يَمْتَنِعُ تَوَجُّهُهُمَا إِلَيْهِ وَوُرُودُهُمَا عَلَيْهِ «مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ» لِأَنَّهُ تَنَاقُضٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: صَلِّ هَذِهِ الظُّهْرَ، لَا تُصَلِّ هَذِهِ الظُّهْرَ، أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ، لَا تَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا مِنْ جِهَتَيْنِ» أَيْ: أَمَّا كَوْنُ الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ جِهَتَيْنِ «كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ» مِنْ عَمْرٍو، «فَلَا تَصِحُّ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ» عَنْ
(1/362)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ، عَلَى مَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ «خِلَافًا لِلْأَكْثَرِينَ» فِي صِحَّةِ ذَلِكَ.
«وَقِيلَ: يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا» أَيْ: عِنْدَ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ «لَا بِهَا» ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ بِمَا سَنُقَرِّرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ أَلْزَمَهُ الْخَصْمُ إِجْمَاعَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوا الظَّلَمَةَ بِإِعَادَةِ الصَّلَوَاتِ، مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ فِي أَمَاكِنِ الْغَصْبِ، فَأَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ، فَحَاوَلَ الْخَلَاصَ بِهَذَا التَّوَسُّطِ، فَقَالَ: يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَ هَذِهِ الصَّلَاةِ لِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ لَا بِهَا، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا.
قُلْتُ: وَكَأَنَّهُ جَعَلَهَا سَبَبًا لِسُقُوطِ الْفَرْضِ، أَوْ أَمَارَةً عَلَيْهِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ لَا عِلَّةً لِسُقُوطِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي صِحَّتِهَا.
قُلْتُ: وَهَذَا مَسْلَكٌ ظَاهِرُ الضَّعْفِ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِدُونِ أَدَائِهِ شَرْعًا غَيْرُ مَعْهُودٍ، بَلْ لَوْ مَنَعَ الْإِجْمَاعَ الْمَذْكُورَ لَكَانَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَبْعُدُ عَلَى الْخَصْمِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ ظَالِمًا فِي زَمَنِ السَّلَفِ صَلَّى فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ وَعَلِمَ بِهِ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الظَّلَمَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا الظَّلَمَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ نَقْلِ ذَلِكَ عَدَمُ وُجُودِهِ، لِجَوَازِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعَادَةِ وُجِدَ وَلَمْ يُنْقَلْ، لِاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ وَسَطْوَتِهِمْ، أَوْ كَوْنِ الْحُكْمِ لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الْإِنْكَارِ فِيهِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِجْمَاعَ الْمَذْكُورَ بَنَوْهُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ مَعَ كَثْرَةِ الظَّلَمَةِ فِي تِلْكَ الْأَعْصَارِ عَادَةً لَا يَخْلُو مِنْ إِيقَاعِ صَلَاةٍ فِي مَكَانٍ غُصِبَ مِنْ بَعْضِهِمْ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ السَّلَفَ يَمْتَنِعُ عَادَةً وَشَرْعًا تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِنْكَارِ وَالْأَمْرِ
(1/363)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْإِعَادَةِ، بِنَاءً مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى مَا ظَنُّوهُ مِنْ دَلِيلِ الْبُطْلَانِ، وَإِلَّا فَلَا إِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ مَنْقُولٌ، تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَالْمُقَدِّمَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَالْوَهَاَءِ.
قَوْلُهُ: «وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: مَأْخَذُ الْخِلَافِ فِي بُطْلَانِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَصِحَّتِهَا هُوَ «أَنَّ النَّظَرَ إِلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ» الْوَاقِعَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، «أَوْ إِلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ» مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَكَانِ إِيقَاعِهَا، إِنْ نَظَرْنَا إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ اتَّجَهَ الْقَوْلُ بِالْبُطْلَانِ، لِأَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الصَّلَاةِ حَرَامٌ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ اتَّجَهَ الْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مَطْلُوبَةً لِلشَّارِعِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ.
وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(1/364)
________________________________________
النَّافِي: مَاهِيَّةُ الصَّلَاةِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَالْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ طَاعَةً، وَلَا مَأْمُورًا بِهِ، وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «النَّافِي» أَيِ: احْتَجَّ النَّافِي لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ أَنْ قَالَ: «مَاهِيَّةُ الصَّلَاةِ» أَيْ حَقِيقَتُهَا «مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَالْمُرَكَّبُ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا» . أَمَّا أَنَّ الصَّلَاةَ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَفْعَالِهَا الْوَاجِبَةِ وَالْمَسْنُونَةِ فِيهَا، وَتِلْكَ الْأَفْعَالُ إِمَّا حَرَكَةٌ كَالْهُوِيِّ إِلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِمَّا سُكُونٌ كَالْقِيَامِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَأَمَّا أَنَّ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فَلِوُقُوعِهَا فِي مُلْكِ الْغَيْرِ وَشَغْلِ حَيِّزِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلِأَنَّ الْمُرَكَّبَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْبَسَائِطِ الَّتِي هِيَ مَادَّتُهُ إِلَّا بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَهِيَ لَا تُؤَثِّرُ فِي قَلْبِ حَقِيقَةِ الْبَسَائِطِ، وَبَسَائِطُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَهِيَ الْحَرَكَاتُ وَالسَّكَنَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا، وَمَا لَا يَزِيدُ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا.
«وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ طَاعَةً وَلَا مَأْمُورًا بِهِ وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ» لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ نَقِيضُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالطَّاعَةُ تَسْتَدْعِي تَعَلُّقَ الطَّلَبِ بِهَا وَتَوَجُّهَهُ إِلَيْهَا، فَلَوْ كَانَتْ
(1/365)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَنْهِيًّا عَنْهَا، لَاجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ أَيْضًا، وَهَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الَّتِي اضْطَرَّتْ أَبَا بَكْرٍ مَعَ الْإِجْمَاعِ الَّذِي أَلْزَمَهُ مَا حُكِيَ عَنْهُ.
(1/366)
________________________________________
الْمُثْبِتُ: لَا مَانِعَ إِلَّا اتِّحَادُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ إِجْمَاعًا، وَلَا اتِّحَادَ، إِذِ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْغَصْبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَصْبٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَعْقُولٌ بِدُونِ الْآخَرِ، وَجَمْعُ الْمُكَلَّفِ لَهُمَا لَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ حُكْمِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ.
وَأَيْضًا، طَاعَةُ الْعَبْدِ وَعِصْيَانُهُ، بِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أُمِرَ بِخِيَاطَتِهِ، فِي مَكَانٍ نُهِيَ عَنْ دُخُولِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَلَوْ مَرَقَ سَهْمُهُ مِنْ كَافِرٍ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ، ضَمِنَ قِصَاصًا أَوْ دِيَةً، وَاسْتَحَقَّ سَلَبَ الْكَافِرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- قَوْلُهُ: «الْمُثْبِتُ» أَيْ: هَذِهِ حُجَّةُ الْمُثْبِتِ، لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ. وَتَقْرِيرُهَا أَنَّهُ «لَا مَانِعَ» مِنَ الصِّحَّةِ «إِلَّا اتِّحَادُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ» يَعْنِي مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ «إِجْمَاعًا» أَيْ: لَا مَانِعَ إِلَّا اتِّحَادُ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، «وَلَا اتِّحَادَ» أَيْ: لَيْسَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُتَّحِدًا، فَلَا مَانِعَ حِينَئِذٍ مِنَ الصِّحَّةِ، وَبَيَانُ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُمَا غَيْرُ مُتَّحِدٍ هُوَ أَنَّ «الصَّلَاةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ - أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَلْحَقُهَا مِنْ مَكَانٍ وَغَيْرِهِ - مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْغَصْبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَصْبٌ - أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يُلَابِسُهُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا - مَنْهِيٌّ عَنْهُ» ، وَكُلٌّ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْغَصْبِ مَعْقُولٌ بِدُونِ الْآخَرِ، وَيُمْكِنُ وُجُودُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ، كَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَغْصِبْ، أَوْ غَصَبَ وَلَمْ يُصَلِّ، «وَجَمْعُ الْمُكَلَّفِ لَهُمَا» بِالصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ لَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ حُكْمِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ - أَيْ: فِي حَالِ انْفِرَادِهِمَا، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ، وَكَوْنُهَا طَاعَةً، وَالنَّهْيُ عَنِ الْغَصْبِ، وَكَوْنُهُ مَعْصِيَةً - وَحِينَئِذٍ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ لَهُمَا مُجْتَمَعَيْنِ مَا يَثْبُتُ لَهُمَا مُنْفَرِدَيْنِ، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا لَا يَقْلِبُ حَقِيقَتَهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا.
(1/367)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ ظَهَرَ لَكَ مِنْ تَقْرِيرِ حُجَّةِ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ صِحَّةُ الْمَأْخَذِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِلْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ النَّافِيَ نَظَرَ إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ أَفْعَالٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا، فَحَكَمَ بِبُطْلَانِهَا، وَالْمُثْبِتُ نَظَرَ إِلَى جِنْسِ الصَّلَاةِ وَحَقِيقَتِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي مَوْضِعٍ مَغْصُوبٍ، فَتَحَقَّقَ لَهُ الْجِهَتَانِ.
قَوْلُهُ: «وَأَيْضًا طَاعَةُ الْعَبْدِ وَعِصْيَانُهُ بِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أُمِرَ بِخِيَاطَتِهِ فِي مَكَانٍ نُهِيَ عَنْ دُخُولِهِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ» .
هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى لِمَنْ صَحَّحَ الصَّلَاةَ. وَقَوْلُنَا: طَاعَةُ الْعَبْدِ مُبْتَدَأٌ، وَعِصْيَانُهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَ «يَدُلُّ عَلَيْهِ» خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، تَقْدِيرُهُ طَاعَةُ الْعَبْدِ وَعِصْيَانُهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، أَوْ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ جِهَتَيْنِ.
وَتَقْرِيرُ الْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: خِطْ هَذَا الثَّوْبَ، وَلَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ، فَخَاطَ الْعَبْدُ الثَّوْبَ فِي الدَّارِ الْمَذْكُورَةِ، لَعُدَّ مُطِيعًا لِسَيِّدِهِ عَاصِيًا لَهُ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ، أَيْ: مُطِيعًا لَهُ مِنْ جِهَةِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ بِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ، عَاصِيًا لَهُ مِنْ جِهَةِ ارْتِكَابِ نَهْيِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ الَّتِي نَهَاهُ عَنْ دُخُولِهَا.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَالصَّلَاةُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَغْصُوبِ مِثْلُهَا سَوَاءٌ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ عَبْدَهُ بِالصَّلَاةِ وَنَهَاهُ عَنِ الْغَصْبِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا كَمَا جَمَعَ الْعَبْدُ الْخَيَّاطُ بَيْنَ خِيَاطَةِ الثَّوْبِ وَدُخُولِ الدَّارِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ حَرَكَةَ الْعَبْدِ الْخَيَّاطِ فِي الدَّارِ الَّتِي نُهِيَ عَنْ دُخُولِهَا، وَحَرَكَةَ الْمُصَلِّي
(1/368)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الْمَكَانِ لَيْسَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا لِكَوْنِهَا حَرَكَاتٍ، إِذْ لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَكَانَتْ حَرَكَاتُهُمَا مَنْهِيًّا عَنْهَا حَيْثُ وُجِدَتْ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا، لِكَوْنِهَا حَرَكَاتٍ وَاقِعَةً فِي مَكَانٍ نُهِيَ عَنْ دُخُولِهِ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ مُجَرَّدِ كَوْنِهَا حَرَكَاتٍ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْأَعَمِّ. وَيَرْجِعُ هَذَا التَّقْرِيرُ إِلَى تَحْقِيقِ الْجِهَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: «وَلَوْ مَرَقَ سَهْمُهُ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الصِّحَّةِ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَوْ رَمَى كَافِرًا، فَمَرَقَ السَّهْمُ مِنْهُ إِلَى مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ، لَوَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمُسْلِمِ قِصَاصًا إِنْ كَانَ تَعَمَّدَ قَتْلَهُ بِذَلِكَ، أَوْ دِيَتَهُ إِنْ كَانَ لَمْ يَتَعَمَّدْ، أَوْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ، وَلَاسْتَحَقَّ سَلَبَ الْكَافِرِ بِشُرُوطِهِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفِقْهِ. وَهَذَا فِعْلٌ وَاحِدٌ اشْتَمَلَ عَلَى حَرَامٍ وَحَلَالٍ، وَخَسَارَةٍ وَرِبْحٍ، وَهُمَا مُتَقَابِلَانِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ، وَالصَّلَاةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا مِثْلُهُ، هِيَ فِعْلٌ وَاحِدٌ اشْتَمَلَ عَلَى حَرَامٍ وَهُوَ الْغَصْبُ، وَحَلَالٍ أَوْ وَاجِبٍ وَهُوَ الصَّلَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ صَلَاةٌ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ.
(1/369)
________________________________________
وَأُجِيبَ عَنِ الْكُلِّ، بِأَنَّ مَعَ النَّظَرِ إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، لَا جِهَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ، ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ بِالْجِهَتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ.
ثُمَّ إِنَّ الْإِخْلَالَ بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ مُبْطِلٌ، وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ شَرْطٌ. وَالتَّقَرُّبُ بِالْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ. وَالْمُخْتَارُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ، نَظَرًا إِلَى جِنْسِهَا، لَا إِلَى عَيْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْكُلِّ» أَيْ: عَنِ الْحُجَجِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ: «بِأَنَّ مَعَ النَّظَرِ إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ لَا جِهَتَيْنِ» .
هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الْمَأْخَذِ السَّابِقِ لِلْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى عَيْنِ هَذِهِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ، لَمْ تَتَحَقَّقِ الْجِهَتَانِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ النَّافِي لِلصِّحَّةِ، إِذَا لَمْ تَتَحَقَّقِ الْجِهَتَانِ، امْتَنَعَ قِيَاسُهَا فِي الصِّحَّةِ عَلَى طَاعَةِ الْعَبْدِ الْخَيَّاطِ وَعِصْيَانِهِ، وَمُرُوقُ السَّهْمِ مِنْ كَافِرٍ إِلَى مُسْلِمٍ، وَاتَّحَدَ مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُوَ عَيْنُ هَذِهِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الصُّوَرِ تَحَقَّقَتْ فِيهِ الْجِهَتَانِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا إِلْزَامٌ عَلَى مَنْ صَحَّحَ هَذِهِ الصَّلَاةَ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْغَصْبِ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ كَمَا قَرَّرْتُمْ، يَلْزَمُ عَلَيْهِ صِحَّةُ «صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ» وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صِيَامِهَا بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ، لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَطْلُوبٌ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِيقَاعُهُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّوْمِ فِيهِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَصِحُّ. وَالْفَرْقُ عَسِيرٌ، وَرُبَّمَا فَرَّقَ
(1/370)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْفِعْلَ أَخَصُّ بِالزَّمَانِ، وَأَلْزَمُ لَهُ مِنَ الْمَكَانِ بِدَلِيلِ انْقِسَامِ الْفِعْلِ بِانْقِسَامِ الزَّمَانِ إِلَى مَاضٍ وَحَالٍ وَمُسْتَقْبَلٍ، وَلَمْ يَنْقَسِمْ بِانْقِسَامِ الْأَمْكِنَةِ، وَالْفِعْلُ وَالزَّمَانُ عَرَضَانِ وَالْمَكَانُ جِسْمٌ، وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يُؤَثِّرَ الزَّمَانُ فِي الْفِعْلِ مِنَ الْبُطْلَانِ لِاخْتِصَاصِهِ بِهِ وَلُزُومِهِ مَا لَا يُؤْثِرُهُ الْمَكَانُ لِعَدَمِ ذَلِكَ، وَهَذَا فَرْقٌ لَكِنْ فِي تَأْثِيرِهِ نَظَرٌ. وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا أَعْنِي: صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ نَفْسُ الصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِيقَاعُ الصَّوْمِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ لَا نَفْسُ الصَّوْمِ، فَلَا تَضَادَّ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ بَعْضُ مُصَحِّحِي هَذِهِ الصَّلَاةِ: لَوْ لَمْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ، لَمَا صَحَّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ مَغْصُوبٍ، لَكِنْ قَدْ صَحَّ هُنَاكَ فَلْتَصِحَّ الصَّلَاةُ هُنَا.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحْكَامَ الْحَجِّ قَدْ دَخَلَهَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ لِصِحَّتِهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ أَحْكَامَ الصَّلَاةِ، حَتَّى قَالُوا: يَلْزَمُ نَفْلُ الْحَجِّ بِالشُّرُوعِ دُونَ نَفْلِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ نَذْرٍ أَوْ عَنْ نَفْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، انْقَلَبَ الْإِحْرَامُ إِلَى فَرْضِهِ، وَإِنَّ الْإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يَزُولُ بِرَفْضِهَا. وَلَمْ يَقُولُوا كَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْحَجِّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّلَاةَ لِلْمَكَانِ أَلْزَمُ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى الْبَعِيرِ إِذْ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى غَيْرِ بَعِيرٍ وَلَا دَابَّةٍ أَصْلًا، وَلَا يُمْكِنُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ مَكَانٍ أَصْلًا.
(1/371)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ إِنَّ الْإِخْلَالَ بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ مُبْطِلٌ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا تَأْكِيدٌ وَتَقْوِيَةٌ لِلْقَوْلِ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا، وَكَوْنُ هَذِهِ الصَّلَاةِ مُعَيَّنَةً مَنْهِيًّا عَنْهَا بِمَا سَبَقَ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ مُخِلٌّ بِشَرْطِ صِحَّتِهَا، إِذِ التَّقَرُّبُ بِالْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ، لِتَنَاقُضِ الْمَعْصِيَةِ وَالْقُرْبَةِ، وَالْإِخْلَالُ بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ مُبْطِلٌ لَهَا، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدِ اخْتَلَّ شَرْطُ صِحَّتِهَا، وَهُوَ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِهَا، فَتَكُونُ بَاطِلَةً.
وَاعْلَمْ: أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّظَرُ إِلَى عَيْنِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ، لَا إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُخْتَارُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ» فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ «نَظَرًا إِلَى جِنْسِهَا» أَيْ: إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ «لَا إِلَى عَيْنِ مَحَلِّ النِّزَاعِ» يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ، وَهُوَ اخْتِيَارٌ لِأَحَدِ الْمَأْخَذَيْنِ السَّابِقَيْنِ.
وَإِنَّمَا اخْتَرْتُ هَذَا الْمَأْخَذَ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الصِّحَّةَ وَالْبُطْلَانَ وَنَحْوَهُمَا أَحْكَامٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كُلِّيَّةٌ، وَالتَّخْصِيصُ وَالتَّعْيِينُ فِيهَا عَارِضٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ مَثَلًا يَفْرِضُ صُورَةَ فِعْلٍ كُلِّيٍّ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِمَا يَرَاهُ، فَيَقُولُ: السَّرِقَةُ فِيهَا الْقَطْعُ، وَالزِّنَى فِيهِ الْحَدُّ، وَالْقَتْلُ فِيهِ الْقَوَدُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَمَّا هَذِهِ السَّرِقَةُ، أَوْ هَذَا الزِّنَى، أَوْ هَذَا الْقَتْلُ الْمُعَيَّنُ، أَوْ سَرِقَةُ زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو أَوْ زِنَاهُمَا أَوْ قَتْلُهُمَا، فَإِنَّمَا عَرَضَ ذَلِكَ ضَرُورَةُ تَعَيُّنِ الْمَحَلِّ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الشَّرْعِ هَاهُنَا إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الصَّلَاةِ الْكُلِّيَّةِ، أَعْنِي صُورَةَ الصَّلَاةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الذِّهْنِ الَّتِي يَصِحُّ صُدُورُهَا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي مَكَانٍ مَغْصُوبٍ
(1/372)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَحِقَهَا حُكْمُ الشَّرْعِ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَصٌّ خَالٍ عَنْ مَعَارِضٍ، وَحِينَئِذٍ تَتَحَقَّقُ الْجِهَتَانِ كَمَا قُلْنَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَاعِدَةَ وُجُوبُ تَصْحِيحِ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ مَا وُجِدَ السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ، خُصُوصًا الْعِبَادَاتُ الَّتِي هِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فَقَوْلُنَا فِي تَصْحِيحِهَا جَارٍ عَلَى الْقَاعِدَةِ، وَقَوْلُ الْخَصْمِ فِي إِبْطَالِهَا خَارِجٌ عَنْهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْقَوَاعِدِ أَوْلَى مِنْ مُخَالَفَتِهَا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً، وَالْغَصْبَ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً، وَالْعِنَايَةُ بِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَشَدَّ مِنَ الْعِنَايَةِ بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَسَاوِيَهَا، لِأَنَّ تَحْصِيلَ الْمَصْلَحَةِ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ، وَدَفْعَ الْمُفْسِدَةِ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ مَا يَعْرِضُ مِنَ الضَّرَرِ بِسَبَبِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَنَحْنُ فِي تَصْحِيحِنَا لِلصَّلَاةِ جَمَعْنَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ:
تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ بِتَصْحِيحِهَا، وَدَفْعِ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ بِتَأْثِيمِ فَاعِلِهِ، وَالْخَصْمُ بِإِبْطَالِ الصَّلَاةِ أَلْغَى تَحْصِيلَ مَصْلَحَتِهَا، فَكَانَ مَا اخْتَرْنَاهُ أَوْلَى.
وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: كَمَا أَنَّ دَفْعَ الْمُفْسِدَةِ مَقْصُودٌ لِمَا يَعْرِضُ مِنْهَا مِنَ الضَّرَرِ كَذَلِكَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ مَقْصُودٌ لِمَا يَعْرِضُ مِنْهُ مِنَ النَّفْعِ، فَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ، فَلَا تَكُونُ الْعِنَايَةُ بِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ أَرْجَحُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ قُلْنَا: إِنْ لَمْ تَكُنِ الْعِنَايَةُ بِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ أَشَدُّ فَلَا أَقَلَّ مِنَ التَّسَاوِي، وَإِذَا تَسَاوَيَا كَانَ تَعْيِينُ دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ،
(1/373)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَحْصِيلُ الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: تَصْحِيحُ الصَّلَاةِ حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَدَفْعُ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ بِإِبْطَالِهَا حَقَّ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَيَنْبَغِي تَرْجِيحُهُ لِمَا عُرِفَ مِنْ مُحَافَظَةِ الشَّرْعِ عَلَى حَقِّهِ لِفَقْرِهِ، وَغِنَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ رُجْحَانَ حَقِّ الْعَبْدِ. وَالْقَاعِدَةُ الَّتِي يَقُولُهَا الْفُقَهَاءُ بَاطِلَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: دَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى وَتَتَحَاصُّ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ وَالدَّيْنُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا تَرْجِيحَ حَقِّ الْعَبْدِ، لَكِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ هُنَا يَحْصُلُ بِتَأْثِيمِ الْغَاصِبِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِبْطَالِ الصَّلَاةِ، غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّ إِبْطَالَ الصَّلَاةِ أَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ حَقِّ الْعَبْدِ بِدَفْعِ مَفْسَدَتِهِ وَحَسْمِ بَابِ الْغَصْبِ عَنْهُ، لَكِنَّ الْأَبْلَغِيَّةَ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهَا وَلَا حَاجَةَ مَعَ مُعَارَضَةِ مَفْسَدَةِ إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ لَهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(1/374)
________________________________________
تَنْبِيهٌ: مُصَحِّحُو هَذِهِ الصَّلَاةِ قَالُوا: النَّهْيُ، إِمَّا رَاجِعٌ إِلَى ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَيُضَادُّ وُجُوبَهُ، نَحْوُ {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} ، أَوْ إِلَى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، نَحْوُ {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} مَعَ «لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ» ، فَلَا يُضَادُّهُ، فَيَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلِكُلٍّ حُكْمُهُ، أَوْ إِلَى وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَطْ، نَحْوَ {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} مَعَ {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} وَ «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» ، وَكَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَكَإِحْلَالِ الْبَيْعِ مَعَ الْمَنْعِ مَعَ الرِّبَا فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«تَنْبِيهٌ» : مِنْ أَصْلِ الْمُخْتَصَرِ. قَوْلُهُ: «مُصَحِّحُو هَذِهِ الصَّلَاةِ» يَعْنِي: الصَّلَاةَ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ. «قَالُوا: النَّهْيُ» إِلَى آخِرِهِ، يَعْنِي: قَالُوا: النَّهْيُ إِمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَوْ إِلَى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ، أَوْ إِلَى وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
فَالرَّاجِعُ إِلَى ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يُضَادُّ وُجُوبَهُ، نَحْوُ: لَا تَقْرَبُوا الزِّنَى، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، وَنَحْوُهُ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ لِأَعْيَانِهَا وَحَقَائِقِهَا، فَإِيجَابُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ مَعَ قِيَامِ النَّهْيِ عَنْهَا مُتَضَادٌّ قَطْعًا، كَمَا لَوْ قَالَ: لَا تَقْرَبُوا الزِّنَى وَقَدْ أَوْجَبْتُهُ عَلَيْكُمْ، إِذْ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَطْلُوبُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ.
وَالنَّهْيُ الرَّاجِعُ إِلَى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الْإِسْرَاءِ: 78] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43] ، مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي النَّهْيِ لِلصَّلَاةِ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مُضَادًّا لِلنَّهْيِ، فَيَصِحَّ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ أَوْ ذَهَبٍ. «لِكُلٍّ» ، أَيْ: وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ «حُكْمُهُ» ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ مُطِيعًا بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا، عَاصِيًا بِلُبْسِ الْحَرِيرِ، وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ.
(1/375)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُنَا: وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي النَّهْيِ لِلصَّلَاةِ احْتِرَازٌ مِمَّا لَوْ تَعَرَّضَ لَهَا فِيهِ بِأَنْ قَالَ: لَا تُصَلِّ فِي ثَوْبٍ حَرِيرٍ، أَوْ لَا تَلْبَسِ الْحَرِيرَ فِي الصَّلَاةِ، إِذْ يَصِيرُ النَّهْيُ رَاجِعًا إِلَى ذَاتِ الصَّلَاةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَإِلَى شَرْطِهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَكِلَاهُمَا مُبْطِلٌ.
وَقَدْ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبِ الْغَصْبِ وَالْحَرِيرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَلْبُوسَاتِ الْمُحَرَّمَةِ، بِنَاءً عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَعَلَّلَ بِالْحُرْمَةِ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ، فَيَحْرُمُ لُبْسُهُ لِذَلِكَ.
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي صَلَاةِ مَنْ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، لِأَنَّهُ ارْتِكَابٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ رُجُوعِ النَّهْيِ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْأَشْبَهُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمَغْصُوبِ، وَبَعْضُهُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ بَعْضٍ.
وَالرَّاجِعُ إِلَى وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَطْ، نَحْوُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43] ، مَعَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النِّسَاءِ: 43] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ، وَكَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ السَّبْعَةِ وَأَوْقَاتِ النَّهْيِ الْخَمْسَةِ، وَكَإِحْلَالِ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [الْبَقَرَةِ: 275] ، مَعَ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آلِ عِمْرَانَ: 130] ، {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [الْبَقَرَةِ: 278] ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا سَيَأْتِي فِي الدَّلِيلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(1/376)
________________________________________
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: هُوَ فَاسِدٌ غَيْرُ بَاطِلٍ، إِعْمَالًا لِدَلِيلَيِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ.
لَنَا: أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، لَيْسَ هَذِهِ الصِّفَةَ، بَلِ الْمَوْصُوفُ بِهَا، وَإِلَّا لَلَزِمَ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ، إِذِ النَّهْيُ عَنْهَا لِوَصْفِهَا، وَهُوَ تَضَمُّنُهَا الْغَرَرَ، لَا لِكَوْنِهَا بَيْعًا، إِذِ الْبَيْعُ مَشْرُوعٌ إِجْمَاعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ» يَعْنِي هَذَا الْمَنْهِيَّ عَنْ وَصْفِهِ «فَاسِدٌ غَيْرُ بَاطِلٍ» ، وَهُوَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى «إِعْمَالًا» أَيْ: فَرَّقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ «إِعْمَالًا لِدَلِيلَيِ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ» وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَظَرَ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَنَحْوِهَا، فَرَآهَا مِنْ حَيْثُ ذَوَاتِهَا مَشْرُوعَةً، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِهَا مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا عَلَى حَالٍ وَوَصْفٍ مَمْنُوعٍ، كَالصَّلَاةِ: هِيَ فِي نَفْسِهَا مَشْرُوعَةٌ، لَكِنَّ إِيقَاعَهَا فِي حَالِ السُّكْرِ وَالْحَيْضِ أَوْ فِي الْأَمَاكِنِ وَالْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَاتِّصَافَهَا بِذَلِكَ هُوَ الْمَمْنُوعُ، وَالْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ مَشْرُوعٌ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ إِيقَاعُهُ عَلَى صِفَةِ الرِّبَا أَوْ مُقْتَرِنًا بِشَرْطٍ فَاسِدٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ بَيْعَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ يَصِحُّ، وَتَلْغُو الزِّيَادَةُ وَتَلْزَمُ بِاتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ، وَيَكُونُ مَكْرُوهًا لِتَعَلُّقِ النَّهْيِ بِوَصْفِهِ وَاتِّصَافِهِ بِالْفَسَادِ وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ مَشْرُوعٌ، وَإِيقَاعُهُ مَعَ الْحَدَثِ مَمْنُوعٌ، وَالطَّلَاقُ مَشْرُوعٌ، وَإِيقَاعُهُ فِي الْحَيْضِ مَمْنُوعٌ، وَالسَّفَرُ مَشْرُوعٌ، وَقَصْدُ الْإِبَاقِ فِيهِ عَنِ السَّيِّدِ مَمْنُوعٌ، فَلِذَلِكَ أَجَازَ التَّرَخُّصَ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ، وَصَحَّحَ طَوَافَ الْمُحْدِثِ، وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ.
قَالَ: فَمَطْلُوبِيَّةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ حَيْثُ ذَوَاتِهَا دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَتَعَلُّقُ النَّهْيِ بِهَا مِنْ
(1/377)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جِهَةِ أَوْصَافِهَا دَلِيلُ الْمَنْعِ، وَإِعْمَالُ الدَّلِيلِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، فَأَعْمَلْنَا الدَّلِيلَيْنِ، وَجَعَلْنَا هَذَا الْقِسْمَ وَاسِطَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَسَمَّيْنَاهُ: الْفَاسِدَ، فَيَصِحُّ لِدَلِيلِ الصِّحَّةِ، لَكِنْ مَعَ ضَعْفٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْضِمَامٍ مُقَوٍّ إِلَيْهِ، كَالْقَبْضِ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ مَعَ كَرَاهَةٍ كَطَوَافِ الْمُحْدِثِ لِدَلِيلِ الْمَنْعِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» أَيْ: عَلَى أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَرْجِعُ النَّهْيُ عَنْهُ إِلَى ذَاتِهِ «أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَيْسَ هَذِهِ الصِّفَةَ بَلِ الْمَوْصُوفُ بِهَا» ، فَلَيْسَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَصْفَ الصَّلَاةِ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي حَالِ السُّكْرِ، وَلَا وَصْفَ الْبَيْعِ بِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى زِيَادَةٍ رِبَوِيَّةٍ، وَلَا وَصْفَ الطَّوَافِ بِوُقُوعِهِ فِي حَالِ الْحَدَثِ، وَنَحْوَهُ مِنَ الصُّوَرِ، بَلِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ نَفْسُ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ حَالَ السُّكْرِ، وَنَفْسُ الْبَيْعِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَنَفْسُ الطَّوَافِ الْوَاقِعِ حَالَ الْحَدَثِ، كَمَا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نَفْسُ الزِّنَى الْوَاقِعِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَرْثِ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَلَزِمَ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِالصِّفَةِ لَلَزِمَ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ بَيْعِهَا إِنَّمَا هُوَ لِصِفَةٍ وَهُوَ تَضَمُّنُهُ الْغَرَرَ، لَا لِكَوْنِهِ بَيْعًا، إِذِ الْبَيْعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَيْعٌ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمَا بَطَلَ بَيْعُ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ بِاتِّفَاقٍ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى جِهَةِ بَيْعٍ
(1/378)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَشْرُوعٍ وَوَصْفٍ مَمْنُوعٍ، وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مَا قَالَ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا تَوَجَّهَ إِلَى الذَّاتِ الْمُتَّصِفَةِ لَا إِلَى صِفَةِ الذَّاتِ، وَقَدْ نَبَّهْتُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّ تَلْخِيصَ مَأْخَذِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّهْيَ فِيهَا عَنِ الْمَوْصُوفِ أَوْ عَنِ الصِّفَةِ.
تَنْبِيهَانِ: اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْأَصْلِ أَدْخَلُ فِي التَّدْقِيقِ وَأَشْبَهُ بِالتَّحْقِيقِ، ثُمَّ لَمَّا تَقَرَّرَ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ، خَرَجَ عَنْ قَاعِدَةِ كُلٍّ مِنْهُمْ بَعْضُ الصُّوَرِ، فَاحْتَاجَ ذَلِكَ إِلَى جَوَابٍ.
أَمَّا مَنْ قَالَ: يَرْجِعُ النَّهْيُ إِلَى الْمَوْصُوفِ لَا إِلَى الصِّفَةِ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ نَحْوُ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، فَإِنَّهُ يُنْفِذُهُ وَيُوقِعُهُ، مَعَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ يَقْتَضِي تَعَلُّقَهُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِهِ لِكَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الدَّلِيلَ لَمَّا قَامَ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، صَرَفْنَا النَّهْيَ عَنْهُ إِلَى مَا يَلْزَمُ مِنْهُ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، جَمْعًا بَيْنَ دَلِيلِ النُّفُوذِ وَاحْتِيَاجِ النَّهْيِ إِلَى مُتَعَلِّقٍ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَرْجِعُ النَّهْيُ إِلَى وَصْفِ الْفِعْلِ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ مِثْلُ صَلَاةِ الْمُحْدِثِ وَالْحَائِضِ، فَإِنَّ دَلِيلَهُ يَقْتَضِي صِحَّتَهَا، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الصَّلَاةَ لِذَاتِهَا مَطْلُوبَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ إِيقَاعُهَا حَالَ الْحَدَثِ وَالْحَيْضِ.
فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ، فَانْتَفَتْ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا بِالْحَدَثِ وَالْحَيْضِ، بِخِلَافِ طَوَافِ الْمُحْدِثِ، إِذْ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ لِلطَّوَافِ.
(1/379)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَذَلِكَ يَتَأَتَّى الْجَوَابُ عَنْ لُحُوقِ النَّسَبِ فِي الزِّنَى، حَيْثُ كَانَ طَلَبُ الْوَلَدِ بِالْوَطْءِ مَشْرُوعًا، وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ إِيقَاعُهُ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُلْحَقَ.
فَيُقَالُ: دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ لُحُوقِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ شَرْعًا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، فَانْتَفَى اللُّحُوقُ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ.
قُلْتُ: وَحَاصِلُ الْأَمْرِ يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ الْقَوَاعِدِ بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ جَائِزٌ، كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ.
نَعَمْ قَدْ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِقِلَّةِ التَّخْصِيصِ، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَأَيُّ الْمَذْهَبَيْنِ كَانَ التَّخْصِيصُ عَلَيْهِ أَقَلَّ كَانَ رَاجِحًا، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءِ فُرُوعِ الْقَاعِدَةِ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلِي فِي «الْمُخْتَصَرِ» : «أَوْ إِلَى وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَطْ» ، مَعَ قَوْلِي بَعْدَ ذَلِكَ: «إِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَيْسَ هَذِهِ الصِّفَةَ بَلِ الْمَوْصُوفُ بِهَا» ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ، لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْمَوْصُوفَ لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ رَاجِعًا إِلَى وَصْفِهِ فَقَطْ.
وَإِنَّمَا تَابَعْتُ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ وَهُوَ تَابَعَ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ، وَمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَاهُ جَمِيعًا، وَإِذَا تَأَمَّلْتَهُ أَنْتَ عَرَفْتَهُ، وَلَمْ أَتَنَبَّهْ لِهَذَا إِلَّا الْآنَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلِي فِيهِ: «وَإِلَّا لَلَزِمَ صِحَّةُ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ إِذِ النَّهْيُ عَنْهَا لِوَصْفِهَا وَهُوَ تَضَمُّنُهَا الْغَرَرَ» . الصَّوَابُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إِذِ النَّهْيُ عَنْهُ لِوَصْفِهِ وَهُوَ تَضَمُّنُهُ
(1/380)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْغَرَرَ رَدًّا لِلضَّمِيرِ إِلَى الْبَيْعِ لَا إِلَى الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ، وَالْأَمْرُ فِي هَذَا أَقْرَبُ، وَالْمَضَامِينُ: مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ مِنَ الْمَاءِ، وَالْمَلَاقِيحُ: مَا فِي بُطُونِ النُّوقِ مِنَ الْأَجِنَّةِ، الْوَاحِدُ مَلْقُوحَةٌ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْجَوْهَرِيُّ.
(1/381)
________________________________________
الْمَكْرُوهُ: ضِدُّ الْمَنْدُوبِ. وَهُوَ مَا مُدِحَ تَارِكُهُ، وَلَمْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ.
وَقِيلَ: مَا تَرَجَّحَ تَرْكُهُ عَلَى فِعْلِهِ، مِنْ غَيْرِ وَعِيدٍ فِيهِ.
وَقِيلَ: مَا تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، كَذَلِكَ. وَمَعَانِيهَا وَاحِدَةٌ.
وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِانْقِسَامِ النَّهْيِ إِلَى كَرَاهَةٍ وَحَظْرٍ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِتَنَافِيهِمَا.
وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرَامِ، كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُتَوَضَّأَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَعَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى. وَإِطْلَاقُ الْكَرَاهَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى التَّنْزِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«قَوْلُهُ: الْمَكْرُوهُ ضِدُّ الْمَنْدُوبِ» قُلْتُ: يَظْهَرُ تَضَادُّهُمَا مِنْ حُدُودِهِمَا عَلَى مَا مَضَى فِي الْمَنْدُوبِ وَذُكِرَ هُنَا.
وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ تَقْسِيمِ الْخِطَابِ إِلَى الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ: هُوَ الْمَأْمُورُ غَيْرُ الْجَازِمِ، وَالْمَكْرُوهَ: الْمَنْهِيُّ غَيْرُ الْجَازِمِ، فَالْمَنْدُوبُ قَسِيمُ الْوَاجِبِ فِي الْأَمْرِ، وَالْمَكْرُوهُ قَسِيمُ الْحَرَامِ فِي النَّهْيِ، فَتَحَقَّقَتِ الضِّدِّيَّةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَادَّةِ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتِهِمَا وَمَادَّتِهِمَا، وَالْمَنْهِيُّ وَالْمَكْرُوهُ مَا نَفَرَ عَنْهُ الطَّبْعُ وَالشَّرْعُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكَرِيهَةُ: الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْكُرْهُ بِالضَّمِّ: الْمَشَقَّةُ.
قُلْتُ: فَيَجُوزُ اشْتِقَاقُ الْمَكْرُوهِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الطَّبْعَ وَالشَّرْعَ لَا يُنَفِّرَانِ إِلَّا عَنْ
(1/382)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شِدَّةٍ وَمَشَقَّةٍ بِحَسَبِ حَالِهِمَا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْمَكْرُوهَ «مَا مُدِحَ تَارِكُهُ وَلَمْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ» فَمَا مُدِحَ تَارِكُهُ يَتَنَاوَلُ الْحَرَامَ. وَبِقَوْلِنَا: «وَلَمْ يُذَمَّ فَاعِلُهُ» يَخْرُجُ الْحَرَامُ، لِأَنَّ فَاعِلَهُ مَذْمُومٌ.
«وَقِيلَ: مَا تَرَجَّحَ تَرْكُهُ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ وَعِيدٍ فِيهِ» وَبِهَذَا الْقَيْدِ الْأَخِيرِ أَيْضًا يَخْرُجُ الْحَرَامُ.
«وَقِيلَ: مَا تَرْكُهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ» وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يَتَنَاوَلُ الْحَرَامَ، لِأَنَّ تَرْكَهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ، لَكِنْ إِنَّمَا قَيَّدْتُهُ بِقَوْلِي، «كَذَلِكَ» أَيْ: مِنْ غَيْرِ وَعِيدٍ فِي فِعْلِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَدِّ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ مَا تَرَجَّحَ تَرْكُهُ عَلَى فِعْلِهِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ.
قَوْلُهُ: «وَمَعَانِيهَا وَاحِدَةٌ» أَيْ: مَعَانِي هَذِهِ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لِلْمَكْرُوهِ وَاحِدَةٌ لِاشْتِرَاكِ جَمِيعِهَا فِي أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا الْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْمَكْرُوهَ «مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِانْقِسَامِ النَّهْيِ إِلَى كَرَاهَةٍ وَحَظْرٍ» ، وَمَوْرِدُ الْقِسْمَةِ مُشْتَرِكٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَيَتَّجِهُ فِي كَوْنِ الْمَكْرُوهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ مَا اتَّجَهَ فِي كَوْنِ الْمَنْدُوبِ مَأْمُورًا بِهِ، لِأَنَّهُ مُقَابِلُهُ وَفِي وِزَانِهِ.
قَوْلُهُ: «فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِتَنَافِيهِمَا» . هَذِهِ الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ، أَيْ: لَمَّا كَانَ الْمَكْرُوهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ، فَكَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ هُوَ السَّبَبُ فِي عَدَمِ
(1/383)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَنَاوُلِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ لَهُ لِتَنَافِيهِمَا، أَيْ: لِتَنَافِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إِيجَادَ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيَ الصَّادِقَ عَلَى الْكَرَاهَةِ يَقْتَضِي الْكَفَّ عَنِ الْفِعْلِ بِالْجُمْلَةِ فَيَتَنَافَيَانِ. فَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ بِالصَّلَاةِ لَا يَتَنَاوَلُ الصَّلَاةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى السَّدْلِ وَالتَّخَصُّرِ وَرَفْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ وَاشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَالِالْتِفَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَكْرُوهَاتِ فِيهَا، وَالْأَمْرُ بِالطَّوَافِ لَا يَتَنَاوَلُ طَوَافَ الْمُحْدِثِ عِنْدَ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ لَهُ الْوُضُوءَ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرَامِ» أَيِ: الْمَكْرُوهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْحَرَامِ «كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَيُكْرَهُ أَنْ يُتَوَضَّأَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» أَيْ: يَحْرُمُ لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ صَلَّى صَلَاةً بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ كَرِهْنَا لَهُ ذَلِكَ وَلَا يُعِيدُ، أَيِ: الْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ أَوْ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا تَرَكَ ذَلِكَ الْأَوْلَى. قَالَ الْآمِدِيُّ: قَدْ يُطْلَقُ الْمَكْرُوهُ عَلَى الْحَرَامِ وَعَلَى مَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَتَرَدُّدٌ وَعَلَى تَرْكِ مَا فِعْلُهُ رَاجِحٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ تَرْكُ الْأَوْلَى كَمَا ذَكَرْنَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَنْفِرُ مِنْهَا النَّفْسُ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَإِطْلَاقُ الْكَرَاهَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى التَّنْزِيهِ» أَيْ: إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْمَكْرُوهِ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، وَانْصَرَفَ إِلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَكْرُوهُ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ
(1/384)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَحْظُورِ، وَهُوَ مَا تَرَجَّحَ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ وَعِيدٍ فِيهِ إِلَى أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَصْرِفُهُ إِلَى التَّحْرِيمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا لَفْظُ الْكَرَاهَةِ وَمَعْنَاهَا التَّحْرِيمُ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى إِرَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ إِطْلَاقَ الْكَرَاهَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى التَّنْزِيهِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ كَمَا ذَكَرْنَا خَمْسَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَدْ خُصَّ بِاسْمٍ غَلَبَ عَلَيْهِ، كَالْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْحَرَامِ وَالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ اخْتِصَاصَ مُسَمَّى الْمَكْرُوهِ بِاسْمِهِ الْغَالِبِ عَلَيْهِ أُسْوَةً بِبَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَلَا مَعْنَى لِغَلَبَةِ اسْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ إِلَى مُسَمَّاهُ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ.
(1/385)
________________________________________
الْمُبَاحُ: مَا اقْتَضَى خِطَابُ الشَّرْعِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، مِنْ غَيْرِ مَدْحٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَلَا ذَمٍّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْمُبَاحُ» إِلَى آخِرِهِ، اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى أَقْسَامِ اقْتِضَاءِ الْخِطَابِ فِعْلًا أَوْ كَفًّا، وَهِيَ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمَحْظُورُ وَالْمَكْرُوهُ، أَخَذَ يُبَيِّنُ قِسْمَ تَخْيِيرِ الْخِطَابِ وَهُوَ الْمُبَاحُ.
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَهِيَ الْإِظْهَارُ، يُقَالُ: بَاحَ بِسِرِّهِ، إِذَا: أَظْهَرَهُ، وَقِيلَ: مِنْ بَاحَةِ الدَّارِ وَهِيَ سَاحَتُهَا، وَفِيهِ مَعْنَى السِّعَةِ وَانْتِفَاءِ الْعَائِقِ، لِأَنَّ السَّاحَةَ تَتَّسِعُ لِلتَّصَرُّفِ فِيهَا بِالسَّعْيِ وَالْحَرَكَةِ بِحَسْبِهَا، وَالْعَائِقُ مِنْ ذَلِكَ مُنْتَفٍ فِيهَا.
أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهُوَ: «مَا اقْتَضَى خِطَابُ الشَّرْعِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ مَدْحٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ وَلَا ذَمٍّ» أَيْ: مِنْ غَيْرِ مَدْحٍ يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى خِطَابِ الشَّارِعِ بِالتَّخْيِيرِ فِيهِ «مِنْ غَيْرٍ بَدَلٍ» .
قُلْتُ: احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ «مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ» مِنَ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ وَالْمُخَيَّرِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ لَاحِقٌ لَهَا، لَكِنْ بِشَرْطِ الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ كَمَا سَبَقَ.
(1/386)
________________________________________
وَهُنَا مَسْأَلَتَانِ:
الْأُولَى: الْمُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ. لَنَا: الْأَمْرُ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ، وَلَا تَرْجِيحَ فِي الْمُبَاحِ. قَالَ: الْمُبَاحُ تَرْكُ الْحَرَامِ، وَهُوَ وَاجِبٌ، فَالْمُبَاحُ وَاجِبٌ. قُلْنَا: يَسْتَلْزِمُهُ، وَيَحْصُلُ بِهِ، لَا أَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ. ثُمَّ يُتْرَكُ الْحَرَامُ بِبَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ، فَلْتَكُنْ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ. وَهُوَ بَاطِلٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَهُنَا " أَيْ: فِي الْمُبَاحِ، " مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: الْمُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ " عِنْدَ الْجُمْهُورِ " خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ " مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِ.
وَقَوْلُهُ: " لَنَا " إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ " الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ " أَيْ: تَرْجِيحَ إِيجَادِ الْفِعْلِ، " وَلَا تَرْجِيحَ فِي الْمُبَاحِ " أَمَّا أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ، فَلِأَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ، وَالطَّلَبُ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ، وَإِلَّا كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى اقْتِضَاءِ إِيجَادِ الْفِعْلِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: افْعَلْ كَذَا، يُفْهَمُ مِنْهُ اقْتِضَاءُ إِيجَادِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لُغَةً وَعُرْفًا، فَلَوْ كَانَتْ دَلَالَةُ قَوْلِهِ: " افْعَلْ " عَلَى إِيجَادِ الْفِعْلِ وَعَدَمِهِ سَوَاءً، لَكَانَ فَهْمُ اقْتِضَاءِ الْإِيجَادِ دُونَ عَدَمِهِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا تَرْجِيحَ فِي الْمُبَاحِ، فَلَمَّا مَرَّ فِي حَدِّهِ مِنْ أَنَّهُ خِطَابُ تَخْيِيرٍ وَتَسْوِيَةٍ بَيْنَ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ، وَذَلِكَ لَا رُجْحَانَ فِيهِ.
(1/387)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ - وَلَا تَرْجِيحَ فِي الْمُبَاحِ - لَزِمَ أَنَّ الْمُبَاحَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، فَالْمُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ.
وَيَنْتَظِمُ شَكْلُ الدَّلِيلِ هَكَذَا: الْمُبَاحُ لَا تَرْجِيحَ فِيهِ، وَكُلُّ مَا لَا تَرْجِيحَ فِيهِ فَهُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، فَالْمُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ. أَوْ هَكَذَا: الْمَأْمُورُ يَسْتَلْزِمُ التَّرْجِيحَ، وَكُلُّ مَا اسْتَلْزَمَ التَّرْجِيحَ، فَلَيْسَ بِمُبَاحٍ اصْطِلَاحِيٍّ، فَالْمَأْمُورُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ اصْطِلَاحِيٍّ، ثُمَّ تَنْعَكِسُ كِلْتَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمُبَاحُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ.
قَوْلُهُ: " قَالَ " يَعْنِي: الْكَعْبِيَّ مُحْتَجًّا عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ.
وَتَقْرِيرُ حُجَّتِهِ: أَنَّ الْمُبَاحَ تَرْكُ حَرَامٍ وَهُوَ " أَيْ: تَرْكُ الْحَرَامِ " وَاجِبٌ " فَالْمُبَاحُ وَاجِبٌ. أَمَّا أَنَّ الْمُبَاحَ تَرْكُ حَرَامٍ، فَلِأَنَّهُ مَا مِنْ مُبَاحٍ إِلَّا وَالتَّلَبُّسُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ مُحَرَّمٍ، بَلْ مُحَرَّمَاتٍ، كَشُرْبِ الْمَاءِ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ، وَالتَّنَزُّهِ فِي الْأَمَاكِنِ بِالْمَشْيِ وَالْحَرَكَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الزِّنَى وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَقَطْعَ الطَّرِيقِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَأَمَّا أَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، فَبِاتِّفَاقٍ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا يَسْتَلْزِمُهُ " إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابُ حُجَّةِ الْكَعْبِيِّ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُبَاحَ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْحَرَامِ، وَيَحْصُلُ بِهِ تَرْكُ الْحَرَامِ، لَا أَنَّ الْمُبَاحَ هُوَ تَرْكُ الْحَرَامِ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ تَرْكَ الشَّيْءِ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَهُ، لِيَصِحَّ قَصْدُ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ فِعْلَهُ يَسْتَلْزِمُ تَصَوُّرَهُ، لِيَصِحَّ قَصْدُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فَاعِلَ الْمُبَاحِ قَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ تَرْكِ الْحَرَامِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ فَضْلًا عَنْ تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْحَرَامِ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْمُبَاحِ هُوَ عَيْنُ تَرْكِ الْحَرَامِ؟
وَنَحْنُ ذَكَرْنَا هَذَا تَقْرِيرًا لِدَعْوَانَا، وَإِلَّا فَالْكَعْبِيُّ قَدْ كَفَانَا مُؤْنَةَ ذَلِكَ بِمُوَافَقَتِهِ
(1/388)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِ حُجَّتِهِ: مَا مِنْ مُبَاحٍ إِلَّا وَالتَّلَبُّسُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ حَرَامٍ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: تَرْكُ الْحَرَامِ لَازِمٌ لِفِعْلِ الْمُبَاحِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّازِمِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ الْمَلْزُومُ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قَالَ: أَنَا لَا أَدَّعِي وُجُوبَ الْمُبَاحِ لِذَاتِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِلْزَامُهُ الْوَاجِبَ، وَكَوْنُهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ.
قُلْنَا: رَجَعَ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا لِأَنَّا لَا نُنَازِعُكَ فِي وُجُوبِهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، فَأَنْتَ تَقُولُ: الْمُبَاحُ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَيْسَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ قَدْ يُتْرَكُ الْحَرَامُ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا إِلْزَامٌ لِلْكَعْبِيِّ عَلَى مَذْهَبِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ إِنْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ مَأْمُورًا بِهِ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ يُتْرَكُ بِهِ الْحَرَامُ، لَزِمَ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُتْرَكُ بِهِ الْحَرَامُ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ كَالْمَكْتُوبَةِ مَثَلًا إِذْ يُتْرَكُ بِهَا الزِّنَى وَاجِبًا، وَالْمَنْدُوبُ كَالسِّوَاكِ، إِذْ يُتْرَكُ بِهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَاجِبًا، وَالْحَرَامُ كَشُرْبِ الْخَمْرِ مَثَلًا، إِذْ يُتْرَكُ بِهِ اللِّوَاطُ وَسَائِرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَاجِبًا وَهُوَ بَاطِلٌ. إِذْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْدُوبُ وَالْحَرَامُ وَاجِبًا، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ وَاجِبًا مَرَّتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ وُجُوبِهِ فِي نَفْسِهِ، وَمِنْ جِهَةِ تَرْكِ الْحَرَامِ بِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا قَدِ الْتَزَمَهُ الْكَعْبِيُّ.
وَإِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ بِمَا ذَكَرْنَا، فَلَيْسَ الْتِزَامُ ذَلِكَ مُحَالًا وَلَا
(1/389)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعِيدًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْجِهَتَيْنِ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ وَاجِبًا مَرَّتَيْنِ مِنْ جِهَتَيْنِ، وَالسِّوَاكُ مَنْدُوبًا وَاجِبًا مِنْ جِهَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ الْحَرَامُ أَوِ الْمَكْرُوهُ وَاجِبًا مِنْ جِهَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ مَا أَلْزَمُوهُ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ خَمْسَةٌ، وَعَلَى قَوْلِكَ: إِنَّ الْمُبَاحَ وَاجِبٌ تَكُونُ أَرْبَعَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ، لِأَنَّهُ حَمَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَوَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْ جِهَةِ تَحَقُّقِهَا فِي أَنْفُسِهَا، أَمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ التَّلَبُّسَ بِهَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْحَرَامِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ، فَهِيَ أَرْبَعَةٌ. بَلْ هِيَ حُكْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْوَاجِبُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ يُلَاحِظُ الْجِهَتَيْنِ، فَيَصِحُّ قَوْلُهُ، وَيَصِيرُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
(1/390)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: الِانْتِفَاعُ بِالْأَعْيَانِ قَبْلَ الشَّرْعِ، عَلَى الْإِبَاحَةِ عِنْدَ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى الْحَظْرِ عِنْدَ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَعَلَى الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْخَرَزِيِّ وَالْوَاقِفِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ» : يَعْنِي مِنْ مَسْأَلَتَيِ الْمُبَاحِ «الِانْتِفَاعُ بِالْأَعْيَانِ قَبْلَ» وُرُودِ «الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ» أَيْ: عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ مَحْكُومٌ بِإِبَاحَتِهِ «عِنْدَ» أَبِي الْحَسَنِ «التَّمِيمِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ» مِنْ أَصْحَابِنَا «وَ» عِنْدَ «الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ» يَعْنِي الِانْتِفَاعَ بِالْأَعْيَانِ «عَلَى الْحَظْرِ» وَهُوَ الْمَنْعُ «عِنْدَ» أَبِي عَبْدِ اللَّهِ «ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي» أَبِي يَعْلَى «وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ» ، وَهُوَ - أَعْنِي الِانْتِفَاعَ - «عَلَى الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْخَرَزِيِّ» مِنْ أَصْحَابِنَا «وَالْوَاقِفِيَّةِ» وَهُمُ الَّذِينَ يَقِفُونَ فِي الْأَحْكَامِ عِنْدَ تَجَاذُبِ الْأَدِلَّةِ لَهَا.
هَذَا نَقْلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْقَصَّارِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِالْحَظْرِ مُطْلَقًا الْأَبْهَرِيُّ مِنْهُمْ أَيْضًا.
أَمَّا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، فَحَكَى عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ فِيمَا لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فِيهِ مِنَ الْأَفْعَالِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: الْإِبَاحَةُ وَالْحَظْرُ وَالْوَقْفُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ فِرَقِهِمْ.
وَالْآمِدِيُّ حَقَّقَ هَذَا النَّقْلَ وَفَصَّلَهُ فَقَالَ: الْمُعْتَزِلَةُ قَسَّمُوا الْأَفْعَالَ الِاخْتِيَارِيَّةَ إِلَى مَا حَسَّنَهُ الْعَقْلُ، فَمِنْهُ وَاجِبٌ وَمِنْهُ مَنْدُوبٌ وَمِنْهُ مُبَاحٌ، وَإِلَى مَا قَبَّحَهُ الْعَقْلُ، فَمِنْهُ حَرَامٌ، وَمِنْهُ مَكْرُوهٌ، وَإِلَى مَا لَمْ يَقْضِ الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ وَاجِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُحَرَّمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ.
قُلْتُ: هَذَا بَعْضُ مَا نُقِلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ مِنْ فُرُوعِ تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ لِنَتَكَلَّمْ عَلَى أَدِلَّةِ «الْمُخْتَصَرِ» .
(1/391)
________________________________________
الْمُبِيحُ: خَلْقُهَا لَا لِحِكْمَةٍ عَبَثٌ، وَلَا حِكْمَةَ إِلَّا انْتِفَاعُنَا بِهَا إِذْ هُوَ خَالٍ عَنْ مَفْسَدَةٍ كَالشَّاهِدِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْمُبِيحُ» ، أَيِ، احْتَجَّ الْقَائِلُ بِإِبَاحَةِ الْأَفْعَالِ فِي الْأَعْيَانِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِأَنْ قَالَ: «خَلْقُهَا لَا لِحِكْمَةٍ عَبَثٌ» إِلَى آخِرِهِ.
وَتَقْرِيرُ حُجَّتِهِ أَنَّ خَلْقَ الْأَعْيَانِ لِغَيْرِ حِكْمَةٍ عَبَثٌ، وَالْبَارِئُ جَلَّ جَلَالُهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَبَثِ، «وَلَا حِكْمَةَ» فِي خَلْقِهَا «إِلَّا انْتِفَاعُنَا بِهَا» فَيَكُونُ مُبَاحًا، لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ خَالٍ عَنْ مَفْسَدَةٍ كَمَا فِي الشَّاهِدِ، أَيِ: الْحُكْمُ الْمُشَاهَدُ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُوَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ الْخَالِي عَنْ مَفْسَدَةٍ مُبَاحٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ، كَالِاسْتِظْلَالِ بِجِدَارِ الْغَيْرِ وَالِاسْتِضَاءَةِ بِنَارِهِ.
أَمَّا أَنَّ خَلْقَ الْأَعْيَانِ لِغَيْرِ حِكْمَةٍ عَبَثٌ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ لَهُ عَبَثٌ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعَبَثِ هُوَ الْفِعْلُ الْخَالِي عَنْ حِكْمَةٍ أَوْ خُلُوِّ الْفِعْلِ عَنْ حِكْمَةٍ، وَأَمَّا أَنَّ الْبَارِئَ جَلَّ جَلَالُهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْعَبَثِ فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 115] ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ حُسْبَانَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ وَلَا لِفَائِدَةٍ، وَالْعَبَثُ فِي اللُّغَةِ: اللَّعِبُ، بَلْ إِنَّمَا خَلَقَهُمْ لِحِكْمَةٍ، وَهِيَ الِامْتِحَانُ بِالتَّكْلِيفِ ثُمَّ الْجَزَاءُ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمْ فِي الْمَعَادِ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [الْمُؤْمِنُونَ: 116] ، أَيْ: عَمَّا ظَنَنْتُمُوهُ مِنَ الْعَبَثِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا حِكْمَةَ فِي خَلْقِهَا إِلَّا انْتِفَاعُنَا بِهَا، فَلِأَنَّ الْعَقْلَ وَالْعُرْفَ جَارِيَانِ بِأَنَّ الْحَكِيمَ إِذَا بَنَى دَارًا، وَمَلَأَهَا مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَأَنْوَاعِ مَا
(1/392)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُسْتَمْتَعُ بِهِ، وَدَعَا إِلَيْهَا النَّاسَ، أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ وَالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَمُ الْحُكَمَاءِ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا دَارُهُ وَمُلْكُهُ، وَالْخَلْقُ ضُيُوفُهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِذْنًا لَهُمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا هُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا أَنَّهُ انْتِفَاعٌ خَالٍ عَنْ مَفْسَدَةٍ، فَلِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ إِمَّا لُحُوقُ الضَّرَرِ بِالْمُنْتَفِعِ أَوْ بِالْمَالِكِ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ. أَمَّا الْمُنْتَفِعُ، فَلِأَنَّ تَضَرُّرَهُ إِمَّا مِنْ جِهَةِ انْتِفَاعِهِ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا، وَأَمَّا الْمَالِكُ، فَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلُحُوقُ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ لَهُ مُحَالٌ.
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْأَعْيَانِ قَبْلَ الشَّرْعِ مُبَاحٌ.
(1/393)
________________________________________
وَرُدَّ، بِأَنَّ أَفْعَالَهُ تَعَالَى لَا تُعَلَّلُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ صَبْرَ الْمُكَلَّفِ عَنْهَا فَيُثَابُ، وَخُلُوُّهُ عَنْ مَفْسَدَةٍ مَمْنُوعٌ، إِذْ هُوَ تَصَرُّفٌ فِي مُلْكِ الْغَيْرِ كَالشَّاهِدِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: رُدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ وَأُبْطِلَ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِالْأَغْرَاضِ وَالْعِلَلِ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ: خَلْقُهَا لَا لِحِكْمَةٍ عَبَثٌ، بَلْ أَفْعَالُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا تُعَلَّلُ، فَجَازَ أَنَّهُ خَلَقَهَا كَمَا شَاءَ، وَتَعَبَّدَنَا بِاجْتِنَابِهَا تَعَبُّدًا مَحْضًا.
سَلَّمْنَا أَنَّ أَفْعَالَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُعَلَّلَةٌ، وَأَنْ لَابُدَّ لَهَا مِنْ حِكْمَةٍ ظَاهِرَةٍ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ الْحِكْمَةِ فِي انْتِفَاعِنَا بِهَا، بَلْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِهَا امْتِحَانَ الْمُكَلَّفِ بِالصَّبْرِ عَنْهَا لِيُثَابَ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [مُحَمَّدٍ: 31] ، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الْإِنْسَانِ: 12] ، أَيْ: بِمَا صَبَرُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ وَعَلَى الطَّاعَاتِ.
وَأَمَّا خُلُوُّ الِانْتِفَاعِ بِهَا عَنْ مَفْسَدَةٍ فَمَمْنُوعٌ، بَلْ فِيهِ مَفْسَدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: بُطْلَانُ مَقْصُودِ الِامْتِحَانِ الْمَذْكُورِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مُلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، مَحْظُورًا كَالشَّاهِدِ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ طَعَامِ غَيْرِهِ أَوْ شُرْبُ شَرَابِهِ، أَوْ رُكُوبُ دَابَّتِهِ أَوْ لُبْسُ ثَوْبِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَكَذَلِكَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
(1/394)
________________________________________
الْحَاظِرُ: تَصَرُّفٌ فِي مُلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَحَرُمَ، كَالشَّاهِدِ، ثُمَّ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ خَطَرٌ، فَالْإِمْسَاكُ أَحْوَطُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْحَاظِرُ» أَيِ: احْتَجَّ الْقَائِلُ بِالْحَظْرِ بِأَنْ قَالَ: «تَصَرُّفٌ» أَيِ: الِانْتِفَاعُ الْمَذْكُورُ، تَصَرُّفٌ «فِي مُلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَحَرُمَ كَالشَّاهِدِ» وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى حُجَّةِ الْمُبِيحِ آنِفًا.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْإِقْدَامُ» ، إِلَى آخِرِهِ. حُجَّةٌ أُخْرَى عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَظْرِ، وَتَقْرِيرُهَا أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذَا الِانْتِفَاعِ خَطَرٌ أَيْ: مُخَاطَرَةٌ بِالنَّفْسِ، فَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ أَحْوَطُ لَهَا فِي الْعَقْلِ.
أَمَّا أَنَّهُ خَطَرٌ، فَلِأَنَّ بِتَقْدِيرِ الْحِلِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَكُونُ أَمَنَةً مِنَ الْعَذَابِ، وَبِتَقْدِيرِ التَّحْرِيمِ يَكُونُ مَعْرَضَةً لَهُ، فَهَذَا وَجْهُ الْمُخَاطَرَةِ وَهُوَ رُكُوبُ أَمْرٍ يَلْحَقُ فِيهِ الضَّرَرُ عَلَى بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْإِمْسَاكَ عَنِ الِانْتِفَاعِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ أَحْوَطَ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، فَهُوَ مِنَ الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَعُرْفًا، وَهُوَ غَنِيٌّ بِذَاتِهِ عَنْ بَيَانٍ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْحُجَّتَيْنِ أَنَّ الِانْتِفَاعَ الْمَذْكُورَ مَحْظُورٌ.
(1/395)
________________________________________
وَرُدَّ، بِأَنَّ مَنْعَ التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِ الْغَيْرِ ثَبَتَ بِالشَّرْعِ، وَالْكَلَامُ قَبْلَهُ، ثُمَّ الْمَنْعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَالِاحْتِيَاطُ مَعَارِضٌ بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ عَلَى سِمَاطِ الْمَلِكِ يُعَدُّ مُبَخِّلًا لَهُ، مُفْتَاتًا مُتَكَبِّرًا عَلَيْهِ، فَالْإِقْدَامُ أَحْوَطُ، أَوْ مُسَاوٍ، فَلَا تَرْجِيحَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» ، يَعْنِي: احْتِجَاجَ الْحَاظِرِ بِمَا ذَكَرَهُ.
أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، أَيْ: قِيَاسِ أَحْكَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَحْكَامِ الْخَلْقِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّ مَنْعَ التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ الْقِيَاسِ اتِّحَادُ بَابِ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ، فَإِنِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ مَنْعَ التَّصَرُّفِ فِيمَا بَيْنَ الْخَلْقِ عَقْلِيٌّ مَنَعْنَاهُ، إِذْ لَا مَدْرَكَ لِلْأَحْكَامِ عِنْدَنَا إِلَّا الشَّرْعُ، وَالْعَقْلُ عَنْ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ، وَإِنْ سَلَّمْتُمْ أَنَّهُ شَرْعِيٌّ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ عَقْلِيٌّ عِنْدَكُمْ، وَمَا بَعْدَهُ شَرْعِيٌّ، فَاخْتَلَفَ الْبَابَانِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَاسُ مَثَلًا عَقْلِيٌّ عَلَى عَقْلِيٍّ، أَوْ شَرْعِيٌّ عَلَى شَرْعِيٍّ، أَوْ عَادِيٌّ عَلَى عَادِيٍّ، أَمَّا قِيَاسُ بَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ عَلَى بَعْضٍ فَلَا يَصِحُّ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْمَنْعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَتَضَرَّرُ بِهِ» هَذَا جَوَابٌ آخَرُ عَنِ الْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْفَرْقِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مُلْكِ الْغَيْرِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ وَيَتَحَقَّقُ مُقْتَضِيهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ يَتَضَرَّرُ بِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الشَّاهِدِ دُونَ الْغَائِبِ، فَإِنَّ
(1/396)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَتَضَرَّرُ بِاسْتِهْلَاكِ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ الْإِلْحَاقُ وَيَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لِلْحَاظِرِ، فَالِاحْتِيَاطُ فِيهَا مُعَارِضٌ بِمَا يُبْطِلُ دَلَالَتَهُ، وَهُوَ أَنَّ مَلِكًا مِنَ الْمُلُوكِ لَوْ مَدَّ سِمَاطًا، وَدَعَا إِلَيْهِ النَّاسَ، فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْأَكْلِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ طَبْعًا، عُدَّ ذَلِكَ الْمُمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ مُبَخِّلًا لِلْمَلِكِ، أَيْ: مُعْتَقِدًا بُخْلَهُ مُفْتَاتًا مُتَكَبِّرًا عَلَيْهِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَّةً وَيَدًا عُلْيَا، وَذَلِكَ أَيْضًا خَطَرٌ، إِذْ فَاعِلُهُ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ وَالْإِهَانَةَ عَقْلًا وَعُرْفًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ خَلْقِهِ، كَمَلِكٍ دَعَا النَّاسَ إِلَى سِمَاطِهِ، فَيَكُونُ الْإِقْدَامُ عَلَى الِانْتِفَاعِ أَحْوَطَ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَنْهُ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا تَرْجِيحَ لِلْحَظْرِ، وَالْحَاظِرُ فِي مَقَامِ تَرْجِيحِهِ مُحَاوِلًا لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ لَهُ رُجْحَانُهُ، بَطَلَ احْتِجَاجُهُ.
(1/397)
________________________________________
الْوَاقِفُ: الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ مِنَ الشَّرْعِ، فَلَا حُكْمَ قَبْلَهُ، وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لَا حَاكِمٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْوَاقِفُ» أَيْ: حُجَّةُ الْوَاقِفِ عَلَى تَوَقُّفِهِ عَنِ الْجَزْمِ بِإِبَاحَةٍ أَوْ حَظْرٍ، هُوَ أَنَّ «الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ مِنَ الشَّرْعِ فَلَا حُكْمَ قَبْلَهُ» .
أَمَّا أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ مِنَ الشَّرْعِ، فَلِأَنَّ مَعْنَى الْحَظْرِ قَوْلُ الشَّارِعِ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ هَذَا، أَوْ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ، وَمَعْنَى الْإِبَاحَةِ قَوْلُهُ: أَبَحْتُ لَكُمْ هَذَا، أَوْ أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَهُ، فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَبِالضَّرُورَةِ إِذْ لَا حَاكِمَ، فَلَا حُكْمَ، وَإِذْ لَا قَائِلَ، فَلَا قَوْلَ.
قَوْلُهُ: «وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لَا حَاكِمٌ» ، هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ الشَّرْعِ، بَلْ قَدْ جَازَ أَنْ يَصْدُرَا عَنِ الْعَقْلِ قَبْلَ الشَّرْعِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ.
فَأَجَبْتُ: بِأَنَّ هَذَا بِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ قَبْلَ الشَّرْعِ حَاكِمٌ، وَنَحْنُ نَمْنَعُ
(1/398)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعَرِّفٌ، أَيْ: هَادٍ وَمُرْشِدٌ إِلَى فَهْمِ الْخِطَابِ. وَوَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ وَنَحْوِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَحْكَامِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا، لَا أَنَّهُ حَاكِمٌ بِهَا مُثْبِتٌ لَهَا قَبْلَ الشَّرْعِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ فِي سِيَاقِ هَذَا الْكَلَامِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي كُنَّا وَعْدَنَا بِذِكْرِهِ فِيهِ لِتَعَرُّضِنَا بِهِ هَاهُنَا.
ثُمَّ إِنَّ الْوَاقِفِيَّةَ تَارَةً يُفَسِّرُونَ الْوَقْفَ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ أَصْلًا، فَنَقِفُ حَتَّى يَرِدَ الْحُكْمُ مِنْ حَاكِمِ الشَّرْعِ، وَهَذَا الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُمْ. وَتَارَةً يُفَسِّرُونَ الْوَقْفَ بِأَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا لَا نَعْلَمُ مَا هُوَ فَنَقِفُ حَتَّى يَظْهَرَ لَنَا عَيْنُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَيَرُدُّ عَلَى حُجَّةِ الْوَاقِفِيَّةِ الْمُعَارَضَةِ بِحُجَّةِ الْحَاظِرِ وَالْمُبِيحِ.
وَالْمُخْتَارُ: الْقَوْلُ بِالْإِبَاحَةِ قَبْلَ الشَّرْعِ - وَهُوَ وَفْقُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: الْأَصْلُ فِي الْأَطْعِمَةِ وَنَحْوِهَا الْحِلُّ - لَيْسَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، بَلِ الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاسْتِدْلَالُ.
أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [الْبَقَرَةِ: 29] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ} إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الْجَاثِيَةِ: 12 - 13] ، وَنَظَائِرُهَا مِنَ الْآيَاتِ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَهُمْ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، وَتَذْكِيرِهِمُ النِّعْمَةَ، أَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَسَخَّرَهُ لَهُمْ، وَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ أَوِ
(1/399)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمِلْكِ إِذَا صَادَفَتْ قَابِلًا لَهُ، وَالْخَلْقُ قَابَلُونِ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْصِيصٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ بِانْتِفَاعِهِمْ بِهِ، إِذْ لَا مَالِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَتَى اجْتَمَعُوا وَمَا خَلَقَ وَسَخَّرَ لَهُمْ فِي الْوُجُودِ، مَلَكُوهُ، وَإِذَا مَلَكُوهُ، جَازَ انْتِفَاعُهُمْ، إِذْ فَائِدَةُ الْمُلْكِ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى النَّاسِ، فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ. وَهَذَا ظَاهِرٌ - إِنْ لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا - فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ، وَالتَّحْرِيمُ عَارِضٌ، وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّمْنِ وَالْجُبْنِ وَالْفِرَاءِ، فَقَالَ: الْحَلَالُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَى عَنْهُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ.
(1/400)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فِيمَا سَبَقَ، وَهُوَ - وَإِنْ عُورِضَ بِمَا ذَكَرَ - يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا لِمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَفْعَالَ قَبْلَ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَأَنَّ الْمَدْرَكَ لِذَلِكَ سَمْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ.
(1/401)
________________________________________
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ، اسْتِصْحَابُ كُلِّ حَالٍ أَصْلَهُ، فِيمَا جُهِلَ دَلِيلُهُ سَمْعًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ» ، إِلَى آخِرِهِ أَيْ: فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْأَفْعَالَ قَبْلَ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوِ الْحَظْرِ أَوِ الْوَقْفِ «اسْتِصْحَابُ كُلِّ» ، أَيْ: كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَائِلِينَ «حَالَ أَصْلِهِ» قَبْلَ الشَّرْعِ «فِيمَا جُهِلَ دَلِيلُهُ سَمْعًا» بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ.
مِثَالُهُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ الْخَيْلِ وَالضَّبِّ وَالضَّبُعِ وَالْأَرْنَبِ وَالثَّعْلَبِ وَسِنَّوْرِ الْبَرِّ وَالزَّرَافَةِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ وَالْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ، فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، أَوْ وُجِدَ دَلِيلٌ مُتَعَارِضٌ مُتَكَافِئٌ، رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَصْلِهِ قَبْلَ الشَّرْعِ، فَاسْتَصْحَبَ حَالَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الشَّرْعِ، فَالْمُبِيحُ يَقُولُ: الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثُمَّ هَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ مَوْضِعُ الْكَلَامِ فِي تَحْسِينِ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحِهِ، وَالْكَلَامُ فِي تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، ثُمَّ فِي دَلِيلِهِ بِاخْتِصَارٍ، إِذْ كُنَّا قَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ وَهُوَ كِتَابُ «رَدِّ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ:
ذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي آخَرِينَ إِلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ لِذَوَاتِهَا مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ، ثُمَّ مِنْهَا مَا يُدْرَكُ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، كَحُسْنِ الْإِيمَانِ، وَقُبْحِ الْكُفْرِ، وَمِنْهَا مَا يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ كَحُسْنِ الصِّدْقِ الضَّارِّ، وَقُبْحِ الْكَذِبِ النَّافِعِ، إِذْ قَدِ اشْتَمَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى جِهَتَيْنِ: حُسْنٍ وَقُبْحٍ، وَمَصْلَحَةٍ وَمَفْسَدَةٍ، فَاحْتِيجَ فِي مَعْرِفَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ
(1/402)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْهُمَا إِلَى نَظَرٍ يُرَجِّحُ إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَمِنْهَا مَا لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالسَّمْعِ كَحُسْنِ الْعِبَادَاتِ وَاخْتِصَاصِهَا بِالْأَمْكِنَةِ وَالْأَوْقَاتِ، إِذْ تَقْدِيرُ نَصْبِ الزَّكَوَاتِ وَقَدْرُ الْوَاجِبِ فِيهَا، وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ، وَالْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لَهَا، وَإِيجَابُ صَوْمِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَتَحْرِيمِ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، وَاسْتِحْبَابُ صَوْمِ تِسْعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَتَحْرِيمُ صَوْمِ أَرْبَعَةٍ بَعْدَهَا، وَصِحَّةُ الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ إِلَّا خَمْسَةُ أَوْقَاتٍ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ إِلَّا سَبْعَةُ مَوَاضِعَ، مِمَّا لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ، فَيَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى مَوْقِفٍ مِنَ الشَّرْعِ، فَهَذِهِ حِكَايَةُ الْمُحَقِّقِينَ لِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ.
ثُمَّ اسْتَفَاضَ ذِكْرُ مَذْهَبِهِمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى اسْتَعْمَلُوا فِيهِ عِبَارَاتٍ مُجْمَلَةً مُوهِمَةً كَقَوْلِهِمْ: الْعَقْلُ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ، أَوِ الْعَقْلُ يُوجِبُ وَيُحَرِّمُ، أَوْ حَاظِرٌ وَمُبِيحٌ، حَتَّى صَارَ بَعْضُهُمْ يَفْهَمُ أَنَّ الْعَقْلَ شَارِعٌ فَوْقَ الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ مُلْزِمٌ لَهُ بِالْحُكْمِ بِمُقْتَضَاهُ إِلْزَامَ الْغَرِيمِ غَرِيمَهُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ تَلَقِّي بَعْضِهِمْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ عَنْ بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَتَدَبُّرٍ.
وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا حَقَّقَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ قَدْ يُرَادُ بِهِمَا مَا لَاءَمَ الطَّبْعَ وَنَافَرَهُ، كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَاتِّهَامِ الْبَرِيءِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِهِمَا صِفَةُ الْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، نَحْوَ: الْعِلْمُ حَسَنٌ، وَالْجَهْلُ قَبِيحٌ.
وَقَدْ يُرَادُ بِهِمَا مَا يُوجِبُ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ الشَّرْعِيَّيْنِ عَاجِلًا، وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ آجِلًا. وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُمَا بِالتَّفْسِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عَقْلِيَّانِ أَيْ: يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِ
(1/403)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِيهِمَا.
أَمَّا الثَّالِثُ، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، فَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: هُوَ عَقْلِيٌّ أَيْضًا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِهِ بِدُونِ الشَّرْعِ وَقَبْلَهُ.
وَأَهْلُ السُّنَّةِ قَالُوا: هُوَ شَرْعِيٌّ، أَيْ: لَا يُعْلَمُ اسْتِحْقَاقُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَلَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ شَرْعًا عَلَى الْفِعْلِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ.
وَعَلَى هَذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي تَعْرِيفِ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، فَقِيلَ: الْحَسَنُ: مَا لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَالْقَبِيحُ: مَا لَيْسَ لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، يَعْنِي عَقْلًا، وَهُوَ تَعْرِيفٌ اعْتِزَالِيٌّ.
وَقِيلَ: الْحَسَنُ: مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَعْظِيمِ فَاعِلِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالْقَبِيحُ يُقَابِلُهُ، وَهَذَا تَعْرِيفٌ سُنِّيٌّ جُمْهُورِيٌّ، وَإِنَّمَا غَلِطُ الْمُعْتَزِلَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ غَالِبَ مَا اسْتُحْسِنَ أَوِ اسْتُقْبِحَ فِي الشَّرْعِ هُوَ مُسْتَحْسَنٌ أَوْ مُسْتَقْبَحٌ فِي الْعَقْلِ بِالِاعْتِبَارَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَهُمَا الْمُلَاءَمَةُ وَالْمُنَافَرَةُ وَالنَّقْصُ وَالذَّمُّ.
مِثَالُهُ: أَنَّ إِنْقَاذَ الْغَرِيقِ وَنَحْوَهُ اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا: الْمُنَاسَبَةُ الْعَقْلِيَّةُ، فَالْعَقْلُ يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهَا، وَالثَّانِي: تَرَتُّبُ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، فَالْعَقْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ جَزْمًا، بَلْ جَوَازًا، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي جَانِبِ الْقُبْحِ، وَلِلنِّزَاعِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مَآخِذُ أَشَارَ إِلَيْهَا الْأُصُولِيُّونَ.
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ هَلْ هُوَ مُؤَكَّدٌ وَكَاشِفٌ، أَوْ مُنْشِئٌ وَمُبْتَدِئٌ.
فَالْمُعْتَزِلَةُ قَالُوا: الشَّرْعُ مُؤَكِّدٌ لِحُكْمِ الْعَقْلِ فِيمَا أَدْرَكَهُ مِنْ حُسْنِ الْأَفْعَالِ وَقُبْحِهَا
(1/404)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا، كَاشِفٌ عَمَّا لَا يُدْرِكُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ شَرْعًا كَالْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا، وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ الْحَسَنَ فِي الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهَا مُنَافِيًا لِقَوْلِهِمْ: إِنَّهَا حَسَنَةٌ فِي الْعَقْلِ، لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِحُسْنِهَا فِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى إِدْرَاكِ حَقَائِقِهَا تَامَّةٌ، لَأَدْرَكَهَا حَسَنَةً، وَمَدْرَكُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَكِيمٌ، فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ عَقْلًا إِهْمَالُ الْمَصَالِحِ أَنْ لَا يَأْمُرَ بِهَا، وَيُثِيبَ عَلَيْهَا، وَإِهْمَالُ الْمَفَاسِدِ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْهَا وَيُعَاقِبَ عَلَيْهَا، وَمَا اسْتَحَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ أَنْ يَسْتَحِيلَ عَلَيْهِ دَائِمًا فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ مَا ثَبَتَ بَعْدَ الشَّرْعِ، فَهُوَ ثَابِتٌ قَبْلَهُ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُسْتَحِيلُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَائِزًا عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ الْحَسَنَ وَالْقُبْحَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ، كَانَ مُؤَكِّدًا لِحُكْمِ الْعَقْلِ فِيمَا أَدْرَكَهُ، كَاشِفًا لَهُ عَمَّا لَمْ يُدْرِكْهُ.
أَمَّا الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا: الشَّرْعُ مُنْشِئُ الْأَحْكَامِ، وَمُخْتَرِعٌ لَهَا وَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا قَبْلَ الشَّرْعِ شَيْءٌ، وَلَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِ شَيْءٍ مِنْهَا جَزْمًا بَلْ جَوَازًا، وَهَذَا هُوَ مَحَزُّ الْخِلَافِ وَغَايَتُهُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ وَهُوَ أَنَّ إِدْرَاكَ الْعَقْلِ لِإِثَابَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلطَّائِعِ وَعِقَابِهِ لِلْعَاصِي، هَلْ هُوَ إِدْرَاكٌ جَازِمٌ قَاطِعٌ كَمَا يُدْرِكُ أَنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ؟ أَوْ إِدْرَاكٌ مُحْتَمَلٌ عَلَى جِهَةِ الْجَوَازِ كَمَا يُدْرِكُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يُوقِعَ الْمَطَرَ غَدًا وَأَنْ لَا يُوقِعَهُ؟ وَلَيْسَ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا يَتَوَهَّمُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْمُوجِبُ وَالْمُحَرِّمُ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْمُوجِبُ وَالْمُحَرِّمُ، وَالْعَقْلُ يُدْرِكُ كَوْنَهُ مُوجِبًا
(1/405)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِدْرَاكًا قَاطِعًا أَوْ جَائِزًا عَلَى الْخِلَافِ.
وَمَدْرَكُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِيمَا قَالُوهُ عَقْلِيٌّ وَسَمْعِيٌّ:
أَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْخَلْقِ، بَلْ لَهُ أَنْ يُرَاعِيَهَا وَأَنْ يُهْمِلَهَا، وَيَفْعَلَ فِيهِمْ مَا يَشَاءُ.
وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ فِي أَزْمِنَةٍ تَقْدِيرِيَّةٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، فَإِحْدَاثُ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ لِلْعَالَمِ حِينَ أَحْدَثَهُ إِمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَصْلَحَةً أَوْ لَا، فَإِنْ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً، فَقَدْ أَهْمَلَ مَصْلَحَةَ خَلْقِهِ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْأَزْمِنَةِ غَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ أَزَلًا، وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ مَصْلَحَةً، فَقَدْ أَهْمَلَ مَصْلَحَتَهُمْ أَزَلًا وَأَبَدًا، فَإِهْمَالُ مَصْلَحَتِهِمْ لَازِمٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَإِذَا جَازَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِهْمَالُ مَصَالِحِ خَلْقِهِ، لَمْ يَبْقَ لِلْعَقْلِ طَرِيقٌ إِلَى الْجَزْمِ بِرِعَايَتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ مَا يُصْلِحُهُمْ وَيُبِيحُ لَهُمْ مَا يُفْسِدُهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ الْمُطِيعَ وَيَذُمَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِ، وَيُثِيبَ الْعَاصِيَ وَيَمْدَحَهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَصْلَحَةً فِي حَقِّهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا، فَقَدْ بَانَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ أَنَّ إِدْرَاكَ الْعَقْلِ الذَّمُّ وَالْمَدْحُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى جِهَةِ الْجَوَازِ لَا اللُّزُومِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا السَّمْعِيُّ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الْإِسْرَاءِ: 15] ، وَنَظَائِرُهَا فِي الْقُرْآنِ مُتَعَدِّدَةٌ.
(1/406)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَوَجْهُ دَلَالَتِهَا أَنَّهُ نَفَى الْعِقَابَ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَوِ اسْتَقَلَّ الْعَقْلُ بِإِثْبَاتِهِ لَمَا صَحَّ نَفْيُهُ وَلَتَنَاقَضَ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ، وَتَنَاقُضُهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُحَالٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِمَا يُنَافِي الْعَقْلَ، فَإِذَا رَأَيْنَا دَلِيلَ الْعَقْلِ قَدْ نَاقَضَ قَاطِعَ السَّمْعِ وَصَرِيحَهُ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ شُبْهَةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا حُجَّةٌ.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ مُشْتَقَّانِ مِنَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ وَهُوَ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ مَعْنِيَّانِ قَائِمَانِ بِالْمُشْتَقِّ، وَهُمَا الْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ، كَمَا أَنَّ الْأَسْوَدَ وَالْأَبْيَضَ لَمَّا كَانَا مُشْتَقَّيْنِ مِنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ كَانَا - أَعْنِي السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ - مَعْنَيَيْنِ قَائِمَيْنِ بِالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ مَعْنَيَانِ قَائِمَانِ بِالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، كَانَ إِدْرَاكُ قِيَامِهِمَا بِهِمَا عَقْلِيًّا قِيَاسًا لِإِدْرَاكِ بَصِيرَةِ الْعَقْلِ لِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَلَى إِدْرَاكِ الْبَصَرِ لِأَحْكَامِ الْأَجْسَامِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ قُبْحَهَا لِصِفَاتٍ قَامَتْ بِهَا عَلَى مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ الْحَسَنُ: مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ أَوْ أَذِنَ فِيهِ، وَالْقَبِيحُ: مَا نَهَى عَنْهُ أَوْ مَنَعَ مِنْهُ. وَمَا قَرَّرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(1/407)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قِيَاسٌ لِلْأَعْرَاضِ عَلَى الْأَجْسَامِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ قِيَاسَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ جِنْسِهِ لَا يَصِحُّ، وَأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ اتِّحَادُ بَابِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْقِيَاسِ لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْهُ قِيَامُ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ وَهُوَ مُحَالٌ، أَمَّا لُزُومُ قِيَامِ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ فَلِأَنَّ الْأَفْعَالَ أَعْرَاضٌ، وَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ وَالصِّفَاتُ أَعْرَاضٌ، فَلَوْ قَامَ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ بِالْأَفْعَالِ، لَزِمَ قَطْعًا قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ، وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فَلِأَنَّ الْعَرَضَ مَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ كَالْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ، فَلَوْ صَحَّ قِيَامُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِالْأَفْعَالِ لَكَانَتِ الْأَفْعَالُ جَوَاهِرَ وَأَجْسَامًا لَا أَعْرَاضًا وَهُوَ مُحَالٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ السُّرْعَةَ وَالْبُطْءَ تَقُومُ بِالْحَرَكَةِ فَيُقَالُ: حَرَكَةٌ سَرِيعَةٌ أَوْ بَطِيئَةٌ، وَهُمَا عَرَضَانِ، فَقَدْ قَامَ الْعَرَضُ بِالْعَرَضِ، وَكَذَلِكَ الشِّدَّةُ وَالضَّعْفُ عَرَضَانِ يَقُومَانِ بِالْأَلْوَانِ وَهِيَ أَعْرَاضٌ، فَيُقَالُ: سَوَادٌ وَبَيَاضٌ شَدِيدٌ أَوْ ضَعِيفٌ.
قُلْنَا: السُّرْعَةُ وَالْبُطْءُ قَائِمَانِ بِالْمُتَحَرِّكِ بِوَاسِطَةِ الْحَرَكَةِ لَا بِنَفْسِ الْحَرَكَةِ، وَكَذَلِكَ الشِّدَّةُ وَالضَّعْفُ فِي الْأَلْوَانِ، إِنَّمَا قَامَا بِالْجِسْمِ الْمُتَلَوِّنِ لَا بِاللَّوْنِ.
(1/408)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: فَهَذَا يَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْأَفْعَالُ حَسَنَةٌ أَوْ قَبِيحَةٌ بِصِفَةٍ، وَعَلَيْهِ دَلَّ بَحْثُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ حَيْثُ أَلْزَمُوهُمْ قِيَامَ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْقُبْحُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: هُوَ الْمُشْتَمِلُ عَلَى صِفَةٍ لِأَجْلِهَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الذَّمَّ، وَالْحُسْنُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُمْ بِالصِّفَةِ الْمَفْسَدَةُ.
قُلْتُ: وَظَاهِرُ الْقَوْلَيْنِ الِاخْتِلَافُ، وَرُبَّمَا أَمْكَنَ التَّلَطُّفُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.
هَلْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ
الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ: النِّزَاعُ فِي مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ، فَعِنْدَهُمْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رِعَايَةُ مَصَالِحِ خَلْقِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يُدْرِكُ وُجُوبَ ذَلِكَ مِنْهُ جَزْمًا تَحْقِيقًا لِلْجُودِ وَالْعَدْلِ، ثُمَّ قَالُوا: لَوْلَا مُرَاعَاةُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، لَكَانَ تَخْصِيصُ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ بِحُكْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَلَمَّا خَصَّ بَعْضَ الْأَفْعَالِ بِالْوُجُوبِ وَبَعْضَهَا بِالتَّحْرِيمِ وَبَعْضَهَا بِالْإِبَاحَةِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ، وَالتَّحْرِيمَ لِدَفْعِهَا، وَالْإِبَاحَةَ لِخُلُوِّ الْأَفْعَالِ عَنْ مَصْلَحَةٍ وَمُفْسِدَةٍ.
وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الْعَقْلُ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ.
فَأَمَّا ثُبُوتُ الْأَحْكَامِ فِي الْأَفْعَالِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعَبُّدًا مَحْضًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رِعَايَةً لِلْمَصَالِحِ تَفَضُّلًا، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي رِعَايَتِهَا وُجُوبًا، وَلِلَّهِ
(1/409)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، وَأَنَّ لِإِكْمَالِهِ أَنَّ يَتَفَضَّلَ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالْغِنَى وَالْعِزِّ وَالْعِلْمِ وَأَنْ لَا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ مُشَاهَدًا فِي الْعَالَمِ، حَيْثُ النَّاسُ مَا بَيْنَ مُعَافًى وَمُبْتَلًى، وَفَقِيرٍ وَغَنِيٍّ، وَعَزِيزٍ وَذَلِيلٍ، وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ.
فَهَذَا مَا أَرَدْنَا إِثْبَاتَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، لِأَنَّ مَدَارَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَيْهِ.
وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ أَيْدِينَا مَبَاحِثُ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَتُحَالُ عَلَيْهِ.
وَمِنْ فُرُوعِهِ، مَسْأَلَةُ شُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَأَحْكَامُ الْأَفْعَالِ قَبْلَ الشَّرْعِ، وَتَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَأَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. وَقَدْ ذَكَرْةُ جُمْلَةً مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ فِي كِتَابِ: «رَدِّ الْقَوْلِ الْقَبِيحِ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(1/410)
________________________________________
خَاتِمَةٌ: خِطَابُ الْوَضْعِ: مَا اسْتُفِيدَ بِوَاسِطَةِ نَصْبِ الشَّارِعِ عَلَمًا مُعَرِّفًا لِحُكْمِهِ، لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ خِطَابِهِ فِي كُلِّ حَالٍ. وَإِنْ قِيلَ: خِطَابُ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، لَا بِالِاقْتِضَاءِ وَلَا بِالتَّخْيِيرِ. صَحَّ، عَلَى مَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «خَاتِمَةٌ» ، أَيْ: لِهَذَا الْفَصْلِ، قَدْ بَيَّنَّا عِنْدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ أَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ إِمَّا اقْتِضَائِيٌّ أَوْ وَضْعِيٌّ.
قَالَ الْآمِدِيٌّ: الْحُكْمُ خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُفِيدُ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً.
وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الطَّلَبِ أَوْ لَا.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالطَّلَبُ إِمَّا لِلْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إِمَّا جَازِمٌ أَوْ غَيْرُ جَازِمٍ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبًا، فَهُوَ إِمَّا تَخْيِيرٌ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ الْإِبَاحَةُ، وَالثَّانِي: هُوَ الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ، كَالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، وَنَصْبُ الْأَسْبَابِ، وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ، وَكَوْنُ الْفِعْلِ إِعَادَةً، أَوْ قَضَاءً، أَوْ أَدَاءً، أَوْ رُخْصَةً، أَوْ عَزِيمَةً.
هَذَا تَقْسِيمُهُ، وَذَكَرْتُهُ هَاهُنَا تَطْرِيَةً لِذِهْنِ النَّاظِرِ بِتَصَوُّرِ الْحُكْمِ وَتَقْسِيمِهِ وَأَقْسَامِهِ، وَتَكْمِيلًا لِلْقِسْمَةِ إِلَى نَوْعَيِ الْخِطَابِ، أَعْنِي: اللَّفْظِيَّ وَالْوَضْعِيَّ، وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ: خِطَابَ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ.
أَمَّا مَعْنَى الْوَضْعِ، فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ، أَيْ: شَرَعَ أُمُورًا سُمِّيَتْ أَسْبَابًا وَشُرُوطًا وَمَوَانِعَ تُعْرَفُ عِنْدَ وُجُودِهَا أَحْكَامُ الشَّرْعِ مِنْ إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، فَالْأَحْكَامُ تُوجَدُ بِوُجُودِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ، وَتَنْتَفِي لِوُجُودِ الْمَوَانِعِ وَانْتِفَاءِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ.
(1/411)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا مَعْنَى الْإِخْبَارِ، فَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ بِوَضْعِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَخْبَرَنَا بِوُجُودِ أَحْكَامِهِ أَوِ انْتِفَائِهَا عِنْدَ وُجُودِ تِلْكَ الْأُمُورِ أَوِ انْتِفَائِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ مَثَلًا: إِذَا وُجِدَ النِّصَابُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالْحَوْلُ الَّذِي هُوَ شَرْطُهُ، فَاعْلَمُوا أَنِّي أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ أَدَاءَ الزَّكَاةِ، وَإِنْ وُجِدَ الدَّيْنُ الَّذِي هُوَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِهَا، أَوِ انْتَفَى السَّوْمُ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِوُجُوبِهَا فِي السَّائِمَةِ، فَاعْلَمُوا أَنِّي لَمْ أُوجِبْ عَلَيْكُمُ الزَّكَاةَ.
وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْقِصَاصِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالزِّنَى، وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، بِالنَّظَرِ إِلَى وُجُودِ أَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، وَعَكْسِ ذَلِكَ.
عُدْنَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ «الْمُخْتَصَرِ» .
قَوْلُهُ: «خِطَابُ الْوَضْعِ، مَا اسْتُفِيدَ بِوَاسِطَةِ نَصْبِ الشَّارِعِ عَلَمًا مُعَرِّفًا لِحُكْمِهِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَةِ خِطَابِهِ فِي كُلِّ حَالٍ» .
قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ بَيَانُ مَعْنَى الْخِطَابِ وَالْوَضْعِ، وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا خِطَابُ وَضْعٍ.
وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّرِيعَةِ لَمَّا كَانَ دَائِمًا إِلَى انْقِضَاءِ الْوُجُودِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ، كَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ خِطَابُ الشَّارِعِ مِمَّا يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ سَمَاعُهُ وَمَعْرِفَتُهُ فِي كُلِّ حَالٍ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْصَارِ وَتَعَدُّدِ الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ إِمَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَخِطَابُهُ لَا يَعْرِفُهُ الْمُكَلَّفُونَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ الْمَلَائِكَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَلَّدٍ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُعْرَفَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامُهُ فِي الْحَوَادِثِ بِوَاسِطَتِهِ فِي
(1/412)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كُلِّ وَقْتٍ، بَلْ هُوَ بَشَرٌ عَاشَ بَيْنَ النَّاسِ زَمَانًا حَتَّى عَرَّفَهُمْ أَحْكَامَ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، ثُمَّ صَارَ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، اقْتَضَتْ حِكْمَةُ الشَّرْعِ نَصْبَ أَشْيَاءَ تَكُونُ أَعْلَامًا عَلَى حُكْمِهِ وَمُعَرِّفَاتٍ لَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، تَحْصِيلًا لِدَوَامِ حُكْمِهَا وَأَحْكَامِهَا مُدَّةَ بَقَاءِ الْمُكَلَّفِينَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، وَتِلْكَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي نُصِبَتْ مُعَرِّفَاتٍ لِحُكْمِ الشَّرْعِ هِيَ الْأَسْبَابُ وَالشُّرُوطُ وَالْمَوَانِعُ، كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُمْكِنُهُمْ لِوُجُودِهِ بَيْنَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ حُكْمِ أَعْيَانِ الْحَوَادِثِ بِأَشْخَاصِهَا، فَيُجِيبُهُمْ عَنْهَا، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَحْكَامَهَا، فَلَوِ اتَّفَقَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، مَثَلًا، مِائَةُ زَانٍ أَوْ سَارِقٍ أَوْ شَارِبِ خَمْرٍ، أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ، إِمَّا بِاجْتِهَادِهِ أَوْ بِالْوَحْيِ، وَجَازَ أَنْ تَكُونَ أَحْكَامُهُ فِيهِمْ مُتَّفِقَةً وَمُخْتَلِفَةً، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ، وَأَحْكَامُهُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِالْأَقْيِسَةِ.
كَمَا أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْجُهَنِيَّةِ دُونَ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ مَعَ أَنَّ كِلَيْهِمَا مَرْجُومٌ فِي الْحَدِّ بِإِقْرَارِهِ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْقِيَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(1/413)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا مَنْ لَيْسَ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كُلِّ حَادِثَةٍ بِعَيْنِهَا، فَكَانَ مِنَ الْحِكْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَضْعُ أُمُورٍ كُلِّيَّةٍ تَكُونُ مُعَرِّفَاتٍ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، كَقَوْلِهِ: مَنْ زَنَى مُحْصَنًا، فَارْجُمُوهُ، وَمَنْ سَرَقَ، فَاقْطَعُوهُ، وَمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَاجْلِدُوهُ، وَمَنْ قَتَلَ أَوِ ارْتَدَّ، فَاقْتُلُوهُ. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ الْجَارِيَةِ عَلَى أَسْبَابِهَا وَعِلَلِهَا، فَكَانَ ذَلِكَ طَرِيقًا لَنَا إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَانْتِظَامِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الدَّوَامِ.
فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ - أَعْنِي: وُجُوبَ الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ وَالْجَلْدِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوَهَا - هِيَ الَّتِي اسْتُفِيدَتْ بِوَاسِطَةِ نَصْبِ الشَّارِعِ أَعْلَامَهَا الَّتِي هِيَ أَسْبَابُهَا وَهِيَ الزِّنَى وَالسَّرِقَةُ وَالشُّرْبُ وَالْقَتْلُ وَالرِّدَّةُ، وَهِيَ - أَعْنِي الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ - خِطَابُ الْوَضْعِ.
قَوْلُهُ: «وَإِنْ قِيلَ: خِطَابُ الشَّرْعِ» ، أَيْ: وَإِنْ قِيلَ خِطَابُ الْوَضْعِ هُوَ خِطَابُ الشَّرْعِ «الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا بِالِاقْتِضَاءِ وَلَا بِالتَّخْيِيرِ، صَحَّ عَلَى مَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ» .
قُلْتُ: هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِخِطَابِ الْوَضْعِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ الطَّلَبِيِّ، حَيْثُ حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: هُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ، أَوِ التَّخْيِيرِ، أَوِ الْوَضْعِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: أَوِ الْوَضْعِ، لِيَتَنَاوَلَ خِطَابَ الْوَضْعِ الَّذِي نَحْنُ الْآنَ نَتَكَلَّمُ فِيهِ.
فَإِذَا قِيلَ هَاهُنَا: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا بِالِاقْتِضَاءِ، وَلَا بِالتَّخْيِيرِ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا خِطَابُ الْوَضْعِ الْمُرَادِ هَاهُنَا، غَيْرَ أَنَّ
(1/414)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّعْرِيفَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ «لَا» ، وَ «لَا» فِيهِ نَافِيَةٌ، لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ مَنْ يَقُولُ فِي تَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ: هُوَ مَا لَيْسَ بِفَرَسٍ، وَلَا شَاةٍ، وَلَا ثَوْرٍ، وَلَا طَائِرٍ، وَيَعُدُّ أَنْوَاعَ الْحَيَوَانِ وَيَنْفِيهَا، وَهُوَ مُسْتَكْرَهٌ، فَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا فِي خِطَابِ الْوَضْعِ التَّعْرِيفَ الْأَوَّلَ.
وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا التَّنْبِيهُ عَلَى تَعْرِيفِ خِطَابِ الْوَضْعِ بِتَعْرِيفِهِ الثَّانِي مِنْ تَقْسِيمِ الْآمِدِيِّ الْمَذْكُورِ آنِفًا.
ثُمَّ هَاهُنَا تَنْبِيهَاتٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ خِطَابَ الطَّلَبِ هُوَ الْأَصْلُ، وَخِطَابُ الْوَضْعِ عَلَى خِلَافِهِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَذُّرِ خِطَابِ اللَّفْظِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَقَدْ لَاحَ لَكَ ذَلِكَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا، فَالْأَصْلُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: أَوْجَبْتُ أَوْ حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ، أَوِ افْعَلُوا أَوْ لَا تَفْعَلُوا، أَوِ ارْجُمُوا هَذَا الزَّانِيَ، أَوِ اقْطَعُوا هَذَا السَّاقَ.
أَمَّا جَعْلُهُ الزِّنَى وَالسَّرِقَةَ عَلَمًا عَلَى الرَّجْمِ وَالْقَطْعِ، فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
نَعَمْ خِطَابُ الْوَضْعِ يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ اللَّفْظِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النُّورِ: 2] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْخِطَابَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الْمُفِيدَةِ لِلْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ، بِخِلَافِ خِطَابِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ خِطَابَ الْوَضْعِ، كَمَا لَوْ قَالَ لَنَا الشَّارِعُ: تَوَضَّئُوا لَا عَنْ حَدَثٍ، فَإِنَّ هَذَا خِطَابٌ لَفْظِيٌّ بِفِعْلٍ مُجَرَّدٍ عَنْ سَبَبٍ مَوْضُوعٍ أَوْ غَيْرِهِ.
(1/415)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي: أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ يُقَسِّمُ خِطَابَ الشَّرْعِ إِلَى خِطَابِ تَكْلِيفٍ وَخِطَابِ وَضْعٍ، وَهِيَ قِسْمَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ هُوَ التَّكْلِيفُ، وَكَذَلِكَ مَا فُهِمَ مِنْ قِسْمَةِ الْآمِدِيِّ لِلْحُكْمِ مِنْ أَنَّهُ طَلَبِيٌّ وَوَضْعِيٌّ، هُوَ مُتَدَاخِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ مَقْصُودَ خِطَابِ الْوَضْعِ الطَّلَبُ، إِذْ لَا مَعْنَى لِخِطَابِ الْوَضْعِ، إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ طَلَبَ مِنَّا عِنْدَ قِيَامِ الْأَعْلَامِ الَّتِي نَصَبَهَا، أَوْ عِنْدَ بَعْضِهَا فِعْلًا أَوْ كَفًّا، كَقَوْلِهِ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وُجُودِ الزِّنَى مِنْ هَذَا: رَجْمَهُ، وَعِنْدَ وُجُودِ السَّرِقَةِ مِنْ هَذَا: قَطْعَهُ، وَعِنْدَ مِلْكِ النَّصَّابِ وَوُجُودِ الْحَوْلِ: الزَّكَاةَ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحَلِفِ وَالْحِنْثِ: الْكَفَّارَةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَالصَّوَابُ فِي الْقِسْمَةِ أَنْ يُقَالَ: خِطَابُ الشَّرْعِ إِمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ وَضْعِيٌّ، أَيْ: إِمَّا ثَابِتٌ بِالْأَلْفَاظِ نَحْوَ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43] ، أَوْ عِنْدَ الْأَسْبَابِ وَنَحْوِهَا: كَقَوْلِهِ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ، وَجَبَتْ عَلَيْكُمُ الظُّهْرُ، فَاللَّفْظُ أَثْبَتَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، وَالْوَضْعُ عَيَّنَ وَقْتَ وُجُوبِهَا.
الثَّالِثُ: قَدْ عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ خِطَابِ اللَّفْظِ وَالْوَضْعِ مِنْ حَيْثُ الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ.
أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ، فَهُوَ أَنَّ خِطَابَ اللَّفْظِ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ، يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْفِعْلِ وَكَوْنُهُ مِنْ كَسْبِهِ، كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَنَحْوِهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ. أَمَّا خِطَابُ الْوَضْعِ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا يُسْتَثْنَى بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(1/416)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ، فَكَالنَّائِمِ يُتْلِفُ شَيْئًا حَالَ نَوْمِهِ، وَالرَّامِي إِلَى صَيْدٍ فِي ظُلْمَةٍ أَوْ وَرَاءَ حَائِلٍ يَقْتُلُ إِنْسَانًا، فَإِنَّهُمَا يُضَمَّنَانِ مَا أَتْلَفَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا، وَكَالْمَرْأَةِ تَحِلُّ بِعَقْدِ وَلِيِّهَا عَلَيْهَا، وَتَحْرُمُ بِطَلَاقِ زَوْجِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً لَا تَعْلَمُ.
وَأَمَّا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ وَالْكَسْبِ، فَكَالدَّابَّةِ تُتْلِفُ شَيْئًا، وَالصَّبِيِّ أَوِ الْبَالِغِ يَقْتُلُ خَطَأً، فَيَضْمَنُ صَاحِبُ الدَّابَّةِ وَالْعَاقِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْإِتْلَافُ وَالْقَتْلُ مَقْدُورًا وَلَا مُكْتَسَبًا لَهُمْ، وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ عِنْدَ مَوْقِعِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ بِمُطْلَقِ الْإِكْرَاهِ أَوْ مَعَ الْإِلْجَاءِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ.
أَمَّا الْمُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ فَهُوَ قَاعِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَسْبَابُ الْعُقُوبَاتِ، كَالْقِصَاصِ لَا يَجِبُ عَلَى مُخْطِئٍ فِي الْقَتْلِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَحَدُّ الزِّنَى لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ، لِعَدَمِ الْعِلْمِ أَيْضًا، وَلَا عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَى لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ، إِذِ الْعُقُوبَاتُ تَسْتَدْعِي وُجُودَ الْجِنَايَاتِ الَّتِي تُنْتَهَكُ بِهَا حُرْمَةُ الشَّرْعِ زَجْرًا عَنْهَا وَرَدْعًا، وَالِانْتِهَاكُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ، وَالْقَادِرُ الْمُخْتَارُ هُوَ الَّذِي إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَالْجَاهِلُ وَالْمُكْرَهُ قَدِ انْتَفَى ذَلِكَ فِيهِ، وَهُوَ شَرْطُ تَحَقُّقِ الِانْتِهَاكِ، فَيَنْتَفِي الِانْتِهَاكُ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ، فَتَنْتَفِي الْعُقُوبَةُ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهَا.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَسْبَابُ النَّاقِلَةُ لِلْأَمْلَاكِ، كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَنَحْوِهَا: يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ، فَلَوْ تَلَفَّظَ بِلَفْظٍ نَاقِلٍ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مُقْتَضَاهُ لِكَوْنِهِ أَعْجَمِيًّا بَيْنَ الْعَرَبِ، أَوْ عَرَبِيًّا بَيْنَ الْعَجَمِ، أَوْ طَارِئًا عَلَى بَلَدِ الْإِسْلَامِ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَلْزَمْهُ مُقْتَضَاهُ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 29] ، وَلَا يَحْصُلُ الرِّضَى إِلَّا مَعَ الْعِلْمِ وَالِاخْتِيَارِ.
(1/417)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْحِكْمَةُ فِي اسْتِثْنَاءِ هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ الْتِزَامُ الشَّرْعِ قَانُونَ الْعَدْلِ فِي الْخَلْقِ وَالرِّفْقِ بِهِمْ، وَإِعْفَائِهِمْ مِنْ تَكْلِيفِ الْمَشَاقِّ، أَوِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: لَوْ لَفَظَ أَعْجَمِيٌّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، أَوْ عَرَبِيٌّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْعَجَمِ، وَهُوَ «بِهَشْنَمْ» وَلَمْ يَعْلَمَا مَعْنَاهُ، لَمْ يَقَعْ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: إِنْ نَوَى مُوجِبَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ وَقَعَ، وَإِلَّا فَلَا. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ وَارِدًا عَلَى الْقَاعِدَةِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُخْتَارٌ عَالِمٌ، غَايَةُ مَا هُنَاكَ أَنَّ عِلْمَهُ مُبْهَمٌ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى النِّيَّةِ.
(1/418)
________________________________________
وَلِلْعَلَمِ الْمَنْصُوبِ أَصْنَافٌ
أَحَدُهَا الْعِلَّةُ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الْعَرَضُ الْمُوجِبُ لِخُرُوجِ الْبَدَنِ الْحَيَوَانِيِّ عَنِ الِاعْتِدَالِ الطَّبِيعِيِّ. ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ عَقْلًا لِمَا أَوْجَبَ الْحُكْمَ الْعَقْلِيَّ لِذَاتِهِ، كَالْكَسْرِ لِلِانْكِسَارِ، وَالتَّسْوِيدِ لِلسَّوَادِ. ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ شَرْعًا لَمَعَانٍ: أَحَدُهَا: مَا أَوْجَبَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ مُقْتَضَى الْحُكْمِ وَشَرْطِهِ وَمَحَلِّهِ وَأَهْلِهِ، تَشْبِيهًا بِأَجْزَاءِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ. الثَّانِي: مُقْتَضَى الْحُكْمِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ لِفَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ. الثَّالِثُ: الْحِكْمَةُ، كَمَشَقَّةِ السَّفَرِ لِلْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، وَالدَّيْنِ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَالْأُبُوَّةِ لِمَنْعِ الْقِصَاصِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلِلْعَلَمِ الْمَنْصُوبِ أَصْنَافٌ» ، أَيِ: الْعَلَمُ الَّذِي نَصَبَهُ الشَّارِعُ مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ لَهُ أَصْنَافٌ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: أَنْوَاعٌ أَوْ أَقْسَامٌ، كَالْعِلَّةِ، وَالسَّبَبِ، وَالشَّرْطِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا ذَكَرَ، فَالْعَلَمُ كَالْجِنْسِ، وَهَذِهِ أَنْوَاعُهُ، أَوْ كَالنَّوْعِ، وَهَذِهِ أَصْنَافُهُ.
وَالْعَلَمُ فِي اللُّغَةِ: الْعَلَامَةُ، وَمِنْهُ عَلَمُ الطَّرِيقِ، وَهُوَ أَنْصَابٌ مِنْ حِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا شَاخِصَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «أَحَدُهَا» ، أَيْ: أَحَدُ أَصْنَافِ الْعِلْمِ «الْعِلَّةُ» . قَوْلُهُ: «وَهِيَ» ، يَعْنِي: الْعِلَّةَ، «فِي الْأَصْلِ» ، أَيْ: فِي أَصْلِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ أَوِ الِاصْطِلَاحِيِّ: هِيَ «الْعَرَضُ الْمُوجِبُ لِخُرُوجِ الْبَدَنِ الْحَيَوَانِيِّ عَنِ الِاعْتِدَالِ الطَّبِيعِيِّ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي اللُّغَةِ هِيَ الْمَرَضُ، وَالْمَرَضُ هُوَ هَذَا الْعَرَضُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الظَّاهِرُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: عَرَضَ لَهُ أَمْرُ كَذَا يَعْرِضُ، أَيْ: ظَهَرَ، وَفِي اصْطِلَاحِ
(1/419)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُتَكَلِّمِينَ: هُوَ مَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، كَالْأَلْوَانِ، وَالطُّعُومِ، وَالْحَرَكَاتِ، وَالْأَصْوَاتِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ حَادِثٍ مَا، إِذَا قَامَ بِالْبَدَنِ أَخْرَجَهُ عَنِ الِاعْتِدَالِ.
وَقَوْلُنَا: «الْمُوجِبُ لِخُرُوجِ الْبَدَنِ» هُوَ إِيجَابٌ حِسِّيٌّ، كَإِيجَابِ الْكَسْرِ لِلِانْكِسَارِ، وَالتَّسْوِيدِ، لِلِاسْوِدَادِ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرَاضُ الْبَدَنِيَّةُ مُوجِبَةٌ لِاضْطِرَابِ الْأَبْدَانِ إِيجَابًا مَحْسُوسًا.
وَقَوْلُنَا: «الْبَدَنُ الْحَيَوَانِيُّ» احْتِرَازٌ مِنَ النَّبَاتِيِّ وَالْجَمَادِيِّ، فَإِنَّ الْأَعْرَاضَ الْمُخْرِجَةَ لَهَا عَنْ حَالِ اعْتِدَالٍ مَا مِنْ شَأْنِهِ الِاعْتِدَالُ مِنْهَا لَا يُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ عِلَلًا.
وَقَوْلُنَا: «عَنِ الِاعْتِدَالِ الطَّبِيعِيِّ» هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى حَقِيقَةِ الْمِزَاجِ، وَهُوَ الْحَالُ الْمُتَوَسِّطَةُ الْحَاصِلَةُ عَنْ تَفَاعُلِ كَيْفِيَّاتِ الْعَنَاصِرِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ عَلَى مَا أَوْضَحْتُهُ فِي الْقَوَاعِدِ، فَتِلْكَ الْحَالُ هِيَ الِاعْتِدَالُ الطَّبِيعِيِّ، فَإِذَا انْحَرَفَتْ عَنِ التَّوَسُّطِ بِغَلَبَةِ الْحَرَارَةِ، أَوِ الْبُرُودَةِ، أَوِ الرُّطُوبَةِ، أَوِ الْيُبُوسَةِ، كَانَ ذَلِكَ هُوَ انْحِرَافُ الْمِزَاجِ، وَهُوَ الْعِلَّةُ وَالْمَرَضُ وَالسَّقَمُ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ اسْتُعِيرَتْ عَقْلًا» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: ثُمَّ اسْتُعِيرَتِ الْعِلَّةُ مِنَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، فَجُعِلَتْ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْعَقْلِيَّةِ «لِمَا أَوْجَبَ الْحُكْمَ الْعَقْلِيَّ لِذَاتِهِ، كَالْكَسْرِ لِلِانْكِسَارِ، وَالتَّسْوِيدِ» الْمُوجِبِ، أَيْ: الْمُؤْثِرِ «لِلسَّوَادِ» لِذَاتِهِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ كَسْرًا، أَوْ تَسْوِيدًا، لَا لِأَمْرٍ خَارِجٍ مِنْ وَضْعٍ أَوِ اصْطِلَاحٍ.
وَهَكَذَا الْعِلَلُ الْعَقْلِيَّةُ هِيَ مُؤَثِّرَةٌ لِذَوَاتِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى، كَالتَّحَرُّكِ الْمُوجِبِ لِلْحَرَكَةِ، وَالتَّسْكِينِ الْمُوجِبِ لِلسُّكُونِ.
«ثُمَّ اسْتُعِيرَتِ» الْعِلَّةُ مِنَ التَّصَرُّفِ الْعَقْلِيِّ إِلَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ، فَجُعِلَتْ فِيهِ
(1/420)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«لِمَعَانٍ» ثَلَاثَةٍ:
«أَحَدُهَا: مَا أَوْجَبَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ» ، أَيْ: مَا وُجِدَ عِنْدَهُ «لَا مَحَالَةَ» ، أَيْ: يُوجَدُ عِنْدَهُ قَطْعًا وَلَابُدَّ «وَهُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ مُقْتَضَى الْحُكْمِ وَشَرْطِهِ وَمَحَلِّهِ وَأَهْلِهِ تَشْبِيهًا بِأَجْزَاءِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ» .
وَذَلِكَ أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرَهُمْ قَالُوا: كُلُّ حَادِثٍ، فَلَابُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ، لَكِنَّ الْعِلَّةَ إِمَّا مَادِّيَّةٌ: كَالْفِضَّةِ لِلْخَاتَمِ، وَالْخَشَبِ لِلسَّرِيرِ، أَوْ صُورِيَّةٌ: كَاسْتِدَارَةِ الْخَاتَمِ، وَتَرْبِيعِ السَّرِيرِ، أَوْ فَاعِلِيَّةٌ: كَالصَّائِغِ وَالنَّجَّارِ، أَوْ غَائِيَّةٌ: كَالتَّحَلِّي بِالْخَاتَمِ، وَالنَّوْمِ عَلَى السَّرِيرِ. فَهَذِهِ أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَجْمُوعُهَا الْمُرَكَّبُ مِنْ أَجْزَائِهَا هُوَ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ، فَكَذَلِكَ اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْعِلَّةِ بِإِزَاءِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَالْمُوجِبُ لَهُ لَا مَحَالَةَ هُوَ مُقْتَضِيهِ وَشَرْطُهُ وَمَحَلُّهُ وَأَهْلُهُ.
مِثَالُهُ: وُجُوبُ الصَّلَاةِ: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَمُقْتَضِيهِ: أَمْرُ الشَّارِعِ بِالصَّلَاةِ، وَشَرْطُهُ: أَهْلِيَّةُ الْمُصَلِّي لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا، وَمَحَلُّهُ: الصَّلَاةُ، وَأَهْلُهُ: الْمُصَلِّي.
وَكَذَلِكَ حُصُولُ الْمُلْكِ فِي الْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ: حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَمُقْتَضِيهِ: حِكْمَةُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمَا، وَالْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِيهِمَا، وَشَرْطُهُ: مَا ذُكِرَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمَحَلُّهُ: هُوَ الْعَيْنُ الْمَبِيعَةُ وَالْمَرْأَةُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا، وَأَهْلُهُ: كَوْنُ الْعَاقِدِ صَحِيحَ الْعِبَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ.
وَافْرِضْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزِّنَى وَالْقَتْلِ وَالرِّدَّةِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَاتِ فِيهَا أَحْكَامٌ لَهَا مُقْتَضَيَاتٌ وَشُرُوطٌ وَمَحَالٌّ وَأَهْلٌ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ.
(1/421)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُقْتَضِي وَالشَّرْطِ وَالْمَحَلِّ وَالْأَهْلِ، بَلِ الْعِلَّةُ الْمَجْمُوعُ، وَالْأَهْلُ وَالْمَحَلُّ وَصْفَانِ مِنْ أَوْصَافِهَا.
قُلْتُ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُمَا رُكْنَانِ مِنْ أَرْكَانِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمَا جُزْءَانِ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَرُكْنُ الشَّيْءِ: هُوَ جُزْؤُهُ الدَّاخِلُ فِي حَقِيقَتِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ مَجْمُوعُهَا يُسَمَّى عِلَّةً، وَمُقْتَضَى الْحُكْمِ: هُوَ الْمَعْنَى الطَّالِبُ لَهُ، وَشَرْطُهُ: يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَهْلُهُ: هُوَ الْمُخَاطَبُ بِهِ، وَمَحَلُّهُ: مَا تَعَلَّقَ بِهِ. وَقَدْ بَانَ الْمِثَالُ.
قَوْلُهُ: «الثَّانِي» أَيِ: الثَّانِي مِنَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي اسْتُعِيرَتْ لَهَا الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، وَهُوَ «مُقْتَضَى الْحُكْمِ وَإِنْ تَخَلَّفَ» ، أَيْ: وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ الْحُكْمُ «لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ» ، مِثَالُهُ: الْيَمِينُ هِيَ الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَتُسَمَّى عِلَّةً لَهُ، وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِمَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ: الْحَلِفُ الَّذِي هُوَ الْيَمِينُ وَالْحِنْثُ فِيهَا، لَكِنَّ الْحِنْثَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ، وَالْحَلِفُ هُوَ السَّبَبُ الْمُقْتَضِي لَهُ فَقَالُوا: هُوَ عِلَّةٌ، فَإِذَا حَلَفَ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ، قِيلَ: قَدْ وُجِدَتْ مِنْهُ عِلَّةُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ لَا يُوجَدُ حَتَّى يَحْنَثَ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّدِ الْحَلِفِ، انْعَقَدَ سَبَبُهُ. وَكَذَا الْكَلَامُ فِي مُجَرَّدِ مِلْكِ النَّصَّابِ، يُقَالُ: وُجِدَتْ عِلَّةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، لِأَنَّ مِلْكَ النَّصَّابِ مُقْتَضٍ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْوُجُوبُ إِلَّا بَعْدَ
(1/422)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُؤُولِ الْحَوْلِ، وَلَكِنْ بِمِلْكِ النَّصَّابِ، انْعَقَدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ. وَكَذَلِكَ الْجَرْحُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ، وَزَهُوقُ نَفْسِ الْمَجْرُوحِ شَرْطٌ. وَلِهَذَا لَمَّا انْعَقَدَتْ أَسْبَابُ الْوُجُوبِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْمُقْتَضَيَاتِ، جَازَ فِعْلُ الْوَاجِبِ بَعْدَ وُجُودِهَا وَقَبْلَ وُجُودِ شَرْطِهَا عِنْدَنَا، كَالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ، وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ.
وَقَوْلُهُ: «لِفَوَاتِ شَرْطٍ» ، كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ: يُسَمَّى عِلَّةً لِوُجُوبِ الْقَوَدِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ وُجُوبُهُ لِفَوَاتِ الْمُكَافَأَةِ، وَهِيَ شَرْطٌ لَهُ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا، «أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ» ، مِثْلِ: إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ وَالِدًا، فَإِنَّ الْإِيلَادَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ النِّصَابُ يُسَمَّى: عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ الْوُجُوبُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ، كَحُؤُولِ الْحَوْلِ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ، كَالدَّيْنِ، فَإِنَّهُ مَانِعٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ.
قَوْلُهُ: «الثَّالِثُ» ، أَيْ: مِنَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي اسْتُعِيرَتْ لَهَا الْعِلَّةُ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ حِكْمَةُ الْحُكْمِ، «كَمَشَقَّةِ السَّفَرِ لِلْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، وَالدَّيْنِ لِمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَالْأُبُوَّةِ لِمَنْعِ الْقِصَاصِ» ، فَيَقُولُونَ: مَشَقَّةُ السَّفَرِ هِيَ عِلَّةُ اسْتِبَاحَةِ الْقَصْرِ، وَالْفِطْرُ لِلْمُسَافِرِ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ مَالِكِ النِّصَابِ عِلَّةٌ لِمَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالْأُبُوَّةُ، أَيْ: كَوْنُ الْقَاتِلِ أَبًا، عِلَّةٌ لِمَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ.
وَالْمُرَادُ بِحِكْمَةِ الْحُكْمِ: هُوَ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْحُكْمُ.
وَبَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ: أَنَّ حُصُولَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسَافِرِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ
(1/423)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِتَخْفِيفِ الصَّلَاةِ عَنْهُ بِقَصْرِهَا وَالتَّخْفِيفُ عَنْهُ بِالْفِطْرِ، وَانْقِهَارُ مَالِكِ النَّصَّابِ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِإِسْقَاطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَنْهُ، وَكَوْنُ الْأَبِ سَبَبُ وُجُودِ الْوَلَدِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبَ إِيجَادِهِ لَمْ تَقْتَضِ الْحِكْمَةُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ سَبَبَ إِعْدَامِهِ وَهَلَاكِهِ لِمَحْضِ حَقِّهِ.
وَاحْتَرَزْنَا بِهَذَا عَنْ وُجُوبِ رَجْمِهِ إِذَا زَنَى بِابْنَتِهِ، فَهِيَ إِذًا سَبَبُ إِعْدَامِهِ مَعَ كَوْنِهِ سَبَبَ إِيجَادِهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ لِمَحْضِ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حَتَّى لَوْ قَتَلَهَا، لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ بِهَا، لَأَنَّ الْحَقَّ لَهَا.
(1/424)
________________________________________
الثَّانِي: السَّبَبُ، وَهُوَ لُغَةً مَا تُوُصِّلَ بِهِ إِلَى الْغَرَضِ، وَاشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَبْلِ أَوْ بِالْعَكْسِ. وَاسْتُعِيرَ شَرْعًا لَمَعَانٍ: أَحُدُهَا: مَا يُقَابِلُ الْمُبَاشَرَةَ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ مَعَ التَّرْدِيَةِ، فَالْأَوَّلُ سَبَبٌ، وَالثَّانِي: عِلَّةٌ. الثَّانِي: عِلَّةُ الْعِلَّةِ، كَالرَّمْيِ، هُوَ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ، وَهُوَ عِلَّةُ الْإِصَابَةِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الزُّهُوقِ. الثَّالِثُ: الْعِلَّةُ بِدُونِ شَرْطِهَا، كَالنِّصَابِ بِدُونِ الْحَوْلِ. الرَّابِعُ: الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كَامِلَةً، وَسُمِّيَتْ سَبَبًا، لِأَنَّ عِلِّيَّتَهَا لَيْسَتْ لِذَاتِهَا، بَلْ بِنَصْبِ الشَّارِعِ لَهَا، فَأَشْبَهَتِ السَّبَبَ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الثَّانِي» : أَيْ: مِنْ أَصْنَافِ الْعَلَمِ الْمَنْصُوبِ، وَالَّذِي سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ هِيَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ فِيهَا الْعِلَّةُ، فَالثَّانِي مِنْ أَصْنَافِ الْعَلَمِ الْمُعَرِّفِ لِحُكْمِ الشَّرْعِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ هُوَ «السَّبَبُ» .
«وَهُوَ لُغَةً» ، أَيْ: فِي اللُّغَةِ: «مَا تُوُصِّلَ بِهِ إِلَى الْغَرَضِ» الْمَقْصُودِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَأَبُو حَامِدٍ: السَّبَبُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَحْصُلُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْتُهُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السَّبَبُ: الْحَبْلُ، وَالسَّبَبُ أَيْضًا: كُلُّ شَيْءٍ يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ. نَعَمْ حُكْمُ السَّبَبِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ يُوجَدُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فِي الْوُجُودِ، بَلْ وَصْلَةٍ وَوَسِيلَةٍ إِلَيْهِ، فَالْحَبْلُ مَثَلًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِخْرَاجِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْإِخْرَاجِ، إِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ حَرَكَةُ الْمُسْتَقِي لِلْمَاءِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الْحَجِّ: 15] فَهُوَ الْحَبْلُ أَيْضًا، وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ، فَلْيَمْدُدْ حَبْلًا إِلَى سَمَاءِ بَيْتِهِ، وَلْيَجْعَلْهُ فِي حَلْقِهِ، ثُمَّ يَصْلُبْ نَفْسَهُ حَتَّى يَخْتَنِقَ، وَقِيلَ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَخْنُقْ نَفْسَهُ،
(1/425)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَبْطِئُونَ نُصْرَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَاشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَبْلِ أَوْ بِالْعَكْسِ» ، أَيِ: السَّبَبُ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ مَا ذَكَرَ، وَاشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ فِي الْحَبْلِ، أَوْ أَنَّهُ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ الْحَبْلُ، وَاشْتُهِرَ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا تُوُصِّلَ بِهِ إِلَى الْغَرَضِ. هَذَا مَعْنَى الْعَكْسِ الْمُرَادِ هُنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا تَرَدُّدٌ فِي وَقْتِ الِاخْتِصَارِ، فَإِنِّي لَمْ أُطَالِعْ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ اللُّغَةِ الْمَوْثُوقِ بِهَا. ثُمَّ إِنِّي رَأَيْتُ السَّبَبَ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ وَاللُّغَةِ عَلَى الْحَبْلِ، وَهُوَ مَشْهُورٌ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ رَأَيْتُ أَنَّ كُلَّ مَا تُوُصِّلَ بِهِ إِلَى مَقْصُودٍ مَا، فَهُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَرَأَيْتُ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، فَبَقِيتُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنَّ السَّبَبَ مَوْضُوعٌ لِمَا تُوُصِّلُ بِهِ إِلَى الْغَرَضِ مُتَعَارَفٌ فِي الْحَبْلِ، أَوْ مَوْضُوعٌ لِلْحَبْلِ مُتَعَارَفٌ فِيمَا تُوُصِّلَ بِهِ إِلَى الْغَرَضِ فَأَطْلَقْتُ الْقَوْلَ بِالتَّرَدُّدِ حَذَرًا مِنَ الْخَطَأِ فِي الْجَزْمِ بِأَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ، فَالْآنَ عِنْدَ الشَّرْحِ طَالَعْتُهُ فِي «الصِّحَاحِ» ، فَوَجَدْتُهُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، كَمَا حَكَيْتُهُ لَكَ آنِفًا.
قَوْلُهُ: «وَاسْتُعِيرَ شَرْعًا» ، أَيْ: وَاسْتُعِيرَ السَّبَبُ مِنَ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ إِلَى التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ «لِمَعَانٍ» أَرْبَعَةٍ:
«أَحَدُهَا: مَا يُقَابِلُ الْمُبَاشَرَةَ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ مَعَ التَّرْدِيَةِ» فِيهَا، فَإِذَا حَفَرَ شَخْصٌ بِئْرًا، وَدَفَعَ آخَرُ إِنْسَانًا فَتَرَدَّى فِيهَا فَهَلَكَ، «فَالْأَوَّلُ» ، وَهُوَ الْحَافِرُ، «سَبَبٌ» إِلَى هَلَاكِهِ،
(1/426)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وَالثَّانِي» ، وَهُوَ الدَّافِعُ، مُبَاشِرٌ لَهُ، فَأَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ السَّبَبَ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُبَاشَرَةَ، فَقَالُوا: إِذَا اجْتَمَعَ الْمُتَسَبِّبُ وَالْمُبَاشِرُ، غَلَبَتِ الْمُبَاشَرَةُ، وَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُبَاشِرِ، وَانْقَطَعَ حُكْمُ الْمُتَسَبِّبِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: لَوْ أَلْقَاهُ مِنْ شَاهِقٍ، فَتَلَقَّاهُ آخَرُ بِسَيْفٍ، فَقَدَّهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُتَلَقِّي بِالسَّيْفِ، وَلَوْ أَلْقَاهُ فِي مَاءٍ مُغْرِقٍ، فَتَلَقَّاهُ حُوتٌ؛ فَابْتَلَعَهُ؛ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُلْقِي؛ لِعَدَمِ قَبُولِ الْحُوتِ لِلضَّمَانِ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ، وَكَذَا لَوْ فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ، بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ طَارَ؛ فَأَخَذَهُ إِنْسَانٌ مِنَ الْقَفَصِ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى هَذَا، لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِتَفْوِيتِهِ، وَلَوْ حَلَّ وِعَاءَ مَائِعٍ، بِحَيْثُ لَوْ تُرِكَ سَالَ؛ فَجَاءَ آخَرُ فَدَفَقَهُ؛ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ. وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الصُّوَرَ.
وَقَوْلِي: «فَالْأَوَّلُ سَبَبٌ، وَالثَّانِي عِلَّةٌ» : إِشَارَةٌ إِلَى الْحَفْرِ وَالتَّرْدِيَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَصْدَرَانِ، وَالْمُتَسَبِّبُ وَالْمُبَاشِرُ فَاعِلَانِ.
«الثَّانِي» مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي اسْتُعِيرَ لَهَا لَفْظُ السَّبَبِ شَرْعًا «عِلَّةُ الْعِلَّةِ، كَالرَّمْيِ» ، سُمِّيَ سَبَبًا لِلْقَتْلِ، وَهُوَ - أَعْنِي الرَّمْيَ - عِلَّةُ الْإِصَابَةِ، وَالْإِصَابَةُ عِلَّةٌ لِزَهُوقِ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ؛ فَالرَّمْيُ هُوَ عِلَّةُ عِلَّةِ الْقَتْلِ، وَقَدْ سَمَّوْهُ سَبَبًا لَهُ.
(1/427)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«الثَّالِثُ» مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي اسْتُعِيرَ لَهَا لَفْظُ السَّبَبِ «الْعِلَّةُ بِدُونِ شَرْطِهَا» ، كَالنِّصَابِ بِدُونِ حَوَلَانِ الْحَوْلِ يُسَمَّى سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَسْمِيَتِهِ عِلَّةً. «الرَّابِعُ» مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ: «الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كَامِلَةً» وَهِيَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْمُقْتَضِي وَالشَّرْطُ وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَوُجُودُ الْأَهْلِ وَالْمَحَلُّ يُسَمَّى سَبَبًا.
قَوْلُهُ: «وَسُمِّيَتْ سَبَبًا» إِلَى آخِرِهِ، إِشَارَةً إِلَى بَحْثٍ عَقْلِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ مُوجِبَةٌ لِوُجُودِ مَعْلُولِهَا، كَمَا عَرَفَ مِنَ الْكَسْرِ لِلِانْكِسَارِ، وَسَائِرُ الْأَفْعَالِ مَعَ الِانْفِعَالَاتِ، فَإِنَّهُ مَتَى وَجَدَ الْفِعْلَ الْقَابِلَ، وَانْتَفَى الْمَانِعَ، وَجَدَ الِانْفِعَالَ بِخِلَافِ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ مُسَبِّبَاتِهَا. وَمَثَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِتَسْمِيدِ الزَّرْعِ، وَهُوَ إِطْعَامُهُ التُّرَابَ لِيَنْمُوَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ النُّمُوُّ، بَلْ قَدْ يَنْمُو، وَقَدْ لَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَحْنُ قَدْ سَمَّيْنَا الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الْكَامِلَةَ الَّتِي يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ مَعْلُولِهَا سَبَبًا، مَعَ أَنَّ السَّبَبَ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ مُسَبِّبِهِ، وَهَذَا تَسْمِيَةٌ لِلْعِلَّةِ بِدُونِ اسْمِهَا، وَوَضْعٌ لَهَا دُونَ مَوْضِعِهَا، فَهَذَا سُؤَالٌ مُقَدَّرٌ، وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ عِلِّيَّتُهَا لِذَاتِهَا، أَيْ هِيَ مُؤَثِّرَةٌ فِي مَعْلُولِهَا لِذَاتِهَا لَا بِوَاسِطَةٍ، وَالْعِلَّةُ
(1/428)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّرْعِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ كَامِلَةً، وَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ مَعْلُولِهَا، وَهُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، لَكِنْ عِلِّيَّتُهَا لَيْسَتْ لِذَاتِهَا، بَلْ بِوَاسِطَةِ نَصْبِ الشَّارِعِ لَهَا؛ فَضَعُفَتْ لِذَلِكَ عَنِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَأَشْبَهَتِ السَّبَبَ الَّذِي حُكْمُهُ أَنْ يَحْصُلَ عِنْدَهُ لَا بِهِ، كَمَا بَيَّنَّا قَبْلُ، وَحَيْثُ أَشْبَهَتِ السَّبَبَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ سُمِّيَتْ سَبَبًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ مُؤَثِّرَةً بِذَاتِهَا، أَنَّهَا قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَمْ تُوجَدْ أَحْكَامُهَا، كَالْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ، وَالْكَيْلِ فِي الْبُرِّ، وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يُوجَدِ التَّحْرِيمُ، وَالرِّبَا، وَلَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِحُكْمِهَا بِذَاتِهَا لَمَا تَخَلَّفَتْ عَنْهَا أَحْكَامُهَا فِي وَقْتٍ مَا مَعَ زَوَالِ مَانِعِهَا مِنَ التَّأْثِيرِ، كَمَا لَا يَتَخَلَّفُ الِانْفِعَالُ عَنِ الْفِعْلِ، فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ تَأْثِيرَهَا وَضْعِيٌّ لَا ذَاتِيٌّ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(1/429)
________________________________________
الثَّالِثُ: الشَّرْطُ، وَهُوَ لُغَةً: الْعَلَامَةُ، وَمِنْهُ {جَاءَ أَشْرَاطُهَا} ، وَشَرْعًا: مَا لَزِمَ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ أَمْرٍ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ. كَالْإِحْصَانِ وَالْحَوْلِ، يَنْتَفِي الرَّجْمُ وَالزَّكَاةُ لِانْتِفَائِهِمَا. وَهُوَ عَقْلِيٌّ، كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ، وَلُغَوِيٌّ، كَدُخُولِ الدَّارِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ. وَشَرْعِيٌّ، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ. وَعَكْسُهُ الْمَانِعُ، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ عَدَمُ الْحُكْمِ. وَنَصْبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، مُفِيدَةً مُقْتَضَيَاتِهَا، حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. إِذْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الزَّانِي حُكْمَانِ: وُجُوبُ الْحَدِّ وَسَبَبُهُ الزِّنَى لَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الثَّالِثُ: الشَّرْطُ» أَيِ: الثَّالِثُ مِنْ أَصْنَافِ الْعَلَمِ الشَّرْعِيِّ الْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ، هُوَ الشَّرْطُ.
«وَهُوَ لُغَةً» : أَيْ: فِي اللُّغَةِ: «الْعَلَامَةُ» لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [مُحَمَّدٍ: 18] ، أَيْ: عَلَامَاتُهَا، كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّرْطُ مَعْرُوفٌ - يَعْنِي: بِالسُّكُونِ - وَالشَّرَطُ بِالتَّحْرِيكِ: الْعَلَامَةُ، وَأَشْرَاطُ السَّاعَةِ: عَلَامَاتُهَا.
قُلْتُ: وَمَعَ اتِّفَاقِ الْمَادَّةِ لَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الْحَرَكَاتِ، وَالْكُلُّ ثَابِتٌ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ. قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» أَيْ: وَالشَّرْطُ فِي الشَّرْعِ «مَا لَزِمَ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ أَمْرٍ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ» .
فَقَوْلُنَا: مَا لَزِمَ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ أَمْرٍ، يَتَنَاوَلُ الشَّرْطَ، وَالسَّبَبَ، وَجُزْءَ السَّبَبِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ، كَالْإِحْصَانِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ رَجْمِ الزَّانِي، يَنْتَفِي وُجُوبُ الرَّجْمِ لِانْتِفَائِهِ، فَلَا يُرْجَمُ إِلَّا مُحْصَنٌ. وَكَالْحَوْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، يَنْتَفِي وُجُوبُهَا لِانْتِفَائِهِ، فَلَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ، وَهَذَا
(1/430)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعْنَى قَوْلِهِ: «كَالْإِحْصَانِ وَالْحَوَلِ يَنْتَفِي الرَّجْمُ وَالزَّكَاةُ لِانْتِفَائِهِمَا» .
وَالسَّبَبُ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ الْكَامِلَةُ أَوِ الْعِلَّةُ بِدُونِ شَرْطِهَا، يَنْتَفِي الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ مَعْلُولُهَا بِانْتِفَائِهَا، أَوْ بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ مِنْهَا، كَانْتِفَاءِ الْبَيْعِ لِانْتِفَاءِ الْعَقْدِ وَالْمُتَعَاقِدَيْنِ وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ وَانْتِفَاءِ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانْتِفَاءِ الْحَدِّ وَالزَّكَاةِ لِانْتِفَاءِ الزِّنَى وَالنِّصَابِ.
وَلَمَّا كَانَ قَوْلُنَا: مَا لَزِمَ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ أَمْرٍ يَتَنَاوَلُ السَّبَبَ أَيْضًا؛ فَيَكُونُ الْحَدُّ غَيْرَ مَانِعٍ قَالَ: «عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ» لِيَخْرُجَ السَّبَبُ وَجُزْؤُهُ. وَثَمَّ تَحْقِيقٌ يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ وَالشَّرْطِ، وَجُزْئِهِمَا يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ عَقْلِيٌّ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَالشَّرْطُ عَلَى أَضْرُبٍ: عَقْلِيٌّ وَلُغَوِيٌّ وَشَرْعِيٌّ.
فَالْعَقْلِيُّ: «كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ» ، فَإِنَّهَا شَرْطٌ لَهُ، إِذْ لَا يَعْقِلُ عَالِمٌ إِلَّا وَهُوَ حَيٌّ، فَالْحَيَاةُ يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهَا انْتِفَاءُ الْعِلْمِ، إِذِ الْجِسْمُ بِدُونِهَا جَمَادٌ، وَقِيَامُ الْعِلْمِ بِالْجَمَادِ مُحَالٌ. نَعَمْ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ انْتِفَاءُ الْحَيَاةِ، كَمَا فِي الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ، وَالْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّ الْمَلْزُومَ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ، وَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ اللَّازِمِ لِانْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ، لَكِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، إِذْ لِلسَّائِلِ أَنْ يَقُولَ: وَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ لِلْمَشْرُوطِ؟ فَإِنَّ هَذَا هُوَ قَوْلُكُمْ: الشَّرْطُ يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ مَشْرُوطِهِ، كَمَا يُقَالُ: اللَّازِمُ مَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا شَرْطًا عَقْلِيًّا، لِأَنَّ الْعَقْلَ أَدْرَكَ لُزُومَهُ لِمَشْرُوطِهِ، وَعَدَمَ تَصَوُّرِ انْفِكَاكِهِ عَنْهُ، كَمَا أَدْرَكَ لُزُومَ الْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ.
(1/431)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ: «كَدُخُولِ الدَّارِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ» أَوِ الْعَتَاقِ «الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ» فِيمَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لِأَمَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَأَنْتِ حُرَّةٌ. فَدُخُولُ الدَّارِ شَرْطٌ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْحُرِّيَّةِ وَلَازِمٌ لَهُ حَتَّى إِنَّهُ مَادَامَ الدُّخُولُ مُنْتَفِيًا، فَالطَّلَاقُ وَالْحُرِّيَّةُ مُنْتَفِيَانِ، وَإِذَا وُجِدَ الدُّخُولُ وُجِدَ الطَّلَاقُ وَالْحُرِّيَّةُ.
وَالشَّرْطُ الشَّرْعِيُّ: «كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ» فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الطَّهَارَةِ انْتِفَاءُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، لِجَوَازِ انْتِفَائِهَا لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ آخَرَ.
تَنْبِيهٌ: وَلِلشَّرْطِ قِسْمٌ رَابِعٌ، وَهُوَ الْعَادِيُّ، كَالْغِذَاءِ لِلْحَيَوَانِ، وَالْغَالِبُ فِيهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْغِذَاءِ [انْتِفَاءُ] الْحَيَاةِ، وَمِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهَا، إِذْ لَا يَتَغَذَّى إِلَّا حَيٌّ، فَعَلَى هَذَا الشَّرْطِ الْعَادِيِّ كَاللُّغَوِيِّ، فِي أَنَّهُ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ، وَيَكُونَانِ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْبَابِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الشُّرُوطِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الشُّرُوطُ اللُّغَوِيَّةُ أَسْبَابٌ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا الْوُجُودُ وَمِنْ عَدِمِهَا الْعَدَمُ بِخِلَافِ الشُّرُوطِ الْعَقْلِيَّةِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْحَيَّاتِ فِي الشِّتَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَقِيلَ: تَتَغَذَّى بِالتُّرَابِ، وَقِيلَ: لَا تَتَغَذَّى مُدَّةَ مُكْثِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يَلْزَمْ مِنِ انْتِفَاءِ الْغِذَاءِ فِي حَقِّهَا انْتِفَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْعَكِسُ الْحَالُ، وَتَصِيرُ الْحَيَاةُ هِيَ شَرْطُ الْغِذَاءِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْحَيَاةِ انْتِفَاؤُهُ. وَاعْلَمْ أَنْ مُكْثَ الْحَيَّةِ مُدَّةَ الشِّتَاءِ بِغَيْرِ غِذَاءٍ بَعِيدٌ جِدًّا، وَقَدْ جَاءَ عَنْ وَهَبٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا مَسَخَهَا، وَأَخْرَجَهَا مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ لَهَا: «إِنِّي
(1/432)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَعَلْتُ مَسْكَنَكَ الظُّلُمَاتِ، وَطَعَامَكَ التُّرَابَ» . وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهَا تَمْكُثُ بِغَيْرِ غِذَاءٍ ظَاهِرٍ، لَكِنَّهَا تَسْتَعِدُّ مِنَ الصَّيْفِ لِلشِّتَاءِ بِأَنْ تَأْكُلَ فِيهِ مَا يَكْفِيهَا بِحَسَبِ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ.
قَوْلُهُ: «وَعَكْسُهُ» ، أَيْ: وَعَكْسُ الشَّرْطِ «الْمَانِعِ، وَهُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ عَدَمُ الْحُكْمِ» كَالدَّيْنِ مَعَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالْأُبُوَّةِ مَعَ الْقِصَاصِ.
وَوَجْهُ الْعَكْسِ فِيهِ أَنَّ الشَّرْطَ يَنْتَفِي الْحُكْمُ لِانْتِفَائِهِ، وَالْمَانِعُ يَنْتَفِي الْحُكْمُ لِوُجُودِهِ. فَوُجُودُ الْمَانِعِ وَانْتِفَاءُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ فِي اسْتِلْزَامِهِمَا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ، وَانْتِفَاءُ الْمَانِعِ وَوُجُودُ الشَّرْطِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُمَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُمَا وُجُودُ الْحُكْمِ وَلَا عَدَمُهُ.
تَنْبِيهٌ، يَتَضَمَّنُ فَوَائِدَ، كَالتَّكْمِلَةِ لِمَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» :
إِحْدَاهُنَّ: فِي الْكَلَامِ عَلَى السَّبَبِ وَالشَّرْطِ وَالْمَانِعِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: السَّبَبُ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ دَلَّ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِثُبُوتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، طَرْدِيًّا كَانَ، كَجَعْلِ زَوَالِ الشَّمْسِ سَبَبًا لِلصَّلَاةِ، أَوْ غَيْرَ طَرْدِيٍّ، كَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، سَوَاءٌ اطَّرَدَ الْحُكْمُ مَعَهُ أَوْ لَمْ يَطَّرِدْ.
قُلْتُ: قَوْلُهُ: وَصْفٌ، احْتِرَازٌ مِنَ الذَّوَاتِ، فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ أَسْبَابًا.
وَقَوْلُهُ: ظَاهِرٌ: احْتِرَازٌ مِنَ الْوَصْفِ الْخَفِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَرَّفًا، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا.
وَقَوْلُهُ: مُنْضَبِطٌ احْتِرَازٌ مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ حَتَّى يَتَرَتَّبَ
(1/433)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُمَثَّلُ الْخَفِيُّ وَغَيْرُ الْمُنْضَبِطِ جَمِيعًا بِخُرُوجِ الْحَدَثِ حَالَ النَّوْمِ، وَبِحَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ رَبَطَ الْحُكْمَ بِوُجُودِ النَّوْمِ وَالسَّفَرِ لِانْضِبَاطِهِمَا.
وَقَوْلُهُ: سَوَاءٌ كَانَ طَرْدِيًّا، أَيْ: غَيْرَ مُنَاسِبٍ عَقْلًا، أَوْ غَيْرَ طَرْدِيٍّ، أَيْ: مُنَاسِبًا عَقْلًا، كَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، فَإِنَّهَا تُنَاسِبُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، بِخِلَافِ الزَّوَالِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ عَقْلًا وُجُوبَ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ شَرْعًا، وَلَوْلَاهُ مَا ثَبَتَ.
وَقَوْلُهُ: اطَّرَدَ الْحُكْمُ أَوْ لَمْ يَطَّرِدْ: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ السَّبَبَ الشَّرْعِيَّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ، إِذْ لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ إِلَّا وُجُودُ حُكْمِهَا فِي بَعْضِ صُوَرِ وُجُودِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَهُوَ عَدَمُ الِاطِّرَادِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: السَّبَبُ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ، وَمَنْ عَدِمَهُ الْعَدَمُ لِذَاتِهِ.
فَالْأَوَّلُ: احْتِرَازٌ مِنَ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ.
وَالثَّانِي: احْتِرَازٌ مِنَ الْمَانِعِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ.
وَالثَّالِثُ: احْتِرَازٌ مِمَّا لَوْ قَارَنَ السَّبَبُ فِقْدَانَ الشَّرْطِ أَوْ وُجُودَ الْمَانِعِ، كَالنِّصَابِ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ، أَوْ مَعَ وُجُودِ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ، لَكِنْ لَا لِذَاتِهِ، بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الشَّرْطِ وَوُجُودُ الْمَانِعِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَّفَ السَّبَبَ سَبَبٌ آخَرُ لَمْ يَلْزَمْ مَنْ عَدِمَهُ الْعَدَمُ، كَالزِّنَى إِذَا عُدِمَ، لَا يَلْزَمُ مَنْ عَدِمَهُ عَدَمُ الْجَلْدِ، لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ بِالْقَذْفِ، وَكَالرِّدَّةِ إِذَا انْتَفَتْ، لَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْقَتْلِ لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ قِصَاصًا، لَكِنَّ كَوْنَهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَهُوَ كَوْنُ السَّبَبِ الْآخَرِ خَلَّفَهُ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ حُكْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ لَا مُطْلَقًا، وَحُكْمُ السَّبَبِ الْخَالِفِ غَيْرُ حُكْمِ السَّبَبِ الزَّائِلِ، إِذِ الْجَلْدُ
(1/434)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْقَذْفِ غَيْرُ الْجَلْدِ بِالزِّنَى.
وَأَمَّا الشَّرْطُ، فَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ وَلَا الْعَدَمُ لِذَاتِهِ.
فَالْأَوَّلُ احْتِرَازٌ مِنَ الْمَانِعِ.
قُلْتُ: لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ، كَالدَّيْنِ: يَجُوزُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ مَعَ انْتِفَائِهِ لِوُجُودِ الْغِنَى، وَعَدَمُ وُجُوبِهَا لِوُجُودِ الْفَقْرِ مَعَ انْتِفَاءِ الدَّيْنِ.
وَالثَّانِي: احْتِرَازٌ مِنَ السَّبَبِ وَالْمَانِعِ أَيْضًا. أَمَّا مِنَ السَّبَبِ، فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ لِذَاتِهِ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا مِنَ الْمَانِعِ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ.
وَالثَّالِثُ: احْتِرَازٌ مِنْ مُقَارَنَةِ الشَّرْطِ وُجُودَ السَّبَبِ، فَيَلْزَمُ الْوُجُودُ، أَوْ قِيَامَ الْمَانِعِ، فَيَلْزَمُ الْعَدَمُ، لَكِنْ لَا لِذَاتِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ شَرْطًا، بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَهُوَ مُقَارَنَةُ السَّبَبِ، أَوْ قِيَامُ الْمَانِعِ، وَقِيلَ: الشَّرْطُ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ دَلَّ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ عَدَمُهُ مُخِلًّا بِحُكْمِهِ السَّبَبَ فَهُوَ شَرْطُ السَّبَبِ كَالْحَوْلِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ عَدَمَهُ مُخِلٌّ بِحِكْمَةِ النِّصَابِ، إِذْ حِكْمَتُهُ الْغِنَى، وَكَمَالُ الْغِنَى بِالْحَوْلِ لِتَحَقُّقِ تَنْمِيَةِ الْمَالِ لِمَنْ أَرَادَهَا، فَتَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، فَعَدَمُ تَمَامِ الْحَوْلِ مُخِلٌّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ، فَهُوَ شَرْطُ السَّبَبِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى حِكْمَةٍ مُنَاقِضَةٍ لِحِكْمَةِ السَّبَبِ مَعَ بَقَائِهَا، فَهُوَ شَرْطُ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ كَانْتِفَاءِ الْأُبُوَّةِ هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَعَدَمُ هَذَا الشَّرْطِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْأُبُوَّةِ، غَيْرُ مُخِلٍّ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ، وَهِيَ الْقَتْلُ قِصَاصًا، إِذْ لَوْ قُتِلَ الْأَبُ بِوَلَدِهِ، لَحَصَلَتِ الْحِكْمَةُ، وَهِيَ الزَّجْرُ، لَكِنَّهُ مُشْتَمِلٌ
(1/435)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى حِكْمَةٍ مُنَاقِضَةٍ لِحِكْمَةِ السَّبَبِ، وَهِيَ قَتْلُ الْأَبِ قِصَاصًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إِعْدَامَ الْأَبِ، وَكَوْنُهُ سَبَبَ وُجُودِ الِابْنِ يَقْتَضِي اسْتِبْقَاءَهُ كَمَا سَبَقَ، فَتَنَاقَضَتِ الْحِكْمَتَانِ: حِكْمَةُ السَّبَبِ، وَحِكْمَةُ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ.
وَأَمَّا الْمَانِعُ: فَهُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ وُجُودٌ، وَلَا عَدَمٌ لِذَاتِهِ.
فَالْأَوَّلُ: احْتِرَازٌ مِنَ السَّبَبِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ.
وَالثَّانِي: احْتِرَازٌ مِنَ الشَّرْطِ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ.
وَالثَّالِثُ: احْتِرَازٌ مِنْ مُقَارَنَةِ عَدَمِهِ لِوُجُودِ السَّبَبِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْوُجُودُ لَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ بَلْ لِوُجُودِ السَّبَبِ.
ثُمَّ قَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَانِعِ الْحُكْمِ، وَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ وُجُودِيٍّ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ، مُقْتَضَاهُ نَفْيُ السَّبَبِ مَعَ بَقَاءِ حِكْمَةِ السَّبَبِ، كَالْأُبُوَّةِ فِي الْقِصَاصِ.
وَإِلَى مَانِعِ السَّبَبِ، وَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ وُجُودِيٍّ يُخِلُّ وُجُودُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ يَقِينًا، كَالدَّيْنِ فِي الزَّكَاةِ.
قُلْتُ: وَمِثَالُهُ قَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّرْطِ.
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ مِنَ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ وُجُودُهُمَا، وَمِنَ الْمَانِعِ انْتِفَاؤُهُ.
قُلْتُ: وَمَدَارُ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى كَلَامِ الْآمِدِيِّ وَالْقَرَافِيِّ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي فُرُوقٍ نَافِعَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ:
فَمِنْهَا: أَنَّ الشَّرْطَ وَجُزْأَهُ وَجُزْءَ الْعِلَّةِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ، فَهِيَ تَلْتَبِسُ. وَالْفَرْقُ أَنَّ مُنَاسَبَةَ الشَّرْطِ، وَجُزْأَهُ فِي غَيْرِهِ، وَمُنَاسَبَةَ جُزْءِ الْعِلَّةِ فِي نَفْسِهِ.
(1/436)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثَالُهُ: الْحَوْلُ: مُنَاسَبَتُهُ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ النِّصَابُ لِتَكْمِيلِهِ الْغِنَى الْحَاصِلَ بِهِ بِالتَّنْمِيَةِ. وَجُزْءُ الْعِلَّةِ الَّذِي هُوَ النِّصَابُ مُنَاسَبَتُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَعْضِ الْغِنَى. فَالْعِلَّةُ وَجُزْؤُهَا مُؤَثِّرَانِ، وَالشَّرْطُ مُكَمِّلٌ لِتَأْثِيرِ الْعِلَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ عَرَّفَ بَعْضُهُمُ الشَّرْطَ بِمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْحُكْمَ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ سَبَبِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟
وَالْجَوَابُ بِمَا سَبَقَ مِنْ كَوْنِ السَّبَبِ مُؤَثِّرًا مُنَاسِبًا فِي نَفْسِهِ، وَالشَّرْطُ مُكَمِّلٌ مُنَاسِبٌ فِي غَيْرِهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ أَجْزَاءَ الْعِلَّةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ، وَالْعِلَلُ الْمُتَعَدِّدَةُ إِذَا وُجِدَتْ تَرَتَّبَ الْحُكْمُ، فَمَا الْفَرْقُ؟
وَالْجَوَابُ أَنَّ جُزْءَ الْعِلَّةِ إِذَا انْفَرَدَ لَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ بَقِيَّةِ أَجْزَائِهَا، كَأَوْصَافِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَجَبَ الْقَوَدُ، وَلَوِ انْفَرَدَ بَعْضُهَا كَالْقَتْلِ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ، أَوْ قَتْلِ الْعَادِلِ الْبَاغِي لَمْ يَجِبِ الْقَوَدُ، بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْمُتَعَدِّدَةِ، فَإِنَّ بَعْضَهَا إِذَا انْفَرَدَ اسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ، كَمَنْ لَمَسَ وَنَامَ وَبَالَ،
(1/437)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَجَبَ الْوُضُوءُ بِجَمِيعِهَا وَبِكُلِّ وَاحِدٍ، نَعَمْ إِذَا اجْتَمَعَتْ كَانَ حُكْمًا ثَابِتًا بِعِلَلٍ كَمَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ:
مِنْهَا: مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحُكْمِ وَاسْتِمْرَارَهُ، كَالرَّضَاعِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَاسْتِمْرَارَهُ إِذَا طَرَأَ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا: مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَهُ فَقَطْ، كَالْعِدَّةِ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا تُبْطِلُ اسْتِمْرَارَهُ.
وَمِنْهَا: مَا اخْتُلِفَ فِيهِ، كَالْإِحْرَامِ، يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الصَّيْدِ، فَإِنْ طَرَأَ عَلَى الصَّيْدِ، فَهَلْ تَجِبُ إِزَالَةُ الْيَدِ عَنْهُ؟
وَكَالطَّوْلِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ نِكَاحِ الْأَمَةِ، فَإِنْ طَرَأَ عَلَيْهِ فَهَلْ يُبْطِلُهُ؟
وَكَوُجُودِ الْمَاءِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ التَّيَمُّمِ، فَلَوْ طَرَأَ وُجُودُ الْمَاءِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ هَلْ يُبْطِلُهُ أَمْ لَا؟
فِي ذَلِكَ كُلِّهِ خِلَافٌ لِتَرَدُّدِ هَذَا الْقِسْمِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَنَصْبُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُفِيدَةً مُقْتَضَيَاتِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، إِذْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الزَّانِي حُكْمَانِ: وُجُوبُ الْحَدِّ وَسَبَبُهُ الزِّنَى لَهُ» .
هَذِهِ الْأَشْيَاءُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَصْنَافِ الْعِلْمِ الْمَنْصُوبِ لِتَعْرِيفِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْوَضْعِيِّ، وَهِيَ الْعِلَّةُ وَالسَّبَبُ وَالشَّرْطُ وَالْمَانِعُ.
وَقَوْلُهُ: مُفِيدَةً، نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: نَصْبُهَا حَالَ إِفَادَتِهَا أَوْ مُعَدَّةً لِإِفَادَتِهَا.
(1/438)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ نَصْبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِتُفِيدَ مَا اقْتَضَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، أَيْ: قَضَاءٌ مِنَ الشَّارِعِ بِذَلِكَ، وَمُقْتَضَيَاتُهَا أَيْضًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَجَعْلُ الزِّنَى سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ حُكْمٌ، وَوُجُوبُ الْحَدِّ حُكْمٌ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: إِذْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الزَّانِي حُكْمَانِ: وُجُوبُ الْحَدِّ، وَهُوَ حُكْمٌ لَفْظِيٌّ، وَسَبَبُهُ الزِّنَى، أَيْ: كَوْنُ الزِّنَى سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ حُكْمٌ آخَرُ.
وَكَذَلِكَ وُجُوبُ حَدِّ الْقَذْفِ مَعَ جَعْلِ الْقَذْفِ سَبَبًا لَهُ.
وَوُجُوبُ الْقَطْعِ مَعَ نَصْبِ السَّرِقَةِ سَبَبًا لَهُ.
وَوُجُوبُ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ وَالْقِصَاصِ مَعَ نَصْبِ الرِّدَّةِ وَالْقَتْلِ سَبَبًا لَهُمَا. وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
فَائِدَةٌ: قَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ أَنَّ خِطَابَ الْوَضْعِ وَالطَّلَبِ قَدْ يَجْتَمِعَانِ، وَقَدْ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، أَمَّا اجْتِمَاعُهُمَا فَكَالزِّنَى هُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحَدِّ خِطَابٌ وَضْعِيٌّ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ حَرَامًا خِطَابٌ طَلَبِيٌّ، وَكَذَا نَظَائِرُهُ.
وَأَمَّا انْفِرَادُ خِطَابِ الْوَضْعِ، فَكَزَوَالِ الشَّمْسِ، وَسَائِرُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ أَسْبَابٌ لِوُجُوبِهَا، وَطُلُوعُ الْهِلَالِ سَبَبُ وُجُوبِ رَمَضَانَ وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالشَّكِّ، وَالْحَيْضُ مَانِعٌ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَالْبُلُوغُ شَرْطٌ لِوُجُوبِهَا، وَحُئُولُ الْحَوْلِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَكُلُّ هَذِهِ مُتَجَرِّدَةٌ عَنْ خِطَابِ الطَّلَبِ، لَيْسَ هُوَ فِيهَا أَنْفُسِهَا، بَلْ فِي
(1/439)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرِهَا، كَالْوُجُوبِ مَثَلًا مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ لَا بِالزَّوَالِ، وَبِصَوْمِ رَمَضَانَ لَا بِطُلُوعِ الْهِلَالِ. وَأَمَّا انْفِرَادُ خِطَابِ الطَّلَبِ، فَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي «الْفُرُوقِ» : هُوَ كَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ جَعَلَهَا سَبَبًا لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَتَرْتِيبِ الثَّوَابِ، وَدَرْءِ الْعِقَابِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أَفْعَالًا لِلْمُكَلَّفِ، وَلَا نَعْنِي بِكَوْنِ الشَّيْءِ سَبَبًا إِلَّا كَوْنَهُ وُضِعَ سَبَبًا لِفِعْلٍ مِنْ قِبَلِ الْمُكَلِّفِ.
وَقَالَ فِي «شَرْحِ التَّنْقِيحِ» : لَا يُتَصَوَّرُ انْفِرَادُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، إِذْ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا وَلَهُ سَبَبٌ أَوْ شَرْطٌ أَوْ مَانِعٌ.
قُلْتُ وَهَذَا أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ.
(1/440)
________________________________________
ثُمَّ هُنَا أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الصِّحَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ.
وَقِيلَ: مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ. وَلَا يَرُدُّ الْحَجَّ الْفَاسِدَ لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهِ. فَصَلَاةُ الْمُحْدِثِ يَظُنُّ الطَّهَارَةَ، صَحِيحَةٌ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَالْبُطْلَانُ يُقَابِلُهَا عَلَى الرَّأْيَيْنِ. وَفِي الْمُعَامَلَاتِ، تُرَتَّبُ أَحْكَامُهَا الْمَقْصُودَةُ بِهَا عَلَيْهَا. وَالْبُطْلَانُ وَالْفَسَادُ مُتَرَادِفَيْنِ يُقَابِلَانِهَا، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَرَادُفَ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا سَبَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ هُنَا أُمُورٌ، أَحَدُهَا: الصِّحَّةُ» إِلَى آخِرِهِ، يَعْنِي أَنَّنَا ذَكَرْنَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ مَا هُوَ كَالْكُلِّيَّاتِ لَهُ، ثُمَّ هَاهُنَا أُمُورٌ وَهِيَ - وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ - لَكِنَّهَا كَاللَّوَاحِقِ الْجُزْئِيَّةِ لَهُ فَنَذْكُرُهَا:
أَحَدُهَا: الصِّحَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ.
وَقِيلَ: مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ.
مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ، فَالْفُقَهَاءُ قَالُوا: الصِّحَّةُ وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، كَالصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ بِشُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا مَعَ انْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، فَكَوْنُهَا كَافِيَةً فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، أَيْ أَنَّهَا لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا، هُوَ صِحَّتُهَا.
وَالْمُتَكَلِّمُونَ قَالُوا: الصِّحَّةُ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، فَكُلُّ مَنْ أُمِرَ بِعِبَادَةٍ، فَوَافَقَ الْأَمْرَ بِفِعْلِهَا، كَانَ قَدْ أَتَى بِهَا صَحِيحَةً، وَإِنِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِهَا، أَوْ وُجِدَ مَانِعٌ.
وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ صِحَّةٍ، فَهِيَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ صِحَّةً عِنْدِهِمْ، وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ أَوْ كَاللَّفْظِيِّ.
(1/441)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَا يُرَدُّ الْحَجُّ الْفَاسِدُ لِعَدَمِ مُوَافَقَتِهِ» .
هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَوْرَدَهُ الْفُقَهَاءُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَوْ كَانَتِ الصِّحَّةُ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ، لَكَانَ الْحَجُّ الْفَاسِدُ صَحِيحًا، لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِهِ، وَالْمُضِيِّ فِيهِ، فَالْمُتِمُّ لَهُ مُوَافِقُ الْأَمْرِ بِإِتْمَامِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، لَكِنَّهُ فَاسِدٌ بِاتِّفَاقٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الصِّحَّةُ مُوَافَقَةَ الْأَمْرِ، بَلْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِهِ كَافِيًا فِي إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَجَّ الْفَاسِدَ وَقَعَ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ، بَلْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، حَيْثُ فَعَلَ فِيهِ مَا أَفْسَدَهُ، وَحِينَئِذٍ انْتِفَاءُ صِحَّتِهِ لِانْتِفَاءِ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ فِيهِ. فَأَمَّا كَوْنُ الْمُفْسِدِ لَهُ مَأْمُورًا بِإِتْمَامِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ امْتِثَالُهُ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِهِ يُوجِبُ صِحَّتَهُ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِهِ أَمْرٌ طَرَأَ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ: إِمَّا حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ مِنَ الْهَتْكِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ احْتِرَامِهِ بِالْإِحْرَامِ، أَوْ عُقُوبَةً لِلْمُفْسِدِ لَهُ عَلَى إِفْسَادِهِ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّخْفِيفِ عَلَيْهِ وَمُعَارَضَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَالْوَاطِئِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. وَنَحْنُ إِنَّمَا نُرِيدُ بِالْأَمْرِ الَّذِي الصِّحَّةُ مُوَافَقَتُهُ الْأَمْرَ الِابْتِدَائِيَّ، أَيِ: الَّذِي أُمِرَ بِهِ الْمُكَلَّفُ ابْتِدَاءً.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّنَا إِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ الصِّحَّةَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ فِيمَا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ طَلَبَ مِنَّا تَصْحِيحَهُ، وَالْحَجُّ الْفَاسِدُ نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُرِدْ مِنَّا تَصْحِيحَهُ، لِأَنَّ
(1/442)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَصْحِيحَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ فَسَادِهِ مُحَالٌ، وَالشَّرْعُ مَا كَلَّفَنَا بِالْمُحَالِ، فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْحَجَّ الْفَاسِدَ غَيْرُ وَارِدٍ.
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ بِالْوَجْهَيْنِ يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ الدَّعْوَى، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: أَرَدْنَا أَنَّ الصِّحَّةَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الِابْتِدَائِيُّ، أَوْ مَا عَلِمْنَا إِرَادَةَ الشَّرْعِ تَصْحِيحَ مَأْمُورٍ مِنَّا.
قَوْلُهُ: «فَصَلَاةُ الْمُحْدِثِ يَظُنُّ الطَّهَارَةَ صَحِيحَةٌ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ» .
هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الصِّحَّةِ، وَهُوَ أَنَّ صَلَاةَ الْمُحْدِثِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ صَحِيحَةٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الصِّحَّةَ مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، لِأَنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِأَمْرِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الطَّهَارَةُ فِيهَا، وَقَدْ فَعَلَ، فَهُوَ مُوَافِقٌ.
وَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَقَعْ كَافِيَةً فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ.
قَوْلُهُ: «وَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ» ، أَيْ: فِي صَلَاةِ الْمُحْدِثِ يَظُنُّ الطَّهَارَةَ وَنَحْوَهَا مِمَّا لَمْ يَقَعْ كَافِيًا فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ.
وَمِنْ هُنَا تَبَيَّنَ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ، وَهُوَ فِي أَنَّ هَذِهِ: هَلْ تُسَمَّى صَحِيحَةً أَمْ لَا؟ لِأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِهَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمُصَلِّيَ مُوَافِقٌ لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُثَابٌ عَلَى صِلَاتِهِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى
(1/443)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَدَثِ دُونَ مَا إِذَا لَمْ يَطَّلِعْ، فَلَمْ يَبْقَ النِّزَاعُ إِلَّا فِي التَّسْمِيَةِ، وَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ أَوْفَقُ لِلُّغَةِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا تُسَمِّي صَحِيحًا مَا سَلِمَ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، كَالْآنِيَةِ الَّتِي لَا كَسْرَ فِيهَا، فَهَذِهِ الصَّلَاةُ لَيْسَتْ سَالِمَةً مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، بَلْ هِيَ بِتَقْدِيرِ الذِّكْرِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُهَا، وَيَجِبُ قَضَاؤُهَا بِاتِّفَاقٍ.
قَوْلُهُ: «وَالْبُطْلَانُ يُقَابِلُهَا عَلَى الرَّأْيَيْنِ» ، أَيِ: الْبَطَلَانُ يُقَابِلُ الصِّحَّةَ عَلَى رَأْيِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
فَمَنْ قَالَ: الصِّحَّةُ: وُقُوعُ الْفِعْلِ كَافِيًا فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، قَالَ: الْبُطَلَانُ: هُوَ وُقُوعُ الْفِعْلِ غَيْرُ كَافٍ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ. وَمَنْ قَالَ: الصِّحَّةُ: مُوَافَقَةُ الْأَمْرِ، قَالَ: الْبُطْلَانُ: مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ صَلَّى الْمُتَطَهِّرُ يَظُنُّ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، لَكِنْ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، لِكَوْنِهَا بَاطِلَةً بِالْمُخَالَفَةِ، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الطَّهَارَةِ.
وَشَبِيهٌ بِهَذَا مَا لَوِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ، فَصَلَّى إِلَى جِهَةٍ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَوَافَقَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ، فَتَكُونُ بَاطِلَةً عَلَى رَأْيِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ تَصِحُّ لِوَقْعِهَا بِشَرْطِهَا كَافِيَةً فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ.
قَوْلُهُ: «وَفِي الْمُعَامَلَاتِ» ، أَيْ: وَالصِّحَّةُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، كَعَقْدِ الْبَيْعِ، وَالرَّهْنِ، وَالنِّكَاحِ، وَنَحْوِهَا، «تُرَتَّبُ أَحْكَامُهَا الْمَقْصُودَةُ بِهَا عَلَيْهَا» وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُوضَعْ إِلَّا لِإِفَادَةِ مَقْصُودٍ، كَمِلْكِ الْمَبِيعِ فِي الْبَيْعِ، وَمِلْكِ الْبِضْعِ فِي النِّكَاحِ، فَإِذَا أَفَادَ
(1/444)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَقْصُودَهُ، فَهُوَ صَحِيحٌ. وَحُصُولُ مَقْصُودِهِ هُوَ تَرَتُّبُ حُكْمِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ مُؤَثِّرٌ لِحُكْمِهِ وَمُوجِبٌ لَهُ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَلَا بَأْسَ بِتَفْسِيرِ الصِّحَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ بِهَذَا.
قُلْتُ: لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعِبَادَةِ إِقَامَةُ رَسْمِ التَّعَبُّدِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْعَبْدِ مِنْهَا، فَإِذَا أَفَادَتْ ذَلِكَ كَانَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: إِنَّهَا كَافِيَةٌ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ، فَتَكُونُ صَحِيحَةً.
قَوْلُهُ: «وَالْبُطْلَانُ وَالْفَسَادُ مُتَرَادِفَيْنِ» ، أَيْ: حَالَ تَرَادُفِهِمَا، «يُقَابِلَانِهَا» ، أَيْ: يُقَابِلَانِ الصِّحَّةَ.
أَيِ: الْبُطْلَانُ يُقَابِلُ الصِّحَّةَ، وَالْفَسَادُ يُقَابِلُ الصِّحَّةَ أَيْضًا، فَيُقَالُ: صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، كَمَا يُقَالُ: صَحِيحٌ وَبَاطِلٌ، فَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ مُتَرَادِفَانِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَا تَرَادُفَ بَيْنِهِمَا، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِمَا سَبَقَ، يَعْنِي: فِي آخِرِ مَسْأَلَةِ تَوَارُدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْفِعْلِ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ الْمَغْصُوبِ، فَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْأَعَمِّ وَالْأَخَصِّ، كَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ، إِذْ كُلُّ بَاطِلٍ فَاسِدٌ، وَلَيْسَ كُلُّ فَاسِدٍ بَاطِلًا، وَعِنْدَنَا هُمَا مُتَرَادِفَانِ مِنْ بَابِ اللَّيْثِ وَالْأَسَدِ، إِذْ كُلُّ فَاسِدٍ بَاطِلٌ، وَكُلُّ بَاطِلٍ فَاسِدٌ، وَقَوْلِي: مُتَرَادِفَيْنِ: حَالٌ، لَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُصُوصِ مَذْهَبِنَا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [الْبَقَرَةِ: 91] ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ غَيْرَ مُتَرَادِفَيْنِ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ، إِمَّا بِالنَّظَرِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الْمَذْهَبَيْنِ، فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي بَابِ الْحَالِ، لِأَنَّ التَّقْيِيدَ حِينَئِذٍ وَالْبُطْلَانَ وَالْفَسَادَ إِذَا كَانَا مُتَرَادِفَيْنِ عَلَى رَأْيِنَا يُقَابِلَانِ
(1/445)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصِّحَّةَ، وَإِذَا لَمْ يَكُونَا مُتَرَادِفَيْنِ عَلَى رَأْيِ الْخَصْمِ لَا يُقَابِلَانِهَا جَمِيعًا، إِنَّمَا يُقَابِلُهَا مُقَابَلَةً صَحِيحَةً الْبُطْلَانُ وَحْدَهُ، أَمَّا الْفَسَادُ، فَإِنَّهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا لَا يُقَابِلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِهِ الصِّحَّةُ فِي تَخَاطُبِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَهُمْ، فَهُوَ اصْطِلَاحٌ وَاتِّسَاعٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(1/446)
________________________________________
الثَّانِي: الْأَدَاءُ: فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا. وَالْإِعَادَةُ: فِعْلُهُ فِيهِ ثَانِيًا، لِخَلَلٍ فِي الْأَوَّلِ. وَالْقَضَاءُ: فِعْلُهُ خَارِجَ الْوَقْتِ، لِفَوَاتِهِ فِيهِ، لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الثَّانِي» ، أَيِ: الْأَمْرُ الثَّانِي مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مِنْ لَوَاحِقِ خِطَابِ الْوَضْعِ، أَوْ كَاللَّوَاحِقِ لَهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ فِي الْأَدَاءِ وَالْإِعَادَةِ وَالْقَضَاءِ، فَالْأَدَاءُ «فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا» كَفِعْلِ الْمَغْرِبِ مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِ الشَّفَقِ، وَالْفَجْرِ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا كَانَ مُضَيَّقًا، كَالصَّوْمِ، وَمُوَسَّعًا مَحْدُودًا بِوَقْتٍ كَالصَّلَوَاتِ، أَوْ غَيْرَ مَحْدُودٍ، كَالْحَجِّ، فَإِنَّ وَقْتَهُ الْعُمْرُ، وَتَحْدِيدُهُ بِالْمَوْتِ ضَرُورِيٌّ لَيْسَ كَتَحْدِيدِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ.
وَقَوْلُنَا: «فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ» احْتِرَازٌ مِمَّا رُبِطَ الْأَمْرُ بِفِعْلِهِ بِوُجُودِ سَبَبِهِ كَإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ، وَإِنْقَاذِ غَرِيقٍ إِذَا وُجِدَ، وَكَالْجِهَادِ إِذَا تَحَرَّكَ الْعَدُوُّ، أَوْ حُصِرَ الْبَلَدُ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَلَا يُوصَفُ بِالْأَدَاءِ فِي الِاصْطِلَاحِ لِعَدَمِ تَقْدِيرِ وَقْتِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُقَالُ فِي فَاعِلِهِ: إِنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُنَا: «شَرْعًا» : احْتِرَازٌ مِنَ الْعُرْفِ وَالْعَقْلِ، فَإِنَّهُمَا لَا تَصَرُّفَ لَهُمَا فِي تَقْدِيرِ أَوْقَاتِ الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
قَوْلُهُ: «وَالْإِعَادَةُ فِعْلُهُ فِيهِ» ، أَيْ: فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا «لِخَلَلٍ فِي الْأَوَّلِ» أَيْ: فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ كَانَ الْخَلَلُ فِي الْأَجْزَاءِ، كَمَنْ صَلَّى بِدُونِ
(1/447)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَرْطٍ أَوْ رُكْنٍ، أَوْ فِي الْكَمَالِ كَمَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا، فَيُعِيدُهَا فِي جَمَاعَةٍ فِي الْوَقْتِ. هَكَذَا يَذْكُرُهُ الْأُصُولِيُّونَ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ قَالَ: الْإِعَادَةُ فِعْلُ الشَّيْءِ مَرَّةً أُخْرَى.
قُلْتُ: وَهَذَا أَوْفَقُ لِلُّغَةِ وَالْمَذْهَبِ، أَمَّا اللُّغَةُ: فَإِنَّ الْعَرَبَ عَلَى ذَلِكَ تُطْلِقُ الْإِعَادَةَ، يَقُولُونَ: أَعَدْتُ الْكَرَّةَ إِذَا كَرَّ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَأَعَدْنَا الْحَرْبَ خَدْعَةً، وَرَجَعَ عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ، أَيْ: عَادَ رَاجِعًا كَمَا ذَهَبَ. وَإِعَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْعَالَمِ هُوَ إِنْشَاؤُهُ مَرَّةً ثَانِيَةً، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الْأَعْرَافِ: 29] ، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 104] ، {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الرُّومِ: 27] ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ تَعَرُّضٌ لِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْمَذْهَبُ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا وَغَيْرَهُمْ قَالُوا: مَنْ صَلَّى ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً، سُنَّ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا مَعَهُمْ، إِلَّا الْمَغْرِبَ عَلَى خِلَافٍ فِيهَا.
قُلْتُ: سَوَاءٌ كَانَتْ صَلَاتُهُ الْأَوْلَى مُنْفَرِدًا أَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ، فَقَدْ أَثْبَتُوا الْإِعَادَةَ مَعَ عَدَمِ الْخَلَلِ فِي الْأُولَى، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: لَا تَخْتَصُّ الْإِعَادَةُ بِالْوَقْتِ، بَلْ هِيَ فِي الْوَقْتِ لِاسْتِدْرَاكِ الْمَنْدُوبَاتِ، وَبَعْدَ الْوَقْتِ لِاسْتِدْرَاكِ الْوَاجِبَاتِ.
قَوْلُهُ: «وَالْقَضَاءُ فِعْلُهُ» ، أَيْ: فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ «خَارِجَ الْوَقْتِ» ، أَيْ: بَعْدَ خُرُوجِهِ «لِفَوَاتِهِ فِيهِ» أَيْ: لِفَوَاتِ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ «لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ» يَعْنِي: إِذَا فَاتَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ الشَّرْعِيِّ فَفِعْلُهُ خَارِجَ الْوَقْتِ قَضَاءٌ، سَوَاءٌ كَانَ فَوَاتُهُ فِي الْوَقْتِ لِعُذْرٍ،
(1/448)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَالْحَائِضِ يَفُوتُهَا الصَّوْمُ فِي رَمَضَانَ، فَتَصُومُ بَعْدَهُ، أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِأَنْ أَخَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَمْدًا حَتَّى خَرَجَ وَقْتُهُ، ثُمَّ فَعَلَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى قَضَاءً فِي اللُّغَةِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَدْ يَكُونُ الْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ، تَقُولُ: قَضَيْتُ حَاجَتِي، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْأَدَاءِ وَالْإِنْهَاءِ، تَقُولُ: قَضَيْتُ دَيْنِي. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الْإِسْرَاءِ: 4] ، {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ} [الْحِجْرِ: 66] ، أَيْ: أَنْهَيْنَاهُ وَأَبْلَغْنَاهُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ فِعْلَ الْعِبَادَةِ خَارِجَ وَقْتِهَا لِفَوَاتِهَا فِيهِ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، هُوَ فَرَاغٌ مِنْهَا وَأَدَاءٌ لِمَا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْهَا لُغَةً، وَانْتِهَاءٌ إِلَيْهِ، وَإِنْهَاءٌ لَهُ.
(1/449)
________________________________________
وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى قَضَاءً مَا فَاتَ لِعُذْرٍ، كَالْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ يَسْتَدْرِكُونَ الصَّوْمَ، لِعَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ حَالَ الْعُذْرِ، بِدَلِيلِ عَدَمِ عِصْيَانِهِمْ لَوْ مَاتُوا فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَا يُسَمَّى قَضَاءً مَا فَاتَ لِعُذْرٍ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا قَوْلٌ آخَرُ فِي الْقَضَاءِ يَتَضَمَّنُ تَفْصِيلًا، أَيْ إِنْ كَانَ فَوَاتُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي وَقْتِهِ لَا لِعُذْرٍ، فَفَعَلَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ يَكُونُ قَضَاءً، وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَاءً، كَالْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ: يَفُوتُهُمْ صَوْمُ رَمَضَانَ لِعُذْرِ الْحَيْضِ وَالسَّفَرِ، فَيَسْتَدْرِكُونَهُ بَعْدَهُ.
قَوْلُهُ: «لِعَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ حَالَ الْعُذْرِ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا تَوْجِيهُ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ قَضَاءً.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الصَّوْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى هَؤُلَاءِ حَالَ الْحَيْضِ وَالسَّفَرِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمْ لَهُ قَضَاءً، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِمْ حَالَ الْعُذْرِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ مَاتُوا حِينَئِذٍ لَمْ يَكُونُوا عُصَاةً، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «بِدَلِيلِ عَدَمِ عِصْيَانِهِمْ لَوْ مَاتُوا فِيهِ» ، أَيْ: فِي حَالِ الْعُذْرِ، الْحَائِضُ لَوْ مَاتَتْ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ لَمْ تَعْصِ بِتَرْكِ الصَّوْمِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا، لَعَصَتْ بِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا حَالَ الْعُذْرِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ بَعْدَهُ قَضَاءً، لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ، وَلِهَذَا الْخِلَافِ أَصْلٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ.
(1/450)
________________________________________
وَرَدَ، بِوُجُوبِ نِيَّةِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ إِجْمَاعًا، وَبِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (كُنَّا نَحِيضُ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ) ، وَبِأَنَّ ثُبُوتَ الْعِبَادَةِ فِي الذِّمَّةِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، فَكِلَاهُمَا يُقْضَى. وَفِعْلُ الزَّكَاةِ وَالصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ بَعْدَ تَأْخِيرِهِمَا عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِمَا لَا يُسَمَّى قَضَاءً، لِعَدَمِ تَعَيُّنِ وَقْتِ الزَّكَاةِ، وَامْتِنَاعِ قَضَاءِ الْقَضَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَرَدَ بِوُجُوبِ نِيَّةِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ إِجْمَاعًا "، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَرَدَ هَذَا الْقَوْلُ الَّذِي فُصِلَ فِيهِ: بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّرْكُ لَا لِعُذْرٍ، فَيَكُونُ قَضَاءً، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ، فَلَا يَكُونُ قَضَاءً، بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَائِضَ وَالْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ إِذَا صَامُوا بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِمْ، تَجِبُ عَلَيْهِمْ نِيَّةُ الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكُلُّ مَا وَجَبَتْ فِيهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ، فَهُوَ قَضَاءٌ، إِذْ لَوْ كَانَ أَدَاءً، لَمَا جَازَ أَنْ يَنْوُوا الْقَضَاءَ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ يَنْوُونَ غَيْرَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَمَعْنَاهُ فِي " الصَّحِيحِ ". فَسَمَّتْهُ قَضَاءً، وَأَخْبَرَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَمِّيهِ قَضَاءً وَيَأْمُرُ بِهِ.
لَا يُقَالُ: إِنَّمَا سَمَّاهُ قَضَاءً لُغَةً، وَالْقَضَاءُ وَالْأَدَاءُ فِي اللُّغَةِ قَدْ يَكُونَانِ بِمَعْنًى
(1/451)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاحِدٍ، نَحْوَ: قَضَيْتُ الدَّيْنَ وَأَدَّيْتُهُ، لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّ أَلْفَاظَ الشَّارِعِ الْمُبَيِّنَةَ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ إِنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا الشَّرْعِيَّةِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ، وَالْقَضَاءُ وَالْأَدَاءُ فِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ مُتَغَايِرَانِ كَمَا تَقَرَّرَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ ثُبُوتَ الْعِبَادَةِ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَمَا أَنَّ ثُبُوتَ دَيْنِ الْآدَمِيِّ فِي الذِّمَّةِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَإِذَا كَانَ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ جَائِزًا، كَانَ فِعْلُهَا خَارِجَ وَقْتِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ قَضَاءً كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ امْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْعِبَادَةِ فِي الذِّمَّةِ، هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ يَعْنِي مِنْ دَيْنِ الْآدَمِيِّ، فَشَبَّهَ دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ فِي الْقَضَاءِ الَّذِي الثُّبُوتُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ لَوَازِمِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دِينَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَالْعِبَادَاتُ مِنْ دَيْنِهِ، فَيَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ. وَلِأَنَّ مَعْنَى الثُّبُوتِ فِي الذِّمَّةِ هُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مُتَرَاخِيًا، وَهَذَا مُمْكِنٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا، فَيَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، وَيَسْتَدْرِكُ فِعْلَهَا بِالْقَضَاءِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُمُ: الْعِبَادَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ حَالَ الْعُذْرِ، قُلْنَا: أَدَاؤُهَا هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِوَاجِبٍ، أَمَّا الْتِزَامُهَا فِي الذِّمَّةِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْصُوا بِمَوْتِهِمْ حَالَ الْعُذْرِ، لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِفِعْلِهَا حِينَئِذٍ، كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي، هُمَا مُخَاطَبَانِ بِالْوُجُوبِ، وَيَسْقُطُ عَنْهُمَا الْإِثْمُ بِتَرْكِ الْفِعْلِ حَالَ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ لِأَجْلِ الْعُذْرِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي هَذَا أَنَّ شَرْطَ الْقَضَاءِ، هَلْ هُوَ تَقَدُّمُ وُجُوبِ الْفِعْلِ أَوْ تَقَدُّمُ
(1/452)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سَبَبِهِ فَقَطْ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَا يَكُونُ فِعْلُ الْحَائِضِ لِلصَّوْمِ بَعْدَ رَمَضَانَ قَضَاءً، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهَا، فَانْتَفَى شَرْطُ الْقَضَاءِ، فَانْتَفَى لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ.
وَعَلَى الثَّانِي: يَكُونُ قَضَاءً، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوُجُوبِ، وَإِنِ انْتَفَتْ، لَكِنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ مَوْجُودٌ، وَهُوَ أَهْلِيَّتُهَا لِلتَّكْلِيفِ، ثُمَّ تَقَدَّمَ السَّبَبُ قَدْ يَكُونُ مَعَ الْإِثْمِ بِالتَّرْكِ، كَالتَّارِكِ الْمُتَعَمِّدِ الْمُتَمَكِّنِ مِنَ الْفِعْلِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَعَ الْإِثْمِ، كَالنَّائِمِ وَالْحَائِضِ. ثُمَّ الْمُزِيلُ لِلْإِثْمِ قَدْ يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ، كَالسَّفَرِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، كَالْحَيْضِ، ثُمَّ قَدْ يَصِحُّ مَعَهُ الْأَدَاءُ، كَالْمَرَضِ، وَقَدْ لَا يَصِحُّ، إِمَّا شَرْعًا كَالْحَيْضِ، أَوْ عَقْلًا كَالنَّوْمِ.
قُلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْتِزَامَ الْعِبَادَةِ وَاجِبٌ حَالَ الْعُذْرِ عَمَلًا بِالْخِطَابِ السَّابِقِ، وَإِيقَاعَهَا حِينَئِذٍ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَجْلِ الْعُذْرِ.
تَنْبِيهٌ: الْفِعْلُ الْمُقَدَّرُ وَقْتُهُ إِنْ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ، لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَاءً إِجْمَاعًا، وَإِنِ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَوَجَبَ، كَانَ فِعْلُهُ خَارِجَ الْوَقْتِ قَضَاءً حَقِيقَةً، وَإِنِ انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَلَمْ يَجِبْ لِمُعَارِضٍ، سُمِّيَ قَضَاءً أَيْضًا، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِيهِ. هَلْ هُوَ قَضَاءٌ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؟ وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، هَلْ كَانَ لِاسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةٍ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ، فَيَكُونُ هَاهُنَا حَقِيقَةً لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، أَوْ لِاسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةٍ مَا وَجَبَ، فَيَكُونُ هَاهُنَا مَجَازٌ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ.
هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ، وَهُوَ تَلْخِيصٌ حَسَنٌ وَمَأْخَذٌ جَيِّدٌ.
قَوْلُهُ: " وَفِعْلُ الزَّكَاةِ وَالصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ بَعْدَ تَأْخِيرِهِمَا عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِمَا لَا يُسَمَّى قَضَاءً لِعَدَمِ تَعَيُّنِ وَقْتِ الزَّكَاةِ وَامْتِنَاعِ قَضَاءِ الْقَضَاءِ ".
هَاتَانِ صُورَتَانِ قَدْ يَقَعُ التَّرَدُّدُ فِيهِمَا، هَلْ هُمَا قَضَاءٌ أَوْ لَا؟ فَبُيِّنَ حُكْمُهُمَا
(1/453)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَنَّهُمَا لَيْسَا قَضَاءً.
أَمَّا الزَّكَاةُ، فَإِنَّهَا تَجِبُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ عَلَى الْفَوْرِ، فَهُوَ وَقْتُ وُجُوبِهَا، فَلَوْ أُخِّرَتْ عَنْهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ مُسَوِّغٍ لِلتَّأْخِيرِ، ثُمَّ أُدِّيَتْ، لَمْ تُسَمَّ قَضَاءً لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَقْتَهَا غَيْرُ مَحْدُودِ الطَّرَفَيْنِ، مُقَدَّرٌ كَتَقْدِيرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَنَحْنُ قُلْنَا: إِنَّ الْقَضَاءَ هُوَ فِعْلُ الْوَاجِبِ خَارِجَ وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا.
قُلْتُ: وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ تَحْدِيدَ الْوَقْتِ بِطَرَفَيْهِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ هَاهُنَا، بَلِ الْمُؤَثِّرُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ وَقْتِهِ مَعْلُومًا فِي الْجُمْلَةِ، وَوَقْتُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ، وَهُوَ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِقَدْرِ مَا يَتَّسِعُ لِأَدَائِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُؤَخَّرُ أَدَاؤُهَا فِيهَا هُوَ مُخَاطَبٌ بِإِخْرَاجِهَا فِيهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ أَدَاءَهَا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي بَعْدَ تَأْخِيرِهَا عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا الْأَوَّلِ قَضَاءٌ، لَزِمَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ وَمَا بَعْدَهُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، فَيَلْزَمُ بِتَقْدِيرِ تَأْخِيرِهَا أَزْمِنَةٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ يُؤَدِّيهَا، أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْإِخْرَاجُ لَهَا هُوَ قَضَاءُ قَضَاءِ قَضَاءِ الْقَضَاءِ، بِأَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ: إِذَا أُخِّرَتْ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا الْأَوَّلِ، وَجَبَ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي، وَهُوَ حَالُ الذِّكْرِ أَوِ الِانْتِبَاهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَذَلِكَ وَقْتُهَا
(1/454)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ.
فَلَوْ أَخَّرَهَا وَقْتَ الِانْتِبَاهِ قَدْرَ مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهَا فَصَاعِدًا، ثُمَّ فَعَلَهَا، لَمْ يُسَمَّ هَذَا الْفِعْلُ قَضَاءً، لِأَنَّهُ لَوْ سُمِّيَ قَضَاءً لَلَزِمَ أَنْ يُسَمَّى قَضَاءَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ كَذَلِكَ فِي التَّحْقِيقِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ، وَيُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ أَلْفَاظِ الْقَضَاءِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ.
قُلْتُ: الْعِبَادَةُ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ أَدَاءً أَوْ قَضَاءً، فَإِذَا نَفَيْنَا أَنْ تَكُونَ هَاتَانِ الصُّورَتَانِ قَضَاءً، لَزِمَ أَنْ يَكُونَا أَدَاءً لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ الْمَحَلِّ عَنِ الضِّدَّيْنِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ أَدَاءً لِفَوَاتِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ قَضَاءً فِي الْحَقِيقَةِ، لَكِنَّهُمْ إِنَّمَا رَفَضُوا تَسْمِيَتَهَا قَضَاءً وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْقَضَاءِ فِيهَا تَخْفِيفًا، اسْتِثْقَالًا لِتَكْرَارِ لَفْظِ الْقَضَاءِ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الْقَضَاءِ اسْتِدْرَاكُ مَصْلَحَةٍ فَائِتَةٍ، وَهَذَا كَذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ: هُوَ شَرْحُ عِبَارَةِ " الْمُخْتَصَرِ " عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " الرَّوْضَةِ "، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ وَعَدَمُ تَحْقِيقٍ لِحَدِّ الْقَضَاءِ.
وَالْأَحْسَنُ فِي حَدِّهِ مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ، حَيْثُ قَالَ: الْقَضَاءُ إِيقَاعُ الْعِبَادَةِ خَارِجَ وَقْتِهَا الَّذِي عَيَّنَهُ الشَّرْعُ لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ، أَيْ: فِي الْوَقْتِ، احْتِرَازٌ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي عَيَّنَهُ الشَّرْعُ لِمَصْلَحَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، كَالْفَوْرِيَّاتِ الَّتِي عَيَّنَ الشَّرْعُ لَهَا الزَّمَنَ الَّذِي يَلِي
(1/455)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وُرُودَ الْأَمْرِ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْمَأْمُورَاتِ كَانَتْ لَا فِي الْوَقْتِ الْفَوْرِيِّ، بِخِلَافِ الْأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لِلْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي أَوْقَاتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَظْهَرُ، فَإِزَالَةُ الْمُنْكَرِ، وَإِنْقَاذُ الْغَرِيقِ وَنَحْوِهِ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ لِمَصْلَحَةٍ فِي الْإِزَالَةِ وَالْإِنْقَاذِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَأَمَّا تَعْيِينُ وَقْتِ الزَّوَالِ لِلظُّهْرِ، وَسَائِرُ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لَهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَوْقَاتِ، فَهُوَ لِمَصْلَحَةٍ فِي الْوَقْتِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَخْرُجُ صُورَةُ الزَّكَاةِ وَالصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ إِذَا فُعِلَا بَعْدَ تَأْخِيرِهِمَا عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِمَا عَنْ كَوْنِهِمَا قَضَاءً بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِّ، لِأَنَّهُمَا فَوْرِيَّتَانِ مَصْلَحَتُهُمَا فِي فِعْلِهِمَا لَا فِي وَقْتِهِمَا، وَيَطَّرِدُ هَذَا فِي الْحَجِّ حَيْثُ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ، إِذِ الْمَصْلَحَةُ فِي فِعْلِهِ لَا فِي وَقْتِهِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ، لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عِبَادَةً أَوْ حَجًّا. فَإِذَنْ لَهُ جِهَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: جِهَةُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، فَمَصْلَحَتُهُ فِيهِ.
وَالثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ عِبَادَةً، فَالْمَصْلَحَةُ فِيهِ وَفِي وَقْتِهِ الْخَاصِّ، وَهِيَ أَشْهُرُ الْحَجِّ، وَهَذَا الْمَكَانُ يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا.
فَائِدَةٌ: الْعِبَادَاتُ قَدْ تُوصَفُ بِالْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَقَدْ لَا تُوصَفُ بِهِمَا، كَالنَّوَافِلِ، لِعَدَمِ تَقْدِيرِ وَقْتِهَا. وَقَدْ تُوصَفُ بِالْأَدَاءِ وَحْدَهُ، كَالْجُمُعَةِ، وَالْعِيدَيْنِ.
وَعَدَمُ الْقَضَاءِ فِيهِمَا لِلتَّوْقِيفِ أَوِ الْإِجْمَاعِ، لَا لِامْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا.
(1/456)
________________________________________
الثَّالِثُ: الْعَزِيمَةُ لُغَةً: الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ، وَشَرْعًا: الْحُكْمُ الثَّابِتُ لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ خَالٍ عَنْ مُعَارِضٍ. وَالرُّخْصَةُ لُغَةً: السُّهُولَةُ، وَشَرْعًا: مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ. وَقِيلَ: اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " الثَّالِثُ " أَيِ: الْأَمْرُ الثَّالِثُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ كَاللَّوَاحِقِ لِكُلِّيَّاتِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَهُوَ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ.
" فَالْعَزِيمَةُ لُغَةً " أَيْ: فِي اللُّغَةِ، هِيَ " الْقَصْدُ الْمُؤَكَّدُ "، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 159] .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: عَزَمْتُ عَلَى كَذَا عَزْمًا وَعُزْمًا بِالضَّمِّ، وَعَزِيمَةً وَعَزِيمًا، إِذَا أَرَدْتَ فِعْلَهُ وَقَطَعْتَ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] . " وَشَرْعًا " أَيْ: وَالْعَزِيمَةُ فِي الشَّرْعِ: هِيَ " الْحُكْمُ الثَّابِتُ لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ خَالٍ عَنْ مُعَارِضٍ " وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي مُحَمَّدٍ: هِيَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.
فَقَوْلُنَا: الْحُكْمُ الثَّابِتُ لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ: يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ، وَالْمَنْدُوبَ، وَتَحْرِيمَ الْحَرَامِ، وَكَرَاهَةَ الْمَكْرُوهِ. فَالْعَزِيمَةُ وَاقِعَةٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ. وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنَّ سَجْدَةَ (ص) ، هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ أَوْ لَا؟ مَعَ أَنَّ سَجَدَاتِ
(1/457)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقُرْآنِ كُلَّهَا عِنْدَهُمْ نَدْبٌ.
وَقَوْلُنَا: لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ: احْتِرَازٌ مِنَ الثَّابِتِ لِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا تُسْتَعْمَلُ فِيهِ الرُّخْصَةُ وَالْعَزِيمَةُ.
وَقَوْلُنَا: خَالٍ عَنْ مُعَارِضٍ: احْتِرَازٌ مِمَّا ثَبَتَ لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، لَكِنْ لِذَلِكَ الدَّلِيلِ مُعَارِضٌ مُسَاوٍ أَوْ رَاجِحٌ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُعَارِضُ مُسَاوِيًا، لَزِمَ الْوَقْفُ، وَانْتَفَتِ الْعَزِيمَةُ، وَوَجَبَ طَلَبُ الْمُرَجَّحِ الْخَارِجِيِّ، وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا، لَزِمَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَانْتَفَتِ الْعَزِيمَةُ، وَثَبَتَتِ الرُّخْصَةُ، كَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَخْمَصَةِ هُوَ عَزِيمَةٌ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَابِتٌ لِدَلِيلٍ خَالٍ عَنْ مُعَارِضٍ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْمَخْمَصَةُ، حَصَلَ الْمُعَارِضُ لِدَلِيلِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ رَاجِحٌ عَلَيْهِ حِفْظًا لِلنَّفْسِ، فَجَازَ الْأَكْلُ، وَحَصَلَتِ الرُّخْصَةُ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْعَزِيمَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادُ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَذَكَرَ مَعْنَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَيْضًا.
قُلْتُ: وَهِيَ عَلَى هَذَا تَخْتَصُّ بِالْوَاجِبَاتِ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِاللُّغَةِ، وَبِلَفْظِ مُقَابِلِهَا، وَهُوَ الرُّخْصَةُ.
أَمَّا اللُّغَةُ: فَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الرُّخْصَةُ فِي الْأَمْرِ خِلَافُ التَّشْدِيدِ فِيهِ، وَالتَّشْدِيدُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ الْوَاجِبِ فِعْلًا أَوْ كَفًّا.
وَأَمَّا لَفْظُ الرُّخْصَةِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي التَّسْهِيلَ، فَالْعَزِيمَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَقْتَضِيَ التَّشْدِيدَ. وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْعَزِيمَةُ: طَلَبُ الْفِعْلِ الَّذِي لَمْ يَشْتَهِرْ فِيهِ مَنْعٌ شَرْعِيٌّ. قَالَ: وَإِنَّمَا قُلْتُ: طَلَبُ الْفِعْلِ، لِيَخْرُجَ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ وَنَحْوُهَا الدَّاخِلُ
(1/458)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي حَدِّ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، حَيْثُ عَرَّفَ الْعَزِيمَةَ بِجَوَازِ الْإِقْدَامِ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ وَلُبْسُ الثِّيَابِ وَنَحْوُهَا عَزِيمَةً، لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ جَائِزٌ، وَالْمَانِعَ مِنْهُ مُنْتَفٍ. وَعَدَمُ اشْتِهَارِ الْمَانِعِ: احْتِرَازٌ مِمَّا إِذَا اشْتَهَرَ الْمَانِعُ، فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ تَنْقَلِبُ رُخْصَةً.
قَوْلُهُ: " وَالرُّخْصَةُ لُغَةً: السُّهُولَةُ ". وَمِنْهُ: رَخُصَ السِّعْرُ، إِذَا سَهُلَ وَلَمْ يَبْقَ فِي السِّعْرِ تَشْدِيدٌ. وَالرَّخْصُ: النَّاعِمُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ. وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْجَوْهَرِيِّ فِي أَنَّ الرُّخْصَةَ خِلَافُ التَّشْدِيدِ.
قَوْلُهُ: " وَشَرْعًا "، أَيْ: وَالرُّخْصَةُ فِي الشَّرْعِ " مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ ".
فَقَوْلُنَا: " مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ دَلِيلٍ ": احْتِرَازٌ مِمَّا ثَبَتَ عَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ رُخْصَةً، بَلْ عَزِيمَةً، كَالصَّوْمِ فِي الْحَضَرِ.
وَقَوْلُنَا: " لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ ": احْتِرَازٌ مِمَّا كَانَ لِمُعَارِضٍ غَيْرِ رَاجِحٍ، بَلْ إِمَّا مُسَاوٍ، فَيَلْزَمُ الْوَقْفُ عَلَى حُصُولِ الْمُرَجَّحِ، أَوْ قَاصِرٌ عَنْ مُسَاوَاةِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَلَا يُؤَثِّرُ، وَتَبْقَى الْعَزِيمَةُ بِحَالِهَا.
" وَقِيلَ: الرُّخْصَةُ: " اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ " وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ. غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِبَاحَةَ قَدْ يَكُونُ مُسْتَنَدُهَا الشَّرْعَ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ لِمُعَارَضَةِ دَلِيلٍ
(1/459)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَاجِحٍ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ، فَإِنَّهُ اسْتِبَاحَةٌ لِلْمَيْتَةِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ رَاجِحٍ عَلَى هَذَا السَّبَبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، فَإِنَّ هَذَا خَاصٌّ، وَسَبَبُ التَّحْرِيمِ عَامٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ. هَذَا مَعَ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ الْخَاصِّ عَلَى حِفْظِ النُّفُوسِ وَاسْتِبْقَائِهَا. وَقَدْ لَا تَكُونُ الِاسْتِبَاحَةُ مُسْتَنَدَةً إِلَى الشَّرْعِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَعْصِيَةً مَحْضَةً لَا رُخْصَةً. فَلَوْ قِيلَ: اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ شَرْعًا مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ، لَصَحَّ وَسَاوَى الْأَوَّلَ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الرُّخْصَةُ: مَا شُرِعَ مِنَ الْأَحْكَامِ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هِيَ جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْفِعْلِ مَعَ اشْتِهَارِ الْمَانِعِ مِنْهُ شَرْعًا.
وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ.
(1/460)
________________________________________
فَمَا لَمْ يُخَالِفْ دَلِيلًا، كَاسْتِبَاحَةِ الْمُبَاحَاتِ، وَسُقُوطِ صَوْمِ شَوَّالٍ، لَا يُسَمَّى رُخْصَةً، وَمَا خُفِّفَ عَنَّا مِنَ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَنَا، بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا رُخْصَةٌ مَجَازًا، وَمَا خُصَّ بِهِ الْعَامُّ إِنِ اخْتُصَّ بِمَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي بَقِيَّةِ صُوَرِهِ، كَالْأَبِ الْمَخْصُوصِ بِالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَلَيْسَ بِرُخْصَةٍ، وَإِلَّا كَانَ رُخْصَةً، كَالْعَرَايَا الْمَخْصُوصَةِ مِنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ. وَإِبَاحَةُ التَّيَمُّمِ رُخْصَةٌ، إِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِمَرَضٍ، أَوْ زِيَادَةِ ثَمَنٍ، وَإِلَّا فَلَا، لِعَدَمِ قِيَامِ السَّبَبِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «فَمَا لَمْ يُخَالِفْ دَلِيلًا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا كَالِامْتِحَانِ لِحَدِّ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ بِالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ، فَاسْتِبَاحَةُ الْمُبَاحَاتِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَتَنَزُّهٍ وَنَحْوِهِ، وَعَدَمُ صَوْمِ شَوَّالٍ، لَا يُسَمَّى رُخْصَةً، لِكَوْنِهِ لَا يُخَالِفُ دَلِيلًا، وَشَرْطُ الرُّخْصَةِ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ.
وَقَوْلُنَا هَاهُنَا: وَعَدَمُ وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ: أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِنَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» : وَسُقُوطُ صَوْمِ شَوَّالٍ، لِأَنَّ السُّقُوطَ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ وُجُوبٍ، وَصَوْمُ شَوَّالٍ لَمْ يَجِبْ أَصْلًا حَتَّى يَكُونَ عَدَمُ صَوْمِهِ لِسُقُوطِهِ.
فَأَمَّا مَا خُفِّفَ عَنَّا - أَيُّهَا الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ - مِنَ التَّغْلِيظِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْأُمَمِ قَبْلَنَا، كَقَطْعِ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ مِنَ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ، وَهَتْكِ الْعُصَاةِ بِوُجُودِ مَعَاصِيهِمْ مَكْتُوبَةً عَلَى أَبْوَابِهِمْ، فَيُعَاقَبُونَ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ الْمَوْضُوعَةُ عَنَّا بِبَرَكَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا رُخْصَةٌ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ سَهَّلَ عَلَيْنَا مَا شَدَّدَ
(1/461)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِمْ رِفْقًا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِنَا مَعَ جَوَازِ إِيجَابِهِ عَلَيْنَا كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّنَا اسْتَبَحْنَا شَيْئًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِمْ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ فِي حَقِّنَا، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ لِذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمُ الْمُكَلَّفُونَ بِهِ لَا نَحْنُ، فَهَذَا وَجْهُ التَّجَوُّزِ.
أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ عَزِيمَةً فِي حَقِّهِمْ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ، لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُمْ طَلَبًا مُؤَكَّدًا بِدَلِيلٍ خَالٍ عَنْ مُعَارِضٍ. وَهَذَا حَقِيقَةُ الْعَزِيمَةِ.
قَوْلُهُ: «وَمَا خُصَّ بِهِ الْعَامُّ» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: مَا خُصَّ بِهِ الْعَامُّ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يُخْتَصَّ ذَلِكَ الْمُخَصَّصُ لِلْعَامِ بِمَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي بَقِيَّةِ صُوَرِ الْعَامِّ، أَوْ لَا يُخْتَصُّ.
فَإِنِ اخْتُصَّ بِمَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي بَقِيَّةِ الصُّوَرِ، فَلَيْسَ بِرُخْصَةٍ، وَذَلِكَ كَالْأَبِ الْمَخْصُوصِ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لِابْنِهِ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
فَإِنَّ اخْتِصَاصَ الْأَبِ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لِمَعْنًى خَاصٍّ فِيهِ، وَهُوَ الْأُبُوَّةُ، دُونَ سَائِرِ الْوَاهِبِينَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لَا مِنْ بَابِ الرُّخَصِ.
وَإِنْ لَمْ يُخْتَصَّ ذَلِكَ الْمُخَصَّصُ بِمَعْنًى لَا يُوجَدُ فِي بَقِيَّةِ صُوَرِهِ، كَانَ رُخْصَةً، كَالْعَرَايَا الْمَخْصُوصَةِ مِنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، فَإِنَّ الْمُزَابَنَةَ: بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ نَهْيًا عَامًّا، ثُمَّ خُصَّتْ مِنْهُ الْعَرَايَا فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَمَا دُونَهُمَا لِلْحَاجَةِ بِشُرُوطٍ ذُكِرَتْ فِي الْفِقْهِ. وَصَرَّحَتِ الرُّوَاةُ بِلَفْظِ الرُّخْصَةِ فِيهَا، حَيْثُ رَوَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَهَى عَنِ الْمُزَابَنَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا
(1/462)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَغَيْرِهِمَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخَصَّصَيْنِ فِيمَا يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمَعْنَى الْمُخَصَّصَ لِلْأَبِ مِنْ عُمُومِ مَنْعِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ دَائِمُ الْقِيَامِ بِهِ، وَهُوَ الْأُبُوَّةُ، وَالْمُخَصَّصُ لِمَحَلِّ الرُّخْصَةِ مِنْ عُمُومِ دَلِيلِ الْعَزِيمَةِ عَارِضٌ غَيْرُ لَازِمٍ، كَالْمَخْمَصَةِ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالْحَاجَةِ فِي الْعَرَايَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يُؤَثِّرُ، وَلَا يُنَاسِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، بَلِ الْأَشْبَهُ أَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ رُخْصَةً: أَعْنِي رُجُوعَ الْأَبِ فِي الْهِبَةِ، وَجَوَازَ الْعَرَايَا، وَنَحْوَهَا، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَى الرُّخْصَةِ لُغَةً وَشَرْعًا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، أَمَّا لُغَةً. فَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ مِنَ السُّهُولَةِ كَمَا سَبَقَ، وَفِي تَجْوِيزِ الرُّجُوعِ لِلْأَبِ فِي الْهِبَةِ تَسْهِيلٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا شَرْعًا: فَلِأَنَّ رُجُوعَهُ عَلَى خِلَافِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لِمُعَارِضٍ رَاجِحٍ، وَهَذَا حَدُّ الرُّخْصَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رُخْصَةً.
الثَّانِي: أَنَّ الرُّخْصَةَ تُقَابِلُ الْعَزِيمَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَحْرِيمَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ عَلَى الْأَجَانِبِ عَزِيمَةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَوَازُهُ لِلْأَبِ رُخْصَةً.
قَوْلُهُ: «وَإِبَاحَةُ التَّيَمُّمِ رُخْصَةٌ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: لَا يَخْلُو التَّيَمُّمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
(1/463)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ لِوُجُودِهِ، لَكِنْ جَازَ الْعُدُولُ عَنْهُ لِمَرَضٍ أَوْ زِيَادَةِ ثَمَنٍ لَا يُوجِبُ الشَّرْعُ بَذْلَهَا، فَإِبَاحَتُهُ رُخْصَةٌ لِتَحَقُّقِ حَدِّ الرُّخْصَةِ، وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ مَعَ الْحَدَثِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْحَاظِرِ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَاءِ.
وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِعَدَمِهِ أَوْ حَائِلٍ دُونَهُ، فَلَيْسَتْ إِبَاحَتُهُ رُخْصَةً، لِعَدَمِ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرَّمِ، وَهُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَاءِ. وَعَلَى هَذَا كَلَامٌ يَأْتِي بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(1/464)
________________________________________
وَالرُّخْصَةُ قَدْ تَجِبُ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَقَدْ لَا تَجِبُ كَكَلِمَةِ الْكُفْرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: التَّيَمُّمُ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ، كُلٌّ مِنْهُمَا رُخْصَةُ عَزِيمَةٍ بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَالرُّخْصَةُ قَدْ تَجِبُ "، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: أَنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ تَنْتَهِي إِلَى أَنْ تَصِيرَ وَاجِبَةً " كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ " بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّفُوسَ حَقُّ اللَّهِ، وَهِيَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْمُكَلَّفِينَ، فَيَجِبُ حِفْظُهَا لِيَسْتَوْفِيَ اللَّهُ تَعَالَى حَقَّهُ مِنْهَا بِالْعِبَادَاتِ وَالتَّكَالِيفِ، وَقَدْ لَا تَنْتَهِي إِلَى الْوُجُوبِ، كَكَلِمَةِ الْكُفْرِ إِذَا أُكْرِهَ عَلَيْهَا، فَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا حِفْظًا لِنَفْسِهِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ، وَلَهُ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِهَا إِرْغَامًا لِمَنْ أُكْرِهُ وَإِعْزَازًا لِلدِّينِ.
نَعَمْ، النِّزَاعُ فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ مُتَّجَهٍ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْإِجَابَةُ أَفْضَلُ: حِفْظًا لِلنَّفْسِ وَاسْتِيفَاءً لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الِامْتِنَاعُ أَفْضَلُ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ فِي الْأَسِيرِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَالَ: إِنْ صَبَرَ، فَلَهُ الشَّرَفُ، وَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ فَلَهُ الرُّخْصَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ ": الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُعْطِيَ التَّقِيَّةَ، وَلَا يُظْهِرَ الْكُفْرَ حَتَّى يُقْتَلَ. وَاحْتَجَّ بِقِصَّةِ عَمَّارٍ وَخُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ، حَيْثُ لَمْ يُعْطِ أَهْلَ مَكَّةَ التَّقِيَّةَ حَتَّى قُتِلَ، فَكَانَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلَ مِنْ عَمَّارٍ.
قُلْتُ: الْعَجَبُ مِنْ أَصْحَابِنَا يُرَجِّحُونَ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ فِي الْفِطْرِ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ
(1/465)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي السَّفَرِ، مَعَ يَسَارَةِ الْخَطْبِ فِيهِمَا، وَيُرَجِّحُونَ الْعَزِيمَةَ فِيمَا يَأْتِي عَلَى النَّفْسِ، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَإِمَّا أَنْ يُرَجِّحُوا الرُّخْصَةَ مُطْلَقًا أَوِ الْعَزِيمَةَ مُطْلَقًا. أَمَّا الْفَرْقُ، فَلَا يَظْهَرُ لَهُ كَبِيرُ فَائِدَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ لَهُ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ، أَوِ الْعَزِيمَةِ هُوَ الْعِبَادَةُ، فَفِي أَيِّهِمَا كَانَتِ الْعِبَادَةُ أَعْظَمَ، رَجَّحْنَا الْأَخْذَ بِهِ، وَالْعِبَادَةُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ دُونَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَعْظَمُ، لِأَنَّهُ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وُجُودٌ بِالنَّفْسِ فِي مَحَبَّتِهِ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ عِبَادَةٍ، وَقَدْ رَجَّحْتُمُ الْفِطْرَ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعِبَادَةَ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي النَّفْسِ أَعْظَمُ، لِأَنَّهَا إِذَا بَقِيَتْ وُجِدَ مِنْهَا فِي الْعِبَادَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْأَنْوَاعِ أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ مِنْ تَرْكِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مِنَ الْعِبَادَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: قَدْ يَكُونُ سَبَبُ الرُّخْصَةِ اخْتِيَارِيًّا، كَالسَّفَرِ، وَاضْطِرَارِيًّا، كَالِاغْتِصَاصِ بِاللُّقْمَةِ الْمُبِيحِ لِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَرَافِيِّ: قَدْ يُبَاحُ سَبَبُهَا، كَالسَّفَرِ، وَقَدْ لَا يُبَاحُ، كَالْغُصَّةِ لِشُرْبِ الْخَمْرِ، لِأَنَّ الْغُصَّةَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يُوصَفُ بِإِبَاحَةٍ وَلَا حَظْرٍ.
قَوْلُهُ: " وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: التَّيَمُّمُ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ، كُلٌّ مِنْهُمَا رُخْصَةُ عَزِيمَةٍ، بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ.
قُلْتُ: هَذَا مُتَعَيِّنٌ، وَلَكِنِّي تَسَامَحْتُ بِقَوْلِي: يَجُوزُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ التَّيَمُّمِ
(1/466)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْجِهَتَيْنِ يَقِينًا.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ الرُّخْصَةِ: فَمِنْ حَيْثُ يَسَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَسَهَّلَ عَلَيْهِ، وَسَامَحَهُ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ مَعَ الْحَدَثِ الْمَانِعِ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ بِطَلَبِ الْمَاءِ حَيْثُ يَتَعَذَّرُ أَوْ يَشُقُّ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ إِذَا صَلَّاهَا بِالتَّيَمُّمِ، وَحَيْثُ سَامَحَهُ فِي اسْتِبْقَاءِ نَفْسِهِ بِأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الصَّبْرِ عَنْهَا حَتَّى يَمُوتَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ إِبَاحَةَ الْمُحَرَّمِ فِي الْمَخْمَصَةِ رَحْمَةٌ مِنْهُ لَهُمْ.
وَأَمَّا جِهَةُ الْعَزِيمَةِ: فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ - أَعْنِي التَّيَمُّمَ - شَرْطٌ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَشَرْطُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَالْوَاجِبُ عَزِيمَةٌ، فَالتَّيَمُّمُ عَزِيمَةٌ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَسِيلَةٌ إِلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاجِبِ فِي النَّفْسِ، وَوَسِيلَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبَةٌ، فَأَكْلُ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ إِذَا خِيفَ عَلَى النَّفْسِ بِدُونِهِ وَاجِبٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَالنَّفْسُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقَّانِ: حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَحَقُّ الْمُكَلَّفِ. فَكُلُّ تَخْفِيفٍ تَعَلَّقَ بِالْحَقَّيْنِ، فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَزِيمَةٌ، وَبِالْإِضَافَةِ إِلَى حَقِّ الْمُكَلَّفِ رُخْصَةٌ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(1/467)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْأُصُولُ الْأُصُولُ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَاسْتِصْحَابُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. وَمَصْدَرُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، إِذِ الْكِتَابُ قَوْلُهُ، وَالسُّنَّةُ بَيَانُهُ، وَالْإِجْمَاعُ دَالٌّ عَلَى النَّصِّ. وَمَدْرَكُهَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَا سَمَاعَ لَنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا جِبْرِيلَ. وَاخْتُلِفَ فِي أُصُولٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا.
وَكِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَلَامُهُ الْمُنْزَلُ لِلْإِعْجَازِ بِسُورَةٍ مِنْهُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَتَعْرِيفُهُ بِمَا نُقِلَ بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، دَوْرِيٌّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْكِتَابُ غَيْرُ الْقُرْآنِ. وَرُدَّ: بِحِكَايَةِ قَوْلِ الْجِنِّ: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا} ، {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} وَالْمَسْمُوعُ وَاحِدٌ، وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى اتِّحَادِ مُسَمَّى اللَّفْظَيْنِ.
وَالْكَلَامُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ وَالْمَعْنَى النَّفْسِيِّ، وَهُوَ نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ قَائِمَةٌ بِالْمُتَكَلِّمِ، وَعِنْدَنَا لَا اشْتِرَاكَ، وَالْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَدِيمٌ، وَالْبَحْثُ فِيهِ كَلَامِيٌّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ «الْأُصُولُ» : قَدْ كُنَّا ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ «الْمُخْتَصَرِ» أَنَّا نَتَكَلَّمُ عَلَى أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْلًا أَصْلًا، بَعْدَ ذِكْرِ مُقْدِمَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ، وَقَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ بِفُصُولِهَا الْأَرْبَعَةِ ; فَوَجَبَ الْكَلَامُ عَلَى الْأُصُولِ كَمَا وَعَدْنَا.
قَوْلُهُ «الْكِتَابُ» : أَيِ الْأُصُولُ هِيَ: الْكِتَابُ «وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَاسْتِصْحَابُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ» . وَتَحْقِيقُ مَفْهُومَاتِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَاللَّامُ فِي الْأُصُولِ لِلْعَهْدِ ; لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا مُنَكَّرَةً فِي قَوْلِنَا فِي أَوَّلِ «الْمُخْتَصَرِ» : فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا أَصْلًا أَصْلًا. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: الْأُصُولُ الَّتِي وَعَدْنَا بِالْكَلَامِ عَلَيْهَا هِيَ هَذِهِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأُصُولَ هِيَ الْأَدِلَّةُ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّتُهُ
(2/5)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّرْعِيَّةُ، وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ: هُوَ الَّذِي طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الشَّرْعُ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ لَهُ تَقْسِيمًا أَنَا أَذْكُرُ مَعْنَاهُ: وَهُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ ; إِمَّا أَنْ يَرِدَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ، أَوْ لَا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِنْ وَرَدَ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ ; فَهُوَ إِمَّا مِنْ قَبِيلِ مَا يُتْلَى: وَهُوَ الْكِتَابُ، أَوْ لَا: وَهُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ وَرَدَ لَا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ ; فَإِمَّا أَنْ نَشْتَرِطَ فِيهِ عِصْمَةَ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ: الْإِجْمَاعُ، وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ حَمْلَ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ بِجَامِعٍ مُشْتَرِكٍ ; فَهُوَ الْقِيَاسُ، وَإِلَّا فَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ.
فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ - وَهِيَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ - نَقْلِيَّةٌ، وَالْآخَرَانِ مَعْنَوِيَّانِ، وَالنَّقْلِيُّ أَصْلٌ لِلْمَعْنَوِيِّ، وَالْكِتَابُ أَصْلٌ لِلْكُلِّ.
فَالْأَدِلَّةُ إِذًا خَمْسَةٌ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِدْلَالُ، وَعَرَّفَهُ الْآمِدِيُّ بِأَنَّهُ دَلِيلٌ لَيْسَ بِنَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ ضَعْفَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي التَّعْرِيفِ عِنْدَ تَعْرِيفِ خِطَابِ الْوَضْعِ بِمِثْلِهَا، وَذَكَرْتُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مِنْهَا عَلَى أَنْوَاعٍ:
مِنْهَا: وُجِدَ السَّبَبُ ; فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ.
وَمِنْهَا: وُجِدَ الْمَانِعُ ; فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ.
وَمِنْهَا: انْتَفَى الشَّرْطُ فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ.
وَمِنْهَا: الْقِيَاسُ الْمَنْطِقِيُّ، وَهُوَ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ، يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ إِمَّا اقْتِرَانِيٌّ أَوِ اسْتِثْنَائِيٌّ، وَالِاسْتِثْنَائِيُّ مُتَّصِلٌ أَوْ مُنْفَصِلٌ،
(2/6)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَوْضِعُ اسْتِقْصَائِهِ كُتُبُ الْمَنْطِقِ.
وَمِنْهَا: اسْتِصْحَابُ الْحَالِ.
قُلْتُ: وَالْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ دَاخِلَةٌ فِي الِاقْتِرَانِي، الَّذِي هُوَ أَحَدُ قِسْمَيِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ، إِذْ قَوْلُنَا: وُجِدَ السَّبَبُ أَوِ الْمَانِعُ، أَوِ انْتَفَى الشَّرْطُ، كُلُّهُ فِي تَقْدِيرِ تَرْكِيبٍ اقْتِرَانِيٍّ، نَحْوَ وُجِدَ السَّبَبُ، وَكُلَّمَا وُجِدَ السَّبَبُ، وُجِدَ الْحُكْمُ، فَيَلْزَمُ عَنْهُ: إِذَا وُجِدَ السَّبَبُ، وُجِدَ الْحُكْمُ، وَكَذَلِكَ وُجِدَ الْمَانِعُ، وَكُلَّمَا وُجِدَ الْمَانِعُ، انْتَفَى الْحُكْمُ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ تَقْسِيمَ الدَّلِيلِ هَاهُنَا، لِمُنَاسَبَةِ شُرُوعِنَا فِي الْكَلَامِ عَلَى أَدِلَّةِ الْفِقْهِ، وَأَيْضًا كُنْتُ قَدْ وَعَدْتُ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْفِقْهِ، وَتَعَرُّضِي هُنَاكَ بِلَفْظِ الِاسْتِدْلَالِ، أَنِّي أَذْكُرُ فِيهِ مَا ذَكَرْتُهُ هُنَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَمَصْدَرُهَا اللَّهُ تَعَالَى» أَيْ: وَمَصْدَرُ هَذِهِ الْأُصُولِ كُلِّهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَيْ: هُوَ الَّذِي صَدَرَتْ عَنْهُ «إِذِ الْكِتَابُ» أَيْ: لِأَنَّ الْكِتَابَ، «قَوْلُهُ، وَالسُّنَّةَ بَيَانُهُ» ، أَيْ: بَيَانُ الْكِتَابِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] ، وَرُبَّمَا سَبَقَ إِلَى الْفَهْمِ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بَيَانِهِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَكَذَا اتَّفَقَ. وَقَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجْمِ: 3 - 4] لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالْمُرَادُ الْأَوَّلُ «وَالْإِجْمَاعُ دَالٌّ عَلَى النَّصِّ» لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ ; إِمَّا نَصٌّ أَوْ قِيَاسُ نَصٍّ.
قَوْلُهُ: «وَمَدْرَكُهَا الرَّسُولُ» أَيْ: مَدْرَكُ هَذِهِ الْأُصُولِ، أَيْ: الطَّرِيقُ إِلَى إِدْرَاكِهَا.
(2/7)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَدْرَكٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ ; لِأَنَّهُ اسْمُ مَكَانِ الْإِدْرَاكِ ; لِأَنَّهُ لَا سَمَاعَ لَنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مِنْ جِبْرِيلَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشُّورَى: 51] ، فَلَمْ يَبْقَ لَنَا مَدْرَكٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ إِلَّا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَالْكِتَابُ نَسْمَعُ مِنْهُ تَبْلِيغًا، وَالسُّنَّةُ تَصْدُرُ عَنْهُ تَبْيِينًا وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ مُسْتَنِدَانِ فِي إِثْبَاتِهِمَا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي بَابِهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ آنِفًا دَاخِلٌ فِي حَدِّ الدَّلِيلِ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا آنِفًا أَنَّ مَرْجِعَ هَذِهِ الْأُصُولِ كُلِّهَا إِلَى الْكِتَابِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ لَهُ، أَوْ مُتَفَرِّعَةٌ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «وَاخْتُلِفَ فِي أُصُولٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، يَعْنِي أَنَّ الْأُصُولَ ضَرْبَانِ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ، وَهِيَ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِدْلَالُ. وَمُخْتَلِفٌ فِيهِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَا مُخَالِفَ لَهُ، وَالِاسْتِحْسَانُ، وَالِاسْتِصْلَاحُ، وَهِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَبَعْدَهَا الْقِيَاسُ، وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهَا، لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَالْمُخْتَلِفِ فِيهَا مُتَوَالِيًا، لَا يَتَخَلَّلُهُ غَيْرُهُ، لَكِنْ قَدْ أَبَنْتُ عُذْرِي فِي ذَلِكَ أَوَّلَ الشَّرْحِ، وَهُوَ أَنِّي اخْتَصَرْتُ وَلَمْ أَسْتَقْصِ أَحْوَالَ التَّرْتِيبِ.
قَوْلُهُ: «وَكِتَابُ اللَّهِ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلُ لِلْإِعْجَازِ بِسُورَةٍ مِنْهُ» . لَمَّا بَيَّنَ كَمِّيَّةَ الْأُصُولِ، أَخَذَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا أَوَّلَ أَوَّلَ، وَأَوَّلُهَا الْكِتَابُ ; فَبَدَأَ بِذِكْرِ حَدِّهِ الْكَاشِفِ عَنْ حَقِيقَتِهِ.
(2/8)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَوْلُهُ: «كَلَامُهُ» : هُوَ جِنْسٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَلَامٍ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَرَبِيًّا كَالْقُرْآنِ، أَوْ أَعْجَمِيًّا كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَغَيْرِهَا مِنْ صُحُفِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا نَزَلَ لِلْإِعْجَابِ أَوْ لِغَيْرِهِ ; كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَإِنَّ جِبْرِيلَ يَأْتِينِي بِالسُّنَّةِ كَمَا يَأْتِينِي بِالْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: «الْمُنَزَّلُ» : يُحْتَرَزُ بِهِ مِمَّنْ يُثْبِتُ كَلَامَ النَّفْسِ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّنْزِيلُ عِنْدَهُ، وَنَحْنُ لَا نُثْبِتُ ذَلِكَ ; كَمَا سَتَرَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ: «لِلْإِعْجَازِ» : احْتِرَازٌ مِمَّا نَزَلَ لِغَيْرِ الْإِعْجَازِ، كَمَا ذَكَرَ قَبْلُ مِنَ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ وَغَيْرِهَا ; فَإِنَّهَا لَمْ تُنَزَّلْ لِلْأَعْجَازِ، بَلْ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُعْجِزَاتُ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِعْلًا لَا صِفَاتٍ.
وَقَوْلُهُ: «بِسُورَةٍ مِنْهُ» : لِيُدْخِلَ فِي حَدِّ الْكِتَابِ كُلَّ سُورَةٍ مِنْ سُورَهِ.
وَقَوْلُهُ: «وَهُوَ الْقُرْآنُ» : أَيْ: كِتَابُ اللَّهِ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِيهِ بَعْدُ.
(2/9)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَتَعْرِيفُهُ» أَيْ: تَعْرِيفُ الْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ «بِمَا نُقِلَ إِلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، دَوْرِيٌّ» أَيْ: هَذَا التَّعْرِيفُ يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ.
قُلْتُ: هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ لَمْ يُسَمِّهُمُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَلَمْ أَعْلَمْ مَنْ هُمْ، فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّقْلُ صَحِيحًا ; فَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ: إِمَّا مُخْطِئُونَ، أَوِ النِّزَاعُ مَعَهُمْ لَفْظِيٌّ.
أَمَّا وَجْهُ خَطَئِهِمْ: فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا نَظَرُوا إِلَى تَغَايُرِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَالْكِتَابِ ; فَحَكَمُوا بِالتَّغَايُرِ، وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ بَعْدُ، وَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِ نِزَاعِهِمْ لَفْظِيًّا ; فَهُوَ أَنْ يَكُونُوا خَصُّوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى بِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ، عَلَى مَا هُوَ رَأْيُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ، وَخَصُّوا الْقُرْآنَ بِهَذِهِ الْعَبَّارَاتِ الْمَتْلُوَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ عِنْدَهُمْ، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ النِّزَاعُ إِلَى إِثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَتَخْرُجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَنِ التَّنَازُعِ فِيهَا.
قَوْلُهُ «وَرُدَّ» ، أَيْ وَرُدَّ قَوْلُ هَؤُلَاءِ: إِنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ الْقُرْآنِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
حِكَايَةُ قَوْلِ الْجِنِّ فِي سُورَةِ الْجِنِّ: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الْجِنِّ: 1] ، وَحِكَايَةُ قَوْلِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ حَيْثُ قَالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الْأَحْقَافِ: 30] ، وَالَّذِي سَمِعُوهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ سَمَّوْهُ كِتَابًا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْقُرْآنُ.
وَيَرِدُ عَلَيْهِ احْتِمَالُ أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ كِتَابًا لُغَةً ; لِجَمْعِهِ الْأَحْكَامَ وَغَيْرَهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كِتَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إِلَّا أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ جِدًّا، مُخَالِفٌ لِمُبَادَرَةِ الْأَفْهَامِ الصَّحِيحَةِ عِنْدَ سَمَاعِهَا الْكَلَامَ أَنَّ مُرَادَهُ كِتَابُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
(2/10)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى اتِّحَادِ مُسَمَّى اللَّفْظَيْنِ: الْكِتَابُ، وَالْقُرْآنُ، أَيْ: أَنَّ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدٌ ; فَالْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْقُرْآنُ هُوَ الْكِتَابُ، وَالْكِتَابُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَالْكَلَامُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ وَالْمَعْنَى النَّفْسِيِّ» أَيْ: يُطْلَقُ لَفْظُ الْكَلَامِ عَلَيْهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ ; فَيُقَالُ لِلْعِبَارَاتِ الْمَسْمُوعَةِ: كَلَامٌ، وَلِلْمَعْنَى النَّفْسِيِّ: كَلَامٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدِ اسْتُعْمِلَ لُغَةً وَعُرْفًا فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ ; فَيَكُونُ مُشْتَرِكًا، أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعِبَارَاتِ فَكَثِيرٌ ظَاهِرٌ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} [الْبَقَرَةِ: 75] ، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التَّوْبَةِ: 6] وَيُقَالُ: سَمِعْتُ كَلَامَ فُلَانٍ وَفَصَاحَتَهُ، يَعْنِي أَلْفَاظَهَ الْفَصِيحَةَ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ، وَهُوَ مَدْلُولُ الْعِبَارَاتِ ; فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [الْمُجَادَلَةِ: 8] ، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الْمُلْكِ: 13] ، وَقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السَّقِيفَةِ: «زَوَّرْتُ فِي نَفْسِي كَلَامًا» ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
إِنَّ الْكَلَامَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنَّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلًا
(2/11)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ. وَأَمَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ ; فَلِمَا سَبَقَ.
قُلْتُ: ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ قَوْمًا جَعَلُوا الْكَلَامَ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى، مَجَازًا فِي الْعِبَارَةِ، وَأَنَّ قَوْمًا عَكَسُوا ذَلِكَ ; فَصَارَتْ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي اللَّفْظِ، مَجَازٌ فِي الْمَدْلُولِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَدْلُولِ، مَجَازٌ فِي لَفْظِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا.
وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مَنْقُولَةٌ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ بُرْهَانَ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» - يَعْنِي الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ عِنْدَهُمْ - نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ، قَائِمَةٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ. وَيَعْنُونَ بِالنِّسْبَةِ بَيْنَ الْمُفْرَدَيْنِ أَيْ: بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُفْرَدَيْنِ، مِنْ تَعَلُّقِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ عَلَى جِهَةِ الْإِسْنَادِ الْإِفَادِيِّ، أَيْ: بِحَيْثُ إِذَا عَبَّرَ عَنْ تِلْكَ النِّسْبَةِ بِلَفْظٍ يُطَابِقُهَا، وَيُؤَدِّي مَعْنَاهَا، كَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ إِسْنَادِيًّا إِفَادِيًّا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ أَنَّهُ مَا تَضَمَّنَ كَلِمَتَيْنِ بِالْإِسْنَادِ.
وَمَعْنَى قِيَامِ هَذِهِ النِّسْبَةِ بِالْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا كَشَفَ عَنْهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي كِتَابِ «الْأَرْبَعِينَ» ، هُوَ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ: اسْقِنِي مَاءً ; فَقَبْلَ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، قَامَ بِنَفْسِهِ تَصَوُّرُ حَقِيقَةِ السَّقْيِ، وَحَقِيقَةِ الْمَاءِ، وَالنِّسْبَةِ الطَّلَبِيَّةِ بَيْنَهُمَا ; فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ، وَالْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ. وَصِيغَةُ قَوْلِهِ: اسْقِنِي مَاءً. عِبَارَةٌ عَنْهُ، وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ.
(2/12)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَشَرَحَ الْقَرَّافِيُّ فِي كِتَابِ «الْأَجْوِبَةِ الْفَاخِرَةِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْفَاجِرَةِ» مَعْنَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، فَقَالَ: إِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَالْخَبَرَ عَنْ كَوْنِ الْوَاحِدِ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ، وَعَنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ وَلُغَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ ; فَالْمُخْتَلِفُ: هُوَ الْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ، وَغَيْرُ الْمُخْتَلِفِ: هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْعِلْمُ الْخَاصُّ سَمْعًا ; لِأَنَّ إِدْرَاكَ الْحَوَاسِّ إِنَّمَا هِيَ عُلُومٌ خَاصَّةٌ، أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْعِلْمِ ; فَكُلُّ إِحْسَاسٍ عِلْمٌ، وَلَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ إِحْسَاسًا، فَإِذَا وُجِدَ هَذَا الْعِلْمُ الْخَاصُّ فِي نَفْسِ مُوسَى الْمُتَعَلِّقُ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِ الْبَارِئِ عَزَّ وَجَلَّ، سُمِّي بِاسْمِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ السَّمَاعُ. هَذَا مَعْنَى تَقْرِيرِهِ.
قُلْتُ: وَبُسِّطَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ عَقَائِدِهِ: مَنْ أَحَالَ سَمَاعَ مُوسَى كَلَامًا لَيْسَ بِصَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ ; فَلْيُحِلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رُؤْيَةَ ذَاتٍ لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ.
قُلْتُ: كُلُّ هَذَا تَكَلُّفٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الظَّاهِرِ، بَلِ الْقَاطِعُ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إِلَّا خَيَالَاتٍ لَاغِيَةٍ، وَأَوْهَامٍ مُتَلَاشِيَةٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ مَعَارَضٌ بِأَنَّ الْمَعَانِيَ لَا تَقُومُ شَاهِدًا إِلَّا بِالْأَجْسَامِ، فَإِذَا أَجَازُوا مَعْنًى قَامَ بِالذَّاتِ الْقَدِيمَةِ وَلَيْسَتْ جِسْمًا ; فَلْيُجِيزُوا خُرُوجَ صَوْتٍ مِنَ الذَّاتِ الْقَدِيمَةِ وَلَيْسَتْ جِسْمًا، إِذْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ خِلَافُ الشَّاهِدِ، وَمَنْ أَحَالَ كَلَامًا لَفْظِيًّا مِنْ غَيْرِ جِسْمٍ ; فَلْيُحِلْ ذَاتًا مَرْئِيَّةً غَيْرَ جِسْمٍ، وَلَا فَرْقَ.
(2/13)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَعِنْدَنَا لَا اشْتِرَاكَ، وَالْكَلَامُ الْأَوَّلُ» ، أَيْ: عِنْدَنَا لَيْسَ الْكَلَامُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْعِبَارَةِ وَمَدْلُولِهَا، بَلِ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ، أَيِ: الْحُرُوفُ الْمَسْمُوعَةُ ; فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهَا، مَجَازٌ فِي مَدْلُولِهَا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَبَادِرَ إِلَى فَهْمِ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْ إِطْلَاقِ لِفَظِّ الْكَلَامِ إِنَّمَا هُوَ الْعِبَارَاتُ، وَالْمُبَادَرَةُ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْكَلِمِ، لِتَأْثِيرِهِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ كَمَا سَبَقَ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي نَفْسِ السَّامِعِ إِنَّمَا هُوَ الْعِبَارَاتُ لَا الْمَعَانِي النَّفْسِيَّةُ بِالْفِعْلِ. نَعَمْ هِيَ مُؤَثِّرَةٌ لِلْفَائِدَةِ بِالْقُوَّةِ، وَالْعِبَارَةُ مُؤَثِّرَةٌ بِالْفِعْلِ ; فَكَانَتْ أَوْلَى بِأَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، وَمَا يُؤَثِّرُ بِالْقُوَّةِ مَجَازًا.
قَوْلُهُمْ: اسْتُعْمِلَ لُغَةً وَعُرْفًا فِيهِمَا. قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ بِالِاشْتِرَاكِ، أَوْ بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْمَجَازُ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ؟ وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ.
قَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
قُلْنَا: نَعَمْ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، ثُمَّ قَدْ تَعَارَضَ الْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ الْمُجَرَّدُ، وَالْمَجَازُ أَوْلَى. ثُمَّ إِنَّ لَفْظَ الْكَلَامِ أَكْثَرُ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْعِبَارَاتِ، وَكَثْرَةُ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ تَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ ; فَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [الْمُجَادَلَةِ: 8] ; فَهُوَ مَجَازٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ بِالْقَرِينَةِ، وَلَوْ أُطْلِقَ لَمَا فُهِمَ مِنْهُ إِلَّا الْعِبَارَةُ، وَكُلُّ مَا جَاءَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنَّمَا يُفِيدُ مَعَ الْقَرِينَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ: «زَوَّرْتُ فِي
(2/14)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَفْسِي كَلَامًا» إِنَّمَا أَفَادَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: فِي نَفْسِي، وَسِيَاقِ الْقِصَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الْمُلْكِ: 13] ; فَلَا حُجَّةَ فِيهَا ; لِأَنَّ الْإِسْرَارَ نَقِيضُ الْجَهْرِ، وَكِلَاهُمَا عِبَارَةٌ ; إِحْدَاهُمَا أَرْفَعُ صَوْتًا مِنَ الْأُخْرَى.
وَأَمَّا الشِّعْرُ فَهُوَ لِلْأَخْطَلِ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَشْهُورَ فِيهِ: «
إِنَّ الْبَيَانَ لَفِي الْفُؤَادِ
» ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَمَا ذَكَرْتُمْ ; فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ مَادَّةِ الْكَلَامِ، وَهِيَ التَّصَوُّرَاتُ الْمُصَحَّحَةُ، إِذْ مَنْ لَا يَتَصَوَّرُ مَعْنَى مَا يَقُولُ، لَا يُوجَدُ مِنْهُ كَلَامٌ، ثُمَّ هُوَ مُبَالَغَةٌ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ فِي تَرْجِيحِ الْفُؤَادِ عَلَى اللِّسَانِ، إِشَارَةً إِلَى نَحْوِ قَوْلِ الْقَائِلِ:
لِسَانُ الْفَتَى نَصِفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ ... فَمَا الْمَرْءُ إِلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ
وَإِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ ; مَعَ أَنَّهُمْ عُقَلَاءُ فُضَلَاءُ، يُجِيزُونَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْلُقُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَسَمْعًا لِكَلَامِهِ النَّفْسِيِّ، مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ صَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ، وَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَاصِّيَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ قَلْبٌ لِحَقِيقَةِ السَّمْعِ فِي الشَّاهِدِ، إِذْ حَقِيقَةُ السَّمْعِ فِي الشَّاهِدِ اتِّصَالُ الْأَصْوَاتِ
(2/15)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِحَاسَّتِهِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ عَلَيْنَا الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ مِنْ فَوْقِ السَّمَاوَاتِ، لِكَوْنِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلشَّاهِدِ، فَإِنْ جَازَ قَلْبُ حَقِيقَةِ السَّمْعِ شَاهِدًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلَامِهِ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ خِلَافُ الشَّاهِدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِوَائِهِ وَكَلَامِهِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ؟ .
فَإِنْ قَالُوا: لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ حَرْفٍ وَصَوْتٍ لَا مِنْ جِسْمٍ، وَوُجُودٌ فِي جِهَةٍ لَيْسَ بِجِسْمٍ. قُلْنَا: إِنْ عَنَيْتُمُ اسْتِحَالَتَهُ مُطْلَقًا ; فَلَا نُسَلِّمُ، إِذِ الْبَارِئُ جَلَّ جَلَالُهُ عَلَى خِلَافِ الشَّاهِدِ وَالْمَعْقُولِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. وَقَدْ وَرَدَتِ النُّصُوصُ بِمَا قُلْنَاهُ ; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ قَدِيمٌ» ، يَعْنِي كَلَامَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى رَأْيِنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى قِدَمِهِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنِ الْأَشْعَرِيَّةَ وَافَقُوا عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ ; كَالْحَيَاةِ، وَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، مَعَانٍ زَائِدَةٌ عَلَى مَفْهُومِ ذَاتِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَأَنَّ الْحَيَّ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ، وَالْعَالِمُ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا عَالِمًا ; لَكَانَ جَمَادًا غَيْرَ عَالِمٍ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ نَقْصٌ ; فَيَجِبُ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ.
فَنَقُولُ نَحْنُ فِي إِثْبَاتِ الْكَلَامِ عَلَى رَأْيِنَا: لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا لَكَانَ سَاكِتًا لَكِنَّ السُّكُوتَ عَلَيْهِ مُحَالٌ ; لِأَنَّهُ نَقْصٌ ; فَيَجِبُ أَنْ يُنْفَى عَنْهُ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا لَكَانَ سَاكِتًا ; لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ السُّكُوتِ وَالْكَلَامِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا:
(2/16)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِنَّ السُّكُوتَ نَقَصٌ فِي حَقِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي الشَّاهِدِ، لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ عَجْزٍ أَوْ صَمْتٍ، وَالْعَجْزُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُحَالٌ، وَالصَّمْتُ إِنَّمَا يَحْسُنُ عَنِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَقْبُحُ مِنْهُ قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ، بَلْ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ قَاطِعٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ غَيْرِهِ، يَكُونُ مُسْتَنِدًا لِلْإِجْمَاعِ، أَوْ نَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ وَعِلْمِهِمْ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ أَوْ قَدِيمٌ، أَوْ لِتَرَدُّدِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ، لَزِمَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى كِتْمَانِ عِلْمٍ فِيهِ تَبْرِئَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى زَعْمِهِمْ، وَذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعَ تَرَدُّدِهِمْ فِيهِ، بِحَيْثُ لَمْ يَتَّجِهْ لَهُمُ الْجَزْمُ فِيهِ بِقَوْلٍ ; فَمِنَ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَتَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ، وَيَنْكَشِفَ لَكُمْ. وَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُمْ عَنِ الْقَوْلِ بِخَلْقِهِ لِاعْتِقَادِهِمْ قِدَمَهُ ; فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ أَنْ يُعَارِضَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ بِمِثْلِهِ ; لِأَنَّ السَّلَفَ مَازَالُوا شَدِيدَيْنِ عَلَى مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، تَكْفِيرًا، وَتَبْدِيعًا، وَلَعْنًا، وَسَبًّا، حَتَّى ظَهَرَتِ الْبِدْعَةُ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مَا اشْتُهِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ تَحْكِيمُ الرِّجَالِ فِي دِينِ اللَّهِ قَالَ: «مَا حَكَّمْتُ مَخْلُوقًا وَإِنَّمَا حَكَّمْتُ الْقُرْآنَ» وَمَا رَوَى
(2/17)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَقُولُ: أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَيَقُولُ: هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يُعَوِّذُ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَصْفُ الْكَلِمَاتِ بِالتَّامَّةِ ; فَيَقْتَضِي غَايَةَ التَّمَامِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْقَدِيمِ، إِذِ الْمَخْلُوقُ نَاقِصٌ.
الثَّانِي: أَنَّهُ عَوَّذَ بِهِمَا الْمَخْلُوقَ، وَالْمَخْلُوقُ لَا يُعَوَّذُ بِمَخْلُوقٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالتَّعْوِيذِ مِنَ الْآخَرِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُعَوِّذُهُمَا بِالْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ ; فَيَكُونُ قَدِيمًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِضَافَةَ الصَّوْتِ فِي الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْقُولٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ، وَلَفْظُ الصَّوْتِ ثَابِتٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ شُكْرٍ
(2/18)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمِصْرِيُّ - وَهُوَ مِنْ فُضَلَاءَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَنُقَّادِهِمْ - فِيهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَدِيثًا، ذَكَرَ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ عَنِ الْمُحَدِّثِينَ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَمْلُوءٌ مِنْهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 6] ، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} [الشُّعَرَاءِ: 10] ، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} [مَرْيَمَ: 52] ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا. وَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ جِدًّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخِطَابُ كُلُّهُ مَجَازًا، لَا حَقِيقَةَ فِيهِ، وَلَوْ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ، وَبِمَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ.
(2/19)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَإِنْ قِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ، وَلَكِنْ كَمَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ بِالِاشْتِرَاكِ، كَمَا قُلْتُمْ: إِنَّ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الشَّرْعِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَقِيقَةٌ ; لَكِنْ مُخَالِفَةٌ لِلصِّفَاتِ الْمُشَاهَدَةِ، وَهِيَ مَقُولَةٌ بِالِاشْتِرَاكِ.
قُلْنَا: نَحْنُ اضْطَرَّنَا إِلَى الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الصِّفَاتِ وُرُودُ نُصُوصِ الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ بِهَا ; فَأَنْتُمْ مَا الَّذِي اضْطَرَّكُمْ إِلَى إِثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ؟
فَإِنْ قِيلَ: دَلِيلُ الْعَقْلِ الدَّالُّ عَلَى أَنَّهُ لَا صَوْتَ إِلَّا مِنْ جِسْمٍ.
قُلْنَا: فَمَا أَفَادَكُمْ إِثْبَاتُهُ شَيْئًا ; لِأَنَّ الْكَلَامَ النَّفْسِيَّ الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ لَا يَخْرُجُ فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِلْمًا أَوْ تَصَوُّرًا، عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ عَنْ أَئِمَّتِكُمْ، فَإِنْ كَانَ عِلْمًا ; فَقَدْ رَجَعْتُمْ مُعْتَزِلَةً، وَنَفَيْتُمُ الْكَلَامَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَوَّهْتُمْ عَلَى النَّاسِ بِتَسْمِيَتِكُمُ الْعِلْمَ كَلَامًا، وَإِنْ كَانَ تَصَوُّرًا ; فَالتَّصَوُّرُ فِي الشَّاهِدِ: حُصُولُ صُورَةِ الشَّيْءِ فِي الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يُعْقَلُ فِي الْأَجْسَامِ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ تَصَوُّرًا مُخَالِفًا لِلتَّصَوُّرِ فِي الشَّاهِدِ، لَائِقًا بِجَلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; فَأَثْبِتُوا كَلَامًا، هُوَ عِبَارَةٌ عَلَى خِلَافِ الشَّاهِدِ، لَائِقَةٌ بِجَلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَالْبَحْثُ فِيهِ كَلَامِيٌّ» ، أَيْ: الْبَحْثُ فِي قِدَمِ الْقُرْآنِ مُتَعَلِّقٌ بِعِلْمِ الْكَلَامِ ; فَهُوَ مَوْضِعُ ذِكْرِهِ، مَعَ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ بُلْغَةً وَلِلْمَسْأَلَةِ مَأْخَذَانِ مُخْتَصَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ فِي الْعِبَارَةِ، أَوْ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَدْلُولِهَا كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ بَيَّنَّا عَدَمَ الِاشْتِرَاكِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ ذَاتٍ، أَوْ صِفَةُ فِعْلٍ، إِذْ صِفَاتُ الذَّاتِ قَدِيمَةٌ، وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مُحْدَثَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/20)
________________________________________
ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ:
الْأُولَى: الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ خِلَافًا لِقَوْمٍ. لَنَا: الْقَوْلُ بِأَنَّ جَمِيعَهَا آحَادٌ، خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَبِأَنَّ بَعْضَهَا كَذَلِكَ، تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ ; فَتَعَيَّنَ الْمُدَّعَى. قَالُوا: الْآحَادُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ. قُلْنَا: مُحَالٌ، إِذِ التَّوَاتُرُ مَعْلُومٌ، وَالْآحَادُ مَظْنُونٌ ; فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا لَازِمٌ، وَإِذْ لَا مَظْنُونَ ; فَلَا آحَادَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ» ، يَعْنِي أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا سَبَقَ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ، هُوَ كَالْمُقَدِّمَةِ الْكُلِّيَّةِ لَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا، أَخَذَ يَذْكُرُ جُزْئِيَّاتِ أَحْكَامِهِ:
فَالْمَسْأَلَةُ «الْأُولَى: الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ مُتَوَاتِرَةٌ خِلَافًا لِقَوْمٍ» . اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْقِرَاءَاتِ حَقِيقَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ:
فَالْقُرْآنُ هُوَ الْوَحْيُ النَّازِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ.
وَالْقِرَاءَاتُ: هِيَ اخْتِلَافُ أَلْفَاظِ الْوَحْيِ الْمَذْكُورِ، فِي كَمِّيَّةِ الْحُرُوفِ، أَوْ كَيْفِيَّتِهَا مِنْ تَخْفِيفٍ أَوْ تَثْقِيلٍ، وَتَحْقِيقٍ أَوْ تَسْهِيلٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، بِحَسْبِ اخْتِلَافِ لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ، أَمَّا الْقِرَاءَاتُ ; فَوَقَعَ النِّزَاعُ فِيهَا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً.
«لَنَا: الْقَوْلُ بِأَنَّ جَمِيعَهَا آحَادٌ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِتَوَاتُرِهَا، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَاتُ جَمِيعُهَا مُتَوَاتِرَةً، أَوْ جَمِيعُهَا آحَادًا، أَوْ بَعْضُهَا تَوَاتُرٌ وَبَعْضُهَا آحَادٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ جَمِيعَهَا آحَادٌ خِلَافُ
(2/21)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ فِي الْقِرَاءَاتِ تَوَاتُرًا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ جَمِيعَهَا تَوَاتُرٌ، وَفِي أَنَّ هَلْ فِيهَا آحَادٌ أَمْ لَا؟ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَهَا تَوَاتُرٌ وَبَعْضُهَا آحَادٌ، تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ، إِذْ لَا طَرِيقَ لَنَا إِلَى تَمْيِيزِ تَوَاتُرِهَا مِنْ آحَادِهَا. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّ هَذَا الْبَعْضَ الْمُعَيَّنَ مِنْهَا آحَادٌ، دُونَ هَذَا الْبَعْضِ، تَحَكُّمٌ مَحْضٌ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَإِذَا انْتَفَى الْقِسْمَانِ الْأَخِيرَانِ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ جَمِيعَهَا مُتَوَاتِرٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «فَتَعَيَّنَ الْمُدَّعَى» .
قَوْلُهُ: «قَالُوا الْآحَادُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ» ، يَعْنِي: الْخَصْمَ النَّافِي لِلتَّوَاتُرِ عَنِ الْقِرَاءَاتِ جَمِيعِهَا، قَالَ: لَيْسَتِ الْقِسْمَةُ فِي دَلِيلِكُمْ حَاصِرَةً، بَلْ هُنَا قِسْمٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْآحَادَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ بَعْضٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، لَا جَمِيعُهَا، وَلَا بَعْضٌ مُعَيَّنٌ مِنْهَا.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مُحَالٌ» ، أَيْ: الْقَوْلُ بِأَنَّ الْآحَادَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ بَعْضٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مُحَالٌ ; لِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ حِينَئِذٍ تَكُونُ مُشْتَمِلَةً عَلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْآحَادِ وَالتَّوَاتُرِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ ; لِأَنَّ التَّوَاتُرَ مَعْلُومٌ، وَالْآحَادُ مَظْنُونٌ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَعْلُومِ وَالْمَظْنُونِ حَاصِلٌ بِضَرُورَةِ الْوِجْدَانِ، كَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْجُوعِ وَالشِّبَعِ، وَالرَّيِّ وَالْعَطَشِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْوِجْدَانِيَّاتِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي الْقِرَاءَاتِ مَظْنُونٌ ; فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا آحَادٌ، وَإِلَّا لَوُجِدَتِ الْآحَادُ مُفِيدَةً لِلْعِلْمِ بِمُجَرَّدِهَا، وَهُوَ مُحَالٌ عَادَةً.
تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنِّي سَلَكْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةَ الْأَكْثَرِينَ فِي نُصْرَةِ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ
(2/22)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُتَوَاتِرَةٌ، وَعِنْدِي فِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقِرَاءَاتِ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، أَمَّا تَوَاتُرُهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ ; فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ، فَإِنَّ أَسَانِيدَ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ، بِهَذِهِ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَةِ، إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَاتِ، وَهِيَ نَقْلُ الْوَاحِدِ عَنِ الْوَاحِدِ، لَمْ تَسْتَكْمِلْ شُرُوطَ التَّوَاتُرِ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ وَالْخُرُوجُ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ، لَذَكَرْتُ طَرَفًا مِنْ طُرُقِهِمْ وَلَكِنْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالْحِجَازِيِّينَ، وَالشَّامِيِّينَ، وَغَيْرِهِمْ، فَإِنْ عَاوَدْتَهَا مِنْ مَظَانِّهَا وَجَدْتَهَا كَمَا وُصِفَ لَكَ.
وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ تَتَوَاتَرْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ عُمَرَ لَمَّا خَاصَمَ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، حَيْثُ خَالَفَهُ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْفُرْقَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً بَيْنَهُمْ لَحَصَلَ الْعِلْمُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ بِهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيُخَاصِمَ فِي مَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ.
(2/23)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدِهِ يَنْفِرُ مِنَ الْقَوْلِ بِعَدَمِ تَوَاتُرِ الْقِرَاءَاتِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ، مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَاهِيَّةِ الْقُرْآنِ وَالْقِرَاءَاتِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى تَوَاتُرِ الْقُرْآنِ.
(2/24)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: الْمَنْقُولُ آحَادًا، نَحْوُ: " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ "، حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِلْبَاقِينَ. لَنَا: هُوَ قُرْآنٌ أَوْ خَبَرٌ، وَكِلَاهُمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ. قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَذْهَبٌ، ثُمَّ نَقَلَهُ قُرْآنًا خَطَأً، إِذْ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ تَبْلِيغُ الْوَحْيِ إِلَى مَنْ يَحْصُلُ بِخَبَرِهِ الْعِلْمُ. قُلْنَا: نِسْبَةُ الصَّحَابِيِّ رَأْيَهُ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ لَا يَلِيقُ بِهِ ; فَالظَّاهِرُ صِدْقُ النِّسْبَةِ، وَالْخَطَأُ الْمَذْكُورُ إِنْ سُلِّمَ، لَا يَضُرُّ، إِذِ الْمُطَّرَحُ كَوْنُهُ قُرْآنًا لَا خَبَرًا، لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ كَافٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الثَّانِيَةُ ": أَيْ مِنْ مَسَائِلِ الْكِتَابِ " الْمَنْقُولُ آحَادًا، نَحْوُ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ "، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، " حُجَّةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِلْبَاقِينَ "، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
قَوْلُهُ: " لَنَا: هُوَ قُرْآنٌ أَوْ خَبَرٌ "، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى أَنَّ الْمَنْقُولَ مِنَ الْقُرْآنِ آحَادًا حُجَّةٌ، أَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قُرْآنًا أَوْ خَبَرًا، وَكِلَاهُمَا - أَعْنِي الْقُرْآنَ وَالْخَبَرَ - يُوجِبُ الْعَمَلَ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ النَّاقِلَ جَازِمٌ بِالسَّمَاعِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصُدُورُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَّا عَلَى جِهَةِ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ ; فَيَكُونُ قُرْآنًا، أَوْ عَلَى جِهَةِ تَفْسِيرِهِ ; فَيَكُونُ خَبَرًا.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ كِلَيْهِمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ ; فَبِالِاتِّفَاقِ ; فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُولُ مِنَ الْقُرْآنِ آحَادًا حُجَّةً.
(2/25)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَذْهَبٌ " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَوَرَانَهُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ لَيْسَ حَاصِرًا، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِلنَّاقِلِ، وَمَذْهَبُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ; فَقَدْ دَارَ مَا نَقَلَهُ بَيْنَ مَا هُوَ حُجَّةٌ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَمَعَ التَّرَدُّدِ فِي جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ فِيهِ، وَهُوَ عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ النَّاقِلِ لَهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ، يَكُونُ خَطَأً مِنْهُ عَلَى الرَّسُولِ، أَوْ خَطَأً مِنْهُ مُطْلَقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ; لِأَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ الْوَحْيِ إِلَى جَمَاعَةٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّبْلِيغِ بِتَبْلِيغِ الْوَاحِدِ، وَحِينَئِذٍ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ هَذَا النَّاقِلَ أَخْطَأَ عَلَى الرَّسُولِ فِي نَقْلِهِ الْآحَادَ عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ ; لِأَنَّهُ نَسَبَ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: نِسْبَةُ الصَّحَابِيِّ رَأْيَهُ "، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْخَصْمُ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ كَوْنَ الصَّحَابِيِّ يَنْسِبُ رَأْيَ نَفْسِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذِبٌ مِنَ الصَّحَابِيِّ، وَافْتِرَاءٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ يَنْقُلُ عَنْهُ، وَيَقُولُ مَا لَمْ يُقِلْ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ نِسْبَتُهُ إِلَى الصَّحَابَةِ، مَعَ تَحَرِّيهِمْ فِي الصِّدْقِ عَلَيْهِ، هَذَا جَوَابُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِلْخَصْمِ.
وَقَوْلُهُ: " وَالْخَطَأُ الْمَذْكُورُ إِنْ سُلِّمَ لَا يَضُرُّ "، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا الْجَوَابُ
(2/26)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ نَقْلَ الصَّحَابِيِّ لَهُ قُرْآنًا خَطَأٌ، لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّنَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، لَا أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ وَتَحَرِّيهِمْ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ، وَتُنَزُّهِهِمْ عَنِ الْكَذِبِ، خُصُوصًا عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ خَبَرٌ مَرْفُوعٌ، كَانَ كَافِيًا فِي الْعَمَلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: " إِذِ الْمُطَّرَحُ كَوْنُهُ قُرْآنًا لَا خَبَرًا، لِمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ كَافٍ ".
(2/27)
________________________________________
الثَّالِثَةُ: فِي الْقُرْآنِ الْمَجَازُ، خِلَافًا لِقَوْمٍ. لَنَا: الْوُقُوعُ نَحْوُ {جَنَاحَ الذُّلِّ} ، وَ {نَارًا لِلْحَرْبِ} ، وَ {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ، وَهُوَ كَثِيرٌ، قَالُوا: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَجَوِّزًا. وَأُجِيبَ: بِالْتِزَامِهِ، وَبِالْفَرْقِ بِأَنَّ مَثَلَهُ تَوْقِيفِيٌّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ» مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ أَنَّ «فِي الْقُرْآنِ الْمَجَازَ» ، أَيْ: هُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، «خِلَافًا لِقَوْمٍ» ، وَهُمُ الظَّاهِرِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ ; فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا جَوَازَ وُقُوعِهِ فِي الْقُرْآنِ. «لَنَا: الْوُقُوعُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْمَجَازُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْوُقُوعُ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ ; فَمَنْ نَازَعَ فِي الْجَوَازِ ; فَالْوُقُوعُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ، وَمَنْ نَازَعَ فِي الْوُقُوعِ ; فَهُوَ يَدُلُّ بِنَفْسِهِ.
وَبَيَانُ وُقُوعِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الْإِسْرَاءِ: 24] ، وَالْجَنَاحُ حَقِيقَةٌ لِلطَّائِرِ مِنَ الْأَجْسَامِ، وَالْمَعَانِي وَالْجَمَادَاتِ لَا تُوصَفُ بِهِ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [الْمَائِدَةِ: 64] ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ إِثَارَةِ أَسْبَابِ الْحَرْبِ، أَوْ عَنْ نَفْسِ الْحَرْبِ، تَشْبِيهًا لَهَا بِالنَّارِ، بِجَامِعِ الْكُرَبِ فِيهِمَا، وَشَدَّةِ وَقْعِهِمَا عَلَى النُّفُوسِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
(2/28)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَيْسَ الشُّجَاعُ الَّذِي يَحْمِي كَتِيبَتَهُ ... يَوْمَ النِّزَالِ وَنَارُ الْحَرْبِ تَشْتَعِلُ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الْكَهْفِ: 77] ، وَالْجِدَارُ لَا إِرَادَةَ لَهُ ; إِذْ الْإِرَادَةُ حَقِيقَةٌ مِنْ خَصَائِصِ الْحَيَوَانِ أَوِ الْإِنْسَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مُقَارَبَتِهِ الِانْقِضَاضَ ; لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ شَيْئًا قَارَبَهُ ; فَكَانَتِ الْمُقَارَبَةُ مِنْ لَوَازِمِ الْإِرَادَةِ ; فَتُجُوِّزَ بِهَا عَنْهَا. «وَهُوَ كَثِيرٌ» يَعْنِي: الْكَلَامُ الْمَجَازِيُّ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، نَحْوَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82] ، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى: 40] ، {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الْأَنْفَالِ: 67] ، {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الْأَعْرَافِ: 130] ، وَحَقِيقَةُ الْإِثْخَانِ فِي الْمَائِعَاتِ، وَالْأَخْذُ فِي التَّنَاوُلِ بِالْيَدِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ كَثِيرٌ يَعْسُرُ اسْتِقْصَاؤُهُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَجَوِّزًا» مُسْتَعِيرًا ; لِأَنَّ مُسْتَعْمَلَ الْمَجَازِ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ مُتَجَوِّزًا، وَالتَّجَوُّزُ: اسْتِعَارَةُ اللَّفْظِ لِغَيْرِ مَوْضُوعِهِ ; فَيَلْزَمُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى ; فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ وَاقِعًا فِي الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ بِالْتِزَامِهِ وَبِالْفَرْقِ» ، أَيْ: أَجَابَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ عَنْ هَذَا الْإِلْزَامِ بِجَوَابَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْتِزَامُهُ: وَهُوَ صِحَّةُ تَسْمِيَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَجَوِّزًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْمَجَازِ، وَلَيْسَ فِيهِ نَقْصٌ وَلَا مَحْذُورٌ، كَمَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا بِاسْتِعْمَالِهِ لِلْكَلَامِ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: مَنْعُ الْمُلَازِمَةِ، وَهُوَ: أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ بِالْمَجَازِ، لَزِمَ أَنْ يُسَمَّى مُتَجَوِّزًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَغَيْرِهِ، أَنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
(2/29)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَعَالَى بِالْأَسْمَاءِ، وَوَصْفَهُ بِالصِّفَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ، أَيْ: إِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ، لَا مِنْ جِهَةِ التَّصَرُّفِ. الِاشْتِقَاقِيِّ وَالْقِيَاسِيِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: «وَبِالْفَرْقِ بِأَنَّ مِثْلَهُ» ، أَيْ: بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا - وَهُوَ تَسْمِيَةُ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ - «تَوْقِيفِيٌّ» .
قُلْتُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ أَسْمَاءٌ بِدُونِ التَّوْقِيفِ، مِثْلَ قَوْلِنَا: فَارِشٌ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} [الذَّارِيَاتِ: 48] ، وَمُنْبِتٌ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عَبَسَ: 27] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ، اخْتَارَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِهِ «الْمَقْصِدُ الْأَسْنَى» الْجَوَازَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْمَنْعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْ أَدِلَّةِ النَّافِينَ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُنْبِئُ بِنَفْسِهِ عَنْ مَعْنَاهُ ; فَوُقُوعُهُ فِي الْقُرْآنِ مُلْبِسٌ، وَمَقْصُودُ الْقُرْآنِ الْبَيَانُ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْبَيَانَ يَحْصُلُ بِالْقَرِينَةِ ; فَلَا إِلْبَاسَ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْعُدُولَ إِلَى الْمَجَازِ يَقْتَضِي الْعَجْزَ عَنِ الْحَقِيقَةِ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالْعَجْزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ.
وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ ذَلِكَ، بَلِ الْمَجَازُ لَهُ فَوَائِدُ سَبَقَ ذِكْرُ بَعْضِهَا.
وَمِنْهَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى حَقٌّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ صِدْقٌ، لَيْسَ بِكَذِبٍ وَلَا بَاطِلٍ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ أَلْفَاظِهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَوْضُوعِهَا الْأَصْلِيِّ، وَكَوْنُهُ لَهُ حَقِيقَةٌ مَعْنَاهُ أَنَّهُ
(2/30)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَوْجُودٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ بِنَاءٌ وَتَأْوِيلٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِخَيَالٍ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ، كَالْمَنَامِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ كَلَامٌ عَرَبِيٌّ ; فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَجَازِ، وَقَابِلٌ لِوُقُوعِ الْمَجَازِ ; فَالْقُرْآنُ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا.
(2/31)
________________________________________
الرَّابِعَةُ: فِي الْقُرْآنِ الْمُعَرَّبُ، وَهُوَ مَا أَصْلُهُ أَعْجَمِيٌّ، ثُمَّ عُرِّبَ، خِلَافًا لِلْقَاضِي وَالْأَكْثَرِينَ. لَنَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} حَبَشِيَّةٌ، وَمِشْكَاةٌ هِنْدِيَّةٌ، وَ {إِسْتَبْرَقٍ} وَسِجِّيلٍ فَارِسِيَّةٌ.
قَالُوا: تَحَدِّي الْعَرَبِ بِغَيْرِ لِسَانِهِمْ مُمْتَنِعٌ، ثُمَّ ذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَ الْقُرْآنِ عَرَبِيًّا مَحْضًا، وَالنَّصُّ أَثْبَتَهُ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ظَاهِرٌ فِي إِنْكَارِهِ بِتَقْدِيرِهِ، وَلَا حُجَّةَ فِي مَنْعِ صَرْفِ إِسْحَاقَ وَنَحْوِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَمٌ، وَالْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ، وَالْأَلْفَاظُ الْمَذْكُورَةُ مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ اللُّغَتَانِ، كَالصَّابُونِ، وَالتَّنُّورِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْيَسِيرَةَ الدَّخِيلَةَ لَا تَنْفِي تَمَحُّضَ اللُّغَةِ عُرْفًا، كَأَشْعَارِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ، مَعَ تَضَمُّنِهَا أَلْفَاظًا أَعْجَمِيَّةً، وَتَحَدِّيهِمْ كَانَ بِلُغَتِهِمْ فَقَطْ. أَوْ: لَمَّا عُرِّبَتْ صَارَ لَهَا حُكْمُ الْعَرَبِيَّةِ، وَ {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} مُتَأَوَّلٌ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ، وَاتِّفَاقُ اللُّغَتَيْنِ بِعِيدٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الرَّابِعَةُ: فِي الْقُرْآنِ الْمُعَرَّبِ "، أَيْ: الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْكَلَامِ الْمُعَرَّبِ - بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا - " وَهُوَ مَا أَصْلُهُ أَعْجَمِيٌّ، ثُمَّ عُرِّبَ " أَيْ: اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ نَحْوَ اسْتِعْمَالِهَا لِكَلَامِهَا ; فَقِيلَ لَهُ: مُعَرَّبٌ، تَوَسُّطًا بَيْنَ الْعَجَمِيِّ وَالْعَرَبِيِّ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْأَكْثَرِينَ.
" لَنَا "، أَيْ: عَلَى وُقُوعِ الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ - " قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} "، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [الْمُزَّمِّلِ: 6] حَبَشِيَّةٌ "
(2/32)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِشْكَاةٌ: لُغَةٌ هِنْدِيَّةٌ، وَإِسْتَبْرَقٍ وَسِجِّيلٍ: لُغَةٌ فَارِسِيَّةٌ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ، خُصُوصًا ابْنَ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانَ الْقُرْآنِ، الَّذِي دَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ; فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِهِمَا.
وَذَكَرَ ابْنُ فَارِسٍ فِي كِتَابِ " فِقْهِ اللُّغَةِ "، قَالَ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي أَحْرُفٍ كَثِيرَةٍ: إِنَّهَا بِلُغَاتِ الْعَجَمِ، مِنْهَا: طه، وَالْيَمُّ، وَالطُّورُ، وَالرَّبَّانِيُّونَ،
(2/33)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُقَالُ: إِنَّهَا سُرْيَانِيَّةٌ، وَالصِّرَاطُ، وَالْقِسْطَاسُ، وَالْفِرْدَوْسُ، يُقَالُ: هِيَ رُومِيَّةٌ. وَمِشْكَاةٌ، وَ {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الْحَدِيدِ: 28] ، يُقَالُ: هِيَ حَبَشِيَّةٌ، وَهَيْتَ لَكَ، يُقَالُ: هِيَ بِالْحَوْرَانِيَّةِ.
(2/34)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ: وَزَعَمَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ الْعَجَمِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ كُلُّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.
قُلْتُ: الْحَقُّ أَنَّ فِيهِ أَلْفَاظًا مُعَرَّبَةً كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُهَا عَرَبِيٌّ مَحْضٌ، وَقَدْ صَنَّفَ ابْنُ الْجَوَالِيقِيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ " الْمُعَرَّبَ "، وَذَكَرَ فِيهِ أَلْفَاظًا وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّبَةً.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: تَحَدِّي الْعَرَبِ بِغَيْرِ لِسَانِهِمْ "، إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ أَدِلَّةُ الْمَانِعِينَ لِوُقُوعِ الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُعْجِزًا تَحَدَّى بِهِ الْعَرَبَ، أَيْ: تَحَدَّاهُمْ وَبَعَثَهُمْ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، تَعْجِيزًا لَهُمْ ; فَلَوْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى غَيْرِ الْعَرَبِيِّ الْمَحْضِ، لَكَانَ قَدْ تَحَدَّاهُمْ بِمُعَارَضَةِ مَا لَيْسَ مِنْ لِسَانِهِمْ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، كَمَا إِذَا قِيلَ لِلْعَجَمِيِّ الْمَحْضِ: أَنْشِئْ لَنَا مِثْلَ السَّبْعِ الطِّوَالِ، أَوِ الْأَشْعَارِ السِّتَّةِ، وَنَحْوِهَا.
(2/35)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّصَّ أَثْبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ مَحْضٌ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مُعَرَّبٌ لَمْ يَكُنْ عَرَبِيًّا مَحْضًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يُوسُفَ: 2] ، {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الْأَحْقَافِ: 12] ، {قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزُّمَرِ: 28] ، وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَمَحُضَّ عَرَبِيَّتِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى عِدَّةِ أَلْفَاظٍ أَعْجَمِيَّةِ الْأَصْلِ، لَا يَكُونُ كُلُّهُ عَرَبِيًّا مَحْضًا بِالضَّرُورَةِ، كَمَا أَنَّ الْجَيْشَ مِنَ الْعَرَبِ، إِذَا كَانَ فِيهِ آحَادُ فُرْسَانٍ مِنَ الْعَجَمِ، لَا يَكُونُ جَيْشًا عَرَبِيًّا مَحْضًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا، لَزِمَ خِلَافُ النَّصِّ عَلَى كَوْنِهِ عَرَبِيًّا مَحْضًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} الْآيَةَ [فُصِّلَتْ: 44] ، هَذَا ظَاهِرٌ فِي إِنْكَارِ الْمُعَرَّبِ بِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ ; لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: أَنَّا إِنَّمَا جَعَلْنَا الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا ; لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ أَعْجَمِيًّا لَأَنْكَرْتُمُوهُ أَيُّهَا الْكُفَّارُ، وَقُلْتُمْ كَيْفَ يَكُونُ قُرْآنٌ أَعْجَمِيٌّ وَنَبِيٌّ عَرَبِيٌّ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ وَأَنْكَرُوهُ لَكَانَ لَهُمْ فِيهِ الْحُجَّةُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مَحْضٌ، لِتَقُومَ بِهِ الْحُجَّةُ، وَلَا يَتَّجِهَ لَهُمْ إِنْكَارُهُ.
قَوْلُهُ: " وَلَا حُجَّةَ فِي مَنْعِ صَرْفِ " إِسْحَاقَ " وَنَحْوِهِ "، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابٌ مِنْ مُنْكِرِي الْمُعَرَّبِ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لِمُثْبِتِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظًا أَعْجَمِيَّةَ الْأَصْلِ، أَنَّ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَيَعْقُوبَ وَنَحْوَهَا، غَيْرُ مُنْصَرِفَةٍ لِاجْتِمَاعِ الْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ فِيهَا، وَمَا اتَّصَفَ بِالْعُجْمَةِ ; فَهُوَ
(2/36)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَعْجَمِيٌّ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَتِ الْعَرَبُ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ عَلَى نَهْجِ لُغَتِهَا ; فَصَارَتْ أَعْجَمِيَّةً مُعَرِّبَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَأَجَابَ النَّافُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْعَ صَرْفِ إِسْحَاقَ وَنَحْوِهِ، لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مُعَرَّبًا ; لِأَنَّ هَذِهِ أَعْلَامٌ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي الْأَعْلَامِ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي غَيْرِهَا وَهِيَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ، نَحْوَ: دِيبَاجَ، وَفِرِنْدَ، وَنَيْرُوزَ، وَآجُرَّ، وَإِبْرَيْسَمَ، وَإِهْلِيلِجَ، وَإِطْرَيْفَلَ وَلِجَامَ وَنَحْوِهِ.
قَوْلُهُ: وَالْأَلْفَاظُ الْمَذْكُورَةُ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابٌ مِنْ مُنْكِرِي الْمُعَرَّبِ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مُثْبِتُوهُ مِنْ لَفْظِ نَاشِئَةٍ، وَمِشْكَاةٍ، وَإِسْتَبْرَقٍ، وَسِجِّيلٍ، وَنَحْوِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَيْسَتْ أَعْجَمِيَّةً، بَلْ هِيَ عَرَبِيَّةٌ وَافَقَتْ أَلْفَاظَ الْعَجَمِ فَاتَّفَقَتْ فِيهَا اللُّغَتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ عِنْدَنَا فِي اللُّغَتَيْنِ جَمِيعًا، وَسَنَذْكُرُ جُمْلَةً مِنْ ذَلِكَ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ حُجَّةٌ عَلَى وُقُوعِ الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَيْسَتْ مُعَرَّبَةً، بَلْ عَرَبِيَّةً وَافَقَتْ أَلْفَاظَ الْعَجَمِ.
قَوْلُهُ: " وَأُجِيبَ " أَيْ: عَنِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْمَانِعُونَ.
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: تَحَدِّي الْعَرَبِ بِغَيْرِ لُغَتِهِمْ مُمْتَنِعٌ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ وُقُوعَ الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ يَسْتَلْزِمُ تَحَدِّيَهُمْ بِغَيْرِ لُغَتِهِمْ ; لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنَ الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَاظٌ يَسِيرَةٌ، دَخِيلَةٌ مِنْ غَيْرِ لُغَتِهِ، وَهِيَ لَا تَنْفِي تَمَحُّضَ الْعَرَبِيَّةِ فِيهِ عُرْفًا، كَأَشْعَارِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَرَبِ الْفُصَحَاءِ، هِيَ عَرَبِيَّةٌ عُرْفًا بِاتِّفَاقٍ، مَعَ تَضَمُّنِهَا أَلْفَاظًا أَعْجَمِيَّةً، وَإِذَا
(2/37)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَمْ يَكُنِ الْمُعَرَّبُ الْوَاقِعُ فِي الْقُرْآنِ نَافِيًا لِتَمَحُّضِهِ عَرَبِيًّا ; فَمَا تَحَدَّاهُمْ إِلَّا بِلُغَتِهِمْ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ الدَّخِيلَةَ لِقِلَّتِهَا لَا تَأْثِيرَ لَهَا، وَلَيْسَ هَذَا كَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَكْلِيفِ الْعَجَمِيِّ الْمَحْضِ إِنْشَاءَ مِثْلِ السَّبْعِ الطِّوَالِ وَنَحْوِهَا، لِكَثْرَتِهِ وَقِلَّةِ الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ بِالضَّرُورَةِ.
أَوْ نَقُولُ: إِنَّ تَحَدِّيَهُمْ كَانَ بِلُغَتِهِمْ فَقَطْ لَا بِالْمُعَرَّبِ، وَفِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَحْضَةِ مَا هِيَ كَافِيَةٌ بِتَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: " وَتَحَدِّيهِمْ بِلُغَتِهِمْ فَقَطْ ".
قَوْلُهُ: " أَوْ لَمَّا عُرِّبَتْ صَارَ لَهَا حُكْمُ الْعَرَبِيَّةِ، هَذَا جَوَابٌ آخَرُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهَا أَعْجَمِيًّا، إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ لَمَّا اسْتَعْمَلَتْهَا فِي لُغَتِهَا، صَارَ لَهَا حُكْمُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْإِعْجَازِ وَالتَّحَدِّي وَمُخَاطَبَةِ الْعَرَبِ بِهَا ; فَمَا تَحَدَّاهُمْ إِلَّا بِلُغَتِهِمْ ". فَحَاصِلُ الْأَمْرِ مَنْعُ أَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِغَيْرِ لُغَتِهِمْ ; إِمَّا لِأَنَّ الْمُخَالِفَ لِلُغَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ قَلِيلٌ، لَا حُكْمَ لَهُ فِي نَفْيٍ تَمَحُّضِهِ عَرَبِيًّا، أَوْ لِأَنَّهُ بِالتَّعْرِيبِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْعَرَبِيِّ، ثُمَّ إِنَّ أَصْلَ الدَّلِيلِ مَبْنِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ وُقُوعَ الْمُعَرَّبِ فِي الْقُرْآنِ يَنْفِي كَوْنَهُ عَرَبِيًّا مَحْضًا.
ثُمَّ نُرِيدُ الطَّعْنَ فِي مُقَدِّمَةِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّصَّ أَثْبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ عَرَبِيٌّ مَحْضٌ، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يُوسُفَ: 2]
(2/38)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَنَحْوَهُ يَقْتَضِي تَمَحُّضَ عَرَبِيَّتِهِ مَمْنُوعٌ، بَلْ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَرَبِيٌّ فِي غَالِبِ أَلْفَاظِهِ، وَأَنَّهُ عَرَبِيٌّ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ أَنَّهُ لَا مُعَرَّبَ فِيهِ، أَوْ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ عُرْفًا، وَالْقُرْآنُ مَعَ الْمُعَرَّبِ الَّذِي فِيهِ يُسَمَّى عَرَبِيًّا عُرْفًا كَمَا بَيَّنَّا، وَالْقَوْلُ فِيمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الْجَيْشِ الْعَرَبِيِّ فِيهِ آحَادٌ مِنَ الْعَجَمِ كَذَلِكَ، اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ; فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ آحَادَ الْفُرْسَانِ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا مَا يُصَيِّرُ حُكْمَهَا حُكْمَ الْعَرَبِ، بِخِلَافِ الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ ; فَإِنَّهُ حَدَثَ فِيهَا مِنْ تَعْرِيبِ الْعَرَبِ لَهَا مَا صَيَّرَ حُكْمَهَا حُكْمَ أَلْفَاظِ الْعَرَبِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} [فُصِّلَتْ: 44] ; فَقَدْ أَجَبْتُ عَنْهُ فِي " الْمُخْتَصَرِ " بِقَوْلِي: " وَ {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} مُتَأَوَّلٌ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ ".
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ بِنَحْوِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ أَنَّ حُجَّةَ الْكُفَّارِ ; إِنَّمَا كَانَتْ تَقُومُ لَوْ كَانَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ أَعْجَمِيًّا، أَمَّا وَغَالِبُهُ عَرَبِيٌّ بِلُغَتِهِمْ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَلْفَاظٌ يَسِيرَةٌ مِنْ غَيْرِهِ ; فَلَا، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ: وَلَوْ جَعَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ، أَيْ جَمِيعَهُ، قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا ; لَأَنْكَرُوهُ، وَلَقَامَتْ حُجَّتُهُمْ، لَكِنْ مَا جَعَلْنَا جَمِيعَهُ أَعْجَمِيًّا ; فَلَيْسَ لَهُمْ إِنْكَارُهُ، وَلَا تَقُومُ لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ حُجَّةٌ، وَهُوَ صَحِيحٌ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لَهُ أَنْتَ أَتَيْتِنَا بِأَلْفَاظٍ لَيْسَتْ مِنْ لُغَتِنَا كَالْمِشْكَاةِ، وَسِجِّيلٍ، وَنَحْوِهِ، وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُ إِلَّا لُغَتَنَا، لَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَا أَتَحَدَّاكُمْ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، بَلْ بِالْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ لُغَتِكُمْ ; فَأْتُوا بِمِثْلِهَا إِنَّ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
(2/39)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ مِشْكَاةً وَنَحْوَهَا مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ اللُّغَتَانِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اتِّفَاقَ اللُّغَتَيْنِ بَعِيدٌ فِي الْعَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ.
الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، لَكِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ ; فَحَمْلُكُمُ الْأَلْفَاظَ عَلَيْهِ، مَعَ نَقْلِ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ أَنَّهَا مُعَرَّبَةٌ، حَمْلٌ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ رِيَاضِيَّاتِ هَذَا الْعِلْمِ ; فَهِيَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا كَبِيرُ أَمْرٍ فِي فِقْهِ اللُّغَاتِ.
تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي، وَابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ، الْمُسَمَّى بِـ الصَّاحِبِيِّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ فِي اللُّغَةِ أَلْفَاظًا أَصْلُهَا أَعْجَمِيٌّ، كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ، لَكِنِ اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ ; فَعَرَّبَتْهَا بِأَلْسِنَتِهَا، وَحَوَّلَتْهَا عَنْ أَلْفَاظِ الْعَجَمِ إِلَى أَلْفَاظِهَا ; فَصَارَتْ عَرَبِيَّةً، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَقَدِ اخْتَلَطَتْ بِكَلَامِ الْعَرَبِ ; فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَرَبِيَّةٌ ; فَهُوَ صَادِقٌ، يَعْنِي بِاعْتِبَارِ التَّعْرِيبِ الطَّارِئِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا أَعْجَمِيَّةٌ ; فَهُوَ صَادِقٌ، يَعْنِي بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَإِنَّمَا سَلَكْنَا هَذَا الطَّرِيقَ لِئَلَّا يُظَنَّ بِالْفُقَهَاءِ الْجَهْلُ بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِالتَّأْوِيلِ، وَأَشَدَّ تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ.
(2/40)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَائِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ:
قَالَ الثَّعَالِبِيُّ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ وَأَسْرَارِ الْعَرَبِيَّةِ: فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَسْمَاءٍ قَائِمَةٍ فِي لُغَتَيِ الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ عَلَى لَفْظٍ وَاحِدٍ: التَّنُّورُ، الْخَمِيرُ، الرُّمَّانُ، الدِّينُ، الْكَنْزُ، الدِّينَارُ، وَالدِّرْهَمُ.
ثُمَّ قَالَ: فَصْلٌ فِي أَسْمَاءٍ تَفَرَّدَتْ بِهَا الْفَرَسُ دُونَ الْعَرَبِ ; فَاضْطُرَّتِ الْعَرَبُ إِلَى تَعْرِيبِهَا، أَوْ تَرْكِهَا كَمَا هِيَ ; فَمِنْهَا فِي الْأَوَانِي: الْكُوزُ، الْجَرَّةُ، الْإِبْرِيقُ، الطَّسْتُ، الْخُوَانُ، الطَّبَقُ، الْقَصْعَةُ، السُّكُرُّجَةُ.
وَمِنَ الْمَلَابِسِ: السَّمُّورُ، السِّنْجَابُ، الْخَزُّ، الدِّيبَاجُ، السُّنْدُسُ، التَّاخُتْجُ، الرَّاخُتْجُ.
وَمِنَ الْجَوَاهِرِ: الْيَاقُوتُ، الْفَيْرُوزَجُ، وَالْبِلَّوْرُ.
وَمِنَ الْمَأْكُولَاتِ: السَّمِيذُ، الْجَرْذَقُ، وَالدَّرْمَكُ، وَالْكَعْكُ وَالسِّكْبَاجُ، وَالْمَزَيَرَبَاجُ، وَالطَّبَاهَجُ، وَالْجُوذَابُ، الزُّمَاوَرَدُ، الْفَالُوذَجُ، اللَّوْزَينْجُ، الْجَوْزَيْنَجُ، السَّكَنْجَبِينُ، الْجَكَنْجَبِينُ.
(2/41)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنَ الْأَفَاوِيهِ وَالرَّيَاحِينِ: الْقِرْفَةُ، الدَّارَصِينِيُّ، الْفُلْفُلُ، الْكَرَاوِيَا، الزَّنْجَبِيلُ، الْخُولَنْجَانُ، النَّرْجِسُ، الْبَنَفْسَجُ، النَّسْرِينُ، السَّوْسَنُ، الْمَرْزَنْجُوشُ، الْيَاسَمِينُ، الْجُلَّنَارُ، الْعَنْبَرُ، الْكَافُورُ، الصَّنْدَلُ، الْقَرَنْفُلُ.
وَذَكَرَ فَصْلًا فِيمَا نِسْبَةُ فَارِسِيَّتِهِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَفَصْلًا فِي أَسْمَاءٍ عَرَبِيَّةٍ تَتَعَرَّبُ فَارِسِيَّةً أَكْثَرُهَا، وَأَشْيَاءَ غَيْرَ ذَلِكَ. وَلَمْ أَسْتَوْفِ مَا ذَكَرَهُ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ، وَكُلُّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ مُعَرَّبًا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ وَالتَّوْفِيقِ مَا قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَلَعَلَّ نَاظِرًا يَنْظُرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ; فَيَظُنُّ حِكَايَتَنَا لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ خُرُوجًا عَنِ الْمَقْصُودِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُحَقِّقٌ لِلْمَقْصُودِ وَمُكَمِّلٌ لَهُ، وَإِنَّمَا يَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ خُرُوجٌ بَطَّالٌ يَقْنَعُ بِحِكَايَةِ مَا يَجِدُهُ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَإِنَّمَا الْحَزْمُ أَخْذُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ مَظِنَّتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَيْتَ الشَّخْصَ يَصِلُ إِلَى تَحْقِيقِ الْمُرَادِ، لَكِنَّهُ كُلَّمَا كَانَ اجْتِهَادُهُ أَبْلَغَ، كَانَ بِالتَّحْقِيقِ أَجْدَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/42)
________________________________________
الْخَامِسَةُ: فِيهِ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّ الْمُحْكَمُ الْمُتَّضِحُ الْمَعْنَى، وَالْمُتَشَابِهَ مُقَابِلُهُ، لِاشْتِرَاكٍ، أَوْ إِجْمَالٍ، أَوْ ظُهُورِ تَشْبِيهٍ. وَالْأَظْهَرُ الْوَقْفُ عَلَى إِلَّا اللَّهُ، لَا {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، خِلَافًا لِقَوْمٍ.
قَالُوا: الْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ بَعِيدٌ. قُلْنَا: لَا بُعْدَ فِي تَعَبُّدِ الْمُكَلَّفِ بِالْعَمَلِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ، وَالْإِيمَانِ بِبَعْضٍ، وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مُسْتَقْصًى فِي كِتَابِ «بُغْيَةِ السَّائِلِ» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الْخَامِسَةُ فِيهِ» : أَيْ: فِي الْقُرْآنِ، «الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمَا» ، أَيْ: فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ «أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ» .
قُلْتُ: سَأَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا آخِرَ الْمَسْأَلَةِ، وَيَنْبَغِي الْكَلَامُ فِي لَفْظِ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ وَمَعْنَاهُ.
أَمَّا لَفْظُهُ: فَالْمُحْكَمُ: مُفْعَلٌ مِنْ أَحْكَمْتُ الشَّيْءَ أُحْكِمُهُ إِحْكَامًا ; فَهُوَ مُحْكَمٌ: إِذَا أَتْقَنْتُهُ ; فَكَانَ عَلَى غَايَةِ مَا يَنْبَغِي مِنَ الْحِكْمَةِ. وَمِنْهُ بَنَّاءٌ مُحْكَمٌ، أَيْ: ثَابِتٌ مُتْقَنٌ، يَبْعُدُ انْهِدَامُهُ.
وَالْمُتَشَابِهُ: مُتَفَاعِلٌ مِنَ الشِّبْهِ، وَالشَّبَهِ، وَالشَّبِيهِ، وَهُوَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَمْرٌ مُشْتَرِكٌ ; فَيَشْتَبِهُ وَيَلْتَبِسُ بِهِ.
وَأَمَّا مَعْنَاهُ: فَأَجْوَدُ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّ الْمُحْكَمَ الْمُتَّضِحُ الْمَعْنَى، كَالنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْبَيَانِ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ.
وَ «الْمُتَشَابِهَ مُقَابِلُهُ» : أَيْ: مُقَابِلُ الْمُحَكِّمِ، وَهُوَ غَيْرُ الْمُتَّضِحِ الْمَعْنَى ; فَتَشْتَبِهُ بَعْضُ
(2/43)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُحْتَمَلَاتِهِ بِبَعْضٍ لِلِاشْتِرَاكِ، أَيْ: تُشَابِهُهُ.
وَعَدَمُ اتِّضَاحِ مَعْنَاهُ: إِمَّا لِاشْتِرَاكٍ، كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ، وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْمُشْتَرِكَاتِ، أَوْ لِإِجْمَالٍ ; وَهُوَ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ بِدُونِ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 141] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْحَقِّ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي فِي بَابِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَوْ لِظُهُورِ تَشْبِيهٍ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، كَآيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَخْبَارِهَا نَحْوَ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرَّحْمَنِ: 27] ، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [الْمَائِدَةِ: 64] ، يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تُغِيضُهَا النَّفَقَةُ، فَيَضَعُ الْجَبَّارُ قَدَمَهُ، فَيَظْهَرُ لَهُمْ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا، خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; لِأَنَّ هَذَا اشْتَبَهَ الْمُرَادُ مِنْهُ عَلَى النَّاسِ ; فَلِذَلِكَ قَالَ قَوْمٌ بِظَاهِرِهِ ; فَجَسَّمُوا وَشَبَّهُوا، وَفَرَّ قَوَّمَ مِنَ التَّشْبِيهِ ; فَتَأَوَّلُوا وَحَرَّفُوا ; فَعَطَّلُوا، وَتَوَسَّطَ قَوْمٌ ; فَسَلَّمُوا
(2/44)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَرُّوهُ كَمَا جَاءَ، مَعَ اعْتِقَادِ التَّنْزِيهِ ; فَسَلِمُوا، وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَظْهَرُ الْوَقْفُ عَلَى إِلَّا اللَّهُ، لَا {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، خِلَافًا لِقَوْمٍ» ، هَذَا تَرْجِيحٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي التَّسْلِيمِ وَتَرْكِ التَّأْوِيلِ.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مِنْ الْمُتَشَابِهِ فِي الْقُرْآنِ آيَاتِ الصِّفَاتِ، الَّتِي ظَاهِرُهَا الْمُشَاهَدُ التَّشْبِيهُ ; فَالْحُكْمُ فِيهِ عِنْدَنَا التَّسْلِيمُ، مَعَ اعْتِقَادِ التَّنْزِيهِ، وَعَدَمِ التَّأْوِيلِ الْمُفْضِي إِلَى التَّعْطِيلِ، وَلَمَّا كَانَ مَأْخَذُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَهْلِ التَّسْلِيمِ وَالتَّأْوِيلِ هُوَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، احْتِيجَ إِلَى الْكَلَامِ عَلَيْهَا لِيَظْهَرَ الْحَقُّ.
وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ قَالُوا: الْوَقْفُ التَّامُّ فِي الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} أَيْ: تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا اللَّهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مُبْتَدَأٌ مُسْتَأْنَفٌ، يَقُولُونَ خَبَرُهُ. وَإِذَا كَانَ الْمُتَشَابِهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَجَبَ أَنْ لَا يَعْلَمَهُ الْخَلْقُ ; فَيَجِبُ عَلَيْنَا الْإِيمَانُ بِهِ، وَالتَّسْلِيمُ لَهُ، مَعَ اعْتِقَادِ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، جَمْعًا بَيْنَ الْمُتَشَابِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}
(2/45)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الشُّورَى: 11] ; فَأَثْبَتَ وَنَزَّهَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَالَتِ الْمُؤَوِّلَةُ، وَهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ: الْوَقْفُ التَّامُّ فِي الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، أَيْ: يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى ; فَأَثْبَتَ لَهُ تَأْوِيلًا، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ. وَإِذَا كَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ مَعْلُومٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، وَجَبَ أَنْ لَا يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ الْمُوهِمِ لِلتَّشْبِيهِ، الْمُسْتَحِيلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِبَرَاهِينِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ حَمْلٌ لَهُ عَلَى مُرَادِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْهُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ بَعِيدٌ هَذَا دَلِيلُ الْمُؤَوِّلَةِ.»
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَوِ اخْتُصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ دُونَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَكَانَ خِطَابُهُ لِلنَّاسِ بِهِ خِطَابًا لَهُمْ بِمَا لَا يَفْهَمُونَهُ، وَالْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ بَعِيدٌ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ مُحَالًا ; لِأَنَّ فَائِدَةَ الْخِطَابِ الْإِفْهَامُ، فَإِذَا وَقَعَ الْخِطَابُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْإِفْهَامُ، خَلَا عَنْ فَائِدَتِهِ الَّتِي وُضِعَ لَهَا ; فَيَكُونُ عَبَثًا، وَالْعَبَثُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» لَا بُعْدَ فِي تَعَبُّدِ الْمُكَلَّفِ بِالْعَمَلِ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ بِبَعْضٍ «» ، هَذَا جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِهِمُ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ بَعْدَ مَا ذَكَّرْتُمُوهُ، إِذْ لَا بُعْدَ فِي أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِإِنْزَالِ كِتَابِهِ عَمَلًا وَإِيمَانًا، بِأَنْ يُنْزِلَهُ مُحْكَمًا يَتَعَبَّدُهُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ، وَمُتَشَابِهًا يَتَعَبَّدُهُمْ بِالْإِيمَانِ بِهِ، تَسْوِيَةً بَيْنَ الْأَبْدَانِ وَالنُّفُوسِ فِي التَّعَبِ وَالتَّكْلِيفِ ; لِأَنَّ التَّكْلِيفَ إِلْزَامُ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ كَمَا سَبَقَ ; فَالْمَشَقَّةُ عَلَى الْأَبْدَانِ بِمَا تُعَانِيهِ مِنْ حَرَكَاتِ التَّكْلِيفِ وَنَحْوِهَا، كَالصَّلَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ. وَمَشَقَّةِ النُّفُوسِ وَالْعُقُولِ بِمَا تُعَانِيهِ مِنْ
(2/46)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّصْدِيقِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَشَقَّتَيْنِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي «الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى» ، وَلِهَذَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 3] ، وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّكْلِيفَ عَمَلِيٌّ وَاعْتِقَادِيٌّ، ثُمَّ الْعَمَلِيُّ مِنْهُ مَعْقُولٌ، وَمِنْهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، كَالْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ، وَأَشْبَاهِهِمَا، وَأَفْعَالِ الْحَجِّ مِنْ رَمَلٍ وَاضْطِبَاعٍ، وَتَجَرُّدٍ وَنَحْوِهِ. فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ الِاعْتِقَادِيُّ أَيْضًا مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُفْهَمُ وَمَا لَا يُفْهَمُ؟ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ أَجْدَرُ بِحُصُولِ فَائِدَةِ التَّكْلِيفِ، وَهِيَ تُبَيِّنُ الْمُطِيعَ مِنَ الْعَاصِي.
فَائِدَةٌ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ ; فَقَالَ الطَّنْزِيُّ - بِالنُّونِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ - فِي تَفْسِيرِ الْمُحْكَمَاتِ: قِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ: {قُلْ تَعَالَوْا} إِلَى آخِرِهِنَّ [الْأَنْعَامِ: 151 - 153] ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يُنْسَخْ، وَقِيلَ: النَّصُّ، وَقِيلَ: غَيْرُ الْمُجْمَلِ، {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ، أَيْ: أَصْلُهُ. {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ، هِيَ ضِدُّ الْمُحْكَمِ عَلَى الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِيهِ أَقْوَالًا:
أَحَدُهَا - وَهُوَ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الشَّعْبِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا -: الْمُحْكَمَاتُ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ مَا عُرِفَ تَأْوِيلُهُ، وَفُهِمَ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ سَبِيلٌ إِلَى عِلْمِهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَذَلِكَ كَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَوَقْتِ خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ.
(2/47)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
الثَّانِي: يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُحْكَمَاتُ: نَاسِخُهُ، وَحَرَامُهُ، وَفَرَائِضُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَنَعْمَلُ بِهِ. وَالْمُتَشَابِهَاتُ: الْمَنْسُوخَاتُ، وَمُقَدَّمُهُ، وَمُؤَخَّرُهُ، وَأَمْثَالُهُ، وَأَقْسَامُهُ، وَمَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نَعْمَلُ بِهِ.
الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ، وَالضَّحَّاكِ: الْمُحْكَمَاتُ: النَّاسِخَاتُ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ: الْمَنْسُوخَاتُ.
الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُجَاهِدٍ، وَابْنِ إِسْحَاقَ -: الْمُحْكَمَاتُ هِيَ الَّتِي فِيهَا حُجَّةُ الرَّبِ، وَعِصْمَةُ الْعِبَادِ، وَدَفْعُ الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، وَلَيْسَ لَهُنَّ تَحْرِيفٌ وَلَا تَصْرِيفٌ عَمَّا وُضِعْنَ عَلَيْهِ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ: لَهُنَّ تَصْرِيفٌ، وَتَحْرِيفٌ، وَتَأْوِيلٌ، ابْتَلَى اللَّهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهُوَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ.
الْخَامِسُ: قَالَ النُّحَاسُ: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ: إِنَّ الْمُحْكَمَ مَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى رَدِّهِ إِلَى غَيْرِهِ، نَحْوَ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الْإِخْلَاصِ: 4] ، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82] ، وَالْمُتَشَابِهَاتُ نَحْوَ {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} ، يَرْجِعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} وَإِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النِّسَاءِ: 48] .
وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: الْمُحْكَمُ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا التَّوْحِيدُ فَقَطْ.
(2/48)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزَمَنْدَادُ: لِلْمُتَشَابِهِ وُجُوهٌ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ، أَيُّ الْآيَتَيْنِ نَسَخَتِ الْأُخْرَى، كَمَا ذَهَبَ عُمَرُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَغَيْرُهُمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ; إِلَى أَنَّ عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطَّلَاقِ: 4] ; نَسَخَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَةِ: 234] ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَمْ تَنْسَخْهَا، وَتَعْتَدُ بِأَطْوَلِ الْأَجَلَيْنِ، وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ ; نُسِخَتْ أَمْ لَا، وَكَتَعَارُضِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاءِ: 23] بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالْأُخْرَيَانِ يَقْتَضِيَانِ جَوَازَهُ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ بَعْدَ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي، ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أُخَرَ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ: الْمُتَشَابِهُ: هُوَ مَا غَمُضَ عِلْمُهُ عَلَى غَيْرِ الْعُلَمَاءِ الْمُحَقِّقِينَ، كَالْآيَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّعَارُضُ، نَحْوَ: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 35] ، مَعَ الْآيَةِ الْأُخْرَى: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] .
(2/49)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي: قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُتَشَابِهُ: الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَالْمُحْكَمُ: مَا عَدَاهُ.
الثَّالِثُ: قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْمُحْكَمُ: الْوَعْدُ، وَالْوَعِيدُ، وَالْحَرَامُ، وَالْحَلَالُ، وَالْمُتَشَابِهُ: الْقَصَصُ، وَالْأَمْثَالُ.
قُلْتُ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إِنَّ الْقُرْآنَ كُلُّهُ مُحْكَمٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هُودٍ: 1] : وَقَالَ آخَرُونَ: كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزُّمَرِ: 23] ذَكَرَهُمَا الْقُرْطُبِيُّ، وَلَيْسَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} : يَعْنِي: فِي نَظْمِهَا، وَوَضْعِهَا، وَجَزَالَةِ لَفْظِهَا، حَتَّى بَلَغَ حَدَّ الْإِعْجَازِ. وَمُتَشَابِهُ الْكِتَابِ: تَصْدِيقُ بَعْضِهِ بَعْضًا، لِتَشَابُهِ مَعَانِيهِ وَمَضْمُونَاتِهِ ; فَهُوَ غَيْرُ مُتَنَاقِضٍ بِحَيْثُ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. فَأَمَّا التَّشَابُهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ; فَهُوَ التَّشَابُهُ الِاحْتِمَالِيُّ الْإِجْمَالِيُّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [الْبَقَرَةِ: 70] ، أَيْ: إِنَّ لَفْظَ الْبَقَرِ يَحْتَمِلُ أَشْخَاصًا كَثِيرَةً مِنَ الْبَقَرِ، لَا نَعْلَمُ أَيَّهَا الْمُرَادُ. وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، ثُمَّ إِذَا رُدَّتِ الْوُجُوهُ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَأُبْطِلَ الْبَاقِي، صَارَ الْمُتَشَابِهُ مُحْكَمًا. وَالْمُحْكَمُ: مَا لَا الْتِبَاسَ فِيهِ، وَلَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا.
قُلْتُ: هَذِهِ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ تَقْسِيمًا أَدْرَجَ فِيهِ النَّصَّ، وَالظَّاهِرَ، وَالْمُجْمَلَ، وَالْمُؤَوَّلَ، وَالْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ.
وَمَعْنَى تَقْسِيمِهِ وَحَاصِلُهُ: أَنَّ اللَّفْظَ الْمُفِيدَ لِمَعْنًى ; إِمَّا أَنْ لَا يَحْتَمِلَ غَيْرَ ذَلِكَ
(2/50)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَعْنَى، وَهُوَ النَّصُّ، أَوْ يَحْتَمِلَ غَيْرَهُ ; فَإِمَّا عَلَى السَّوَاءِ، وَهُوَ الْمُجْمَلُ، أَوْ مَعَ رُجْحَانِ أَحَدِ مَعَانِيهِ ; فَالرَّاجِحُ ظَاهَرٌ، وَالْمَرْجُوحُ مُؤَوَّلٌ. فَالنَّصُّ وَالظَّاهِرُ يَشْتَرِكَانِ فِي رُجْحَانِ الْإِفَادَةِ، غَيْرَ أَنَّ النَّصَّ مَانِعٌ مِنَ احْتِمَالِ غَيْرِهِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرِكُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْمُحْكَمُ، وَالْمُؤَوَّلُ وَالْمُجْمَلُ يَشْتَرِكَانِ فِي عَدَمِ الرُّجْحَانِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُؤَوَّلَ مَرْجُوحٌ ; وَالْمُجْمَلَ غَيْرُ مَرْجُوحٍ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرِكُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْمُتَشَابِهُ.
قُلْتُ: هَذَا مَا لَمْ أَعْلَمْهُ لِغَيْرِهِ، وَأَحْسَبُهُ مِنَ اصْطِلَاحَاتِهِ مَعَ نَفْسِهِ، مَعَ أَنَّ مَا قَالَهُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ، وَيَكُونُ مِنْ بَعْضِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَالْمُخْتَارُ مِنَ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَأَنَّ مُتَشَابِهَ الْقُرْآنِ، أَعْنِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَنَحْوَهَا، لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَمَّا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِتَفْصِيلِ الْجُمَلِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ فِي سِيَاقِهَا قِسْمَانِ: لَفْظًا: وَهُوَ أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ مِنْ مَوَارِدِهَا، أَوْ تَقْدِيرًا، نَحْوَ: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [الْقَصَصِ: 67] . وَلَمْ يَذْكُرِ الْقِسْمَ الْآخَرَ لِدَلَالَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، إِذْ قَدْ فُهِمَ مِنْهُ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَيَعْمَلْ صَالِحًا ; فَلَا يُفْلِحُ، وَلَهُ نَظَائِرُ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَاهُنَا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، هَذَا تَمَامُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ فِي سِيَاقِ «أَمَّا» فَاقْتَضَى وَضْعُ اللُّغَةِ وَعُرْفُهَا وَاسْتِعْمَالُهَا ذِكْرَ قِسْمٍ آخَرَ ; فَكَانَ تَقْدِيرُهُ: وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ; فَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، لَكِنْ دَلَّتْ أَمَّا الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ ; فَحُذِفَتْ لِوُجُودِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، ثُمَّ
(2/51)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُذِفَتِ الْفَاءُ مِنْ جَوَابِهَا ; لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَلَيْهَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا إِضْمَارٌ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ؟
قُلْنَا: قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ اللُّغَوِيُّ وَضْعًا، وَاسْتِعْمَالًا، وَعُرْفًا، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اقْتِضَاءِ «أَمَّا» قِسْمَيْنِ فَصَاعِدًا بَعْدَهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ} ، وَإِنِ احْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ عَاطِفَةٍ، غَيْرَ أَنَّ هَاهُنَا مَا يُرَجِّحُ كَوْنَهَا اسْتِئْنَافِيَّةً مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَطْفَ، لَقَالَ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. عَطْفًا لِـ «يَقُولُونَ» عَلَى «يَعْلَمُونَ» الْمُضْمَرِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ، وَيَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، أَوْ وَيَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَيَقُولُونَ.
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ «يَقُولُونَ» جُمْلَةٌ فِي اللُّغَةِ ; لِأَنَّهُ نَصْبٌ لِلْحَالِ، مَعَ إِضْمَارِ فِعْلِهَا الْعَامِلِ فِيهَا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ: عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، بِمَعْنَى: أَقْبَلَ ; فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ: وَالرَّاسِخُونَ قَائِلِينَ، بِتَقْدِيرِ: يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي «تَفْسِيرِهِ» عَنْ [مَعْمَرٍ عَنْ] ابْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: «وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ [فِي الْعِلْمِ] : آمَنَّا بِهِ» . فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ بَيَّنَتْ إِجْمَالَ الْوَاوِ فِي الْآيَةِ،
(2/52)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَنَّهَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ، ثُمَّ إِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهِيَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلْآيَةِ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ بِتَفْسِيرِ مَنْ فُوِّضَ إِلَيْهِ بَيَانُ الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَمِعَهَا مِنْهُ ; فَهُوَ مُرَجِّحٌ لِقَوْلِنَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ قَدْ وُجِدَ لَهُ مُبَيِّنٌ مُرَجِّحٌ، وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، الْمَذْكُورَةُ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مُجَرَّدُ احْتِمَالٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الرَّاسِخُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَقَالَهُ الرَّبِيعُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَغَيْرُهُمْ.
قُلْنَا: هَذَا لَا يَثْبُتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَثُبُوتِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ نَسَقَ «الرَّاسِخُونَ» عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ.
قُلْتُ: ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ ذَكَرُوهُ غَيْرَهُ، لَكَاَنَ مَا ذَكَرُوهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنَ الْعَطْفِ مُعَارَضًا بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ، وَأَمَّا الْمَذْكُورُونَ مَعَهُ مِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ الْعَطْفُ ; فَقَوْلُهُمْ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالُوا بِالِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ، وَالْفَرَّاءِ، وَالْأَخْفَشِ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَرَوَاهُ يُونُسُ عَنِ الْأَشْهَبِ عَنْ مَالِكٍ ; فِيمَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ، وَقَالَ أَبُو نَهِيكٍ الْأَسَدِيُّ: إِنَّكُمْ تَصِلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَإِنَّهَا مَقْطُوعَةٌ،
(2/53)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَا انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ إِلَّا إِلَى قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. وَقَالَ مِثْلَ هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَهَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُمْ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ مِمَّنْ ذَكَرْتُمْ ; فَيَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الِاسْتِئْنَافِ مَرْوِيَّةٌ بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمَوْضِعُهُ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ غَيْرُ خَفِيٍّ، خُصُوصًا وَقَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحِكْمَةِ وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ ; فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تَأْوِيلٌ مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتُقَدَّمُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي تَرْجِيحِ كَوْنِهَا اسْتِئْنَافِيَّةً: أَنَّ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ تَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا، وَالْحَالُ: فَضْلَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ رُكْنِ الْجُمْلَةِ، وَكَوْنُ الْجُمْلَةُ رُكْنًا أَقْوَى مِنْ كَوْنِهَا فَضْلَةً، وَإِذَا دَارَ أَمْرُ اللَّفْظَةِ بَيْنَ أَقْوَى الْحَالَيْنِ وَأَضْعَفِهِمَا، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقْوَى أَوْلَى.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنْ أَصْلِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ دَلَّ عَلَى ذَمِّ مُبْتَغِي الْمُتَشَابِهِ، إِذْ وُصِفُوا بِزَيْغِ الْقُلُوبِ، وَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ صَرَّحَتِ السُّنَّةُ بِذَمِّهِمْ ; فَرَوَى الْقَاسِمُ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 7] ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ; فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ ; فَاحْذَرُوهُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ،
(2/54)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَإِذَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مُتَّبِعَ الْمُتَشَابِهِ مَذْمُومٌ ; فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ مَعْلُومًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعُهُ مَذْمُومًا ; لِأَنَّ الِاتِّبَاعَ لِلْمُتَشَابِهِ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الْأَعْرَافِ: 3] ، أَوْ يَتَّبِعُهُ بِمَعْنَى السُّؤَالِ عَنْ مَعَانِيهِ وَمُشْكِلَاتِهِ.
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ; فَالْمُتَّبِعُ لَهُ: إِمَّا مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ; فَقَدْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ ; فَهُوَ يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ لَا الذَّمَّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الرَّاسِخِينَ ; فَقَدْ قَلَّدَ الرَّاسِخِينَ فِي أَمْرِ دِينِهِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُقَلِّدِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 43] .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاتِّبَاعِ التَّتَبُّعَ وَالسُّؤَالَ ; فَهَذَا السَّائِلُ يَتَعَرَّفُ تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِهِ - الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ - وَتَعَلُّمُ التَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِهِ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مَنْدُوبًا ; فَلَا يَكُونُ مَذْمُومًا، فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ قَدْ أَطْلَقَ ذَمَّ مُبْتَغِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ، عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ يُزَاحِمُ الْبَارِئَ جَلَّ جَلَالُهُ فِيمَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ، وَقَدْ قِيلَ فِي الْمَثَلِ: إِذَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ فَالْهَ عَنْهُ.
نَعَمْ، قَدْ قِيلَ: اتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّشْكِيكِ فِي الْقُرْآنِ، وَإِضْلَالِ الْعَوَامِّ، وَهُوَ زَنْدَقَةٌ حُكْمُ فَاعِلِهِ الْقَتْلُ، وَقَدْ يَكُونُ لِاعْتِقَادِ ظَاهِرِهِ مِنَ التَّجْسِيمِ
(2/55)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالتَّشْبِيهِ، وَالْأَصَحُّ فِيهِ كُفْرُ فَاعِلِهِ، إِذْ هُوَ كَعَابِدِ الصَّنَمِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الْإِكْثَارِ مِنْهُ لَا لِلتَّشْكِيكِ وَلَا لِلتَّشْبِيهِ، كَمَا فَعَلَ صَبِيغُ بْنُ عِسْلٍ حِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَحُكْمُهُ التَّأْدِيبُ، كَمَا أَدَّبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغًا، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى جِهَةِ الْبَحْثِ عَنْ تَأْوِيلِهِ وَإِيضَاحِ مَعْنَاهُ، وَفِي جَوَازِهِ قَوْلَانِ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَتَفْوِيضِ أَمْرِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنْ حُمِلَ اتِّبَاعُهُ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْمُومَةِ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَمِّ مُتَّبِعِ الْمُتَشَابِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، لَكِنَّ الذَّمَّ وَرَدَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ; فَيَقْتَضِي عُمُومَ الِاتِّبَاعِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِنَّ قَوْلَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ: آمَنَّا بِهِ، يَدُلُّ عَلَى تَفْوِيضٍ مِنْهُمْ، وَتَسْلِيمٍ لِمَا لَمْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ بِهِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي مُدِحَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [الْقَصَصِ: 52 - 53] ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي التَّسْلِيمِ لِمُرَادِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي فَهْمَهُمُ الْمُرَادَ بِهِ، نَعَمْ قَوْلُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، بَعْدَ قَوْلِهِمْ: آمَنَّا بِهِ، يَدُلُّ دَلَالَةً قَوِيَّةً عَلَى التَّفْوِيضِ لِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، وَصَارَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُحْكَمَ الَّذِي يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَالْمُتَشَابِهَ الَّذِي لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ بِهِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ هُوَ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ; فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِمَا عَنْ فَهْمٍ وَتَعَقُّلٍ فِي الْمُحْكَمِ، وَتَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ فِي الْمُتَشَابِهِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ فِي الْوَاوِ بِالْعَطْفِ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمُجَاهِدٍ، أَنَّهُمَا قَالَا: نَحْنُ مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ، يَعْنِي الْمُتَشَابِهَ.
(2/56)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ((اللَّهُمَّ عِلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)) وَدُعَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَجَابٌ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلِمَ التَّأْوِيلَ، وَهُوَ عَامٌّ فِي تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا عَلِمَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، جَازَ أَنْ يَعْلَمَهُ غَيْرُهُ مِنَ الرَّاسِخِينَ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ رَاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَقْتَضِي عِلْمَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، نَعَمْ مِنَ الْمُتَشَابِهِ مَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ، وَمِنْهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ دُونَهُمْ، كَالرُّوحِ، وَوَقْتِ السَّاعَةِ، وَأَمَارَاتِهَا الَّتِي تَتَقَدَّمُهَا، كَالدَّجَّالِ، وَنَحْوِهِ. فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ، أَرَادَ بِهِ هَذَا، أَمَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ بِحِكْمَةٍ عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ فِي اللُّغَةِ ; فَلَا.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا سَبَقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي عَكْسِهِ، وَمِنِ اتِّفَاقِ الْجُمْهُورِ عَلَى خِلَافِ مُجَاهِدٍ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ دُعَاءِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِجَابَتُهُ بِنَفْسِ مَا يَدْعُو بِهِ، بَلْ رُبَّمَا صُرِفَ إِلَى غَيْرِهِ، بِأَنْ يُعَوَّضَ عَنْهُ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ. وَقَدْ دَعَا بِدَعَوَاتٍ فَلَمْ يُجَبْ فِيهَا ; فَعُوِّضَ عَنْهَا دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ فِي الْآخِرَةِ، ادَّخَرَهُنَّ شَفَاعَةً لِأُمَّتِهِ، وَقَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ عَامَّةٍ ; فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا فَمَنَعَنِيهَا. سَلَّمْنَا أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ دُعَائِهِ الْإِجَابَةَ ; لَكِنَّ التَّأْوِيلَ مَحْمُولٌ عَلَى
(2/57)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَأْوِيلِ الْمُحْكَمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَشَابِهٍ ; إِمَّا تَخْصِيصًا لَهُ بِذَلِكَ بِأَدِلَّتِنَا، أَوْ أَنَّهُ كَانَ مَعْهُودًا بَيْنَهُمْ ; لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ; فَتَكُونُ اللَّامُ فِي التَّأْوِيلِ لِلْعَهْدِ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ ; الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَى كُنْهِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ لِغَيْرِهِ، كَمَا حُكِيَ عَنِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إِدْرَاكٌ. وَقَالَ:
حَقِيقَةُ الْمَرْءِ لَيْسَ الْمَرْءُ يُدْرِكُهَا ... فَكَيْفَ كَيْفِيَّةُ الْجَبَّارِ فِي الْقِدَمِ
أَمَّا الْعَالِمُونَ بِحَمْلِ الْمُتَشَابِهِ عَلَى مَجَازِ كَلَامِ الْعَرَبِ ; فَلَيْسُوا بِرَاسِخِينَ، بَلْ لَيْتَهُمْ لَا يَكُونُونَ خَاسِرِينَ، إِذِ الْإِقْدَامُ عَلَى وَصْفِ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ بِمَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ قَاطِعٌ عَلَيْهِ - مَعَ إِمْكَانِ سُلُوكِ طَرِيقِ السَّلَامَةِ، بِالسُّكُوتِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ - بَعِيدٌ عَنِ الْعِلْمِ فَضْلًا عَنِ الرُّسُوخِ فِيهِ. وَقَدْ أَطَلْتُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّهَا مِنَ الْأُصُولِ الْكِبَارِ، وَمَعَ ذَلِكَ ; هِيَ تَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا.
قَوْلُهُ: «وَالْكَلَامُ فِيهَا مُسْتَقْصًى فِي» بُغْيَةِ السَّائِلِ «» ، هَذَا كِتَابٌ كُنْتُ صَنَّفْتُهُ
(2/58)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِبَغْدَادَ، ذَكَرْتُ فِيهِ جُمْلَةً مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَكَانَ أَصْلُ الْبَاعِثِ لِي عَلَى تَأْلِيفِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ; فَاسْتَقْصَيْتُ فِيهَا مَا أَظُنُّهُ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا. وَهَاهُنَا أَشْيَاءُ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ، وَسَمَّيْتُهُ «بُغْيَةَ السَّائِلِ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ» ; لِأَنِّي تَحَرَّيْتُ فِيهِ ذِكْرَ الْمَسَائِلِ الْكِبَارِ مِنْ مَسَائِلِ الْعَقَائِدِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى مَسَائِلِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْكِتَابُ.
(2/59)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
السُّنَّةُ
وَالسُّنَّةُ لُغَةً: الطَّرِيقَةُ، وَشَرْعًا، اصْطِلَاحًا: مَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا، أَوْ إِقْرَارًا، وَهُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ شِفَاهًا، أَوْ بَلَغَهُ عَنْهُ تَوَاتُرًا، وَمُوجِبٌ لِلْعَمَلِ إِنْ بَلَغَهُ آحَادًا، مَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا، يَصْرِفُهُ عَنْهُ دَلِيلٌ، لِدَلَالَةِ الْمُعْجِزِ عَلَى صِدْقِهِ، وَالْأَمْرِ بِتَصْدِيقِهِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ خِلَافِهِ.
وَالْخَبَرُ: مَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: يَمْتَنِعُ دُخُولُهُمَا فِي مِثْلِ: مُحَمَّدٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقَانِ. مَرْدُودٌ، بِأَنَّهُمَا خَبَرَانِ: صَادِقٌ، وَكَاذِبٌ وَهُوَ قِسْمَانِ: تَوَاتُرٌ، وَآحَادٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «السُّنَّةُ لُغَةً: الطَّرِيقَةُ» . هَذَا حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي، وَهُوَ السُّنَّةُ، وَهِيَ لُغَةً - أَيْ: فِي اللُّغَةِ - الطَّرِيقَةُ، وَالسِّيرَةُ مِنْ قَوْلِكَ: سَنَنْتُ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِي، أَيْ: صَبَبْتُهُ، وَسَنَّ عَلَيْهِ الدِّرْعَ، أَيْ: صَبَّهَا، كَأَنَّ سَالِكَ الطَّرِيقِ يَنْصَبُّ عَلَيْهَا انْصِبَابَ الْمَاءِ.
وَقَالَ خَالِدٌ الْهُذَلِيُّ، وَهُوَ خَالِدُ ابْنُ أُخْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ، وَهُوَ ابْنُ زُهَيْرٍ الْهُذَلِيُّ بْنُ مَحْرُوقٍ:
فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا
قُلْتُ: السِّيرَةُ: الْهَيْئَةُ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا السَّيْرُ، وَهُوَ مُلَازَمَةُ الطَّرِيقِ، وَالطَّرِيقَةُ. وَالطَّرِيقُ: فَعِيلٌ، مِنْ طَرَقَ يَطْرُقُ ; لِأَنَّ الطَّرِيقَ يَطْرُقُهُ النَّاسُ رِجَالًا
(2/60)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَرُكْبَانًا، وَالسِّيرَةُ: مِنَ السَّيْرِ، وَالسُّنَّةُ: مِنَ السَّنِّ، وَهُوَ الصَّبُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا وَاصْطِلَاحًا» ، أَيْ: وَالسُّنَّةُ فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، «مَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا، أَوْ فِعْلًا، أَوْ إِقْرَارًا» عَلَى فِعْلٍ.
فَالْقَوْلُ: كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، وَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ.
وَالْفِعْلُ: كَمَا شُوهِدَ مِنْهُ مِنَ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، كَرَفْعِ يَدَيْهِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَكَسَعْيِهِ فِي الْوَادِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَهُوَ يَقُولُ: لَا يُقْطَعُ الْوَادِي إِلَّا شَدًّا.
وَالْإِقْرَارُ: كَسَائِرِ مَا رَأَى الصَّحَابَةَ يَقُولُونَهُ أَوْ يَفْعَلُونَهُ ; فَلَا يَنْهَاهُمْ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانُوا إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَعْنِي الْمَغْرِبَ ابْتَدَرُوا السَّوَارِي يُصَلُّونَ
(2/61)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَكْعَتَيْنِ، حَتَّى إِنِ الرَّجُلَ الْغَرِيبَ لَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ ; فَيَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ قَدْ صُلِّيَتْ لِكَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّيهَا، قِيلَ لَهُ: أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّيهِمَا؟ قَالَ: كَانَ يَرَانَا نُصَلِّيهِمَا فَلَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا، وَكَاحْتِجَاجِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى إِبَاحَةِ الضَّبِّ بِأَنَّهُ أُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ، وَكَاحْتِجَاجِهِ عَلَى إِبَاحَةِ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ، بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ مُنْحَصِرَةٌ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ: الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ، وَالْإِقْرَارِ، أَيْ: تَقْرِيرُ مَنْ يَسْمَعُهُ يَقُولُ شَيْئًا، أَوْ يَرَاهُ يَفْعَلُهُ، عَلَى قَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، بِأَنْ لَا يُنْكِرَهُ، أَوْ يَضُمَّ إِلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ تَحْسِينًا لَهُ، أَوْ مَدْحًا عَلَيْهِ، أَوْ ضَحِكًا مِنْهُ عَلَى جِهَةِ السُّرُورِ بِهِ، كَتَبَسُّمِهِ مِنْ قِيَافَةِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ حِينَ رَأَى زَيْدًا وَأُسَامَةَ نَائِمَيْنِ قَدْ بَدَتْ أَقْدَامُهُمَا مِنْ قَطِيفَةٍ ; فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَكَضَحِكِهِ مِنَ الْحَبْرِ
(2/62)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الَّذِي جَاءَهُ ; فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَضَعُ الْأَرْضَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالسَّمَاءَ عَلَى أُصْبُعٍ. الْحَدِيثَ فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَصْدِيقًا لِمَا قَالَ الْحَبْرُ.
نَعَمْ شَرْطُ كَوْنِ إِقْرَارِهِ حُجَّةً، بَلْ شَرْطُ كَوْنِ تَرْكِهِ الْإِنْكَارَ إِقْرَارًا: عِلْمُهُ بِالْفِعْلِ وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْإِنْكَارِ ; لِأَنَّهُ بِدُونِ الْعِلْمِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَوْ مُنْكِرٌ، وَمَعَ الْعَجْزِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُقِرٌّ، كَحَالِهِ مَعَ الْكُفَّارِ فِي مَكَّةَ قَبْلَ ظُهُورِ كَلِمَتِهِ.
وَقَوْلُهُ: «شَرْعًا اصْطِلَاحًا» : احْتِرَازٌ مِنَ السُّنَّةِ فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ ; فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَالتَّابِعَيْنِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
فَحَاصِلُهُ أَنَّ لِلسُّنَّةِ عُرْفًا خَاصًّا فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ تَقْرِيرًا، وَعُرْفًا عَامًّا، وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنْهُ، أَوْ عَنِ السَّلَفِ مِنَ
(2/63)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، أَيْ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ شِفَاهًا، أَوْ بَلَغَهُ تَوَاتُرًا، وَمُوجِبٌ لِلْعَمَلِ، إِنْ بَلَغَهُ آحَادًا» .
قُلْتُ: مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَعَ ظُهُورِهِ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا مِنْهُ لِغَيْرِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ، أَوْ مَنْقُولًا إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الرُّوَاةِ.
فَإِنْ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْهُ ; فَهُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ، كَالصَّحَابَةِ الَّذِينَ سَمِعُوا مِنْهُ الْأَحْكَامَ، لَا يُسَوَّغُ خِلَافُهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، إِلَّا بِنَسْخٍ أَوْ جَمْعٍ بَيْنَ مُتَعَارِضٍ بِالتَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ فِي التَّحْقِيقِ لَا يُعَدُّ خِلَافًا.
وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا إِلَى الْغَيْرِ ; فَهُوَ إِمَّا تَوَاتُرٌ أَوْ آحَادٌ، فَإِنْ كَانَ تَوَاتُرًا ; فَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، كَالْمَسْمُوعِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ; فَصَارَ كَالْمَسْمُوعِ مِنْهُ شِفَاهًا فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ، غَيْرَ أَنَّ مَدْرَكَ الْعِلْمِ فِي الْمَسْمُوعِ الْحِسُّ، وَفِي التَّوَاتُرِ الْمُرَكَّبُ مِنَ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ، كَمَا سَبَقَ عِنْدَ ذِكْرِ مَدَارِكِ الْعِلْمِ.
وَإِنْ كَانَ آحَادًا ; فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ، أَيْ: يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، لِمَا سَيَأْتِي فِي تَقْرِيرِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُنَا: عَلَى مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ شِفَاهًا، أَيْ: مُشَافَهَةً، مُشْتَقًّا مِنَ الشَّفَةِ، أَيْ: يَسْمَعُهُ مِنْ فَمِهِ وَشَفَتَيْهِ، يُقَالُ: شَافَهْتُهُ مُشَافَهَةً وَشِفَاهًا، وَكَلَّمْتُهُ فُوهُ إِلَى فِيَّ، مَعْنَاهُ: وَكَلَّمْتُهُ شِفَاهًا، عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ، وَرَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ، لِاحْتِمَالِ
(2/64)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ أَوْ كِتَابٍ. وَأَصْلُ شَفَةٍ: شَفَهَةٌ ; فَلِذَلِكَ ظَهَرَتِ الْهَاءُ فِي شُفَيْهَةٍ وَشِفَاهٍ وَمُشَافَهَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ تَصَارِيفِهَا.
قَوْلُهُ: «مَا لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا يَصْرِفُهُ عَنْهُ دَلِيلٌ» ، أَيِ: السُّنَّةُ الَّتِي تَبْلُغُ الْمُكَلَّفَ سَمَاعًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ نَقْلًا عَنْهُ، تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا، هِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، قَطْعًا أَوْ ظَنًّا، كَمَا فُصِّلَ، مَا لَمْ يَكُنِ الَّذِي بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ مُجْتَهِدًا، يَصْرِفُهُ عَنْ مُقْتَضَى مَا سُمِعَ أَوْ نُقِلَ إِلَيْهِ دَلِيلٌ ; فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَةُ الدَّلِيلِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، أَوْ بِخِلَافِ الدَّلِيلِ، حَرَامٌ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ الَّذِي بَلَغَتْهُ السُّنَّةُ سَمَاعًا أَوْ نَقْلًا ; إِمَّا مُقَلِّدٌ ; فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ مُجْتَهِدٌ، فَإِنْ لَمْ يَصْرِفْهُ عَنْ مُقْتَضَى مَا بَلَغَهُ دَلِيلٌ، لَزِمَهُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، وَحَرُمَ الْعُدُولُ عَنْهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَرَفَهُ عَنْهُ دَلِيلٌ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ كَتَرْكِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ، وَالْمُطْلَقِ إِلَى الْمُقَيَّدِ، وَالْمَرْجُوحِ إِلَى الرَّاجِحِ، وَكَمَصِيرِ مَالِكٍ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَتَرْكِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَإِلَى الْقِيَاسِ، وَتَرْكِ النَّصِّ الْمُخَالِفِ لِلْأُصُولِ، وَتَخْصِيصِ النُّصُوصِ بِالْعَادَاتِ، وَتَقْدِيمِ أَبِي حَنِيفَةَ الْقِيَاسَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، إِذَا وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «لِدَلَالَةِ الْمُعْجِزِ عَلَى صِدْقِهِ، وَالْأَمْرِ بِتَصْدِيقِهِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ خِلَافِهِ» . هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ.
(2/65)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ سُنَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا، أَوْ نُقِلَتْ إِلَيْهِ، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُعْجِزَ دَلَّ عَلَى صِدْقِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكُلُّ مَنْ دَلَّ الْمُعْجِزُ عَلَى صِدْقِهِ ; فَهُوَ صَادِقٌ ; فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِقٌ، وَكُلُّ صَادِقٍ فَقَوْلُهُ حُجَّةٌ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ ; فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُجَّةٌ عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ، وَالْمُقَدِّمَاتُ ظَاهِرَةٌ.
أَمَّا ظُهُورُ الْمُعْجِزِ عَلَى صِدْقِهِ ; فَبِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ وَدُوِّنَتْ فِيهِ الْكُتُبُ.
وَأَمَّا دَلَالَتُهُ عَلَى الصِّدْقِ ; فَلِمَا تَقَرَّرَ فِي النُّبُوَّاتِ، مِنْ أَنَّ ظُهُورَ الْمُعْجِزِ عَلَى وَفْقِ دَعْوَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ: صَدَقْتَ فِيمَا أَخْبَرْتَ بِهِ عَنِّي.
وَأَمَّا أَنَّ قَوْلَ الصَّادِقِ حُجَّةٌ ; فَلِأَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ، وَكُلُّ حَقٍّ فَهُوَ حُجَّةٌ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الْبَاطِلُ، وَالْمَصِيرُ إِلَى الْبَاطِلِ حَرَامٌ ; فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إِلَى الْحَقِّ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يُونُسَ: 32] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَصْدِيقِهِ، وَكُلُّ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِتَصْدِيقِهِ، كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً.
أَمَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَصْدِيقِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النِّسَاءِ: 136] ، أَيْ: صَدِّقُوا ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّصْدِيقِ بِالرَّسُولِ إِلَّا اعْتِقَادُ صِدْقِهِ، وَقَبُولُ مَا جَاءَ بِهِ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آلِ عِمْرَانَ: 31] ، وَالْمُتَابَعَةُ فَرْعٌ عَلَى التَّصْدِيقِ، وَمَلْزُومٌ لَهُ، وَالْأَمْرُ بِالْفَرْعِ وَالْمَلْزُومِ أَمْرٌ بِالْأَصْلِ وَاللَّازِمِ، وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
(2/66)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتَصْدِيقِهِ يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً ; فَلِأَنَّ تَصْدِيقَهُ إِيَّاهُ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَالْحَقُّ وَالصِّدْقُ حُجَّةٌ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّورِ: 63] ، وَكُلُّ مَنْ حَذَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ مُخَالَفَتِهِ، وَجَبَتْ مُوَافَقَتُهُ وَمُتَابَعَتُهُ ; لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ سَبَبُ الْعَذَابِ، وَسَبَبُ الْعَذَابِ حَرَامٌ ; فَالْمُخَالِفَةُ حَرَامٌ، وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ ; فَتَرْكُ الْمُخَالَفَةِ وَاجِبٌ، وَتَرْكُ الْمُخَالَفَةِ يَسْتَلْزِمُ الْمُتَابَعَةَ وَالْمُوَافَقَةَ ; فَتَكُونُ وَاجِبَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَرْكَ الْمُخَالَفَةِ يَسْتَلْزِمُ الْمُوَافَقَةَ لِجَوَازِ الْوَاسِطَةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَالِفًا لِلرَّسُولِ وَلَا مُوَافِقًا لَهُ.
قُلْنَا: الْمُخَالَفَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْآيَةُ هِيَ تَرْكُ امْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ، وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَتَرْكُ هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ يَسْتَلْزِمُ امْتِثَالَ أَمْرِهِ، وَالْإِقْبَالَ عَلَيْهِ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَتَرْكِ امْتِثَالِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: «وَالْخَبَرُ مَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ» ، أَيْ: مَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِهِ: صَدَقَ أَوْ كَذَبَ ; فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْأَمْرُ، وَالنَّهْيُ، وَالِاسْتِفْهَامُ، وَالتَّمَنِّي، وَالدُّعَاءُ، نَحْوَ: قُمْ، وَلَا تَقُمْ، وَهَلْ تَقُومُ، وَلَيْتَكَ تَقُومُ، وَاللَّهُمَّ أَقِمْ فُلَانًا مِنْ صَرْعَتِهِ، إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: صَدَقَ أَوْ كَذَبَ، بِخِلَافِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، قَامَ زَيْدٌ. وَإِنَّمَا دَلَّ تَطَرُّقُ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ إِلَى الْكَلَامِ عَلَى كَوْنِهِ خَبَرًا ; لِأَنَّهُمَا مَلْزُومَانِ لِلْخَبَرِ، وَأَخَصُّ مِنْهُ، إِذِ الصِّدْقُ هُوَ الْخَبَرُ الْمُطَابِقُ، وَالْكَذِبُ هُوَ الْخَبَرُ غَيْرُ الْمُطَابِقِ ; فَدَلَّا عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ، وَالْأَخَصُّ عَلَى الْأَعَمِّ.
(2/67)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَبَرَ ; فِيمَا أَحْسِبُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْخَبَارِ، وَهُوَ الْأَرْضُ الرَّخْوَةُ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ يُثِيرُ الْفَائِدَةَ، كَمَا أَنَّ الْأَرْضَ الْخَبَارَ تُثِيرُ الْغُبَارَ إِذَا قَرَعَهَا الْحَافِرُ.
ثُمَّ الْخَبَرُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِشَارَاتِ الْحَالِيَّةِ مَجَازًا، نَحْوَ: عَيْنَاكَ تُخْبِرُنِي بِكَذَا، وَالْغُرَابُ يُخْبِرُ بِالْفِرَاقِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
تُخَبِّرُنِي الْعَيْنَانِ مَا الصَّدْرُ كَاتِمُ
وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
زَعَمَ الْبَوَارِحُ أَنَّ رِحْلَتَنَا غَدًا ... وَبِذَاكَ خَبَّرَنَا الْغُرَابُ الْأَسْوَدُ
وَحَقِيقَةُ الْخَبَرِ: هُوَ الْقَوْلُ اللِّسَانِيُّ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْإِسْنَادِ الْإِفَادِيِّ، وَمَنْ يُثْبِتُ كَلَامَ النَّفْسِ يُطْلِقُ الْخَبَرَ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ فِي الْقَوْلِ اللِّسَانِيِّ أَظْهَرُ ; لِغَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، وَتَبَادُرِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَى الْفَهْمِ. ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَصَوُّرِ مَاهِيَّةِ الْخَبَرِ، أَيْ: الْعِلْمِ بِهِ. فَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: هُوَ بَدِيهِيٌّ ; لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ صِدْقَ قَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَهُوَ خَبَرٌ خَاصٌّ، وَتَصَوُّرُ الْخَبَرِ الْخَاصِّ مَوْقُوفٌ عَلَى تَصَوُّرِ أَصْلِ الْخَبَرِ، وَمَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ الْبَدِيهِيُّ يَكُونُ بَدِيهِيًّا.
قُلْتُ: وَهَذَا وَهْمٌ ; لِأَنَّ قَوْلَنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، لَيْسَتْ خُصُوصِيَّتُهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرًا، حَتَّى يَسْتَلْزِمَ كَوْنُهُ بَدِيهِيًّا كَوْنَ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ بَدِيهِيًّا، بَلْ إِنَّمَا خُصُوصِيَّتُهُ مِنْ جِهَةِ مَدْرَكِهِ، وَهُوَ بَدِيهَةُ الْعَقْلِ، وَمَدَارِكُ الْعُلُومِ تَخْتَلِفُ فِي
(2/68)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ، كَمَا تَخْتَلِفُ الْعُلُومُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عَلِمْنَا صِدْقَ قَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، لَا لِكَوْنِ الْعِلْمِ بِمَاهِيَّةِ الْخَبَرِ بَدِيهِيًّا، حَتَّى لَوْ قُلْنَا: زَيْدٌ قَائِمٌ، لَمْ نَعْلَمْ صِدْقَ هَذَا الْخَبَرِ بِالضَّرُورَةِ، حَتَّى نَعْلَمَ مُطَابَقَتَهُ بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ نَقْلٍ، وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُ تَصَوَّرِ مَاهِيَّةِ الْخَبَرِ بَدِيهِيًّا ; وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَسْبِيًّا، وَطَرِيقُ اكْتِسَابِهِ الْحَدُّ، وَقَدْ قِيلَ فِي حَدِّهِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَهُوَ مَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَقِيلَ: مَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ كَوْنِ الْخَبَرِ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا ; فَيَكُونُ تَعْرِيفًا لِلْخَبَرِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ دَوْرٌ.
قُلْتُ: هَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ ; لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: قَامَ زَيْدٌ، جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، فَإِذَا قَالَ لَهُ السَّامِعُ: كَذَبْتَ أَوْ صَدَقْتَ ; فَقَدْ أَجَابَهُ بِجُمْلَةٍ خَبَرِيَّةٍ أَيْضًا، وَكِلَا الْجُمْلَتَيْنِ خَبَرٌ ; فَلَوْ عَرَّفْنَا الْأَوْلَى بِتَطَرُّقِ الثَّانِيَةِ إِلَيْهَا، عَرَّفْنَا الْخَبَرَ بِتَطَرُّقِ الْخَبَرِ عَلَيْهِ.
فَالْأَجْوَدُ إِذَنْ فِي تَعْرِيفِ الْخَبَرِ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ عَلَى نِسْبَةِ مَعْلُومٍ إِلَى مَعْلُومٍ، أَوْ سَلْبِهَا عَنْهُ، مَعَ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ، عَلَى وَجْهٍ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْخَبَرُ: هُوَ الْمَوْضُوعُ لِلَفْظَيْنِ فَأَكْثَرَ، أُسْنِدَ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا إِلَى مُسَمَّى الْآخَرِ إِسْنَادًا يَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ لِذَاتِهِ، نَحْوَ: زَيْدٌ قَامَ. وَذَكَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ: لِلَفْظَيْنِ فَأَكْثَرَ ; لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ الْخَبَرُ لَفْظَانِ، نَحْوَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، وَقَامَ
(2/69)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زَيْدٌ، وَقَدْ يَتَرَكَّبُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْهُمَا، نَحْوَ: ضَرَبَ زِيدٌ عَمْرًا يَوْمَ الْجُمْعَةِ بِالسَّيْفِ وَخَالِدًا ; فَكُلُّ هَذِهِ مُتَعَلِّقَاتُ الْجُمْلَةِ ; فَهِيَ خَبَرٌ وَاحِدٌ.
وَقَوْلُهُ: أُسْنِدَ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا إِلَى مُسَمَّى الْآخَرِ: احْتِرَازٌ مِنْ مِثْلِ قَوْلِنَا: زَيْدٌ عَمْرٌو فِي الْكَلَامِ غَيْرِ الْمُنْتَظِمِ.
وَقَوْلُهُ: يَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ: احْتِرَازٌ مِنَ الْإِسْنَادِ الْإِضَافِيِّ وَالْوَصْفِيِّ، نَحْوَ: غُلَامُ زَيْدٍ، وَرَجُلٌ صَالِحٌ ; فَإِنَّهُ لَفْظَانِ، أُسْنِدَ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا إِلَى مُسَمَّى الْآخَرِ، وَلَيْسَ خَبَرًا ; لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ.
قُلْتُ: وَبِهَذَا يَرِدُ عَلَى حَدِّهِ الدَّوْرُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَعْرِيفُ الْآمِدِيِّ سَالِمٌ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: لِذَاتِهِ: احْتِرَازٌ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَرُسُلِهِ، وَالْأَخْبَارِ الْبَدِيهِيَّةِ، نَحْوَ: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ ; فَإِنَّهَا لَا تَقْبَلُ إِلَّا التَّصْدِيقَ. وَقَوْلُنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الْعَشْرَةِ ; فَإِنَّهَا لَا تَقْبَلُ إِلَّا التَّكْذِيبَ، لَكِنَّ قَبُولَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، إِنَّمَا جَاءَهَا مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِ ; لِكَوْنِهِ مَعْصُومًا، أَوْ مَادَّتِهِ: الْمُخْبَرِ عَنْهُ، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا ذَاكَ، لَا لِكَوْنِهَا أَخْبَارًا، إِذْ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهَا أَخْبَارًا تَقْبَلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ.
فَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّ الْخَبَرَ لِذَاتِهِ يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنْ وَقَعَ خَبَرٌ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا أَحَدَهُمَا ; فَذَلِكَ لِأَمْرٍ عَارِضٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْخَبَرِ ; إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْمُخْبِرِ، أَوِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَوْ غَيْرِهِمَا إِنْ أَمْكَنَ.
قَوْلُهُ: «وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: يَمْتَنِعُ دُخُولُهُمَا فِي مِثْلِ مُحَمَّدٌ، وَمُسَيْلِمَةُ - لَعَنَهُ
(2/70)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّهُ - صَادِقَانِ، مَرْدُودٌ بِأَنَّهُمَا خَبَرَانِ: صَادِقٌ وَكَاذِبٌ» . وَهَذَا سُؤَالٌ أُورِدَ عَلَى تَعْرِيفِ الْخَبَرِ بِمَا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ وَجَوَابُهُ.
أَمَّا تَقْرِيرُ السُّؤَالِ: فَهُوَ أَنَّ قَوْلَكُمْ: الْخَبَرُ يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ يَبْطُلُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: مُحَمَّدٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقَانِ ; فَإِنَّهُ خَبَرٌ، وَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ يَمْتَنِعُ دُخُولُهُمَا فِيهِ ; لِأَنَّ تَصْدِيقَ مُسَيْلِمَةَ فِي دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ، وَهُوَ كَاذِبٌ، وَتَكْذِيبَهُ يُوجِبُ تَكْذِيبَ مُحَمَّدٍ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ صَادِقٌ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ خَبَرَانِ، صَادِقٌ، وَكَاذِبٌ، جَمَعْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَنَحْنُ إِنَّمَا عَرَّفَنَا بِمَا يَحْتَمِلُ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ الْخَبَرَ الْوَاحِدَ، وَلَوْ فَكَكْتُمُ الْجُمْلَةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا إِلَى الْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ رُكِّبَتْ مِنْهُمَا، لَدَخَلَا فِي تَعْرِيفِنَا.
قُلْتُ: وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ جَيِّدٍ، عَلَى مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ تَعْرِيفُ الْقَرَافِيِّ لِلْخَبَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَوْ حَلَّلْنَا الْجُمْلَةَ الْمَذْكُورَةَ إِلَى الْخَبَرَيْنِ، لَمَا احْتَمَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَّا أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ، إِذْ قَوْلُنَا: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَادِقٌ، لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا التَّصْدِيقَ، وَقَوْلُنَا: مُسَيْلِمَةُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - كَاذِبٌ ; لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا التَّكْذِيبَ، نَعَمِ امْتِنَاعُ التَّكْذِيبِ فِي الْأَوَّلِ، وَالتَّصْدِيقِ فِي الثَّانِي، لَمْ يَكُنْ لِذَاتِ الْخَبَرِ، بَلْ لِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ. وَهُوَ دَلَالَةُ مُعْجِزِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى صِدْقِهِ وَكَذِبِ مُسَيْلِمَةَ لَعَنَهُ اللَّهُ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْخَبَرَ، «قِسْمَانِ: تَوَاتَرٌ وَآحَادٌ» ، وَلِقِسْمَتِهِ إِلَيْهِمَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مُسْتَنَدِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ، إِنْ نَقَلَهُ فِي جَمِيعِ طَبَقَاتِهِ قَوْمٌ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً، وَكَانَ الْإِخْبَارُ بِهِ عَنْ مَحْسُوسٍ ; فَهُوَ تَوَاتُرٌ،
(2/71)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِلَّا فَهُوَ آحَادٌ.
الثَّانِي: بِاعْتِبَارِ نَقَلَتِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ إِنْ أَفَادَ الْعِلْمَ مُسْتَنِدًا إِلَى نَقْلِ النَّاقِلِينَ ; فَهُوَ تَوَاتُرٌ، وَإِلَّا فَهُوَ آحَادٌ.
وَإِنَّمَا قُلْتُ: مُسْتَنِدًا إِلَى نَقْلِ النَّاقِلِينَ ; لِأَنَّهُ بِدُونِ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْأَخْبَارَ الْبَدِيهِيَّةَ ; فَإِنَّهَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، لَكِنَّهَا مُسْتَنِدَةً إِلَى إِدْرَاكِ الْعَقْلِ، لَا إِلَى نَقْلِ النَّاقِلِينَ.
(2/72)
________________________________________
وَالْأَوَّلُ: التَّوَاتُرُ لُغَةً: التَّتَابُعُ، وَاصْطِلَاحًا: إِخْبَارُ قَوْمٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ، بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْأُولَى: التَّوَاتُرُ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَخَالَفَ السُّمَنِيَّةُ، إِذْ حَصَرُوا مَدَارِكَ الْعِلْمِ فِي الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ. لَنَا: الْقَطْعُ بِوُجُودِ الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ، وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، لَا حِسًّا، وَلَا عَقْلًا، بَلْ تَوَاتُرًا. وَأَيْضًا الْمُدْرَكَاتُ الْعَقْلِيَّةُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا حَصْرُكُمُ الْمَذْكُورَ، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا لَكُمْ، وَلَيْسَ حِسِيًّا، بَطَلَ قَوْلُكُمْ، وَإِلَّا فَهُوَ جَهْلٌ ; فَلَا يُسْمَعُ. قَالُوا: لَوْ أَفَادَ الْعِلْمَ لَمَا خَالَفْنَاكُمْ. قُلْنَا: عِنَادٌ وَاضْطِرَابٌ فِي الْعَقْلِ وَالطَّبْعِ، ثُمَّ يَلْزَمُكُمْ تَرْكُ الْمَحْسُوسَاتِ لِمُخَالَفَةِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَالْأَوَّلُ» ، أَيِ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، «التَّوَاتُرُ لُغَةً» : أَيْ: فِي اللُّغَةِ «التَّتَابُعُ» .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْمُوَاتَرَةُ: الْمُتَابَعَةُ، وَلَا تَكُونُ الْمُوَاتَرَةُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا إِذَا وَقَعَتْ بَيْنَهَا فَتْرَةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ مُدَارَكَةٌ وَمُوَاصَلَةٌ، وَمُوَاتَرَةُ الصَّوْمِ: أَنْ يَصُومَ يَوْمًا، وَيُفْطِرَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَلَا يُرَادُ بِهِ الْمُوَاصَلَةُ ; لِأَنَّ أَصْلَهُ مِنَ الْوِتْرِ، وَكَذَلِكَ: وَاتَرْتُ الْكُتُبَ ; فَتَوَاتَرَتْ، أَيْ: جَاءَتْ بَعْضُهَا فِي أَثَرِ بَعْضٍ، وِتْرًا وِتْرًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْقَطِعَ.
قُلْتُ: هَذَا يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ التَّوَاتُرَ: التَّتَابُعُ الْمُتَدَارَكُ بِغَيْرِ فَصْلٍ ; فَأَمَّا فَهْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الرُّسُلِ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [الْمُؤْمِنُونَ: 44] ، أَيْ: وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ; فَلَيْسَ مِنَ اللَّفْظِ، بَلْ مِمَّا ثَبَتَ مِنَ الْفَتَرَاتِ بَيْنَهُمْ، وَالَّذِي أَجِدُهُ يُبَادِرُ إِلَى الذِّهْنِ مِنَ التَّوَاتُرِ، أَنَّهُ التَّتَابُعُ الْمُتَدَارَكُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(2/73)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَاصْطِلَاحًا» ، أَيْ: وَالتَّوَاتُرُ فِي الِاصْطِلَاحِ، أَيِ: اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ وَعُرْفِهِمْ: هُوَ «إِخْبَارُ قَوْمٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ، بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ» .
فَقَوْلُنَا: إِخْبَارُ قَوْمٍ - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ -: مَصْدَرٌ، نَحْوَ: أَخْبَرَ إِخْبَارًا، وَيَجُوزُ فَتْحُهَا: جَمْعُ خَبَرٍ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ التَّوَاتُرَ، وَالْآحَادَ الْمُسْتَفِيضَ، وَغَيْرَهُ ; لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَخْبَارُ قَوْمٍ.
وَقَوْلُنَا: «يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ» : احْتِرَازٌ مِنْ إِخْبَارِ قَوْمٍ لَا يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهُوَ الْآحَادُ.
وَقَوْلُنَا: لِكَثْرَتِهِمْ: احْتِرَازٌ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَعْصُومِ، كَآحَادِ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ ; فَإِنَّهُ خَبَرُ قَوْمٍ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، بَلْ يَمْتَنِعُ الْكَذِبُ عَلَيْهِمْ أَصْلًا، وَلَيْسَ بِتَوَاتُرٍ، لِعَدَمِ الْكَثْرَةِ.
وَقَوْلُنَا: «تَوَاطُؤُهُمْ» : بِضَمِّ الطَّاءِ وَالْهَمْزَةِ: هُوَ الْأَصْلُ ; لِأَنَّهُ تَفَاعُلٌ مِنَ الْوَطْءِ، وَتَوَاطِيهِمْ بِكَسْرِ الطَّاءِ وَبِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ: هُوَ مَنْقُوصٌ مِنْ ذَلِكَ، بِأَنْ حُذِفَ الْهَمْزُ وَقُلِبَتْ ضَمَّةُ الطَّاءِ كَسْرَةً تَخْفِيفًا وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ الْهَمْزُ فِي جَمِيعِ تَصَارِيفِهَا، وَالْمُوَاطَأَةُ: الْمُوَافَقَةُ.
وَقَوْلُنَا: «بِشُرُوطٍ تُذْكَرُ» ، أَيْ: لِلتَّوَاتُرِ شُرُوطٌ قَدْ ذُكِرَتْ فِي مَسَائِلِهِ. وَفِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: التَّوَاتُرُ يُفِيدُ الْعِلْمَ، أَيْ: يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، وَخَالَفَ السُّمَنِيَّةُ، وَالْبَرَاهِمَةُ أَيْضًا، أَيْ: قَالُوا: لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بَلِ الظَّنَّ، «إِذْ حَصَرُوا» ، أَيْ: إِنَّمَا خَالَفُوا فِي إِفَادَةِ الْمُتَوَاتِرِ الْعِلْمَ ; لِأَنَّهُمْ حَصَرُوا «مَدَارَكَ الْعِلْمِ فِي الْحَوَاسِّ
(2/74)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْخَمْسِ» ، أَيْ: قَالُوا: لَا سَبِيلَ إِلَى إِدْرَاكِ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ إِلَّا بِإِحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ: السَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالشَّمِّ، وَالذَّوْقِ، وَاللَّمْسِ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: السُّمَنِيَّةُ - بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ -: فِرْقَةٌ مِنْ عَبْدَةِ الْأَصْنَامِ، تَقُولُ بِالتَّنَاسُخِ، وَتُنْكِرُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ. قَالَ: وَالْبَرَاهِمَةُ: قَوْمٌ لَا يُجَوِّزُونَ عَلَى اللَّهِ بِعْثَةَ الرُّسُلِ.
قُلْتُ: إِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا ; لِأَنِّي سَمِعْتُ كَثِيرًا مِنْ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ الْأُصُولِيِّينَ، بَلْ وَخَاصَّتِهِمْ، يَقُولُونَ: السَّمْنِيَّةُ - بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْمِيمِ - وَيَعْتَقِدُونَهَا نِسْبَةً إِلَى السَّمْنِ الْمَأْكُولِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: السَّمَّنِيَّةُ - بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِهَا - وَلَيْسَ فِيهَا تَشْدِيدٌ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِفَادَةِ التَّوَاتُرِ الْعِلْمَ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقَطْعَ حَاصِلٌ لَنَا بِوُجُودِ الْبُلْدَانِ وَالْأَقَالِيمِ النَّائِيَةِ، كَمَكَّةَ، وَمِصْرَ، وَبَغْدَادَ، وَالْهِنْدِ، وَالصِّينِ، وَبِوُجُودِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، كَأُمَّةِ نُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمَ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ، وَحُصُولُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، لَا مِنْ جِهَةِ الْحِسِّ وَلَا الْعَقْلِ، إِنَّمَا هُوَ بِالتَّوَاتُرِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ.
قَوْلُهُ: «وَأَيْضًا الْمُدْرَكَاتُ الْعَقْلِيَّةُ كَثِيرَةٌ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إِبْطَالِ حَصْرِهِمْ مَدَارِكَ الْعِلْمِ فِي الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ كَثِيرَةٌ، وَمِنَ الْمُدْرَكَاتِ الْعَقْلِيَّةِ حَصْرُكُمُ الْمَذْكُورُ، أَيْ: حَصْرُكُمْ لِمَدَارِكِ الْعِلْمِ فِي الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ ; لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا قَرَّرْتُمُوهُ وَأَدْرَكْتُمُوهُ عَقْلًا. فَنَقُولُ: هَذَا الْحَصْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لَكُمْ، أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا لَكُمْ، بِطُلَ قَوْلُكُمْ: إِنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ مَحْصُورَةٌ فِي الْحَوَاسِّ ; لِأَنَّ هَذَا عِلْمٌ
(2/75)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَدْ حَصَّلْتُمُوهُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْحَوَاسِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا، لَكَانَ هَذَا الْحَصْرُ عَلَى ظَنٍّ، لَكِنَّ الظَّنَّ لَا يُفِيدُ فِي هَذَا الْبَابِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا لَوْ أَفَادَ الْعِلْمَ» ، لَاشْتَرَكْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ بِالضَّرُورَةِ ; خُصُوصًا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَلَوِ اشْتَرَكْنَا جَمِيعًا فِي حُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ لَمَا خَالَفْنَاكُمْ فِيهِ ; لِاضْطِرَارِ حُصُولِ الْعِلْمِ لَنَا إِلَى الْمُوَافَقَةِ، كَمَا أَنَّا لَمَّا شَارَكْنَاكُمْ فِي الْعُلُومِ الْحِسِّيَّةِ لَمْ نُخَالِفْكُمْ فِيهَا، فَلَمَّا لَمْ نُشَارِكْكُمْ فِي الْعِلْمِ التَّوَاتُرِيِّ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ.
قَوْلُهُ: قُلْنَا: عِنَادٌ وَاضْطِرَابٌ فِي الْعَقْلِ، هَذَا جَوَابُ دَلِيلِهِمْ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مُخَالَفَتَكُمْ لَنَا فِي إِفَادَةِ التَّوَاتُرِ الْعِلْمَ ; إِمَّا عِنَادٌ مِنْكُمْ، أَوِ اضْطِرَابٌ فِي عُقُولِكُمْ أَوْ طِبَاعِكُمْ، كَمَا يُخَالِفُ فِي الْحِسِّيَّاتِ لِاضْطِرَابِ عَقْلِهِ وَمِزَاجِهِ أَوْ حَوَاسِّهِ، نَحْوَ: مَنْ يَجِدُ طَعْمَ الْعَسَلِ مُرًّا، لِغَلَبَةِ الصَّفْرَاءِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَلْزَمُكُمْ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا إِلْزَامٌ عَلَى مُقْتَضَى دَلِيلِهِمْ.
وَتَقْرِيرُهُ: إِنْ لَزِمْنَا إِنْكَارُ إِفَادَةِ التَّوَاتُرِ الْعِلْمَ بِمُخَالَفَتِكُمْ لَنَا، لَزِمَكُمْ إِنْكَارُ إِفَادَةِ الْمَحْسُوسَاتِ الْعِلْمَ: بِمُخَالَفَةِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ لَكُمْ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِلْزَامِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ; فَمَا أَجَبْتُمْ بِهِ السُّوفِسْطَائِيَّةَ عَنْ إِفَادَةِ الْحَوَاسِّ الْعِلْمَ ; فَهُوَ جَوَابُنَا لَكُمْ عَنْ إِفَادَةِ التَّوَاتُرِ الْعِلْمَ.
تَنْبِيهٌ: وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ السُّوفِسْطَائِيَّةِ هَا هُنَا ; فَلْنَذْكُرْ هَذِهِ النِّسْبَةَ، وَفِرَقَ أَهْلِهَا وَمَذَاهِبَهُمْ، تَكْمِيلًا لِفَائِدَةِ النَّاظِرِ.
أَمَّا نِسْبَتُهُمْ فَهِيَ لِتَجَاهُلِهِمْ ; لِأَنَّ سَفْسَطَ، أَيْ: تَجَاهَلَ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِتَجَاهُلِهِمْ، وَقِيلَ: لِهَذَيَانَاتِهِمْ، يُقَالُ: سَفْسَطَ فِي الْكَلَامِ، إِذَا هَذَى فِي كَلَامِهِ.
(2/76)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا فِرَقُهُمْ فَثَلَاثٌ:
إِحْدَاهُنَّ: اللَّاأَدْرِيَةُ: نِسْبَةٌ إِلَى اللَّاأَدْرِي، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا نَعْرِفُ ثُبُوتَ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ، وَلَا انْتِفَاءَهُ، بَلْ نَحْنُ مُتَوَقِّفُونَ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ شُبَهِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: رَأَيْنَا الْمَذَاهِبَ ; فَوَجَدْنَا أَهْلَ كُلِّ مَذْهَبٍ يَدَّعُونَ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِصِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ، وَخَصْمُهُمْ يُكَذِّبُهُمْ فِي ذَلِكَ، وَرُبَّمَا ادَّعَى الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ ; فَأَوْجَبَ ذَلِكَ التَّوَقُّفَ.
الْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ: تُسَمَّى الْعِنَادِيَّةُ: نِسْبَةٌ إِلَى الْعِنَادِ ; لِأَنَّهُمْ عَانَدُوا ; فَقَالُوا: نَحْنُ نَجْزِمُ بِأَنَّهُ لَا مَوْجُودَ أَصْلًا، وَعُمْدَتُهُمْ ضَرْبُ الْمَذَاهِبِ بِبَعْضِ، وَالْقَدْحُ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ بِالْإِشْكَالَاتِ الْمُتَّجِهَةِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ، كَقَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ فِي الْوُجُودِ مَوْجُودٌ لَكَانَ إِمَّا مُمْكِنًا أَوْ وَاجِبًا، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ لِلْإِشْكَالَاتِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِمْكَانِ وَالْوُجُوبِ، وَلَوْ كَانَ الْجِسْمُ مَوْجُودًا، لَكَانَ قَبُولُهُ لِلِانْقِسَامِ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيًا، أَوْ لَا. وَالْأَوَّلُ: بَاطِلٌ لِأَدِلَّةِ نُفَاةِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، وَالثَّانِي: بَاطِلٌ لِأَدِلَّةِ مُثْبِتِيهِ.
الْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ: تُسَمَّى الْعِنْدِيَّةُ، نِسْبَةٌ إِلَى لَفْظِ عِنْدَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَحْكَامُ الْأَشْيَاءِ تَابِعَةٌ لِاعْتِقَادَاتِ النَّاسِ فِيهَا ; فَكُلُّ مَنِ اعْتَقَدَ شَيْئًا ; فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا هُوَ عِنْدَهُ وَفِي اعْتِقَادِهِ ; فَالْعَالَمُ مَثَلًا قَدِيمٌ عِنْدَ مَنِ اعْتَقَدَ قِدَمَهُ، مُحْدَثٌ عِنْدَ مَنِ اعْتَقَدَ حُدُوثَهُ، كَالصَّفْرَاوِيِّ: يَجِدُ السُّكَّرَ فِي فَمِهِ مُرًّا، وَغَيْرِهِ يَجِدُهُ حُلْوًا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَائِقَ تَابِعَةٌ لِلْإِدْرَاكَاتِ.
هَذِهِ فِرَقُ السُّوفِسْطَائِيَّةِ وَمَقَالَاتُهُمْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مُنَاظَرَتِهِمْ ; فَقَالَ
(2/77)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضُهُمْ: لَا تَجُوزُ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنَاظِرُونَ بِالدَّلِيلِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ الدَّلِيلِ وَمُقَدَّمَاتِهِ وَسَائِرَ الْأَشْيَاءِ، لَكِنَّ الطَّرِيقَ إِلَى قَطْعِهِمْ أَنْ يُضْرَبُوا، وَيُحَرَّقُوا بِالنَّارِ، حَتَّى يَجِدُوا حَقِيقَةَ الْأَلَمِ ; فَتَبْطُلُ دَعْوَاهُمْ، وَقَالَ قَوْمٌ: يُنَاظَرُونَ وَيُلْزَمُونَ أُمُورًا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ تَسْلِيمِهَا. مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَلْ لِمَذْهَبِكُمْ هَذَا حَقِيقَةٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قَالُوا: لَا ; لَمْ يَسْتَحِقْ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي إِنْكَارِ الْمَوْجُودَاتِ، وَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، أَبْطَلُوا قَوْلَهُمْ بِإِنْكَارِ الْحَقَائِقِ، وَمِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَلْ تُمَيِّزُونَ بَيْنَ الدُّخُولِ فِي النَّارِ، وَالدُّخُولِ فِي الْمَاءِ؟ أَوْ بَيْنَ ضَرْبِكُمْ وَعَدَمِهِ؟ أَوْ بَيْنَ مَذْهَبِكُمْ وَمَا يُنَاقِضُهُ؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، اعْتَرَفُوا بِالْحَقَائِقِ، وَإِلَّا عُرِّفُوا الْحَقَائِقَ بِالضَّرْبِ وَالْإِيلَامِ وَنَحْوِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/78)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: الْعِلْمُ التَّوَاتُرِيُّ ضَرُورِيٌّ عِنْدَ الْقَاضِي، نَظَرِيٌّ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، وَوَافَقَ كُلًّا آخَرُونَ.
الْأَوَّلُ: لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا، لَمَا حَصَلَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَلِأَنَّ الضَّرُورِيَّ مَا اضْطُرَّ الْعَقْلُ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ، وَهَذَا كَذَلِكَ.
الثَّانِي: لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا، لَمَا افْتَقَرَ إِلَى النَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهِيَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ، وَعَدَمُ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ.
وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ، إِذْ مُرَادُ الْأَوَّلِ بِالضَّرُورِيِّ: مَا اضْطُرَّ الْعَقْلُ إِلَى تَصْدِيقِهِ، وَالثَّانِي: الْبَدِيهِيُّ: الْكَافِي فِي حُصُولِ الْجَزْمِ بِهِ تَصَوُّرُ طَرَفَيْهِ، وَالضَّرُورِيُّ مُنْقَسِمٌ إِلَيْهِمَا ; فَدَعْوَى كُلٍّ، غَيْرُ دَعْوَى الْآخَرِ، وَالْجَزْمُ بِهِ حَاصِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: الْعِلْمُ التَّوَاتُرِيُّ» أَيْ: الْحَاصِلُ عَنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ، «ضَرُورِيٌّ عِنْدَ الْقَاضِي» أَبِي يَعْلَى «نَظَرِيٌّ» ، أَيْ: يَحْصُلُ بِالنَّظَرِ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَوَافَقَ كُلًّا آخَرُونَ، أَيْ: كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَافَقَهُ عَلَى قَوْلِهِ آخَرُونَ، أَيْ: جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
أَمَّا الْقَاضِي ; فَوَافَقَهُ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا أَبُو الْخَطَّابِ فَوَافَقَهُ الْكَعْبِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَالدَّقَّاقُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ الْوَقْفَ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ الضَّعِيفَةِ عِنْدَهُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» أَيِ: احْتَجَّ الْأَوَّلُ - وَهُوَ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ - بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلْمَ التَّوَاتُرِيَّ «لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا، لَمَا حَصَلَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» ، وَالْحَمْقَى، وَنَحْوِهِمْ. لَكِنَّهُ حَاصِلٌ لِهَؤُلَاءِ ; فَلَا يَكُونُ
(2/79)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَظَرِيًّا ; فَيَكُونُ ضَرُورِيًّا، وَهَذَا الْوَجْهُ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعِلْمَ «الضَّرُورِيَّ مَا اضْطُرَّ الْعَقْلُ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ، وَهَذَا» ، أَيِ الْعِلْمُ التَّوَاتُرِيُّ، كَذَلِكَ فَيَكُونُ ضَرُورِيًّا ; لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنِ اضْطِرَارِ الْعَقْلِ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ، أَوْ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِمَّنْ بَلَغَهُ وُجُودُ مَكَّةَ بِالتَّوَاتُرِ، فِي أَنَّ عَقْلَهُ يَضْطَرُّهُ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ.
قَوْلُهُ: «الثَّانِي» ، أَيِ احْتَجَّ الثَّانِي، وَهُوَ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْعِلْمَ التَّوَاتُرِيَّ نَظَرِيٌّ، بِأَنَّهُ «لَوْ كَانَ ضَرُورِيًّا، لَمَا افْتَقَرَ إِلَى النَّظَرِ» ، لَكِنَّهُ افْتَقَرَ إِلَى النَّظَرِ ; فَلَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا. أَمَّا الْمُلَازَمَةُ ; فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ، أَعْنِي: افْتِقَارَ هَذَا الْعِلْمِ إِلَى النَّظَرِ ; فَلِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ حُصُولُهُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ اتَّفَقُوا عَلَى الْإِخْبَارِ بِوُجُودِ مَكَّةَ مَثَلًا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ يَمْتَنِعُ عَادَةً ; فَلَزِمَ مِنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ حُصُولُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِطَرِيقِ الْإِنْتَاجِ الْقِيَاسِيِّ.
وَتَقْرِيرُهُ عَلَى الْوَجْهِ الصِّنَاعِيِّ أَنَّ وُجُودَ مَكَّةَ مَثَلًا، أَخْبَرَ بِهِ جَمْعٌ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً، وَكُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ جَمْعٌ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً ; فَهُوَ مَعْلُومٌ ; فَوُجُودُ مَكَّةَ مَعْلُومٌ، وَلَا نَعْنِي بِالْعِلْمِ النَّظَرِيِّ إِلَّا هَذَا.
قُلْتُ: وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ حُصُولُ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا حَاصِلَةٌ فِي أَوَائِلِ الْفِطْرَةِ ; فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كَبِيرِ تَأَمُّلٍ، وَمِثْلُهُ لَا يُسَمَّى
(2/80)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَظَرِيًّا ; إِنَّمَا النَّظَرِيُّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى أَهْلِيَّةِ النَّظَرِ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ. هَذَا مَا أَجَابُوا بِهِ، وَهُوَ جَيِّدٌ، لَا بَأْسَ بِهِ.
قَوْلُهُ: «وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جِهَةِ الْوَسَاطَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، جَمْعًا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَائِلَ بِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ ; لَا يُنَازِعُ فِي تَوَقُّفِهِ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْقَائِلَ بِأَنَّهُ نَظَرِيٌّ ; لَا يُنَازِعُ فِي أَنَّ الْعَقْلَ يُضْطَرُّ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ، وَإِذَا وَافَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى مَا يَقُولُهُ فِي حُكْمِ هَذَا الْعِلْمِ وَصِفَتِهِ ; لَمْ يَبْقَ النِّزَاعُ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّلَ سَمَّى مَا يُضْطَرُّ الْعَقْلُ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ - وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ نَظَرِيَّةٍ - ضَرُورِيًّا، وَالثَّانِي سَمَّى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ - وَإِنْ كَانَتْ فِطْرِيَّةً بَيِّنَةً - نَظَرِيًّا، وَخَصَّ الضَّرُورِيَّ بِالْبَدِيهِيِّ، وَهُوَ الْكَافِي فِي حُصُولِ الْجَزْمِ بِهِ تَصَوُّرُ طَرَفَيْهِ، كَقَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ تَصَوَّرَ حَقِيقَةَ الْوَاحِدِ ; وَتَصَوَّرَ حَقِيقَةَ الِاثْنَيْنِ ; حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِي: «إِذْ مُرَادُ الْأَوَّلِ بِالضَّرُورِيِّ مَا اضْطُرَّ الْعَقْلُ إِلَى تَصْدِيقِهِ» ، أَيْ: سَوَاءٌ تَوَقَّفَ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ بَيِّنَةٍ أَوْ لَا، «وَالثَّانِي» : أَيْ: وَمُرَادُ الثَّانِي بِالضَّرُورِيِّ، «الْبَدِيهِيُّ الْكَافِي فِي حُصُولِ الْجَزْمِ بِهِ» أَيِ: التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ بِهِ تَصَوَّرُ طَرَفَيْهِ، أَعْنِي الْمَوْضُوعَ وَالْمَحْمُولَ، وَإِنْ شِئْتَ الْمَحْكُومَ وَالْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، نَحْوَ: الْعَالَمُ مَوْجُودٌ، وَالْمَعْدُومُ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا حَالَ عَدَمِهِ، وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ
(2/81)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَادِثًا، وَبِالْعَكْسِ فِيهِمَا. بِخِلَافِ قَوْلِنَا: الْعَالِمُ حَادِثٌ، أَوْ لَيْسَ بِقَدِيمٍ ; فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّصْدِيقِ بِهِ مِنْ وَاسِطَةٍ ; فَنَقُولُ: الْعَالَمُ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ، أَوْ لَيْسَ بِقَدِيمٍ.
قَوْلُهُ: «وَالضَّرُورِيُّ مُنْقَسِمٌ إِلَيْهِمَا» ، أَيِ: الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ مُنْقَسِمٌ إِلَى الْبَدِيهِيِّ، الَّذِي يُدْرَكُ بِالْبَدِيهَةِ، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى وَاسِطَةِ نَظَرٍ، وَإِلَى مَا اضْطُرَّ الْعَقْلُ إِلَى التَّصْدِيقِ بِهِ بِوَاسِطَةِ النَّظَرِ.
قَوْلُهُ: «فَدَعْوَى كُلٍّ» ، أَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، «غَيْرُ دَعْوَى الْآخَرِ» ، هَذَا بَيَانٌ لِعَدَمِ تَوَارُدِ حُجَّةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى مَوْرِدٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَقُولُ: هُوَ ضَرُورِيٌّ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْوَسَاطَةِ الْبَيِّنَةِ، وَالْآخِرُ يَقُولُ: لَيْسَ بَدِيهِيًّا غَنِيًّا عَنِ الْوَاسِطَةِ مُطْلَقًا.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوَافِقٌ لِلْآخَرِ عَلَى قَوْلِهِ، «وَالْجَزْمُ بِهِ حَاصِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ» ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَقُولُ: إِنَّ التَّوَاتُرَ مُفِيدٌ الْعِلْمَ الْجَازِمَ، لَكِنْ تَنَازَعَا فِي تَسْمِيَتِهِ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا.
قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِلْعَمَلِ أَنَّهُ الْحُكْمُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِمُوجَبٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمُوجَبَ إِمَّا عَقْلٌ، أَوْ سَمْعٌ، أَوْ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا، وَهُوَ التَّوَاتُرُ ; لِتَرَكُّبِهِ مِنْ نَقْلِ النَّقَلَةِ، وَنَظَرِ السَّامِعِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ ; فَصَارَ التَّوَاتُرُ كَالْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ ; فَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَعَلَى هَذَا يَتَرَتَّبُ تَقْسِيمُ الْعِلْمِ إِلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ. وَالْقَطْعِيُّ: إِمَّا بَدِيهِيٌّ مَحْضٌ، أَوْ نَظَرِيٌّ مَحْضٌ، أَوْ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ التَّوَاتُرِيُّ، كَمَا قَدْ رَأَيْتَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/82)
________________________________________
الثَّالِثَةُ: قِيلَ: مَا حَصَّلَ الْعِلْمَ فِي وَاقِعَةٍ، أَوْ لِشَخْصٍ، أَفَادَهُ فِي غَيْرِهَا، وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ شَارَكَهُ فِي السَّمَاعِ، مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ. وَهُوَ صَحِيحٌ إِنْ تَجَرَّدَ الْخَبَرُ عَنِ الْقَرَائِنِ، أَمَّا مَعَ اقْتِرَانِهَا بِهِ ; فَيَجُوزُ الِاخْتِلَافُ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَسْمَعَ اثْنَانِ خَبَرًا، يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمَا الْعِلْمُ بِهِ، لِقَرَائِنَ احْتَفَّتْ بِالْخَبَرِ، اخْتُصَّ بِهَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْكَارُهُ مُكَابَرَةٌ.
وَيَجُوزُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ الْقَرَائِنِ، لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْمُخْبِرِينَ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ وَتَزَايُدِهِ حَتَّى يَجْزِمَ بِهِ، كَمَنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِمَوْتِ مَرِيضٍ مُشْفٍ، ثُمَّ مَرَّ بِبَابِهِ ; فَرَأَى تَابُوتًا بِبَابِ دَارِهِ، وَصُرَاخًا، وَعَوِيلًا، وَانْتِهَاكَ حَرِيمٍ، وَلَوْلَا إِخْبَارُ الْمُخْبِرِ، لَجَوَّزَ مَوْتَ آخَرَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: قِيلَ: مَا حَصَّلَ الْعِلْمَ فِي وَاقِعَةٍ، أَوْ لِشَخْصٍ، أَفَادَهُ فِي غَيْرِهَا، وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ شَارَكَهُ فِي السَّمَاعِ» . هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ ; فِيمَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ. أَمَّا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فَقَالَ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى هَذَا ; فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَحَدَ هَذَيْنِ، أَوْ هُمَا، أَوْ غَيْرَهُمَا.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ مَا أَفَادَ الْعِلْمَ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَجَبَ أَنْ يُفِيدَهُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ غَيْرِهَا، وَمَا أَفَادَ الْعِلْمَ شَخْصًا مِنَ النَّاسِ، وَجَبَ أَنْ يُفِيدَهُ لِكُلِّ شَخْصٍ غَيْرِهِ إِذَا شَارَكَهُ فِي سَمَاعِ ذَلِكَ الْخَبَرِ، «مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافٍ» ، أَيْ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْخَبَرُ ; فَيُفِيدُ الْعِلْمَ فِي وَاقِعَةٍ دُونَ أُخْرَى، وَلَا لِشَخْصٍ دُونَ آخَرَ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ صَحِيحٌ إِنْ تَجَرَّدَ الْخَبَرُ عَنِ الْقَرَائِنِ» ، أَيْ: هَذَا الْقَوْلُ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ تَجَرُّدِ الْخَبَرِ عَنِ الْقَرَائِنِ، أَوْ لَا مَعَ تَجَرُّدِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ تَجَرُّدِهِ عَنِ الْقَرَائِنِ ; فَهُوَ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْمِثْلَيْنِ وَاحِدٌ. فَإِذَا أَخْبَرَ مِائَةُ نَفْسٍ زَيْدًا بِمَوْتِ عَمْرٍو، وَحَصَلَ
(2/83)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَهُ الْعِلْمُ بَخَبَرِهِمْ ; وَجَبَ أَنْ يُفِيدَ بِشْرًا خَبَرُ مِائَةِ نَفْسٍ بِمَوْتِ بَكْرٍ، أَوْ تَزَوُّجِهِ، أَوْ حُصُولِ وَلَدٍ لَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِاسْتِوَاءِ الْقَضَايَا وَالْأَشْخَاصِ فِي ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مَعَ اقْتِرَانِ قَرَائِنَ بِالْخَبَرِ ; فَلَا يَلْزَمُ، بَلْ يَجُوزُ الِاخْتِلَافُ، أَيْ: اخْتِلَافُ إِفَادَةِ الْخَبَرِ الْعِلْمَ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْوَقَائِعِ، إِذْ لَا يَبْعُدُ، وَلَا يَمْتَنِعُ، أَنْ يَسْمَعَ اثْنَانِ خَبَرًا وَاحِدًا، وَقَدِ احْتَفَّتْ بِذَلِكَ الْخَبَرِ قَرِينَةٌ أَوْ قَرَائِنُ، اخْتُصَّ بِعِلْمِهَا أَحَدُهُمَا ; فَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ مَعَ الْقَرِينَةِ، دُونَ الْآخَرِ، لِعَدَمِ ظُهُورِهِ عَلَى تِلْكَ الْقَرِينَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرَائِنَ قَائِمَةٌ مَقَامَ بَعْضِ الْمُخْبِرِينَ ; فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ أُخْبِرَ أَحَدُهُمَا تَوَاتُرًا وَالْآخِرُ آحَادًا. وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو: قَدْ تَزَوَّجَ بَكْرٌ، وَيَكُونُ زَيْدٌ قَدْ رَأَى بَكْرًا بِالْأَمْسِ يَشْتَرِي جِهَازَ الْعُرْسِ، دُونَ عَمْرٍو. أَوْ يُخْبِرُهُمَا الْمُخْبِرُ بِمَوْتِ بَكْرٍ، وَيَكُونُ زَيْدٌ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَيْئُوسٌ مِنْهُ، دُونَ عَمْرٍو ; فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ زَيْدًا يَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ مَا لَا يَحْصُلُ لِعَمْرٍو مِنْ ذَلِكَ الْخَبَرِ، عِلْمًا أَوْ غَلَبَةَ ظَنٍّ، «وَإِنْكَارُهُ مُكَابَرَةٌ» .
قَوْلُهُ: «وَيَجُوزُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ الْقَرَائِنِ، لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْمُخْبِرِينَ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ وَتَزَايُدِهِ حَتَّى يَجْزِمَ بِهِ» . مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْعِلْمَ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ يَحْصُلُ عَلَى جِهَةِ التَّزَايُدِ التَّدْرِيجِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ مُخْبِرٍ لِلْإِنْسَانِ بِخَبَرٍ يُحَرِّكُ عِنْدَهُ ظَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرِ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ الْمُخْبِرِ فِي صِدْقِهِ وَعَدَالَتِهِ، وَتَيَقُّظِهِ وَذَكَائِهِ، ثُمَّ كَلَّمَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ مُخْبِرٌ بَعْدَ مُخْبَرٍ، تَزَايَدَ ذَلِكَ الظَّنُّ بِإِخْبَارِهِمْ، حَتَّى يَبْلُغَ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ فِي نَفْسِهِ.
(2/84)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ; فَالْقَرَائِنُ الْمُحْتَفَّةُ بِالْخَبَرِ تَقُومُ مَقَامَ آحَادِ الْمُخْبِرِينَ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ وَتَزَايُدِهِ ; لِأَنَّا نَجِدُ تَأْثِيرَهَا فِي أَنْفُسِنَا بِالضَّرُورَةِ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَثَابَةِ الْمُخْبِرِينَ ; جَازَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَهَا ; لِأَنَّ مُخْبِرًا وَاحِدًا مَعَ عِشْرِينَ قَرِينَةً يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ مُخْبِرًا، بَلْ رُبَّمَا أَفَادَتِ الْقَرِينَةُ الْوَاحِدَةُ مَا لَا يُفِيدُهُ خَبَرُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُخْبِرِينَ، بِحَسْبَ ارْتِبَاطِ دَلَالَتِهَا بِالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ عَقْلًا.
قَوْلُهُ: «كَمَنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بِمَوْتٍ مَرِيضٍ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا مِثَالُ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا لَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَوْتٍ مَرِيضٍ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مُشْفٍ عَلَى الْمَوْتِ، «ثُمَّ مَرَرْنَا بِبَابِ ذَلِكَ الْمَرِيضِ ; فَرَأَيْنَا عَلَيْهِ تَابُوتًا» ، أَيْ: نَعْشًا، وَصُرَاخًا وَعَوِيلًا دَاخِلَ الدَّارِ، وَانْتِهَاكَ حَرِيمٍ ; فَإِنَّا نَجْزِمُ بِمَوْتِ الشَّخْصِ الَّذِي أُخْبِرْنَا بِمَوْتِهِ.
وَقَوْلُهُ: «وَلَوْلَا إِخْبَارُ الْمُخْبِرِ لَجَوَّزَ مَوْتَ آخَرَ» ، هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُوجِبَ لِعِلْمِنَا بِمَوْتِ الْمَرِيضِ الْمَذْكُورِ هُوَ خَبَرُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ، بَلِ الْمُوجِبُ لَهُ تِلْكَ الْقَرَائِنُ الَّتِي رَأَيْنَاهَا.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْعِلْمِ بِمَوْتِهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ مَعَ تِلْكَ الْقَرَائِنِ، لَا الْقَرَائِنُ بِمَجَرَّدِهَا، أَنَّهُ لَوْلَا خَبَرُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ، لَمَا اخْتُصَّ الْعِلْمُ بِمَوْتِ ذَلِكَ الْمَرِيضِ الْمُعَيَّنِ، بَلْ كُنَّا نُجَوِّزُ مَوْتَ شَخْصٍ آخَرَ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْقَرَائِنَ الْمَذْكُورَةَ، إِنَّمَا أَفَادَتْنَا أَنَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَيِّتًا لَا بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا خُصُوصِيَّةِ كَوْنِهِ فُلَانًا الْمَرِيضَ بِعَيْنِهِ ; فَإِنَّمَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ ; فَالْقَرَائِنُ مُفِيدَةٌ لِأَصْلِ الْمَوْتِ، وَالْخَبَرُ مُفِيدٌ لِتَعْيِينِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَرَائِنَ كَالْمُخْبِرِينَ، وَلَوْ أَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ أَنَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَيِّتًا، ثُمَّ أَخْبَرَنَا آخَرُ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَذْكُورَ هُوَ فُلَانٌ، لَحَصَلَ لَنَا الْعِلْمُ بِمَوْتِ فُلَانٍ، مُسْتَنِدًا
(2/85)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَى مَجْمُوعِ الْخَبَرَيْنِ ; فَلِذَلِكَ إِذَا أَفَادَتْنَا الْقَرَائِنُ مَوْتًا مُطْلَقًا، وَأَفَادَنَا الْخَبَرُ مَيِّتًا مُعَيَّنًا، فَإِنَّ خَبَرَ الْمُخْبِرِ جُزْءٌ مِنْ مُسْتَنَدِ الْعِلْمِ بِالْمَوْتِ فِي الصُّورَتَيْنِ.
(2/86)
________________________________________
الرَّابِعَةُ: شَرْطُ التَّوَاتُرِ: إِسْنَادُهُ إِلَى عِيَانٍ مَحْسُوسٍ، لِاشْتِرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ. وَاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ فِي كَمَالِ الْعَدَدِ.
وَأَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ، قِيلَ: اثْنَانِ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ: خَمْسَةٌ، وَقِيلَ: عِشْرُونَ، وَقِيلَ سَبْعُونَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَالْحَقُّ أَنَّ الضَّابِطَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ ; فَيُعْلَمُ إِذَنْ حُصُولِ الْعَدَدِ، وَلَا دَوْرَ، إِذْ حُصُولُ الْعِلْمِ مَعْلُولُ الْإِخْبَارِ وَدَلِيلُهُ، كَالشِّبَعِ وَالرَّيِّ، مَعْلُولُ الْمُشْبِعِ وَالْمُرْوِيِّ وَدَلِيلُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ ابْتِدَاءً الْقَدْرُ الْكَافِي مِنْهُمَا.
وَمَا ذُكِرَ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ تَحَكُّمٌ، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. نَعَمْ، لَوْ أَمْكَنَ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَحْصُلُ لَنَا الْعِلْمُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ فِيهَا، أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ أَقَلِّ عَدَدٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، إِذِ الظَّنُّ يَتَزَايَدُ بِزِيَادَةِ الْمُخْبِرِينَ تَزَايُدًا خَفِيًّا تَدْرِيجِيًّا، كَتَزَايُدِ النَّبَاتِ، وَعَقْلِ الصَّبِيِّ، وَنُمُوِّ بَدَنِهِ، وَضَوْءِ الصُّبْحِ، وَحَرَكَةِ الْفَيْءِ ; فَلَا يُدْرَكُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الرَّابِعَةُ: شَرْطُ التَّوَاتُرِ إِسْنَادُهُ إِلَى عِيَانٍ مَحْسُوسٍ» ، هَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ التَّوَاتُرِ الَّتِي سَبَقَ الْوَعْدُ بِذِكْرِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى مُشَاهَدَةٍ حِسِّيَّةٍ، بِأَنْ يُقَالَ: رَأَيْنَا مَكَّةَ وَبَغْدَادَ، وَرَأَيْنَا مُوسَى وَقَدْ أَلْقَى عَصَاهُ ; فَصَارَتْ حَيَّةً تَسْعَى، وَرَأَيْنَا الْمَسِيحَ وَقَدْ أَحْيَا الْمَوْتَى، وَرَأَيْنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدِ انْشَقَّ لَهُ الْقَمَرُ، وَسَمِعْنَاهُ يَتْلُو الْقُرْآنَ، وَيَتَحَدَّى الْعَرَبَ بِهِ فَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ.
وَلَا يَصِحُّ التَّوَاتُرُ عَنْ مَعْقُولٍ، لِاشْتِرَاكِ الْمَعْقُولَاتِ فِي إِدْرَاكِ الْعُقَلَاءِ لَهَا ; فَلَيْسَ اعْتِمَادُنَا فِيهَا عَلَى إِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ مُفِيدًا لَنَا مَا لَيْسَ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ ذَلِكَ النَّظَرِ فِي أَنَّ الْعَالَمَ مَثَلًا مُحْدَثٌ، وَنَحْنُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَنْظُرَ فِيهِ ; فَنَعْلَمُ
(2/87)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنَّهُ مُحْدَثٌ ; بِخِلَافِ الْمَحْسُوسَاتِ، فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ بَعْضٍ ; فَكَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهَا مُفِيدًا لِلسَّامِعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَمَا قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ إِلَى مُشَاهَدَتِهِ سَبِيلٌ لِبُعْدِ الْمَكَانِ، كَمَنَ بِالصِّينِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَكَّةَ وَمِصْرَ، أَوْ لِانْقِضَاءِ الزَّمَانِ، كَأَهْلِ عَصْرِنَا مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَصْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَاسِطَةِ فِي كَمَالِ الْعَدَدِ، أَيْ: يَكُونُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ الْمُعْتَبَرِ الْمَذْكُورِ بَعْدُ مَوْجُودًا فِي طَرَفَيِ الْخَبَرِ وَوَاسِطَتِهِ.
فَالطَّرَفَانِ: أَحَدُهُمَا: الطَّبَقَةُ الْمُشَاهِدَةُ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، كَالصَّحَابَةِ الْمُشَاهِدِينَ لِنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالثَّانِي: الطَّبَقَةُ الْمُخْبِرَةُ لَنَا بِوُجُودِهِ، وَالْوَاسِطَةُ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنْ طَبَقَاتِ الْمُخْبِرِينَ. فَتَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَاتِ مُسْتَكْمِلَةً لِعَدَدِ التَّوَاتُرِ ; فَلَوْ نَقَصَ بَعْضُهَا عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، خَرَجَ الْخَبَرُ عَنْ كَوْنِهِ مُتَوَاتِرًا ; لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ آحَادًا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ ; فَلَا يَنْقَلِبُ مُتَوَاتِرًا بَعْدُ. وَبِمِثْلِ هَذَا وَقَعَ الطَّعْنُ فِي تَوْرَاةِ الْيَهُودِ، وَإِنْجِيلِ النَّصَارَى، وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ أَسْلَافِهِمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَلُّوا - بِقَتْلِ بُخْتَنَصَّرَ لِأَكْثَرِهِمْ - عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، فَلَمْ يُفِدْ مَا نَقَلُوهُ الْعِلْمَ، وَكَذَلِكَ النَّصَارَى، كَانُوا عَلَى عَهْدِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَعْدَهُ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، قَلِيلًا، لَا يَحْصُلُ بِهِمُ التَّوَاتُرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَنْهُمْ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْعَدَدُ مِنْ شُرُوطِ التَّوَاتُرِ، وَمَا يَقُومُ مَقَامَ الْعَدَدِ مِنَ الْقَرَائِنِ كَمَا
(2/88)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ: هَلْ هُوَ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ أَوْ لَا؟ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ. اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا.
فَقِيلَ: أَقَلُّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ اثْنَانِ ; لِأَنَّهُمَا بَيِّنَةٌ مَالِيَّةٌ.
وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ ; لِأَنَّهُمْ بَيِّنَةٌ فِي الزِّنَى، وَجَزَمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّ خَبَرَهُمْ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ ; لِأَنَّهُ لَوْ أَفَادَ الْعِلْمَ، لَمَا احْتَاجُوا إِلَى التَّزْكِيَةِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَى ; لَكِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا إِجْمَاعًا ; فَلَا يُفِيدُ خَبَرُهُمُ الْعِلْمَ.
وَقِيلَ: خَمْسَةٌ ; عَدَدُ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُمْ عَلَى الْأَشْهَرِ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَتَوَقَّفَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ لِاحْتِمَالِهِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْإِجْمَاعُ عَلَى احْتِيَاجِهِمْ إِلَى التَّزْكِيَةِ، وَالتَّوَاتُرُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعَدَالَةِ.
وَقِيلَ: عِشْرُونَ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الْأَنْفَالِ: 65] ، وَيَلْزَمُ قَائِلُ هَذَا أَنْ يَجْعَلَهُمْ مِائَةً، بَلْ أَلْفًا، تَعْيِينًا وَتَخْيِيرًا، لِمَا فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مِنْ ذِكْرِ الْمِائَةِ وَالْأَلْفِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ: سَبْعُونَ، عَدَدُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ: أَرْبَعُونَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَنْفَالِ: 64] ، وَكَانُوا حِينَئِذٍ أَرْبَعِينَ.
وَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٌ، عَدَدُ أَصْحَابِ طَالُوتَ، وَأَهْلِ بَدْرٍ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ حِكَايَةً عَنْ غَيْرِهِ: أَوْ عَشَرَةٌ، عَدَدُ أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ.
قُلْتُ: وَهُوَ وَهْمٌ ; لِأَنَّ أَهْلَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، وَهِيَ بَيْعَةُ الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ،
(2/89)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ. وَالْمَذْكُورُ فِي «الرَّوْضَةِ» هُوَ الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ الْأُوَلُ.
قَوْلُهُ: «وَالْحَقُّ أَنَّ الضَّابِطَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ» ، أَيِ: الضَّابِطُ فِي حُصُولِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ حُصُولُ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ ; فَمَتَى حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْقَرَائِنِ، عَلِمْنَا حُصُولَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْخَبَرَ بِكَوْنِهِ مُجَرَّدًا عَنِ الْقَرَائِنِ ; لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ مَعَ الْقَرَائِنِ، وَلَا عَدَدَ فِيهِ ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُطْلَقِ حُصُولِ الْعِلْمِ حُصُولُ الْعَدَدِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقَرَائِنُ قَدْ تُفِيدُ مُنْضَمَّةً إِلَى عَدَدٍ مَا.
قَوْلُهُ: «وَلَا دَوْرَ» ، جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ فَرْعٌ عَلَى حُصُولِ الْعَدَدِ ; فَلَوْ عُرِّفَ حُصُولُ الْعَدَدِ بِحُصُولِ الْعِلْمِ، لَكَانَ دَوْرًا.
وَجَوَابُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ دَوْرٌ ; لِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ مَعْلُولُ الْإِخْبَارِ وَدَلِيلُهُ ; فَالْإِخْبَارُ عِلَّةُ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَمَدْلُولٌ لَهُ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ بِوُجُودِ الْمَعْلُولِ لَا دَوْرَ فِيهِ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِوُجُودِ الْعَالَمِ ; لِأَنَّهُ عِلَّتُهُ وَالْمُوجِدُ لَهُ، وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ لَازِمُ الْمَعْلُولِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ بِوُجُودِ الْمَلْزُومِ لَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ، وَهَذَا كَمَا نَقُولُ فِي الشِّبَعِ: هُوَ مَعْلُولُ الطَّعَامِ الْمُشْبِعِ وَدَلِيلُهُ، أَيْ دَلِيلُ الْمُشْبِعِ، إِذْ لَا شِبَعَ إِلَّا بِمُشْبِعٍ، وَالرِّيُّ: مَعْلُولُ الشَّرَابِ الْمُرْوِي وَدَلِيلُهُ، إِذْ لَا رِيَّ إِلَّا بِمُرْوٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ الْقَدْرُ الْكَافِي مِنَ
(2/90)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُشْبِعِ وَالْمُرْوِي ابْتِدَاءً، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، وَلَا يَعْلَمُ الْقَدْرَ الْكَافِي لَهُ فِي الشِّبَعِ وَالرِّيِّ قَبْلَ أَنْ يَشْبَعَ، لَكِنْ إِذَا شَبِعَ وَرَوِيَ، عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَنَاوَلَ مِنَ الطَّعَامِ قَدْرًا مُشْبِعًا، وَمِنَ الشَّرَابِ قَدْرًا مُرْوِيًا ; فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، لَا نَعْلَمُ مِقْدَارَ الْعَدَدِ الْمُحَصِّلِ لِلْعِلْمِ مَا هُوَ، فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْخَبَرِ، عَلِمْنَا حُصُولَ الْعَدَدِ الْمُحَصِّلِ لِلْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ لَازِمٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ وَشَرْطٌ لَهُ، وَالْمَشْرُوطُ وَالْمَلْزُومُ يَدُلَّانِ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ وَالشَّرْطِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: «وَلَا دَوْرَ» ، إِذْ حُصُولُ الْعِلْمِ مَعْلُولُ الْإِخْبَارِ وَدَلِيلُهُ، كَالشِّبَعِ وَالرِّيِّ مَعْلُولُ الْمُشْبِعِ وَالْمُرْوِي وَدَلِيلُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ ابْتِدَاءً - أَيْ عِنْدِ ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ - الْقَدْرُ الْكَافِي مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ: «وَمَا ذَكِرَ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ» ، يَعْنِي مَا سَبَقَ مِنَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ وَمَا بَعْدَهَا، «تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ» ; لِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْلُقُ الْعِلْمَ عِنْدَ حُصُولِ الْعَدَدِ الْمُخْبِرِ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ مُتَوَلِّدًا عَنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ، كَمَا قَالَ شُذُوذٌ مِنَ النَّاسِ ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ مَقْدُورٌ لَهُ، وَكُلُّ مَقْدُورٍ لَهُ ; فَإِنَّمَا يُوجَدُ بِإِيجَادِهِ، وَحُصُولُ الْعِلْمِ مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ فَيَكُونُ مَوْجُودًا بِإِيجَادِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ التَّوَاتُرِيَّ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى ; جَازَ أَنْ يَخْلُقَهُ عِنْدَ إِخْبَارِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ; فَمَا مِنْ عَدَدٍ يُفْرَضُ إِلَّا وَخَلْقُ الْعِلْمِ مُمْكِنٌ عِنْدَ أَقَلَّ مِنْهُ وَأَكْثَرَ، وَإِذَا كَانَ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ الْخَلْقَ ; فَعَدَدُ التَّوَاتُرِ سَبَبٌ مُعْتَادٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي
(2/91)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِيجَادِ الْعِلْمِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِهِ ; حَتَّى يُقَدَّرَ مَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْعَدَدِ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ.
قَوْلُهُ: «نَعَمْ لَوْ أَمْكَنَ الْوُقُوفُ» ، إِلَى آخِرِهِ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الْعَدَدَ الْمُحَصِّلَ لِلْعِلْمِ التَّوَاتُرِيِّ غَيْرُ مُقَدَّرٍ كَمَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ إِذَا خَلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعِلْمَ عِنْدَ عَدَدٍ مَا ; فَالْوُقُوفُ عَلَى مِقْدَارِ ذَلِكَ الْعَدَدِ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ مُحَالًا ; لَكِنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ لِعُسْرِهِ وَمَشَقَّتِهِ ; لَا لِامْتِنَاعِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ، «فَلَوْ أَمْكَنَ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَحْصُلُ لَنَا الْعِلْمُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ فِيهَا» ، لَأَمْكَنَنَا أَنْ نَعْرِفَ «أَقَلَّ قَدْرٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ» ، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَهَاهُنَا، مِنْ أَنَّ الظَّنَّ يَتَزَايَدُ بِزِيَادَةِ الْمُخْبِرِينَ تَزَايُدًا خَفِيًّا تَدْرِيجِيًّا، أَيْ: عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا يَسِيرًا بَعْدَ شَيْءٍ يَسِيرٍ، «كَتَزَايُدِ النَّبَاتِ، وَعَقْلِ الصَّبِيِّ، وَنُمُوِّ بَدَنِهِ» ، وَأَبْدَانِ سَائِرِ الْحَيَوَانِ، «وَضَوْءِ الصُّبْحِ، وَحَرَكَةِ الْفَيْءِ» لِخَفَاءِ حَرَكَةِ الشَّمْسِ فِي فَلَكِهَا لِبُعْدِهَا ; فَكَذَلِكَ الظَّنُّ، يَتَحَرَّكُ بِأَوَّلِ مُخْبِرٍ، ثُمَّ يَزِيدُ بِالثَّانِي، وَالثَّالِثِ، وَهَلُمَّ جَرًّا، حَتَّى يَحْصُلَ الْعِلْمُ ; فَلَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ مَثَلًا بِإِخْبَارِ الْخَامِسِ، وَأَمْكَنَنَا أَنَّ نُدْرِكَ ذَلِكَ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ قَدْ أَفَادَتِ الْعِلْمَ، أَوْ بِإِخْبَارِ السَّادِسِ، أَوِ السَّابِعِ فَصَاعِدًا ; فَكَذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِنَا هَذَا فِي «الْمُخْتَصِرِ» نَظَرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْعِلْمَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ ; لَمْ يَلْزَمْ مِنْ وُقُوفِنَا عَلَى حَقِيقَةِ اللَّحْظَةِ الَّتِي يَحْصُلُ
(2/92)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَنَا الْعِلْمُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ فِيهَا أَنْ نَعْلَمَ أَقَلَّ قَدْرٍ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِ مُطْلَقًا ; لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُقَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ إِخْبَارِ عَشَرَةٍ، وَفِي الْأُخْرَى عِنْدَ إِخْبَارِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ ; فَاعْلَمْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/93)
________________________________________
وَلَا تُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْمُخْبِرِينَ، وَلَا إِسْلَامُهُمْ ; لِأَنَّ مَنَاطَ حُصُولِ الْعِلْمِ الْكَثْرَةُ، وَلَا عَدَمُ انْحِصَارِهِمْ فِي بَلَدٍ، أَوْ عَدَدٍ، لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِإِخْبَارِ الْحَجِيجِ، وَأَهْلِ الْجَامِعِ، عَنْ صَادٍّ عَنِ الْحَجِّ، أَوْ مَانِعٍ مِنَ الصَّلَاةِ، وَلَا عَدَمُ اتِّحَادِ الدِّينِ وَالنَّسَبِ لِذَلِكَ، وَلَا عَدَمُ اعْتِقَادِ نَقِيضِ الْمُخْبَرِ بِهِ، خِلَافًا لِلْمُرْتَضَى.
وَكِتْمَانُ أَهْلِ التَّوَاتُرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى نَقْلِهِ مُمْتَنِعٌ، خِلَافًا لِلْإِمَامِيَّةِ، لِاعْتِقَادِهِمْ كِتْمَانَ النَّصِّ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ. لَنَا: أَنَّهُ كَتَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
قَالُوا: تَرَكَ النَّصَارَى نَقْلَ كَلَامِ عِيسَى فِي الْمَهْدِ. قُلْنَا: لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ لَهُ، وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ حَاضِرِي كَلَامِهِ لَمْ يَكُونُوا كَثِيرِينَ.
وَفِي جَوَازِ الْكَذِبِ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ خِلَافٌ، الْأَظْهَرُ الْمَنْعُ عَادَةً، وَهُوَ مَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَا تُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْمُخْبِرِينَ وَلَا إِسْلَامُهُمْ» ، يَعْنِي فِي التَّوَاتُرِ ; لِأَنَّ مَنَاطَ حُصُولِ الْعِلْمِ كَثْرَتُهُمْ، بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ عَادَةً تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، لَا الْعَدَالَةُ وَالْإِسْلَامُ وَسَائِرُ أَوْصَافِ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَاتِ ; وَأَخْبَارِ الْآحَادِ ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُفِيدُ الظَّنَّ، أَمَّا التَّوَاتُرُ فَهُوَ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَوِ النَّظَرِيِّ كَمَا سَبَقَ ; فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ اعْتِبَارِ أَوْصَافِ الْمُخْبِرِينَ الْمُرَادَةِ ; لِتَقْوِيَةِ الظَّنِّ وَغَلَبَتِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ تَقْبَلُوا أَخْبَارَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى كَثْرَتِهِمْ ; بِأَنَّ شَرْعَهُمْ بَاقٍ أَبَدًا لَا يُنْسَخُ، وَنَحْوَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْقَادِحَةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؟
قُلْنَا: لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا سَبَقَ مِنِ اخْتِلَالِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ فِي أَخْبَارِهِمْ لِقِلَّتِهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى حُصُولِ الْعَدَدِ، وَنَحْنُ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا الْعِلْمُ بِصِحَّةِ مَا قَالُوا ; فَعَلِمْنَا جَزْمًا أَنَّ الْعَدَدَ لَمْ يَحْصُلْ، إِذْ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ
(2/94)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا اسْتِنَادَ إِلَيْهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ مَوْضُوعَاتِهِمْ، وَمَوْضُوعَاتِ الزَّنَادِقَةِ لَهُمْ، كَابْنِ الرَّاوَنْدِيِّ وَنَحْوِهِ ; فَإِنَّهُ يُقَالُ: هُوَ الَّذِي نَبَّهَهُمْ أَنْ يَحْكُوا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ، أَوْ شَرِيعَتِي بَاقِيَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
قَوْلُهُ: «وَلَا عَدَمُ انْحِصَارِهِمْ» ، أَيْ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا فِي التَّوَاتُرِ عَدَمُ انْحِصَارِ الْمُخْبِرِينَ فِي بَلَدٍ، أَوْ عَدَدٍ أَيْ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونُوا بِحَيْثُ لَا يَحْصُرُهُمْ عَدَدٌ وَلَا بَلَدٌ، لِانْتِشَارِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي الْبُلْدَانِ، «لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِإِخْبَارِ الْحَجِيجِ، وَأَهْلِ الْجَامِعِ، عَنْ صَادٍّ عَنِ الْحَجِّ، أَوْ مَانِعٍ مِنَ الصَّلَاةِ» يَعْنِي أَنَّ النَّاسَ الْمُجْتَمِعِينَ فِي الْحَجِيجِ، لَوْ أَخْبَرُوا أَنَّهُ عَرَضَ لَهُمْ مَانِعٌ مِنَ الْحَجِّ فِي عَامِهِمْ ذَلِكَ، كَعَدُوٍّ صَدَّهُمْ عَنِ الْبَيْتِ، أَوْ فِتْنَةٍ وَقَعَتْ، أَوْ غَوْرِ عُيُونِ الْمَاءِ فِي الطَّرِيقِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لَحَصَلَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، مَعَ أَنَّهُمْ مَحْصُورُونَ تَحْتَ عَدَدٍ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ لِمَنْ أَرَادَهُ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، لَوْ أَخْبَرُوا بِوُجُودِ مَانِعٍ مِنَ الصَّلَاةِ، كَفَقْدِ الْإِمَامِ مِنْ بَيْنِهِمْ، أَوْ وُقُوعِ الْخَطِيبِ عَنِ الْمِنْبَرِ، أَوْ هُجُومِ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ، حَصَلَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، مَعَ انْحِصَارِهِمْ تَحْتَ الْعَدَدِ، وَفِي مَسْجِدٍ ; فَضْلًا عَنْ بَلَدٍ.
قَوْلُهُ: «وَلَا عَدَمَ اتِّحَادِ الدِّينِ وَالنَّسَبِ» ، أَيْ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي عَدَدِ التَّوَاتُرِ اخْتِلَافُ دِينِهِمْ وَنَسَبِهِمْ لِذَلِكَ أَيْ: لِمَا ذُكِرَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ انْحِصَارِهِمْ فِي عَدَدٍ أَوْ بَلَدٍ.
قُلْتُ: هَذَا وَهْمٌ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ; لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ انْحِصَارِهِمْ فِي عَدَدٍ أَوْ بَلَدٍ، لَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ اخْتِلَافِ دِينِهِمْ وَنَسَبِهِمْ، بَلِ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ:
(2/95)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَنَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، أَوِ النَّصَارَى، أَوْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَحَصَلَتْ شُرُوطُ التَّوَاتُرِ فِيهِمْ ; لَجَازَ أَنْ يَحْصُلَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، وَذَلِكَ يَنْفِي اشْتِرَاطَ اتِّحَادِ الدِّينِ، وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلْمَ التَّوَاتُرِيَّ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ، وَكَمَا جَازَ أَنْ يَخْلُقَهُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْبَلَدِ، جَازَ أَنْ يَخْلُقَهُ مَعَ اتِّحَادِهَا.
وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ الْيَهُودُ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - لِيَقْدَحُوا فِي أَخْبَارِ النَّصَارَى بِمُعْجِزَاتِ الْمَسِيحِ، وَفِي أَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ بِمُعْجِزَاتِ مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مُنْحَصِرَةٌ فِي دِينٍ وَاحِدٍ. أَمَّا الْيَهُودُ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ ; فَقَدْ أَمِنُوا ذَلِكَ ; لِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ يُوَافِقُونَهُمْ فِي الْمُخْبِرِينَ عَلَى مُعْجِزَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنَبُّوتِهِ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطُوا فِي الْمُخْبِرِينَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الذِّلَّةِ، يَعْنِي: لِيُمْكِنَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ لَوْ كَذَّبُوا، بِخِلَافِ مَنْ لَهُ عِزٌّ وَمَنَعَةٌ وَظُهُورٌ ; فَإِنَّهُ يُخْشَى مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِ ; فَجَعَلُوا هَذَا الشَّرْطَ قَادِحًا فِي أَخْبَارِ النَّصَارَى وَالْمُسْلِمِينَ عَنْ مُعْجِزَاتِ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ; لِأَنَّ الْيَهُودَ مُنْذُ آذَوُا الْمَسِيحَ، اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِمُ النَّصَارَى ; فَأَذَلَّتْهُمْ وَقَمَعَتْهُمْ، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، فَلَمْ يَزَالُوا مَعَهُمْ أَذِلَّةً حَتَّى ظَهَرَ مُحَمَّدٌ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَآذَوْهُ وَكَذَّبُوهُ ; فَأَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِلَّتَهُمْ بِهِ وَقَرَّرَهَا ; فَهِيَ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، جَعَلُوا عِزَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَقُوَّتَهُمْ مَظِنَّةَ تُهْمَةٍ قَادِحَةٍ فِي أَخْبَارِهِمْ، مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
قَوْلُهُ: «وَلَا عَدَمُ اعْتِقَادِ نَقِيضِ الْمُخْبَرِ بِهِ، خِلَافًا لِلْمُرْتَضَى» ، أَيْ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي إِفَادَةِ التَّوَاتُرِ الْعِلْمَ خُلُوُّ السَّامِعِ مَنْ نَقِيضِ الْمُخْبَرِ بِهِ، بَلْ سَوَاءٌ كَانَ السَّامِعُ يَعْتَقِدُ نَقِيضَ الْمُخْبَرِ بِهِ، أَوْ لَا يَعْتَقِدُهُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوَاتُرِ حَاصِلٌ بِحُكْمِ إِجْرَاءِ اللَّهِ تَعَالَى
(2/96)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَادَةَ بِذَلِكَ ; فَإِنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِمَكَّةَ وَبَغْدَادَ، وَمُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَكِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَفَتْحِ مَكَّةَ وَعْكَةَ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْقَضَايَا التَّوَاتُرِيَّةِ، بَيْنَ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ نَقِيضَ ذَلِكَ لَوْ تَصَوَّرَ، وَمَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ، لَكِنَّ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ ; فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَهُ.
وَقَالَ الْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ: إِنَّ عَدَمَ اعْتِقَادِ السَّامِعِ نَقِيضَ الْمُخْبَرِ بِهِ شَرْطٌ فِي إِفَادَةِ التَّوَاتُرِ الْعِلْمَ. وَلِقَوْلِهِ تَوْجِيهٌ وَفَائِدَةٌ.
أَمَّا تَوْجِيهُهُ: فَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ مَحَلُّ الْعِلْمِ، فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِيهِ نَقِيضُ الْمُخْبَرِ بِهِ، جَاءَ الْمُخْبَرُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ دَخِيلًا عَلَيْهِ، ضَعِيفًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ; فَلَا يَقْوَى عَلَى دَفْعِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ الِاجْتِمَاعُ مَعَ نَقِيضِهِ ; فَيَرْجِعُ مَكْسُورًا، وَيَبْقَى نَقِيضُهُ مُسْتَوْلِيًا عَلَى مَحَلِّ الْعِلْمِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْقَلْبُ خَالِيًا مِنْ نَقِيضِ الْمُخْبَرِ بِهِ ; فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُصَادِفُ مَحَلًّا فَارِغًا، لَا مُنَازِعَ فِيهِ، وَلَا مُمَانِعَ عَنْهُ ; فَيَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ الشَّاعِرُ:
دَهَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى ... فَصَادَفَ قَلْبًا فَارِغًا فَتَمَكَّنَّا
وَأَمَّا فَائِدَةُ قَوْلِهِ فَهُوَ: أَنَّ الشِّيعَةَ يَدَّعُونَ النَّصَّ الْمُتَوَاتِرَ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا مَنَعَ الْجُمْهُورَ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ اعْتِقَادُهُمْ لِنَقِيضِهِ، وَهُوَ إِمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ
(2/97)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قُلْتُ: الْجَوَابُ عَنِ التَّوْجِيهِ الْمَذْكُورِ: أَنَّهُ - فِيمَا أَحْسِبُ - مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ التَّوَاتُرِيَّ حَاصِلٌ عَنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ عَلَى جِهَةِ التَّوَلُّدِ ; فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَوَلَّدَ الْعِلْمُ فِي مَحَلِّ نَقِيضِهِ أَوْ ضِدَّهُ، وَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْإِخْبَارِ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: كَمَا جَازَ أَنْ يَخْلُقَهُ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ نَقِيضِهِ، جَازَ أَنْ يَخْلُقَهُ مَعَ وُجُودِ نَقِيضِهِ فِي الْقَلْبِ، وَيَجْعَلَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَدْفَعُ النَّقِيضَ، وَيَسْتَقِرُّ هُوَ مَكَانَهُ، كَمَا يَدْفَعُ الْيَقِينُ الشَّكَّ وَالظَّنَّ، خُصُوصًا وَالِاعْتِقَادُ أَضْعَفُ مِنَ الْعِلْمِ التَّوَاتُرِيِّ عَلَى مَا لَا يَخْفَى ; فَيَقْوَى الْعِلْمُ عَلَى رَفْعِهِ، وَكَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ الْغَرِيبَ الْقَوِيَّ يَأْتِي مَلِكَ بَعْضِ الْأَقَالِيمِ فِي مَمْلَكَتِهِ وَجُنُودِهِ وَحُصُونِهِ ; فَيُخْرِجُهُ مِنْهَا، وَيَخْلُفُهُ فِيهَا، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشُّعَرَاءِ: 57 - 59] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النَّمْلِ: 34] ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ مُتَنَاقِضَانِ، وَإِنَّمَا يَصْدُرَانِ عَنِ اعْتِقَادِ صِحَّتِهِمَا، ثُمَّ قَدْ جَازَ بِالضَّرُورَةِ انْدِفَاعُ الْكُفْرِ بِالْإِيمَانِ، وَانْدِفَاعُ الْإِيمَانِ بِالْكُفْرِ، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا صَادِرَيْنِ عَنِ اعْتِقَادٍ ; فَانْدِفَاعُ نَقِيضِ الْمُخْبَرِ بِهِ بِالْعِلْمِ التَّوَاتُرِيِّ أَوْلَى.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْفَائِدَةِ الْمَذْكُورَةِ: هُوَ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ النَّصَّ الْجَلِيَّ لَمْ يُوجَدْ، لَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَلَا عَلَى عَلِيٍّ، إِذْ لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ، اسْتَحَالَ فِي الْعَادَةِ خَفَاؤُهُ، إِذْ كَانَ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ آحَادٌ، مِنْهَا ظَاهِرُ
(2/98)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدَّلَالَةِ، وَمِنْهَا خَفِيُّ الدَّلَالَةِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اقْتَدَوْا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَوْلِهِ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بِعْدِي. وَمَا قَالَ فِيهِ يَوْمَ «غَدِيرِ خُمٍّ» وَفِيهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مُتَمَسَّكٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصًّا جَلِيًّا مُتَوَاتِرًا،
(2/99)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنَّمَا مَنَعَ الشِّيعَةَ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ اعْتِقَادُهُمْ لِنَقِيضِهِ، وَهُوَ إِمَامَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ ; فَلَا يَبْقَى حِينَئِذٍ لِقَوْلِ الْمُرْتَضَى تَوْجِيهٌ وَلَا فَائِدَةٌ، وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَتِ الشِّيعَةُ، وَابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُخْبِرِينَ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ، لِيَكُونَ خَبَرُهُمْ مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّهُمْ مُنَازِعُونَ فِي وُجُودِ الْعِصْمَةِ فِي غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ.
وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ عِصْمَةَ خَبَرِهِمْ مِنَ الْكَذِبِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى كَثْرَتِهِمْ، لَا إِلَى أَوْصَافِهِمْ، وَإِلَّا لَاشْتَرَطَتِ الْعَدَالَةَ وَالْإِسْلَامَ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، مُقَارِنًا لِلْإِخْبَارِ ; فَكَمَا جَازَ خَلْقُهُ مَعَ إِخْبَارِ الْمَعْصُومِ، جَازَ خَلْقُهُ مَعَ إِخْبَارِ الْمَوْصُومِ.
ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي بِلَادِ الْكُفْرِ تَوَاتُرٌ، إِذْ لَا مَعْصُومَ فِيهِمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ لَا يَشْتَرِطُوا لِلْعِصْمَةِ الْإِسْلَامَ، فَإِنَّ عُقُولَهُمْ أَسْخَفُ مِنْ هَذَا.
قَوْلُهُ: «وَكِتْمَانُ أَهْلِ التَّوَاتُرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى نَقْلِهِ مُمْتَنِعٌ خِلَافًا لِلْإِمَامِيَّةِ» ، أَيْ: إِنَّ أَهْلَ التَّوَاتُرِ - وَهُوَ الْعَدَدُ الَّذِي يَحْصُلُ الْعِلْمُ التَّوَاتُرِيُّ بِخَبَرِهِمْ - هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكْتُمُوا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى نَقْلِهِ؟
فَالْجُمْهُورُ قَالُوا: لَا يَجُوزُ.
وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ - وَهُمْ أَشْهَرُ طَوَائِفِ الشِّيعَةِ -: يَجُوزُ ذَلِكَ، لِاعْتِقَادِهِمْ كِتْمَانَ النَّصِّ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَيْ: لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَعَ كَثْرَتِهِمْ - كَتَمُوا النَّصَّ عَلَى إِمَامَةِ عَلِيٍّ، وَالْوُقُوعُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ قَطْعًا.
«لَنَا» : أَنَّ كِتْمَانَهُمْ لِمَا يُحْتَاجُ إِلَى نَقْلِهِ «كَتَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ» وَتَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِكِتْمَانِهِمْ لِمَا يُحْتَاجُ إِلَى نَقْلِهِ مُحَالٌ.
أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّ كِتْمَانَ الْوَاقِعِ - خُصُوصًا مَعَ الْحَاجَةِ إِلَى نَقْلِهِ - بِمَثَابَةِ قَوْلِهِمْ:
(2/100)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَا وَقَعَ، وَقَوْلُهُمْ لِمَا وَقَعَ: إِنَّهُ مَا وَقَعَ ; كَذِبٌ قَطْعًا ; لِأَنَّ الْكَذِبَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ، وَهَذَا كَذَلِكَ ; فَكَذَلِكَ الْكِتْمَانُ الَّذِي هُوَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِمْ: مَا وَقَعَ.
أَمَّا أَنَّ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ مُحَالٌ ; فَلِمَا سَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَنَا: أَنَّهُ كَتَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَهُوَ مُحَالٌ» .
قَوْلُهُ: «قَالُوا: تَرْكُ النَّصَارَى نَقَلَ كَلَامِ عِيسَى فِي الْمَهْدِ» . هَذِهِ شُبْهَةُ الْإِمَامِيَّةِ عَلَى جَوَازِ كِتْمَانِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى نَقْلِهِ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنِ النَّصَارَى تَرَكُوا نَقْلَ كَلَامِ عِيسَى فِي الْمَهْدِ، حَتَّى لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَهُمْ، مَعَ أَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَى نَقْلِهِ، وَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَيْهِ ; فَهَذِهِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الدَّعْوَى قَدْ وَقَعَتْ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الدَّعْوَى.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ لَهُ» ، هَذَا جَوَابٌ عَنْ شُبَهِهِمْ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ كَلَامَهُ فِي الْمَهْدِ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ، وَالدَّوَاعِي إِنَّمَا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ كَلَامَهُ فِي الْمَهْدِ كَانَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ، وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِ مِثْلِهِ عَادَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّاقِلُونَ أَتْبَاعًا لِلْمَنْقُولِ عَنْهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ أَنَّ حَاضِرِي كَلَامِ الْمَسِيحِ فِي الْمَهْدِ لَمْ يَكُونُوا كَثِيرِينَ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، بَلْ إِنَّمَا كَانُوا زَكَرِيَّا وَأَهْلَ مَرْيَمَ، وَمَنْ يُخْتَصُّ بِهِمْ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ مُتَوَاتِرًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَوَاتُرِهِ عَدَمُ نَقْلِهِ مُطْلَقًا، لِجَوَازِ أَنَّهُمْ نَقَلُوهُ وَلَمْ يَتَوَاتَرْ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْقُلُوهُ، بَلْ نَقَلُوهُ، وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَهُمْ فِي إِنْجِيلِ الصَّبْوَةِ، يَعْنِي الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَحْوَالُ عِيسَى فِي صَبْوَتِهِ،
(2/101)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُنْذُ وُلِدَ إِلَى أَنْ رُفِعَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ نَقْلُهُمْ لِذَلِكَ عِنْدَنَا لِعَدَمِ مُشَارَكَتِنَا لَهُمْ فِي سَبَبِهِ، أَوْ لِاسْتِغْنَائِنَا عَنْهُ بِتَوَاتُرِ الْقُرْآنِ.
قَوْلُهُ: «وَفِي جَوَازِ الْكَذِبِ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ خِلَافٌ» ، أَيْ: هَلْ يَجُوزُ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ الْكَذِبُ فِي خَبَرِهِ جَوَازًا عَقْلِيًّا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ: الْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ فِي الْعَادَةِ، لَا لِذَاتِهِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَادَةً ; فَهُوَ مِنَ الْمُمْتَنِعَاتِ الْعَادِيَّةِ، كَانْقِلَابِ الْحَجَرِ ذَهَبًا، وَالْبَحْرِ لَبَنًا وَعَسَلًا، لَا مِنَ الْمُمْتَنِعَاتِ لِذَاتِهَا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ مَأْخَذُ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ» ، أَعْنِي جَوَازَ كِتْمَانِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَى نَقْلِهِ. فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ، جَازَ عَلَيْهِمُ الْكِتْمَانُ الْمَذْكُورُ ; لِأَنَّهُ كَذِبٌ أَوْ فِي مَعْنَاهُ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ، لَمْ يَجُزِ الْكِتْمَانُ الْمَذْكُورُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/102)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ
وَهُوَ لُغَةً: الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالرِّيحُ الْأَثَرَ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُشْبِهُ النَّقْلَ، نَحْوَ نَسَخْتُ الْكِتَابَ، وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الرَّفْعِ.
وَشَرْعًا: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمَ، زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، وَهُوَ حَدٌّ لِلنَّاسِخِ لَا لِلنَّسْخِ، لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ.
وَقِيلَ: هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ، بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ.
فَالرَّفْعُ: إِزَالَةُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَبَقِيَ ثَابِتًا، كَرَفْعِ الْإِجَارَةِ بِالْفَسْخِ ; فَإِنَّهُ يُغَايِرُ زَوَالَهَا بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا. وَبِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ حُكْمِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، إِذْ لَيْسَ بِنَسْخٍ. وَبِخِطَابٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ ; فَلَيْسَ بِنَسْخٍ. وَاشْتِرَاطُ التَّرَاخِي احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِمُتَّصِلٍ، كَالشَّرْطِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ، وَنَحْوِهِ ; فَإِنَّهُ بَيَانٌ لَا نَسْخٌ.
وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، بِمِثْلِهِ، مُتَرَاخٍ عَنْهُ. لِيَدْخُلَ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ، أَوْ إِقْرَارٍ ; فِيهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«الْقَوْلُ فِي النَّسْخِ: وَهُوَ لُغَةً» - أَيْ: فِي اللُّغَةِ - الرَّفْعُ وَالْإِزَالَةُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، أَيْ: رَفَعَتْهُ وَأَزَالَتْهُ ; لِأَنَّ الشَّمْسَ إِذَا قَابَلَتْ مَوْضِعَ الظِّلِّ، ارْتَفَعَ وَزَالَ، وَالرِّيحَ إِذَا مَرَّتْ عَلَى آثَارِ الْمَشْيِ، ارْتَفَعَتْ وَزَالَتْ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ يُرَادُ بِهِ» ، أَيْ: بِالنَّسْخِ، مَا يُشْبِهُ النَّقْلَ نَحْوَ: نَسَخْتُ الْكِتَابَ، فَإِنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ لَيْسَ نَقْلًا لِمَا فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهُ حَقِيقَةً، لِبَقَائِهِ بَعْدَ النَّسْخِ،
(2/251)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنَّمَا هُوَ مُشْبِهٌ لِلنَّقْلِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا فِي الْأَصْلِ صَارَ مِثْلَهُ فِي الْفَرْعِ، لَفْظًا وَمَعْنًى.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ، وَهُوَ انْتِقَالُ حَالِهَا بِانْتِقَالِهَا مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، مَعَ بَقَاءِ الْمَوَارِيثِ فِي نَفْسِهَا.
قَوْلُهُ: «وَاخْتُلِفَ فِي أَيِّهِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ» ، أَيِ: اخْتُلِفَ فِي النَّسْخِ، فِي أَيِّ الْمَعْنَيَيْنِ هُوَ حَقِيقَةٌ، هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، أَوْ فِي النَّقْلِ وَمَا يُشْبِهُهُ؟ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَالثَّالِثُ: عَكْسُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّقْلِ، مَجَازٌ فِي الْإِزَالَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَفَّالِ. ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَأَصْحَابَهَا الْآمِدِيُّ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ فِي الرَّفْعِ» ، أَيِ: الْأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ التَّعَارُضَ فِي الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، قَدْ وَقَعَ بَيْنَ الِاشْتِرَاكِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَبَيْنَ الْمَجَازِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَجَازَ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ ; فَيَبْقَى الْأَمْرُ دَائِرًا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي الرَّفْعِ، مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، أَوْ فِي الْعَكْسِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الرَّفْعَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْلِ ; فَيَكُونُ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ النَّسْخِ.
(2/252)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا أَنَّ الرَّفْعَ أَخَصُّ مِنَ النَّقْلِ ; فَلِأَنَّ الرَّفْعَ يَسْتَلْزِمُ النَّقْلَ، وَالنَّقْلَ لَا يَسْتَلْزِمُ الرَّفْعَ ; فَيَكُونُ الرَّفْعُ أَخَصَّ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْجَوَاهِرِ الْمَحْسُوسَةِ ; فَإِنَّكَ إِذَا رَفَعْتَ حَجَرًا مِنْ مَكَانٍ، اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ نَقْلَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَزُولَ عَنْ مَكَانِهِ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ، بِأَنْ يُعْدِمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَقُولَ لَهُ: كُنْ عَدَمًا ; فَيَكُونَ، مَعَ أَنَّهُ لَا رَفْعَ هُنَاكَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا رَفْعَ هُنَاكَ، بَلْ هُنَاكَ رَفْعٌ إِلَهِيٌّ غَيْرُ مَحْسُوسٍ.
وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ الرَّفْعُ أَخَصَّ، كَانَ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ ; فَلِأَنَّ الْأَخَصَّ أَبْيَنُ وَأَدَلُّ وَأَوْضَحُ ; فَيَكُونُ بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تَدُلُّ بِدُونِ قَرِينَةٍ، وَذَلِكَ لِوُضُوحِهَا، بِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِمَعْنَاهَا ; فَحَصَلَ بِذَلِكَ التَّنَاسُبُ فِي الْوُضُوحِ بَيْنَ الْأَخَصِّ وَالْحَقِيقَةِ ; فَكَانَ بِهَا أَوْلَى.
وَقَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِأَنَّ الْأَعَمَّ أَكْثَرُ فَائِدَةٍ ; فَيَكُونُ أَوْلَى ; بِأَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي اللَّفْظِ.
أَمَّا أَنَّ الْأَعَمَّ أَكْثَرُ فَائِدَةً ; فَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْمَلُهُ الْأَخَصُّ، كَالْحَيَوَانِ الَّذِي يَشْمَلُ مِنَ الْأَفْرَادِ أَكْثَرَ مِمَّا يَشْمَلُهُ الْإِنْسَانُ ; فَيَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً بِالضَّرُورَةِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةً، كَانَ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ ; فَلِأَنَّ الْأَلْفَاظَ وُضِعَتْ لِإِفَادَةِ الْمَعَانِي ; فَكُلَّمَا كَانَتْ إِفَادَتُهَا لِلْمَعَانِي أَكْثَرَ، كَانَتْ بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
فَإِذَا عَرَفْتَ مَا عَلَى الْمُخْتَارِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» مِنَ التَّوْجِيهِ وَالِاعْتِرَاضِ ; فَالتَّحْقِيقُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ:
الْإِزَالَةُ وَالنَّقْلُ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّهُمَا حِينَئِذٍ مُتَرَادِفَانِ ; فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: النَّسْخُ: الْإِزَالَةُ، وَالنَّسْخُ: النَّقْلُ. أَوْ يَكُونَا مُتَفَاوِتَيْنِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَتَكُونُ الْإِزَالَةُ أَوْلَى بِحَقِيقَةِ النَّسْخِ مِنَ النَّقْلِ ; لِأَنَّهُ
(2/253)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْفَقُ لِكَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ ; إِذْ كَانَ تَرْجِيحًا بِالْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ عُمُومُ اللَّفْظِ وَخُصُوصُهُ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ التَّعَارُضُ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ; فَيَرْجِعُ إِلَى التَّرْجِيحِ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، مِنْ أَنَّ النَّسْخَ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَانْتَسَخَتْهُ: أَزَالَتْهُ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ آثَارَ الدِّيَارِ: غَيَّرَتْهَا، وَنَسَخْتُ الْكِتَابَ وَانْتَسَخْتُهُ وَاسْتَنْسَخْتُهُ: كُلُّهُ بِمَعْنًى، وَنَسْخُ الْآيَةِ بِالْآيَةِ: إِزَالَةُ مِثْلِ حُكْمِهَا ; فَالثَّانِيَةُ نَاسِخَةٌ، وَالْأُولَى مَنْسُوخَةٌ، وَالتَّنَاسُخُ فِي الْمِيرَاثِ: أَنْ يَمُوتَ وَرَثَةٌ بَعْدَ وَرَثَةٍ، وَأَصْلُ الْمِيرَاثِ قَائِمٌ لَمْ يُقَسَّمْ. هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ بِلَفْظِ الْإِزَالَةِ.
قُلْتُ: وَإِنْ جَعَلَ النَّسْخَ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ وَالنَّقْلِ وَمَا يُشْبِهُهُ، وَهُوَ التَّغْيِيرُ، كَانَ أَوْلَى. وَقَدْ صَرَّحَ الْجَوْهَرِيُّ بِلَفْظِ التَّغْيِيرِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَقَدْ أَطَلْتُ الْكَلَامَ فِي هَذَا، وَهُوَ مِنْ رِيَاضِيَّاتِ هَذَا الْعِلْمِ، لَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ.
قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» ، أَيْ: وَالنَّسْخُ فِي الشَّرْعِ، قَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ الْمُتَقَدِّمَ زَائِلٌ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ حَدٌّ لِلنَّاسِخِ، لَا لِلنَّسْخِ» ، أَيْ: تَعْرِيفُ النَّسْخِ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ، إِلَى آخِرِهِ، غَيْرُ مُطَابِقٍ ; لِأَنَّ الْخِطَابَ نَاسِخٌ، لَا نَسْخٌ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ مَصْدَرُ: نَسَخَ
(2/254)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَنْسَخُ نَسْخًا، وَالْخِطَابُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَصْدَرَ خَاطَبَ خِطَابًا، حَتَّى يَكُونَ تَعْرِيفُ مَصْدَرٍ بِمَصْدَرٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ فِي اللَّفْظِ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ الْقَوْلُ الدَّالُّ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: «لَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ» ، أَيْ: تَعْرِيفُ النَّسْخِ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمُ: الْخِطَابُ الدَّالُّ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ يَسْتَلْزِمُ النَّسْخَ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ، أَوِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَكَانِ: أَنَّ النَّسْخَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْإِضَافِيَّةِ، الَّتِي يَدُلُّ اللَّفْظُ مِنْهَا عَلَى مُتَعَلِّقَاتٍ لَهُ ; فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نَاسِخٍ، وَمَنْسُوخٍ، وَمَنْسُوخٍ لَهُ، وَمَنْسُوخٍ بِهِ، وَنَسْخٍ ; فَيَجِبُ الْكَشْفُ عَنْ حَقَائِقِ هَذِهِ الْأُمُورِ، لِيَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
فَالنَّاسِخُ فِي الْحَقِيقَةِ: هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; لِأَنَّهُ الرَّافِعُ لِلْأَحْكَامِ، وَالْمُزِيلُ لَهَا، وَيُطْلَقُ النَّاسِخُ مَجَازًا عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي يُزِيلُ اعْتِبَارَ لَفْظِ غَيْرِهِ، وَعَلَى الْحُكْمِ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ، كَمَا يُقَالُ: هَذِهِ الْآيَةُ نَسَخَتْ تِلْكَ، وَهَذَا الْحُكْمُ نَسَخَ ذَلِكَ الْحُكْمَ، كَمَا يُقَالُ: وُجُوبُ التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ نَسَخَ وُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَالْمَنْسُوخُ هُوَ الْحُكْمُ الْمُرْتَفِعُ بِغَيْرِهِ كَالتَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وَالْمَنْسُوخُ لَهُ عِلَّةُ النَّسْخِ، وَهُوَ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْحِكْمَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لَهُ، أَوْ إِرَادَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِتِلْكَ الْحِكْمَةِ، فَإِنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِلَّةٌ بَعِيدَةٌ، وَالْحِكْمَةَ الْمُقْتَضِيَةَ لِلنَّسْخِ عِلَّةٌ قَرِيبَةٌ.
وَالْمَنْسُوخُ بِهِ هُوَ اللَّفْظُ، وَالْحُكْمُ الرَّافِعُ لِغَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ}
(2/255)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الْبَقَرَةِ: 144] ، الدَّالِّ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذَا الْمَنْسُوخُ بِهِ، هُوَ الَّذِي سَبَقَ أَنَّهُ يُسَمَّى نَاسِخًا مَجَازًا.
وَالنَّسْخُ نِسْبَةٌ بَيْنَ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِخِ الْمَنْسُوخَ بِهِ، فِي إِزَالَةِ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ.
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا، عَرَفْتَ أَنَّ تَعْرِيفَ النَّسْخِ بِالْخِطَابِ الدَّالِّ تَعْرِيفٌ لِلنَّسْخِ بِالنَّاسِخِ، وَلَكِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ، لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ» ، أَيْ، فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ: «هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ، بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ» . هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلنَّسْخِ، مُطَابِقٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ; لِأَنَّ الرَّافِعَ مَصْدَرٌ، كَمَا أَنَّ النَّسْخَ مَصْدَرٌ وَلَيْسَ هَذَا تَعْرِيفًا لِلنَّسْخِ بِالنَّاسِخِ.
وَقَوْلُهُ: «بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ» ، هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّابِتِ.
وَقَوْلُهُ: «بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ» ، مُتَعَلِّقٌ بِرَفْعِ الْحُكْمِ.
وَتَقْرِيرُهُ النَّسْخَ: هُوَ أَنْ يُرْفَعَ بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ.
ثُمَّ فَسَّرَ الرَّفْعَ بِأَنَّهُ إِزَالَةُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ، لَوْلَاهُ لَبَقِيَ ثَابِتًا، كَرَفْعِ الْإِجَارَةِ بِالْفَسْخِ ; فَإِنَّهُ يُغَايِرُ زَوَالَهَا بِانْقِضَاءِ مُدَّتِهَا ; لِأَنَّ فَسْخَهَا قَطْعٌ لِدَوَامِهَا، لِسَبَبٍ خَفِيٍّ عَنِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَانْقِضَاءُ مُدَّتِهَا هُوَ ارْتِفَاعُ حُكْمِهَا لِسَبَبٍ عَلِمَاهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْأَجَلِ ; فَمَنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً، عَلِمَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ أَنَّ عِنْدَ انْتِهَاءِ السَّنَةِ، يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ، وَلَوِ انْقَطَعَ مَاءُ الْأَرْضِ، أَوْ بَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ ; فَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْفَسْخُ، مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ
(2/256)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِانْقِطَاعِ مَاءِ الْأَرْضِ، وَاسْتِحْقَاقِهَا ; فَكَذَلِكَ نَسْخُ الْحُكْمِ، هُوَ قَطْعٌ لِدَوَامِهِ، لَا بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّتِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى نَسْخًا، كَمَا أَنَّ انْقِضَاءَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَا يُسَمَّى فَسْخًا.
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ النَّسْخَ لَوْ كَانَ قَطْعًا لِدَوَامِ الْحُكْمِ، لَلَزِمَ مِنْهُ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ قَطْعًا لِدَوَامِ الْحُكْمِ ; إِلَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَمِرًّا فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا لَا يَكُونُ فَسْخُ الْإِجَارَةِ قَطْعًا لِدَوَامِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً بِحُكْمِ الْعَقْدِ إِلَى آخِرِ الْمُدَّةِ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَمِرًّا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ انْقَطَعَ قَبْلَ غَايَتِهِ بِالنَّسْخِ، لَزِمَ تَغَيُّرُ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَكُونُ قَدْ عَلِمَهُ مُسْتَمِرًّا، وَمَا اسْتَمَرَّ، بَلِ انْقَطَعَ بِالنَّسْخِ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ وُقُوعُ خِلَافِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَلِهَذَا فَرَّ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَجَمَاعَةٌ، إِلَى أَنْ قَالُوا: النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ.
وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي «الْمَعَالِمِ» ، وَحَكَاهُ عَنْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَاخْتَارَهُ الْقَرَافِيُّ. وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ النَّسْخَ تَخْصِيصًا زَمَانِيًّا، أَيْ: أَنَّ الْخِطَابَ الثَّانِيَ بَيَّنَ أَنَّ الْأَزْمِنَةَ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهَا مُرَادًا مِنَ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْأَعْيَانِ كَذَلِكَ، وَرُبَّمَا وَقَعَ التَّعَرُّضُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَبِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ احْتِرَازٌ» ، إِلَى آخِرِهِ هَذَا بَيَانُ احْتِرَازَاتٍ وَقَعَتْ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ:
(2/257)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهَا: قَوْلُنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ حُكْمِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ، كَمَا نَقُولُ: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ; فَهَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَإِذَا أَثْبَتْنَا فِي الذِّمَّةِ حَقًا بِشَاهِدَيْنِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ; فَقَدْ رَفَعْنَا حُكْمَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَشَغَلْنَاهَا بِالْحَقِّ، مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَرْفُوعَ هَاهُنَا لَيْسَ ثَابِتًا بِخِطَابٍ مُتَقَدِّمٍ، بَلْ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. وَمَعْنَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ: هُوَ الْبَقَاءُ عَلَى حُكْمِ الْعَدَمِ فِي الْمُحْدَثَاتِ قَبْلَ وُجُودِهَا.
الِاحْتِرَازُ الثَّانِي: قَوْلُنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ، فَإِنَّ مَنْ مَاتَ، أَوْ جُنَّ، انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَحْكَامُ التَّكْلِيفِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ انْقِطَاعَ الْأَحْكَامِ عَنْهُمَا لَمْ يَكُنْ بِخِطَابٍ، وَكَذَلِكَ ارْتِفَاعُ حُكْمِ الصَّوْمِ بِمَجِيءِ اللَّيْلِ، وَحُكْمِ الْفِطْرِ بِمَجِيءِ النَّهَارِ لَيْسَ نَسْخًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْخِطَابِ، بَلْ بِانْتِهَاءِ غَايَةِ الْحُكْمِ، وَانْقِضَاءِ وَقْتِهِ، وَيَلْزَمُ مَنْ عَرَّفَ النَّسْخَ بِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ، أَنْ يَجْعَلَ دُخُولَ اللَّيْلِ نَسْخًا لِلصَّوْمِ ; لِأَنَّ بِدُخُولِهِ بَانَ انْتِهَاءُ مُدَّةِ الصَّوْمِ، لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ الْأُصُولِيُّونَ ذَلِكَ نَسْخًا.
الِاحْتِرَازُ الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ التَّرَاخِي فِي الْخِطَابِ الرَّافِعِ، حَيْثُ قُلْنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ مُتَرَاخٍ: احْتِرَازٌ مِنْ زَوَالِ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ مُتَّصِلٍ، كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، نَحْوُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ «إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ» قَدْ رَفَعَ حُكْمَ عُمُومِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ: أَنْتِ طَالِقٌ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً، هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ رَفَعَ عُمُومَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، حَتَّى رَدَّهُ إِلَى اثْنَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ
(2/258)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَعَالَى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ; فَالْغَايَةُ الْمَذْكُورَةُ رَفَعَتْ عُمُومَ التَّحْرِيمِ ; فَهَذَا كُلُّهُ وَأَمْثَالُهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ رَفْعًا لِحُكْمٍ بِخِطَابٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْخِطَابَ غَيْرُ مُتَرَاخٍ ; فَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: فَإِنَّهُ بَيَانٌ لَا نَسْخٌ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَالْأَجْوَدُ» ، أَيْ: فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ، «أَنْ يُقَالَ: رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، بِمِثْلِهِ مُتَرَاخٍ عَنْهُ» ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَجْوَدَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ إِشَارَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ فِيهِمَا، أَيْ: فِي الْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ تَارَةً بِالْخِطَابِ، وَتَارَةً بِمَا قَامَ مَقَامَ الْخِطَابِ، وَرَفَعَ ذَلِكَ، وَالرَّفْعُ بِهِ يُسَمَّى نَسْخًا، وَلَوِ اقْتَصَرْنَا عَلَى قَوْلِنَا: رَفْعُ الْحُكْمِ بِالْخِطَابِ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ، لَخَرَجَ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِغَيْرِ الْخِطَابِ، كَالْإِشَارَةِ، وَالْفِعْلِ، وَالْإِقْرَارِ، أَعْنِي: التَّقْرِيرَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَقْسَامِ السُّنَّةِ، كَمَا سَبَقَ فِيهَا ; فَلَا يَكُونُ الْحَدُّ جَامِعًا.
قَوْلُهُ: «بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ بِمِثْلِهِ» ، أَيْ: بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ مِثْلِهِ، وَالْقَوْلُ فِي تَعَلُّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ هَهُنَا، كَالْقَوْلِ فِيهِ فِي التَّعْرِيفِ السَّابِقِ، وَهُوَ أَنَّ «بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ» يَتَعَلَّقُ بِالثَّابِتِ، وَبِمِثْلِهِ يَتَعَلَّقُ «بِرَفْعٍ» .
فَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ النَّسْخَ: هُوَ أَنْ يُرْفَعَ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ.
وَاخْتَارَ لَفْظَ الطَّرِيقِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي «الْمَحْصُولِ» ; لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنَ الْخِطَابِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ التَّرَاخِي فِي النَّسْخِ ; فَفَائِدَتُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْ تَهَافُتِ الْكَلَامِ وَتَنَاقُضِهِ فِي قَوْلِهِ الْقَائِلِ: افْعَلْ، لَا تَفْعَلْ. وَصَلِّ، لَا تُصَلِّ. وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْمُخْتَارُ فِي النَّسْخِ
(2/259)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنَّهُ خِطَابُ الشَّارِعِ، الْمَانِعُ مِنِ اسْتِمْرَارِ مَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ خِطَابٍ شَرْعِيٍّ سَابِقٍ.
قُلْتُ: وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ، مِنْ عَدَمِ الْجَمْعِ بِاسْتِعْمَالِ خُصُوصِ لَفْظِ الْخِطَابِ، دُونَ عُمُومِ لَفْظِ الطَّرِيقِ.
(2/260)
________________________________________
وَأُورِدُ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِالرَّفْعِ: أَنَّ الْحُكْمَ ; إِمَّا ثَابِتٌ ; فَلَا يَرْتَفِعُ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ ; فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّفْعِ، وَلِأَنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ ; فَلَا يَرْتَفِعُ. وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ حَسَنًا ; فَرَفْعُهُ قَبِيحٌ، وَيُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَسَنِ قَبِيحًا، وَإِلَّا فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ. وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ مُرَادًا غَيْرَ مُرَادٍ ; فَيَتَنَاقَضُ. وَلِأَنَّهُ يُوهِمُ الْبَدَاءَ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّهُ ثَابِتٌ، وَارْتِفَاعُهُ بِالنَّاسِخِ مَعَ إِرَادَةِ الشَّارِعِ، أَوْ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ، غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَطْعًا. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ سَاقِطٌ عَنَّا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَعْرِيفِهِ بِالْخِطَابِ الْقَدِيمِ: إِنَّ الْمُرْتَفِعَ التَّعَلُّقُ. أَوْ: إِنَّ مَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ لَازِمًا لِلْمُكَلَّفِ، زَالَ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ حُسْنُهُ شَرْعِيٌّ ; فَيَجُوزُ وَجُودُهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ; فَإِذَنِ انْقِلَابُهُ قَبِيحًا مُلْتَزَمٌ. وَالتَّنَاقُضُ مُنْدَفِعٌ بِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِهِ قَبْلَ النَّسْخِ، وَبِعَدَمِهِ بَعْدَهُ. وَالْبَدَاءُ غَيْرُ لَازِمٍ، لِلْقَطْعِ بِكَمَالِ عَلَمِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ تَارَةً ; فَأَثْبَتَهُ، وَالْمَفْسَدَةَ تَارَةً ; فَنَفَاهُ، رِعَايَةً لِلْأَصْلَحِ، تَفَضُّلًا مِنْهُ لَا وُجُوبًا، أَوِ امْتِحَانًا لِلْمُكَلَّفِينَ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأُورِدُ عَلَى تَعْرِيفِهِ بِالرَّفْعِ» ، إِلَى آخِرِهِ. مَعْنَاهُ أَنْ تَعْرِيفَ النَّسْخِ بِأَنَّهُ رَفْعُ الْحُكْمِ، يَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالَاتٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ قَبْلَ النَّسْخِ إِمَّا ثَابِتٌ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا، لَمْ يُمْكِنْ رَفْعُهُ بِالنَّاسِخِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْحُكْمِ الطَّارِئِ، بِأَوْلَى مِنِ انْدِفَاعِ الطَّارِئِ بِالثَّابِتِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى، لِاسْتِقْرَارِ الثَّابِتِ وَتَمَكُّنِهِ ; فَيَكُونُ النَّاسِخُ الطَّارِئُ دَخِيلًا عَلَيْهِ، بِمَثَابَةِ الْغَرِيبِ إِذَا دَخَلَ غَيْرَ وَطَنِهِ ; فَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ صَاحِبِ الْوَطَنِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى الرَّفْعِ، بَلْ هُوَ مُرْتَفِعٌ بِنَفْسِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ خِطَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمُ لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ ; لِأَنَّ الرَّفْعَ
(2/261)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَقْلٌ، وَإِزَالَةٌ، وَتَغْيِيرٌ كَمَا سَبَقَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى الْقَدِيمِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا، فَإِنْ كَانَ حَسَنًا، امْتَنَعَ رَفْعُهُ، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَفْعَ الْحَسَنِ قَبِيحٌ.
الثَّانِي: أَنَّ رَفْعَهُ يُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَسَنِ قَبِيحًا، إِذْ لَوْلَا قُبْحُهُ لَمَا رُفِعَ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّهُ قَبْلَ رَفْعِهِ حَسَنٌ ; فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ انْقِلَابُ الْحَسَنِ قَبْلَ النَّسْخِ قَبِيحًا بَعْدَهُ، لَكِنَّ هَذَا قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا ; فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ مِنْ رَفْعِ الْحَسَنِ ; لِأَنَّ رَفْعَ الْحَسَنِ هُوَ تَفْوِيتُ خَيْرٍ، وَشَرْعَ الْقَبِيحِ إِيقَاعُ شَرٍّ، وَهُوَ أَقْبَحُ ; لِأَنَّ إِيقَاعَ الشَّرِّ مُضِرٌّ، وَتَفْوِيتَ الْخَيْرِ قَدْ لَا يَضُرُّ.
الرَّابِعُ: أَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُرَادًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَثْبَتَهُ، قَدْ أَمَرَ بِهِ وَأَرَادَهُ، وَمِنْ حَيْثُ رَفَعَهُ، قَدْ نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يُرِدْهُ ; فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، غَيْرَ مُرَادٍ.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّسْخَ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ بَدَا لَهُ مَا كَانَ خَفِيٌّ عَنْهُ، حَتَّى نَهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ، أَوْ أَمَرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ، لَكِنَّ الْبَدَاءَ عَلَى الشَّارِعِ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ أَجْوِبَةُ الْإِشْكَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ قَوْلُهُمُ: الْحُكْمُ إِمَّا ثَابِتٌ ; فَلَا يَرْتَفِعُ، أَوْ غَيْرُ ثَابِتٍ،
(2/262)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الرَّفْعِ - هُوَ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ ثَابِتٌ، لَكِنَّ ارْتِفَاعَهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَطْعًا ; إِمَّا بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ، كَمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ وَأَصْحَابُهُ، أَوْ بِالنَّاسِخِ مَعَ إِرَادَةِ الشَّارِعِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ قَطْعًا ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُمْ: لَيْسَ ارْتِفَاعُ الثَّابِتِ بِالطَّارِئِ أَوْلَى مِنِ انْدِفَاعِ الطَّارِئِ بِالثَّابِتِ.
قُلْنَا: بَلْ هَذَا أَوْلَى لِقُوَّةِ الْوَارِدِ، وَلِهَذَا يَتَأَثَّرُ الْمَاءُ بِوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ، دُونَ وُرُودِهِ عَلَيْهَا.
وَالْجَوَابُ «عَنِ الثَّانِي» - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمٌ فَلَا يَرْتَفِعُ -: هُوَ أَنَّهُ سَاقِطٌ عَنَّا، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، بِأَنَّهُ مُقْتَضَى الْخِطَابِ، لَا نَفْسُ الْخِطَابِ ; فَالْمُرْتَفِعُ بِالنَّسْخِ مُقْتَضَى الْخِطَابِ الْقَدِيمِ، لَا نَفْسُ الْخِطَابِ الْقَدِيمِ.
قَوْلُهُ: «وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَعْرِيفِهِ بِالْخِطَابِ الْقَدِيمِ» . إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَإِنْ عَرَّفْنَا الْحُكْمَ بِالْخِطَابِ الْقَدِيمِ ; فَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرْتَفِعَ بِالنَّسْخِ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ بِالْمُكَلَّفِ، لَا نَفْسُ الْخِطَابِ، كَمَا يَزُولُ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ بِهِ، لِطَرَيَانِ الْعَجْزِ وَالْجُنُونِ، ثُمَّ يَعُودُ التَّعَلُّقُ بِعَوْدِ الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ، وَالْخِطَابُ فِي نَفْسِهِ لَا يَتَغَيَّرُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: مَعْنَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ: هُوَ أَنَّ مَا كَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ لَازِمًا لِلْمُكَلَّفِ زَالَ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُحَالٍ، وَلَا مُسْتَلْزِمٍ لِارْتِفَاعِ الْخِطَابِ الْقَدِيمِ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مُتَقَارِبَانِ، أَوْ سِيَّانِ.
وَالْجَوَابُ «عَنِ الثَّالِثِ» - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِنْ كَانَ الْحُكْمُ حَسَنًا ; فَرَفْعُهُ قَبِيحٌ، وَإِلَّا ; فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ -: هُوَ «أَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ»
(2/263)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، «بَلْ حُسْنُهُ» ، أَيْ: حُسْنُ الْحُكْمِ، «شَرْعِيٌّ» ، أَيْ: ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ أَيْضًا، «فَيَجُوزُ وُجُودُهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ» بِاعْتِبَارِ وُرُودِ أَمْرِ الشَّرْعِ بِهِ، وَنَهْيِهِ عَنْهُ، «فَإِذَنِ انْقِلَابُهُ قَبِيحًا مُلْتَزَمٌ» ، أَيْ: فَإِنْ كَانَ حُسْنُ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا كَمَا ذَكَرْنَا ; فَنَحْنُ نَلْتَزِمُ جَوَازَ انْقِلَابِهِ قَبِيحًا، إِذْ مَعْنَاهُ - عَلَى قَوْلِنَا - أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِهَذَا الْحُكْمِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ، وَلَا مَعْنَى لِحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ عِنْدَنَا إِلَّا هَذَا، وَلَا مَجَالَ فِيهِ ; فَمَعْنَى انْقِلَابِ الْحَسَنِ قَبِيحًا: هُوَ صَيْرُورَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِمَصْلَحَةٍ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ مُرَادًا، غَيْرَ مُرَادٍ ; فَيَتَنَاقَضُ، بِأَنَّ التَّنَاقُضَ مُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِهِ قَبْلَ النَّسْخِ، وَبِعَدَمِهِ بَعْدَهُ، وَالتَّنَاقُضُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ اتِّحَادِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ. أَمَّا إِرَادَةُ وُجُودِ الشَّيْءِ وَعَدَمِهِ فِي وَقْتَيْنِ ; فَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَامِسِ - وَهُوَ لُزُومُ الْبَدَاءِ - فَإِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْقَطْعِ، أَيْ: لِأَنَّا نَقْطَعُ بِكَمَالِ عَلَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْبَدَاءُ يُنَافِي كَمَالَ الْعِلْمِ ; لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ الْمَحْضَ ; لِأَنَّهُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَفِيًّا.
وَهُوَ مَصْدَرُ بَدَا يَبْدُو بِدَاءً. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: بَدَا لَهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ بَدَاءٌ مَمْدُودٌ، أَيْ: نَشَأَ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ، وَإِذَا ثَبَتَ اسْتِحَالَةُ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ; فَتَوْجِيهُ النَّسْخِ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي الْحُكْمِ تَارَةً ; فَأَثْبَتَهُ بِالشَّرْعِ، وَعَلِمَ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ تَارَةً ; فَنَفَاهُ بِالنَّسْخِ، وَلِذَلِكَ فَائِدَتَانِ:
(2/264)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِحْدَاهُمَا: رِعَايَةُ الْأَصْلَحِ لِلْمُكَلَّفِينَ، تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا وُجُوبًا.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِينَ بِامْتِثَالِهِمُ الْأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِيَ، خُصُوصًا فِي أَمْرِهِمْ بِمَا كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْهُ، وَنَهْيِهِمْ عَمَّا كَانُوا مَأْمُورِينَ بِهِ، فَإِنَّ الِانْقِيَادَ لَهُ أَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/265)
________________________________________
ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ:
الْأُولَى: وَقَعَ النِّزَاعُ فِي جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَفِي وُقُوعِهِ، وَالْكُلُّ ثَابِتٌ.
أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْيَهُودِ ; فَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ الْمَصَالِحِ، وُجُودًا وَعَدَمًا، كَغِذَاءِ الْمَرِيضِ، وَأَيْضًا الْوُقُوعُ لَازِمٌ لِلْجَوَازِ، وَقَدْ حُرِّمَ نِكَاحُ الْأَخَوَاتِ بَعْدَ جَوَازِهِ فِي شَرْعِ آدَمَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بَعْدَ جَوَازِهِ فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} ، وَهُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ.
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ ; فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} ، وَنَسْخُ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَالْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَخَالَفَ أَبُو مُسْلِمٍ، لِقَوْلِهِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذِ الْمُرَادُ لَا يَلْحَقُهُ الْكَذِبُ، ثُمَّ الْبَاطِلُ غَيْرُ الْإِبْطَالِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ» ، أَيْ: لَمَّا فَرَغَ الْكَلَامُ عَلَى حَدِّ النَّسْخِ، نَذْكُرُ هَهُنَا مَسَائِلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ «الْأُولَى: وَقَعَ النِّزَاعُ» بَيْنَ النَّاسِ فِي «جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَفِي وُقُوعِهِ» ، أَيِ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي النَّسْخِ، وَالْخِلَافُ ; إِمَّا فِي جَوَازِهِ، أَوْ فِي وُقُوعِهِ.
وَالْخِلَافُ فِي جَوَازِهِ ; إِمَّا عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا، وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، وَوُقُوعِهِ سَمْعًا، إِلَّا الشَّمْعُونِيَّةَ مِنَ الْيَهُودِ ; فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَّا الْعَنَانِيَّةُ مِنْهُمْ، وَأَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا جَوَازَ النَّسْخِ
(2/266)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَرْعًا، لَا عَقْلًا.
قَوْلُهُ: «وَالْكُلُّ ثَابِتٌ» ، أَيْ: جَوَازُ النَّسْخِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَوُقُوعُهُ.
«أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ - خِلَافًا لِبَعْضِ الْيَهُودِ» ، وَهُمُ الشَّمْعُونِيَّةُ الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ - «فَدَلِيلُهُ» ، أَيْ: فَدَلِيلُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: «مَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ الْمَصَالِحِ وُجُودًا وَعَدَمًا» ، أَيْ: يَجُوزُ وُجُودُ الْحُكْمِ لِوُجُودِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَيَنْتَفِي لِانْتِفَائِهَا كَغِذَاءِ الْمَرِيضِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ فِي كَيْفِيَّتِهِ، وَكَمِّيَّتِهِ، وَزَمَانِهِ، لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ فِي ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّ الطَّبِيبَ يَنْهَاهُ الْيَوْمَ عَمَّا يَأْمُرُهُ بِهِ غَدًا، وَيَأْمُرُهُ بِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَتَلْطِيفِهِ الْيَوْمَ، وَيَأْمُرُهُ بِتَكْثِيرِهِ وَتَغْلِيظِهِ غَدًا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ ; فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فِي وَقْتٍ ; فَيُؤْمَرُ بِهِ تَحْصِيلًا لَهَا، وَيَكُونُ فِيهِ مَفْسَدَةٌ فِي وَقْتٍ ; فَيَنْهَى عَنْهُ نَفْيًا لَهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْوُقُوعَ لَازِمٌ لِلْجَوَازِ» ، كَذَا وَقَعَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلْوُقُوعِ ; لِأَنَّ لَازِمَ الشَّيْءِ هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ ذَلِكَ الشَّيْءِ،
(2/267)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْجَوَازُ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْوُقُوعِ ; لِأَنَّ الْوُقُوعَ يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْجَوَازِ، إِذْ كُلُّ وَاقِعٍ جَائِزٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جَائِزٍ وَاقِعًا.
وَتَصْحِيحُ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» أَنْ يُقَالَ: الْوُقُوعُ مَلْزُومٌ أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِلْجَوَازِ، وَهَذَا هُوَ كَمَالُ الْمُرَادِ بِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجَوَازَ لَازِمٌ لِلْوُقُوعِ، وَقَدْ وَقَعَ النَّسْخُ ; فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ. وَبَيَانُ وُقُوعِهِ بِصُوَرٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ نِكَاحَ الْأَخَوَاتِ، أَيْ: نِكَاحَ الرَّجُلِ أُخْتَهُ، حُرِّمَ فِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ قَبْلَهُ، بَعْدَ أَنْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ آدَمَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ حُرِّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِ يَعْقُوبَ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ بِنْتَيْ خَالِهِ رَاحِيلَ وَلِيَا.
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النِّسَاءِ: 160] ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ بَعْدَ تَحْلِيلِهِ: هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ، وَحَيْثُ وَقَعَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ وَغَيْرُهَا مِنَ النَّسْخِ، دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا بِالضَّرُورَةِ، هَذَا بَيَانُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.
قَوْلُهُ: «وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ» ، أَيْ: وَأَمَّا الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ ; فَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [الْبَقَرَةِ: 107]
(2/268)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
، وَهُوَ نَصٌّ فِي وُقُوعِ النَّسْخِ. وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَى الْآيَةِ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ لُغَةً مِنْ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النَّحْلِ: 101] ، وَتَبْدِيلُ حُكْمِ الْآيَةِ، أَوْ لَفْظِهَا بِغَيْرِهِ، هُوَ النَّسْخُ.
الثَّالِثُ: نَسْخُ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ بِهِ، أَيْ: بِالِاعْتِدَادِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَتْ تَعْتَدُّ حَوْلًا، عَمَلًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [الْبَقَرَةِ: 240] ، أَيْ: مَتِّعُوهُنَّ مِنْ تَرِكَةِ أَزْوَاجِهِنَّ مَتَاعًا، أَيْ: أَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ إِلَى الْحَوْلِ مَا لَمْ يَخْرُجْنَ مِنْ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِنَّ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الْبَقَرَةِ: 235] ، وَهَذَا نَاسِخٌ مُؤَخَّرٌ فِي التَّنْزِيلِ، مُقَدَّمٌ فِي التِّلَاوَةِ.
الرَّابِعُ: نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [الْبَقَرَةِ: 180] الْآيَةَ، ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11]
(2/269)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْآيَاتِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ; فَإِنَّهُ فَصَّلَ فِيهَا حُكْمَ الْمِيرَاثِ، وَنَسَخَ بِهِ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ، أَوْ إِنَّهَا نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ; فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ; فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ، وَهُوَ جَوَازُ النَّسْخِ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَخَالَفَ أَبُو مُسْلِمٍ» يَعْنِي: الْأَصْفَهَانِيَّ، فِي جَوَازِ النَّسْخِ شَرْعًا كَمَا حَكَيْنَاهُ، أَيْ: أَنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ هُوَ الشَّرْعُ، لَا الْعَقْلُ، «لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فُصِّلَتْ: 42] ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ» .
(2/270)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ بِشَيْءٍ» ، يَعْنِي: مَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو مُسْلِمٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ، أَيْ: لَا يَأْتِيهِ الْكَذِبُ، (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) يَعْنِي الْكُتُبَ السَّالِفَةَ لَا تُكَذِّبُهُ، بَلْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لَهُ، (وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُزُولِهِ وَانْقِضَاءِ عَصْرِ النُّبُوَّةِ، بِأَنْ يَقَعَ بَعْضُ مَا وَعَدَ بِهِ مِنَ الْمُخْبَرَاتِ، عَلَى خِلَافِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْإِخْبَارَاتِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ: أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُبْطِلَ مِنْهُ حَقًّا، وَلَا يُحِقَّ مِنْهُ بَاطِلًا. وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا، وَثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الْحِجْرِ: 9] ، قَالَ: حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بَاطِلًا، أَوْ يُبْطِلَ مِنْهُ حَقًّا، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ إِبْطَالِ النَّسْخِ فِي شَيْءٍ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْبَاطِلُ غَيْرُ الْإِبْطَالِ» ، هَذَا رَدٌّ آخَرُ عَلَى أَبِي مُسْلِمٍ، وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْبَاطِلِ عَنِ الْقُرْآنِ، لَا عَلَى نَفْيِ الْإِبْطَالِ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ لِلْحُكْمِ، لَا بَاطِلٌ لَاحِقٌ بِالْقُرْآنِ، وَلِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُبْطِلَ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ مَا شَاءَ، وَيُثْبِتَ مَا شَاءَ ; فَمَا نَفَتْهُ الْآيَةُ غَيْرُ مَا أَثْبَتْنَاهُ.
وَمَعْنَى إِبْطَالِ الْحُكْمِ بِالنَّسْخِ: أَنَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا صَارَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا مُسْلِمٍ يَدَّعِي امْتِنَاعَ النَّسْخِ شَرْعًا دَعْوَى عَامَّةً، وَالْآيَةُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا، إِنَّمَا تَدُلُّ - لَوْ دَلَّتْ - عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَالدَّعْوَى الْعَامَّةُ لَا تَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ الْخَاصِّ.
ثُمَّ هُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى نَسْخِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، مَعَ أَنَّهَا شَرَائِعُ حَقٍّ صَحِيحَةٌ، لَا يَأْتِيهَا الْبَاطِلُ. فَجَوَابُهُ عَنْهَا هُوَ جَوَابُنَا عَنْ لُحُوقِ النَّسْخِ لِلْقُرْآنِ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا مُسْلِمٍ يَجْعَلُ كُلَّ مَا سَمَّاهُ غَيْرُهُ نَسْخًا، مِنْ بَابِ انْتِهَاءِ
(2/271)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمِ بِانْتِهَاءِ مُدَّتِهِ وَوُجُودِ غَايَتِهِ، لَا مِنْ بَابِ ارْتِفَاعِهِ بِوُرُودِ مُضَادِّهِ ; فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّ النَّسْخَ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ. وَيَعُودُ النِّزَاعُ هُنَا إِلَى النِّزَاعِ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ بِالرَّفْعِ، أَوْ بَيَانِ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/272)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ التِّلَاوَةِ، وَالْحُكْمِ، وَإِحْكَامُهُمَا، وَنَسْخُ اللَّفْظِ فَقَطْ وَبِالْعَكْسِ، إِذِ اللَّفْظُ وَالْحُكْمُ عِبَادَتَانِ مُتَفَاصِلَتَانِ ; فَجَازَ نَسْخُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، وَمَنَعَ قَوْمٌ الثَّالِثَ، إِذِ اللَّفْظُ أُنْزِلَ لِيُتْلَى وَيُثَابَ عَلَيْهِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ، وَآخَرُونَ الرَّابِعَ، إِذِ الْحُكْمُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، وَكُلُّ حُكْمٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ. وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ قَبْلَ النَّسْخِ لَا بَعْدَهُ. ثُمَّ قَدْ نُسِخَ لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ دُونَ حُكْمِهَا، وَحُكْمُ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} دُونَ لَفْظِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ» ، أَيِ: اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا، وَإِحْكَامُهُمَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: إِبْقَاؤُهُمَا مُحْكَمَيْنِ غَيْرَ مَنْسُوخَيْنِ، «وَنَسْخُ اللَّفْظِ فَقَطْ» دُونَ الْمَعْنَى، «وَبِالْعَكْسِ» ، أَيْ: نَسْخُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَهَذِهِ قِسْمَةٌ رُبَاعِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: «إِذِ اللَّفْظُ وَالْحُكْمُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ دُونَ الْآخَرِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ اللَّفْظَ وَالْحُكْمَ عِبَادَتَانِ مُتَفَاصِلَتَانِ، أَيْ: تَنْفَصِلُ إِحْدَاهُمَا فِي التَّعَبُّدِ بِهَا عَنِ الْأُخْرَى فِعْلًا ; فَجَازَ نَسْخُ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَفَاصِلَةِ.
وَبَيَانُ تَفَاصُلِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، هُوَ أَنَّ اللَّفْظَ مُتَعَبَّدٌ بِتِلَاوَتِهِ، وَالْحُكْمَ مُتَعَبَّدٌ بِامْتِثَالِهِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُنَا بِتَفَاصُلِهِمَا، لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا يُمْكِنُ انْفِصَالُهُ عَنِ الْآخَرِ حِسًّا.
(2/273)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَمَنَعَ قَوْمٌ الثَّالِثَ» ، وَهُوَ نَسْخُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّفْظَ أُنْزِلَ لِيُتْلَى، وَيُثَابَ عَلَيْهِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ، أَيْ: فَلَوْ رُفِعَ، لَانْتَفَتْ حِكْمَةُ إِنْزَالِهِ.
قَوْلُهُ: «وَآخَرُونَ» ، أَيْ: وَمَنَعَ آخَرُونَ «الرَّابِعَ» ، وَهُوَ نَسْخُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحُكْمَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ الْمَدْلُولُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ، أَيْ: لَوْ رُفِعَ الْحُكْمُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ اللَّفْظُ، لَبَقِيَ الدَّلِيلُ بِلَا مَدْلُولٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ عَبَثٌ، إِذْ فَائِدَةُ الدَّلِيلِ الدَّلَالَةُ ; فَلَوْ رُفِعَ مَدْلُولُهُ، لَبَقِيَ عَرِيًّا عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَانْتَفَتْ فَائِدَتُهُ، وَلَا مَعْنَى لِلْعَبَثِ إِلَّا وُجُودُ شَيْءٍ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، أَيْ: عَمَّا احْتُجَّ بِهِ مِنْ مَنْعِ نَسْخِ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ، بِأَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، وَكُلُّ حُكْمٍ فَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ.
أَمَّا أَنَّ التِّلَاوَةَ حُكْمٌ، وَالْمُرَادُ بِهَا مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ ; فَلِأَنَّهُ يَجِبُ تِلَاوَتُهَا فِي الصَّلَاةِ، وَتَصِحُّ وَتَنْعَقِدُ بِهَا، وَتُسْتَحَبُّ كِتَابَتُهَا، وَالْوُجُوبُ، وَالصِّحَّةُ، وَالِاسْتِحْبَابُ أَحْكَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتِّلَاوَةِ ; فَهِيَ حُكْمٌ أَوْ فِي مَعْنَى الْحُكْمِ.
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ ; فَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ ; فَلِمَا سَبَقَ فِي إِثْبَاتِ النَّسْخِ، مِنْ جَوَازِ تَحْرِيمِ الْوَاجِبِ، وَإِيجَابِ الْمُحَرَّمِ، وَكَرَاهَةِ الْمَنْدُوبِ، وَنَدْبِ الْمَكْرُوهِ، بِنَاءً عَلَى وُرُودِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ بِذَلِكَ، تَحْصِيلًا لِلْمَصَالِحِ، وَدَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ، وَتَحْقِيقًا لِلِامْتِحَانِ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلٌ مُبْتَدَأٌ عَلَى جَوَازِ مَا مَنَعُوهُ، لَا جَوَابَ عَنْ دَلِيلِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: «أُنْزِلَ اللَّفْظُ لِيُتْلَى ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ؟» فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ، وَلَا اسْتِبْعَادَ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي تِلَاوَتِهِ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوخَةِ.
(2/274)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَعَنِ الثَّانِي» ، أَيْ: وَأُجِيبُ عَنِ الثَّانِي - وَهُوَ دَلِيلُ الْمَانِعِينَ لِنَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ اللَّفْظِ، وَهُوَ قَوْلُهُمُ: الْحُكْمُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ ; فَكَيْفَ يُرْفَعُ الْمَدْلُولُ مَعَ بَقَاءِ دَلِيلِهِ - بِأَنَّ اللَّفْظَ دَلِيلُ الْحُكْمِ قَبْلَ النَّسْخِ، أَمَّا بَعْدَ النَّسْخِ ; فَلَا يَبْقَى دَلِيلًا عَلَيْهِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ بَقَاءِ الدَّلِيلِ بِدُونِ مَدْلُولِهِ، بَلْ يَبْقَى عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً، يُتْلَى، وَيُصَلَّى بِهِ، وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ لَهُ جِهَتَانِ، هُوَ مِنْ إِحْدَاهُمَا دَلِيلٌ عَلَى مَعْنَاهُ، وَمِنَ الْجِهَةِ الْأُخْرَى هُوَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَإِذَا انْتَفَتْ جِهَةُ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى مَعْنَاهُ بِنَسْخِهِ، بَقِيَتْ جِهَةُ كَوْنِهِ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَدْ نُسِخَ لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ دُونَ حُكْمِهَا» ، وَذَلِكَ أَنَّهُ صَحَّ فِي السُّنَّةِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ: «لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ» ، «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . فَنُسِخَ لَفْظُهَا، وَبَقِيَ حُكْمُهَا
(2/275)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي رَجْمِ الْمُحْصَنَيْنِ إِذَا زَنَيَا، وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْلَا أَنْ يُقَالَ: زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ، لَأَثْبَتُّهَا فِي الْمُصْحَفِ،» وَذَلِكَ لِأَنَّ بِنَسْخِ لَفْظِهَا خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَسْتَحِقَّ أَنْ
(2/276)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تُثْبَتَ فِي الْمُصْحَفِ، لَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ بِالْأَصَالَةِ ; فَهَذَا دَلِيلُ نَسْخِ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ إِنَّمَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ.
قُلْنَا: بَلْ هَذَا مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ، وَمُعَرِّفٌ أَنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ. وَقَدْ يُضَعَّفُ هَذَا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى التَّأْسِيسِ، وَإِثْبَاتِ الرَّجْمِ ابْتِدَاءً، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَأْكِيدِ حُكْمِ الْآيَةِ الْمَنْسُوخَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ مُبَيِّنًا لِلسَّبِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النِّسَاءِ: 15] ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِآيَةِ الرَّجْمِ، بَلْ هُوَ إِمَّا مُسْتَقِلٌّ بِإِثْبَاتِ الرَّجْمِ، أَوْ مُبَيِّنٌ لِلسَّبِيلِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
وَكَذَلِكَ نَسْخُ حُكْمِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، دُونَ لَفْظِهَا، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ، دُونَ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ أَنْ يَصُومُوا، وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرُوا، مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى الصَّوْمِ، وَيُطْعِمُوا مِسْكِينًا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
(2/277)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَنُسِخَ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ، بِتَعْيِينِ الصَّوْمِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، وَبَقِيَتِ الرُّخْصَةُ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ عَنِ الصَّوْمِ، لِكِبَرٍ، أَوْ مَرِضٍ، أَوْ حَمْلٍ، أَوْ رَضَاعٍ، كَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
وَحَيْثُ وَقَعَ نَسْخُ اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَنَسْخُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ قَطْعًا، دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ، وَنَسْخِ أَيِّهِمَا كَانَ دُونَ الْآخَرِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ خَالَفُوا فِي
(2/278)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ. وَاحْتُجَّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ أَيِّهِمَا كَانَ، بِنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَلَى جَوَازِ نَسْخِهِمَا جَمِيعًا، بِنَسْخِ تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ ; فَإِنَّهُ كَانَ مُنَزَّلًا كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، ثُمَّ نُسِخَ مَعَ آيَتِهِ.
تَنْبِيهٌ: اخْتُلِفَ فِيمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، نَحْوَ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ» هَلْ لِلْجُنُبِ تِلَاوَتُهُ، وَلِلْمُحْدِثِ مَسُّهُ أَمْ لَا؟ قَالَ الْآمِدِيُّ: الْأَشْبَهُ الْمَنْعُ.
قُلْتُ: بَلِ الْأَشْبَهُ الْجَوَازُ ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ إِنَّمَا قَامَ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ مَا ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ مِنَ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ لِلْإِعْجَازِ، وَمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ; فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، أَوْ دَاخِلٌ تَحْتِ دَلِيلِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/279)
________________________________________
الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ جَائِزٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ: لَا تَحُجُّوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ، وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ.
لَنَا: مُجَرَّدُ الْأَمْرِ مُفِيدٌ أَنَّ الْمَأْمُورَ يَعْزِمُ عَلَى الِامْتِثَالِ ; فَيُطِيعُ، أَوِ الْمُخَالَفَةِ ; فَيَعْصِي، وَمَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ، لَا يَمْتَنِعُ النَّسْخُ، ثُمَّ قَدْ نُسِخَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْأَمْرُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ قَبْلَ فِعْلِهِ.
قَالُوا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي حُسْنَ الْفِعْلِ، وَنَسْخُهُ قُبْحَهُ، وَاجْتِمَاعُهُمَا مُحَالٌ، وَقِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مَنَامًا لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمَرْ بِالذَّبْحِ، بَلْ بِالْعَزْمِ عَلَيْهِ، أَوْ بِمُقَدِّمَاتِهِ، كَالْإِضْجَاعِ، بِدَلِيلِ: {قَدْ صَدَّقْتَ} ، فَافْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، وَلَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ، ثُمَّ لَمْ يُنْسَخْ، بَلْ قَلَبَ اللَّهُ تَعَالَى عُنُقَهُ نُحَاسًا ; فَسَقَطَ لِتَعَذُّرِهِ، أَوْ أَنَّهُ امْتَثَلَ، لَكِنَّ الْجُرْحَ الْتَأَمَ حَالًا فَحَالًا، وَانْدَمَلَ.
وَالْجَوَابُ:
إِجْمَالِيٌّ عَامٌّ، وَهُوَ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى فِدَاءٍ، وَلَمَا كَانَ بَلَاءً مُبِينًا.
أَوْ تَفْصِيلِيٌّ، أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ: فَاجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ مَمْنُوعٌ، بَلْ قَبْلَ النَّسْخِ حَسَنٌ، وَبَعْدَهُ قَبِيحٌ شَرْعًا، لَا عَقْلًا كَمَا تَزْعُمُونَ، وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ; فَإِلْغَاءُ اعْتِبَارِهِ تَهَجُّمٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَكَرُّرِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى الذَّبْحِ لَيْسَ بَلَاءً، وَالْأَمْرُ بِالْمُقْدِمَاتِ فَقَطْ، إِنْ عَلِمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ ; فَكَذَلِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ إِيهَامٌ وَتَلْبِيسٌ قَبِيحٌ، إِذْ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمُكَلَّفِ مَا كُلِّفَ بِهِ. وَقَدْ صَدَّقْتَ، مَعْنَاهُ: عَزَمْتَ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرْتَ بِهِ صَادِقًا ; فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَفَّفْنَا عَنْكَ بِنَسْخِهِ. وَ {مَا تُؤْمَرُ} ، أَيْ: مَا أُمِرْتَ، أَوْ مَا تُؤْمَرُ بِهِ فِي الْحَالِ، اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْأَمْرِ الْمَاضِي قَبْلَهُ ; فَلَا اسْتِقْبَالَ، وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ. وَقَلْبُ عُنُقِهِ نُحَاسًا لَمْ يَتَوَاتَرْ، وَإِلَّا لَمَا اخْتَصَصْتُمْ بِعِلْمِهِ، وَآحَادُهُ لَا تُفِيدُ، ثُمَّ هُوَ أَيْضًا نَسْخٌ، وَكَذَا الْتِئَامُ الْجُرْحِ وَانْدِمَالُهُ، وَإِلَّا لَاسْتَغْنَى عَنِ الْفِدَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/280)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ جَائِزٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ» ، يَعْنِي الشَّارِعَ، «فِي يَوْمِ عَرَفَةَ: لَا تَحُجُّوا بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ» ، أَيْ: يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ فِي رَمَضَانَ مَثَلًا: حُجُّوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ يَقُولُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ أَوْ قَبْلَهُ: لَا تَحُجُّوا.
«وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةُ» ; فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُتَرْجِمُهَا بَعْضُهُمْ بِجَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَهِيَ عِبَارَةُ «الرَّوْضَةِ» ، وَبَعْضُهُمْ بِجَوَازِ نَسْخِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، وَهِيَ عِبَارَةُ «التَّنْقِيحِ» ، وَقَالَ: خِلَافًا لِأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ حُكْمِ الْفِعْلِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ; فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالصَّيْرَفِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، وَجَوَّزَهُ الْأَشَاعِرَةُ، وَأَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْفُقَهَاءُ، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
قُلْتُ: وَأَنَا تَرْجَمْتُ الْمَسْأَلَةَ بِمَا ذَكَرْتُ ; لِأَنَّهُ أَعَمُّ ; فَإِنَّهُ لَوْ نُسِخَ حُكْمُ الْأَمْرِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ، وَالتَّمَكُّنِ مَنْ فِعْلِهِ قَبْلَ فِعْلِهِ، لَاقْتَضَى دَلِيلُ الْخَصْمِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا، لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ عَلَى مَا سَنُقَرِّرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «لَنَا: مُجَرَّدُ الْأَمْرِ مُفِيدٌ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى صِحَّةِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ مُفِيدٌ فَائِدَةً تَكْلِيفِيَّةً، وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَيْهِ الِامْتِثَالُ، وَمَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ التَّكْلِيفِيَّةِ لَا يُمْتَنَعُ النَّسْخُ.
أَمَّا أَنَّ مُجَرَّدَ الْأَمْرِ مُفِيدٌ ; فَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ، إِذَا عَلِمَ تَوَجُّهَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ ; إِمَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى الِامْتِثَالِ ; فَيَكُونُ مُطِيعًا مُثَابًا، أَوْ عَلَى الْمُخَالَفَةِ ; فَيَكُونُ عَاصِيًا مُعَاقَبًا بِالنِّيَّةِ وَالْعَزْمِ.
وَأَمَّا أَنَّ مَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ لَا يَمْتَنِعُ النَّسْخُ ; فَبِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ صُوَرِ النَّسْخِ، وَلِأَنَّ الْخَصْمَ إِنَّمَا مَنَعَ النَّسْخَ قَبْلَ الِامْتِثَالِ، لِكَوْنِهِ عَبَثًا عِنْدَهُ، وَمَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ
(2/281)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَنْتَفِي كَوْنُهُ عَبَثًا ; فَيَجِبُ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ قَبْلَ الِامْتِثَالِ قَدْ وَقَعَ، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ ; لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، نُسِخَ عَنْهُ ذَبْحُ وَلَدِهِ قَبْلَ فِعْلِهِ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْوُقُوعَ دَلِيلُ الْجَوَازِ ; لِأَنَّهُ مَلْزُومٌ لِلْجَوَازِ ; فَدَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي حُسْنَ الْفِعْلِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ قَبْلَ الِامْتِثَالِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي حُسْنَهُ، وَنَسْخَهُ يَقْتَضِي قُبْحَهُ، وَاجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «وَقِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْعٌ لِدَلَالَتِهَا عَلَى النَّسْخِ قَبْلَ الِامْتِثَالِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قِصَّةَ إِبْرَاهِيمَ فِي ذَبْحِ وَلَدِهِ كَانَتْ مَنَامًا، وَالْمَنَامُ خَيَالٌ لَا أَصْلَ لَهُ حَتَّى يُبْنَى عَلَيْهِ أُصُولُ الدِّينِ وَفُرُوعُهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَنَامَ لَهُ حَقِيقَةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ أُمِرَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، بَلْ بِالْعَزْمِ عَلَيْهِ، أَوْ بِفِعْلِ مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ كَإِضْجَاعِ وَلَدِهِ، وَأَخْذِ السِّكِّينَ وَنَحْوِهِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
(2/282)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصَّافَّاتِ: 104، 105] ، أَيْ: فَعَلْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مَا فَعَلَهُ بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الذَّبِيحِ: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصَّافَّاتِ: 102] ، وَلَفْظُهُ لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا أُمِرَ بِالذَّبْحِ، وَإِنَّمَا أُخْبِرَ أَنَّهُ سَيُؤْمَرُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، إِذْ لَوْ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِهِ، لَقَالَ: افْعَلْ مَا أُمِرْتَ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ أُمِرَ بِالذَّبْحِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ عَنْهُ قَبْلَ امْتِثَالِهِ، بَلْ قَلَبَ اللَّهُ عُنُقَ وَلَدِهِ نُحَاسًا، فَلَمْ تُؤْثَرِ الشَّفْرَةُ فِيهِ ; فَسَقَطَ لِتَعَذُّرِهِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَذَّرْ، لَكِنَّهُ امْتَثَلَ ; فَذَبَحَهُ، لَكِنْ كَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا مِنْ عُنُقِهِ، الْتَأَمَ، أَيِ: الْتَحَمَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: حَالًا فَحَالًا، أَيِ: الْتَأَمَ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، وَشَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ; فَانْدَمَلَ الْجُرْحُ بِمُجَرَّدِ الْتِحَامِهِ، أَيْ: بَرَأَ وَذَلِكَ بِدَلِيلِ الْآيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالذَّبْحِ ; فَيَلْزَمُ أَنَّهُ ذَبَحَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ صَدَّقَ الرُّؤْيَا.
وَتَحْقِيقُ هَذَا: أَنَّ كَلَامَنَا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالذَّبْحِ، لَكِنْ رَأَيْنَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِتَصْدِيقِ الرُّؤْيَا ; فَقُلْنَا: إِنَّهُ ذَبَحَهُ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا طَوِيلًا ; فَقُلْنَا: إِنِ الْعَادَةَ انْخَرَقَتْ فِيهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ; مِنِ الْتِئَامِ الْجُرْحِ شَيْئًا فَشَيْئًا.
قَوْلُهُ: «وَالْجَوَابُ» ، أَيْ: عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ، مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِجْمَالِيٌّ عَامٌّ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ أَنَّهُ ذَبَحَهُ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى فِدَائِهِ ; لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ قَدِ امْتَثَلَ ; فَلَوْ فَدَاهُ مَعَ ذَلِكَ، لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ
(2/283)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ، مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا أُمِرَ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، لَا نَفْسِ الذَّبْحِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بَلَاءً مُبِينًا، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمَّاهُ بَلَاءً مُبِينًا، حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ هَذَا لَهْوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصَّافَّاتِ: 106، 107] .
قُلْتُ: حُسْنُ التَّرْتِيبِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلَ ; فَيُقَالُ هَكَذَا: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ، لَمَا كَانَ بَلَاءً مُبِينًا، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى فِدَاءٍ لِأَنَّ تَرْتِيبَ أَسْئِلَةِ الْخَصْمِ هَكَذَا، وَلَكِنْ وَقَعَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» عَلَى تَرْتِيبِ مَا فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ إِجْمَالِيٌّ عَامٌّ، وَفِيهِ بَعْضُ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي - وَهُوَ التَّفْصِيلِيُّ - فَنَقُولُ: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: اجْتِمَاعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مُحَالٌ ; فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: اجْتِمَاعُهُمَا مُحَالٌ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي حَالَيْنِ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ حَسَنٌ قَبْلَ النَّسْخِ، وَأَمَّا بَعْدُهُ ; فَهُوَ قَبِيحٌ، وَاتِّصَافُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِي وَقْتَيْنِ لَيْسَ بِمُحَالٍ، ثُمَّ إِنَّ حُسْنَهُ وَقُبْحَهُ عِنْدَنَا شَرْعِيٌّ، أَيْ: مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرْعِ، لَا عَقْلِيٌّ كَمَا تَزْعُمُونَ، وَكَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا، لِئَلَّا نُطْلِقَ لَفْظَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ; فَيُظَنُّ أَنَّا نَقُولُ بِهِمَا عَقْلًا، كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَقُولُ بِهِمَا شَرْعًا، كَمَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ.
وَالْجَوَابُ «عَنِ الْبَاقِي» ، أَيْ: عَنْ بَاقِي مَا ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَسْئِلَتُهُمْ عَلَى قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ نَقُولَ: قَوْلُكُمْ: قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ كَانَتْ مَنَامًا لَا أَصْلَ لَهُ - بَاطِلٌ ; لِأَنَّ «مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ; فَإِلْغَاءُ اعْتِبَارِهِ» ، أَيْ: كَوْنُكُمْ لَا تَعْتَبِرُونَهُ، وَتُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ «تَهَجُّمٌ» عَلَى الْوَحْيِ بِالْإِبْطَالِ، «لَا سِيَّمَا» ، أَيْ: خُصُوصًا «مَعَ تَكَرُّرِهِ» فِي قِصَّةِ
(2/284)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِبْرَاهِيمَ ; فَإِنَّهُ رَأَى ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَةٍ، أَنِ اذْبَحْ وَلَدَكَ لِي قُرْبَانًا ; فَفِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ظَنَّ أَنَّهَا خَيَالٌ، أَوْ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلَمْ يَعْبَأْ بِهَا، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَرَوَّى فِي نَفْسِهِ، أَيْ: تَفَكَّرَ، هَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ أَمْ لَا؟ فَسُمِّيَ لِذَلِكَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَصْبَحَ وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهَا رُؤْيَا حَقٌّ ; فَسُمِّيَ يَوْمَ عَرَفَةَ، كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِي سَبَبِ تَسْمِيَةِ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَعَرَفَةَ، وَاشْتِقَاقِهِمَا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَا سَبَقَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ فِي خُطْبَةِ الْكِتَابِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ هُنَاكَ.
الثَّانِي: أَنَّ رُؤْيَا آحَادِ الْأُمَمِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، عَلَى مَا شَهِدَتْ بِهِ السُّنَنُ الصَّحِيحَةُ ; فَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ نُبُوَّةً.
الثَّالِثُ: مَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا ابْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ النُّبُوَّةِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ
(2/285)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَفَلَقِ الصُّبْحِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ نُبُوَّةٌ وَوَحْيٌ، كَانَ قَوْلُكُمْ: إِنَّ رُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنَامٌ لَا أَصْلَ لَهُ، تَهَجُّمًا عَظِيمًا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعَذَابِ الْأَلِيمِ.
قَوْلُهُمْ: إِنَّمَا أُمِرَ بِالْعَزْمِ عَلَى الذَّبْحِ، أَوْ مُقَدِّمَاتِهِ.
قُلْنَا: الْعَزْمُ عَلَى الذَّبْحِ لَيْسَ بَلَاءً مُبِينًا، بِحَيْثُ يُمْتَحَنُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ; لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ وَسُوقَتَهُمْ، لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: أَنْتَ مَأْمُورٌ بِالْعَزْمِ عَلَى ذَبْحِ وَلَدِكَ، لَا بِنَفْسِ ذَبْحِهِ، لَسَهُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجِدْ لَهُ كُلْفَةً. «وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمُقَدِّمَاتِ فَقَطْ، فَإِنْ عَلِمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ فَكَذَلِكَ» ، أَيْ: لَا بَلَاءَ فِيهِ، إِذْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي إِضْجَاعِ وَلَدِهِ، وَأَخَذِ السِّكِّينَ مَعَ عِلْمِهِ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ كَمَا لَوْ مَازَحَ الْإِنْسَانُ وَلَدَهُ، أَوْ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ فَقَطْ، كَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا عَلَيْهِ، وَإِيهَامًا فِي الْخِطَابِ، وَإِيهَامًا لَهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، مَعَ أَنَّهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهُوَ قَبِيحٌ، يَعْنِي الْإِيهَامَ وَالتَّلْبِيسَ ; لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ أَنْ يَعْرِفَ الْمُكَلَّفُ مَا كُلِّفَ بِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَمْرُهُ
(2/286)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالِاقْتِصَارِ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ، تَكْلِيفًا غَيْرَ صَحِيحٍ.
قَوْلُهُمْ: قَوْلُهُ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصَّافَّاتِ: 105] ، مَعْنَاهُ: قَدْ فَعَلْتَ مَا أُمِرْتَ بِهِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مَعْنَاهُ، بَلْ مَعْنَاهُ: «قَدْ عَزَمْتَ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرْتَ بِهِ صَادِقًا ; فَكَانَ جَزَاؤُكَ أَنْ خَفَّفْنَا عَنْكَ كُلْفَتَهُ بِنَسْخِهِ» عَنْكَ. هَذَا هُوَ كَلَامُ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الْمَفْهُومُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الْقِصَّةِ.
قَوْلُهُمْ: قَوْلُ الذَّبِيحِ: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، لَفْظٌ مُسْتَقْبَلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أُمِرَ بِذَبْحِهِ، بَلْ سَيُؤْمَرُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا تُؤْمَرُ} : افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَضْعًا لِلْمُضَارِعِ مَوْضِعَ الْمَاضِي وَهُوَ كَثِيرٌ فِي اللُّغَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ.
قُلْنَا: يَلْزَمُكُمْ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ أُمِرَ بِذَبْحِهِ، وَعَلَى قَوْلِكُمْ، يَكُونُ تَقْدِيرُهُ: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي سَأُومَرُ بِذَبْحِكَ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارٍ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ نَحْنُ ; مِنْ وَضْعِ الْمُضَارِعِ مَوْضِعَ الْمَاضِي أَسْهَلُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ، أَيْ: «مَا تُؤْمَرُ بِهِ فِي الْحَالِ، اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْأَمْرِ الْمَاضِي» .
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِفِعْلٍ ; فَالْأَمْرُ بِهِ مُتَوَجِّهٌ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ، اسْتِصْحَابًا لِحَالِ الْأَمْرِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ ; فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لَمَّا أُمِرَ فِي اللَّيْلِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ ; فَأَخْبَرَ وَلَدَهُ بِذَلِكَ ; فَهُوَ حَالُ إِخْبَارِهِ وَلَدَهُ مَأْمُورٌ بِمَا أُمِرَ بِهِ فِي اللَّيْلِ
(2/287)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِذَبْحِ وَلَدِهِ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بَعْدُ ; فَأَمْرُهُ بِالذَّبْحِ فِي الْمَاضِي مُسْتَصْحِبٌ إِلَى حَالِ إِخْبَارِهِ وَلَدَهُ. وَقَوْلُهُ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ، أَيْ: مَا أَنْتَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الْحَالِ، بِنَاءً عَلَى اسْتِصْحَابِ الْأَمْرِ الْمَاضِي، وَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ يَصْلُحُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَهُوَ فِي الْحَالِ أَظْهَرُ.
وَإِذَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ، عَلَى الْحَالِ، عَمَلًا بِظَاهِرِ لَفْظِهِ، وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلِيلِنَا ; فَلَا اسْتِقْبَالَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُؤْمَرُ بِذَبْحِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ» ، أَيْ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: سَيُؤْمَرُ بِذَبْحِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لَا أَنَّهُ أُمِرَ بِهِ فِي الْمَاضِي، لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ ; لِأَنَّ الْفِدَاءَ يَكُونُ عَنْ تَرْكِ مَأْمُورٍ. وَعَلَى قَوْلِكُمْ: هُوَ إِلَى الْآنِ لَمْ يُؤْمَرْ بِشَيْءٍ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُمِرَ وَتَرَكَ. وَأَيْضًا لَوْ صَحَّ ذَلِكَ، لَأُمِرَ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، لِئَلَّا يَقَعَ الْخُلْفُ فِي خَبَرِ الْمَعْصُومِ، فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ، دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا تَأَوَّلُوهُ.
قَوْلُهُمْ: لَمْ يَنْسَخْ عَنْهُ الذَّبْحَ، بَلْ قُلِبَ عُنُقُهُ نُحَاسًا. جَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ، أَوْ بِالْآحَادِ.
وَالتَّوَاتُرُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ تَوَاتَرَ، لَمَا اخْتَصَصْتُمْ بِعِلْمِهِ دُونَنَا، مَعَ أَنَّ الشَّرْعَ وَاحِدٌ. وَالْأَسْبَابَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وَلَوْ صَحَّ دَعْوَى ذَلِكَ، لَكَانَ كُلُّ مَنْ مُنِعَ شَيْئًا، أَوْ نُوزِعَ فِيهِ، قَالَ لِخَصْمِهِ: هَذَا تَوَاتُرٌ عِنْدِي دُونَكَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَبْطٌ عَظِيمٌ، وَخَطْبٌ جَسِيمٌ، وَمَا يُشْبِهُ السَّفْسَطَةَ.
وَالْآحَادُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يُفِيدُ ; لِأَنَّ مَسْأَلَةَ النِّزَاعِ إِنْ كَانَتْ عِلْمِيَّةً ; فَالْآحَادُ إِنَّمَا
(2/288)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُفِيدُ الظَّنَّ لَا الْعِلْمَ، وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً ; فَالْوَاقِعَةُ الْمَذْكُورَةُ عَظِيمَةٌ، خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ ; فَهِيَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ ; فَيَقَعُ الْعِلْمُ بِهَا عَادَةً لِتَوَاتُرِهَا ; فَحَيْثُ لَمْ تَتَوَاتَرْ، بَلْ لَمْ تَسْتَفِضْ، بَلْ لَمْ يُنْقَلْ أَصْلًا عَمَّنْ يُعْتَبَرُ، أَنَّ عُنُقَ الذَّبِيحِ قُلِبَ نُحَاسًا، دُلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ، دَافَعَ بِهَا الْخَصْمُ عَنْ مَذْهَبِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ عُنُقَهُ قُلِبَ نُحَاسًا، لَكِنَّهُ نُسِخَ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ: إِمَّا رَفْعُ الْحُكْمِ، أَوْ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ، وَكِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِي سُقُوطِ الذَّبْحِ، لِتَعَذُّرِهِ بِقَلْبِ الْعُنُقِ نُحَاسًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ قَبْلَ قَلْبِ الْعُنُقِ نُحَاسًا، وَبَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ رَفْعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ.
فَإِنْ قِيلَ: النَّسْخُ هُوَ رَفْعُ الْحُكْمِ بِخِطَابٍ، وَارْتِفَاعُ وُجُوبِ الذَّبْحِ هُنَا إِنَّمَا هُوَ بِالتَّعَذُّرِ، لَا بِالْخِطَابِ.
قُلْنَا: لَكِنْ هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْخِطَابِ، وَهُوَ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ الْعَامَّةُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَالذَّبْحُ بَعْدَ قَلْبِ الْعُنُقِ نُحَاسًا صَارَ مِنَ الْمُحَالِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ بِانْقِلَابِ الْعُنُقِ نُحَاسًا ; انْتَهَتْ مُدَّةُ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ لِتَعَذُّرِهِ ; فَقَدْ بَانَ أَنَّ قَلْبَ الْعُنُقِ نُحَاسًا نُسِخَ، لِوُجُوبِ الذَّبْحِ عَلَى كِلَا التَّعْرِيفَيْنِ لِلنَّسْخِ.
وَأَمَّا الْتِئَامُ الْجُرْحِ، وَانْدِمَالُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا ; فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا ذُكِرَ فِي قَلْبِ الْعُنُقِ نُحَاسًا، مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَتَوَاتَرْ، وَالْآحَادُ لَا يُفِيدُ فِي مِثْلِهِ.
(2/289)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ، لَاسْتَغْنَى عَنِ الْفِدَاءِ ; لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْمَأْمُورِ ; فَالْفِدَاءُ بَعْدَهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/290)
________________________________________
الرَّابِعَةُ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ، إِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِحُكْمِهِ أَصْلًا ; فَلَيْسَتْ نَسْخًا إِجْمَاعًا، كَزِيَادَةِ إِيجَابِ الصَّوْمِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ ; فَهِيَ إِمَّا جُزْءٌ لَهُ، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الصُّبْحِ، أَوْ عِشْرِينَ سَوْطًا فِي حَدِّ الْقَذْفِ. أَوْ شَرْطٌ، كَالنِّيَّةِ لِلطَّهَارَةِ، أَوْ لَا وَاحِدَ مِنْهُمَا، كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ. وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَسْخًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
لَنَا: النَّسْخُ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ، وَهُوَ بَاقٍ، زِيدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ.
قَالُوا: الزِّيَادَةُ إِمَّا فِي الْحُكْمِ، أَوْ سَبَبِهِ، وَأَيًّا كَانَ، يَلْزَمُ النَّسْخُ ; لِأَنَّهُمَا كَانَا قَبْلَ الزِّيَادَةِ مُسْتَقِلَّيْنِ بِالْحُكْمِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ، وَاسْتِقْلَالُهُمَا حُكْمٌ قَدْ زَالَ بِالزِّيَادَةِ، كَالْجَلْدِ مَثَلًا، كَانَ مُسْتَقِلًا بِعُقُوبَةِ الزَّانِي، أَيْ: هُوَ الْحَدُّ التَّامُّ، وَبَعْدَ زِيَادَةِ التَّغْرِيبِ، صَارَ جُزْءَ الْحَدِّ.
قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنَ الزِّيَادَةِ تَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِالْإِتْيَانِ بِهَا، لَا رَفْعُ اسْتِقْلَالِ مَا كَانَ قَبْلَهَا، لَكِنَّهُ حَصَلَ ضَرُورَةً وَتَبَعًا، بِالِاقْتِضَاءِ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: الْمَنْسُوخُ مَقْصُودٌ بِالرَّفْعِ، وَالِاسْتِقْلَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ ; فَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا ; فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا. لَا يُقَالُ: رَفْعُ الِاسْتِقْلَالِ مِنْ لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ ; فَيَلْزَمُ مِنْ قَصْدِهَا قَصْدُهُ ; لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ، إِذْ قَدْ يُتَصَوَّرُ الْمَلْزُومُ مِمَّنْ هُوَ غَافِلٌ عَنِ اللَّازِمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الرَّابِعَةُ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ» ; إِمَّا أَنْ لَا تَتَعَلَّقَ بِحُكْمِ النَّصِّ أَصْلًا، أَوْ تَتَعَلَّقَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ ; فَلَيْسَتْ نَسْخًا لَهُ إِجْمَاعًا، وَذَلِكَ كَزِيَادَةِ إِيجَابِ الصَّوْمِ، بَعْدَ الصَّلَاةِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ نَسْخًا لِإِيجَابِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتِ الزِّيَادَةُ بِحُكْمِ النَّصِّ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ ; فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ إِمَّا جُزْءٌ لَهُ، أَوْ شَرْطٌ، أَوْ لَا جُزْءٌ وَلَا شَرْطٌ.
(2/291)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثَالُ كَوْنِهَا جُزْءًا لَهُ: زِيَادَةُ رَكْعَةٍ فِي الصُّبْحِ، أَوْ عِشْرِينَ سَوْطًا فِي حَدِّ الْقَذْفِ ; فَتَصِيرُ الصُّبْحُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، وَالرَّكْعَةُ الثَّالِثَةُ جُزْءٌ مِنْهَا، وَحَدُّ الْقَذْفِ مِئَةُ سَوْطٍ، وَالْعِشْرُونَ الزَّائِدَةُ جُزْءٌ مِنْهَا.
وَمِثَالُ كَوْنِهَا شَرْطًا: نِيَّةُ الطَّهَارَةِ، هِيَ شَرْطٌ لَهَا، وَقَدْ زِيدَتْ بِالْحَدِيثِ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بَاقِي آيَةِ الْوُضُوءِ مِنْ أَفْعَالِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ مُسْتَفَادَةً مِنَ الْآيَةِ، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ.
وَمِثَالُ كَوْنِ الزِّيَادَةِ لَا جُزْءًا وَلَا شَرْطًا: التَّغْرِيبُ عَلَى الْجَلْدِ فِي زِنَى الْبِكْرِ، إِذِ الْجَلْدُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّغْرِيبِ تَوَقُّفَ الْكُلِّ عَلَى جُزْئِهِ، وَلَا تَوَقُّفَ الْمَشْرُوطِ عَلَى شَرْطِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَسْخًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
حَكَى الْآمِدِيُّ عَنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَالْغَزَالِيِّ، فِي الْمِثَالَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، أَنَّهُمَا وَافَقَا الْحَنَفِيَّةَ فِي أَنَّهُ نَسْخٌ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: النَّسْخُ: رَفْعُ الْحُكْمِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ عَدَمِ كَوْنِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ نَسْخًا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ، وَالْحُكْمُ هَاهُنَا بَاقٍ، لَمْ يَرْتَفِعْ، وَإِنَّمَا زِيدَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا تَقْتَضِي رَفْعَهُ ; فَثَبَتَ أَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ نَسْخًا.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الزِّيَادَةَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الْحُكْمِ أَوْ سَبَبِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّسْخُ.
أَمَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ إِمَّا فِي الْحُكْمِ، أَوْ فِي سَبَبِهِ ; فَمَعْنَاهُ: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الزِّيَادَةَ ; إِمَّا جُزْءٌ لِلْحُكْمِ، كَرَكْعَةٍ فِي الصَّلَاةِ ; فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الْحُكْمِ، أَوْ غَيْرُ جُزْءٍ لَهُ ; فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي سَبَبِ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَيْهِ، شَرْطًا كَالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ،
(2/292)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ.
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الزِّيَادَةِ فِي الْحُكْمِ، أَوْ سَبَبِهِ، يَلْزَمُ مِنْهُ النَّسْخُ ; فَلِأَنَّ الْحُكْمَ أَوْ سَبَبَهُ قَبْلَ الزِّيَادَةِ فِيهِمَا كَانَا مُسْتَقِلَّيْنِ بِالْحُكْمِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِكَوْنِ الْحُكْمِ حُكْمًا تَامًّا، وَالسَّبَبِ سَبَبًا تَامًّا، وَاسْتِقْلَالِهِمَا بِكَوْنِهِمَا تَمَامَ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ، حُكْمٌ قَدِ ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ كَالْجَلْدِ مَثَلًا، كَانَ مُسْتَقِلًا بِعُقُوبَةِ الزَّانِي، بِمَعْنَى أَنَّهُ هُوَ حَدُّهُ التَّامُّ، وَبَعْدَ زِيَادَةِ التَّغْرِيبِ لَمْ يَبْقَ مُسْتَقِلًا بِتَمَامِ الْحَدِّ، بَلْ صَارَ جُزْءَ الْحَدِّ، وَالتَّغْرِيبُ جُزْؤُهُ الْآخَرُ، وَكَذَلِكَ الرَّكْعَتَانِ فِي الصُّبْحِ، كَانَتَا مُسْتَقِلَّتَيْنِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَبَعْدَ تَقْرِيرِ زِيَادَةِ الثَّالِثَةِ زَالَ ذَلِكَ الِاسْتِقْلَالُ، وَصَارَتِ الرَّكْعَتَانِ جُزْءَ الْوَاجِبِ، لَا كُلَّهُ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الِاسْتِقْلَالِ يَرْتَفِعُ بِالزِّيَادَةِ ; فَقَدْ حَصَلَتْ حَقِيقَةُ النَّسْخِ، وَهِيَ رَفْعُ الْحُكْمِ بِالزِّيَادَةِ ; فَيَكُونُ نَسْخًا.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنَ الزِّيَادَةِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ دَلِيلِهِمُ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، إِنَّمَا هُوَ تَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِالْإِتْيَانِ بِهَا، لَا رَفْعُ اسْتِقْلَالِ مَا كَانَ قَبْلَهَا بِالْحُكْمِ، لَكِنَّ رَفْعَ الِاسْتِقْلَالِ حَصَلَ ضَرُورَةً، وَتَبَعًا لِوُرُودِ الزِّيَادَةِ، بِالِاقْتِضَاءِ الضَّرُورِيِّ الْعَقْلِيِّ، لَا أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا بِهَا ; فَالْمَقْصُودُ بِزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الصُّبْحِ: هُوَ التَّعَبُّدُ بِفِعْلِهَا، لَا رَفْعُ اسْتِقْلَالِ الرَّكْعَتَيْنِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَالْمَقْصُودُ بِزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ وَعِشْرِينَ سَوْطًا فِي الْحَدِّ: الْإِتْيَانُ بِهِمَا، لَا رَفْعُ اسْتِقْلَالِ الْمِئَةِ فِي الزِّنَى، وَالثَّمَانِينَ فِي الْقَذْفِ، بِكَمَالِ الْعُقُوبَةِ، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ ضَرُورَةً أَنَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَى ثَلَاثٍ، لَا يَحْصُلُ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا تَوَقَّفَ عَلَى مِئَةٍ، لَا يَحْصُلُ بِثَمَانِينَ، كَمَا أَنَّ مَا عُلِّقَ عَلَى شَرْطَيْنِ، لَا يُوجَدُ بِأَحَدِهِمَا ; فَرَفْعُ الِاسْتِقْلَالِ الْمَذْكُورِ، هُوَ بِالِاقْتِضَاءِ الْعَقْلِيِّ الضَّرُورِيِّ، لَا بِالْقَصْدِ الشَّرْعِيِّ، وَالْمَنْسُوخُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ
(2/293)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَقْصُودًا: لِأَنَّ النَّسْخَ فِعْلٌ مِنَ الشَّارِعِ، وَالْفَاعِلُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا فَعَلَ، قَاصِدًا لَهُ.
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: الْمَنْسُوخُ مَقْصُودٌ بِالرَّفْعِ، وَالِاسْتِقْلَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالرَّفْعِ، وَلَا يَكُونُ مَنْسُوخًا ; فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا.
قَوْلُهُ: «لَا يُقَالُ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا تَقْدِيرٌ يَقَعُ مِنَ الْخَصْمِ لِهَذَا الْجَوَابِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ رَفْعَ اسْتِقْلَالِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِيَّةِ، مِنْ لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ; فَيَلْزَمُ مِنْ قَصْدِهَا قَصْدُهُ، أَيْ: يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ قَصْدُ رَفْعِ اسْتِقْلَالِ حُكْمِهِ، بِكَوْنِهِ حُكْمًا تَامًّا.
أَمَّا أَنَّ رَفَعَ الِاسْتِقْلَالِ مِنْ لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ ; فَلِأَنَّ لَازِمَ الشَّيْءِ مَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ارْتِفَاعَ اسْتِقْلَالِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ، لَا يَنْفَكُّ عَنِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ; فَيَكُونُ لَازِمًا لَهَا.
وَمِثَالُهُ: أَنَّ ارْتِفَاعَ اسْتِقْلَالِ الرَّكْعَتَيْنِ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ، لَا يَنْفَكُّ عَنْ زِيَادَةِ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الزِّيَادَةِ قَصْدُ رَفْعِ الِاسْتِقْلَالِ ; فَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَا أَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهَا، وَقَصْدُ الْمَلْزُومِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ اللَّازِمِ ; لِأَنَّ الذِّهْنَ يَنْتَقِلُ عَنِ الْمَلْزُومِ إِلَى اللَّازِمِ، انْتِقَالًا عَقْلِيًّا ضَرُورِيًّا ; فَيَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الْمَلْزُومِ الْمُنْتَقَلِ عَنْهُ قَصْدُ اللَّازِمِ الْمُنْتَقَلَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «لِأَنَّا نَقُولُ» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْمَنْعِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الزِّيَادَةِ قَصْدُ رَفْعِ الِاسْتِقْلَالِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ لَوَازِمِهَا ; لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَوَّرُ الْمَلْزُومُ مَنْ هُوَ
(2/294)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَافِلٌ عَنِ اللَّازِمِ، وَإِذَا جَازَتِ الْغَفْلَةُ عَنِ اللَّازِمِ، اسْتَحَالَ قَصْدُهُ، إِذْ قَصْدُ الشَّيْءِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ تَصَوُّرِهِ مُحَالٌ.
قُلْتُ: فَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمَنْسُوخَ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالرَّفْعِ أَمْ لَا، فَإِنِ اشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِالرَّفْعِ، لَمْ يَكُنْ رَفْعُ اسْتِقْلَالِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ نَسْخًا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالرَّفْعِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ بِالِاقْتِضَاءِ الضَّرُورِيِّ.
وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ، بَلْ يَكْفِي فِي الْمَنْسُوخِ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا بِالْقَصْدِ، أَوِ الِاقْتِضَاءِ الضَّرُورِيِّ، كَانَ رَفْعُ الِاسْتِقْلَالِ نَسْخًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/295)
________________________________________
الْخَامِسَةُ:
يَجُوزُ نَسْخُ الْعِبَادَةِ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ، خِلَافًا لِقَوْمٍ. لَنَا: الرَّفْعُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَلَ، وَلَا يَمْتَنِعُ رَدُّ الْمُكَلَّفِ إِلَى مَا قَبْلَ الشَّرْعِ، ثُمَّ تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ أَمَامَ النَّجْوَى وَغَيْرُهُ نُسِخَ لَا إِلَى بَدَلٍ. قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} يَقْتَضِيهِ. قُلْنَا: لَفْظًا لَا حُكْمًا، أَوْ نَأْتِ مِنْهَا بِخَيْرٍ، عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ.
وَنَسْخُ الْحُكْمِ بِأَخَفَّ مِنْهُ إِجْمَاعًا.
وَبِمِثْلِهِ، لَا يُقَالُ: هُوَ عَبَثٌ. لِأَنَّا نَقُولُ: فَائِدَتُهُ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِ بِانْتِقَالِهِ مِنْ حُكْمٍ إِلَى حُكْمٍ.
وَبِأَثْقَلَ مِنْهُ، خِلَافًا لِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ. لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِتَضَمُّنِهِ مَفْسَدَةً، وَقَدْ نُسِخَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصِّيَامِ إِلَى تَعْيِينِهِ، وَجَوَازُ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ إِلَى وُجُوبِهَا فِيهِ، وَتَرْكُ الْقِتَالِ إِلَى وُجُوبِهِ، وَإِبَاحَةُ الْخَمْرِ، وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمُتْعَةِ إِلَى تَحْرِيمِهَا. قَالُوا: تَشْدِيدٌ ; فَلَا يَلِيقُ بِرَأْفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} ، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} ، {أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} . قُلْنَا: مَنْقُوضٌ بِتَسْلِيطِهِ الْمَرَضَ وَالْفَقْرَ وَأَنْوَاعَ الْآلَامِ وَالْمُؤْذِيَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَصَالِحَ عَلِمَهَا. قُلْنَا: فَقَدْ أَجَبْتُمْ عَنَّا، وَالْآيَاتُ وَرَدَتْ فِي صُوَرٍ خَاصَّةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الْخَامِسَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ الْعِبَادَةِ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ» عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، «خِلَافًا لِقَوْمٍ» ، وَهُمُ الْأَقَلُّونَ.
«لَنَا: الرَّفْعُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَلَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ، وَالرَّفْعُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْبَدَلَ، بَلْ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِدُونِ بَدَلٍ، وَاعْتُبِرْ ذَلِكَ بِالْمَحْسُوسَاتِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ رَفْعِ الْحَجَرِ مِنْ مَكَانِهِ أَنَّهُ يَضَعُ
(2/296)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَكَانَهُ غَيْرَهُ، بَلْ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ النَّسْخُ فِي الشَّرِيعَةِ، تَارَةً إِلَى الْبَدَلِ، وَتَارَةً لَا إِلَى بَدَلٍ.
وَأَيْضًا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مَصْلَحَةَ الْمُكَلَّفِ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ عَنْهُ لَا إِلَى بَدَلٍ، وَرَدِّهِ إِلَى مَا قَبْلَ الشَّرْعِ مِنْ إِبَاحَةٍ أَوْ حَظْرٍ أَوْ وَقْفٍ، عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْخِلَافِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ لَمْ يَكُنِ النَّسْخُ لَا إِلَى بَدَلٍ جَائِزًا، لَمَا وَقَعَ، لَكِنَّهُ قَدْ وَقَعَ ; فَيَكُونُ جَائِزًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ أَمَامَ النَّجْوَى، أَيْ: بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى، وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، نُسِخَ لَا إِلَى بَدَلٍ.
وَشَرْحُ ذَلِكَ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَكْثَرُوا مِنْ سُؤَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ فِي سَبَبِهَا: أَنَّ قَوْمًا مِنْ شَبَابِ الْمُؤْمِنِينَ، كَثُرَتْ مُنَاجَاتُهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَيْرِ حَاجَّةٍ، إِلَّا لِتَظْهَرَ مَنْزِلَتُهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمْحًا لَا يَرُدُّ أَحَدًا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُشَدِّدَةً عَلَيْهِمْ أَمْرَ الْمُنَاجَاةِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْأَغْنِيَاءِ ; لِأَنَّهُمْ غَلَبُوا الْفُقَرَاءَ عَلَى مُنَاجَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَجْلِسِهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ وَالْكَلْبِيِّ فِي قَوْلِهِ: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [الْمُجَادَلَةِ: 12] ، قَالَا: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، مَا كَانَتْ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: جَاءَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدِينَارٍ ; فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَكَلَّمَ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمْسَكَ النَّاسُ عَنْ كَلَامِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَ التَّخْفِيفُ ; فَقَالَ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} حَتَّى بَلَغَ: {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الْمُجَادَلَةِ: 13] .
(2/297)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّدَقَةَ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى نُسِخَتْ لَا إِلَى بَدَلٍ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي الْآيَةِ النَّاسِخَةِ: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الْمُجَادَلَةِ: 13] ; فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَدَلَ الصَّدَقَةِ.
قُلْنَا: لَيْسَتْ هَذِهِ أَبْدَالًا ; لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَ ذَلِكَ، بِمُوجِبِ أَصْلِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ: إِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ; فَارْجِعُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ أَوَّلًا، مِنْ إِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَطَاعَةِ الرَّسُولِ.
وَمِمَّا يُذْكَرُ مِنْ أَمْثِلَةِ النَّسْخِ لَا إِلَى بَدَلٍ: نَسْخُ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، مَتَى نَامَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، حَرُمَ عَلَيْهِ الْأَكْلُ حَتَّى اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ ; فَخَفَّفَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، بِنَسْخِهِ بِإِبَاحَةِ الْأَكْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَوَلًا، بِاعْتِدَادِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ; فَتَمَامُ الْحَوَلِ نُسِخَ لَا إِلَى بَدَلٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخُ النَّهْيِ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(2/298)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ ; فَكُلُوا وَادَّخِرُوا مَا شِئْتُمْ. وَهُوَ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ.
وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُ كَوْنَ هَذَا نَسْخًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَسْخٌ لِدُخُولِهِ فِي حَدِّ النَّسْخِ، وَكَوْنِهِ ثَبْتَ لِحِكْمَةٍ، ثُمَّ زَالَ بِزَوَالِهَا، لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ نَسْخًا، إِذْ سَائِرُ صُوَرِ النَّسْخِ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} يَقْتَضِيهِ» . هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [الْبَقَرَةِ: 106] ، يَقْتَضِي أَنَّ النَّسْخَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِلَى بَدَلٍ كَمَا يُقَالُ: مَا تَبِعَ مِنْ جَارِيَةٍ أَوْ غُلَامٍ، تَشْتَرِ خَيْرًا مِنْهُ، أَوْ مِثْلَهُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: لَفْظًا لَا حُكْمًا» . هَذَا جَوَابٌ عَنِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لُزُومَ الْبَدَلِ فِي نَسْخِ الْآيَةِ لَفْظًا لَا حُكْمًا، يَعْنِي أَنَّهُ يُنْسَخُ آيَةً بِآيَةٍ ; فَلَفْظُ الْآيَةِ النَّاسِخَةِ بَدَلٌ عَنْ لَفْظِ الْمَنْسُوخَةِ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النَّحْلِ: 101] ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ أَيَّ حُكْمٍ نَسَخْنَاهُ، أَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْبَدَلِ اللَّفْظِيِّ الْبَدَلُ الْحُكْمِيُّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا. وَالتَّقْدِيرُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ: نَأْتِ مِنْهَا بِخَيْرٍ، أَيْ: نَأْتِ مِنْ نَسْخِهَا بِخَيْرٍ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ تَخْفِيفُ حُكْمِهَا بِالنَّسْخِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ، هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
(2/299)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَهُنَا جَوَّابَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي بَدَلًا فِي النَّسْخِ أَصْلًا ; لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِبَدَلِ الْآيَةِ مِثْلَهَا، أَوْ خَيْرًا مِنْهَا، وَقَعَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ، الَّذِي هُوَ النَّسْخُ ; فَهُوَ مَشْرُوطٌ لَهُ، وَالْمَشْرُوطُ مَلْزُومٌ لِلشَّرْطِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ انْتِفَاءُ اللَّازِمِ، وَلَا ثُبُوتُهُ ; فَانْتِفَاءُ الْبَدَلِ فِي النَّسْخِ، لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَلَا ثُبُوتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِانْتِفَاءِ الْبَدَلِ دَلَالَةٌ عَلَى النَّسْخِ، نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، جَازَ أَنْ يُوجَدَ النَّسْخُ بِدُونِ الْبَدَلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي النَّسْخِ مِنْ بَدَلٍ، قَدْ يَكُونُ فِي [غَيْرِ] الْمَصْلَحَةِ ; فَيَكُونُ عَدَمُ بَدَلِ الْحُكْمِ أَصْلَحَ لِلْمُكَلَّفِ ; فَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ بَدَلٌ عَنْ مَصْلَحَةِ الْمَنْسُوخِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُفْهُ حُكْمٌ ; لِأَنَّهَا مَصْلَحَةٌ عَدَمِيَّةٌ، أَيْ: نَاشِئَةٌ عَنْ عَدَمِ الْحُكْمِ.
وَأَجَابَ الْقَرَافِيُّ عَنِ الْآيَةِ: بِأَنَّهَا صِيغَةُ شَرْطٍ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، بَلْ قَدْ يَكُونَ مُحَالًا، كَقَوْلِنَا: إِنْ كَانَ الْوَاحِدُ نِصْفَ الْعَشَرَةِ ; فَالْعَشَرَةُ اثْنَانِ ; فَهَذَا شَرْطٌ مُحَالٌ، وَالْكَلَامُ عَرَبِيٌّ صَحِيحٌ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَلْزِمِ الشَّرْطُ الْإِمْكَانَ، لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْوُقُوعِ مُطْلَقًا ; فَضْلًا عَنِ الْوُقُوعِ بِبَدَلٍ.
قَوْلُهُ: «وَنَسْخُ الْحُكْمِ بِأَخَفَّ مِنْهُ» ، أَيْ: يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِأَخَفَّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّهُ تَخْفِيفٌ عَنِ الْمُكَلَّفِ، وَهُوَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، بَلْ هُوَ عَامُّ الْجُودِ عَلَى خَلْقِهِ.
قَوْلُهُ: «وَبِمِثْلِهِ» ، أَيْ: وَيَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ فِي الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ.
قَوْلُهُ: «لَا يُقَالُ: هُوَ عَبَثٌ» هَذَا تَقْرِيرُ سُؤَالٍ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: نَسْخُ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ عَبَثٌ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَثَلَيْنِ يَسُدُّ مَسَدَّ الْآخَرِ ; فَالنَّقْلُ عَنْهُ
(2/300)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَى مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ زَائِدَةٍ عَبَثٌ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ.
قَوْلُهُ: «لِأَنَّا نَقُولُ» هَذَا جَوَابُ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَقْلَ الْمُكَلَّفِ عَنْ حُكْمٍ إِلَى مِثْلِهِ لَا فَائِدَةَ لَهُ، بَلْ فَائِدَتُهُ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِ، بِانْتِقَالِهِ مِنْ حُكْمٍ إِلَى حُكْمٍ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْقِيَادِهِ، وَطَاعَتِهِ، وَعَدَمِ مُخَالَفَتِهِ. فَإِنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الشَّرْعَ قَالَ لَنَا الْآنَ: لَا تُصَلُّوا الظُّهْرَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، بَلْ صَلُّوهَا قَبْلَ الزَّوَالِ، أَوْ صَلَّوُا الْفَجْرَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. فَبَادَرَ قَوْمٌ إِلَى ذَلِكَ، وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ ; فَقَالُوا: حَقِيقَةُ الزَّمَانِ وَاحِدَةٌ ; فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَهُ، وَبَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَهُ، حَتَّى يَنْقُلَهَا إِلَيْهِ؟ لَكَانَ الْمُبَادِرُونَ إِلَى الِامْتِثَالِ أَفْضَلُ وَأَطْوَعُ، لِتَرْكِهِمُ الِاعْتِرَاضَ، بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ وَجَبَتِ الظُّهْرُ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ تَجِبْ قَبْلَهُ؟ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ مَعَ تَمَاثُلِهِمَا؟ لَعُدَّ مُعْتَرِضًا مُتَكَلِّفًا ; فَكَانَ مَنْ لَا يَعْتَرِضُ بِذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْهُ، لِسُكُوتِهِ عَنِ التَّعَرُّضِ، وَانْقِيَادِهِ لِلتَّعَبُّدِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُ قُيِّدَ انْقَادَ.
وَمِثْلُ هَذَا، لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَصْحَابَهُ بِالْإِحْلَالِ مِنَ الْحَجِّ بِالْحُدَيْبِيَةِ، تَوَقَّفُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ ; فَغَضِبَ لِعَدَمِ مُبَادَرَتِهِمْ، لِكَوْنِهِ أَمَرَهُمْ بِخِلَافِ مَا اعْتَادُوهُ، ثُمَّ لَمَّا
(2/301)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
امْتَثَلُوا حَلَقَ قَوْمٌ، وَقَصَّرَ آخَرُونَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ; فَقِيلَ لَهُ: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ. فَقِيلَ لَهُ: اسْتَغْفَرْتَ لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً؟ فَقَالَ: لِأَنَّ الْمُحَلِّقِينَ لَمْ يَشُكُّوا. قَوْلُهُ: «وَبِأَثْقَلَ مِنْهُ» ، أَيْ: وَيَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِأَثْقَلَ مِنْهُ، «خِلَافًا لِبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ» .
(2/302)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَمَنَعَ مِنْهُ أَيْضًا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ إِلَى الْأَثْقَلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ، لَامْتَنَعَ لِذَاتِهِ، أَوْ لِتَضَمُّنِهِ مَفْسَدَةً، لَكِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ; فَلَا يَمْتَنِعُ أَصْلًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ وُقُوعُهُ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، بَلْ قَدْ وَقَعَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ نَسْخًا لِلْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِتَضَمُّنِهِ مَفْسَدَةً ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَفْسَدَةِ فِيهِ، وَمَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ مَفْسَدَةً فِيهِ، سَنُجِيبُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ قَدْ يَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً عَظِيمَةً، وَهُوَ تَدْرِيجُ الْمُكَلَّفِ مِنَ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ ; فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِهِ ; فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ ; فَلَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا أَصْلًا ; فَيَكُونُ جَائِزًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ. وَبَيَانُ وُقُوعِهِ بِصُوَرٍ:
إِحْدَاهُنَّ: نَسْخُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِدْيَةِ وَالصِّيَامِ إِلَى تَعْيِينِهِ ; فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، يُخَيَّرُ أَحَدُهُمْ بَيْنَ أَنْ يَصُومَ، وَبَيْنَ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ ; فَنُسِخَ ذَلِكَ إِلَى وُجُوبِ الصِّيَامِ عَيْنًا، وَذَلِكَ أَثْقَلُ مِنَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ حَالَ الْقِتَالِ إِلَى وُجُوبِهَا عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [الْبَقَرَةِ: 239] ، وَكَانَ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْقِتَالُ، وَوُجُوبُهَا فِي وَقْتِهِ أَثْقَلُ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: نَسْخُ تَرْكِ الْقِتَالِ إِلَى وُجُوبِهِ، فَإِنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَتْرُوكًا فِي أَوَّلِ
(2/303)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْإِسْلَامِ، بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [النِّسَاءِ: 81] ، {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [الْمَائِدَةِ: 13] ، {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} [الْبَقَرَةِ: 109] ، ثُمَّ نُسِخَ بِوُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الْحَجِّ: 39] ، {قَاتِلُوهُمْ} [التَّوْبَةِ: 14] ، {وَاقْتُلُوهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 191] ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التَّحْرِيمِ: 9] ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَوُجُوبُ الْقِتَالِ أَثْقَلُ مِنْ تَرْكِهِ.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْخَمْرَ، وَالْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ، وَمُتْعَةَ النِّكَاحِ، كَانَتْ كُلُّهَا مُبَاحَةً ; فُنِسَخَتْ إِبَاحَتُهَا إِلَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ أَثْقَلُ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ صُورَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ:
(2/304)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِحْدَاهُمَا: نَسْخُ حَبْسِ الزَّانِيَةِ فِي الْبَيْتِ حَتَّى تَمُوتَ، وَتَعْنِيفِ الزَّانِي، بِإِيجَابِ الْحَدِّ رَجْمًا، أَوْ جَلَدًا وَتَغْرِيبًا، وَهُوَ أَثْقَلُ، وَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الزَّانِي كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، إِنْ كَانَ امْرَأَةً، حُبِسَتْ حَتَّى تَمُوتَ، وَإِنْ كَانَ رَجُلًا، عُنِّفَ، وَأُوذِيَ بِالْقَوْلِ، عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النِّسَاءِ: 15 - 16] ، أَيْ بِالتَّعْنِيفِ وَالذَّمِّ ; فَنُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الرَّجْمِ، وَآيَةِ النُّورِ، فِي جَلْدِ الْبِكْرِ وَغَيْرِهِ.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: نَسْخُ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ.
قُلْتُ: وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا، ثُمَّ نُسِخَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ عَاشُورَاءُ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، صَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا افْتُرِضَ رَمَضَانُ، كَانَ رَمَضَانُ هُوَ الْفَرِيضَةَ، وَتُرِكَ عَاشُورَاءُ ; فَمَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَاللَّفْظُ لَهُ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: تَشْدِيدٌ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْمَانِعِينَ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ إِلَى الْأَثْقَلِ تَشْدِيدٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِرَأْفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَحْمَتِهِ ; لِأَنَّ شَأْنَهُ التَّسْهِيلُ عَلَى خَلْقِهِ، لَا التَّشْدِيدُ عَلَيْهِمْ.
(2/305)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالتَّيْسِيرِ، نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 66] ، يَعْنِي خَفَّفَ عَنْكُمْ ثَبَاتَ الْوَاحِدِ لِعَشَرَةٍ فِي الْجِهَادِ، بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ثَبَاتِهِ لِاثْنَيْنِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاءِ: 28] .
وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} ، {أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ، اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ (يُرِيدُ اللَّهُ) فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِخْدَامِ.
قَالُوا: وَالنَّسْخُ إِلَى الْأَثْقَلِ عُسْرٌ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُرِيدُهُ، وَمَا لَا يُرِيدُهُ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ ; فَالنَّسْخُ إِلَى الْأَثْقَلِ يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَنْقُوضٌ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهَيْنِ.
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ - تَشْدِيدٌ لَا يَلِيقُ بِالرَّأْفَةِ الْإِلَهِيَّةِ -: فَبِأَنَّهُ «مَنْقُوضٌ بِتَسْلِيطِهِ الْمَرَضَ وَالْفَقْرَ وَأَنْوَاعَ الْآلَامِ، وَالْمُؤْذِيَاتِ عَلَى الْخَلْقِ» ، مَعَ أَنَّهُ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِمْ ; فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ، وَحَيْثُ وَقَعَ ; فَالنَّسْخُ إِلَى الْأَثْقَلِ مِثْلُهُ ; فَلْيَكُنْ وُقُوعُهُ جَائِزًا.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ قِيلَ: لِمَصَالِحَ عَلِمَهَا» ، هَذَا جَوَابٌ مِنَ الْخَصْمِ عَنِ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّقْضَ بِالْمَرَضِ، وَالْفَقْرِ، وَالْآلَامِ، لَا يَلْزَمُنَا ; لِأَنَّ ابْتِلَاءَهُ الْخَلْقَ
(2/306)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِذَلِكَ، لِمَصَالِحَ عَلِمَهَا لَهُمْ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: فَقَدْ أَجَبْتُمْ عَنَّا» ، أَيْ: هَذَا الْجَوَابُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ; فَهُوَ جَوَابُنَا عَنْ كَوْنِ النَّسْخِ إِلَى الْأَثْقَلِ تَشْدِيدًا، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: النَّسْخُ إِلَى الْأَثْقَلِ لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا فِيهِ، كَمَا أَنَّ ابْتِلَاءَهُ لَهُمْ بِالْمَرَضِ، وَسَائِرِ الْمَكَارِهِ، لِمَصَالِحَ عَلِمَهَا لَهُمْ فِيهِ، ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّشْدِيدِ مُنْتَقَضٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا بِأَصْلِ التَّكْلِيفِ ; فَإِنَّهُ تَشْدِيدٌ، وَتَرْكُهُ أَسْهَلُ عَلَيْهِمْ ; فَمُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: عَدَمُ التَّكْلِيفِ بِالْكُلِّيَّةِ، لَكِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقٍ، كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَالِاعْتِقَادِيَّةِ، وَالْعَمَلِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَالْآيَاتُ وَرَدَتْ فِي صُوَرٍ خَاصَّةٍ» ، يَعْنِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي التَّخْفِيفِ، وَرَدَتْ فِي أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ، وَلَيْسَتْ عَامَّةً، حَتَّى يُحْتَجَّ بِعُمُومِهَا عَلَى مَنْعِ النَّسْخِ إِلَى الْأَثْقَلِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الْأَنْفَالِ: 66] ; فَهِيَ فِي الْجِهَادِ كَمَا ذُكِرَ، بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الْأَنْفَالِ: 66] ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ; فَهِيَ فِي سِيَاقِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، لِمَنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلَ حُرَّةٍ، ثُمَّ هِيَ مُطْلَقَةٌ، لَا عُمُومَ لِلَفْظِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [الْبَقَرَةِ: 185] ; فَهُوَ فِي سِيَاقِ تَخْفِيفِ الصَّوْمِ عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَاللَّامُ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ وَإِنِ احْتمَلَ أَنَّهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ، لَكِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَهُوَ الْيُسْرُ الْحَاصِلُ بِالْإِفْطَارِ، لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَالْعُسْرُ الْحَاصِلُ لَهُمَا بِالصَّوْمِ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ. عَلَى أَنَّ ابْنَ الْخَشَّابِ حَكَى فِي «الْمُرْتَجَلِ» عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ الْكَلَامَ مَتَى كَانَ فِيهِ
(2/307)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعْهُودٌ، تَعَيَّنَ رُجُوعُ اللَّامِ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ إِذَا انْتَفَى الْمَعْهُودُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/308)
________________________________________
وَلَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي، وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ لُزُومَهُ عَلَى انْعِزَالِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ دَوْرِيٌّ. لَنَا: لَوْ لَزِمَهُ لَاسْتَأْنَفَ أَهْلُ قُبَاءَ الصَّلَاةَ حِينَ عَلِمُوا بِنَسْخِ الْقِبْلَةِ. قَالَ: النَّسْخُ بِوُرُودِ النَّاسِخِ، لَا بِالْعِلْمِ بِهِ. وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَعْذُورِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْحَائِضِ وَالنَّائِمِ. وَالْقِبْلَةُ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ، وَهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ. قُلْنَا: الْعِلْمُ شَرْطُ اللُّزُومِ ; فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ، وَالْحَائِضُ وَالنَّائِمُ عَلِمَا التَّكْلِيفَ، بِخِلَافِ هَذَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفُ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، اخْتَارَهُ الْقَاضِي» ، أَيْ: لَا يَثْبُتُ النَّسْخُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ.
مِثَالُهُ: لَوْ نُسِخَتْ إِبَاحَةُ بَعْضِ الْمَطْعُومَاتِ الْمُبَاحَةِ، كَالْعِنَبِ، بِأَنْ قِيلَ: هُوَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ ; فَمَنْ بَلَغَهُ هَذَا النَّسْخُ، ثَبَتَ التَّحْرِيمُ فِي حَقِّهِ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، حَتَّى لَوْ أَكَلَ بَعْدَ النَّسْخِ، وَقَبْلَ الْعِلْمِ، لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا، وَكَذَا لَوْ زِيدَ فِي الصَّلَوَاتِ صَلَاةٌ، أَوْ فِي الْفَجْرِ رَكْعَةٌ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ، لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهَا حَتَّى يَبْلُغَهُ.
«وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ لُزُومَهُ» ، أَيْ: لُزُومَ حُكْمِ النَّاسِخِ لِلْمُكَلَّفِ قَبْلَ بُلُوغِهِ «عَلَى انْعِزَالِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ» ، يَعْنِي أَنَّ فِي لُزُومِ حُكْمِ النَّاسِخِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ قَوْلَيْنِ، كَالْقَوْلَيْنِ فِيمَا إِذَا عَزَلَ الْمُوَكَّلُ الْوَكِيلَ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ، هَلْ يَنْعَزِلُ أَمْ لَا؟
إِنْ قُلْنَا: يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ بِالْعَزْلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، لَزِمَ الْمُكَلَّفَ حُكْمُ النَّاسِخِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَوَجْهُ هَذَا التَّخْرِيجِ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ فِي الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوَامِرِ اللَّهِ
(2/309)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَعَالَى، كَالْوَكِيلِ فِي التَّصَرُّفَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِذْنِ الْمُوَكِّلِ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَعْنِي الْمُكَلَّفَ وَالْوَكِيلَ، لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ إِلَّا بِمُقْتَضَى الْإِذْنِ، وَيَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ، فَإِذَا قَالَ الْمُوَكِّلُ لِوَكِيلِهِ: عَزَلْتُكَ، انْعَزَلَ. وَلَوْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُكَلَّفِ: أَسْقَطْتُ عَنْكَ التَّكْلِيفَ، لَسَقَطَ عَنْهُ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْعِبَادَاتِ فِيمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ قَبْلُ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ تَخْرِيجٌ دَوْرِيٌّ» ، أَيْ: تَخْرِيجُ أَبِي الْخَطَّابِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، عَلَى مَسْأَلَةِ انْعِزَالِ الْوَكِيلِ، يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أُصُولِيَّةٌ، وَمَسْأَلَةُ عَزْلِ الْوَكِيلِ فَرْعِيَّةٌ ; فَهِيَ فَرْعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ النَّسْخِ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ تَخْرِيجُ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ ; فَلَوْ خَرَّجْنَا هَذَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ فِي النَّسْخِ عَلَى الْفَرْعِ الْمَذْكُورِ فِي الْوَكَالَةِ، لَزِمَ الدَّوْرُ، لِتَوَقُّفِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَيْهِ ; فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ تَوَقُّفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ بِوَاسِطَةٍ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْحُكْمُ، أَعْنِي عَدَمَ لُزُومِ حُكْمِ النَّاسِخِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، لَا يَخْتَصُّ النَّاسِخُ، بَلْ سَائِرُ النُّصُوصِ، نَاسِخَةً كَانَتْ، أَوْ مُبْتَدِئَةً ; فِيهَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ. وَالْأَشْبَهُ مَا صَحَّحْنَاهُ مِنْ عَدَمِ اللُّزُومِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا وَرَدَ النَّاسِخُ إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ بُلُوغِهِ الْأُمَّةَ ; فَأَثْبَتَ حُكْمَهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَنَفَاهُ بَعْضُهُمْ، وَبِهِ قَالَ
(2/310)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحْمَدُ وَالْحَنَفِيَّةُ، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
أَمَّا إِذَا كَانَ مَعَ جِبْرِيلَ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ اتِّفَاقًا.
قُلْتُ: لَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ: هُوَ أَنَّهُ إِذَا بَلَغَ النَّصُّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَدْ بَلَغَ مَحَلَّ التَّكْلِيفِ الْبَشَرِيِّ ; فَثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، تَنْزِيلًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْزِلَةَ جَمِيعِهِمْ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ.
قُلْتُ: وَلَا يَظْهَرُ لِهَذَا التَّفْصِيلِ أَثَرٌ، وَلَا مُنَاسَبَةٌ، بَلِ الْأَوْلَى أَنَّ النَّصَّ مُطْلَقًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ بَلَغَهُ، نَفْيًا لِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ لِلتَّكْلِيفِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْمُكَلَّفِ بِهِ. وَلَعَلَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا - خَرَّجَ قَوْلًا لَهُ ثَالِثًا فِي أَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ، إِنْ عَلِمَ بِالنَّصِّ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِهِ انْتَقَضَ بِهِ وُضُوءُهُ، وَإِلَّا فَلَا.
وَكَذَلِكَ فِيمَنْ خَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ ; فَرَكَعَ فَذًّا دُونَ الصَّفِّ، ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ، إِنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، وَإِلَّا صَحَّتْ، هُوَ قَوْلٌ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ.
(2/311)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا لَوْ لَزِمَهُ، لَاسْتَأْنَفَ أَهْلُ قُبَاءَ الصَّلَاةَ حِينَ عَلِمُوا بِنَسْخِ الْقِبْلَةِ» .
هَذَا دَلِيلُ الْقَاضِي، وَمَنْ وَافَقَهُ، عَلَى أَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ بُلُوغِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ بَلَغَهُمْ نَسْخُ الْقِبْلَةِ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوِ الْفَجْرِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَبَنَوْا عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَأْنِفُوهَا. وَلَوْ ثَبَتَ حُكْمُ النَّاسِخِ فِي حَقِّهِمْ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِيَّاهُمْ، لَزِمَهُمُ اسْتِئْنَافُ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّهُمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقِبْلَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا ; فَحَيْثُ افْتَتَحُوهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ; فَقَدْ أَخَلُّوا بِشَرْطِهَا ; فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَسْتَأْنِفُوهَا ; لِأَنَّ افْتِتَاحَهُمْ لَهَا وَقَعَ فَاسِدًا، لِلْإِخْلَالِ بِشَرْطِهِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَأْنِفُوهَا، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِاسْتِئْنَافِهَا، مَعَ أَنَّ مِثْلَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، لَا يَخْفَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَادَةً ; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِأَنَّ حُكْمَ النَّاسِخِ لَا يَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ.
قَوْلُهُ: «قَالَ» ، يَعْنِي أَبَا الْخَطَّابِ وَمَنْ وَافَقَهُ، احْتَجَّ لِقَوْلِهِ بِأَنَّ «النَّسْخَ بِوُرُودِ
(2/312)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النَّاسِخِ لَا بِالْعِلْمِ بِهِ» فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: النَّسْخُ يَحْصُلُ بِوُرُودِ النَّاسِخِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ رَفَعُ الْحُكْمِ، وَبِوُرُودِ النَّاسِخِ يَحْصُلُ الرَّفْعُ، سَوَاءٌ بَلَغَ الْمُكَلَّفَ النَّاسِخُ أَوْ لَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّهِ مُطْلَقًا، بَلَغَهُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ.
نَعَمْ إِذَا لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ ; فَأَخَلَّ بِامْتِثَالِ حُكْمِهِ، كَانَ مَعْذُورًا بِعَدَمِ الْعِلْمِ ; فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِدْرَاكُ بِالْقَضَاءِ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَعْذُورِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْحَائِضِ وَالنَّائِمِ، يَقْضِيَانِ مَا فَاتَهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَقْتَ الْحَيْضِ وَالنَّوْمِ، مَعَ أَنَّهُمَا مَعْذُورَانِ.
كَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ، يَقْضِي مَا فَاتَهُ مِنْ حُكْمِهِ فِي حَالِ عَدَمِ بُلُوغِهِ إِيَّاهُ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ عَدَمِ الْعِلْمِ فِي سُقُوطِ الْإِثْمِ ; فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ بِالنَّاسِخِ، وَتَرَكَ مُقْتَضَاهُ، أَثِمَ، وَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ، لَزِمَهُ الْقَضَاءُ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ.
قَوْلُهُ: «وَالْقِبْلَةُ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ» . هَذَا جَوَابٌ مِنْ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ قِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ قُبَاءَ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى عَدَمِ لُزُومِ حُكْمِ النَّاسِخِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْذُورِينَ بِعَدَمِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا أَخَلُّوا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ صَلَاتِهِمْ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ مَا إِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ جِهَتُهَا ; فَاجْتَهَدَ ; فَأَخْطَأَهَا، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ، وَإِنْ وَقَعَتْ جَمِيعُهَا إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ; فَلَأَنْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ، مَعَ تَرْكِ الِاسْتِقْبَالِ فِي جُزْءٍ مِنْهَا لِلْعُذْرِ، أَوْلَى.
قَوْلُهُ: «وَقُلْنَا: الْعِلْمُ شَرْطُ اللُّزُومِ ; فَلَا يَثْبُتُ دُونَهُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ
(2/313)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ دَلِيلِ أَبِي الْخَطَّابِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّسْخَ يَحْصُلُ بِوُرُودِ النَّاسِخِ كَمَا قَرَّرْتُهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِهِ، أَيْ: عِلْمَ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَبُلُوغَهُ إِيَّاهُ، شَرْطٌ لِلُزُومِ حُكْمِهِ لَهُ ; فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ بِدُونِهِ، أَيْ: بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ، لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْعِلْمَ بِالْحُكْمِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ لِلْمُكَلَّفِ، لِمَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ، وَذُكِرَ آنِفًا أَيْضًا، مَنْ لُزُومِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، أَوْ تَكْلِيفِ مَا لَا يَعْلَمُهُ الْمُكَلَّفُ.
قَوْلُهُ: «وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَعْذُورِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، كَالْحَائِضِ وَالنَّائِمِ» .
قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحَائِضَ وَالنَّائِمَ عَلِمَا التَّكْلِيفَ، أَيْ: عَلِمَا أَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ بِالصَّوْمِ مَثَلًا ; فَوُجِدَ شَرْطُ لُزُومِ الْحُكْمِ لَهُمَا، بِخِلَافِ هَذَا، أَيْ: الَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ ; فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ لُزُومِ الْحُكْمِ لَهُ ; فَلَا يَلْزَمُهُ ; فَظَهْرَ الْفَرْقُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/314)
________________________________________
السَّادِسَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ كُلٍّ مِنَ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ وَآحَادِهَا بِمِثْلِهِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَقَدْ وَقَعَ، إِذِ التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَتَحْرِيمُ الْمُبَاشَرَةِ لَيَالِي رَمَضَانَ، وَجَوَازُ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ.
احْتَجَّ بِأَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ ; فَكَيْفَ يُبْطِلُ مُبَيِّنَهُ، وَلِأَنَّ النَّاسِخَ يُضَادُّ الْمَنْسُوخَ، وَالْقُرْآنُ لَا يُضَادُّ السُّنَّةَ، وَمَنَعَ الْوُقُوعَ الْمَذْكُورَ.
وَأُجِيبُ بِأَنَّ بَعْضَ السُّنَّةِ مُبَيِّنٌ لَهُ، وَبَعْضُهَا مَنْسُوخٌ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّادِسَةُ: يَجُوزُ نَسْخُ كُلٍّ مِنَ الْكِتَابِ، وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ، وَآحَادِهَا بِمِثْلِهِ» ، أَيْ: يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَمُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ بِمُتَوَاتِرِهَا، وَآحَادُهَا بِآحَادِهَا. وَهَذَا اتِّفَاقٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَمَاثِلٌ ; فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضُهُ بَعْضًا.
فَإِنْ قِيلَ: الْمِثْلَانِ يَسْتَوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَسُدُّ أَحَدُهُمَا مَسَدَّ الْآخَرِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ ارْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِأَنْ يَرْتَفِعَ بِالْآخَرِ مِنَ الْعَكْسِ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ قَدْ سَبَقَ عَلَى حَدِّ النَّسْخِ، بِأَنَّهُ رَفَعَ الْحُكْمَ، وَسَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ، بِأَنَّ النَّاسِخَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ رَافِعًا بِقُوَّتِهِ، بِكَوْنِهِ وَارِدًا.
قَوْلُهُ: «وَنَسْخُ السُّنَّةِ» ، أَيْ: وَيَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ «بِالْكِتَابِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ» .
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا، وَوَاقِعٌ سَمْعًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ، مَنِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَمُمْتَنِعٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
(2/315)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى جَوَازِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، أَيْ: لِكَوْنِهِ نَسَخَ السُّنَّةَ بِالْقُرْآنِ، وَلَا لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ قَرِيبًا، وَإِذَا لَمْ يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ، كَانَ جَائِزًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَالْوُقُوعُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَبَيَانُ وُقُوعِهِ بِصُوَرٍ:
إِحْدَاهُنَّ: التَّوَجُّهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الْبَقَرَةِ: 144] .
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: تَحْرِيمُ الْأَكْلِ وَالْمُبَاشَرَةِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إِلَى قَوْلِهِ: {الْفَجْرِ} [الْبَقَرَةِ: 187] .
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: تَأْخِيرُ صَلَاةِ الْخَوْفِ إِلَى حَالِ الْأَمْنِ، ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النِّسَاءِ: 102] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [الْبَقَرَةِ: 239] .
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ صُورَةً أُخْرَى، وَهِيَ صُلْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَهْلِ مَكَّةَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الْمُمْتَحَنَةِ: 10] ; فَهَذِهِ أَحْكَامُ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَتْ بِالْكِتَابِ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْجَوَازِ.
قَوْلُهُ: «احْتَجَّ» ، يَعْنِي الشَّافِعِيَّ، «عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ» :
أَحَدُهُمَا: لَوْ جَازَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ، لَكَانَ الْكِتَابُ مُبْطِلًا لِمُبَيِّنِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ; فَالْقَوْلُ بِنَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ بَاطِلٌ.
أَمَّا الْمُلَازَمَةُ ; فَلِأَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] ، وَالنَّاسِخُ يُبْطِلُ الْمَنْسُوخَ ; فَالْكِتَابُ لَوْ نَسَخَ السُّنَّةَ، لَأَبْطَلَهَا، وَهِيَ مُبَيِّنَةٌ لَهُ ; فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِمُبَيِّنِهِ.
(2/316)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا أَنَّ إِبْطَالَ الْقُرْآنِ لِمُبَيِّنِهِ بَاطِلٌ ; فَلِأَنَّهُ إِذَا بَطَلَ مُبَيِّنُهُ، بَقِيَ بِغَيْرِ مُبَيِّنٍ ; فَيَرْجِعُ إِلَى الْإِجْمَالِ الْمُوجِبِ لِلتَّوَقُّفِ فِيهِ، وَتَعْطِيلُ أَلْفَاظِهِ عَنِ الِاسْتِعْمَالِ. وَأَيْضًا السُّنَّةُ مُبَيِّنَةٌ لِلْقُرْآنِ ; فَلَوْ بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ بِنَسْخِهِ لَهَا، لَزِمَ الدَّوْرُ، إِذْ يَصِيرُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُبَيِّنًا لِلْآخَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّاسِخَ يُضَادُّ الْمَنْسُوخَ، وَالْقُرْآنُ لَا يُضَادُّ السُّنَّةَ، وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ بَيَانًا لَهُ ; فَالْقُرْآنُ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَمَنَعَ الْوُقُوعَ الْمَذْكُورَ» ، أَيِ: الشَّافِعِيُّ مَنَعَ وُقُوعَ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيَانُ الْمَنْعِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ، يَجُوزُ أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، كَمَا سَبَقَ فِي آيَةِ الرَّجْمِ، ثُمَّ نُسِخَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ بِالْقُرْآنِ ; فَمَا نَسَخَ الْقُرْآنَ إِلَّا قُرْآنٌ مِثْلُهُ.
الثَّانِي: بِتَقْدِيرِ أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، يَجُوزُ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِسُنَّةٍ وَافَقَتِ الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ ; فَمَا نُسِخَتِ السُّنَّةُ إِلَّا بِسُنَّةٍ مِثْلِهَا.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْضَ السُّنَّةِ مُبَيِّنٌ لَهُ، وَبَعْضَهَا مَنْسُوخٌ بِهِ» . هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ.
أَمَّا تَوْجِيهُهُ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: كَيْفَ يُبْطِلُ الْقُرْآنُ مَبِيِّنَهُ؟ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْقُرْآنِ مُحْتَاجًا إِلَى بَيَانٍ، بَلْ فِيهِ كَثِيرٌ مِمَّا هُوَ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ ; فَحِينَئِذٍ، مُبِيِّنُ السُّنَّةِ يُبَيِّنُ مُجْمَلَ الْقُرْآنِ، وَمُبِيِّنُ الْقُرْآنِ يَنْسَخُ بَعْضَ السُّنَّةِ ; فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ مُبْطِلًا لِمُبَيِّنِهِ.
وَأَمَّا تَوْجِيهُهُ عَنِ الثَّانِي ; فَنَقُولُ: الْقُرْآنُ لَا يُضَادُّ السُّنَّةَ فِي الْكُلِّ، أَوْ فِي الْبَعْضِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَحِينَئِذٍ ذَلِكَ الْبَعْضُ الْمُضَادُّ لِلْقُرْآنِ مِنَ السُّنَّةِ مَنْسُوخٌ بِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا دَوْرَ وَلَا مَحْذُورَ.
(2/317)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْمَنْعِ ; فَقَوْلُهُ: الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ ثَبَتَتْ بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ.
قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُ قُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، ثَبَتَتْ بِهِ تِلْكَ الْأَحْكَامُ، وَاحْتِمَالُهُ لَا يَكْفِي، وَمَا وُجِدَ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْوَالِهِ، وَتَقْرِيرَاتِهِ فِي ذَلِكَ، كَصَلَاتِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ ; فَوَجَبَ أَنْ تُضَافَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: يَجُوزُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ نُسِخَتْ بِسُنَّةٍ وَافَقَتِ الْقُرْآنَ.
قُلْنَا: لَيْسَ النِّزَاعُ فِي الْجَوَازِ، بَلْ فِي الْوُقُوعِ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلُ وُجُودِ سُنَّةٍ نَاسِخَةٍ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَالْقُرْآنُ فِي ذَلِكَ مَوْجُودٌ صَالِحٌ لِلنَّسْخِ ; فَوَجَبَ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ.
نَعَمْ ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي مَنْعِ كَوْنِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ كَلَامًا جَيِّدًا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقَاعِدَةَ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ ثَابِتًا بِمُجْمَلٍ فَهُوَ مُرَادٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَتَوَجُّهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110] ، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ بَيَانًا لِمُجْمَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الْأَنْعَامِ: 141] ، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110] ، وَهُوَ مُرَادٌ مِنَ الْآيَةِ: وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مُرَادٌ مِنَ الْقُرْآنِ ; فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ بِوَاسِطَةِ الْبَيَانِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ فِي تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْخَوْفِ عَنْ وَقْتِ الْقِتَالِ ; لِأَنَّهُ مِنْ
(2/318)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَوَازِمِ بَيَانِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِإِقَامَتِهَا إِكْمَالُهَا وَإِتْمَامُهَا، وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ حَالَ الْقِتَالِ ; فَكَانَ تَأْخِيرُهَا إِلَى وَقْتِ الْأَمْنِ مِنْ لَوَازِمِ إِقَامَتِهَا، وَكَذَلِكَ صُلْحُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْكُفَّارِ، عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا، هُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التَّحْرِيمِ: 9] ، وَجِهَادُهُمْ مُفَوَّضٌ إِلَى اجْتِهَادِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَقَدْ رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ صُلْحَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: ثُمَّ يَتَفَرَّعُ لَنَا عَلَى هَذَا تَحْقِيقٌ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ، هَلْ يُضَافُ ثُبُوتُهُ إِلَى الْبَيَانِ، أَوْ إِلَى الْمُبَيَّنِ؟
فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْبَيَانِ، اتَّجَهَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ وُقُوعِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ الَّتِي هِيَ بَيَانٌ لِلْقُرْآنِ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْكِتَابِ ; فَقَدْ نُسِخَتِ السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ.
وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمُبَيَّنِ ; فَقَدِ اتَّجَهَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَنْعِ الْوُقُوعِ ; لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْقُرْآنِ الْمُجْمَلِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْقُرْآنِ ; فَمَا نَسَخَ الْقُرْآنَ إِلَّا قُرْآنٌ مِثْلُهُ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ يُضَافُ إِلَى الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ جَمِيعًا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَأْخَذُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ.
وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ; فَجَانِبُ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ مُتَرَجِّحٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْوُقُوعُ ; فَبِنَسْخِ تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ بَعْدَ النَّوْمِ، إِذْ لَا يَتَّجِهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: كَانَ ثَابِتًا بِقُرْآنٍ مُجْمَلٍ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/319)
________________________________________
أَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ ; فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالْقَاضِي مَنْعُهُ، وَأَجَازَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
لَنَا: لَا اسْتِحَالَةَ ذَاتِيَّةٌ، وَلَا خَارِجِيَّةٌ، وَلِأَنَّ تَوَاتُرَ السُّنَّةِ قَاطِعٌ، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ ; فَهُوَ كَالْقُرْآنِ.
قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، وَالسُّنَّةُ لَا تُسَاوِي الْقُرْآنَ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْقُرْآنُ يَنْسَخُ حَدِيثِي، وَحَدِيثِي لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ» ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ لَفْظَ الْقُرْآنِ ; فَكَذَا حُكْمُهُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْحُكْمِ وَمَصْلَحَتِهِ، وَالسُّنَّةُ تُسَاوِي الْقُرْآنَ فِي ذَلِكَ، وَتَزِيدُ عَلَيْهِ، إِذِ الْمَصْلَحَةُ الثَّابِتَةُ بِالسُّنَّةِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الثَّابِتَةِ بِالْقُرْآنِ. أَوْ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ; فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ أَصْلًا. وَالْحَدِيثُ لَا يَخْفَى مِثْلُهُ، لِكَوْنِهِ أَصْلًا ; فَلَوْ ثَبَتَ لَاشْتُهِرَ، وَلَمَا خُولِفَ. وَلَفْظُ الْقُرْآنِ مُعْجِزٌ ; فَلَا تَقُومُ السُّنَّةُ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ حُكْمِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " أَمَّا نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ ; فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْقَاضِي مَنَعَهُ، وَأَجَازَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ ".
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي " الرَّوْضَةِ ": قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ إِلَّا قُرْآنٌ مِثْلُهُ يَجِيءُ بَعْدَهُ. قَالَ الْقَاضِي: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ عَقْلًا وَشَرْعًا.
قُلْتُ: احْتِجَاجُ الْقَاضِي بِعُمُومِ نَفْيِ أَحْمَدَ، وَهُوَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ شَرْعًا، لَا عَقْلًا.
قُلْتُ: حَكَى الْآمِدِيُّ الْمَنْعَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَأَكْثَرِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَعَنْ أَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَحُكِيَ الْجَوَازُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ سُرَيْجٍ، وَأَكْثَرِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ.
(2/320)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا.
قَوْلُهُ: " لَنَا: لَا اسْتِحَالَةَ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوِ اسْتَحَالَ، لَاسْتَحَالَ لِذَاتِهِ، أَوْ لَأَمَرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ لِذَاتِهِ، وَلَا لِأَمْرٍ خَارِجٍ ; فَلَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا مُطْلَقًا ; فَيَكُونُ جَائِزًا مُطْلَقًا. وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ: كَتَقْرِيرِ قَوْلِنَا فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا: " لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ لِذَاتِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ "، وَقَدْ سَبَقَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ قَاطِعٌ، أَيْ: يَحْصُلُ الْقَطْعُ بِثُبُوتِهِ، لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَهُوَ - يَعْنِي مُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ - مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَقِيقَةِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجْمِ: 3 - 4] . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، وَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِينِي بِالسُّنَّةِ كَمَا يَأْتِينِي بِالْقُرْآنِ، وَإِذَا كَانَ مُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ قَاطِعًا، وَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، صَارَ كَالْقُرْآنِ فِي نَسْخِ الْقُرْآنِ بِهِ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} " إِلَى آخِرِهِ هَذِهِ حُجَّةُ الْمَانِعِينَ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: " {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
(2/321)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الْبَقَرَةِ: 106] ; فَحَصَرَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسِخَ فِي كَوْنِهِ خَيْرًا مِنَ الْمَنْسُوخِ، أَوْ مِثْلَهُ، وَالسُّنَّةُ لَا تُسَاوِي الْقُرْآنَ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ خَيْرًا مِنْهُ ; فَلَا تَكُونُ نَاسِخَةً لَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقُرْآنُ يَنْسَخُ حَدِيثِي، وَحَدِيثِي لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ لَفْظَ الْقُرْآنِ ; فَكَذَلِكَ لَا تَنْسَخُ حُكْمَهُ، لِاشْتِرَاكِ لَفْظِ الْقُرْآنِ وَحُكْمِهِ فِي الْقُوَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ أَنْ يُرْفَعَ بِمَا هُوَ دُونَهُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} فِي الْحُكْمِ وَمَصْلَحَتِهِ، وَالسُّنَّةُ تُسَاوِي الْقُرْآنَ فِي ذَلِكَ، إِذِ الْمَصْلَحَةُ الثَّابِتَةُ بِالسُّنَّةِ قَدْ تَكُونُ أَضْعَافَ الْمَصْلَحَةِ الثَّابِتَةِ بِالْقُرْآنِ ; إِمَّا فِي عِظَمِ الْأَجْرِ، بِنَاءً عَلَى نَسْخِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ، أَوْ فِي تَخْفِيفِ التَّكْلِيفِ، بِنَاءً عَلَى نَسْخِ الْأَثْقَلِ بِالْأَخَفِّ.
قَوْلُهُ: " أَوْ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ". هَذَا جَوَابٌ آخَرُ عَنِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّ فِيهَا تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، تَقْدِيرُهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ نَأْتِ مِنْهَا بِخَيْرٍ ; فَلَا يَكُونُ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ أَصْلًا، إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى إِثْبَاتِ النَّاسِخِ أَصْلًا، كَمَا سَبَقَ فِي النَّسْخِ إِلَى غَيْرِ بَدَلٍ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ ; فَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِمِثْلِهِ هَهُنَا ; لِأَنَّهُ أَصْلٌ كَبِيرٌ، وَمِثْلُهُ لَا يَخْفَى فِي الْعَادَةِ، لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مَا كَانَ كَذَلِكَ عَادَةً. فَلَوْ ثَبَتَ، لَاشْتُهِرَ، ثُمَّ لَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِشُهْرَتِهِ وَدَلَالَتِهِ.
(2/322)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ، لَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ ظَاهِرَةٌ، لَا قَاطِعَةٌ ; فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ، يَبْقَى الْمُتَوَاتِرُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمَنْعِ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمُ: السُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ لَفْظَ الْقُرْآنِ ; فَكَذَا حُكْمُهُ.
فَجَوَابُهُ بِالْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ مُعْجِزٌ، وَالسُّنَّةُ لَا تَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْإِعْجَازِ، بِخِلَافِ حُكْمِهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ تَكْلِيفُ الْخَلْقِ بِهِ، وَالسُّنَّةُ تَقُومُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قُلْتُ: تَلْخِيصُ مَأْخَذِ النِّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ جَامِعًا وَفَارِقًا.
فَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِفَادَةِ الْعِلْمِ، وَكَوْنِهِمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْفَارِقُ: إِعْجَازُ لَفْظِ الْقُرْآنِ، وَالتَّعَبُّدُ بِتِلَاوَتِهِ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ ; فَمَنْ لَاحَظَ الْجَامِعَ، أَجَازَ النَّسْخَ، وَمَنْ لَاحَظَ الْفَارِقَ، مَنْعَهُ.
فَرْعٌ: كَمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ، كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ شَرْعًا، عَلَى نَحْوِ اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِهِ ; فَمِمَّنْ أَثْبَتَهُ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ.
احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ: بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ثَبَتَتْ بِالْقُرْآنِ، وَنُسِخَتْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَإِمْسَاكُ الزَّوَانِي فِي الْبُيُوتِ، ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ، وَنُسِخَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الرَّجْمُ.
(2/323)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ: بِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُقُوعِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَا حُجَّةَ فِيهِمَا عَلَى الْوُقُوعِ، بَلِ النَّصُّ النَّبَوِيُّ فِيهِمَا بَيَانٌ لَا نَسْخٌ. فَآيَةُ الْوَصِيَّةِ نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمِيرَاثِ، وَأَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَسْخَهَا بِبَيَانِهِ، وَالْإِيضَاحِ عَنْهُ، وَلِهَذَا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. فَكَانَ هَذَا بَيَانًا وَإِخْبَارًا عَنْ زَوَالِ وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، لَا نَسْخًا.
وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى ; فَالسَّبِيلُ مَذْكُورٌ فِيهَا، وَالْأَمْرُ فِيهَا مَغْيِيٌّ إِلَى حِينِ جَعْلِ السَّبِيلِ، فَلَمَّا جَاءَ وَقْتُهُ، بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا قَالَ: خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا. فَأَضَافَ جَعْلَ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، لَا إِلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ إِمْسَاكَهُنَّ فِي الْبُيُوتِ مَنْسُوخٌ، لَكَانَ إِضَافَةُ نَسْخِهِ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّورِ: 2] ، وَإِلَى آيَةِ الرَّجْمِ الَّتِي نُسِخَ لَفْظُهَا دُونَ حُكْمِهَا أَوْلَى، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخَبَرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ تَوَاتَرَا ; فَمِثَالُ الْخَصْمِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/324)
________________________________________
أَمَّا نَسْخُ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا ; فَجَائِزٌ عَقْلًا، لِجَوَازِ قَوْلِ الشَّارِعِ: تَعَبَّدْتُكُمْ بِالنَّسْخِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَا شَرْعًا، لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَأَجَازَهُ قَوْمٌ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، لَا بَعْدَهُ ; لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَبْعَثُ الْآحَادَ بِالنَّاسِخِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ. وَأَجَازَهُ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ مُطْلَقًا، وَلَعَلَّهُ أَوْلَى، إِذِ الظَّنُّ قَدَرٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْكُلِّ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ وَالِاسْتِدْلَالِ الشَّرْعِيِّ. وَقَوْلُ عُمَرَ: لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا نَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ. يُفِيدُ أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ لِشُبْهَةٍ، وَلَوْ أَفَادَ خَبَرُهَا الظَّنَّ لَعَمِلَ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «أَمَّا نَسْخُ الْكِتَابِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا ; فَجَائِزٌ عَقْلًا» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: أَمَّا نَسْخُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَنَسْخُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; فَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا لَا شَرْعًا.
أَمَّا أَنَّهُ جَائِزٌ عَقْلًا ; فَلِجَوَازِ قَوْلِ الشَّارِعِ: تَعَبَّدْتُكُمْ بِنَسْخِ الْقَاطِعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَيْ: لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ.
وَأَمَّا امْتِنَاعُهُ شَرْعًا، أَيْ: مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الشَّرْعِ ; قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ، وَمُتَوَاتِرَ السُّنَّةِ، لَا يُرْفَعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; فَلَا ذَاهِبَ إِلَى تَجْوِيزِهِ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا، لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصْدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ» .
«وَأَجَازَهُ قَوْمٌ» يَعْنِي: نَسْخَ الْكِتَابِ وَتَوَاتُرَ السُّنَّةِ بِآحَادِهَا، «فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، لَا بَعْدُهُ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَبْعَثُ الْآحَادَ بِالنَّاسِخِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ» ; فَيُقْبَلُ خَبَرُهُمْ فِيهِ.
«وَأَجَازَهُ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ مُطْلَقًا» ، يَعْنِي فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهُ.
قُلْتُ: «وَلَعَلَّهُ أَوْلَى» ، أَيْ: يُشْبِهُ أَنَّهُ أَوْلَى، لِاتِّجَاهِهِ بِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمْ أَجْزِمْ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا أَتَيْتُ بِلَفْظِ التَّرَجِّي.
(2/325)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «إِذِ الظَّنُّ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ، وَالِاسْتِدْلَالِ الشَّرْعِيِّ» . مَعْنَاهُ أَنَّ تَوَاتُرَ السُّنَّةِ وَآحَادَهَا يَشْتَرِكَانِ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ، وَإِنْ زَادَ التَّوَاتُرُ بِإِفَادَةِ الْقَطْعِ ; فَالظَّنُّ بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ الشَّرْعِيِّ، وَالِاسْتِدْلَالِ الشَّرْعِيِّ، أَيْ: يَكْفِي الظَّنُّ فِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا لِلْعَمَلِ وَالِاسْتِدْلَالِ شَرْعًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنَاطَ ذَلِكَ غَلَبَةُ الظَّنِّ ; فَمَتَى حَصَلَ، وَجَبَ الْعَمَلُ، وَصَحَّ الِاسْتِدْلَالُ.
وَأَمَّا زِيَادَةُ الْقَطْعِ ; فَهِيَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، لِمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَإِذَا كَانَ الظَّنُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ، جَازَ أَنْ يَنْسَخَ الْآحَادُ الْمُتَوَاتِرَ وَيَكُونُ النَّسْخُ بِالْآحَادِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مِقْدَارِ الظَّنِّ مِنَ التَّوَاتُرِ، لَا إِلَى جَمِيعِ مَا أَفَادَهُ مِنَ الْعِلْمِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا إِذَا كَانَ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلِعَمْرٍو عَلَى زَيْدٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، تَقَاصَّا بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ، وَهُوَ خَمْسَةٌ ; فَتَقْوَى الْخَمْسَةُ عَلَى رَفْعِ خَمْسَةٍ مِنَ الذِّمَّةِ، لَا عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهَا.
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ عَنَّا قَوْلُ الْخَصْمِ: إِنَّ الْكِتَابَ مُتَوَاتِرٌ قَطْعًا ; فَلَا يَرْتَفِعُ بِالْآحَادِ الْمَظْنُونَةِ ; لِأَنَّا نَقُولُ: مَا رَفَعْنَا الْقَطْعَ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا رَفَعْنَا بِالظَّنِّ ظَنًّا مِثْلَهُ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ الْمَذْكُورُ ; فَلَيْسَ لَفْظُهُ: أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ؟ ، بَلْ كَمَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» : أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ؟ وَهُوَ مَا رَوَى مُغِيَرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا
(2/326)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سُكْنَى لَكِ وَلَا نَفَقَةَ، قَالَ مُغِيَرَةُ: فَذَكَرْتُهُ لِإِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ، لَا نَدْرِي أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ؟ وَكَانَ عُمَرُ يَجْعَلُ لَهَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ.
وَهَذَا لَا يُفِيدُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْكِتَابَ وَالْمُتَوَاتِرَ، بَلْ يُفِيدُ جَوَازَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عُمَرَ، إِنَّمَا رَدَّ خَبَرَ فَاطِمَةَ، لِشُبْهَةِ احْتِمَالِ أَنَّهَا نَسِيَتْ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَهَا لَوْ أَفَادَهُ الظَّنُّ، وَلَمْ تَقَعْ لَهُ الشُّبْهَةُ الْمَذْكُورَةُ، لَعَمِلَ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ زَمَنِ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَبْعَثُ الْآحَادَ بِالنَّاسِخِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ ; فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ الْآحَادَ كَانَتْ تَنْسَخُ الْكِتَابَ وَالْمُتَوَاتِرَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَنْسُوخَاتِ بِتِلْكَ الْآحَادِ آحَادًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ، وَيَقُولَ: إِنَّمَا كَانَ الْمَنْسُوخُ بِهَا آحَادًا مِثْلَهَا، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ التَّوَاتُرِ، وَوُرُودُ أَحْكَامِ الْكِتَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْآحَادِ أَيْضًا.
قُلْنَا: نَعَمْ، إِلَّا أَنَّهَا أَكْثَرُ، وَأَعَمُّ وُجُودًا ; فَالْحَمْلُ عَلَيْهَا أُولَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ حَيَاةَ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَرِينَةٌ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِخَبَرِ الْآحَادِ فِي زَمَانِهِ، لِعِلْمِهِمْ بِصَلَابَتِهِ فِي دِينِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يُسَامِحُ أَحَدًا يَكْذِبُ عَلَيْهِ، حَتَّى يُنَفِّذَ فِيهِ
(2/327)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمْرَ اللَّهِ، وَحِينَئِذٍ مَا نُسِخَ الْكِتَابُ وَالتَّوَاتُرُ إِلَّا بِمَعْلُومٍ مِثْلِهِمَا.
غَايَةُ مَا هُنَاكَ: أَنَّ مُسْتَنَدَ الْعِلْمِ فِي الْمَنْسُوخِ التَّوَاتُرُ، وَفِي النَّاسِخِ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقَرِينَةِ، وَهَذَا لَا يَضُرُّ.
وَأَمَّا مَا ادَّعَاهُ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا، مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ رَفْعِ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; فَمَمْنُوعٌ، وَعَلَى مُدَّعِي الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ إِثْبَاتُهُ، كَيْفَ وَبَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ، وَالْبَاجِيُّ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ يَدَّعُونَ وُقُوعَهُ فِي صُوَرٍ:
مِنْهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الْأَنْعَامِ: 145] الْآيَةَ، نُسِخَتْ بِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ، وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] ، نُسِخَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا. الْحَدِيثَ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَنْهُ جَوَابٌ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَهُ، لَوْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ، لَعَلِمَهُ، ثُمَّ لَمْ يَدَّعِ وُقُوعَهُ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ الْقَاطِعِ بِالْآحَادِ وَاهِيَةٌ.
(2/328)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَنْبِيهٌ: الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ الَّتِي يَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إِلَيْهَا وَبِهَا، هِيَ: الْكِتَابُ، وَمُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ، وَآحَادُهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا ; إِمَّا أَنْ يُنْسَخَ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ بِالْآخَرِينَ مَعَهُ ; فَيَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ تِسْعُ صُوَرٍ:
الْأُولَى: نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ.
الثَّانِيَةُ: نَسْخُ الْكِتَابِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ.
الثَّالِثَةُ: نَسْخُ الْكِتَابِ بِآحَادِ السُّنَةِ.
الرَّابِعَةُ: نَسْخُ مُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ.
الْخَامِسَةُ: نَسْخُ مُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ.
السَّادِسَةُ: نَسْخُ مُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ.
السَّابِعَةُ: نَسْخُ الْآحَادِ بِالْآحَادِ.
الثَّامِنَةُ: نَسْخُ الْآحَادِ بِالْكِتَابِ.
التَّاسِعَةُ: نَسْخُ الْآحَادِ بِالْمُتَوَاتِرِ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ، عَلَى الْمَشْهُورِ بَيْنَهُمْ: أَنَّ النَّصَّ يُنْسَخُ بِأَقْوَى مِنْهُ وَبِمِثْلِهِ، وَلَا يُنْسَخُ بِأَضْعَفَ مِنْهُ ; فَيَسْقُطُ بِمُقْتَضَى هَذَا الضَّابِطِ مِنَ الصُّوَرِ التِّسْعِ صُورَتَانِ، نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْآحَادِ، وَنَسْخُ التَّوَاتُرِ بِالْآحَادِ، وَيَبْقَى سَبْعُ صُوَرٍ، النَّسْخُ فِيهَا جَائِزٌ.
وَعَلَى قَوْلِ الْبَاجِيِّ وَبَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي وَجَّهْنَاهُ، يَصِحُّ النَّسْخُ فِي الصُّوَرِ التِّسْعِ، نَظَرًا إِلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهَا، وَهُوَ الظَّنُّ ; فَاعْلَمْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/329)
________________________________________
السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، إِذِ النَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَلَا إِجْمَاعَ إِذَنْ. وَلِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ مُتَضَادَّانِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يُضَادُّ النَّصَّ، وَلَا يَنْعَقِدْ عَلَى خِلَافِهِ.
وَالْحُكْمُ الْقِيَاسِيُّ الْمَنْصُوصُ الْعِلَّةِ، يَكُونُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، كَالنَّصِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَقِيلَ: مَا خَصَّ نَسَخَ. وَهُوَ بَاطِلٌ، بِدَلِيلِ: الْعَقْلِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، يَخُصُّ وَلَا يَنْسَخُ.
وَالنَّسْخُ وَالتَّخْصِيصُ مُتَنَاقِضَانِ، إِذِ النَّسْخُ إِبْطَالٌ، وَالتَّخْصِيصُ بَيَانٌ ; فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ.
وَيَجُوزُ النَّسْخُ بِتَنْبِيهِ اللَّفْظِ كَمَنْطُوقِهِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَنَسْخُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ يُبْطِلُ حُكْمَ الْمَفْهُومِ، وَمَا ثَبَتَ بِعِلَّتِهِ، أَوْ دَلِيلِ خِطَابِهِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ ; فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ مَتْبُوعِهَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ» ، أَيْ: لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا وَلَا نَاسِخًا.
قَوْلُهُ: «إِذِ النَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَلَا إِجْمَاعَ إِذَنْ» .
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ، أَيِ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِجْمَاعِ، لَا يُنْسَخُ، أَيْ: لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَهْدِ النُّبُوَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ لَا يُنْسَخُ.
أَمَّا أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ ; فَلِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ، وَإِبْطَالٌ لَهُ، وَتَغْيِيرٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي عَهْدِ النُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ زَمَنُ الْوَحْيِ الرَّافِعِ لِلْأَحْكَامِ، وَبَعْدَ
(2/330)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
انْقِرَاضِ عَهْدِ النُّبُوَّةِ يَسْتَقِرُّ الشَّرْعُ ; فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا اتِّبَاعُ مَا انْقَرَضَ عَلَيْهِ عَصْرُ النُّبُوَّةِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ عَهْدِ النُّبُوَّةِ ; فَلِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ، عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِعِصْمَتِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِغَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا حَكَمَ بِحُكْمٍ ; فَالْأُمَّةُ إِمَّا أَنْ تُوَافِقَ ; فَلَا أَثَرَ لِمُوَافَقَتِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، أَوْ تُخَالِفَ ; فَلَا اعْتِبَارَ بِمُخَالَفَتِهَا، بَلْ تَكُونُ عَاصِيَةً بِمُخَالَفَتِهِ ; فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا مُؤَثِّرًا إِلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ إِنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ نَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَثْبَتَهُ الْأَقَلُّونَ. وَاخْتَارَ جَوَازَهُ عَقْلًا، وَامْتِنَاعَهُ شَرْعًا.
قُلْتُ: أَمَّا جَوَازُهُ عَقْلًا فَلِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ.
وَأَمَّا امْتِنَاعُهُ شَرْعًا ; فَلِأَنَّ نَسْخَهُ إِمَّا بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ.
وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ.
وَالثَّانِي بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ النَّاسِخَ ; إِمَّا لَا عَنْ دَلِيلٍ ; فَيَكُونُ خَطَأً، أَوْ عَنْ دَلِيلٍ.
فَذَلِكَ الدَّلِيلُ ; إِمَّا نَصٌّ أَوْ قِيَاسٌ، فَإِنْ كَانَ نَصًّا، لَزِمَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى خِلَافِهِ ; فَيَكُونُ بَاطِلًا، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا ; فَلَابُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ الْقِيَاسُ إِلَى نَصٍّ ; فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِهِ أَيْضًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَبِذَلِكَ يَبْطُلُ كَوْنُ نَاسِخِ الْإِجْمَاعِ قِيَاسًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَلِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ مُتَضَادَّانِ، وَالْإِجْمَاعُ لَا يُضَادُّ النَّصَّ، وَلَا يَنْعَقِدُ
(2/331)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى خِلَافِهِ» . هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ نَاسِخًا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَنْسُوخَ إِنَّمَا يَكُونُ نَصًّا، لِمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا، وَإِذَا انْحَصَرَ الْمَنْسُوخُ فِي كَوْنِهِ نَصًّا ; فَلَوْ نُسِخَ بِالْإِجْمَاعِ، لَلَزِمَ مُضَادَةُ النَّصِّ لِلْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَادَّا، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُضَادُّ النَّصَّ، وَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِلَافِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ، لِانْعِقَادِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ نَاسِخًا، أَثْبَتَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعِيسَى بْنُ أَبَانٍ، وَنَفَاهُ الْبَاقُونَ، وَاخْتَارَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَوْ كَانَ نَاسِخًا، لَكَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ ; إِمَّا نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا، أَوْ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ نَصًّا ; فَالْإِجْمَاعُ النَّاسِخُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ، وَإِلَّا كَانَ خَطَأً، وَذَلِكَ الْمُسْتَنَدُ هُوَ النَّاسِخُ، لَا نَفْسُ الْإِجْمَاعِ، لَكِنْ دَلَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ ; فَالْإِجْمَاعُ دَلِيلُ النَّاسِخِ، لَا نَفْسُ النَّاسِخِ. وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ إِجْمَاعًا ; فَلَوْ نُسِخَ بِالْإِجْمَاعِ، لَزِمَ تَعَارُضُ الْإِجْمَاعَيْنِ ; فَأَحَدُهُمَا بَاطِلٌ ; فَلَا نَسْخَ.
وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ قِيَاسًا ; فَهُوَ إِمَّا غَيْرُ صَحِيحٍ ; فَلَا عِبْرَةَ بِهِ ; فَلَا نَسْخَ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا ; فَالْإِجْمَاعُ النَّاسِخُ، إِنِ اسْتَنَدَ إِلَى نَصٍّ ; فَالنَّصُّ هُوَ النَّاسِخُ، وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْقِيَاسِ الْأَوَّلِ، أَعْنِي الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، أَوْ رَاجِحًا عَلَيْهِ ; فَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ لَيْسَ قِيَاسًا صَحِيحًا، لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَلِرُجْحَانِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا ; فَالْإِجْمَاعُ عَلَى حُكْمِهِ خَطَأٌ ; فَلَا نَسْخَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَالْحُكْمُ الْقِيَاسِيُّ الْمَنْصُوصُ الْعِلَّةِ يَكُونُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، كَالنَّصِّ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ» . مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحُكْمَ الْقِيَاسِيَّ، أَيِ: الثَّابِتَ بِالْقِيَاسِ ; إِمَّا أَنْ
(2/332)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَكُونَ مَنْصُوصَ الْعِلَّةِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مَنْصُوصَ الْعِلَّةِ، أَيْ: قَدْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عِلَّتِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ كَالنَّصِّ يُنْسَخُ، وَيُنْسَخُ بِهِ، أَيْ: يَكُونُ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، كَمَا أَنَّ النَّصَّ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى نَصٍّ، فَإِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسِ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ النَّصِّ، صَارَ حُكْمُ الْقِيَاسِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ ; فَيَكُونُ نَصًّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ الْمُتَّخَذَ مِنَ الْعِنَبِ، لِكَوْنِهِ مُسْكِرًا، فَإِذَا قِسْنَا عَلَيْهِ نَبِيذَ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ، فِي التَّحْرِيمِ، كَانَ تَحْرِيمُ هَذَا النَّبِيذِ حُكْمًا مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: حَرَّمْتُ نَبِيذَ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ ; فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الشَّرْعَ قَالَ: أَبَحْتُ نَبِيذَ الذُّرَةِ الْمُسْكِرِ، جَازَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ نَبِيذِ التَّمْرِ الْمُسْكِرِ ; الْمُسْتَفَادُ مِنَ الْقِيَاسِ نَاسِخًا لِذَلِكَ، إِذَا ثَبَتَ تَأَخُّرُهُ عَنْ إِبَاحَةِ نَبِيذِ الذُّرَةِ، وَمَنْسُوخًا بِإِبَاحَةِ نَبِيذِ الذُّرَةِ إِذَا ثَبَتَ تَقَدُّمُ تَحْرِيمِ نَبِيذِ التَّمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيمَ نَبِيذِ التَّمْرِ، وَإِبَاحَةَ نَبِيذِ الذُّرَةِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ مَعَ اتِّحَادِ عِلَّتِهِمَا، وَهِيَ الْإِسْكَارُ ; فَكَانَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَبَحْتُ الْخَمْرَ، ثُمَّ قَالَ: حَرَّمْتُهَا، أَوْ بِالْعَكْسِ.
وَأَمَّا إِنَّ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ مَنْصُوصًا عَلَى عِلَّتِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا وَلَا مَنْسُوخًا ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْصُوصَةً ; فَهِيَ مُسْتَنْبَطَةٌ، وَاسْتِنْبَاطُهَا هُوَ بِاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ، وَاجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ عُرْضَةُ الْخَطَأِ ; فَلَا يَقْوَى عَلَى رَفْعِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بِخِلَافِ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ ; فَإِنَّهُ حُكْمَ الشَّارِعِ الْمَعْصُومِ مِنَ الْخَطَأِ ; فَهُوَ
(2/333)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا قِسْنَا الذُّرَةَ عَلَى الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، بِجَامِعِ الْكَيْلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْعِلَّةَ فِيهِمَا، ثُمَّ قَالَ الشَّارِعُ: أَبَحْتُ التَّفَاضُلَ فِي السِّمْسِمِ، لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَجْعَلَ الْإِبَاحَةَ فِي السِّمْسِمِ نَاسِخَةً لِلتَّحْرِيمِ فِي الذُّرَةِ، وَلَا التَّحْرِيمَ فِي الذُّرَةِ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ فِي السِّمْسِمِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَضَادِّ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ إِبَاحَةَ التَّفَاضُلِ فِي السِّمْسِمِ، وَتَحْرِيمَهَا فِي الذُّرَةِ مُتَضَادَّانِ، لِجَوَازِ عَدَمِ اخْتِلَافِ الْعِلَّةِ فِيهِمَا، أَوْ كَوْنِ الْحُكْمِ فِي أَحَدِهِمَا أَوْ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ غَيْرَ مُعَلَّلٍ ; فَيَنْتَفِي التَّضَادُّ ; فَيَنْتَفِي النَّسْخُ.
تَنْبِيهٌ: ذَكَرَ الْآمِدِيُّ نَسْخَ حُكْمِ الْقِيَاسِ، أَيْ: كَوْنَهُ مَنْسُوخًا. وَقَالَ: مَنَعَ مِنْهُ الْحَنَابِلَةُ مُطْلَقًا، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي قَوْلٍ، وَأَجَازَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي الْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ مَا وُجِدَ بَعْدَهُ. ثُمَّ اخْتَارَ الْآمِدِيُّ نَحْوَ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَحِكَايَتُهُ مَنْعَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، يَرُدُّهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِنَا ; فَلَعَلَّهُ رَأَى قَوْلًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا شَاذًّا، أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُحَقِّقِ النَّقْلَ.
وَحَكَى فِي النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ أَقْوَالًا، ثَالِثُهَا: جَوَازُهُ بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَاخْتَارَ هُوَ فِيهِ تَفْصِيلًا طَوِيلًا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَا خَصَّ نَسَخَ» ، أَيْ: مَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، جَازَ النَّسْخُ بِهِ، وَلَا يَقْتَصِرُ فِي النَّاسِخِ عَلَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ شَاذَّةٍ.
(2/334)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَهُوَ بَاطِلٌ» ، أَيْ: هَذَا الْقَوْلُ مَنْقُوضٌ بِأَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: دَلِيلُ الْعَقْلِ، يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، دُونَ النَّسْخِ.
الثَّانِي: الْإِجْمَاعُ، يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، دُونَ النَّسْخِ.
الثَّالِثُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ، يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِهِ، دُونَ النَّسْخِ.
قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، إِذْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يَنْسَخُ مِثْلَهُ، وَهَلْ يَنْسَخُ أَقْوَى مِنْهُ، كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْقَاطِعُ، عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَوَجَّهْنَا خِلَافَهُ.
وَقَوْلُهُ: «يَخُصُّ وَلَا يَنْسَخُ» ، يَعْنِي: هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ تَكُونُ مُخَصَّصَةً، لَا نَاسِخَةً.
وَقَوْلُهُ: «وَالنَّسْخُ وَالتَّخْصِيصُ مُتَنَاقِضَانِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَقْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ، بِبَيَانِ تَنَاقُضِهِمَا ; فَكَيْفَ يَسْتَوِيَانِ، حَتَّى يَصِحَّ أَنَّ مَا جَازَ بِأَحَدِهِمَا، جَازَ بِالْآخَرِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّسْخَ إِبْطَالٌ لِلْحُكْمِ ; لِأَنَّهُ رَفْعٌ لَهُ، وَالتَّخْصِيصُ تَقْرِيرٌ وَبَيَانٌ لَهُ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنَ اللَّفْظِ، فَإِذَا بَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ، اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ، وَرَفْعُ الْحُكْمِ وَتَقْرِيرُهُ مُتَنَاقِضَانِ ; فَيَمْتَنِعُ اسْتِوَاؤُهُمَا، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ مَا جَازَ التَّخْصِيصُ بِهِ، جَازَ النَّسْخُ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ كَقَوْلِنَا: مَا جَازَ أَنْ يُبَيِّنَ الْحُكْمَ وَيُقَرِّرَهُ، جَازَ أَنْ يَرْفَعَهُ، وَيُبْطِلَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ لِحُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ عَلَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/335)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَيَجُوزُ النَّسْخُ بِتَنْبِيهِ اللَّفْظِ كَمَنْطُوقِهِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ» .
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ تَنْبِيهَ اللَّفْظِ - وَهُوَ الْمَفْهُومُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، مِنْ غَيْرِ مَنْطُوقِهِ - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، كَمَا أَنَّ الْمَنْطُوقَ - وَهُوَ اللَّفْظُ نَفْسُهُ - يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا دَلِيلٌ، لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذِكْرِ فَحَوَى الْخِطَابِ.
وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ حَكَى الْخِلَافَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ تَبَعًا، وَالْآمِدِيُّ حَكَى جَوَازَ النَّسْخِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَنَسْخِ حُكْمِهِ اتِّفَاقًا.
وَالْمُرَادُ بِالْفَحْوَى: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَنْبِيهِ اللَّفْظِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، فَإِنْ صَحَّ الْخِلَافُ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِيهِ ; فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ أَوْ لَا، أَوْ عَلَى أَنَّ دَلَالَتَهُ لَفْظِيَّةٌ أَوْ عَقْلِيَّةٌ الْتِزَامِيَّةٌ.
فَإِنْ قُلْنَا: هِيَ لَفْظِيَّةٌ، جَازَ نَسْخُهَا، وَالنَّسْخُ بِهَا كَالْمَنْطُوقِ، وَهُوَ لَفْظُهَا الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهَا.
وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ عَقْلِيَّةٌ، كَانَتْ قِيَاسًا جَلِيًّا، وَالْقِيَاسُ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ عَارَضَ نَصًّا، أَوْ إِجْمَاعًا، لَمْ يُعْتَبَرْ مَعَهُمَا، وَإِنْ عَارَضَ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا، تَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنِ اسْتَوَيَا، وَجَبَ التَّرْجِيحُ، وَلَا نَسْخَ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ يَثْبُتُ حُكْمًا طَارِئًا مُنَاقِضًا لِحُكْمٍ قَبْلَهُ ; فَجَازَ النَّسْخُ بِهِ، وَنَسْخُهُ كَسَائِرِ مَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَظْهَرُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسَيْنِ، أَوْ عِلَّةُ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُمَا
(2/336)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَنْصُوصَةً، أَمَّا إِنْ كَانَتَا مُسْتَنْبَطَتَيْنِ، أَوْ عِلَّةُ الْمُتَأَخِّرِ مُسْتَنْبَطَةً ; فَحُكْمُهَا التَّرْجِيحُ كَمَا سَبَقَ، وَيَضْعُفُ النَّسْخُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ قِيَاسٌ أَمْ لَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاءِ: 23] ، نَبَّهَ عَلَى تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ ضَرْبَهُمَا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ هَذَا التَّنْبِيهِ، كَانَ هُوَ نَاسِخًا لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ إِبَاحَةَ ضَرْبِهِمَا شُرِعَتْ بَعْدَ التَّنْبِيهِ الْمَذْكُورِ، كَانَتْ نَاسِخَةً لَهُ ; فَهُوَ - أَعْنِي التَّنْبِيهَ - نَاسِخٌ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، مَنْسُوخٌ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَنَسْخُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ يُبْطِلُ حُكْمَ الْمَفْهُومِ، وَمَا ثَبَتَ بِعِلَّتِهِ، أَوْ دَلِيلِ خِطَابِهِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ ; فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِ مَتْبُوعِهَا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ» .
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الْمَنْطُوقَ - وَهُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ بِالْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ - إِذَا نُسِخَ ; بَطَلَ حُكْمُ مَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ مِنْ مَفْهُومِهِ، وَمَعْلُولِهِ، وَدَلِيلِ خِطَابِهِ ; لِأَنَّهَا تَوَابِعُ لَهُ، وَإِذَا بَطَلَ الْمَتْبُوعُ، بَطَلَ التَّابِعُ، وَإِذَا انْتَفَى الْأَصْلُ، انْتَفَى فَرْعُهُ.
وَخَالَفَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ ; فَقَالُوا: لَا يَبْطُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَخْتَصُّ النَّسْخُ بِالْمَنْطُوقِ وَحْدَهُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ النُّطْقِ ; فَهُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِهِ نَسْخُهُ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ غَيْرَهُ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ: أَنَّ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ الْمَنْسُوخِ، لَيْسَ فَرْعًا عَلَيْهِ وَتَبَعًا لَهُ ; فَلِذَلِكَ
(2/337)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اسْتَقَلَّ، بِخِلَافِ فُرُوعِ الْمَنْطُوقِ ; فَإِنَّهَا تَزُولُ بِزَوَالِهِ، لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ فَرْعٍ بِلَا أَصْلٍ.
وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ: لَوْ نُسِخَ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ - الَّذِي هُوَ الْمَنْطُوقُ - لَبَطَلَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ - الَّذِي هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ - تَبَعًا لِأَصْلِهِ.
وَلَوْ نُسِخَ النَّهْيُ عَنْ قَضَاءِ الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ ; لَبَطَلَ تَحْرِيمُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمُزْعِجَةِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا.
وَلَوْ نُسِخَ قَوْلُهُ: «مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» ; لَبَطَلَ مَفْهُومُ عِلَّتِهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يُسْكِرْ ; فَلَيْسَ بِحَرَامٍ.
وَلَوْ نُسِخَ قَوْلُهُ: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ; لَبَطَلَ مَفْهُومُ دَلِيلِ خِطَابِهِ ; وَهُوَ أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لَا زَكَاةَ فِيهَا. كُلُّ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا فُرُوعٌ تَبِعَتْ أَصْلَهَا فِي السُّقُوطِ، فَإِنْ أُرِيدَ إِثْبَاتُهَا، احْتَاجَتْ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ مُثْبِتٍ، وَعَلَى قَوْلِ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ ثَابِتَةٌ بَعْدَ زَوَالِ أَصْلِهَا ; فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُثْبِتٍ. وَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّ الْحُكْمَ الْقِيَاسِيَّ يَبْقَى بَعْدَ نَسْخِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِمْ.
وَمِثَالُهُ: لَوْ نُسِخَ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مَثَلًا، لَبَقِيَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي الْأُرْزِ وَالذُّرَةِ عِنْدَهُمْ، وَانْتَفَى تَبَعًا لِأَصْلِهِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ.
وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ أَنَّ الْحُكْمَ هَلْ يَفْتَقِرُ فِي دَوَامِهِ إِلَى دَوَامِ عِلَّتِهِ أَمْ لَا؟ إِنْ قِيلَ: يَفْتَقِرُ إِلَى دَوَامِ عِلَّتِهِ، تَبِعَ حُكْمُ الْفَرْعِ حُكْمَ أَصْلِهِ فِي النَّسْخِ، وَإِلَّا ; فَلَا. وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْبَاقِيَ هَلْ يَفْتَقِرُ فِي بَقَائِهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ أَمْ لَا؟
فَرْعٌ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ اللَّفْظِ وَمَفْهُومِهِ مَعًا، وَمَنَعَ الْأَكْثَرُونَ نَسْخَ حُكْمِ
(2/338)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَنْطُوقِ دُونَ فَحْوَاهُ، كَنَسْخِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ دُونَ الضَّرْبِ، نَحْوَ: قُلْ لَهُ: أُفٍّ وَلَا تَضْرِبْهُ. وَالْأَشْبَهُ جَوَازُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
وَتَرَدَّدَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي عَكْسِ ذَلِكَ، وَهُوَ نَسْخُ الْفَحْوَى دُونَ مَنْطُوقِهِ، نَحْوَ: اضْرِبْهُ، وَلَا تَقُلْ لَهُ: أُفٍّ ; فَمَنَعَهُ مَرَّةً لِتَنَاقُضِهِ، إِذِ الْغَرَضُ مِنْ مَنْعِ التَّأْفِيفِ الْإِكْرَامُ، وَإِبَاحَةُ الضَّرْبِ تُنَافِيهِ، وَأَجَازَهُ مَرَّةً، وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ ; لِأَنَّهُ نَهَى عَنِ الْأَمْرَيْنِ، ثُمَّ خَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْجَوَازِ.
قُلْتُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ; فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ عِلَّةُ الْمَنْطُوقِ مِمَّا لَا تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ ; كَإِكْرَامِ الْوَالِدِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَأْفِيفِهِ، امْتَنَعَ نَسْخُ الْفَحْوَى دُونَهُ، لِتَنَاقُضِ الْمَقْصُودِ كَمَا قُلْنَا، وَإِنِ احْتَمَلَتِ التَّغَيُّرَ ; جَازَ ; لِاحْتِمَالِ الِانْتِقَالِ مِنْ عِلَّةٍ إِلَى أُخْرَى، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، يَقْصِدُ بِذَلِكَ حِرْمَانَهُ، لِغَضَبِهِ عَلَيْهِ ; فَفَحْوَاهُ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَإِذَا نَسَخَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَعْطِهِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، وَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا، جَازَ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ عِلَّةِ حِرْمَانِ زِيدٍ، إِلَى عِلَّةِ إِعْطَائِهِ، وَمُوَاسَاتِهِ، وَالتَّوْقِيرِ لَهُ، لِزَوَالِ غَضَبِهِ عَلَيْهِ، وَبَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عِنْدَهُ مِمَّا رُمِيَ بِهِ. وَبِهَذَا يَتَّجِهُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْ عَبْدِ الْجَبَّارِ - أَعْنِي: مُجْمَلَهُمَا عَلَى حَالَيْنِ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/339)
________________________________________
خَاتِمَةٌ
لَا يُعْرَفُ النَّسْخُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا قِيَاسِيٍّ، بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ، أَوِ الْمَشُوبِ بِاسْتِدْلَالٍ عَقْلِيٍّ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ، أَوْ بِنَقْلِ الرَّاوِي، نَحْوَ: «رُخِّصَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ، ثُمَّ نُهِينَا عَنْهَا» . أَوْ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، نَحْوَ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ; فَزُورُوهَا» . وَبِالتَّارِيخِ، نَحْوَ: قَالَ سَنَةَ خَمْسٍ كَذَا، وَعَامَ الْفَتْحِ كَذَا. أَوْ يَكُونُ رَاوِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مَاتَ قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَلْحَقُهُمَا أَحْكَامٌ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، كَالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَالْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ وَنَحْوِهَا، عَقَّبْنَاهُمَا بِذِكْرِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَاتِمَةٌ، يَعْنِي لِبَابِ النَّسْخِ، وَهِيَ فِيمَا يُعْرَفُ بِهِ النَّسْخُ:
«لَا يُعْرَفُ النَّسْخُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ، وَلَا قِيَاسِيٍّ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ إِمَّا رَفْعُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، أَوْ بَيَانُ مُدَّةِ انْتِهَائِهِ، وَكِلَاهُمَا لَا طَرِيقَ لِلْعَقْلِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ. وَلَوْ كَانَ لِلْعَقْلِ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّسْخِ بِدُونِ النَّقْلِ ; لَكَانَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِدُونِ النَّقْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ» ، أَيْ: لَا يُعْرَفُ النَّسْخُ بِالْعَقْلِ، بَلْ بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ، أَوِ الْمَشُوبِ بِاسْتِدْلَالٍ عَقْلِيٍّ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ، كَإِبَاحَةِ الْخَمْرِ، فَإِنَّ نَسْخَهَا عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ بِنَقْلِ الرَّاوِي، نَحْوَ قَوْلِهِ: رُخِّصَ لَنَا فِي الْمُتْعَةِ - يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ - ثُمَّ نُهِينَا عَنْهَا. كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَهَى عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ، وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
(2/340)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا كَانَتِ الْمُتْعَةُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقْدُمُ الْبَلْدَةَ لَيْسَ لَهُ بِهَا مَعْرِفَةٌ ; فَيَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يُقِيمُ ; فَتَحْفَظُ لَهُ مَتَاعَهُ، وَتُصْلِحُ شَيْأَهُ حَتَّى نَزَلَتْ: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 6] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَكُلُّ فَرْجٍ سِوَى هَذَيْنِ حَرَامٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَيْ: يُعْرَفُ النَّسْخُ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ بِنَقْلِ الرَّاوِي، أَوْ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَيْ: لَفْظِ الْحَدِيثِ عَلَى النَّسْخِ، كَمَا رَوَى بُرَيْدَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ; فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ
(2/341)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَبْرِ أُمِّهِ ; فَزُورُوهَا ; فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ; فَهَذَا نَصٌّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَسْخِ الْمَنْعِ، وَتَصْرِيحٌ بِهِ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ: كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا ; فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنْهَا بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ.
(2/342)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَبِالتَّارِيخِ» ، أَيْ: وَيُعْرَفُ النَّسْخُ بِالتَّارِيخِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَنَةَ خَمْسٍ كَذَا، أَوْ عَامَ الْفَتْحِ - وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ - كَذَا، أَوْ يَكُونَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ، كَحَدِيثِ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَسِّ الذَّكَرِ: هَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ، فَإِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِهِ: جِئْتُ وَهُمْ يُؤَسِّسُونَ الْمَسْجِدَ، وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبُسْرَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ بَعْدَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، أَسْلَمَ سَنَةَ سَبْعٍ،
(2/343)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ كَانَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ.
وَكَذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَطْعِ الْخُفَّيْنِ لِلْمُحْرِمِ إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ ; كَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْمَدِينَةِ.
وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ الْحَجِّ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرِّوَايَاتُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَطْعَ الْخُفَّيْنِ ; فَكَانَ تَرْكُهُ لِبَيَانِ وُجُودِ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ دَلِيلًا عَلَى نَسْخِهِ.
قَوْلُهُ: «أَوْ يَكُونُ رَاوِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مَاتَ قَبْلَ إِسْلَامِ الثَّانِي» . هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ النَّسْخُ، كَمَا لَوْ رَوَى مَثَلًا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَوْ مُصْعَبُ بْنُ
(2/344)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُمَيْرٍ، أَوْ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، الْمَنْعَ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ رَأَيْنَا جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْوِي جَوَازَهُنَّ عَلِمْنَا أَنَّ حَدِيثَهُ نَاسِخٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَهَذَا مِثَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إِلَّا رِوَايَةُ جَرِيرٍ لِلْمَسْحِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ رَاوِيَ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ لَمْ يَمُتْ قَبْلَ إِسْلَامِ رَاوِي الثَّانِي، بَلْ بَعْدَهُ ; فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَبَرَيْنِ قِيلَ قَبْلَ الْآخَرِ ; فَلَا يَتَحَقَّقُ أَيُّهُمَا النَّاسِخُ، وَلِمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ طُرُقٌ أُخَرُ، لَمْ تُذْكَرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» تَبَعًا لِأَصْلِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ تَلْحَقُهُمَا أَحْكَامٌ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ، كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَنَحْوِهَا» يَعْنِي كَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ «عَقَّبْنَاهُمَا» ، أَيْ: عَقَّبْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِذِكْرِهَا، أَيْ: بِذِكْرِ مَا يَلْحَقُهُمَا مِنَ الْعَوَارِضِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: ذَكَرْنَاهَا عَقِيبَهَا. وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ لِمُنَاسَبَةِ تَعْقِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ، كَمَا بَيَّنَّا مُنَاسَبَةَ تَعْقِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالنَّسْخِ فِي أَوَّلِهِ، وَكَانَ تَقْدِيمُ النَّسْخِ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا يُنْظَرُ فِي أَحْكَامِ عَوَارِضِهِ إِذَا كَانَ مَعْمُولًا بِهِ، وَالْمَنْسُوخُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ بِمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، مَا اللَّفْظُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، نُظِرَ حِينَئِذٍ فِي أَحْكَامِ عَوَارِضِهِ، لِئَلَّا يَضِيعَ النَّظَرُ فِي لَفْظٍ قَدْ بَطَلَ بِالنَّسْخِ.
(2/345)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي
الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي: الْأَمْرُ: قِيلَ: هُوَ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ دَوْرٌ، وَقِيلَ: اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ.
وَقَدْ يُسْتَدْعَى الْفِعْلُ بِغَيْرِ قَوْلٍ فَلَوْ أُسْقِطَ، أَوْ قِيلَ: بِالْقَوْلِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ، لَاسْتَقَامَ، وَلَمْ تَشْتَرِطِ الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْتِعْلَاءَ، لِقَوْلِ فِرْعَوْنَ لِمَنْ دُونَهُ: مَاذَا تَأْمُرُونَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِشَارَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى تَحْمِيقِ الْعَبْدِ الْآمِرِ سَيِّدَهُ.
وَلِلْأَمْرِ صِيغَةٌ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَقَدْ سَبَقَ مَنْعُهُ.
وَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ الْجَازِمِ، مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ مِمَّا وَرَدَتْ بِهِ كَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَالتَّعْجِيزِ، وَالتَّسْخِيرِ، وَالتَّسْوِيَةِ، وَالْإِهَانَةِ، وَالْإِكْرَامِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْخَبَرِ، نَحْوَ: كَاتِبُوهُمْ، اصْطَادُوا، {كُونُوا حِجَارَةً} ، {كُونُوا قِرَدَةً} ، {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} ، {ذُقْ إِنَّكَ} ، {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} ، {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» ، وَالتَّمَنِّي:
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/347)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي» .
أَيْ: هَذَا بَيَانُ الْقَوْلِ فِيهَا: وَ «الْأَوَامِرُ» : جَمْعُ أَمْرٍ. وَقَدْ سَبَقَ فِي بَيَانِ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ ; أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَوَامِرِ ; لِأَنَّهَا طَلَبُ إِيجَادِ الْفِعْلِ، وَالنَّوَاهِي طَلَبُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ ; فَقُدِّمَتِ الْأَوَامِرُ تَقْدِيمَ الْمَوْجُودِ عَلَى الْمَعْدُومِ، وَهُوَ التَّقْدِيمُ بِحَسَبِ الشَّرَفِ، وَلَوْ لُحِظَ التَّقْدِيمُ الزَّمَانِيُّ، لَقُدِّمَتِ النَّوَاهِي تَقْدِيمَ الْعَدَمِ عَلَى الْمَوْجُودِ ; لِأَنَّ الْعَدَمَ أَقْدَمُ.
قَوْلُهُ: «الْأَمْرُ: قِيلَ: الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ، بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ» ; فَقَوْلُهُ: «الْقَوْلُ» : جِنْسٌ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ، وَالنَّهْيَ، وَغَيْرَهُمَا، مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ: «الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ» : فَصْلٌ، خَرَجَ بِهِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَالْخَبَرِ، وَالتَّمَنِّي، وَالتَّرَجِّي، وَغَيْرِهِمَا، لَكِنْ بَقِيَ النَّهْيُ دَاخِلًا فِي حَدِّ الْأَمْرِ ; لِأَنَّهُ قَوْلٌ يَقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ ; فَأُخْرِجَ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ: بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا يَقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ، لَكِنْ لَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، بَلْ بِالْكَفِّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; فَمُتَعَلِّقُ الطَّاعَةِ فِي الْأَمْرِ الْفِعْلُ، وَفِي النَّهْيِ الْكَفُّ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ دَوْرٌ» ، أَيْ: هَذَا التَّعْرِيفُ، دَوْرِيٌّ يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ ; لِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ
(2/348)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِلْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ، وَالْمَأْمُورِ بِهِ ; الْمُتَوَقِّفِ مَعْرِفَتُهُمَا عَلَى الْأَمْرِ ; فَصَارَ تَعْرِيفًا لِلْأَمْرِ بِنَفْسِهِ، بِوَاسِطَةِ الْمَأْمُورِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ. وَهَذَا كَمَا سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ الْمَعْلُومِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ» ، أَيْ: وَقِيلَ: الْأَمْرُ هُوَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلْأَمْرِ ; فَاسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ: طَلَبُهُ، وَهُوَ جِنْسٌ ; لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ، وَالشَّفَاعَةَ، وَالِالْتِمَاسَ ; لِأَنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَدْنَى، وَهُوَ سُؤَالٌ، أَوْ مِنَ الْمُسَاوِي، وَهُوَ شَفَاعَةٌ وَالْتِمَاسٌ، أَوْ مِنَ الْأَعْلَى، وَهُوَ الْأَمْرُ. وَيَدْخُلُ فِيهِ، أَيْ: فِي الِاسْتِدْعَاءِ النَّهْيُ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ ; فَبِقَوْلِهِ: «اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ» خَرَجَ النَّهْيُ.
وَقَوْلُهُ: «عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ» ، أَيْ: يَكُونُ الْأَمْرُ مُتَكَيِّفًا بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِعْلَاءِ وَالتَّرَفُّعِ عَلَى الْمَأْمُورِ، كَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ، وَالسُّلْطَانِ مَعَ رَعِيَّتِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ يُسْتَدْعَى الْفِعْلُ بِغَيْرِ قَوْلٍ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا بَيَانٌ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي قَوْلِهِمْ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ: «اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ» لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يُسْتَدْعَى بِغَيْرِ قَوْلٍ، كَالْإِشَارَةِ وَالرَّمْزِ ; فَيَخْرُجُ الْأَمْرُ بِذَلِكَ عَنْ حَدِّ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ ; فَلَا يَكُونُ جَامِعًا ; فَلَوْ أُسْقِطَ لَفْظُ الْقَوْلِ مِنْهُ، بِأَنْ قِيلَ: الْأَمْرُ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، لَاسْتَقَامَ الْحَدُّ ; لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْفِعْلِ
(2/349)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بُقُولٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: الْأَمْرُ: اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، لَاسْتَقَامَ أَيْضًا لِأَنَّ مَا قَامَ مَقَامَ الْقَوْلِ، يَتَنَاوَلُ الْإِشَارَةَ وَالرَّمْزَ، وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يَكُونُ بِهِ الْأَمْرُ.
قُلْتُ: وَقَدْ يُعْتَذَرُ عَنْ هَذَا ; بِأَنَّ التَّعْرِيفَ هَاهُنَا لِلْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ. فَأَمَّا الِاسْتِدْعَاءُ الْحَاصِلُ بِغَيْرِ الْقَوْلِ الصَّرِيحِ ; فَهُوَ أَمْرٌ مَجَازِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ ; لِأَنَّ الطَّلَبَ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَالصِّيغَةُ مِنْ لَوَازِمِ الطَّلَبِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ حَقِيقَةٌ فِي الْعِبَادَاتِ اللِّسَانِيَّةِ، لَا فِي الْمَعَانِي النَّفْسَانِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَلَمْ تَشْتَرِطِ الْمُعْتَزِلَةُ الِاسْتِعْلَاءَ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ أَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ شَرْطٌ فِي كَوْنِ اسْتِدْعَاءِ الْفِعْلِ أَمْرًا، كَمَا سَبَقَ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشُّعَرَاءِ: 34، 35] ; فَجَعَلَ الْقَوْلَ الصَّادِرَ مِنْهُمْ إِلَيْهِ أَمْرًا، مَعَ كَوْنِهِ هُوَ أَعْلَى مِنْهُمْ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا هُمْ أَعْلَى مِنْهُ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيُخَاطِبُوهُ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ إِلَهًا وَرَبًّا، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِعْلَاءُ شَرْطًا فِي الْأَمْرِ، لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ لَهُمْ: فَمَاذَا تَأْمُرُونَ.
(2/350)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِشَارَةِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: (مَاذَا تَأْمُرُونَ) مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى: مَاذَا تُشِيرُونَ بِهِ عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ. وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَذْكُورُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَحْمِيقِ الْعَبْدِ الْآمِرِ سَيِّدَهُ، أَيْ: أَنَّ الْعُقَلَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَمَرَ سَيِّدَهُ بِأَنْ قَالَ: أَمَرْتُكَ أَنْ تَفْعَلَ، أَوْ أَخْرَجَ لَفْظَةً لِسَيِّدِهِ مَخْرَجَ الِاسْتِعْلَاءِ، عُدَّ أَحْمَقَ، نَاقِصَ الْعَقْلِ، سَيِّئَ الْأَدَبِ، مَذْمُومًا. وَلَوْلَا اشْتِرَاطُ الِاسْتِعْلَاءِ فِي الْأَمْرِ، لَاسْتَوَى فِيهِ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ، وَالْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ، وَلَمْ يَتَّجِهْ عَلَيْهِ التَّحْمِيقُ فِيمَا إِذَا أَمَرَهُ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ طَالِبًا لِلْفِعْلِ مِنْهُ طَلَبًا مُجَرَّدًا، كَالسَّائِلِ الْمُلْتَمِسِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ تَحْمِيقُ الْعَبْدِ الْآمِرِ سَيِّدَهُ مِنْ جِهَةِ اسْتِعْلَائِهِ عَلَيْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْجَزْمَ، أَوْ يُشْعِرُ بِهِ ; فَيَكُونُ بِذَلِكَ كَالْمُتَحَكِّمِ عَلَى سَيِّدِهِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْجَزْمَ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ ; فَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ، بَلْ هُوَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمُ النَّدْبَ ; فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْجَزْمَ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْمِيقِ الْعَبْدِ الْمَذْكُورِ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَحْمِيقَهُ لَيْسَ لِتَحَكُّمِهِ بِالْجَزْمِ، بَلْ لِادِّعَائِهِ مَنْصِبَ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى سَيِّدِهِ.
(2/351)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَادَةَ الْمُلُوكِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ مُهِمٌّ، إِنَّمَا يَسْتَشِيرُونَ مَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ وُزَرَائِهِمْ وَنُدَمَائِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ لَهُمْ رَعِيَّةً يَأْتَمِرُونَ بِأَوَامِرِهِمْ ; فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ فِرْعَوْنَ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَاذَا تَأْمُرُونَ؟ ، اسْتِشَارَةٌ لَا ائْتِمَارٌ، عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ بِقَوْلِ فِرْعَوْنَ، وَلَمْ يَدُلَّ النَّصُّ عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ، وَهُوَ لَيْسَ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ ; فَجَازَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ، أَوْ وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدٌ عَظِيمٌ مِنْ أَمْرِ مُوسَى، صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَخَلَّ بِشَرْطِ الْأَمْرِ، وَقَلَبَ حَقِيقَتَهُ، خُصُوصًا وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، عَاتَبَهُ فِرْعَوْنُ بِمَا قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، ثُمَّ قَالَ لِأَعْوَانِهِ: خُذُوهُ ; فَبَادَرَهُمْ مُوسَى بِإِلْقَاءِ عَصَاهُ ; فَصَارَتْ ثُعْبَانًا عَظِيمًا ; فَانْهَزَمُوا مِنْهُ مُزْدَحِمِينَ، حَتَّى هَلَكَ مِنْهُمْ بِالزِّحَامِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، وَكَانَ فِرْعَوْنُ لَا يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا مَرَّةً ; فَتَرَدَّدَ إِلَى الْخَلَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً ; فَلَعَلَّهُ لَمَّا رَأَى هَذَا الْهَوْلَ، اخْتَلَطَ عَقْلُهُ ; فَقَلَبَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ، وَأَخَلَّ بِشَرْطِهِ وَهُوَ الِاسْتِعْلَاءُ.
وَيَكُونُ هَذَا، كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْجُبَنَاءِ، أَنَّ الْعَدُوَّ أَرْهَقَهُ ; فَقَامَ لِيَلْجِمَ فَرَسَهُ فِي رَأْسِهِ ; فَأَلْجَمَهُ فِي ذَنَبِهِ، ثُمَّ لَمَّا رَكِبَ، وَرَاحَ مُنْهَزِمًا، أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ; فَمَرَّ بِقَوْمٍ ; فَقَالَ: أَطْعِمُونِي مَاءً ; فَقَالَ فِيهِ الشَّاعِرُ يَهْجُوهُ:
(2/352)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَلْجَمَ الطِّرْفَ بَعْدَ الرَّأْسِ فِي ذَنَبٍ ... وَاسْتَطْعَمَ الْمَاءَ لَمَّا جَدَّ فِي الْهَرَبِ
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى اشْتِرَاطِ الِاسْتِعْلَاءِ فِي الْأَمْرِ ; أَنَّ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَالَ لِبَرِيرَةَ: صَالِحِي مُغِيثًا - يَعْنِي زَوْجَهَا لَمَّا أَرَادَتْ فِرَاقَهُ - قَالَتْ: أَتَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا، لَكِنِّي أَشْفَعُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِعْلَاءُ شَرْطًا فِي الْأَمْرِ، لَمَا افْتَرَقَ الْأَمْرُ وَالشَّفَاعَةُ.
قَوْلُهُ: «وَلِلْأَمْرِ صِيغَةٌ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَيْهِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: الْأَمْرُ لَهُ صِيغَةٌ، أَيْ: لَفْظٌ يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ عَلَيْهِ، أَيْ: بِدُونِ الْقَرِينَةِ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ لِلْأَمْرِ صِيغَةً مَوْضُوعَةً لَهُ، تَدُلُّ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، كَدَلَالَةِ سَائِرِ
(2/353)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَلْفَاظِ الْحَقِيقِيَّةِ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
«وَقِيلَ: لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ، بِنَاءً عَلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ» ، أَيْ: الْقَائِلُ: إِنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ، بَنَى ذَلِكَ عَلَى إِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ ; فَإِنَّهُ مَعْنًى لَا صِيغَةٌ، «وَقَدْ سَبَقَ مَنْعُهُ» ، أَيْ: مَنْعُ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ عِنْدَ ذِكْرِ اللُّغَاتِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: هَلْ لِلْأَمْرِ النَّفْسَانِيِّ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ؟ نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ نَفْيُهَا، وَعَنِ الْغَيْرِ إِثْبَاتُهَا، قَالَ: وَالْحَقُّ الْإِثْبَاتُ.
قُلْتُ: قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ: لَيْسَ لِلْأَمْرِ النَّفْسِيِّ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ، مَعَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْقُرْآنَ صِيَغٌ وَعِبَارَاتٌ مَخْلُوقَةٌ، تَدُلُّ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، تَنَاقُضٌ.
وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ: أَنَّ لِلْكَلَامِ وَالْأَمْرِ صِيَغًا تَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ ; فَلَعَلَّ مَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنْهُ، قَوْلٌ مَرْجُوعٌ عَنْهُ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ مَا ظَهَرَ لِي وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَهِيَ» ، أَيْ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ «حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ الْجَازِمِ» إِلَى آخِرِهِ.
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ - وَهِيَ لَفْظُ افْعَلْ - نَحْوَ: اعْلَمْ،
(2/354)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاضْرِبْ، أُطْلِقَتْ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ لِمَعَانٍ:
أَحَدُهَا: الطَّلَبُ الْجَازِمُ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، نَحْوَ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110] .
وَثَانِيهَا: النَّدْبُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النُّورِ: 33] ، وَالْكِتَابَةُ مَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.
وَثَالِثُهَا: الْإِبَاحَةُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [الْمَائِدَةِ: 2] ، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الْمُلْكِ: 15] .
وَرَابِعُهَا: التَّعْجِيزُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الْإِسْرَاءِ: 50] ، أَيْ: فَلَنْ تُعْجِزَنِي إِعَادَتُكُمْ.
وَخَامِسُهَا: التَّسْخِيرُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الْبَقَرَةِ: 65] ، أَيْ: تَسَخَّرَتْ مَوَادُ أَجْسَامِهِمْ، لِانْقِلَابِهَا عَنِ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَى الْقِرْدِيَّةِ بِالْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ.
وَسَادِسُهَا: التَّسْوِيَةُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطُّورِ: 16] ، أَيْ: الصَّبْرُ وَعَدَمُهُ.
وَسَابِعُهَا: الْإِهَانَةُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدُّخَانِ: 49] عَلَى جِهَةِ الْإِهَانَةِ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [الْقَمَرِ: 48] ، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الْأَنْفَالِ: 50] ، وَ {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزُّمَرِ: 24] .
وَثَامِنُهَا: الْإِكْرَامُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الْحِجْرِ: 46] .
(2/355)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَاسِعُهَا: التَّهْدِيدُ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَتْ: 40] ، {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا} [الْعَنْكَبُوتِ: 66] ; فَهَذَا أَمْرٌ بِلَامِ الْأَمْرِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 55] .
وَعَاشِرُهَا: الدُّعَاءُ، نَحْوَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الْأَعْرَافِ: 126] .
وَحَادِيَ عَشَرَهَا: الْخَبَرُ، كَقَوْلِهِ: إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، صَنَعْتَ مَا شِئْتَ ; فَقَوْلُهُ: صَنَعْتَ، وَالْكَلَامُ الْمُشْتَمِلُ عَلَيْهَا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، يَصِحُّ فِي جَوَابِهَا: صَدَقَ أَوْ كَذَبَ.
وَثَانِيَ عَشَرَهَا: التَّمَنِّي، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي ... بِصُبْحٍ وَمَا الْإِصْبَاحُ فِيكَ بِأَمْثَلِ
(2/356)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: انْجَلِي: تَمَنَّى انْجِلَاءَهُ عَنْهُ لِطُولِهِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ:
وَلَيْلٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ ... عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الْهُمُومِ لِيَبْتَلِي
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ ... وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أَيْ: لِطُولِهِ عَلَيَّ، قُلْتُ لَهُ: أَنَا أَتَمَنَّى انْجِلَاءَكَ عَنِّي.
وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ لِمَعَانٍ أُخَرَ:
نَحْوَ الْإِرْشَادِ إِلَى مَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، نَحْوَ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [الْبَقَرَةِ: 282] ، {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التَّحْرِيمِ: 6] ، يَعْنِي بِالتَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ.
وَالِامْتِنَانِ، نَحْوَ: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 57] ، {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} [سَبَأٍ: 15] .
وَالْإِنْذَارِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النِّسَاءِ: 71] .
وَإِذَا ثَبَتَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الصِّيغَةِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي ; فَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ
(2/357)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْجَازِمِ مِنْهَا، مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ. هَذَا الْمَذْكُورُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صِيغَةَ: افْعَلْ مَجَازٌ فِيمَا سِوَى الطَّلَبِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ، أَوْ حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ، مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهَا، أَوْ فِي الطَّلَبِ، مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهُ.
قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ ; لِأَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ كَذَا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ، تَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ الطَّلَبُ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ.
قُلْتُ: وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ، ثَبَتَ أَنَّهَا لِلْجَزْمِ، بِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: وَقَوْلِي: «كَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَالتَّعْجِيزِ، وَالتَّسْخِيرِ، وَالتَّسْوِيَةِ، وَالْإِهَانَةِ، وَالْإِكْرَامِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَالدُّعَاءِ، وَالْخَبَرِ» ، هَذَا سَرْدٌ لِلْمَعَانِي الَّتِي اسْتُعْمِلَتْ فِيهَا هَذِهِ الصِّيغَةُ.
وَقَوْلِي: «نَحْوَ كَاتِبُوهُمْ، اصْطَادُوا، {كُونُوا حِجَارَةً} ، {كُونُوا قِرَدَةً} ، {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} ، {ذُقْ إِنَّكَ} ، {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} ، اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِذَا لَمْ تَسْتَحْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» هَذَا سَرْدٌ لِأَمْثِلَةِ تِلْكَ الْمَعَانِي، عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ.
وَالتَّمَنِّي ذِكْرُ مِثَالِهِ يَلِيهِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدْتُهُ ; لِأَنَّ مِثَالَهُ لَيْسَ مِنَ الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ أَمْثِلَةِ الْمَعَانِي.
(2/358)
________________________________________
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ الْأَمْرِ أَمْرًا إِرَادَتُهُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
لَنَا: إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرَادَةِ.
قَالُوا: الصِّيغَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْمَعَانِي ; فَلَا تَتَعَيَّنُ لِلْأَمْرِ إِلَّا بِالْإِرَادَةِ، إِذْ لَيْسَتْ أَمْرًا لِذَاتِهَا، وَلَا لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ، إِذْ تَبْطُلُ بِالسَّاهِي وَالنَّائِمِ.
قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الْأَمْرِ مَجَازٌ ; فَهِيَ بِإِطْلَاقِهَا لَهُ، وَلَا يَرِدُ لَفْظُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي، إِذْ لَا اسْتِعْلَاءَ فِيهِ، ثُمَّ الْأَمْرُ وَالْإِرَادَةُ يَتَفَاكَّانِ كَمَنْ يَأْمُرُ وَلَا يُرِيدُ، أَوْ يُرِيدُ وَلَا يَأْمُرُ ; فَلَا يَتَلَازَمَانِ، وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ الْأَمْرِ أَمْرًا إِرَادَتُهُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ» .
اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ: الْأَمْرُ: هُوَ صِيغَةُ افْعَلْ بِشَرْطِ إِرَادَةِ إِحْدَاثِ الصِّيغَةِ، وَإِرَادَةِ الدَّلَالَةِ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ، وَإِرَادَةِ الْآمِرِ الِامْتِثَالَ مِنَ الْمَأْمُورِ، بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَعِنْدَنَا هُوَ صِيغَةُ: افْعَلْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهِ أَمْرًا شَيْءٌ مِنَ الْإِرَادَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» : أَيْ: عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الصِّيغَةُ، مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْإِرَادَةِ، هُوَ «أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرَادَةِ لِلْآمِرِ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَتَّبُوا ذَمَّ الْمَأْمُورِ أَوْ مَدْحَهُ، وَإِثْبَاتَهُ وَعُقُوبَتَهُ، عَلَى مُخَالَفَةِ مُجَرَّدِ الصِّيغَةِ أَوْ مُوَافَقَتِهَا وَلَمْ يَسْأَلُوا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا هَلْ أَرَادَ الْآمِرُ الْأَمْرَ أَوِ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ أَوْ
(2/359)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا؟ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، لَمَا أَهْمَلُوا السُّؤَالَ عَنْهُ، وَلَا رَتَّبُوا أَحْكَامَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، بِدُونِ تَحَقُّقِهِ، فَلَمَّا أَهْمَلُوا السُّؤَالَ عَنْهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا عِنْدَهُمْ، لَمْ يَكُنْ شَرْطًا مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ، وَعَنْهُمْ يُؤْخَذُ أَقْسَامُ الْكَلَامِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّ الْإِرَادَةَ ظَهَرَتْ لَهُمْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ ; فَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنِ السُّؤَالِ.
قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرَائِنِ، وَإِنْ سُلِّمَ وُجُودُهَا، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْأَمْرِ ; فَمَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهِ ; يَسْتَحِيلُ عَادَةً أَنْ لَا يَتَجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ ; فَيَحْتَاجُونَ إِلَى السُّؤَالِ عَنْ شَرْطِهِ الْمَذْكُورِ ; فَيُنْقَلُ عَنْهُمْ، وَيُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنْ لَا أَصْلَ لِهَذَا الشَّرْطِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الصِّيغَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْمَعَانِي» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ مَنِ اشْتَرَطَ لِلْأَمْرِ الْإِرَادَةَ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ صِيغَةَ «افْعَلْ» لَوِ اسْتَغْنَتْ - فِي كَوْنِهَا أَمْرًا - عَنِ الْإِرَادَةِ ; لَكَانَتْ ; إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَمْرًا لِذَاتِهَا، أَوْ لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ ; فَالْقَوْلُ بِاسْتِغْنَائِهَا عَنِ الْإِرَادَةِ بَاطِلٌ.
«وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ أَمْرًا لِذَاتِهَا» ، أَيْ: لِكَوْنِهَا صِيغَةَ افْعَلْ ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَمْرًا لِذَاتِهَا، لَمَا صَحَّ وُرُودُهَا لِلتَّهْدِيدِ وَنَحْوِهِ، مِمَّا لَيْسَ الْمُرَادُ بِلَفْظِهَا
(2/360)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِيهِ الْأَمْرَ، وَلَكِنْ قَدْ صَحَّ وُرُودُهَا لِلتَّهْدِيدِ، نَحْوَ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فُصِّلَتْ: 40] ; فَلَا تَكُونُ أَمْرًا لِذَاتِهَا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهَا لَيْسَتْ أَمْرًا، لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْطُلُ بِالسَّاهِي وَالنَّائِمِ، فَإِنَّ صِيغَةَ افْعَلْ تَصْدُرُ مِنْهُمَا مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرَائِنِ، وَلَيْسَتْ أَمْرًا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْرًا لِذَاتِهَا، وَلَا لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ، وَقَدْ وَرَدَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمَعَانِي السَّابِقِ ذِكْرُهَا، عَلَى كَثْرَتِهَا ; فَحَمْلُهَا عَلَى الْأَمْرِ دُونَ بَقِيَّةِ تِلْكَ الْمَعَانِي، تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ ; فَوَجَبَ أَنْ تُشْتَرَطَ الْإِرَادَةُ فِي كَوْنِهَا أَمْرًا، لِتَتَعَيَّنَ لَهُ بِهَا.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الْأَمْرِ مَجَازٌ ; فَهِيَ بِإِطْلَاقِهَا لَهُ» ، هَذَا جَوَابُ دَلِيلِهِمْ، وَهُوَ يَمْنَعُ الْحَصْرَ فِي قَوْلِهِمْ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ أَمْرًا لِذَاتِهَا، أَوْ لِتَجَرُّدِهَا عَنِ الْقَرَائِنِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ ثَمَّ قِسْمًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْأَمْرِ بِوَضْعِ الْوَاضِعِ، أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ مِنْ مُبَادَرَةِ فَهْمِ الطَّلَبِ الْجَازِمِ مِنْهَا، وَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِيهِ ; فَهِيَ بِإِطْلَاقِهَا لَهُ. فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْيِينِ بِالْإِرَادَةِ، وَهِيَ مَجَازٌ فِي غَيْرِ الْأَمْرِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ الِاشْتِرَاكُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِهَا لِلْأَمْرِ بِالْإِرَادَةِ، لَوْ كَانَتْ مُشْتَرِكَةً فِي الْمَعَانِي الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا لَفْظُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي بِصِيغَةِ افْعَلْ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا ; فَلَا يَرِدُ
(2/361)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْنَا ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ كَوْنِهِ أَمْرًا ; لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ الْإِرَادَةِ، بَلْ لِعَدَمِ الِاسْتِعْلَاءِ فِيهِ، إِذِ الِاسْتِعْلَاءُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنَ السَّاهِي وَالنَّائِمِ ; لِأَنَّ الِاسْتِعْلَاءَ كَيْفِيَّةٌ تَصْدُرُ عَنْ تَصَوُّرِ الْآمِرِ، وَاسْتِشْعَارِهِ أَنَّهُ أَعْلَى مِنَ الْمَأْمُورِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ التَّصَوُّرِ وَالْقَصْدِ، وَهُمَا مُمْتَنِعَانِ فِي النَّائِمِ وَالسَّاهِي، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: لَا يَتَوَجَّهُ الْخِطَابُ إِلَيْهِمَا حَالَ النَّوْمِ وَالسَّهْوِ.
وَقَدْ يَرِدُ عَلَى هَذَا: أَنَّ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ الِاسْتِعْلَاءَ أَيْضًا، يُصَحِّحُ الْأَمْرَ مِنْهُمَا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الِاسْتِعْلَاءِ مِنْهُمَا لَيْسَ هُوَ الْمَانِعَ، لَكِنْ يُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ الِاسْتِعْلَاءِ لَيْسَ هُوَ الْمَانِعَ، لَكِنَّ عَدَمَ الْإِرَادَةِ لَا يَتَعَيَّنُ مَانِعًا، إِذْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ غَيْرَهُ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْأَمْرُ وَالْإِرَادَةُ يَتَفَاكَّانِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى بُطْلَانِ اشْتِرَاطِ الْإِرَادَةِ لِلْآمِرِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِرَادَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا لِلْأَمْرِ، لَمَا انْفَكَّتْ عَنْهُ، لِاسْتِحَالَةِ انْفِكَاكِ الْمَشْرُوطِ عَنْ شَرْطِهِ، لَكِنَّهُمَا يَتَفَاكَّانِ جَمِيعًا، أَيْ: يَنْفَكُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ ; فَلَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ شَرْطًا لِلْأَمْرِ.
وَبَيَانُ انْفِكَاكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ هُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَأْمُرَ الْمُتَكَلِّمُ
(2/362)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِمَا لَا يُرِيدُ، وَأَنْ يُرِيدَ مَا لَا يَأْمُرُ بِهِ.
أَمَّا الْأَمْرُ بِمَا لَا يُرَادُ ; فَكَأَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْكُفَّارَ بِالْإِيمَانِ، مَعَ عَدَمِ إِرَادَتِهِ مِنْهُمْ، إِذْ لَوْ أَرَادَهُ مِنْهُمْ، لَكَانَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ إِيمَانِهِمْ مُرَادًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ: هُوَ تَعَلُّقُ إِرَادَتِهِ بِهِ، وَمَعْنَى تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِهِ هُوَ تَخْصِيصُهَا بِحُدُوثِهِ مِنْهُمْ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، إِذْ شَأْنُ الْإِرَادَةِ التَّخْصِيصُ، وَشَأْنُ الْقُدْرَةِ التَّأْثِيرُ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدِ الْإِيمَانُ مِنْهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، مَعَ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ ; فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ يَصِحُّ وُجُودُهُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ، وَكَذَلِكَ: لَوْ عُوتِبَ شَخْصٌ عَلَى مُعَاقَبَةِ عَبْدِهِ ; فَادَّعَى مُخَالَفَتَهُ لَهُ، وَأَرَادَ إِقَامَةَ عُذْرِهِ عِنْدَ مُعَاتِبِهِ ; فَقَالَ لِعَبْدِهِ: اذْهَبْ ; فَافْعَلْ كَذَا ; فَهَذَا أَمْرٌ لَهُ بِالْفِعْلِ، مَعَ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُرِيدُ مِنْهُ الِامْتِثَالَ قَطْعًا، لِئَلَّا يُفْضِي إِلَى تَكْذِيبِهِ عِنْدَ مُعَاتِبِهِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِقَامَةُ عُذْرِهِ عِنْدَهُ.
وَكَذَلِكَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا قِيلَ لَهُ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هُودٍ: 36] ، وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمَّا أُخْبِرُوا أَنَّ كُفَّارَ قَوْمِهِمْ لَا يُؤْمِنُونَ، كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، إِقَامَةً لِرَسْمِ الدَّعْوَةِ، وَلَا يُرِيدُونَهُ مِنْهُمْ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِفْضَاءُ إِيمَانِهِمْ إِلَى تَكْذِيبِ خَبَرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(2/363)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي: اسْتِحَالَةُ إِيمَانِهِمْ، لِتَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِهِ، وَالْمُحَالُ غَيْرُ مُرَادٍ.
وَأَمَّا إِرَادَةُ مَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ ; فَهُوَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ، إِذِ الْإِنْسَانُ كَثِيرًا مَا يُرِيدُ شَيْئًا، وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، خَوْفًا، أَوْ حَيَاءً، أَوْ تَدَيُّنًا، كَمَا لَوْ حَرَّمَ السُّلْطَانُ عَصْرَ الْعِنَبِ خَمْرًا، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُرِيدُ عَصْرَهُ، وَلَا يَأْمُرُ بِهِ عَبْدَهُ، وَلَا وَلَدَهُ، وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، خَوْفًا أَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِ ; فَيُعَاقَبُ، وَالصَّائِمُ قَدْ يُرِيدُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، وَلَا يَأْمُرُ عَبْدَهُ بِإِحْضَارِهِ، لِيَتَنَاوَلَ مِنْهُ حَيَاءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُحَافَظَةً عَلَى الدِّينِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْإِرَادَةَ يَتَفَاكَّانِ، «فَلَا يَتَلَازَمَانِ» .
أَيْ: لَا يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا، «وَإِلَّا اجْتَمَعَ النَّقِيضَانِ» .
أَيْ: لَوْ تَلَازَمَا مَعَ صِحَّةِ تَفَاكِّهِمَا، لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ تَفَاكُّهُمَا، وَعَدَمُ تَفَاكِّهِمَا، أَوْ تَلَازُمُهُمَا وَعَدَمُ تَلَازُمِهِمَا، وَهُوَ مُحَالٌ.
(2/364)
________________________________________
ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ عَنْ قَرِينَةٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ ; وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ النَّدْبَ حَمْلًا لَهُ عَلَى مُطْلَقِ الرُّجْحَانِ، وَنَفْيًا لِلْعِقَابِ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَقِيلَ: الْإِبَاحَةَ لِتَيَقُّنِهَا.
وَقِيلَ: الْوَقْفَ لِاحْتِمَالِهِ كُلَّ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ وَلَا مُرَجِّحَ.
لَنَا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النُّورِ: 63] ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [الْمُرْسَلَاتِ: 48] ، ذَمَّهُمْ وَذَمَّ إِبْلِيسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، وَدَعْوَى قَرِينَةِ الْوُجُوبِ، وَاقْتِضَاءُ تِلْكَ اللُّغَةِ لَهُ دُونَ هَذِهِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ; وَإِنَّ السَّيِّدَ لَا يُلَامُ عَلَى عِقَابِ عَبْدِهِ عَلَى مُخَالَفَةِ مُجَرَّدِ أَمْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«ثُمَّ هُنَا» ، أَيْ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ «مَسَائِلُ» :
الْأُولَى: الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ عَنْ قَرِينَةٍ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ «، إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَرِنًا أَوْ مُجَرَّدًا، فَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِقَرِينَةٍ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوُجُوبُ، أَوِ النَّدْبُ، أَوِ الْإِبَاحَةُ، حُمِلَ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ، وَإِنْ كَانَ مُجَرَّدًا عَنْ قَرِينَةٍ ; فَهُوَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْجِبَائِيِّ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ يَقْتَضِي النَّدْبَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ» حَمْلًا لَهُ «، أَيْ: لِلْأَمْرِ» عَلَى مُطْلَقِ الرُّجْحَانِ، وَنَفْيًا لِلْعِقَابِ بِالِاسْتِصْحَابِ «، هَذَا تَوْجِيهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ.
(2/365)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَرَدَ تَارَةً لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَتَارَةً لِلنَّدْبِ كَمَا فِي صَلَاةِ الضُّحَى، وَالْمَجَازُ وَالِاشْتِرَاكُ خِلَافُ الْأَصْلِ ; فَوَجَبَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَهُوَ مُطْلَقُ رُجْحَانِ الْفِعْلِ.
وَأَمَّا الْعِقَابُ عَلَى التَّرْكِ ; فَيَنْتَفِي بِالِاسْتِصْحَابِ، أَيْ: اسْتِصْحَابِ حَالِ عَدَمِهِ، وَهُوَ كَوْنُ الْأَصْلِ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْهُ.
هَكَذَا وَقَعَ فِي» الْمُخْتَصَرِ «، وَالْأَوْلَى أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، يَجْعَلُ نَفْيَ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ، مُسْتَفَادًا مِنْ لَفْظِ النَّدْبِ ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ رُجْحَانِ الْفِعْلِ، وَجَوَازِ التَّرْكِ. وَإِذَا جُعِلَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، كَانَ نَفْيُ الْعِقَابِ مُسْتَفَادًا مِنِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، كَمَا ذَكَرْنَا. وَهَذَانِ مَذْهَبَانِ، وَتَوْجِيهُهُمَا مَا ذُكِرَ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ هَذَا الْفَرْقِ.
قَوْلُهُ:» وَقِيلَ: الْإِبَاحَةُ «، أَيْ: وَقِيلَ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ الْإِبَاحَةُ» لِتَيَقُّنِهَا «، أَيْ: أَنَّ الْأَمْرَ قَدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَهِيَ الْمُتَيَقَّنَةُ ; فَلْيَكُنِ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِيهَا، وَيَقِفُ حَمْلُهُ عَلَى خُصُوصِيَّةِ النَّدْبِ، أَوِ الْوُجُوبِ عَلَى الدَّلِيلِ ; لِأَنَّهُمَا مَشْكُوكٌ فِيهِمَا ; فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِمَا بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ جَوَازَ الْإِقْدَامِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ ; فَلْيَكُنِ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِيهِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، دَفْعًا لِلْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ.
- قَوْلُهُ:» وَقِيلَ: الْوَقْفَ «، أَيْ: وَقِيلَ: الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوَقْفَ، أَوْ حُكْمُهُ الْوَقْفُ،» لِاحْتِمَالِهِ كُلَّ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ مِنْ إِبَاحَةٍ، وَنَدْبٍ، وَوُجُوبٍ، وَلَا مُرَجِّحَ «لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ; فَيَجِبُ الْوَقْفُ عَلَى الْمُرَجِّحِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ،
(2/366)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ هَاهُنَا، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَعُمْدَتُهُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ، وَاتِّجَاهُ الْقَدْحِ فِيهَا ; فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ عَلَى حُجَّةِ الْقَادِحِ فِيهَا.
قُلْتُ: وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ فِي الْمُطَالَبَةِ الْقَطْعِيَّةِ، أَمَّا الظَّنِّيَّةُ ; فَيَكْفِي فِيهَا ظُهُورُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ قَادِحٌ مَا.
هَذِهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ: الْوُجُوبُ، وَالنَّدْبُ، وَالْإِبَاحَةُ، وَالْوَقْفُ. وَقَدْ ذُكِرَ تَوْجِيهُ الثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي تَوْجِيهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْوُجُوبُ.
قَوْلُهُ:» لَنَا: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} إِلَى آخِرِهِ.
أَيْ: لَنَا عَلَى اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النُّورِ: 63] ; فَتَوَعَّدَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الرَّسُولِ بِالْعَذَابِ، وَالْوَعِيدُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ امْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجِبٌ، وَلَا يَعْنِي بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ إِلَّا هَذَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْكُفَّارِ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الْمُرْسَلَاتِ: 48، 49] ، وَلَمَّا أَمَرَ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ ; فَأَبَى، قَالَ لَهُ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} إِلَى قَوْلِهِ:
(2/367)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الْأَعْرَافِ: 12 - 18] ; فَذَمَّ الْكُفَّارَ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ عِبَادَةً، وَذَمَّ إِبْلِيسَ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ لِآدَمَ تَحِيَّةً، وَذَلِكَ ذَمٌّ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، إِذْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَا ذُمَّ تَارِكُهُ شَرْعًا.
قَوْلُهُ: «وَدَعْوَى قَرِينَةِ الْوُجُوبِ، وَاقْتِضَاءِ تِلْكَ اللُّغَةِ لَهُ، دُونَ هَذِهِ، غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ» . هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ، يُورِدُهُ الْخَصْمُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ، بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الذَّمَّ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ، بَلِ اقْتَرَنَ بِالْأَمْرِ فِيهَا قَرِينَةٌ أَفَادَتِ الْوُجُوبَ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْقَرِينَةُ، لَمْ يَقْتَضِ الْوُجُوبَ، وَلَا الْوَعِيدَ وَالذَّمَّ عَلَى التَّرْكِ.
فَتَقْدِيرُ الْآيَةِ الْأُولَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ، الْمُفِيدِ لِلْوُجُوبِ، بِقَرِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
وَتَقْدِيرُ الثَّانِيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} ، وَاسْتَفَادُوا الْوُجُوبَ بِقَرِينَةٍ، أَوْ تَصْرِيحٍ بِهِ.
وَذَلِكَ أَمْرُ إِبْلِيسَ بِالسُّجُودِ، اقْتَرَنَ بِهِ قَرِينَةٌ أَفَادَتِ الْوُجُوبَ ; فَكَانَ ذَمُّهُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ، لَا عَلَى مُطْلَقِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مُخْتَصٌّ بِقِصَّةِ إِبْلِيسَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي اللُّغَةِ الَّتِي خَاطَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ كَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ; فَلِذَلِكَ ذَمَّ
(2/368)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، بِخِلَافِ لُغَتِنَا هَذِهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ ; لِأَنَّهَا مُجَرَّدَةٌ عَنْ حُجَّةٍ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ اقْتِرَانُ الْأَمْرِ بِمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ ; فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ خِلَافُهُ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرِينَةِ، وَمُجَرَّدُ احْتِمَالِهَا لَا يَكْفِي، وَلَا يُتْرَكُ لَهُ ظَاهِرُ الْخِطَابِ.
وَأَمَّا اقْتِضَاءُ الْأَمْرِ فِي تِلْكَ اللُّغَةِ الْوُجُوبَ، دُونَ هَذِهِ ; فَخِلَافُ الظَّاهِرِ أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حَكَى لَنَا الْحِكَايَةَ بِلُغَةٍ، وَالْأَصْلُ مُطَابَقَةُ الْحِكَايَةِ لِلْمَحْكِيِّ، وَمُوَافَقَتُهُ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ، بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ: إِنَّهُ أَمَرَهُمْ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ حَكَى الْقِصَّةَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ صَادِقٌ فِي إِخْبَارِهِ، وَالصِّدْقُ يَقْتَضِي مُطَابَقَةَ الْمُخْبَرِ بِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مُطَابَقَةً مَعْنَوِيَّةً، وَهُوَ إِيرَادُ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ يَعْزُبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ; فَوَجَبَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ: فَهَذِهِ الدَّعْوَى إِذَا قُوبِلَتْ بِظَاهِرِ الْحَالِ، كَانَتْ هَبَاءً مَنْثُورًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا خَالَفَ مُجَرَّدَ أَمْرِ سَيِّدِهِ ; فَعَاقَبَهُ، لَمْ يُلَمْ عَلَى عِقَابِهِ، بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ، وَلَوْلَا إِفَادَةُ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ الْوُجُوبَ، لَاتَّجَهَ لَوْمُ السَّيِّدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَتَّجِهُ ; فَدَلَّ عَلَى إِفَادَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لِمُجَرَّدِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ بِالِاسْتِعْمَالِ، وَمُبَادَرَةِ الذِّهْنِ، أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، ثَبَتَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ ; فَيَضْعُفُ قَوْلُ مَنْ جَعَلَهُ لِلنَّدْبِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ ; حَمْلًا لَهُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، وَقَوْلُ مَنْ تَوَقَّفَ لِظُهُورِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ.
(2/369)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الْوَارِدَةُ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلِمَا هِيَ لَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.
وَقِيلَ: إِنْ وَرَدَ بِصِيغَةِ افْعَلْ فَكَالْأَوَّلِ لِلْعُرْفِ، وَإِلَّا فَكَالثَّانِي، نَحْوَ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِكَذَا، لِعَدَمِهِ فِيهِ، وَالْحَقُّ اقْتِضَاؤُهَا الْإِبَاحَةَ عُرْفًا لَا لُغَةً.
لَنَا: فَهْمُ الْإِبَاحَةِ مِنْ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: كُلْ هَذَا الطَّعَامَ بَعْدَ مَنْعِهِ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ غَالِبًا كَذَلِكَ، نَحْوَ: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [الْمَائِدَةِ: 2] ، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا) [الْجُمُعَةِ: 10] ، (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ) [الْبَقَرَةِ: 222] ، وَنَحْوِهَا، وَاسْتِفَادَةُ وُجُوبِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، مِنْ: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ [التَّوْبَةِ: 12] وَنَحْوِهَا، لَا مِنْ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 5] .
وَفِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ التَّحْرِيمَ أَوِ الْكَرَاهَةَ خِلَافٌ، وَيَحْتَمِلُ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا، وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ إِذْ هَذَا رَفْعٌ لِلْإِذْنِ بِكُلِّيَّتِهِ، وَمَا قَبْلَهُ رَفْعٌ لِلْمَنْعِ ; فَيَبْقَى الْإِذْنُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الثَّانِيَةُ: صِيغَةُ الْأَمْرِ الْوَارِدَةُ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلِمَا هِيَ لَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ "، يَعْنِي مِنْ إِيجَابٍ أَوْ إِبَاحَةٍ " عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ "، أَيْ: إِنْ كَانَتْ قَبْلَ الْحَظْرِ لِلْوُجُوبِ ; فَهِيَ لَهُ بَعْدَ الْحَظْرِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْإِبَاحَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ.
" وَقِيلَ: إِنْ وَرَدَ "، يَعْنِي الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ، " بِصِيغَةِ افْعَلْ فَكَالْأَوَّلِ "، أَيْ: يَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ " لِلْعُرْفِ "، أَيْ: لِأَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. " وَإِلَّا "، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بَعْدَ الْحَظْرِ بِصِيغَةِ افْعَلْ " فَكَالثَّانِي "،
(2/370)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ: فَهُوَ كَالثَّانِي، أَيْ: يَكُونُ لِمَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْحَظْرِ، مِنْ وُجُوبٍ، أَوْ إِبَاحَةٍ " نَحْوَ: أَنْتُمْ مَأْمُورُونَ بِكَذَا "، إِذْ هَذَا لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، لَا الْأَمْرِ، " لِعَدَمِهِ " أَيْ: لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ بِخِلَافِ الْوَارِدِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. هَذَا نَقْلُ " الْمُخْتَصَرِ " وَأَصْلُهُ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إِذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ، اقْتَضَى الْوُجُوبَ عِنْدَ الْبَاجِيِّ، وَمُتَقَدِّمِي أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ، وَهُوَ لِلْإِبَاحَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَحَكَى الْآمِدِيُّ الْوُجُوبَ، وَالْإِبَاحَةَ، وَالْوَقْفَ، وَاخْتَارَهُ.
قَوْلُهُ: " وَالْحَقُّ اقْتِضَاؤُهَا الْإِبَاحَةَ عُرْفًا، لَا لُغَةً ". هَذَا تَفْصِيلٌ اخْتَرْتُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ، لَا اللُّغَةُ، إِذْ هُوَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، كَمَا سَبَقَ. وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ.
قَوْلُهُ: " لَنَا: فَهْمُ الْإِبَاحَةِ مِنْ قَوْلِ السَّيِّدِ ". هَذَا دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا مَنَعَ عَبْدَهُ مِنْ طَعَامٍ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: كُلْهُ ; فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنْهُ الْإِبَاحَةَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ لُغَةً، أَوْ عُرْفًا، أَيُّ ذَلِكَ كَانَ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ.
قَوْلُهُ: " وَهُوَ فِي الشَّرْعِ غَالِبًا كَذَلِكَ ": هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْوُقُوعِ، أَيْ: وَالْأَمْرُ الْوَارِدُ فِي الشَّرْعِ بَعْدَ الْحَظْرِ غَالِبًا، أَيْ: فِي غَالِبِ مَوَارِدِهِ كَذَلِكَ، أَيْ: لِلْإِبَاحَةِ ; فَقَدْ تَطَابَقَ الدَّلِيلُ وَالْوُقُوعُ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} بَعْدَ
(2/371)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلِهِ: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [الْمَائِدَةِ: 1] ; فَفُهِمَ مِنْهُ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الْجُمُعَةِ: 10] ، اقْتَضَى إِبَاحَةَ الِانْتِشَارِ بَعْدَ الْمَنْعِ مِنْهُ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [الْبَقَرَةِ: 222] ، اقْتَضَى إِبَاحَةَ الْوَطْءِ بَعْدَ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَوَارِدِ هَذِهِ الصِّيغَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ، هُوَ لِلْإِبَاحَةِ ; فَلْتَكُنْ هِيَ مُقْتَضَاهُ.
- قَوْلُهُ: " وَاسْتِفَادَةُ وُجُوبِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} ، وَنَحْوِهَا، لَا مِنْ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: اسْتَفَدْنَا مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التَّوْبَةِ: 5] ، وُجُوبَ قَتْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ، بِحُكْمِ الْعَهْدِ ; فَلْيَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ، وَيَتَرَجَّحُ هَذَا بِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ كَمَا سَبَقَ.
وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ مَنْعِهِ، لَمْ نَسْتَفِدْهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ، بَلْ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التَّوْبَةِ: 12] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْأَمْرِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، نَحْوَ: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 191] ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التَّحْرِيمِ: 9] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التَّوْبَةِ: 123] ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَلَوْ تُرِكْنَا وَظَاهِرَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ، لَمَا فَهِمْنَا إِلَّا إِبَاحَةَ قِتَالِهِمْ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْوُجُوبُ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ: أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ ; فَتَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ، فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبٍ، كَوُجُوبِ قِتَالِ
(2/372)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ، أَوْ عَلَى نَدْبٍ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} [النِّسَاءِ: 103] ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنْدُوبٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ; فَذَلِكَ دَلِيلٌ آخَرُ.
- قَوْلُهُ: " وَفِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ، التَّحْرِيمُ أَوِ الْكَرَاهَةُ، خِلَافٌ ". هَذِهِ عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا ; لِأَنَّ تِلْكَ فِي وُرُودِ صِيغَةِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، وَهَذِهِ فِي وُرُودِ النَّهْيِ بَعْدَ الْأَمْرِ، كَمَا إِذَا قَالَ: صَلِّ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُصَلِّ، هَلْ يَقْتَضِي التَّحْرِيمُ عَمَلًا بِمُقْتَضَى النَّهْيِ، أَوِ الْكَرَاهَةِ، كَمَا اقْتَضَى الْأَمْرُ بَعْدَ الْحَظْرِ الْإِبَاحَةَ؟ فِيهِ خِلَافٌ.
قَوْلُهُ: " وَيُحْتَمَلُ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا "، أَيْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُفَصَّلَ هُنَا، كَمَا فُصِّلَ فِي الْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْحَظْرِ ; فَيُقَالُ هَاهُنَا: إِنَّ النَّهْيَ بَعْدَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ عُرْفًا، وَالتَّحْرِيمَ لُغَةً، كَمَا قُلْنَا هُنَاكَ: إِنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَقْتَضِي الْإِبَاحَةَ عُرْفًا وَالْوُجُوبَ لُغَةً ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَظْرَ هُنَاكَ لَمَّا كَانَ قَرِينَةً فِي حَمْلِ الْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، كَذَلِكَ الْأَمْرُ هُنَا قَرِينَةٌ فِي حَمْلِ النَّهْيِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ.
- قَوْلُهُ: " وَالْأَشْبَهُ التَّحْرِيمُ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: الْأَشْبَهُ فِي النَّظَرِ، أَنَّ النَّهْيَ بَعْدَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ بَعْدَ الْحَظْرِ، حَيْثُ لَمْ يَقْتَضِ الْوُجُوبَ عُرْفًا.
وَتَقْرِيرُ الْفَرْقِ: أَنَّهُ مَثَلًا إِذَا قَالَ لَهُ: صُمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: لَا تَصُمْ ; فَقَدْ رَفَعَ بِهَذَا النَّهْيِ الْإِذْنَ لَهُ أَوَّلًا فِي الصَّوْمِ بِكُلِّيَّتِهِ. وَإِذَا قَالَ لَهُ: لَا تَصِدْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: صِدْ ; فَهَاهُنَا لَمْ يَرْفَعِ الْإِذْنَ فِي الصَّيْدِ بِكُلِّيَّتِهِ، بَلْ رَفَعَ الْمَنْعَ مِنْهُ ; فَبَقِيَ الْإِذْنُ فِيهِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(2/373)
________________________________________
الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ خِلَافًا لِلْقَاضِي، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّ تَكَرُّرَ لَفْظِ الْأَمْرِ نَحْوَ: صَلِّ غَدًا، صَلِّ غَدًا اقْتَضَاهُ تَحْصِيلًا لِفَائِدَةِ الْأَمْرِ الثَّانِي، وَإِلَّا فَلَا.
وَقِيلَ: إِنْ عُلِّقَ الْأَمْرُ عَلَى شَرْطٍ، اقْتَضَى التَّكْرَارَ كَالْمُعَلَّقِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ، إِذْ هِيَ مَفْرُوضَةٌ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْمُقْتَرِنُ بِالشَّرْطِ لَيْسَ مُطْلَقًا، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يَقْتَضِي التَّأْكِيدَ لُغَةً، لَا التَّكْرَارَ.
لَنَا: لَا دَلَالَةَ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ، لَا عَلَى كَمِّيَّةِ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: صَلِّ مَرَّةً، أَوْ مِرَارًا، لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ نَقْضًا، وَلَا الثَّانِي تَكْرَارًا.
قَالُوا: النَّهْيُ يَقْتَضِي تَكْرَارَ التَّرْكِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِيهِ ; فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ; فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ تَرْكِ الضِّدِّ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَاهِيَّةِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِفِعْلِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا فِي زَمَنٍ مَا، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَرْكَهَا، وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا فِي كُلِّ زَمَنٍ ; فَافْتَرَقَا.
وَعَنِ الثَّانِي: بِمَنْعِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَإِنْ سُلِّمَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِعْلُ الضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَضْدَادٌ فَيَتَلَبَّسَ بِغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْهَا ; وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ لَا يَتَمَشَّى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الثَّالِثَةُ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ "، مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ " مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي " أَبِي يَعْلَى، " وَبَعْضِ
(2/374)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّافِعِيَّةِ "، وَأَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ، قَالُوا: هُوَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. قَالَهُ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنِ اسْتِقْرَاءِ كَلَامِهِ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُهُ، وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ نَفَى احْتِمَالَ التَّكْرَارِ، قَالَ: لَا يَحْتَمِلُهُ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِيهِ، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ ; لِأَنَّهَا مَقْطُوعٌ بِإِرَادَتِهَا، مَعَ احْتِمَالِ التَّكْرَارِ.
" وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ تَكَرَّرَ لَفْظُ الْأَمْرِ، نَحْوَ: صَلِّ غَدًا، صَلِّ غَدًا ".
اقْتَضَى التَّكْرَارَ " تَحْصِيلًا لِفَائِدَةِ الْأَمْرِ الثَّانِي "، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ، لَكَانَ ذِكْرُ الْأَمْرِ مُكَرَّرًا كَذِكْرِهِ غَيْرَ مُكَرَّرٍ ; فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّهُ كُرِّرَ تَأْكِيدًا، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، إِذْ فَائِدَةُ التَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ " وَإِلَّا فَلَا "، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ لَفْظُ الْأَمْرِ، نَحْوَ: صَلِّ غَدًا، لَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ.
" وَقِيلَ: إِنْ عُلِّقَ الْأَمْرُ عَلَى شَرْطٍ "، نَحْوَ: إِنْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، أَوْ زَالَتْ، أَوْ غَرَبَتْ فَصَلِّ ; " اقْتَضَى التَّكْرَارَ " بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، " كَالْمُعَلَّقِ عَلَى الْعِلَّةِ " يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِتَكَرُّرِهَا، وَإِلَّا فَلَا.
قَوْلُهُ: " وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ "، أَيْ: لَيْسَ مِنَ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَصْلُحُ دُخُولُهَا تَحْتَ فَرْضِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ، هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَمْ لَا؟ " وَالْمُقْتَرِنُ بِالشَّرْطِ لَيْسَ مُطْلَقًا " فَالتَّكْرَارُ فِيهِ لِقَرِينَةِ الشَّرْطِ، لَا لِكَوْنِهِ أَمْرًا. وَكَذَلِكَ لَوِ اقْتَرَنَ بِالْأَمْرِ قَرِينَةُ تَكْرَارٍ غَيْرِ الشَّرْطِ، أَوْ قَرِينَةُ مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ; وَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْقَرِينَةِ.
(2/375)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إِذَا تَكَرَّرَ لَفْظُ الْأَمْرِ ; فَيَقْتَضِي التَّكْرَارَ، أَوْ لَا ; فَلَا ; فَغَيْرُ مُؤَثِّرٌ ; لِأَنَّ تَكْرَارَ لَفْظِ الْأَمْرِ، إِنَّمَا يُفِيدُ التَّأْكِيدَ لُغَةً لَا التَّكْرَارَ.
قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ أَنْ فَائِدَةَ التَّأْسِيسِ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ ; فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَوْلُهُ: " لَنَا ": إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ عَدَمِ التَّكْرَارِ وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا دَلَالَةَ لَهَا " إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْفِعْلِ فِي الْوُجُودِ " وَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى كَمِّيَّتِهِ، أَيْ: عَلَى مِقْدَارِهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِ. فَإِذَا قَالَ لَهُ: صَلِّ ; فَإِنَّمَا اقْتَضَى ذَلِكَ إِيقَاعَ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ، لَا عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَلَا مُطْلَقٍ، حَتَّى يَجِبَ لِأَجْلِهِ التَّكْرَارُ. وَحَقِيقَةُ الصَّلَاةِ تَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَيَخْرُجُ بِهَا عَنِ الْعُهْدَةِ ; فَلَا يَجِبُ مَا زَادَ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ الْمُرَادُ بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ لَوِ اقْتَضَى التَّكْرَارَ، لَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: صَلِّ مَرَّةً، تَنَاقُضًا ; لِأَنَّ صَلِّ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَبِقَوْلِهِ: مَرَّةً، قَدْ نَقَضَ مُقْتَضَاهُ فِي التَّكْرَارِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: صَلِّ مِرَارًا، لَكَانَ تَكْرَارًا ; لِأَنَّ صَلِّ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ; فَقَوْلُهُ: " مِرَارًا " ; لَمْ يُفِدْ فَائِدَةً زَائِدَةً ; فَكَانَ تَكْرَارًا، لَكِنَّ قَوْلَهُ: صَلِّ مَرَّةً أَوْ مِرَارًا ; لَيْسَ نَقْضًا وَلَا تَكْرَارًا ; فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ لِلتَّكْرَارِ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّكْرَارِ، وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ نَقِيضُ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّ " النَّهْيَ يَقْتَضِي تَكْرَارَ التَّرْكِ "
(2/376)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِاتِّفَاقٍ ; فَالْأَمْرُ الَّذِي هُوَ نَقِيضُهُ يَجِبُ أَنْ يَقْتَضِيَ تَكْرَارَ الْأَمْرِ.
الثَّانِي: أَنْ " الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ "، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; فَوَجَبَ أَنْ يَقْتَضِيَ الْأَمْرُ تَكْرَارَ تَرْكِ ذَلِكَ الضِّدِّ، وَذَلِكَ بِتَكْرَارِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ. مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ لَهُ: صُمْ ; فَقَدْ نَهَاهُ عَنِ الْفِطْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّوْمِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْفِطْرِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ تَرْكِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَكْرَارِ الصَّوْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
قَوْلُهُ: " وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ "، أَيْ: عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ دَلِيلِهِمْ - وَهُوَ قِيَاسُ الْأَمْرِ عَلَى النَّهْيِ، فِي اقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ - بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ مَاهِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ " بِفِعْلِ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا، فِي زَمَنٍ مَا مِنَ الْأَزْمَانِ "، أَيَّ زَمَنٍ كَانَ، كَمَا إِذَا أَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ، حَصَلَ مُصَلِّيًا بِفِعْلِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي تَرْكَ مَاهِيَّتِهِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ " لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَرْكِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ "، كَمَا إِذَا نَهَاهُ عَنِ الزِّنَى ; فَالْمَقْصُودُ تَرْكُ مَاهِيَّتِهِ، بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَى عَدَمِهَا مَا عَاشَ، حَتَّى لَوْ عُمِّرَ أَلْفَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ وَزَنَى فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ عُمُرِهِ لَعُدَّ مُخَالِفًا عَاصِيًا. وَإِذَا كَانَ مُقْتَضَى النَّهْيِ إِعْدَامَ الْمَاهِيَّةِ مُطْلَقًا ; وَمُقْتَضَى الْأَمْرِ إِيجَادَهَا مُطْلَقًا، وَهُوَ يَحْصُلُ بِفِعْلِهَا مَرَّةً، لَمْ يَلْزَمْ مِنِ اقْتِضَاءِ النَّهْيِ التَّكْرَارَ، اقْتِضَاءُ الْأَمْرِ لَهُ ; فَافْتَرَقَا.
وَأُجِيبَ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ تَرْكِ الضِّدِّ بِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ تَكْرَارِ تَرْكِ الضِّدِّ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ لِكَوْنِنَا قَدْ قُلْنَا بِهِ فِيمَا بَعْدُ، لَكِنْ " لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ " ; فِعْلُ الضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَضْدَادٌ فَيَتَلَبَّسُ بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْهَا "، مِثَالُهُ: أَنَّ الْقِيَامَ
(2/377)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالْقُعُودَ وَالِاضْطِجَاعَ ; أَضْدَادٌ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهَا، فَإِذَا أُمِرَ بِالْقِيَامِ ; فَالْقُعُودُ ضِدٌّ لَهُ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ ضَرُورَةً، صَحَّ إِتْيَانُهُ بِالْقِيَامِ. فَإِذَا تَرَكَ الْقُعُودَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَتَلَبَّسَ بِالْقِيَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَسْجُدَ أَوْ يَرْكَعَ أَوْ يَضْطَجِعَ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُنَا: " فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ "، وَهُوَ الْقُعُودُ هَاهُنَا، " فِعْلُ الضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ " وَهُوَ الْقِيَامُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُهُمْ قَوْلُهُمْ: " الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ; فَيَقْتَضِي تَكْرَارُ تَرْكِ الضِّدِّ " ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ لَوْ كَانَ تَكْرَارُ تَرْكِ الضِّدِّ، وَهُوَ الْقُعُودُ مَثَلًا، يَسْتَلْزِمُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ الْقِيَامُ، لِيَكُونَ فِعْلُهُ مُتَكَرِّرًا. لَكِنْ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ لِجَوَازِ التَّلَبُّسِ بِالْوَاسِطَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ: " وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ لَا يَتَمَشَّى "، هَذَا تَضْعِيفٌ لِهَذَا الْجَوَابِ الثَّانِي عَلَى تَقْرِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَهُوَ هَذَا الَّذِي قَدْ أَطَلْنَا فِيهِ آنِفًا. وَبَيَانُ ضَعْفِهِ أَنَّ قَوْلَنَا: " لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الضِّدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِعْلُ الضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ " ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَضْدَادِهِ بِحَيْثُ إِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ يَكُونُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَاحِدًا مِنْهَا، وَتَبْقَى بَقِيَّةُ أَضْدَادِهِ يَجُوزُ التَّلَبُّسُ بِهَا فَتَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَ الضِّدَّيْنِ ; الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا قَرَّرْنَا. لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الصَّحِيحُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ كَالْأَمْرِ بِالْقِيَامِ نَهْيٌ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ جَمِيعًا.
وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ هَذِهِ الْأَضْدَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، التَّلَبُّسُ بِالضِّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ ; فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَكْرَارُ فِعْلِهِ بِوَاسِطَةِ وُجُوبِ تَكْرَارِ تَرْكِ أَضْدَادِهِ، وَحِينَئِذٍ يَسْلَمُ لَهُمْ دَلِيلُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ تَرْكِ الضِّدِّ "، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَكْرَارُ الْمَأْمُورِ بِهِ.
قُلْتُ: فَيُشْبِهُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ ذَوَاتِ الْجِهَتَيْنِ كَمَا سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ الْكَعْبِيِّ
(2/378)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ لِذَاتِهِ بِوَضْعِهِ لَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا، وَبِاسْتِلْزَامِ تَكْرَارِ تَرْكِ أَضْدَادِهِ تَكْرَارُهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ; فَهُوَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَعَدَمَهُ، بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ. فَإِنْ صَحَّ لَنَا هَذَا رَجَعَ النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيًا، إِذْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى أَنَّ قَوْمًا قَالُوا: الْأَمْرُ بِوَضْعِهِ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ. وَآخَرِينَ قَالُوا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ بِالِالْتِزَامِ كَمَا تَقَرَّرَ.
(2/379)
________________________________________
الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَمْرٍ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا الصِّيغَةُ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ.
لَنَا: الْآمِرُ بِالسُّكُونِ نَاهٍ عَنِ الْحَرَكَةِ، وَبِالْعَكْسِ ضَرُورَةٌ.
قَالُوا: قَدْ يَأْمُرُ بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ أَوْ يَنْهَى عَنْهُ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ ضِدِّهِ، وَالْأَمْرُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ ضَرُورِيٌّ، لَا اقْتِضَائِيٌّ طَلَبِيٌّ، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ تَرْكُ الْحَرَكَةِ بِدُونِ السُّكُونِ، لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ.
قُلْنَا: فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الرَّابِعَةُ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا الصِّيغَةُ "، أَيْ مِنْ جِهَةِ الِالْتِزَامِ عَقْلًا " خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ "، هَذَا نَقْلُ " الْمُخْتَصَرِ " - وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ هَلْ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ أَوْ بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ، وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْهِ.
قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: لَيْسَ الْأَمْرُ بِعَيْنِهِ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَهَلْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْهَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى؟ مَنَعَهُ قُدَمَاؤُهُمْ، وَأَثْبَتَهُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ، كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الْإِيجَابِ، دُونَ النَّدْبِ.
وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ: أَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ ; لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَإِلَّا كَانَ نَهْيًا عَنْهَا مُطْلَقًا، فِي أَمْرِ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ، بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ.
قُلْتُ: وَهُوَ تَحْقِيقٌ جَيِّدٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ مِنْ حَيْثُ
(2/380)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَعْنَى، لَا الصِّيغَةُ، أَوْ نَهْيٌ عَنْهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِلْزَامِ لَا بِعَيْنِهِ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ الْتِزَامِيٌّ، لَا لَفْظِيٌّ، كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: قُمْ، غَيْرُ قَوْلِهِ: لَا تَقْعُدْ، وَقَوْلُهُ: تَحَرَّكْ، غَيْرُ قَوْلِهِ: لَا تَسْكُنْ، لَفْظًا وَمَعْنًى، وَلَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ قِيَامِهِ أَنْ لَا يَقْعُدَ، وَمِنْ حَرَكَتِهِ أَنْ لَا يَسْكُنَ، لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ.
وَمَنْ يَقُولُ: هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَحَدِ أَضْدَادِهِ بِعَيْنِهِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الصِّيغَةُ، يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: قُمْ، يُسْتَفَادُ مِنْهُ اسْتِفَادَةُ لَفْظِيَّةِ عَدَمِ الْقُعُودِ، لَا اسْتِفَادَةٌ الْتِزَامِيَّةٌ، أَيْ أَنَّ طَلَبَ عَدَمِ الْقِيَامِ بِعَيْنِهِ هُوَ طَلَبُ الْقُعُودِ، وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ يَرْجِعُ هَؤُلَاءِ إِلَى الْأَوَّلِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: فِعْلُ الضِّدِّ هُوَ عَيْنُ تَرْكِ ضِدِّهِ الْآخَرِ ; فَالسُّكُونُ عَيْنُ تَرْكِ الْحَرَكَةِ، وَالْبُعْدُ مِنَ الْمَغْرِبِ هُوَ الْقُرْبُ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ مَعْنَيَانِ إِضَافِيَّانِ، وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ مَعْنَيَانِ حَقِيقِيَّانِ ; فَلَا يَصِحُّ التَّنْظِيرُ وَالْقِيَاسُ.
عُدْنَا إِلَى تَوْجِيهِ كَلَامِ " الْمُخْتَصَرِ ".
قَوْلُهُ: " لَنَا ": أَيْ: عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ: أَنَّ " الْآمِرَ بِالسُّكُونِ نَاهٍ عَنِ الْحَرَكَةِ. وَبِالْعَكْسِ، أَيْ: وَالْآمِرُ بِالْحَرَكَةِ نَاهٍ عَنِ السُّكُونِ " ضَرُورَةَ " أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ وَنَحْوَهُمَا مِنَ الْأَضْدَادِ لَا يَجْتَمِعَانِ ; فَالْأَمْرُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْآخَرِ، كَمَا أَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْآخَرِ، كَمَا تَسْتَلْزِمُ الْحَرَكَةُ تَرْكَ السُّكُونِ، وَالسُّكُونُ تَرْكَ الْحَرَكَةِ. وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، إِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ، ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ فِعْلِهِ عَلَى تَرْكِ
(2/381)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَمِيعِهَا، كَمَا قُلْنَا فِي الْقِيَامِ مَعَ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْقُعُودِ، وَالِاضْطِجَاعِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْأَمْرِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، مَعَ أَضْدَادِهِ الْبَاقِيَةِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، كَالْحَرَكَةِ مَعَ السُّكُونِ ; فَالْأَمْرُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ عَيْنِ ذَلِكَ الضِّدِّ. أَمَّا النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ ; فَإِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِضِدٍّ وَاحِدٍ مِنْ أَضْدَادِهِ، إِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ، لِاسْتِحَالَةِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، بِدُونِ التَّلَبُّسِ بِمَا يُنَافِيهِ، لِيَشْتَغِلَ بِهِ عَنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ التَّلَبُّسُ ضَرُورِيٌّ، يَنْدَفِعُ بِفِعْلِ ضِدٍّ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ إِيجَادَ بَقِيَّةِ الْأَضْدَادِ، كَمَا فِي الْأَمْرِ ; فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ، إِنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ أَوْ أَضْدَادٌ، تَعَيَّنَ النَّهْيُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ إِنْ كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ، تَعَيَّنَ الْأَمْرُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ ; فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْهَا وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ، ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَلَى فِعْلِ الضِّدِّ، الْمُعَيَّنِ أَوِ الْمُبْهَمِ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا "، يَعْنِي الْمَانِعِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ: " قَدْ يَأْمُرُ بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ " مَنْ يَغْفُلُ عَنِ الْآخَرِ، وَيَنْهَى عَنْ أَحَدِهِمَا مَنْ يَغْفُلُ عَنِ الْآخَرِ ; فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا نَهْيًا عَنِ الْآخَرِ، أَوِ النَّهْيُ عَنْ أَحَدِهِمَا أَمْرًا بِالْآخَرِ، لَمَا صَحَّتِ الْغَفْلَةُ عَنْ أَحَدِهِمَا، إِذِ الْأَمْرُ بِهِ، أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ لَا يُتَصَوَّرُ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَسْتَدْعِيَانِ تَصَوُّرَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، لِيَصِحَّ تَوَجُّهُ الْقَصْدِ إِلَيْهِمَا، لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِهِمَا. قَالُوا: وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ تَوَقُّفِ فِعْلِ
(2/382)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدِ الضِّدَّيْنِ، عَلَى تَرْكِ الْآخَرِ، " هُوَ ضَرُورِيٌّ، لَا اقْتِضَائِيٌّ طَلَبِيٌّ "، أَيْ: هُوَ مِنْ حَيْثُ ضَرُورَةُ التَّوَقُّفِ الْمَذْكُورِ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنِ اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ، وَطَلَبِ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ، يَعْنِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يَطْلُبُ بِقَوْلِهِ: تَحَرَّكْ، تَرْكَ السُّكُونِ، بَلْ تَرْكُ السُّكُونِ وَجَبَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْحَرَكَةَ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ تَرْكُ الْحَرَكَةِ مَثَلًا، بِدُونِ السُّكُونِ، أَوِ التَّحَرُّكِ، بِدُونِ تَرْكِ السُّكُونِ، لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ "، أَيْ: هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا الصِّيغَةُ، أَيْ: أَنَّ تَرْكَ أَضْدَادِهِ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِمُقْتَضَى لَفْظِ الْأَمْرِ، بَلْ لِضَرُورَةِ تَوَقُّفِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ عَلَيْهِ، وَاسْتِحَالَةِ فِعْلِ الشَّيْءِ بِدُونِ تَرْكِ أَضْدَادِهِ.
أَقْسَامُ الْمَعْلُومَاتِ: فَرْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَعْلُومَاتُ كُلُّهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: نَقِيضَانِ: وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَا يَرْتَفِعَانِ، كَوُجُودِ زَيْدٍ وَعَدَمِهِ، وَضِدَّانِ: وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَيُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا، مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْحَقِيقَةِ، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَخِلَافَانِ: وَهُمَا اللَّذَانِ يَجْتَمِعَانِ وَيَرْتَفِعَانِ كَالْحَرَكَةِ وَالْبَيَاضِ. وَمِثْلَانِ: وَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَيُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا مَعَ تَسَاوِي الْحَقِيقَةِ، كَالْبَيْضِ وَالْبَيَاضِ.
قُلْتُ: فَالْجَامِعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالضِّدَّيْنِ، وَالْمِثْلَيْنِ: عَدَمُ إِمْكَانِ
(2/383)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاجْتِمَاعِ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ: جَوَازُ الِارْتِفَاعِ فِيهِمَا، دُونَ النَّقِيضَيْنِ، وَالْفَارِقُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالْمِثْلَيْنِ: اخْتِلَافُ الْحَقِيقَةِ فِي الضِّدَّيْنِ، وَتَسَاوِيهِمَا فِي الْمِثْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخِلَافَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ الْأُخَرِ جَوَازُ الِاجْتِمَاعِ فِيهِمَا دُونَهَا.
وَدَلِيلُ حَصْرِ الْمَعْلُومَاتِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ: أَنَّ الْمَعْلُومَيْنِ إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ اجْتِمَاعُهُمَا أَوْ لَا، فَإِنْ أَمْكَنَ ; فَهُمَا الْخِلَافَانِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اجْتِمَاعُهُمَا ; فَإِمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ ارْتِفَاعُهُمَا، وَهُمَا النَّقِيضَانِ، أَوْ يُمْكِنَ ارْتِفَاعُهُمَا، فَإِنْ كَانَ مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقِيقَةِ ; فَهُمَا الضِّدَّانِ، وَإِلَّا ; فَهُمَا الْمِثْلَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ فِي الضِّدَّيْنِ: إِنَّهُمَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُمَا مُشْكِلٌ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، لَا يَرْتَفِعَانِ عَنِ الْجِسْمِ، وَالْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، وَالْعِلْمُ وَالْجَهْلُ، لَا يَرْتَفِعَانِ عَنِ الْحَيِّ، وَهِيَ مِنْ بَابِ الْأَضْدَادِ.
قُلْنَا: إِمْكَانُ الِارْتِفَاعِ أَعَمُّ مِنْهُ، مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ أَوْ عَدَمِهِ، وَنَحْنُ نُرِيدُ إِمْكَانَ ارْتِفَاعِهِمَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ قَبْلَ وُجُودِ الْعَالَمِ، لَمْ يَكُنْ جِسْمٌ مُتَحَرِّكٌ وَلَا سَاكِنٌ، وَلَا حَيَوَانٌ حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ، وَلَا عَالِمٌ وَلَا جَاهِلٌ ; فَقَدْ صَحَّ ارْتِفَاعُهُمَا لِارْتِفَاعِ مَحَالِّهَا، بِخِلَافِ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَرْتَفِعَا قَبْلَ الْعَالَمِ، بَلْ كَانَ الْعَدَمُ ثَابِتًا.
الْفَرْعُ الثَّانِي: زَعَمَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النِّزَاعَ فِي وُجُوبِ النِّكَاحِ وَعَدِمِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ، قَالَ: لِأَنَّا إِذَا
(2/384)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْنَا بِذَلِكَ ; فَالْمُكَلَّفُ مَنْهِيٌّ عَنِ الزِّنَى ; فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِضِدِّهِ، وَهُوَ النِّكَاحُ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ; فَيَكُونُ النِّكَاحُ وَاجِبًا.
قُلْتُ: وَهَذَا تَخْرِيجٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّحْقِيقَ: أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ ; فَالنَّهْيُ عَنْ أَمْرٍ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ، وَالزِّنَى لَمْ يَنْحَصِرْ ضِدُّهُ فِي النِّكَاحِ، بَلْ لَيْسَ ضِدًّا لَهُ أَصْلًا، إِنَّمَا ضِدُّ الزِّنَى تَرْكُهُ، لَكِنَّ تَرْكَهُ قَدْ يَكُونُ بِالنِّكَاحِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّسَرِّي، وَقَدْ يَكُونُ بِالِاسْتِعْفَافِ مَعَ التَّعَزُّبِ ; فَلَا يَتَعَيَّنُ النِّكَاحُ لِلتَّلَبُّسِ بِهِ، بَلْ يَلْزَمُ قَائِلُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ، الْمَنْهِيُّ عَنِ الزِّنَى، مَأْمُورًا بِالنِّكَاحِ، أَوِ التَّسَرِّي عَلَى التَّخْيِيرِ ; لِأَنَّ تَرْكَ الزِّنَى يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا ; فَيَصِيرُ مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ. فَإِنْ قَالَ بِذَلِكَ، صَحَّ لَهُ التَّخْرِيجُ الْمَذْكُورُ، لَكِنَّ التَّسَرِّيَ لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا قَالَ بِوُجُوبِهِ، تَعْيِينًا وَلَا تَخْيِيرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/385)
________________________________________
الْخَامِسَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْفَوْرُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فِي الْفَوْرِ وَالتَّكْرَارِ وَضِدِّهِمَا، لِلتَّعَارُضِ. لَنَا: {وَسَارِعُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 133] ، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [الْحَدِيدِ: 21] ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَلَوْ أَخَّرَ الْعَبْدُ أَمْرَ سَيِّدِهِ الْمُجَرَّدِ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، وَأَوْلَى الْأَزْمِنَةِ بِالِامْتِثَالِ عَقِيبَ الْأَمْرِ احْتِيَاطًا وَتَحْصِيلًا لَهُ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ إِمَّا لَا إِلَى غَايَةٍ ; فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا لَا إِلَى بَدَلٍ ; فَيُلْحَقُ بِالْمَنْدُوبَاتِ. أَوْ إِلَى بَدَلٍ ; فَهُوَ إِمَّا الْوَصِيَّةُ، وَهِيَ لَا تَصِحُّ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ، لِعَدَمِ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهَا، أَوِ الْعَزْمِ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ لِوُجُوبِهِ قَبْلَ وَقْتِ الْمُبْدَلِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْبَدَلِ حِينَئِذٍ.
أَوْ إِلَى غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ ; فَهُوَ جَهَالَةٌ، أَوْ مَعْلُومَةٌ ; فَتَحَكُّمٌ وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
أَوْ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ إِدْرَاكُهُ ; فَبَاطِلٌ، لِإِتْيَانِ الْمَوْتِ بَغْتَةً.
قَالُوا: الْأَمْرُ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَاهِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ سَوَاءٌ ; فَالتَّخْصِيصُ بِالْفَوْرِ تَحَكُّمٌ، وَتَعَلُّقُ الزَّمَانِ بِالْفِعْلِ ضَرُورِيٌّ، وَالضَّرُورَةُ تُدْفَعُ بِأَيِّ زَمَنٍ كَانَ ; وَلِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ ; فَلَا يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ كَالْمَكَانِ وَالْآلَةِ وَالْمَحَلِّ، وَالْأَدِلَّةُ مُتَقَارِبَةٌ، وَقَوْلُ الْوَاقِفِيَّةِ ضَعِيفٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الْخَامِسَةُ: الْأَمْرُ إِنِ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةُ فَوْرٍ أَوْ تَرَاخٍ ; عُمِلَ بِمُقْتَضَاهَا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا، أَيْ: مُجَرَّدًا عَنْ قَرِينَةٍ ; فَهُوَ
(2/386)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِلْفَوْرِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: " مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْفَوْرُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ " وَمَالِكٍ، " وَهُوَ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ " وَعِنْدَ مَغَارِبَةِ الْمَالِكِيَّةِ. " وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فِي الْفَوْرِ وَالتَّكْرَارِ، وَضِدِّهِمَا "، مَعَ التَّرَاخِي وَالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمَّوْنَ الْوَاقِفِيَّةَ، تَوَقَّفُوا فِي اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ الْفَوْرَ وَالتَّرَاخِيَ، فَلَمْ يَجْزِمُوا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَكَذَلِكَ تَوَقَّفُوا فِي اقْتِضَائِهِ التَّكْرَارَ وَالْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ. وَقَدْ سَبَقَتْ مَسْأَلَةُ التَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: كُلُّ مَنْ حَمَلَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عَلَى التَّكْرَارِ، حَمَلَهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ إِلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا ; فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُبَادِرُ مُمْتَثِلٌ قَطْعًا ; لَكِنْ هَلْ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالتَّوَقُّفُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُؤَخِّرِ ; هَلْ هُوَ مُمْتَثِلٌ أَمْ لَا؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُبَادِرُ أَيْضًا مُتَوَقَّفٌ فِيهِ ; هَلْ هُوَ مُمْتَثِلٌ أَوْ لَا؟ وَخَالَفَ بِذَلِكَ إِجْمَاعَ السَّلَفِ. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ بِفِعْلِهِ مُمْتَثِلٌ ; قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَمَعْنَى الْفَوْرِ: هُوَ الشُّرُوعُ فِي الِامْتِثَالِ عَقِيبَ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَارَتِ الْقِدْرُ، إِذَا غَلَتْ، وَذَهَبْتُ مَكَانَ كَذَا، ثُمَّ أَتَيْتُ فُلَانًا مِنْ فَوْرِي، أَيْ: قَبْلَ أَنْ أَسْكُنَ. وَالتَّرَاخِي تَأْخِيرُ الِامْتِثَالِ عَنِ انْقِضَاءِ الْأَمْرِ، زَمَنًا يُمْكِنُ إِيقَاعُ الْفِعْلِ فِيهِ ; فَصَاعِدًا.
- قَوْلُهُ: الْأَمْرُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ; إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ فِيهِ خِلَافًا عَنْ أَحْمَدَ ; فَإِنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي، مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَهُوَ
(2/387)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَدُلُّ عَلَى الْخِلَافِ فِي هَذَا الْأَصْلِ.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي هَذَا الْأَصْلِ ; اسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْحَجِّ ; فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْقَوَاعِدَ وَالْأُصُولَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وُجِدَ عَنْهُ نَصٌّ، بِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى التَّرَاخِي ; فَذَاكَ.
قَوْلُهُ: " لَنَا: سَارِعُوا، سَابِقُوا "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 133] ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الْحَدِيدِ: 21] .
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالْمُسَارَعَةِ، وَالْمُسَابَقَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ، وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ مُسَارَعَةً إِلَى الْمَغْفِرَةِ، أَيْ: إِلَى سَبَبِهَا، وَهِيَ مَأْمُورٌ بِهَا، " وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ "، كَمَا سَبَقَ ; فَيَكُونُ الْفَوْرُ وَاجِبًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخَّرَ أَمْرَ سَيِّدِهِ الْمُطْلَقِ، زَمَنًا يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ
(2/388)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِيهِ، فَلَمْ يَفْعَلْ ; اسْتَحَقَّ الذَّمَّ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ أَمْكَنَ امْتِثَالُهُ، فِي أَيِّ زَمَنٍ كَانَ بَعْدَ الْأَمْرِ، لَكِنَّ أَوْلَى الْأَزْمِنَةِ بِأَنْ يُمْتَثَلَ الْأَمْرُ فِيهِ، الزَّمَنُ الَّذِي هُوَ عَقِيبُ الْأَمْرِ، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَحْوَطُ، لِاحْتِمَالِ الْعِقَابِ عَلَى التَّأْخِيرِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْفِعْلَ عَقِيبَ الْأَمْرِ، يُعَدُّ بِهِ مُمْتَثِلًا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا أَخَّرَ، كَانَ مُخْتَلَفًا فِي امْتِثَالِهِ، لَكِنْ هَذَانِ الْوَجْهَانِ، إِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُبَادَرَةَ أَوْلَى، لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ، لَكِنْ قَدْ يُوَجَّهُ الْوُجُوبُ، بِأَنَّ فِي الْمُبَادَرَةِ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ ; فَيَكُونُ وَاجِبًا، لِمَا تَقَرَّرَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّأْخِيرَ لَوْ جَازَ، لَكَانَ إِمَّا لَا إِلَى غَايَةٍ، أَوْ إِلَى غَايَةٍ.
وَالْأَوَّلُ: وَهُوَ التَّأْخِيرُ لَا إِلَى غَايَةٍ، مُفَوِّتٌ لِلْمَقْصُودِ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُؤَخِّرَهُ لَا إِلَى بَدَلٍ ; فَيُلْحَقُ بِالْمَنْدُوبَاتِ، أَيْ: يَصِيرُ مَنْدُوبًا، إِذِ الْمَنْدُوبُ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ، وَتَرْكُهُ لَا إِلَى بَدَلٍ، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ، لَا يُؤَخَّرُ إِلَّا إِلَى بَدَلٍ، كَمَا فِي الْمُوَسَّعِ، أَوْ يُؤَخِّرُهُ إِلَى بَدَلٍ ; فَذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا الْوَصِيَّةُ بِفِعْلِهِ، أَوِ الْعَزْمُ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَصِحُّ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، لِعَدَمِ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيهِمَا، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْعَزْمَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنِ الْفِعْلِ ; لِأَنَّهُ يَجِبُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْمُبْدَلِ، كَالْعَزْمِ عَلَى الظُّهْرِ
(2/389)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَبْلَ الزَّوَالِ هُوَ وَاجِبٌ، وَالظُّهْرُ الَّتِي يُقَدَّرُ أَنَّهَا مُبْدَلٌ ; لَا يَصِحُّ فِعْلُهَا قَبْلَ الزَّوَالِ ; فَثَبَتَ أَنَّ الْعَزْمَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنِ الْفِعْلِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ، إِذْ شَأْنُ الْبَدَلِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُبْدَلِ، وَالْعَزْمُ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، إِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عَنِ التَّعْجِيلِ، لَا عَنْ نَفْسِ الْوَاجِبِ كَمَا سَبَقَ، وَإِذَا بَطَلَ تَأْخِيرُ الِامْتِثَالِ إِلَى بَدَلٍ، أَوْ لَا إِلَى بَدَلٍ، بَطَلَ تَأْخِيرُهُ لَا إِلَى غَايَةٍ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ ; فَبَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ تِلْكَ الْغَايَةَ ; إِمَّا مَجْهُولَةٌ، أَوْ مَعْلُومَةٌ، أَوْ مُغَلَّبَةٌ عَلَى الظَّنِّ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ ; فَالْقَوْلُ بِتَأْخِيرِ الِامْتِثَالِ إِلَى غَايَةٍ بَاطِلٌ: أَمَّا التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ ; فَهُوَ جَهَالَةٌ لَا تُنَاطُ بِهَا الْأَحْكَامُ ; لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَضْيِيعِهَا، وَغَرَضُ الشَّرْعِ حِفْظُهَا.
وَأَمَّا التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ ; فَبَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ بَعْضِ الْغَايَاتِ الزَّمَانِيَّةِ، بِالتَّأْخِيرِ إِلَيْهِ، دُونَ بَعْضٍ، تَحَكُّمٌ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، إِذِ الْأَزْمِنَةُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِيقَاعِ الْفِعْلِ مُتَسَاوِيَةٌ، عَدَا الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ عَقِيبُ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ بِقُرْبِهِ مِنْ زَمَنِ الْأَمْرِ ; فَلَوْ قِيلَ لِلْمُكَلَّفِ: صُمْ أَوْ صَلِّ، أَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: سَافِرْ إِلَى بِلَادِي ; فَانْظُرْ فِي مَصَالِحِهَا ; فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ الْآنَ عَلَى الْفَوْرِ، لَكِنِّي أَفْعَلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ لَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْلَى بِالِامْتِثَالِ مِنْ يَوْمِ الْخَمِيسِ أَوِ السَّبْتِ؟ فَإِنْ طَلَبَ الْمُرَجِّحَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: الْمُرَجِّحُ اخْتِيَارِي لِذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَبْدٌ مَأْمُورٌ، لَا اخْتِيَارَ لَكَ.
وَأَمَّا التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ مُغَلَّبَةٍ عَلَى الظَّنِّ، أَيْ: تَأْخِيرُ الْفِعْلِ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ
(2/390)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى ظَنِّهِ إِدْرَاكُهُ ; فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً ; فَلَا يُمْكِنُهُ الْجَزْمُ بِظَنٍّ مِنَ الظُّنُونِ، إِذِ الْمَوْتُ رُبَّمَا أَسْرَعَ إِلَى الشَّابِّ الْجَذَعِ، وَتَأَخَّرَ عَنِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ، وَلَيْسَ لِوَقْتِ مَجِيئِهِ ضَابِطٌ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ جَوَّزْتُمْ تَأْخِيرَ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، مَعَ الْعَزْمِ إِلَى وَقْتٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ الْبَقَاءُ إِلَيْهِ، فَلِمَ لَا يُجَوَّزُ هَاهُنَا كَذَلِكَ؟ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ: بِأَنَّ الْمُوَسَّعَ وَقَعَتْ فِيهِ الْمُسَامَحَةُ الزَّمَانِيَّةُ، مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، بِالتَّوَسُّعِ، بِخِلَافِ هَاهُنَا، فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَلَسْنَا عَلَى يَقِينٍ، وَالظَّنُّ مِنَ الْمُتَسَامَحِ فِيهِ ; فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
- قَوْلُهُ: " قَالُوا: " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالتَّرَاخِي، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ " الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَاهِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِهَا " مِنْ زَمَانٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: صَلِّ، إِنَّمَا يَقْتَضِي إِيقَاعَ حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَوْرٍ وَلَا تَرَاخٍ ; فَوَجَبَ أَنْ يُجَوَّزَا
(2/391)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَمِيعًا، وَإِلَّا كُنَّا قَدْ أَوْجَبْنَا مَا لَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ كَالنَّقْصِ مِنْهُ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَهِيَ حَرَامٌ ; فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ أَيْضًا حَرَامٌ ; فَإِيجَابُ الْفَوْرِ إِذَنْ حَرَامٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ " نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ سَوَاءٌ "، لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، وَلِصِحَّةِ وُقُوعِهِ فِي كُلِّ زَمَنٍ مِنْهَا، وَإِذَا اسْتَوَتْ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِهَا، كَانَ تَخْصِيصُهُ بِالْفَوْرِ تَحَكُّمًا، وَتَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ " تَعَلُّقَ الزَّمَانِ بِالْفِعْلِ "، أَيْ: احْتِيَاجُ الْفِعْلِ إِلَى الزَّمَانِ، " ضَرُورِيٌّ "، أَيْ: لِضَرُورَةِ أَنَّ الْفِعْلَ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ لَا فِي زَمَانٍ، وَإِذَا كَانَ تَعَلُّقُ الزَّمَنِ بِهِ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ ; فَهِيَ تَنْدَفِعُ بِإِيقَاعِهِ فِي أَيِّ زَمَنٍ كَانَ، تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَوْرَ لَا يَتَعَيَّنُ، وَأَنَّ التَّأْخِيرَ جَائِزٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ " الزَّمَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْفِعْلِ "، أَيْ: لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْمَكَانَ، وَالْآلَةَ، وَالْمَحَلَّ مِنْ لَوَازِمِهِ أَيْضًا، ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ مَكَانٍ، أَوْ آلَةٍ، أَوْ مَحَلٍّ، دُونَ غَيْرِهِ ; فَلِذَلِكَ لَا يَقْتَضِي تَعْيِينَ زَمَانٍ دُونَ غَيْرِهِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ لَوْ قَالَ: تَوَضَّأْ، لَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ، بِأَيِّ
(2/392)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَاءٍ طَهُورٍ شَاءَ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِلْوُضُوءِ مَكَانٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا مَاءٌ مِنَ الْمِيَاهِ الطَّهُورِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: اصْنَعْ لِي سَرِيرًا أَوْ بَابًا ; لَمْ يَتَعَيَّنْ لِعَمَلِ الْبَابِ مَكَانٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا قَدُومٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا خَشَبٌ دُونَ خَشَبٍ، وَهُوَ مَحَلُّ الْفِعْلِ ; فَكَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ زَمَانٌ دُونَ غَيْرِهِ.
- قَوْلُهُ: " وَالْأَدِلَّةُ مُتَقَارِبَةٌ "، يَعْنِي أَدِلَّةَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي مِنَ الطَّرَفَيْنِ، مُتَقَارِبَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَلِكُلٍّ مِنْهَا اتِّجَاهٌ، فَإِنْ جَازَ لَنَا نُصْرَةُ الْمَذْهَبِ الظَّاهِرِ - وَهُوَ الْفَوْرُ - أَجَبْنَا عَنْ أَدِلَّةِ أَصْحَابِ التَّرَاخِي.
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَاهِيَّةِ لَا غَيْرَ ; فَبِأَنَّ هَذَا مُطَالَبَةٌ بِدَلِيلِ الْفَوْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِأَدِلَّتِنَا.
وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إِلَى الْأَزْمِنَةِ سَوَاءٌ ; فَالتَّخْصِيصُ بِالْفَوْرِ تَحَكُّمٌ ; فَبِأَنْ نَقُولَ: نِسْبَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْأَزْمِنَةِ سَوَاءٌ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ كَمَا ذَكَرْتُمْ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، إِذْ قَدْ يَتَعَلَّقُ قَصْدُ الشَّرْعِ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، لِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ التَّخْصِيصُ تَحَكُّمًا، كَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ، وَهُوَ جَوَازُ عُقُوبَةِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ عَلَى تَأْخِيرِ الِامْتِثَالِ.
وَأَمَّا عَنِ الثَّالِثِ: وَهُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ الزَّمَانِ بِالْفِعْلِ ضَرُورِيٌّ ; فَبِنَحْوِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ ضَرُورِيٌّ عَقْلًا مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ وُقُوعِهِ، لَا فِي زَمَانٍ. أَمَّا شَرْعًا ; فَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، يَخْتَارُ الشَّرْعُ إِيقَاعَهُ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ
(2/393)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضٍ لِأَجْلِهَا ; فَلَا يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِالْفِعْلِ حِينَئِذٍ ضَرُورِيًّا، بَلِ اخْتِيَارِيًّا.
وَأَمَّا عَنِ الرَّابِعِ ; فَبِالْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ تَعْيِينِ الزَّمَانِ لِلْفِعْلِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِهِ وَإِضَاعَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، بِخِلَافِ عَدَمِ تَعْيِينِ الْمَكَانِ، وَالْآلَةِ، وَالْمَحَلِّ ; فَإِنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَعْيِينِ زَمَانِ الْفِعْلِ ; فَالزَّمَنُ الْأَوَّلُ وَهُوَ زَمَنُ الْفَوْرِ أَوْلَى بِالتَّعْيِينِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَخَّرَ امْتِثَالَ أَمْرِ سَيِّدِهِ عَنْ زَمَنِ فَوْرِهِ، جَازَ لَهُ عُقُوبَتُهُ، وَلَوْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْأَمْرِ ; لَمْ يَجُزْ لَهُ عُقُوبَتُهُ ; فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.
- قَوْلُهُ: " وَقَوْلُ الْوَاقِفِيَّةِ ضَعِيفٌ "، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُجَّتَهُمْ أَنَّ أَدِلَّةَ الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي تَعَارَضَتْ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ; فَوَجَبَ الْوَقْفُ عَلَى الْمُرَجِّحِ.
وَبَيَانُ ضَعْفِهَا: أَنَّهُ لَيْسَ مُطْلَقُ التَّعَارُضِ يُبِيحُ الْوَقْفَ، بَلِ التَّعَارُضُ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ الصَّحِيحِ، لَا التَّعَارُضُ فِي بَادِي الرَّأْيِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ طَرَفَ الْفَوْرِ رَاجِحٌ ; فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. فَلَا يَتَّسِعُ لَهُمْ أَنْ يَقِفُوا عَنْ مُتَابَعَةِ مَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ، لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الرُّجْحَانُ ; فَتَوَقَّفْنَا.
(2/394)
________________________________________
السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَا يَفْتَقِرُ قَضَاؤُهُ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ، خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ وَالْأَكْثَرِينَ.
لَنَا: اسْتِصْحَابُ حَالِ شَغْلِ الذِّمَّةِ إِلَّا بِامْتِثَالٍ أَوْ إِبْرَاءٍ.
قَالُوا: الْمُوَقَّتُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ ; فَالْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ أَمْرًا بِالْآخَرِ.
قُلْنَا: بَلْ مُقْتَضَى الْمُوَقَّتِ الْإِتْيَانُ بِالْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ، بَقِيَ وُجُوبُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ: «السَّادِسَةُ: الْوَاجِبُ الْمُوَقَّتُ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ، وَلَا يَفْتَقِرُ قَضَاؤُهُ إِلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ» ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، «خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ، وَالْأَكْثَرِينَ» ، مِنْهُمْ مَالِكٌ، وَالْأَشْعَرِيَّةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ، عِنْدَ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: مَا إِذَا أَمَرَ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ لَهَا، فَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ; فَهَلْ تَسْقُطُ بِذَلِكَ صَلَاةُ الْفَجْرِ، وَيَتَوَقَّفُ وُجُوبُ قَضَائِهَا عَلَى أَمْرٍ جَدِيدٍ؟
أَوْ لَا تَسْقُطُ، وَيَجِبُ قَضَاؤُهَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، الَّذِي وَجَبَتْ بِهِ صَلَاةُ الْفَجْرِ فِي وَقْتِهَا؟
أَوْ يَجِبُ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ، كَمَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ؟
يُرِيدُ بِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا عُهِدَ مِنْهُ إِيثَارُ اسْتِدْرَاكِ عُمُومِ الْمَصَالِحِ الْفَائِتَةِ، عَلِمْنَا مِنْ عَادَتِهِ بِذَلِكَ، أَنَّهُ يُؤْثِرُ اسْتِدْرَاكَ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، بِقَضَائِهِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي ; فَكَانَ هَذَا ضَرْبًا مِنَ الْقِيَاسِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: اسْتِصْحَابُ حَالِ شَغْلِ الذِّمَّةِ، إِلَّا بِامْتِثَالٍ، أَوْ إِبْرَاءٍ» . هَذَا
(2/395)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دَلِيلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَسْقُطُ بِتَرْكِهِ فِي وَقْتِهِ، وَأَنَّ قَضَاءَهُ بَعْدَهُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الذِّمَّةَ إِذَا اشْتَغَلَتْ بِوَاجِبٍ لِلشَّرْعِ، أَوْ لِآدَمِيٍّ، لَمْ تَبْرَأْ مِنْهُ إِلَّا بِالِامْتِثَالِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ، أَوْ إِبْرَاءٌ مِنَ الْمُسْتَحِقِّ لِلْوَاجِبِ، بِأَنْ يَقُولَ الشَّرْعُ: نَسَخْتُ عَنْكَ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، أَوِ الْآدَمِيُّ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ هَذَا الدَّيْنِ، وَإِذَا كَانَتِ الذِّمَّةُ مَشْغُولَةً بِالْوَاجِبِ، مَا لَمْ يُوجَدْ أَدَاءٌ لَهُ، أَوْ إِبْرَاءٌ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ ; فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ بِالْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ فِي وَقْتِهِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ فِيهِ عَلَى مَا كَانَ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَدَاءٌ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ إِبْرَاءٌ ; فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِبَقَاءِ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ ; فَتَكُونُ بَرَاءَتُهَا مِنْهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْأَدَاءِ، أَوِ الْإِبْرَاءِ، لَكِنَّ الْإِبْرَاءَ صَارَ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَنِ الْوَحْيِ مُمْتَنِعًا ; فَتَعَيَّنَ الْأَدَاءُ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، لَكِنَّ وَقْتَ الْأَدَاءِ اصْطِلَاحًا قَدْ فَاتَ بِالتَّأْخِيرِ ; فَتَعَيَّنَ الْقَضَاءُ فِيمَا بَعْدَهُ، لِإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْمُؤَقَّتُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ ; فَالْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا لَيْسَ أَمْرًا بِالْآخَرِ» .
هَذَا حُجَّةُ الْخَصْمِ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ مَثَلًا: صَلِّ فِي هَذَا الْوَقْتِ، أَمْرٌ مُقَيَّدٌ بِزَمَانٍ. وَقَوْلُهُ: اقْضِ هَذَا الْفَائِتَ، أَمْرٌ مُطْلَقٌ، لَا تَقْيِيدَ فِيهِ، وَالْمُقَيَّدُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ ; فَالْأَمْرُ بِأَحَدِهِمَا، أَيْ: بِالْمُقَيَّدِ، لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْآخَرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِالْوَقْتِ، كَتَخْصِيصِ الْفِعْلِ بِمَكَانٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ جِهَةٍ ; فَتَخْصِيصُ الْعِبَادَةِ بِوَقْتِ الزَّوَالِ، وَشَهْرِ رَمَضَانَ، كَتَخْصِيصِ الْحَجِّ بِمَكَّةَ، وَالزَّكَاةِ بِالْمَسَاكِينِ،
(2/396)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْقَتْلِ بِالْكُفَّارِ، وَالصَّلَاةِ بِالْقِبْلَةِ. ثُمَّ إِنَّ مَا عُلِّقَ بِمَكَانٍ، أَوْ شَخْصٍ، أَوْ جِهَةٍ، لَا يَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ ; فَلَا يَجُوزُ الْحَجُّ فِي غَيْرِ مَكَّةَ، وَلَا صَرْفُ الزَّكَاةِ إِلَى غَيْرِ أَصْنَافِهَا الْمَذْكُورَةِ، وَلَا قَتْلُ غَيْرِ مَنْ خُصَّ الْقَتْلُ بِهِ، مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْعُصَاةِ، وَلَا الصَّلَاةُ إِلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ حَالَ الِاخْتِيَارِ ; فَكَذَلِكَ مَا عُلِّقَ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، لَا يُعَلَّقُ بِغَيْرِهِ، إِلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا جَوَابُ دَلِيلِ الْخَصْمِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُؤَقَّتَ غَيْرُ الْمُطْلَقِ، بَلِ الْمُطْلَقُ جُزْءُ الْمُؤَقَّتِ، عَلَى مَا قَرَّرْتُمُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ، اقْتَضَى الْإِتْيَانَ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْوَاجِبُ، وَهُوَ صَلَاةُ الْفَجْرِ مَثَلًا.
وَالثَّانِي: إِيقَاعُ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ الْمُعَيَّنُ، بِالتَّأْخِيرِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ اقْتَضَاهُمَا الْأَمْرُ بَقِيَ وُجُوبُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْآخَرُ ; فَيَأْتِي بِهِ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ، لِاسْتِحَالَةِ إِيقَاعِهِ فِي غَيْرِ زَمَانٍ، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ إِيقَاعُهُ لَا فِي زَمَانٍ، لَمَا أَوْجَبْنَا إِلَّا حَقِيقَةَ الْفِعْلِ مُجَرَّدَةً ; لِأَنَّهَا الْبَاقِي فِي الذِّمَّةِ مِنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ، وَصَارَ هَذَا تَخْصِيصًا ضَرُورِيًّا ; فَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ الْعَامَّ إِذَا خُصَّ مِنْهُ صُورَةٌ بِدَلِيلٍ، وَجَبَ امْتِثَالُهُ فِيمَا عَدَا مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(2/397)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَمَا لَوْ أُمِرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمَيْنِ ; فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا، أَوْ يُعْتِقَ عَبْدَيْنِ ; فَمَاتَ أَحَدُهُمَا ; لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ، وَيُعْتِقَ الْبَاقِيَ، بِمُوجِبِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ تَعَلُّقَ الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ، عَلَى تَعَلُّقِهِ بِالْمَكَانِ، وَالشَّخْصِ، وَالْجِهَةِ ; فَغَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّمَانَ حَقِيقَةٌ سَيَّالَةٌ، غَيْرُ قَارَّةٍ ; فَالْمُتَأَخِّرُ مِنْهُ تَابِعٌ لِلْمُتَقَدِّمِ ; فَمَا ثَبَتَ فِيهِ، ثَبَتَ فِيمَا بَعْدَهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ ; بِخِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، وَالْأَشْخَاصِ، وَالْجِهَاتِ ; فَإِنَّهَا حَقَائِقُ قَارَّةٌ، لَيْسَ بَعْضُهَا تَابِعًا لِبَعْضٍ، حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِبَعْضِهَا مَا تَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ.
قُلْتُ: فَتَلْخِيصُ مَأْخَذِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّنَا نَحْنُ نَقُولُ: الْوَاجِبُ الْوَاقِعُ فِي زَمَنِ الْقَضَاءِ، هُوَ جُزْءُ الْوَاجِبِ فِي زَمَنِ الْأَدَاءِ، وَالْخَصْمُ يَقُولُ: هُوَ غَيْرُهُ. وَقَدْ بَانَ تَقْرِيرُ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/398)
________________________________________
السَّابِعَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِذَا أَتَى بِجَمِيعِ مُصَحِّحَاتِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
لَنَا: لَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ، لَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ عَبَثًا، وَلِأَنَّ الذِّمَّةَ اشْتَغَلَتْ بَعْدَ بَرَاءَتِهَا مِنْهُ ; فَالْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَتِهِ بِفِعْلِهِ كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ.
قَالُوا: يَجِبُ إِتْمَامُ الْحَجِّ الْفَاسِدِ، وَلَا يُجْزِئُ. وَظَانُّ الطَّهَارَةِ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ وَلَا تُجْزِئُهُ، وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ; فَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَمْنَعُ إِيجَابَ مِثْلِهِ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ لِفَوَاتِ بَعْضِ الْمُصَحِّحَاتِ، وَلَسْنَا فِيهِ، وَالْقَضَاءُ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ مَمْنُوعٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ: حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ; إِذَا أَتَى بِجَمِيعِ مُصَحِّحَاتِهِ» مِنْ رُكْنٍ وَشَرْطٍ، «خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ» مِنْهُمُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَتْبَاعُهُ.
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ فِعْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ، بِجَمِيعِ مُصَحِّحَاتِهَا، هَلْ يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِجْزَاءِ، بِحَيْثُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا فِيمَا بَعْدُ؟
قَوْلُهُ: «لَنَا: لَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ، لَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ عَبَثًا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِالْإِجْزَاءِ.
وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَوْ لَمْ يَقَعْ مُجْزِئًا ; لَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ عَبَثًا، وَالْعَبَثُ عَلَى الشَّرْعِ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وُقُوعُهُ مُجْزِئًا ; لَكَانَ وَجُوُدُهُ كَعَدَمِهِ، وَمَا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَلَوْ لَمْ يَقَعْ مُجْزِئًا، لَكَانَ لَا
(2/399)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَائِدَةَ فِيهِ، وَالْأَمْرُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ عَبَثٌ ; فَالْمَأْمُورُ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عَبَثًا، لَكِنَّهُ مُحَالٌ مِنَ الشَّرْعِ، لِمَا سَبَقَ وَعُرِفَ ; فَثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمَأْمُورِ بِهِ بِشُرُوطِهِ، مُجْزِئًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الذِّمَّةَ كَانَتْ بَرِيئَةً مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ التَّكْلِيفِ، بِحَقِّ الْأَصْلِ، فَلَمَّا اشْتَغَلَتْ بِهِ بَعْدَ بَرَاءَتِهَا مِنْهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ، وَعَوْدُهَا بَرِيئَةً كَمَا كَانَتْ ; هُوَ فِعْلُهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ لِعِلَّةٍ، زَالَ بِزَوَالِهَا، كَمَا أَنَّ الطَّرِيقَ إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ دَيْنِ الْآدَمِيِّ هُوَ أَدَاؤُهُ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِجْزَاءِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَلَمْ يُذْكَرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ ; فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْخَثْعَمِيَّةِ حِينَ سَأَلَتْهُ: هَلْ يُجْزِئُ أَبَاهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِجْزَاءَ
(2/400)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَانَ مُقَرَّرًا عِنْدَهُمْ فِي الشَّرْعِ، حَتَّى جَعَلَهُ نَظِيرًا لِمَا سَأَلَتْ عَنْهُ، تَقْرِيبًا إِلَى فَهْمِهَا، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ يَجِبُ قَضَاؤُهُ، كَمَا يَجِبُ قَضَاءُ دَيْنِ الْآدَمِيِّ ; فَيَلْزَمُ فِيهِ مِنَ الْإِجْزَاءِ مَا لَزِمَ فِي دَيْنِ الْآدَمِيِّ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: يَجِبُ إِتْمَامُ الْحَجِّ الْفَاسِدِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَجَّ الْفَاسِدَ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِهِ، وَلَا يَقَعُ مُجْزِئًا، وَالْمُحْدِثُ يَظُنُّ
(2/401)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطَّهَارَةَ، وَإِذَا صَلَّى لَا يُجْزِئُهُ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ لَا يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ لُزُومًا، بَلْ جَوَازًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِجْزَاءَ مُفَسَّرٌ بِسُقُوطِ الْقَضَاءِ ; لَكِنَّ الْقَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، وَإِذَا كَانَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ; فَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَمْنَعُ إِيجَابَ مِثْلِهِ بَعْدَ وَقْتِهِ.
مَثَلًا الْأَمْرُ بِرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لَا يَمْنَعُ الْأَمْرَ بِرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ.
- قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ» ، يَعْنِي عَمَّا ذَكَرُوهُ، بِأَنَّ «عَدَمَ الْإِجْزَاءِ فِي الصُّورَتَيْنِ» وَهُمَا إِتْمَامُ الْحَجِّ الْفَاسِدِ، وَصَلَاةُ الْمُحْدِثِ يَظُنُّ الطَّهَارَةَ، إِنَّمَا كَانَ لِفَوَاتِ بَعْضِ الْمُصَحِّحَاتِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْوَطْءِ فِي الْحَجِّ، وَالطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ بِجَمِيعِ مُصَحِّحَاتِهِ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى الصُّورَتَيْنِ، عِنْدَ ذِكْرِ الْقَضَاءِ وَالْإِجْزَاءِ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ، بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا.
وَأَمَّا كَوْنُ الْقَضَاءِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ ; فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ ; فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِي الْمَقْضِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/402)
________________________________________
الثَّامِنَةُ: الْأَمْرُ لِجَمَاعَةٍ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَّا لِدَلِيلٍ، أَوْ يَكُونُ الْخِطَابُ بِلَفْظٍ لَا يَعُمُّ، نَحْوَ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 104] ; فَيَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَهُوَ مَا مَقْصُودُ الشَّرْعِ فِعْلُهُ، لِتَضَمُّنِهِ مَصْلَحَةً، لَا تَعَبُّدُ أَعْيَانِ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَالْجِهَادِ، لَا الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَاسْتِبْعَادُهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ، وَتَكْلِيفُ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَا يُعْقَلُ بِخِلَافِ التَّكْلِيفِ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} إِيجَابٌ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
قُلْنَا: بَلْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُنْتَدَبِ الْمُسْقِطِ لَهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْأَمْرُ لِجَمَاعَةٍ يَقْتَضِي وُجُوبَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَوَجِّهَ إِلَى جَمَاعَةٍ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي تَعْمِيمَهُمْ بِهِ، أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي تَعْمِيمَهُمْ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110] ; فَإِمَّا أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْخِطَابِ بِبَعْضِهِمْ، أَوْ يَعْتَرِضَ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى الْعُمُومِ دَلِيلٌ، اقْتَضَى وُجُوبَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الْوَاوَ فِي افْعَلُوا كَالْوَاوِ فِي الزَّيْدُونَ وَكِلَاهُمَا لِلْجَمْعِ، ثُمَّ الْوَاوُ فِي الزَّيْدُونَ تَدُلُّ عَلَى أَشْخَاصٍ مُتَعَدِّدَةٍ، نَحْوَ: زَيْدٍ وَزَيْدٍ وَزَيْدٍ ; فَكَذَلِكَ الْوَاوُ فِي افْعَلُوا تَدُلُّ عَلَى عِدَّةِ مُخَاطَبِينَ ; فَهِيَ فِي قُوَّةِ قَوْلِهِ: افْعَلْ أَنْتَ وَأَنْتَ وَأَنْتَ، كَذَلِكَ، حَتَّى يَسْتَغْرِقَ الْمُخَاطَبِينَ.
(2/403)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَى الْعُمُومِ دَلِيلٌ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِبَعْضِهِمْ ; فَالْبَعْضُ إِمَّا مُعَيَّنٌ، أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.
فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا ; فَذَلِكَ هُوَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، سَوَاءٌ كَانَ التَّعْيِينُ بِاسْمٍ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الْحِجْرِ: 58، 59] ، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، أَوْ بِصِفَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزُّخْرُفِ: 67] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الصَّافَّاتِ: 135] .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَوْ كَانَ الْخِطَابُ بِلَفْظٍ لَا يَعُمُّ الْجَمِيعَ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَصْلِ التَّقْسِيمِ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آلِ عِمْرَانَ: 104] ; فَهَذَا هُوَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، أَيْ: فَرْضُ الْكِفَايَةِ، «مَا مَقْصُودُ الشَّرْعِ فِعْلُهُ، لِتَضَمُّنِهِ مَصْلَحَةً، لَا تَعَبُّدُ أَعْيَانِ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَالْجِهَادِ، لَا الْجُمُعَةِ، وَالْحَجِّ» ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ وَالْجِهَادِ مَقْصُودُ الشَّرْعِ فِعْلُهُمَا، لِمَا تَضَمَّنَاهُ مِنْ مَصْلَحَةِ الشَّفَاعَةِ لِلْمَيِّتِ، وَحِمَايَةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنِ اسْتِبَاحَةِ الْعَدُوِّ لَهَا، وَلَمْ يُرِدْ بِهَا تَعَبُّدَ أَعْيَانِ الْمُكَلَّفِينَ، بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا تَعَبُّدُ أَعْيَانِ الْمُكَلَّفِينَ، مِمَّنْ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ وُجُوبِهِمَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعَبُّدَ وَالْمَصْلَحَةَ مُشْتَرِكَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالْعَيْنِ، أَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ يَتَضَمَّنُ مَصْلَحَةً ; فَالْجِهَادُ عِبَادَةٌ، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِهِ، وَطَاعَتُهُ فِيهِ وَاجِبَةٌ، وَالِانْقِيَادُ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ فِيهِ لَازِمٌ، وَمَصْلَحَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَالْمَصْلَحَةُ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، هُوَ طَاعَةُ اللَّهِ بِفِعْلِهَا، تَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا لِلْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْفَوَائِدِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَالتَّعَبُّدُ فِيهِ ظَاهِرٌ، وَإِذَا كَانَ التَّعَبُّدُ وَالْمَصْلَحَةُ مَوْجُودَيْنِ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالْعَيْنِ ; فَالْفَرْقُ
(2/404)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا، وَفِي فَرْضِ الْعَيْنِ تَعَبُّدُ الْأَعْيَانِ بِفِعْلِهِ.
وَيُمْكِنُ تَقْرِيرُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْحُقُوقَ ; إِمَّا خَالِصٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَالتَّوْحِيدِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ. أَوْ خَالِصٌ لِلْآدَمِيِّ، كَالتَّمَلُّكَاتِ بِالْعُقُودِ، وَالتَّشَفِّي بِالْقِصَاصِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. أَوْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، بِمَعْنَى: أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ طَاعَةً خَالِصَةً، وَلِلْعَبْدِ فِيهِ مَصْلَحَةً عَامَّةً.
فَالْأَوَّلُ - وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - هُوَ فَرْضُ الْعَيْنِ، وَالثَّالِثُ - وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ - هُوَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، كَتَجْهِيزِ الْمَوْتَى، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَدَفْنِهِمْ، أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وَلَهُمْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ. وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ، وَوِلَايَةُ الْقَضَاءِ، وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، الْمَأْمُورِ بِهَا شَرْعًا.
وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ صَلَاةُ الْعِيدِ، وَنَحْوُهَا، عِنْدَ مَنْ يَرَاهَا فَرْضَ كِفَايَةٍ، فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِهَا أَظْهَرُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِينَ الْعَامَّةِ. وَأَشَارَ الْقَرَافِيُّ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ فَرْضَ الْعَيْنِ مَا تَكَرَّرَتْ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ، كَالصَّلَاةِ الْخَمْسِ، وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ: مَا لَا يَتَكَرَّرُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِهِ، كَإِنْقَاذِ الْغَرِيقِ، وَنَحْوِهِ.
وَالْفَرْقُ الْعَامُّ بَيْنَ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالْعَيْنِ: هُوَ أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ مَا وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَسَقَطَ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَفَرْضُ الْعَيْنِ مَا وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَهُوَ فَرْقٌ حُكْمِيٌّ.
- قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي فَرْضَ الْكِفَايَةِ «وَاجِبٌ عَلَى الْجَمِيعِ» ، أَيْ: عَلَى جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ، «وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ» ، أَيْ: بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ.
هَذَا بَيَانُ حُكْمِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَذَلِكَ كَالْجِهَادِ مَثَلًا ; وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ
(2/405)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُكَلَّفِينَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الْحَجِّ: 78] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التَّوْبَةِ: 123] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى سُقُوطِهِ عَنْ جَمِيعِهِمْ، بِفِعْلِ مَنْ يَقُومُ بِطَرْدِ الْعَدُوِّ وَكَفِّ شَرِّهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْخِرَقِيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى، حَيْثُ قَالَ: وَالْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ قَوْمٌ، سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا فَرْضَ كِفَايَةٍ، لِاكْتِفَاءِ الْجَمِيعِ بِالْبَعْضِ فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ.
- قَوْلُهُ: «وَاسْتِبْعَادُهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ» . هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ مِنْ جِهَةِ الْمَانِعِينَ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْجَمِيعِ، يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ عَلَى الْجَمِيعِ لِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ إِلَيْهِمْ كَمَا سَبَقَ. وَحِينَئِذٍ سُقُوطُهُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ بَعِيدٌ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ ضِدُّ الْحَرَامِ، كَمَا سَبَقَ فِي تَعْرِيفِهِ، ثُمَّ الْحَرَامُ لَا يَخْرُجُ الْجَمِيعُ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِهِ ; بِتَرْكِ الْبَعْضِ لَهُ، كَذَلِكَ الْوَاجِبُ لَا يَخْرُجُ الْجَمِيعُ عَنْ عُهْدَةِ فِعْلِهِ ; بِفِعْلِ الْبَعْضِ لَهُ.
وَالْجَوَابُ بِمَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّ سُقُوطَ الْوَاجِبِ عَنِ الْجَمِيعِ، بِفِعْلِ الْبَعْضِ لَيْسَ مُحَالًا لِذَاتِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَالًا ; فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَبْعَدًا كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ، لَكِنَّ اسْتِبْعَادَهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ إِذَا قَامَ دَلِيلُهُ، إِذْ قَدْ وَقَعَ فِي الْوُجُودِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْتَبْعَدَاتِ، وَالنَّوَادِرِ، وَالْخَوَارِقِ لِلْعَادَاتِ.
وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، مَعَ أَنَّ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ يَسْتَبْعِدَانِ جِدًّا أَنْ تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، أَوْ يُعَاقَبَ أَحَدٌ بِجَرِيمَةِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ مِنْهُ فِيهَا.
(2/406)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ فِي خُرُوجِ الْجَمِيعِ عَنْ عُهْدَةِ تَرْكِ الْحَرَامِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ ; فَلِأَنَّ الْحَرَامَ لَا فَرْضَ كِفَايَةٍ فِيهِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ عِنْدَ حَدِّ الْحَرَامِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
- قَوْلُهُ: «وَتَكْلِيفُ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَا يُعْقَلُ، بِخِلَافِ التَّكْلِيفِ بِهِ» . هَذَا جَوَابُ إِلْزَامٍ مِنْ جِهَةِ الْخَصْمِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: لِمَ لَمْ تَقُولُوا: إِنَّ الْمُكَلَّفَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ بَعْضٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا قُلْتُمْ: إِنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بَعْضٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، كَإِحْدَى خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ وَالْمُكَلَّفَ بِهِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ التَّكْلِيفِ ; فَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَعْضًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ ; يَنْبَغِي أَنْ يُجَوَّزَ فِي الْآخَرِ، وَلَا يُرْتَكَبُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ عَلَى قَوْلِكُمْ.
وَالْجَوَابُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ تَكْلِيفَ وَاحِدٍ، أَوْ بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَقَوْلِهِ: أَوْجَبْتُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ، غَيْرُ مَعْقُولٍ، بِخِلَافِ التَّكْلِيفِ بِبَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، نَحْوَ: أَوْجَبْتُ أَحَدَ هَذِهِ الْخِصَالِ.
وَوَجْهُ تَأْثِيرِ هَذَا الْفَرْقِ: أَنَّ الْأَوَّلَ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ لِلتَّوَاكُلِ، وَالثَّانِي لَا يُفْضِي إِلَيْهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ هَذَا عِنْدَ ذِكْرِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ.
- قَوْلُهُ: «فَإِنْ قِيلَ» : إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ لِمَانِعِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَمُنِعَ لِامْتِنَاعِ تَكْلِيفِ بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُم} ْ [التَّوْبَةِ: 122] ، الْآيَةَ ;
(2/407)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَوْجَبَ النَّفِيرَ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَهُوَ تَكْلِيفٌ لِبَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ يَنْفِي قَوْلَكُمْ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْقَلُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ هُوَ الْإِيجَابُ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَا عَلَى الْجَمِيعِ، وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} إِيجَابٌ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، بَلْ هُوَ إِيجَابٌ عَلَى الْجَمِيعِ بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَبَعْدَهَا، مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} مَحْمُولٌ عَلَى الْبَعْضِ الْمُنْتَدَبِ، لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنِ الْجَمِيعِ، كَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ أَوْجَبْنَا النَّفِيرَ لِلتَّفَقُّهِ وَالْإِنْذَارِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّ جَمِيعَهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ النَّفِيرُ لِذَلِكَ، وَلَا هُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَيْهِ، لِقِيَامِ الْبَعْضِ بِمَصْلَحَتِهِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ ; فَلْيُنْتَدَبْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنِ الْكُلِّ فَلْيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَيَعْلَمُوا حُدُودَهُ وَمَعَالِمَهُ، ثُمَّ لْيَرْجِعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ ; فَلْيُنْذِرُوهُمْ عَذَابَ اللَّهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَيُعَلِّمُوهُمْ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ تَعَلُّمُهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ.
- قَوْلُهُ: «جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ» ، أَيْ: حَمَلْنَا هَذِهِ الْأَدِلَّةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ تَكْلِيفَ بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَا يُعْقَلُ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَفْوِيتُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ ظَاهِرَةٌ فِي صِحَّةِ
(2/408)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَكْلِيفِ بَعْضٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ; فَاحْتَجْنَا إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَذَلِكَ بِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ; فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَنَافُرِ الْأَدِلَّةِ، وَتَفَرُّقِهَا، وَتَنَافِيهَا، وَتَنَاقُضِهَا، بَلِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ:
إِحْدَاهُنَّ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ مِنْ بَعْضِ الطَّوَائِفِ، بَلْ أَيُّ طَائِفَةٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا أَنَّ غَيْرَهَا قَامَ بِهِ، سَقَطَ عَنْهَا، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ أَوِ الطَّوَائِفِ، أَنَّ الْأُخْرَى قَامَتْ بِهِ، سَقَطَ عَنِ الْجَمِيعِ، عَمَلًا بِمُوجِبِ الظَّنِّ ; لِأَنَّهُ كَمَا صَلَحَ مُثْبِتًا لِلتَّكَالِيفِ، صَلَحَ مُسْقِطًا لَهَا.
الثَّانِيَةُ: الْقَائِمُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِ الْقَائِمِ بِهِ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ حَصَّلَ مَصْلَحَتَهُ دُونَ غَيْرِهِ، نَعَمْ هُمَا سِيَّانِ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، لَكِنَّ هَذَا خَرَجَ عَنْهَا بِفِعْلِهِ، وَذَلِكَ خَرَجَ عَنْهَا لِانْتِفَاءِ الْقَابِلِ لِفِعْلِهِ ; لِأَنَّ الْقَائِمَ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، لَمَّا حَصَّلَ مَصْلَحَتَهُ بِفِعْلِهِ، لَمْ تَبْقَ مَصْلَحَةٌ يَفْعَلُهَا الْآخَرُ ; فَسَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ لِذَلِكَ.
مِثَالُهُ: إِذَا قَامَ جَمَاعَةٌ بِطَرْدِ الْعَدُوِّ ; فَبَقِيَّةُ النَّاسِ لَا يَجِدُونَ عَدُوًّا يَطْرُدُونَهُ، وَإِذَا قَامَ جَمَاعَةٌ بِتَجْهِيزِ الْمَيِّتِ ; فَغَيْرُهُمْ لَا يَجِدُ مَيِّتًا يُجَهِّزُهُ ; فَالْفَاعِلُ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ بِفِعْلِهِ، وَالتَّارِكُ خَرَجَ عَنْهَا لِانْتِفَاءِ الْقَابِلِ لِفِعْلِهِ.
الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: فَاعِلُ فَرْضِ الْعَيْنِ، أَوْ فَاعِلُ فَرْضِ
(2/409)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْكِفَايَةِ؟ فَقِيلَ: فَاعِلُ فَرْضِ الْعَيْنِ ; لِأَنَّ فَرْضَهُ أَهَمُّ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَقِيلَ: فَاعِلُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ أَفْضَلُ ; لِأَنَّ نَفْعَهُ أَعَمُّ، إِذْ هُوَ يُسْقِطُ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا مَنْسُوبٌ إِلَى إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَفْضَلُ مِنْ وَجْهٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الرَّابِعَةُ: هَلْ يَتَعَيَّنُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ، وَيَجِبُ إِتْمَامُهُ عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ أَمْ لَا؟ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ، كَالْمُجَاهِدِ يَحْضُرُ الصَّفَّ، وَطَالِبِ الْعِلْمِ يَشْرَعُ فِي الِاشْتِغَالِ بِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِهِ.
وَوَجْهُهُ: أَنَّهُ بِالشُّرُوعِ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَهُوَ انْعِقَادُ سَبَبِ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ، مِنَ التَّكْلِيفِ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَخُرُوجِهِ عَنْ عُهْدَتِهِ ; فَلَا يَجُوزُ لَهُ إِبْطَالُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِحَقٍّ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ: أَنَّ مَا لَا يَجِبُ الشُّرُوعُ فِيهِ، لَا يَجِبُ إِتْمَامُهُ فِي غَيْرِ الْحَجِّ، كَصَوْمِ التَّطَوُّعِ وَصَلَاتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ بِالشُّرُوعِ، لَمَا جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ لَهُ حَظٌّ فِي الْوُجُوبِ بِالْجُمْلَةِ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَرَّرَ، بِخِلَافِ صَوْمِ النَّفْلِ ; فَإِنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْوُجُوبِ أَصْلًا، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَوْجَبَ إِتْمَامَهُ ; فَيَلْتَزِمُ عَلَى قَوْلِهِ ; فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْقَاضِي، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالنَّاسِ، وَإِنْ وُجِدَ غَيْرُهُ، جَازَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وَكِيلَ الْإِمَامِ وَنَائِبَهُ، وَالْوَكِيلُ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/410)
________________________________________
التَّاسِعَةُ: مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ خُوطِبَ بِهِ، نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [الْمُزَّمِّلِ: 1] ، تَنَاوَلَ أُمَّتَهُ، وَمَا تَوَجَّهَ إِلَى صَحَابِيٍّ تَنَاوَلَ غَيْرَهُ حَتَّى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ عِنْدَ الْقَاضِي، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَالتَّمِيمِيُّ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعُمَّ.
لَنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الْأَحْزَابِ: 37] ، وَأَيْضًا {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابِ: 50] ، دَلَّ عَلَى تَنَاوُلِ الْحُكْمِ لَهُمْ لَوْلَا التَّخْصِيصُ، وَإِلَّا كَانَ عَبَثًا، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خِطَابِي لِلْوَاحِدِ، خِطَابِي لِلْجَمَاعَةِ، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى الرُّجُوعِ فِي الْقَضَايَا الْعَامَّةِ إِلَى قَضَايَاهُ الْخَاصَّةِ، وَلَوْلَا صِحَّةُ مَا قُلْنَاهُ، لَكَانَ خَطَأً مِنْهُمْ لِجَوَازِ اخْتِصَاصِ قَضَايَاهُ بِمَجَالِهَا، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» . فِي جَوَابِ قَوْلِهِمْ لَهُ: لَسْتَ مِثْلَنَا ; فَدَلَّ عَلَى التَّسَاوِي.
قَالُوا: أَمْرُ السَّيِّدِ بَعْضَ عَبِيدِهِ يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ بَاقِيهِمْ، وَأَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِعِبَادَةٍ لَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا، وَالْعُمُومُ لَا يُفِيدُ الْخُصُوصَ بِمُطْلَقِهِ، فَكَذَا الْعَكْسُ، وَكَأَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، إِذْ هَؤُلَاءِ يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُقْتَضَى اللُّغَوِيِّ، وَالْأَوَّلُونَ بِالْوَاقِعِ الشَّرْعِيِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «التَّاسِعَةُ: مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ» يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْأَحْكَامِ أَوْ «خُوطِبَ بِهِ» مِنَ الْكَلَامِ «نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [الْمُزَّمِّلِ: 1] ، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [الْمُدَّثِّرِ: 1] ، تَنَاوَلَ أُمَّتَهُ» ، أَيْ: ثَبَتَ فِي حَقِّهِمْ مِنْهُ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ، وَكَذَلِكَ «مَا تَوَجَّهَ إِلَى صَحَابِيٍّ مِنَ الْخِطَابِ» ، تَنَاوَلَ غَيْرَهُ «مِنَ الْمُكَلَّفِينَ» ، الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ، «حَتَّى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ، أَيْ: حَتَّى إِنَّهُ يَتَنَاوَلُ النَّبِيَّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ» ، يَعْنِي لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ
(2/411)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَوُجُوبِ السِّوَاكِ وَالضُّحَى وَالْوِتْرِ، أَوْ بِمَا خُوطِبَ بِهِ، نَحْوَ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابِ: 50] ، أَوْ لِلصَّحَابِيِّ بِمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِي بُرْدَةَ: تُجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ.
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ: إِنَّهُ إِنْ قَامَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ، اخْتَصَّ الْحُكْمُ بِمَنْ دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ ; وَإِلَّا كَانَ الْحُكْمُ بِمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ خُوطِبَ بِهِ هُوَ، أَوْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، عَامًّا لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ «عِنْدَ الْقَاضِي، وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ.
(2/412)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ» ، وَأَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ: يَخْتَصُّ الْحُكْمُ بِمَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ غَيْرِهِ، إِلَّا بِمُعَمِّمٍ، أَيْ: إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ كَوْنِهِ عَامًّا لِلْجَمِيعِ ; فَهَؤُلَاءِ عَكْسُ الْأَوَّلِينَ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: يَخُصُّ الْحُكْمُ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُعَمِّمٍ، وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: يَعُمُّ الْحُكْمَ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَغَيْرَهُ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مُخَصِّصٍ.
- قَوْلُهُ: «لَنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {زَوَّجْنَاكَهَا} » إِلَى آخِرِهِ. هَذَا حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالتَّعْمِيمِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الْأَحْزَابِ: 37] ; فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَنَّهُ إِنَّمَا أَبَاحَ لِنَبِيِّهِ زَوْجَةَ ابْنِهِ بِالتَّبَنِّي، لِيَتَأَسَّى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ، رَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمْ ; فَلَوْلَا أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ، لَكَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ عَبَثًا.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ، هُوَ دَلِيلُ التَّعْمِيمِ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَدَمِ دَلِيلِ التَّعْمِيمِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابِ: 50] ، وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّهُ لَوْلَا تَنَاوُلُ مَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ أُمَّتَهُ ; لَكَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ عَبَثًا غَيْرَ مُفِيدٍ ; لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، يَكُونُ ثَابِتًا بِالْوَضْعِ أَوْ
(2/413)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعُرْفِ ; فَيَبْقَى قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} غَيْرَ مُفِيدٍ فَائِدَةً زَائِدَةً ; فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَهُوَ عَبَثٌ، مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فَإِنْ قِيلَ: هُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا اقْتَضَاهُ الْخِطَابُ لَهُ مِنَ الِاخْتِصَاصِ.
قُلْنَا: حَمْلُنَا لَهُ عَلَى التَّأْسِيسِ وَهُوَ إِفَادَةُ التَّخْصِيصِ أَوْلَى، لِاسْتِقْلَالِهِ بِالْفَائِدَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خِطَابِي لِلْوَاحِدِ خِطَابِي لِلْجَمَاعَةِ، وَيُرْوَى: حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي أَنَّ مَا تَوَجَّهَ إِلَى صَحَابِيٍّ تَنَاوَلَ غَيْرَهُ، وَمِمَّا يُنَاسِبُ هَذَا وَيُقَوِّيهِ، مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَمَسُّ جَسَدُهُ جَسَدَ امْرَأَةٍ، إِلَّا زَوْجَةً أَوْ مِلْكَ يَمِينٍ، وَكَانَ النِّسَاءُ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ رُبَّمَا أَرَدْنَ مُصَافَحَتَهُ لِلْبَيْعَةِ فَيَمْتَنِعُ، وَيَقُولُ: قَدْ بَايَعْتُكُنَّ. وَيَقُولُ: إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَقَوْلِي لِأَلْفِ امْرَأَةٍ. أَوْ نَحْوٍ مِنْ هَذَا، وَاللَّهُ
(2/414)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الرُّجُوعِ فِي قَضَايَاهُمُ الْعَامَّةِ إِلَى قَضَايَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْخَاصَّةِ، كَرُجُوعِهِمْ فِي حَدِّ الزَّانِي إِلَى قِصَّةِ مَاعِزٍ، وَفِي دِيَةِ الْجَنِينِ إِلَى حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَفِي الْمُفَوِّضَةِ إِلَى قِصَّةِ بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، وَفِي السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ إِلَى حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، وَفُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَإِلَى حَدِيثِ صَفِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ، فِي سُقُوطِ طَوَافِ الْوَدَاعِ عَنِ الْحَائِضِ.
(2/415)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَإِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، كَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ; فَلَوْلَا أَنَّ مَا تَوَجَّهَ إِلَى بَعْضِ الْأُمَّةِ يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ، لَكَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنَ الصَّحَابَةِ، حَيْثُ رَجَعُوا فِي أَحْكَامِهِمُ الْعَامَّةِ إِلَى أَحْكَامِهِ الْخَاصَّةِ، لِجَوَازِ اخْتِصَاصِ قَضَايَاهُ بِمِحَالِّهَا، الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا، بَلْ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عِنْدَ الْخَصْمِ ; فَيَكُونُ الْخَطَأُ أَشَدَّ وَأَشْنَعَ، لَكِنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ شَهِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ، وَالْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا بِالْعِصْمَةِ مِنَ الْخَطَأِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عُمُومَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ، وَإِنَّ تَوَجَّهَ إِلَى وَاحِدٍ.
(2/416)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ: تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ، أَفَأَصُومُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلَاةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ ; فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ; فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَعْلَمُكُمْ بِمَا أَتَّقِي.
وَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ، مِثْلُ ذَلِكَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَسَاوِيهِ وَأُمَّتِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْأَحْكَامِ، تَنَاوَلَهُ مَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ، بِمُقْتَضَى التَّسَاوِي.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: أَمْرُ السَّيِّدِ بَعْضَ عَبِيدِهِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ التَّعْمِيمِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ بَعْضَ عَبِيدِهِ، اخْتَصَّ مُوجِبُ الْأَمْرِ بِهِ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْهُمْ، فِي حُكْمِ اللُّغَةِ ; فَكَذَلِكَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ عَبِيدِهِ، لَا يَتَجَاوَزُ أَمْرُهُ لِبَعْضِهِمْ إِلَى غَيْرِهِ كَذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَمَرَ بِعِبَادَةٍ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، لَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِهِ عِبَادَةً أُخْرَى غَيْرَهَا ; فَكَذَلِكَ إِذَا أَمَرَ عَبْدًا، لَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِهِ عَبْدًا آخَرَ غَيْرَهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ لَا يُفِيدُ الْخُصُوصَ بِمُطْلَقِهِ، وَلَا يُحْمَلُ
(2/417)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ ; فَكَذَا الْعَكْسُ، وَهُوَ أَنْ لَفْظَ الْخُصُوصِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ بِمُطْلَقِهِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ.
- قَوْلُهُ: «وَكَأَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ» ، أَيْ: يُشْبِهُ أَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ، إِذْ هَؤُلَاءِ، يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحُكْمَ يَخُصُّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، يَتَمَسَّكُونَ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ لِذَلِكَ، وَالْأَوَّلُونَ وَهُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ يَعُمُّ مَنْ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَغَيْرُهُ يَتَمَسَّكُونَ بِالْوَاقِعِ الشَّرْعِيِّ ; لِأَنَّ أَدِلَّتَهُمْ كُلَّهَا وَقَائِعُ شَرْعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، عُدِّيَ حُكْمُهَا إِلَى غَيْرِهَا، كَمَا سَبَقَ.
وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: أَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي أَنَّ الْخِطَابَ لِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ يَخْتَصُّ بِهِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَهُمْ، وَالْوَاقِعَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْخَاصَّةُ، إِذَا قَامَ دَلِيلُ عُمُومِهَا، عَمَّتْ، وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِيهِ بَيْنَهُمْ ; فَعَادَ النِّزَاعُ كَمَا قُلْنَا لَفْظِيًّا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/418)
________________________________________
الْعَاشِرَةُ: تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ بِمَعْنَى طَلَبِ إِيقَاعِ الْفِعْلِ مِنْهُ حَالَ عَدَمِهِ مُحَالٌ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا بِمَعْنَى تَنَاوُلِ الْخِطَابِ لَهُ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِ فَجَائِزٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
لَنَا: تَكْلِيفُ أَوَاخِرِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ أَوَائِلُهُمْ مِنْ مُقْتَضَى كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَتَكْلِيفُنَا بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا خُوطِبَ بِهِمَا غَيْرُنَا.
قَالُوا: يَسْتَحِيلُ خِطَابُهُ ; فَكَذَا تَكْلِيفُهُ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ خِطَابِهِ، سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَحَقُّقِهِ وُجُودَ الْمُكَلَّفِ، وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِيجَادِهِ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ، وَإِنَّ تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ لَيْسَتْ فِي إِيجَادِ الْمَعْدُومِ، بَلْ فِي إِظْهَارِ الْأَشْيَاءِ مِنْ رُتْبَةِ الْخَفَاءِ إِلَى رُتْبَةِ الْجَلَاءِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُخَاطِبُ وَلَدًا يَتَوَقَّعُهُ فِي كِتَابٍ: يَا بُنَيَّ، تَعَلَّمِ الْعِلْمَ، وَافْعَلْ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يُعَدُّ سَفِيهًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الْعَاشِرَةُ: تَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِالْمَعْدُومِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: تَوَجُّهُ الْأَمْرِ إِلَى الْمَعْدُومِ ; إِنْ كَانَ بِمَعْنَى طَلَبِ إِيقَاعِ الْفِعْلِ مِنْهُ حَالَ عَدَمِهِ ; فَهُوَ مُحَالٌ، بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ ; فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْمَلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَلِأَنَّ شُرُوطَ التَّكْلِيفِ كُلَّهَا مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْخِطَابِ لَهُ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِ، وَوُجُودِ شُرُوطِ التَّكْلِيفِ فِيهِ ; فَهُوَ
(2/419)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
قُلْتُ: وَالْأَشْعَرِيَّةُ يُفَرِّعُونَ هَذَا عَلَى تَحْقِيقِ كَلَامِ النَّفْسِ، بِمَعْنَى أَنَّ طَلَبَ إِيقَاعِ الْفِعْلِ مِنَ الْمَعْدُومِ ; إِذَا وُجِدَ، وَتَأَهَّلَ لِلتَّكْلِيفِ، قَامَ بِذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَزَلًا.
قُلْتُ: وَقَدْ أَبْطَلْنَا كَلَامَ النَّفْسِ فِيمَا سَبَقَ، وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْمَسْأَلَةُ مُمْكِنَةٌ. سَوَاءٌ قُلْنَا: كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعْنًى مُجَرَّدٌ، أَوْ لَفْظٌ وَمَعْنًى، عَلَى رَأْيِ أَهْلِ الْأَثَرِ.
«لَنَا» فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ تَكْلِيفَ الْمَعْدُومِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ قَدْ وَقَعَ، وَالْجَوَازُ لَازِمٌ لِلْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ وَقَعَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَوَاخِرَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ كُلِّفُوا بِمَا كُلِّفَ بِهِ أَوَائِلُهُمْ، مِنْ مُقْتَضَى كُتُبِهِمُ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، كَالتَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَصُحُفِ شِيتَ، وَإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مَعَ أَنَّ الْآخَرَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ تَكْلِيفِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.
ثُمَّ إِذَا صَحَّ خِطَابُ الْمَعْدُومِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا ; صَحَّ قَبْلَ وُجُودِهِ بِمَا لَا يَتَنَاهَى، وَهُوَ تَكْلِيفُهُ فِي الْأَزَلِ، بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَاهُ، إِذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ، وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْخَصْمِ فِي الْمَنْعِ يَعُمُّ الْحَالَيْنِ، فَإِذَا بَطَلَ فِي أَحَدِهِمَا ; بَطَلَ فِي الْآخَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّنَا نَحْنُ كُلِّفْنَا بِمُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْمُخَاطَبُ بِهِمَا غَيْرُنَا، قَبْلَ وُجُودِنَا بِسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ، وَيَتَزَايَدُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَنَا.
وَالتَّقْرِيرُ: مَا سَبَقَ فِي الْوَجْهِ قَبْلَهُ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.
- قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى الْمَنْعِ.
(2/420)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَعْدُومَ يَسْتَحِيلُ خِطَابُهُ ; فَكَذَا يَسْتَحِيلُ تَكْلِيفُهُ:
أَمَّا اسْتِحَالَةُ خِطَابِهِ ; فَلِأَنَّ خِطَابَهُ يَسْتَدْعِي مُخَاطِبًا وَمُخَاطَبًا، وَالْمُخَاطَبُ بِفَتْحِ الطَّاءِ هَاهُنَا مُنْتَفٍ ; فَاسْتَحَالَ الْخِطَابُ لِانْتِفَاءِ رُكْنِهِ.
وَأَمَّا اسْتِحَالَةُ تَكْلِيفِهِ ; فَلِأَنَّ الْخِطَابَ مِنْ لَوَازِمِهِ، وَاسْتِحَالَةُ اللَّازِمِ يَقْتَضِي اسْتِحَالَةَ الْمَلْزُومِ.
- قَوْلُهُ: «قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ» ، إِلَى آخِرِهِ: أَيْ: لَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ خِطَابِ الْمَعْدُومِ بِالْمَعْنَى الَّذِي فَسَّرْنَاهُ، إِنَّمَا يَسْتَحِيلُ بِمَعْنَى مُشَافَهَتِهِ فِي حَالِ عَدَمِهِ، لَكِنَّا لَا نَقُولُ بِهِ، إِنَّمَا نَقُولُ بِخِطَابِهِ، بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ اسْتَدْعَى مِنْهُ الْفِعْلَ إِذَا وُجِدَ وَكُلِّفَ ; فَخِطَابُهُ فِي التَّحْقِيقِ، إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُجُودِهِ، «سَلَّمْنَاهُ» ، أَيْ: سَلَّمْنَا اسْتِحَالَةَ خِطَابِ الْمَعْدُومِ، لَكِنْ لَا مُطْلَقًا، بَلْ هُوَ مُسْتَحِيلٌ «مِنْ غَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» ، أَمَّا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; فَلَا يَسْتَحِيلُ خِطَابُهُ «لِتَحَقُّقِهِ» ، أَيْ: لِتَحَقُّقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ «وُجُودَ الْمُكَلَّفِ، وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِيجَادِهِ» ; فَهُوَ كَالْمَوْجُودِ فِي عِلْمِهِ فِي الْحَالِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ «لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ» ، أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: «إِنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ» ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِجَوْهَرٍ، «وَإِنَّ تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَيْسَتْ فِي إِيجَادِ مَعْدُومٍ، بَلْ فِي إِظْهَارِ الْأَشْيَاءِ مِنْ رُتْبَةِ الْخَفَاءِ إِلَى رُتْبَةِ الْجَلَاءِ» ، أَيْ: إِنَّ الْأَشْيَاءَ خَفِيَّةٌ فِي الْعَدَمِ ; فَيُظْهِرُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيُجَلِّيهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي السَّاعَةِ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْآنَ مَعْدُومَةً: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الْحَجِّ: 1] ; فَسَمَّاهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ
(2/421)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الْأَعْرَافِ: 187] ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْقُرَّاءِ، أَيْ: أُظْهِرُهَا، وَإِذَا كَانَ مَعْنَى إِيجَادِ الْمَعْدُومِ عِنْدَهُمْ هُوَ إِظْهَارُ أَشْيَاءَ بَعْدَ خَفَائِهَا ; فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ الْأَزَلِيِّ إِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، بِشَرْطِ ظُهُورِهَا وَتَأَهُّلِهَا لِلِامْتِثَالِ، هَذَا مِمَّا لَا مَانِعَ مِنْهُ، وَهُوَ لَازِمٌ لِمَنْ قَالَ بِهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، عَلَى مَا حَكَيْتُهُ عَنْهُمْ فِي كِتَابِ إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ.
قَوْلُهُ: «وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عُرْفِيٌّ عَلَى الْجَوَازِ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَ وَلَدًا يَتَوَقَّعُ وُجُودَهُ، مِثْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ، أَوْ غَيْبَةٌ طَوِيلَةٌ وَلَهُ حَمْلٌ ; فَيَكْتُبُ لَهُ كِتَابًا يُخَاطِبُهُ بِهِ، بِتَقْدِيرِ وِلَادَتِهِ، يَقُولُ فِيهِ: يَا بُنَيَّ تَعَلَّمِ الْعِلْمَ ; فَإِنَّهُ يُزَيِّنُكَ، وَاحْذَرِ الْجَهْلَ ; فَإِنَّهُ يَشِينُكَ، وَحَافِظْ عَلَى التَّقْوَى ; فَإِنَّهَا تُنْجِيكَ مِمَّا تَحْذَرُ، وَلَا تَعْذُرْ نَفْسَكَ فِي مُوَاقَعَةِ الدَّنَاءَةِ ; فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يَعِظُ بِهِ الْوَالِدُ وَلَدَهُ «وَلَا يُعَدُّ سَفِيهًا» بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: خَاطَبْتَ مَعْدُومًا ; فَكَذَلِكَ الْمُكَلَّفُ مَعَ الشَّرْعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/422)
________________________________________
خَاتِمَةٌ: الْأَمْرُ بِمَا عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْإِمَامِ، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ إِلَى النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، وَأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً كَمَا سَبَقَ.
لَنَا: تَكْلِيفٌ مُفِيدٌ ; فَيَصِحُّ، كَمَا لَوْ وُجِدَ شَرْطُ وُقُوعِهِ. وَبَيَانُ فَائِدَتِهِ عَزْمُ الْمُكَلَّفِ عَلَى الِامْتِثَالِ فَيُطِيعُ، أَوِ الِامْتِنَاعِ فَيَعْصِي، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مُكَلَّفٌ بِصَوْمِ رَمَضَانَ مَعَ جَوَازِ مَوْتِهِ قَبْلَهُ.
قَالُوا: اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ يَسْتَدْعِي صِحَّةَ وُقُوعِهِ فِيهِ، وَهُوَ بِدُونِ شَرْطِهِ مُحَالٌ.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلْ إِنَّمَا يَسْتَدْعِي الْعَزْمَ عَلَى الِامْتِثَالِ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ لَا مُطْلَقًا، بَلْ بِشَرْطِ وُجُودِ شَرْطِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «خَاتِمَةٌ» أَيْ: لِبَابِ الْأَوَامِرِ.
قَوْلُهُ: «الْأَمْرُ بِمَا عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَالْإِمَامِ» ، وَهُوَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْآمِرُ عَالِمًا بِانْتِفَاءِ شَرْطِ الْوُقُوعِ، كَالْبَارِئِ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ عَبْدِهِ ; فِيمَا إِذَا أَمَرَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ مَثَلًا، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمُوتُ فِي شَعْبَانَ، أَمَّا إِذَا كَانَ الْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ جَاهِلَيْنِ بِذَلِكَ، كَالسَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ ; فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ.
وَقِسْمَةُ الْمَسْأَلَةِ رُبَاعِيَّةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْآمِرَ وَالْمَأْمُورَ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَا عَالِمَيْنِ بِانْتِفَاءِ شَرْطِ التَّكْلِيفِ ; فَلَا يَصِحُّ، لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ، أَوْ جَاهِلَيْنِ بِانْتِفَائِهِ ; فَيَصِحُّ لِحُصُولِ فَائِدَتِهِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ، وَصِحَّةِ الطَّلَبِ مِنَ الْآمِرِ، إِذْ مَا يُعْلَمُ انْتِفَاءُ شَرْطِهِ، لَا يَصِحُّ طَلَبُهُ مِمَّنْ يَجُوزُ جَهْلُهُ بِهِ، أَوِ الْآمِرُ عَالِمٌ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ ; فَيَصِحُّ، إِذَا كَانَ هُوَ الْبَارِئَ جَلَّ جَلَالُهُ، أَوِ الْمَأْمُورُ عَالِمٌ بِهِ دُونَ
(2/423)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْآمِرِ ; فَلَا يَصِحُّ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ، وَعَدَمِ صِحَّةِ طَلَبِهِ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ.
- قَوْلُهُ: «وَفِيهِ» : أَيْ: فِي هَذَا الْحُكْمِ «الْتِفَاتٌ إِلَى النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، وَأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً كَمَا سَبَقَ» ، هُنَاكَ، أَيْ: هَذَا يُشْبِهُ ذَاكَ، بَلْ ذَلِكَ، أَعْنِي النَّسْخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ، مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْخَلِيلَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَبْحِهِ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ ذَبْحِهِ شَرْطٌ لَهُ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْتِفَاءَهُ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: تَكْلِيفٌ مُفِيدٌ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْجَوَازِ. وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ تَكْلِيفٌ مُفِيدٌ، وَكُلُّ تَكْلِيفٍ مُفِيدٍ ; فَهُوَ صَحِيحٌ ; فَهَذَا تَكْلِيفٌ صَحِيحٌ، كَمَا لَوْ وُجِدَ شَرْطُ وُقُوعِهِ.
أَمَّا أَنَّهُ مُفِيدٌ ; فَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِمَّا أَنْ يَعْزِمَ عَلَى الِامْتِثَالِ ; فَيَكُونَ مُطِيعًا، أَوْ عَلَى الِامْتِنَاعِ ; فَيَكُونَ عَاصِيًا بِالْعَزْمِ. وَفَائِدَةُ التَّكْلِيفِ: إِظْهَارُ الْمُطِيعِ مِنَ الْعَاصِي، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ: 2] ، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}
(2/424)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[مُحَمَّدٍ: 31] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَفَائِدَةُ التَّكْلِيفِ الِامْتِحَانُ.
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ تَكْلِيفٍ مُفِيدٍ ; فَهُوَ صَحِيحٌ ; فَلِوُجُودِ فَائِدَتِهِ الَّتِي جُعِلَ لِأَجْلِهَا، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ صِحَّةَ الشَّيْءِ تَرَتُّبُ آثَارِهِ عَلَيْهِ، وَحُصُولُ مَقَاصِدِهِ مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِذَا وُجِدَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ ; فَامْتَثَلَ هَذَا الْمُكَلَّفُ، أَوِ امْتَنَعَ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، لِوُجُودِ فَائِدَةِ التَّكْلِيفِ فِي الصُّورَتَيْنِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ كَثِيرًا، وَالْجَوَازُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُقُوعِ. وَبَيَانُ وُقُوعِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، فِي كُلِّ سَنَةٍ، مُكَلَّفٌ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْيَوْمِيَّةِ، وَغَيْرِهَا، مَعَ جَوَازِ مَوْتِهِ قَبْلَهُ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَمُوتُ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ ; فَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَ شَرْطِ وُقُوعِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى صِحَّتِهِ.
- قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى امْتِنَاعِ هَذَا التَّكْلِيفِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، يَسْتَدْعِي صِحَّةَ وُقُوعِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَكِنَّ وُقُوعَهُ فِيهِ بِدُونِ شَرْطٍ مُحَالٌ ; فَلَوْ صَحَّ هَذَا التَّكْلِيفُ، لَكَانَ تَكْلِيفًا بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ بِدُونِ شَرْطِهِ ; فَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ سَلَّمْنَا جَوَازَهُ، لَا نُسَلِّمُ وُقُوعَهُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَمْنُوعٌ» ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِفِعْلٍ فِي وَقْتٍ يَسْتَدْعِي وُقُوعَهُ، حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرْتُمْ، «وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي الْعَزْمَ عَلَى الِامْتِثَالِ»
(2/425)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَحْصِيلًا لِفَائِدَةِ التَّكْلِيفِ، وَحِينَئِذٍ: لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَبَيْنَ انْتِفَاءِ شَرْطِ الْفِعْلِ قَبْلَ وَقْتِهِ «سَلَّمْنَاهُ» أَيْ: سَلَّمْنَا أَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ يَسْتَدْعِي وُقُوعَهُ فِيهِ، لَكِنْ «لَا مُطْلَقًا، بَلْ بِشَرْطِ وُجُودِ شَرْطِهِ» فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَمَّا أَنَّهُ يَسْتَدْعِي وُقُوعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ شَرْطِهِ، فَمَمْنُوعٌ، وَإِلَّا، لَزِمَ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِفِعْلٍ فِي وَقْتٍ يَسْتَدْعِي الْمُحَالَ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ: أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، ثُمَّ مَاتَ، أَوْ جُنَّ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ ; لِأَنَّهُ قَدْ بَانَ عِصْيَانُهُ، بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْإِفْسَادِ ; فَحَصَلَتْ فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ ; فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ انْتِفَاءُ شَرْطِ صِحَّةِ صَوْمِ الْيَوْمِ، بِمَوْتِهِ قَبْلَ إِكْمَالِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ مَرِضَ أَوْ سَافَرَ فِي يَوْمٍ قَدْ وَطِئَ فِيهِ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ ; لِأَنَّ عِصْيَانَهُ اسْتَقَرَّ قَبْلَ وُجُودِ الْمُبِيحِ لِلْإِفْطَارِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ عَلَيْهَا الشُّرُوعُ فِي صَوْمِ يَوْمٍ، عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ تَحِيضَ فِيهِ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الصَّوْمِ بِكَمَالِهِ، وَإِنْ فَاتَتْ بِطَرَآنِ الْحَيْضِ، لَكِنَّ طَاعَتَهَا بِالْعَزْمِ عَلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ، بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْحَيْضِ، أَوْ مَعْصِيَتَهَا بِعَدِمِ الْعَزْمِ، لَمْ تَفُتْ.
وَمِنْهَا: قَالَ الْآمِدِيُّ: لَوْ عَلَّقَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَى شُرُوعِهِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَمَاتَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ.
قُلْتُ: وَفِي كَوْنِ هَذَا مِنْ فُرُوعِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ، لِوُجُودِ شَرْطِهِ اللُّغَوِيِّ، فَإِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ عَلَى الشُّرُوعِ، ثُمَّ
(2/426)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَرَعَ، فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ ; فَوَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ هَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ فُرُوعِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، بِتَقْدِيرِ أَنْ يَقُولَ: إِنْ صُمْتُ يَوْمًا كَامِلًا مِنْ رَمَضَانَ ; فَأَنْتِ طَالِقٌ ; فَمَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ; فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، لَكِنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَقَعُ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَصُمْ يَوْمًا كَامِلًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/427)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
النَّهْيُ
النَّهْيُ: اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَقَدِ اتَّضَحَ فِي الْأَوَامِرِ أَكْثَرُ أَحْكَامِهِ، إِذْ لِكُلِّ حُكْمٍ مِنْهُ وَازِنٌ مِنَ الْأَمْرِ عَلَى الْعَكْسِ، وَهُوَ عَنِ السَّبَبِ الْمُفِيدِ حُكْمًا يَقْتَضِي فَسَادَهُ مُطْلَقًا إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَقِيلَ: النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، لَا لِغَيْرِهِ، لِجَوَازِ الْجِهَتَيْنِ، وَقِيلَ: فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا، لِجَوَازِ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنْ فَعَلْتَ، تَرَتَّبَ الْحُكْمُ، نَحْوَ: لَا تَطَأْ جَارِيَةَ وَلَدِكَ، فَإِنْ فَعَلْتَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَكَ، وَلَا تُطَلِّقْ فِي الْحَيْضِ فَإِنْ فَعَلْتَ وَقَعَ، وَلَا تَغْسِلِ الثَّوْبَ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ وَيَطْهُرُ إِنْ فَعَلْتَ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ قُرْبَةٌ، وَارْتِكَابُ النَّهْيِ مَعْصِيَةٌ ; فَيَتَنَاقَضَانِ بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ.
الثَّانِي: أَنَّ فَسَادَ الْمُعَامَلَاتِ بِالنَّهْيِ يَضُرُّ بِالنَّاسِ لِقَطْعِ مَعَايِشِهِمْ أَوْ تَقْلِيلِهَا ; فَصَحَّتْ رِعَايَةً لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَعَلَيْهِمْ إِثْمُ ارْتِكَابِ النَّهْيِ، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ ; فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ; فَتَعْطِيلُهَا لَا يَضُرُّ بِهِ، بَلْ مَنْ أَوْقَعَهَا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، أَطَاعَ، وَمَنْ لَا، عَصَى، وَأَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي آخَرِينَ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنْ أَرَادَ الصِّحَّةَ الْعَقْلِيَّةَ، أَيْ: الْإِمْكَانَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْوُجُودِ ; فَنَعَمْ، وَإِنْ أَرَادَ الشَّرْعِيَّةَ ; فَتَنَاقُضٌ: إِذْ مَعْنَاهُ النَّهْيُ الشَّرْعِيُّ، يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا وَهُوَ مُحَالٌ.
وَقِيلَ: لَا يَقْتَضِي فَسَادًا، وَلَا صِحَّةً، إِذِ النَّهْيُ خِطَابٌ تَكْلِيفِيٌّ، وَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ إِخْبَارِيٌّ وَضْعِيٌّ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا رَابِطٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْإِثْمِ بِهِ.
وَلَنَا: عَلَى فَسَادِهِ مُطْلَقًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/428)
________________________________________
، أَيْ: مَرْدُودُ الذَّاتِ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى اسْتِفَادَةِ فَسَادِ الْأَحْكَامِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَسْبَابِهَا، وَلِأَنَّ النَّهْيَ دَلِيلُ تَعَلُّقِ الْمَفْسَدَةِ بِهِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، إِذْ هُوَ حَكِيمٌ لَا يَنْهَى عَنْ مَصْلَحَةٍ وَإِعْدَامُ الْمُفْسَدَةِ مُنَاسِبٌ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي اجْتِنَابَهُ، وَتَصْحِيحَ حُكْمِهِ يَقْتَضِي قُرْبَانَهُ ; فَيَتَنَاقَضَانِ، وَالشَّارِعُ بَرِيءٌ مِنَ التَّنَاقُضِ.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ، أَوْ وَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ مُبْطَلٌ، وَلِخَارِجٍ عَنْهُ غَيْرُ مُبْطَلٍ، وَفِيهِ لِوَصْفٍ غَيْرِ لَازِمٍ تَرَدُّدٌ، وَالْأَوْلَى الصِّحَّةُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «النَّهْيُ: اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ» ، لَمَّا فَرَغَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَمْرِ ; شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ النَّهْيِ.
فَقَوْلُهُ: «النَّهْيُ: اقْتِضَاءٌ» ، أَيْ: طَلَبٌ، وَهُوَ جِنْسٌ لَهُ ; لِأَنَّهُ يَعُمُّ طَلَبَ الْفِعْلِ، وَطَلَبَ الْكَفِّ عَنِ الْفِعْلِ.
فَبِقَوْلِهِ: «اقْتِضَاءُ كَفٍّ» ، خَرَجَ عَنْهُ الْأَمْرُ ; لِأَنَّهُ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ.
(2/429)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: «عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ» ; فَائِدَتُهُ مَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ، وَهُوَ الِاحْتِرَازُ مِنَ السُّؤَالِ، نَحْوَ: لَا تُعَذِّبْنَا، {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 286] ، وَمِنَ الِالْتِمَاسِ، نَحْوَ قَوْلِ الْمُسَاوِي لِمُسَاوِيهِ: لَا تَضْرِبْ فُلَانًا، لَا تُؤْذِهِ، عَلَى جِهَةِ الشَّفَاعَةِ ; فَطَلَبُ الْفِعْلِ أَوِ الْكَفِّ عَنْهُ، بِصِيغَةِ افْعَلْ أَوْ لَا تَفْعَلْ إِنْ كَانَا مِنْ أَدْنَى ; فَهُوَ دُعَاءٌ، أَوْ مِنْ مُسَاوٍ ; فَهُوَ شَفَاعَةٌ وَالْتِمَاسٌ، أَوْ مِنْ أَعْلَى عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ ; فَهُوَ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ، وَقَدْ سَبَقَ هَذَا.
قَوْلُهُ: «وَقَدِ اتَّضَحَ فِي الْأَوَامِرِ أَكْثَرُ أَحْكَامِهِ» ، أَيْ: أَكْثَرُ أَحْكَامِ النَّهْيِ «إِذْ لِكُلِّ حُكْمٍ مِنْهُ» ، أَيْ: مِنَ النَّهْيِ، «وَزَانٌ مِنَ الْأَمْرِ» ، أَيْ: حُكْمُ مُوَازَنَةٍ «عَلَى الْعَكْسِ» .
مِثَالُهُ: فِي حَدِّهِمَا: أَنَّ الْأَمْرَ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ، وَالنَّهْيَ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فِعْلٍ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ، مَعَ احْتِمَالِ النَّدْبِ. وَالنَّهْيُ ظَاهِرٌ فِي التَّحْرِيمِ، مَعَ احْتِمَالِ الْكَرَاهَةِ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ: افْعَلْ، وَصِيغَةُ النَّهْيِ: لَا تَفْعَلْ، وَالنَّهْيُ يَلْزَمُهُ التَّكْرَارُ، وَالْفَوْرُ وَالْأَمْرُ يَلْزَمَانِهِ، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَكَمَا يَخْرُجُ الْمُكَلَّفُ عَنْ عُهْدَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِفِعْلِهِ، كَذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِتَرْكِهِ ; فَهَذَا مَعْنَى الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي النَّهْيَ «عَنِ السَّبَبِ الْمُفِيدِ حُكْمًا يَقْتَضِي فَسَادَهُ مُطْلَقًا» ، أَيْ: إِذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي يُفِيدُ حُكْمًا، اقْتَضَى فَسَادَهُ مُطْلَقًا، يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ، فِي الْعِبَادَاتِ، أَوْ فِي
(2/430)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُعَامَلَاتِ، وَذَلِكَ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَعَنِ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَفِي الْمَسْجِدِ، وَكَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَكَالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ، وَالشِّغَارِ، وَنِكَاحِ الْإِمَاءِ لِمَنْ لَا يُبَحْنَ لَهُ ; فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، عَلَى خِلَافٍ فِي بَعْضِهِ، «إِلَّا لِدَلِيلٍ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ، بَلِ الْإِثْمُ بِفِعْلٍ لِسَبَبٍ أَوْ كَرَاهَتِهِ، وَذَلِكَ كَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ، أَوِ النَّجَشِ، وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْهَا، لَكِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْمَذْكُورَ لَا
(2/431)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَقْتَضِي فَسَادَهَا عَلَى الْأَظْهَرِ. نَعَمْ يَحْرُمُ تَعَاطِيهَا، أَوْ يُكْرَهُ لِأَجْلِ النَّهْيِ.
- قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، لَا لِغَيْرِهِ، لِجَوَازِ الْجِهَتَيْنِ» ، أَيْ: وَقِيلَ: النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ لِعَيْنِهِ يَقْتَضِي فَسَادَهُ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ لِغَيْرِهِ لَا يَقْتَضِي فَسَادَهُ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ جِهَتَانِ، هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ إِحْدَاهُمَا، مَكْرُوهٌ مِنَ الْأُخْرَى، كَمَا قِيلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ ; فَلَوْ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ لِعَيْنِهَا، أَيْ: لِكَوْنِهَا صَلَاةً، اقْتَضَى فَسَادَهَا مُطْلَقًا، وَإِذَا نَهَى عَنْهَا لِمَا لَابَسَهَا مِنْ مَعْصِيَةِ الْغَصْبِ، لَمْ يَقْتَضِ فَسَادَهَا، وَكَذَلِكَ الْكُفْرُ، لَمَّا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِكَوْنِهِ كُفْرًا، اقْتَضَى النَّهْيُ فَسَادَهُ، بِمَعْنَى أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَثَرٌ مِنْ آثَارِهِ، بَلْ آثَارُهُ وَأَحْكَامُهُ الْوَاقِعَةُ فِيهِ مِمَّا يُنَافِي حُكْمَ الْإِسْلَامِ، بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا يُقَرُّ أَهْلُهَا عَلَى بَعْضِهَا، حَيْثُ يُقَرُّونَ عَلَيْهَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، كَأَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ وَعُقُودِهِمْ، لَا لِكَوْنِهَا صَحِيحَةً، بِخِلَافِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ النَّجَشِ وَالتَّلَقِّي، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لَا لِكَوْنِهِ بَيْعًا، بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ النَّهْيَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْجُمْلَةِ، لَكِنْ إِذَا تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ لِعَيْنِهِ، كَانَ أَمَسَّ بِهِ وَأَخَصَّ ; فَقَوِيَ عَلَى التَّأْثِيرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نُهِيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ ضَعِيفٌ، وَالْأَصْلُ يَقْتَضِي صِحَّةَ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ ; فَلَا يَقْوَى هَذَا السَّبَبُ الضَّعِيفُ عَلَى رَفْعِ هَذَا الْأَصْلِ الْقَوِيِّ، وَأَيْضًا النَّهْيُ عَنْهُ لِعَيْنِهِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَهُ مَنْشَأُ
(2/432)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَفْسَدَةِ الْمَطْلُوبِ إِعْدَامُهَا ; فَتَكُونُ مَفْسَدَتُهُ ذَاتِيَّةً ; فَيَقْوَى مُقْتَضَى إِعْدَامِهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْسَدَتَهُ عَرَضِيَّةٌ، مَنْشَؤُهَا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْهُ ; فَيَضْعُفُ الْمُقْتَضِي لِإِعْدَامِهَا.
- قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: فِي الْعِبَادَاتِ، دُونَ الْمُعَامَلَاتِ، وَنَحْوِهَا» مِنَ الْعُقُودِ. هَذَا قَوْلٌ آخَرُ، بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنْ فَعَلْتَ، تَرَتَّبَ الْحُكْمُ نَحْوَ: لَا تَطَأْ جَارِيَةَ وَلَدِكَ، فَإِنْ فَعَلْتَ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَكَ، وَلَا تُطَلِّقْ فِي الْحَيْضِ، فَإِنْ فَعَلْتَ، وَقَعَ، وَلَا تَغْسِلِ الثَّوْبَ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ، فَإِنْ فَعَلْتَ، طَهُرَ، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
«أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِبَادَةَ قُرْبَةٌ، وَارْتِكَابُ النَّهْيِ مَعْصِيَةٌ ; فَيَتَنَاقَضَانِ» ، إِذِ الْمَعَاصِي لَا يُتَقَرَّبُ بِهَا كَمَا سَبَقَ «بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ» ; فَإِنَّهَا لَيْسَتْ قُرَبًا ; فَلَا يُنَاقِضُهَا ارْتِكَابُ النَّهْيِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَبِعْ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَلَا تَنْجُشْ، وَلَا تَتَلَقَّ الرُّكْبَانَ، فَإِنْ فَعَلْتَ، أَثِمْتَ وَأَفَدْتَ الْمِلْكَ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ ; فَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَهُوَ إِنَّمَا أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ ; فَيَبْقَى فِي عُهْدَةِ الْأَمْرِ، وَلَا يَعْنِي بِالْفَسَادِ إِلَّا هَذَا، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ لِلْعِبَادَةِ لَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ فَسَادَ الْمُعَامَلَاتِ بِالنَّهْيِ، يَضُرُّ بِالنَّاسِ، وَفَسَادَ الْعِبَادَاتِ لَا يَضُرُّ بِهِمْ.
بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ فَسَادَ الْمُعَامَلَاتِ، يُفْضِي إِلَى «قَطْعِ مَعَايِشِ النَّاسِ أَوْ
(2/433)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَقْلِيلِهَا» فَرَاعَى الشَّرْعُ مَصْلَحَتَهُمْ بِتَصْحِيحِهَا، وَعَلَيْهِمْ إِثْمُ ارْتِكَابِ النَّهْيِ، وَالصِّحَّةُ مَعَ الْإِثْمِ لَا يَتَنَافَيَانِ.
وَبَيَانُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ حَقُّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ; فَتَعْطِيلُهَا بِإِفْسَادِهَا بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَا يَضُرُّ بِهِ، بَلْ مَنْ أَوْقَعَهَا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، أَطَاعَ، وَمَنْ لَمْ يُوقِعْهَا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ، عَصَى، وَأَمْرُ الْجَمِيعِ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، أَعْنِي الْمُطِيعَ وَالْعَاصِيَ، أَيْ: لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَيُثِيبَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، بِحَسَبِ سَوَابِقِهِمْ عِنْدَهُ، إِذْ ذَلِكَ وَقْتَ ظُهُورِ سِرِّ اللَّهِ فِيهِمْ، وَنَحْنُ كَلَامُنَا فِي ظَاهِرِ التَّكْلِيفِ، وَهُوَ مَا قُلْنَاهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي آخَرِينَ» ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: «أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَصَوُّرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ» ، يَعْنِي أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا اسْتَحَالَ أَنْ يُقَالَ لِلْأَعْمَى: لَا تُبْصِرْ، وَلِلزَّمِنِ: لَا تَطِرْ، وَالْأَخْرَسِ: لَا تَنْطِقْ، عَلِمْنَا أَنَّ اسْتِحَالَةَ النَّهْيِ عَنْهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صِحَّةَ النَّهْيِ تَعْتَمِدُ تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; فَحَيْثُ وَرَدَ النَّهْيُ، دَلَّ عَلَى وُجُودِ مَا يَعْتَمِدُهُ، وَهُوَ تَصَوُّرُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; فَيَكُونُ صَحِيحًا ; فَلِذَلِكَ صَحَّحُوا التَّصَرُّفَ بِالْوَطْءِ وَغَيْرِهِ ; فِيمَا اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا، وَصَحَّحُوا بَيْعَ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي أَحَدِهِمَا، وَيَجِبُ رَدُّ الْآخَرِ ; لِأَنَّ النَّهْيَ دَلَّ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالصِّحَّةُ تَرَتُّبُ الْآثَارِ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ.
(2/434)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «فَإِنْ أَرَادَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا اسْتِفْسَارٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي «الصِّحَّةَ الْعَقْلِيَّةَ» وَهِيَ «الْإِمْكَانُ، الَّذِي هُوَ شَرْطُ الْوُجُودِ» ، أَيْ: كَوْنُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُمْكِنَ الْوُجُودِ لَا مُمْتَنِعَهُ ; فَنَعَمْ يَصِحُّ مَا قُلْتُمُوهُ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الصِّحَّةَ الشَّرْعِيَّةَ، أَيْ: الْمُسْتَفَادَ مِنَ الشَّرْعِ، وَهِيَ تَرَتُّبُ آثَارِ الشَّيْءِ شَرْعًا عَلَيْهِ ; فَذَلِكَ تَنَاقُضٌ، إِذْ يَصِيرُ مَعْنَاهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: النَّهْيُ شَرْعًا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ صِحَّةُ كُلِّ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، وَقَدْ أَبْطَلُوا هُمْ مِنْهُ أَشْيَاءَ، كَبَيْعِ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي - فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، وَعُرْفِ الشَّرْعِ - إِعْدَامَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ; لِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ، بَلْ وَغَيْرَ عَاقِلٍ، إِذَا أَرَادَ عَدَمَ فِعْلٍ مَا، قَالَ لِمَنْ خَشِيَ صُدُورَهُ مِنْهُ: لَا تَفْعَلْهُ، وَلَا يَقُولُ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ إِيجَادَ ذَلِكَ الْفِعْلِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى النَّهْيِ إِعْدَامُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ تَرَتُّبُ آثَارِهِ مَعَ إِعْدَامِهِ تَنَاقُضٌ مُحَالٌ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ الصِّحَّةَ إِمَّا عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ إِمْكَانُ الشَّيْءِ، وَقَبُولُهُ لِلْعَدَمِ وَالْوُجُودِ، كَمَا سَبَقَ، أَوْ عَادِيَّةٌ، كَالْمَشْيِ أَمَامًا، وَيَمِينًا، وَشِمَالًا، دُونَ الصُّعُودِ فِي الْهَوَاءِ، أَوْ شَرْعِيَّةٌ، وَهِيَ الْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ ; فَيَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إِلَّا التَّحْرِيمَ، إِذْ لَا إِذْنَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ دَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الصِّحَّةَ الْعَقْلِيَّةَ أَوِ الْعَادِيَّةَ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
أَمَّا الشَّرْعِيَّةُ ; فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ، أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ دَلِيلُهُمْ
(2/435)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا يَمَسُّ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَيَرْجِعُ الْخِلَافُ لَفْظِيًّا عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ تَجَاوَزُوا اللَّفْظَ إِلَى الْمَعْنَى بِغَيْرِ حُجَّةٍ، إِذْ يَصِيرُ تَقْدِيرُ قَوْلِهِمْ: النَّهْيُ يَقْتَضِي إِمْكَانَ وُجُودِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَتَقْدِيرُ قَوْلِنَا: النَّهْيُ لَا يَقْتَضِي إِذْنَ الشَّرْعِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَوْ يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِذْنِ فِيهِ، وَهُوَ صَحِيحٌ بِمَا بَرْهَنَّا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَا يَقْتَضِي» ، يَعْنِي النَّهْيَ ; «فَسَادًا وَلَا صِحَّةً» ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ ; «لِأَنَّ النَّهْيَ خِطَابٌ تَكْلِيفِيٌّ» ، أَيْ: مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ اللَّفْظِيِّ، «وَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ» مِنْ قَبِيلِ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ كَمَا سَبَقَ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ، أَعْنِي الْخِطَابَ التَّكْلِيفِيَّ وَالْوَضْعِيَّ، رَابِطٌ عَقْلِيٌّ حَتَّى يَقْتَضِيَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، «وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْإِثْمِ بِهِ» لَا فِي صِحَّتِهِ، كَمَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا فِي فَسَادِهِ كَمَا يَقُولُ غَيْرُهُ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِالْإِثْمِ بِفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ صِحَّةٌ أَوْ فَسَادٌ ; فَذَلِكَ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ.
قَوْلُهُ: «وَلَنَا عَلَى فَسَادِهِ» ، أَيْ: عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ كَانَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ، أَيْ: مَرْدُودُ الذَّاتِ، هَذَا مُقْتَضَاهُ، وَمَا كَانَ
(2/436)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَرْدُودَ الذَّاتِ، كَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءً، لَكِنَّ رَدَّ ذَاتِهِ بَعْدَ وُجُودِهَا فِي الْوُجُودِ بِالْفِعْلِ مُحَالٌ ; فَيَبْقَى مَرْدُودًا فِيمَا عَدَاهَا مِنْ آثَارِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، لِيَصِحَّ كَوْنُ عَدَمِهِ وَوُجُودِهِ سَوَاءً، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهِ فَاسِدًا.
- الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا «عَلَى اسْتِفَادَةِ فَسَادِ الْأَحْكَامِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ أَسْبَابِهَا» ، كَاسْتِفَادَتِهِمْ فَسَادَ الرِّبَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَاسْتَدَلَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [الْبَقَرَةِ: 221] ، وَعَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الْمُحْرِمِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْمُحْرِمُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْقَضَايَا الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ هُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ الْمَذْكُورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَدَرَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ; فَهُوَ إِجْمَاعٌ نُطْقِيٌّ فِعْلِيٌّ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ ; فَالنَّكِيرُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ لَمْ يُنْقَلْ، وَالْعَادَةُ تَقْتَضِي نَقْلَ مِثْلِهِ ; فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ وَبِدُونِهِ.
(2/437)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى تَعَلُّقِ الْمَفْسَدَةِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، وَإِعْدَامُ الْمَفْسَدَةِ مُنَاسِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا، أَمَّا الْأَوَّلُ ; فَلِأَنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ لَا يَنْهَى عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَإِذَا انْتَفَى نَهْيُهُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ مَفْسَدَةٍ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي ; فَلِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ ضَرَرٌ عَلَى النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَشَيْنٌ يَجِبُ أَنْ تُنَزَّهَ عَنْهُ الْعِبَادَاتُ، وَإِعْدَامُ الضَّرَرِ مُنَاسِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا عَمَلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ.
- الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي اجْتِنَابَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِوَضْعِ اللُّغَةِ، وَعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَتَصْحِيحُ حُكْمِهِ يَقْتَضِي مُلَابَسَتَهُ وَقُرْبَانَهُ، وَاجْتِنَابُهُ وَقُرْبَانُهُ مُتَنَاقِضَانِ، وَالشَّرْعُ بَرِيءٌ مِنَ التَّنَاقُضِ وَمِمَّا يُفْضِي إِلَيْهِ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
(2/438)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَالْمُخْتَارُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ مِنَ الْإِطْلَاقَاتِ الْوَاقِعَةِ فِيهَا، وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِذَاتِهِ، أَوْ لِوَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ، لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَصْلًا، أَوْ لِوَصْفٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ، لَكِنَّهُ عَارِضٌ فِيهِ، غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ.
- فَإِنْ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِذَاتِهِ كَالْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُسْتَقْبَحِ لِذَاتِهِ عَقْلًا، عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ، أَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الشَّرْعَ قَالَ: نَهَيْتُ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا، أَوْ نِكَاحِ الشِّغَارِ وَالْمُتْعَةِ لِذَاتِهِ ; كَانَ هَذَا النَّهْيُ مُبْطِلًا، أَيْ: دَالًا عَلَى بُطْلَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ لِوَصْفٍ لَازِمٍ لَهُ، كَالنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ، وَعَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ كَافِرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْقِيَامِ وَالِاسْتِيلَاءِ وَالسَّبِيلِ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ; فَيَبْطُلُ لِهَذَا الْوَصْفِ اللَّازِمِ لَهُ.
وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهِ عَقْلًا، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي دَارٍ ; لِأَنَّ فِيهَا صَنَمًا مَدْفُونًا أَوْ كَافِرًا مَسْجُونًا، أَوْ شَرْعًا كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ خَشْيَةَ أَنْ يُقَامَرَ بِهِ، أَوْ عَنْ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَشْيَةَ أَنْ يَقْطَعُوا بِهِ الطَّرِيقَ، أَوْ عَنْ بَيْعِ الرَّقِيقِ مُطْلَقًا خَشْيَةَ الْفُجُورِ بِهِ، أَوْ عَنْ غَرْسِ الْعِنَبِ أَوْ بَيْعِهِ خَشْيَةَ أَنْ يُعْصَرَ خَمْرًا وَنَحْوِهِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ النَّهْيُ مُبْطِلًا وَلَا مَانِعًا ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ تَعَلُّقًا عَقْلِيًّا، بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْأَفْعَالَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِتِلْكَ الْمَفَاسِدِ، لَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِهَا شَرْعًا لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُعْهَدْ مِنْهُ الِالْتِفَاتُ فِي الْمَنْعِ إِلَى هَذَا التَّعَلُّقِ الْعَقْلِيِّ الْبَعِيدِ.
(2/439)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ لِوَصْفٍ لَهُ، لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ; فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، إِذْ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ وَصْفًا لِلْفِعْلِ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْهُ لِذَاتِهِ، أَوْ لِوَصْفٍ لَازِمٍ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْهُ لَأَمْرٍ خَارِجٍ، وَهُوَ أَوْلَى تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْعَرَضِيَّةِ عَلَى جَانِبِ الْوَصْفِيَّةِ، إِذْ بِكَوْنِهِ عَارِضًا يَضْعُفُ كَوْنُهُ وَصْفًا ; فَلَا يُلْحَقُ بِالْوَصْفِ اللَّازِمِ ; لِأَنَّ لُزُومَهُ يُؤَكِّدُ وَصْفِيَّتَهُ وَيُقَوِّيهَا، كَمَا قَالَ النُّحَاةُ فِي التَّأْنِيثِ اللَّازِمِ حَيْثُ أَقَامُوهُ مَقَامَ شَيْئَيْنِ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ نَظَرًا إِلَى التَّأْنِيثِ وَلُزُومِ التَّأْنِيثِ.
وَمِمَّا يَصْلُحُ مِثَالًا لِهَذَا الْقِسْمِ النَّهْيُ عَنِ الْبَيْعِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْعُقُودِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ، لِكَوْنِهِ بِالْجُمْلَةِ مُتَّصِفًا بِكَوْنِهِ مُفَوِّتًا لِلْجُمُعَةِ، أَوْ مُفْضِيًا إِلَى التَّفْوِيتِ بِالتَّشَاغُلِ بِالْبَيْعِ، لَكِنَّ هَذَا الْوَصْفَ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنْ يَعْقِدَ مِائَةَ عَقْدٍ مَا بَيْنَ النِّدَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ يُدْرِكُهَا ; فَلَا تَفُوتُ ; فَالْأَوْلَى فِي هَذَا الْعَقْدِ الصِّحَّةُ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: ضَعْفُ الْمَانِعِ لِصِحَّتِهِ، وَهُوَ هَذَا الْوَصْفُ الضَّعِيفُ الْعَرَضِيُّ.
الثَّانِي: مُعَارَضَتُهُ بِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ، خُصُوصًا فِي مُعَامَلَاتِهِمُ الَّتِي رَاعَى الشَّرْعُ مَصَالِحَهُمْ فِيهَا ; فَلَا يُتْرَكُ هَذَا الْأَصْلُ إِلَّا لِدَلِيلٍ قَوِيٍّ سَالِمٍ عَنْ مَعَارِضٍ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فِي وَصْفِ التَّفْوِيتِ الْمَذْكُورِ، إِذْ هُوَ
(2/440)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضَعِيفٌ لِعَرَضِيَّتِهِ، وَعَدَمُ لُزُومِهِ مُعَارِضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّ ضَعْفَ الْمَانِعِ، وَقُوَّةَ الْمُعَارِضِ الْمَذْكُورَيْنِ، تَعَاضَدَا عَلَى تَخْصِيصِ النَّصِّ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمْعَةِ: 9] ، إِذْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بَيْعٌ خَاصٌّ، وَهُوَ الْمُفَوِّتُ لِلصَّلَاةِ، مِثْلُ أَنْ يَشْرَعَ فِي مُسَاوَمَةِ بَيْعٍ تَتَطَاوَلُ مُدَّتُهُ عِنْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَصِحَّةُ الْبَيْعِ عِنْدَ النِّدَاءِ تُكْرَهُ وَلَا تَفْسُدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ وَجْهٌ مُخَرَّجٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوِيٌّ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِظَاهِرِ النَّهْيِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَضْعِيفِ اقْتِضَائِهِ الْبُطَلَانَ وَارِدٌ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
تَكْمِلَةٌ لِمَسْأَلَةِ النَّهْيِ:
قَالَ الْآمِدِيُّ: مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ عَيْنِ التَّصَرُّفِ الْمُفِيدِ لِحُكْمِهِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ أَوِ الشَّرْعِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَمَذْهَبُ الْقَفَّالِ، وَالْغَزَّالِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّيْنِ، وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ: أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ بَلْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
- أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: نَهَيْتُكَ عَنْ ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. لِعَيْنِهِ أَوْ لِعَيْنِ الذَّبْحِ، لَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ، حَلَّتِ الذَّبِيحَةُ، لَمْ يَكُنْ مُتَنَاقِضًا لُغَةً.
(2/441)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ النَّهْيَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِمَقْصُودٍ، سَوَاءٌ ظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ فِيهِ، أَوْ خَفِيَتْ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَنْ حِكْمَةٍ. ثُمَّ مَقْصُودُ النَّهْيِ إِمَّا رَاجِحٌ عَلَى مَقْصُودِ الصِّحَّةِ، أَوْ مُسَاوٍ لَهُ، أَوْ مَرْجُوحٌ، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا ; لِأَنَّ النَّهْيَ طَلَبٌ، وَالطَّلَبُ يَعْتَمِدُ الرُّجْحَانَ ; فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ مَرْجُوحًا، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِذَلِكَ بِعَيْنِهِ ; لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ ; فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ مَقْصُودَ النَّهْيِ رَاجِحٌ ; فَيَكُونُ مَقْصُودُ الصِّحَّةِ مَرْجُوحًا، وَالْمَرْجُوحُ مَعَ الرَّاجِحِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ; فَمَقْصُودُ الصِّحَّةِ مَعَ مَقْصُودِ النَّهْيِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ ; فَيَكُونُ مَقْصُودُ النَّهْيِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِاقْتِضَائِهِ الْفَسَادَ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ ذَكَرْتُ بَعْضَهُ بِلَفْظِهِ، وَبَعْضَهُ بِمَعْنَاهُ، تَحْصِيلًا لِلْإِيضَاحِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَائِدَةٌ: ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِي مُقْتَضَى النَّهْيِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: الْفَسَادُ مُطْلَقًا إِلَّا لِدَلِيلٍ.
الثَّانِي: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا إِذَا نُهِيَ عَنْهُ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
الْخَامِسُ: لَا يَقْتَضِي صِحَّةً وَلَا فَسَادًا.
السَّادِسُ: التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
السَّابِعُ: التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ.
وَقَدْ سَبَقَ تَوْجِيهُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
فَوَائِدُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ:
- إِحْدَاهُنَّ: قَدْ سَبَقَ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: الْوُجُوبُ.
وَثَانِيهَا: النَّدْبُ.
(2/442)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَثَالِثُهَا: الْإِبَاحَةُ.
وَرَابِعُهَا: الْوَقْفُ.
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أُخَرَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.
وَقَدْ سَبَقَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْأَمْرِ لِلنَّدْبِ.
الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ ; لِأَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ وَعَدَمُ الْمَجَازِ لِمَا سَبَقَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، أَيْ: لَا يُعْلَمُ هَلْ هُوَ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ ; لِأَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَجَازِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ أَخَصُّ بِأَحَدِهِمَا فَيُتَوَقَّفُ فِيهِ، وَيُجْعَلُ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ.
فَصَارَتِ الْأَقْوَالُ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ سَبْعَةً.
- وَقَدْ ذَكَرَ الْأُصُولِيُّونَ فِي مُقْتَضَى النَّهْيِ نَظَائِرَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي الْأَمْرِ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لِلْوَقْفِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّرْكِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لِلْكَرَاهَةِ أَنَّ جَوَازَ الْفِعْلِ هَاهُنَا مُسْتَفَادٌ مِنَ الْأَصْلِ، وَفِيمَا إِذَا جُعِلَ لِلْكَرَاهَةِ، يَكُونُ جَوَازُ الْفِعْلِ مُسْتَفَادًا مِنَ اللَّفْظِ، كَمَا سَبَقَ فِي نَظِيرِهِ فِي الْأَمْرِ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّ لَفْظَ النَّهْيِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ.
(2/443)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ لِأَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ ; فَيَكُونُ مُجْمَلًا فِيهِمَا.
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ عَنِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ; فَحَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، وَالنَّهْيَ عَلَى التَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ مُعْتَمَدَ الْأَمْرِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ، وَمُعْتَمَدَ النَّهْيِ نَفْيُ الْمَفْسَدَةِ، وَعِنَايَةُ الْحُكَمَاءِ بِنَفْيِ الْمَفَاسِدِ أَشَدُّ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ.
- قُلْتُ: الْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ بِطَبْعِهِ وَعَقْلِهِ يُؤْثِرُ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى تَحْصِيلِ النَّفْعِ لَهَا إِذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَحَدِهِمَا ; لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ كَرَأْسِ الْمَالِ، وَتَحْصِيلَ النَّفْعِ كَالرِّبْحِ، وَالْأَوَّلُ أَهَمُّ مِنَ الثَّانِي، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ جَمِيعًا، هَلْ يَقْتَضِيَانِ التَّكْرَارَ أَمْ لَا، وَقَدْ سَبَقَ تَوْجِيهُ الْخِلَافِ فِي الْأَمْرِ ; فَمَنْ يَرَاهُ لِلتَّكْرَارِ، جَعَلَ الْأَوَامِرَ الْمُصَرِّحَةَ أَوِ الْقَاطِعَةَ بِالتَّكْرَارِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [الْبَقَرَةِ: 238] ، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الْمَعَارِجِ: 34] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ. الْحَدِيثَ، وَنَحْوِهِ مِنَ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ بِتَكْرَارِ
(2/444)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 110] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [الْبَقَرَةِ: 183] ; لِأَنَّ هَذَا وَحْدَهُ اسْتَقَلَّ بِإِفَادَةِ التَّكْرَارِ، فَلَمْ تَبْقَ لِغَيْرِهِ إِلَّا فَائِدَةُ التَّأْكِيدَ.
وَمَنْ لَا يَرَى الْأَمْرَ لِلتَّكْرَارِ، يَقُولُ: مُقْتَضَى الْأَمْرِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَأْمُورَاتِ وَغَيْرِهَا الْخُرُوجُ مِنْ عُهْدَتِهَا بِفِعْلِهَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا ثَبَتَ تَكْرَارُ مَا وَجَبَ تَكْرَارُهُ مِنْهَا بِأَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ مُنْفَصِلَةٍ أَفَادَتِ التَّكْرَارَ زِيَادَةً عَلَى مُقْتَضَى الْأَمْرِ.
وَعَلَى هَذَا يَتَرَجَّحُ الْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّكْرَارِ ; لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمَذْكُورَةَ بِتَقْدِيرِهِ تَكُونُ مُؤَسِّسَةً، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مُؤَكِّدَةً، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ.
وَيَتَّجِهُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: النُّصُوصُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ لِلتَّأْسِيسِ وَلَا لِلتَّأْكِيدِ، بَلْ هِيَ لِلتَّبْيِينِ فَإِنَّ الْكِتَابَ يُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَالسُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ ; فَالنُّصُوصُ الْمُفِيدَةُ لِلتَّكْرَارِ مُبَيِّنَةٌ لِلنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مَدْلُولَ الْبَيَانِ بِالْفِعْلِ مَوْجُودٌ فِي الْمُبَيَّنِ بِالْقُوَّةِ ; فَقَوْلُ الشَّارِعِ: صَلُّوا فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَزَكُّوا، وَصُومُوا فِي كُلِّ سَنَةٍ، مُبَيِّنٌ لِقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ; فَتَكُونُ هَذِهِ النُّصُوصُ مُشْتَمِلَةً عَلَى اقْتِضَاءِ التَّكْرَارِ، لَكِنَّ اشْتِمَالًا خَفِيًّا ظَهَرَ بِالْبَيَانِ. وَعَلَى هَذَا يَتَّجِهُ الْقَوْلُ بِاقْتِضَاءِ الْأَمْرِ التَّكْرَارَ.
وَأَمَّا النَّهْيُ ; فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، لِاقْتِضَائِهِ
(2/445)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْكَفَّ أَبَدًا عَلَى تَكَرُّرِ الْأَزْمِنَةِ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ لَا يُوجَدَ عَاصٍ أَصْلًا ; لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْ فِعْلٍ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ النَّهْيِ بِتَرْكِهِ مَرَّةً فِي زَمَنٍ مَا، كَمَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ مَرَّةً فِي زَمَنٍ مَا عِنْدَ مَنْ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ فِيهِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَرَّةً فِي زَمَنٍ مَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَحَدٌ فِي الْعَادَةِ ; إِمَّا اضْطِرَارًا فِي حَالِ النَّوْمِ وَالْمَرَضِ وَالتَّشَاغُلِ بِالْمُبَاحَاتِ وَالْوَاجِبَاتِ، أَوِ اخْتِيَارًا، إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنَّ أَحَدًا يُلَازِمُ فِعْلَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا يَفْتُرُ مِنْهُ زَمَنًا مِنَ الْأَزْمَانِ حَتَّى يَمُوتَ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الزِّنَى مَرَّةً وَاحِدَةً بِنَوْمٍ، أَوْ صَلَاةٍ، أَوْ أَكْلٍ، أَوْ مَلَلٍ، أَوْ عَجْزٍ، أَوِ اسْتِحْيَاءٍ، أَوِ اخْتِيَارًا مَحْضًا، وَفَعَلَهُ فِي بَقِيَّةِ أَزْمَانِهِ أَنْ يَكُونَ مُطِيعًا خَارِجًا عَنْ عُهْدَةِ النَّهْيِ، وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ.
قُلْتُ: وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: هَذَا هُوَ مُقْتَضَى النَّهْيِ وَلَازِمُهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ، لَكِنِ انْتَفَى ذَلِكَ وَثَبَتَ تَكْرَارُ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْأَدِلَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ كَالْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ، وَنَحْنُ كَلَامُنَا فِيمَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ لُغَةً، لَا فِيمَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ شَرْعًا.
قُلْتُ: وَهَذَا جَوَابٌ سَدِيدٌ صَحِيحٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ يَتَخَرَّجُ عَلَى قَاعِدَةٍ ; وَهُوَ أَنَّ الِاقْتِضَاءَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي عَامٍّ نَحْوَ: أَكْرِمِ النَّاسَ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ، أَوْ مُطْلَقًا فِي مُطْلَقٍ، نَحْوَ: أَكْرِمْ رَجُلًا فِي يَوْمٍ مَا، أَوْ عَامًّا فِي مُطْلَقٍ، نَحْوَ: أَكْرِمِ النَّاسَ كُلَّهُمْ فِي يَوْمٍ مَا، أَوْ مُطْلَقًا فِي عَامٍّ، نَحْوَ: أَكْرِمْ رَجُلًا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ.
(2/446)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ; فَالْقَائِلُ: إِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ يَقُولُ: هُوَ مِنْ بَابِ اقْتِضَاءِ الْعَامِّ فِي الْعَامِّ، وَهُوَ اقْتِضَاءُ جَمِيعِ التُّرُوكِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ يَقُولُ: هُوَ مِنْ بَابِ اقْتِضَاءِ الْمُطْلَقِ فِي الْعَامِّ، وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ ; فَمَتَى لَابَسَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ، تَحَقَّقَ الْعِصْيَانُ، وَهَذَا مَعْنَى جَوَابِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.
قُلْتُ: فَمَأْخَذُ الْخِلَافِ إِذَنْ أَنَّ الْكَفَّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْأَزْمَانِ، هَلْ هُوَ تَرْكُ وَاحِدٍ نَظَرًا إِلَى جِنْسِ الْكَفِّ وَاتِّحَادِهِ، أَوْ تُرُوكٌ كَثِيرَةٌ نَظَرًا إِلَى أَشْخَاصِ الْأَزْمَانِ وَتَعَدُّدِهَا، وَعَلَى هَذَا ; فَالنَّافِي لِاقْتِضَاءِ النَّهْيِ التَّكْرَارَ قَدْ قَالَ بِهِ فِي الْمَعْنَى، إِذْ لَا مَعْنَى لِلتَّكْرَارِ إِلَّا التَّرْكُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ سَوَاءٌ جَعَلَهُ تَرْكًا وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ مَاهِيَّتِهِ الْبَسِيطَةِ، أَوْ تُرُوكًا بِاعْتِبَارِ أَزْمِنَتِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ شَرْطٍ، كَقَوْلِهِ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا، أَوْ صِفَةٍ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النُّورِ: 2] ، إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِلْفِعْلِ ; فَلَا خِلَافَ فِي تَكَرُّرِهِ بِتَكَرُّرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً، فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلتَّكْرَارِ ; فَهَاهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ لِلتَّكْرَارِ، اخْتَلَفُوا هَاهُنَا. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ عَدَمَهُ.
وَأَمَّا النَّهْيُ الْمُعَلَّقُ بِمَا يَتَكَرَّرُ ; فَمَنْ قَالَ: مُطْلَقُ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، أَثْبَتَ التَّكْرَارَ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَمَنْ قَالَ: لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، اخْتَلَفُوا: هَلْ يَقْتَضِيهِ أَمْ لَا؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَا عُرِفَ قَبْلُ.
(2/447)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ
الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ: الْعُمُومُ: قِيلَ: هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً، لِدَلَالَتِهَا عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا بِاعْتِبَارِ وُجُودَيْهَا: اللِّسَانِيِّ، وَالذِّهْنِيِّ، بِخِلَافِ الْمَعَانِي، لِتَمَايُزِهَا ; فَلَا يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ، إِذِ الْعُمُومُ لُغَةً: الشُّمُولُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَامِلٍ وَمَشْمُولٍ، كَالْكِلَّةِ وَالْعَبَاءَةِ لِمَا تَحْتَهُمَا.
وَالْعَامُّ: قِيلَ: هُوَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا مُطْلَقًا، وَاحْتَرَزَ بِالْوَاحِدِ عَنْ مِثْلِ: ضَرَبَ زَيْدٌ عُمْرًا، إِذْ هُمَا لَفْظَانِ، وَبِمُطْلَقًا عَنْ مِثْلِ عَشَرَةِ رِجَالٍ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لَا مُطْلَقًا، وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَأَجْوَدُ مِنْهُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ دَلَالَةً لَا تَنْحَصِرُ فِي عَدَدٍ.
وَقِيلَ: اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرَقُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ.
وَقِيلَ: اللَّفْظُ إِنْ دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ فَقَطْ ; فَهُوَ الْمُطْلَقُ أَوْ عَلَى وَحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ، كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو ; فَهُوَ الْعِلْمُ، أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، كَرَجُلٍ ; فَهُوَ النَّكِرَةُ، أَوْ عَلَى وَحَدَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; فَهِيَ إِمَّا بَعْضُ وَحَدَاتِ الْمَاهِيَّةِ ; فَهُوَ اسْمُ الْعَدَدِ كَعِشْرِينَ رَجُلًا، أَوْ جَمِيعُهَا ; فَهُوَ الْعَامُّ ; فَإِذَنْ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَاهِيَّةِ مَدْلُولِهِ، وَهُوَ أَجْوَدُهَا، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ إِلَى لَا أَعَمَّ مِنْهُ، كَالْمَعْلُومِ، أَوِ الشَّيْءِ، وَيُسَمَّى الْعَامَّ الْمُطْلَقَ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَإِلَى مَا لَا أَخُصَّ مِنْهُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَيُسَمَّى الْخَاصَّ الْمُطْلَقَ، وَإِلَى مَا بَيْنَهُمَا كَالْمَوْجُودِ وَالْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ النَّامِي وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ ; فَيُسَمَّى عَامًّا وَخَاصًّا إِضَافِيًّا، أَيْ: هُوَ خَاصٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ، عَامٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ» .
(2/448)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- أَيْ: هَذَا بَيَانُ الْقَوْلِ فِي أَحْكَامِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.
قَوْلُهُ: «الْعُمُومُ، قِيلَ: هُوَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً لِدَلَاتِهَا عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا بِاعْتِبَارِ وُجُودَيْهَا: اللِّسَانِيِّ وَالذِّهْنِيِّ، بِخِلَافِ الْمَعَانِي لِتَمَايُزِهَا ; فَلَا يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ.»
إِنَّمَا قُلْتُ: قِيلَ ; لِأَنِّي قَدْ رَجَّحْتُ خِلَافَ هَذَا بَعْدُ، وَهَذَا الْبَحْثُ يُوجَدُ فِي أَكْثَرِ كُتُبِ الْأُصُولِيِّينَ غَيْرَ مُحَقَّقٍ. وَوَجْهُ الْكَشْفِ عَنْهُ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: هَذَا الشَّيْءُ مِنْ عَوَارِضِ هَذَا الشَّيْءِ، أَيْ: مِمَّا يَعْرِضُ لَهُ وَيَلْحَقُهُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْعَرَضِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يَذْهَبُ وَيَجِيءُ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمَالُ وَالْمَرَضُ عَرَضًا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الْأَنْفَالِ: 67] ، وَفِي الْحَدِيثِ: هَذَا ابْنُ آدَمَ وَهَذِهِ الْأَعْرَاضُ إِلَى جَنْبِهِ، إِنْ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ نَهَشَتْهُ هَذِهِ. يُرِيدُ بِهِ الْآفَاتِ الَّتِي هُوَ مُعَرَّضٌ لَهَا وَهِيَ تَعْرِضُ لَهُ.
(2/449)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْعَرَضُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ، هُوَ مَا لَا يَدْخُلُ فِي حَقِيقَةِ الْجِسْمِ وَمَفْهُومِهِ، سَوَاءٌ كَانَ لَازِمًا لَا يُفَارِقُ، كَسَوَادِ الْغُرَابِ وَالْقَارِ، أَوْ مُفَارِقًا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَصُفْرَةِ الْوَجَلِ، وَحُمْرَةِ الْخَجَلِ.
وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُنَا: الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضَ الْأَلْفَاظِ، أَيْ: أَنَّهُ يَلْحَقُهَا، وَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي حَقِيقَتِهَا، وَهُوَ عَرَضٌ لَازِمٌ لِمَا لَحِقَهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَهُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَهِيَ الَّتِي وَضَعَهَا الْوَاضِعُ لِتَدُلَّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ مَا وُضِعَتْ لَهُ.
وَمَعْنَى قَوْلِنَا: الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً، أَيْ: أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَعْرِضُ إِلَّا لِصِيغَةٍ لَفْظِيَّةٍ، كَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِيَغِهِ، كَمَا أَنَّ الصِّحَّةَ وَالسَّقَمَ لَا يَعْرِضَانِ بِالْحَقِيقَةِ إِلَّا لِلْحَيَوَانِ، وَالِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ لَا يَعْرِضَانِ بِالْحَقِيقَةِ إِلَّا لِلْجِسْمِ، فَإِذَا قُلْنَا: هَذَا اللَّفْظُ عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ لِعُمُومِ اللَّفْظِ ; فَإِضَافَةُ الْعُمُومِ إِلَى اللَّفْظِ وَوَصْفُهُ بِهِ حَقِيقَةً، كَمَا أَنَّا إِذَا قُلْنَا: هَذَا حَيَوَانٌ صَحِيحٌ أَوْ سَقِيمٌ، وَهَذَا جِسْمٌ مُتَّصِلٌ أَوْ مُنْفَصِلٌ، كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً.
وَإِذَا أَضَفْنَا الْعُمُومَ إِلَى الْمَعَانِي، كَقَوْلِنَا: هَذَا حُكْمٌ عَامٌّ، وَخِصْبٌ أَوْ جَدْبٌ عَامٌّ، أَوْ بَلَاءٌ أَوْ رَخَاءٌ عَامٌّ، وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ، كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا، أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّ الْمَعْنَى بِحَسَبِ الْأَصْلِ أَنْ يُوصَفَ بِالْعُمُومِ، إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الِاسْتِعَارَةِ ; إِمَّا مِنَ اللَّفْظِ أَوْ نَظَرًا إِلَى شُمُولِ مَجْمُوعِ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِمَجْمُوعِ مَحَالِّهِ، كَمَا إِذَا قُلْنَا: هَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ أَوْ سَقِيمٌ، أَوْ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ أَوْ مُنْفَصِلٌ، كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ فِي الْجِسْمِ، وَسَيَتَّضِحُ هَذَا بِمَا بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(2/450)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- وَقَوْلُهُ: «لِدَلَالَتِهَا عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا بِاعْتِبَارِ وُجُودَيْهَا اللِّسَانِيِّ وَالذِّهْنِيِّ» ، أَيْ: إِنَّمَا كَانَ الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ بِالْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَعَانِي لِدَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا بِاعْتِبَارِ وَجُودِهَا فِي اللِّسَانِ وَوُجُودِهَا فِي الذِّهْنِ.
وَتَقْرِيرُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَعْلُومٍ ; فَلَهُ ثَلَاثُ وُجُودَاتٍ:
وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ، كَعَيْنِ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الرَّجُلِ، أَوِ الْإِنْسَانِ.
وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ، وَهُوَ لَفْظُ اسْمِهِ الدَّالُّ عَلَيْهِ كَلَفْظِ الرَّجُلِ أَوِ الْإِنْسَانِ الدَّالِّ عَلَى مُسَمَّاهُ ; فَهَذَا اللَّفْظُ وُجُودُهُ فِي اللِّسَانِ.
وَوُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ: وَهُوَ صُورَةُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْحَاصِلَةُ فِي الذِّهْنِ، كَصُورَةِ الرَّجُلِ وَالْإِنْسَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَوْجُودَاتِ، هُوَ أَنَّ الْوُجُودَ الذِّهْنِيَّ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَلَا اللُّغَاتِ، فَإِنَّ صُورَةَ الرَّجُلِ وَالْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَجُلٌ وَإِنْسَانٌ وَاحِدَةٌ لَا يَقَعُ فِي الذِّهْنِ تَفَاوُتٌ بَيْنَهُمَا بِالْخَوَاصِّ الْعَارِضَةِ، بَلْ هُوَ بِأْخْذِ الْمَاهِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ أَشْخَاصِ الرَّجُلِ وَالْإِنْسَانِ ; فَالْوَلِيدُ وَالرَّضِيعُ وَالْعَظِيمُ وَالْمُرَاهِقُ وَالْفَتَى وَالْكَهْلُ وَالشَّيْخُ الْهِمُّ، كُلٌّ مِنْهُمْ رَجُلٌ وَإِنْسَانٌ فِي الذِّهْنِ عَلَى السَّوَاءِ، وَهُوَ سَوَاءٌ فِي ذِهْنِ الْعَرَبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ بِخِلَافِ الْوُجُودَيْنِ: الْعَيْنِيِّ، وَاللِّسَانِيِّ ; فَإِنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ، لَكِنَّ الْعَيْنِيَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْخَوَاصِّ، فَإِنَّ زَيْدًا الطَّوِيلَ غَيْرُ زَيْدٍ الْقَصِيرِ، وَعَمْرٌو الْعَالِمُ غَيْرُ عَمْروٍ الْجَاهِلِ، وَالْفَطِيمُ أَكْبَرُ مِنَ الْوَلِيدِ، وَالْبَالِغُ أَقْوَى مِنَ الصَّبِيِّ، وَهَذَا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ غَيْرُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ ; فَالِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
(2/451)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاللَّفْظِيُّ يَخْتَلِفُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَلْفَاظِ وَاللُّغَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ ; فَقَوْلُنَا لِلْبَعِيرِ مَثَلًا: جَمَلٌ، دُوَا، أَشْتَرْ. هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ الْعَرَبِيِّ وَالتُّرْكِيِّ وَالْعَجَمِيِّ، وَالْمَدْلُولُ وَاحِدٌ.
وَالْفَرْقُ أَيْضًا بَيْنَ الْوُجُودِ اللِّسَانِيِّ والْوُجُودَيْنِ الْآخَرَيْنِ هُوَ أَنَّ الْوُجُودَ اللِّسَانِيَّ دَلِيلٌ، وَالْآخَرَانِ مَدْلُولٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَةَ زَيْدٍ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِنْسَانِ الْخَاصِّ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ الْمُطَابِقِ لِصُورَتِهِ الْمَوْجُودَةِ فِي الذِّهْنِ ; فَهُمَا مَدْلُولَانِ لِلَّفْظِ وَهُوَ دَلِيلٌ لَهُمَا.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا ; فَمَعْنَى دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا بِاعْتِبَارِ وُجُودَيْهَا: اللِّسَانِيِّ، وَالذِّهْنِيِّ، هُوَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: الرِّجَالُ، دَلَّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى مُسَمَّاهُ بِاعْتِبَارَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُفِيدُ بِالْوَضْعِ أَوْ بِالِاسْتِعْمَالِ جَمَاعَةَ أَشْخَاصٍ مِنْ ذُكُورِ بَنِي آدَمَ، وَهُوَ الْوُجُودُ اللِّسَانِيُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الصُّورَةِ الْمُطَابِقَةِ لِتِلْكَ الْأَشْخَاصِ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَعَانِي ; فَإِنَّهَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ بِتَمَايُزِ مِحَالِّهَا ; فَلَا يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ; فَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِهَا حَقِيقَةً.
وَتَحْقِيقُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي مِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَدُلُّ عَلَى مَا تَحْتَهُ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ دَلَالَةً وَاحِدَةً مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَصَّ بَعْضُ مُسَمَّيَاتِهِ بِبَعْضِهِ، كَلَفْظِ الْكُفَّارِ، الدَّالِّ عَلَى آحَادٍ كَثِيرَةٍ كَفَّارٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَصَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِبَعْضِ لَفْظِ الْكُفَّارِ، بِخِلَافِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ مَحَالَّهَا
(2/452)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا، كَقَوْلِنَا رُخْصٌ عَامٌّ وَبَلَاءٌ عَامٌّ، فَإِنَّ الْخِصْبَ وَالْبَلَاءَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ غَيْرُهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ ; فَرُخْصُ مِصْرَ غَيْرُ رُخْصِ دِمَشْقَ، وَرَخَاءُ بَغْدَادَ غَيْرُ رَخَاءِ الصِّينِ، وَأَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ الْمَطَرُ، إِذَا قُلْنَا: هَذَا مَطَرٌ عَامٌّ، أَيْ: شَامِلٌ لِلْأَمْكِنَةِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ يَخْتَصُّ مِنَ الْمَطَرِ بِغَيْرِ مَا اخْتَصَّ الْمَكَانُ الْآخَرُ ; فَمَطَرُ الْمَسْجِدِ غَيْرُ مَطَرِ السُّوقِ، وَالْوَاقِعُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ غَيْرُ الْوَاقِعِ فِي الدَّارِ الْأُخْرَى، بِخِلَافِ لَفْظِ الْكُفَّارِ ; فَإِنَّهُ بِكُلِّيَّتِهِ يَدُلُّ عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمْ بِلَفْظِ الْكُفَّارِ وَلَا بِبَعْضِهِ، كَمَا اخْتَصَّ السُّوقُ وَالْمَسْجِدُ بِبَعْضِ الْمَطَرِ، وَإِذَا كَانَ الْعُمُومُ فِي اللُّغَةِ الشُّمُولُ، وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَعَانِي، كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِهَا بِالْحَقِيقَةِ مِنَ الْمَعَانِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَارَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» مُخْتَطَفَةٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَلَيْسَتْ وَافِيَةً بِهِ ; فَلِذَلِكَ وَقَعَ فِيهَا غُمُوضٌ، وَفِي تَفْسِيرِهَا إِشْكَالٌ، وَعِبَارَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مُلَخَّصَةٌ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ.
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَاهُ فِي مَعْنَى قَوْلِنَا: بِاعْتِبَارِ وُجُودَيْهَا: اللِّسَانِيِّ، وَالذِّهْنِيِّ، هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ مَثَلًا لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ، وَفِي اللِّسَانِ، وَفِي الْأَذْهَانِ، أَمَّا وُجُودُهُ فِي الْأَعْيَانِ ; فَلَا عُمُومَ لَهُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ رَجُلٌ مُطْلَقٌ، يَعْنِي كُلِّيًّا، بَلْ إِمَّا زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، أَوْ غَيْرُهُمَا ; فَهُوَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ التَّشَخُّصِ وَالْعَلَمِيَّةِ. وَأَمَّا وُجُودُهُ فِي اللِّسَانِ ; فَلَفْظُ الرَّجُلِ وُضِعَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ
(2/453)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَغَيْرِهِمْ، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِمْ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا مَعْنَى الْعُمُومِ. وَأَمَّا وُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ، فَإِنَّ لِلرَّجُلِ فِي الذِّهْنِ صُورَةً كُلِّيَّةً مُطَابِقَةً لَهُ تَتَنَاوَلُ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا وَغَيْرَهُمْ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِمْ دَلَالَةً وَاحِدَةً، كَدَلَالَةِ لَفْظِ الرَّجُلِ عَلَيْهِمْ، غَيْرَ أَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ بِالْوَضْعِ، وَالذِّهْنُ يُدْرِكُ بِالتَّصَوُّرِ.
فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى الْعُمُومِ وَالشُّمُولِ مَوْجُودٌ فِي اللِّسَانِيِّ وَالذِّهْنِيِّ دُونَ الْعَيْنِيِّ الْخَارِجِيِّ، وَهَذَا هُوَ مُرَادِي بِقَوْلِي: «لِدَلَالَتِهَا عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا بِاعْتِبَارِ وُجُودَيْهَا: اللِّسَانِيِّ، وَالذِّهْنِيِّ» ، غَيْرَ أَنَّ فِي مُطَابَقَتِهَا لَهُ نَظَرًا.
قَوْلُهُ: «وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ» يَعْنِي الْعُمُومَ «حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ، إِذِ الْعُمُومُ لُغَةً الشُّمُولُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَامِلٍ وَمَشْمُولٍ كَالْكِلَّةِ وَالْعَبَاءَةِ لِمَا تَحْتَهُمَا» . أَيْ: وَالتَّحْقِيقُ مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ أَنَّ الْعُمُومَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ، لَا فِي الْأَلْفَاظِ، وَلَا فِي الْمَعَانِي ; لِأَنَّ الْعُمُومَ فِي اللُّغَةِ الشُّمُولُ. يُقَالُ: هَذَا الْكِسَاءُ يَعُمُّ مَنْ تَحْتَهُ، أَيْ: يَشْمَلُهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْعُمُومُ هُوَ الشُّمُولُ ; فَالشُّمُولُ مَعْنًى إِضَافِيٌّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَامِلٍ وَمَشْمُولٍ ; فَالشَّامِلُ كَالْكِلَّةِ وَالْعَبَاءَةِ، وَالْمَشْمُولُ مَنْ تَحْتَهُمَا ; لِأَنَّهُمَا شَمَلَتَاهُ ; فَإِذَنِ الْعُمُومُ حَقِيقَةٌ لَيْسَ إِلَّا فِي الْأَجْسَامِ الشَّامِلَةِ، وَهُوَ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي مَجَازٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مُشَارَكَتِهِمَا الْأَجْسَامَ فِي مَعْنَى الشُّمُولِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشُّمُولَ فِي الْأَلْفَاظِ لَيْسَ مَحْسُوسًا، بَلْ مَعْقُولًا، وَلَيْسَ هُوَ أَيْضًا فِي قُوَّةِ شُمُولِ الْأَجْسَامِ لِمَا تَحْتَهَا، وَالشُّمُولُ فِي الْمَعَانِي، نَحْوَ: عَمَّهُمُ الْعَطَاءُ وَالْإِنْعَامُ وَالْخِصْبُ أَضْعَفُ مِنْ شُمُولِ الْأَلْفَاظِ لِمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ قَبْلُ مِنِ اخْتِصَاصِ بَعْضِ مَحَالِّ الْمَعْنَى بِبَعْضِهِ، وَتَمَايُزِ أَجْزَائِهِ بِتَمَايُزِ مَحَالِّهِ.
(2/454)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْكِلَّةُ: بِكَسْرِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ: سِتْرٌ رَقِيقٌ يُخَاطُ كَالْبَيْتِ يُتَوَقَّى فِيهِ مِنَ الْبَقِّ. ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَالْعَبَاءَةُ: بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْبَاءِ وَمَدِّ الْأَلِفِ لُغَةً فِي الْعَبَايَةِ، وَهِيَ ضَرْبٌ مِنَ الْأَكْسِيَةِ.
- وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضَ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً اتِّفَاقًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَعَانِي، هَلْ هُوَ مِنْ عَوَارِضِهَا حَقِيقَةً؟ فَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَثْبَتَهُ الْأَقَلُّونَ.
- وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً، وَفِي الْمَعَانِي أَقْوَالٌ: أَصَحُّهَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهَا أَيْضًا، وَالثَّانِي لَيْسَ مِنْ عَوَارِضِهَا.
- وَقَالَ النِّيلِيُّ فِي «شَرْحِ جَدَلِ الشَّرِيفِ» مَا مَعْنَاهُ: إِنَّهُ يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ لَوَاحِقِ اللَّفْظِ، وَاللَّفْظُ لَمَّا كَانَ ثَابِتًا بِالْوَضْعِ أَوِ الِاصْطِلَاحِ، أَمْكَنَ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ بِحُكْمِ الْوَضْعِ ; فَدَلَالَتُهُ عَلَيْهِ وَضْعِيَّةٌ لَا ذَاتِيَّةٌ، بِخِلَافِ الْمَعَانِي، فَإِنَّ ثُبُوتَهَا لِمَا لَمْ يَكُنْ وَضْعِيًّا، بَلْ هُوَ حَقِيقِيٌّ، لِذَلِكَ لَا يُمْكِنُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِتَعْمِيمٍ، وَلَا تَخْصِيصٍ بِوَضْعٍ وَلَا اصْطِلَاحٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ أَوِ الْمَعَانِي هُوَ مِنْ رِيَاضِيَّاتِ هَذَا الْعِلْمِ، لَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِهِ حَتَّى لَوْ تُرِكَ، لَمْ يُخِلَّ بِفَائِدَةٍ. وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ لَا يَذْكُرُهُ، وَإِنَّمَا تَابَعْتُ فِي ذِكْرِهِ أَصْلَ «الْمُخْتَصَرِ» وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَالْعَامُّ، قِيلَ: هُوَ اللَّفْظُ» ، إِلَى آخِرِهِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الرِّيَاضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ
(2/455)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَلْفَاظِ أَوِ الْمَعَانِي، أَخَذَ فِي الْكَشْفِ عَنْ حَدِّ الْعَامِّ، وَقَدْ ذُكِرَتْ فِيهِ حُدُودٌ كَثِيرَةٌ فِي الْكُتُبِ اتَّفَقَ مِنْهَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَامَّ: «هُوَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا مُطْلَقًا» .
فَقَوْلُهُ: «اللَّفْظُ» جِنْسٌ يَتَنَاوَلُ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ وَالْمُشْتَرَكَ وَالْمُطْلَقَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ اللَّفْظِ لِأَنَّهَا أَلْفَاظٌ.
وَقَوْلُهُ: «الْوَاحِدُ» احْتَرَزَ بِهِ عَنْ مِثْلِ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا ; فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ، لَكِنْ لَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، بَلْ أَكْثَرَ مِنْهُ. وَهَذَا أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِنَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» : «إِذْ هُمَا لَفْظَانِ» ; لِأَنَّ قَوْلَنَا: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا لَيْسَ هُوَ لَفْظَيْنِ فَقَطْ، بَلْ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ ; فِعْلٌ وَفَاعِلٌ وَمَفْعُولٌ، وَلَعَلَّ الْإِشَارَةَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَقَعَتْ إِلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَهُمَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو، لِكَوْنِهِمَا اسْمَيْنِ. وَضَرَبَ فِعْلٌ، لَكِنْ لَا وَجْهَ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ، وَالْفِعْلُ لَفْظٌ دَالٌّ. فَالصَّوَابُ إِذَنْ أَنْ يُقَالَ: احْتِرَازٌ مِنْ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، إِذْ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ، أَوْ لِأَنَّهُ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ.
قَوْلُهُ: «وَبِمُطْلَقًا» ، أَيْ: وَاحْتَرِزْ بِقَوْلِهِ: مُطْلَقًا عَنْ مِثْلِ عَشَرَةِ رِجَالٍ ; فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، لَكِنْ لَا مُطْلَقًا، بَلْ إِلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ دَلَالَتُهُ.
قَوْلُهُ: «وَفِيهِ نَظَرٌ» ، أَيْ: فِي الِاحْتِرَازِ بِمُطْلَقًا عَنْ مِثْلِ عَشَرَةِ رِجَالٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ مِثْلِ عَشَرَةِ رِجَالٍ حَصَلَ بِقَوْلِهِ: «فَصَاعِدًا» ، إِذْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ، أَعْنِي صَاعِدًا لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ تَقِفُ عِنْدَهَا، وَلَكَ مَا كَانَ مِنَ الْأَعْدَادِ فَوْقَ الْوَاحِدِ انْتَظَمَهُ قَوْلُهُ: فَصَاعِدًا، وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إِلَى «مُطْلَقًا» .
(2/456)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَجْوَدُ مِنْهُ» ، أَيْ: أَجْوَدُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ لِلْعَامِّ، أَنْ يُقَالَ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ دَلَالَةً لَا تَنْحَصِرُ فِي عَدَدٍ، وَهَذَا هُوَ الْحَدُّ الثَّانِي مِنَ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
فَقَوْلُنَا: «اللَّفْظُ الدَّالُّ» جِنْسٌ لَهُ يَتَنَاوَلُ مَا دَلَّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، كَزَيْدٍ، أَوْ مُسَمَّيَاتٍ، كَالرِّجَالِ ; فَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: عَلَى مُسَمَّيَاتٍ، عَمَّا دَلَّ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ.
وَبِقَوْلِهِ: «دَلَالَةً لَا تَنْحَصِرُ فِي عَدَدٍ» مِنْ أَسْمَاءِ مَقَادِيرِ الْأَعْدَادِ، نَحْوَ: عَشَرَةٍ، وَعِشْرِينَ، وَثَلَاثِينَ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَمِنْ نَظَائِرِهَا لَفْظٌ وَاحِدٌ دَالٌّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ، لَكِنْ دَلَالَةً مَحْصُورَةً مَعْلُومَةَ الْمِقْدَارِ وَالنِّهَايَةِ، بِخِلَافِ: الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ دَلَالَتَهُ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الِانْحِصَارِ فِي عَدَدٍ مَعْلُومٍ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا هُوَ الْحَدُّ الثَّالِثُ لِلْعَامِّ، وَهُوَ «اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ» فَاللَّفْظُ جِنْسٌ، وَالْمُسْتَغْرِقُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ فَصْلٌ لَهُ عَمَّا لَيْسَ بِمُسْتَغْرِقٍ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ، كَالرَّجُلِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ مُعَيَّنٌ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْرِقْ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَهُوَ سَائِرُ الرِّجَالِ، إِذْ لَفْظُ الرَّجُلِ يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى جَمِيعِ الرِّجَالِ، إِذَا جُعِلَ جِنْسًا. وَعَلَى هَذَا اعْتِرَاضٌ ظَاهِرٌ، وَبِالْجُمْلَةِ ; فَاللَّفْظُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصْلُحَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى شَيْءٍ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ; فَهُوَ الْعَامُّ، وَإِلَّا ; فَلَيْسَ بِعَامٍّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَلَى هَذَا إِشْكَالًا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: قَوْلُهُ: الْعَامُّ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ ; إِمَّا أَنْ يُرَادَ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ، أَيْ: يَصْلُحُ
(2/457)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، أَوْ يُرَادَ مَا يَصْلُحُ مِنْ جِهَةِ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ ; فَالْعَامُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا لِمَا يَصْلُحُ لَهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، إِذْ كَلُّ لَفْظٍ صَلُحَ لِمُسَمًّى دَلَّ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ لَا فَائِدَةَ لِتَقْيِيدِ اللَّفْظِ بِكَوْنِهِ مُسْتَغْرِقًا، وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي وَهُوَ صَلَاحِيَتُهُ بِحَسَبِ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ ; فَنَقُولُ: إِنْ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِلَفْظِ جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ; فَهُوَ الْعَامُّ كَمَا مَرَّ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ بَعْضَ مَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ; فَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ; فَالْعُمُومُ فِي اللَّفْظِ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَإِنَّمَا الْخُصُوصُ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ عَلَى تَقْدِيرِ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْضَهُ.
وَقَوْلُهُ: بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ، احْتِرَازٌ مِنَ الْمُشْتَرَكِ، كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ ; فَإِنَّهُ لَفْظٌ مُسْتَغْرِقٌ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ مُسَمَّيَاتِهِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِوَضْعٍ وَاحِدٍ، بَلْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ ; فَالْقُرْءُ الدَّالُّ عَلَى الْحَيْضِ إِنَّمَا وُضِعَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْقُرْءُ الدَّالُّ عَلَى الطُّهْرِ إِنَّمَا وُضِعَ لَهُ بِوَضْعٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ، بِخِلَافِ قَوْلِنَا: الرِّجَالُ، فَإِنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى جَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ بِوَضْعٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: اللَّفْظُ إِنْ دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا هُوَ الْحَدُّ الرَّابِعُ لِلْعَامِّ، وَبَيَانُهُ بِطَرِيقِ التَّقْسِيمِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَاهِيَّةِ مَدْلُولِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، أَوْ لَا، فَإِنْ دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، أَيْ: مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ جَمِيعِ مَا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ وَحْدَةٍ وَكَثْرَةٍ وَحُدُوثٍ وَقِدَمٍ وَطُولٍ وَقِصَرٍ وَسَوَادٍ وَبَيَاضٍ ; فَهَذَا هُوَ الْمُطْلَقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَثَلًا مِنْ
(2/458)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَيْثُ هُوَ إِنْسَانٌ، إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى حَيَوَانٍ نَاطِقٍ، لَا عَلَى وَاحِدٍ، وَلَا حَادِثٍ، وَلَا طَوِيلٍ، وَلَا أَسْوَدَ، وَلَا عَلَى ضِدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ بَعْضِ تِلْكَ.
وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ; فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى وَحْدَةٍ أَوْ وَحَدَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ. فَإِنْ دَلَّ عَلَى وَحْدَةٍ ; فَهِيَ إِمَّا مُعَيَّنَةٌ، كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَهُوَ الْعِلْمُ، أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنَةٌ، كَرَجُلٍ وَفَرَسٍ، وَهُوَ النَّكِرَةُ. وَإِنْ دَلَّ عَلَى وَحَدَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهِيَ الْكَثْرَةُ ; فَتِلْكَ الْكَثْرَةُ إِمَّا بَعْضُ وَحَدَاتِ الْمَاهِيَّةِ أَوْ جَمِيعُهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَعْضَهَا ; فَهُوَ اسْمُ الْعَدَدِ، كَعِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَتْ جَمِيعَ وَحَدَاتِ الْمَاهِيَّةِ ; فَهُوَ الْعَامُّ.
فَالْعَامُّ إِذَنْ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَاهِيَّةِ مَدْلُولِهِ، وَهُوَ أَجْوَدُهَا، أَيْ: أَجْوَدُ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا الْحَدَّ مُسْتَفَادٌ مِنَ التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّ التَّقْسِيمَ الصَّحِيحَ يَرِدُ عَلَى جِنْسِ الْأَقْسَامِ، ثُمَّ يُمَيِّزُ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ بِذِكْرِ خَوَاصِّهَا الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا ; فَيَتَرَكَّبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِهِ مِنْ جِنْسِهِ الْمُشْتَرَكِ وَمُمَيِّزِهِ الْخَاصِّ وَهُوَ الْفَصْلُ، وَلَا مَعْنَى لِلْحَدِّ إِلَّا اللَّفْظُ الْمُرَكَّبُ مِنَ الْجِنْسِ وَالْفِعْلِ، وَعَلَى هَذَا ; فَقَدِ اسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ مَعْرِفَةَ حُدُودِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْحَقَائِقِ، وَهُوَ الْمُطْلَقُ وَالْعَلَمُ وَالنَّكِرَةُ وَاسْمُ الْعَدَدِ.
فَالْمُطْلَقُ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنْ وَصْفٍ زَائِدٍ.
(2/459)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْعَلَمُ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى وَحْدَةٍ مُعَيَّنَةٍ.
وَالنَّكِرَةُ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى وَحْدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ.
وَاسْمُ الْعَدَدِ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى بَعْضِ وَحَدَاتِ مَاهِيَّةِ مَدْلُولِهِ، وَالْعَامُّ مَا ذَكَرْنَاهُ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلُكُمْ: الْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى جَمِيعِ وَحَدَاتِ الْمَاهِيَّةِ، يَقْتَضِي أَنَّ الْخَاصَّ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى بَعْضِ وَحَدَاتِ الْمَاهِيَّةِ ; لِأَنَّ الْخَاصَّ مُقَابِلُ الْعَامِّ، وَحِينَئِذٍ يَتَّحِدُ حَدُّ الْخَاصِّ وَاسْمُ الْعَدَدِ.
قُلْتُ: هُوَ كَذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ بَعْضَ وَحَدَاتِ الْمَاهِيَّةِ فِي الْخَاصِّ هُوَ وَحْدَةٌ وَاحِدَةٌ مُعَيَّنَةٌ أَوْ مَخْصُوصَةٌ، وَفِي اسْمِ الْعَدَدِ هُوَ وَحَدَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقَةٍ ; فَيُزَادُ بَيْنَ الْحَقِيقَتَيْنِ، أَعْنِي حَقِيقَةَ الْخَاصِّ وَاسْمِ الْعَدَدِ، هَذَا الْفَصْلُ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ حَدَّ الْعَامِّ الْمَذْكُورَ هُوَ أَجْوَدُ حُدُودِهِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّهُ أَضْبَطُ وَأَحَقُّ، إِذْ هُوَ نَاشِئٌ عَنْ تَقْسِيمٍ دَائِرٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَارِدٌ عَلَى جِنْسِ الْأَقْسَامِ، مُلْحَقٌ بِفُصُولِهَا كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ» ، أَيْ: قِيلَ فِي حَدِّ الْعَامِّ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
فَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ، وَهُوَ أَنَّ الْعَامَّ هُوَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ عَلَى مُسَمَّيَيْنِ فَصَاعِدًا مُطْلَقًا مَعًا، وَاحْتِرَازَاتُهُ قَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهَا، إِلَّا قَوْلَهُ: مَعًا، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ احْتَرَزَ بِهِ مِنَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، كَالْعَيْنِ وَنَحْوِهِ ; فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّيَيْنِ فَصَاعِدًا إِذَا تَكَثَّرَتْ مَوْضُوعَاتُهُ لَكِنْ لَا مَعًا، أَيْ: لَا يُرَادُ جَمِيعُهَا عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، بَلْ بَعْضُهَا عَلَى الْبَدَلِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ الْقَوْلُ الْمُتَعَلِّقُ بِمَعْلُومَيْنِ، أَوِ الْقَوْلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى مُسَمَّيَيْنِ
(2/460)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَصَاعِدًا، ذَكَرَهُ الْكِتَّانِيُّ فِي «الْمَطَالِعِ» وَهُوَ مَعْنَى مَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَامَّ هُوَ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى كُلِّيٍّ يُفِيدُ تَتَبُّعَهُ فِي مَحَالِّهِ. ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي «التَّنْقِيحِ» وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِهِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَدَّاهُ إِلَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْغَرِيبَةِ سُؤَالٌ أَوْرَدَهُ هُوَ عَلَى حَدِّ الْعَامِّ الْمُتَدَاوَلِ، وَلَمْ يَرَ أَحَدًا أَجَابَ عَنْهُ، وَبِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِّ يَنْدَفِعُ ذَلِكَ السُّؤَالُ، ثُمَّ ذَكَرَ السُّؤَالَ وَانْدِفَاعَهُ بِالْحَدِّ الْمَذْكُورِ. وَذِكْرُهُ يَطُولُ هُنَا ; فَلْيُنْظَرْ فِي شَرْحِهِ.
قَوْلُهُ: «وَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ إِلَى مَا لَا أَعَمَّ مِنْهُ كَالْمَعْلُومِ، أَوِ الشَّيْءِ، وَيُسَمَّى الْعَامَّ الْمُطْلَقَ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَإِلَى مَا لَا أَخَصَّ مِنْهُ، كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَيُسَمَّى الْخَاصَّ الْمُطْلَقَ، وَإِلَى مَا بَيْنَهُمَا كَالْمَوْجُودِ وَالْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ النَّامِي وَالْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانِ ; فَيُسَمَّى عَامًّا وَخَاصًّا إِضَافِيًّا، أَيْ: هُوَ خَاصٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ، عَامٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ» .
قُلْتُ: هَذَا تَقْسِيمٌ لِلْعَامِّ وَالْخَاصِّ بِحَسَبِ مَرَاتِبِهِ عُلُوًّا وَنُزُولًا وَتَوَسُّطًا ; فَاللَّفْظُ إِمَّا عَامٌّ مُطْلَقٌ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فَوْقَهُ أَعَمُّ مِنْهُ، أَوْ خَاصٌّ مُطْلَقٌ، وَهُوَ مَا لَيْسَ تَحْتَهُ أَخَصُّ مِنْهُ، أَوْ عَامٌّ وَخَاصٌّ إِضَافِيٌّ.
مِثَالُ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ، الْمَعْلُومُ أَوِ الشَّيْءُ ; لِأَنَّ الْمَعْلُومَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ قَدِيمَهَا وَمُحْدَثَهَا وَمَعْدُومَهَا وَمَوْجُودَهَا لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَالشَّيْءُ يَتَنَاوَلُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ وَالْجَوْهَرَ وَالْعَرَضَ وَسَائِرَ الْمَوْجُودَاتِ، وَالشَّيْءُ أَخَصُّ مِنَ الْمَعْلُومِ ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعْلُومٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَعْلُومٍ شَيْئًا عِنْدَنَا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: الْمَعْدُومُ شَيْءٌ. وَلِهَذَا حَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّيْءَ قَوْلًا فِي مِثَالِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ ; فَقَالَ: الْعَامُّ يَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ لَا أَعَمَّ مِنْهُ يُسَمَّى عَامًّا مُطْلَقًا، كَالْمَعْلُومِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ. وَقِيلَ: الشَّيْءُ، أَيِ: الْعَامُّ
(2/461)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُطْلَقُ، كَالشَّيْءِ لَا كَالْمَعْلُومِ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْلُومِ الْمَعْدُومَ وَالْعَدَمَ، وَهُوَ لَا يَتَّصِفُ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; لِأَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ مُحْتَاجَانِ إِلَى مَا يَقُومَانِ بِهِ، وَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا ; لِأَنَّ الشَّيْءَ هُوَ الْمَوْجُودُ ; لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ أَثَّرَتْ فِيهِ، أَمَّا الْمَعْدُومُ ; فَلَا يَصِحُّ قِيَامُ الْمَعَانِي بِهِ، وَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ مَعْنَيَانِ لَا يَقُومَانِ بِهِ.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُمَا بِلَفْظِ أَوْ ; فَقُلْتُ: يَنْقَسِمُ اللَّفْظُ إِلَى مَا لَا أَعَمَّ مِنْهُ كَالْمَعْلُومِ أَوِ الشَّيْءِ، تَنْبِيهًا عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ بِلَفْظِ أَوِ الَّتِي هِيَ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَإِنْ كَانَ تَنْبِيهًا خَفِيًّا، وَلِأَنَّ الْخَطْبَ فِي هَذَا يَسِيرٌ، إِذْ لَا يَضُرُّنَا فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ، أَيُّهُمَا كَانَ هُوَ الْأَعَمَّ مُطْلَقًا بَعْدَ تَقْرِيرِ الْقَاعِدَةِ فِي تَقْسِيمِهِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَوْجُودٍ» فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَامِّ الْمُطْلَقِ. قِيلَ: هُوَ مَوْجُودٌ كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَيْسَ لَنَا عَامٌّ مُطْلَقٌ. وَهَذَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ بِاعْتِبَارٍ، وَتَابَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ ; فَجَعَلَهُ قَوْلًا ثَانِيًا، وَلْنَحْكِ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ لِيَبِينَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ إِمَّا خَاصٌّ فِي ذَاتِهِ مُطْلَقًا، نَحْوَ: زَيْدٍ، وَهَذَا الرَّجُلُ. وَإِمَّا عَامٌّ مُطْلَقٌ كَالْمَذْكُورِ وَالْمَعْلُومِ، إِذْ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ مَوْجُودٌ وَلَا مَعْدُومٌ. وَإِمَّا عَامٌّ بِالْإِضَافَةِ كَلَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ ; فَإِنَّهُ عَامٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ، خَاصٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى جُمْلَتِهِمْ، إِذْ يَتَنَاوَلُهُمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ ; فَكَأَنَّهُ يُسَمَّى عَامًّا مِنْ حَيْثُ شُمُولِهِ لِلْآحَادِ، خاصًّا مِنْ حَيْثُ اقْتِصَارِهِ عَلَى مَا شَمِلَهُ،
(2/462)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقُصُورِهِ عَمَّا لَمْ يَشْمَلْهُ. وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ فِي الْأَلْفَاظِ عَامٌّ مُطْلَقٌ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَعْلُومِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَجْهُولَ، وَالْمَذْكُورُ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ.
قُلْتُ: فَحَاصِلُ قَوْلِهِ: أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ فَهُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى شُمُولِهِ أَفْرَادَ مَا تَحْتَهُ عَامٌّ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى اقْتِصَارِهِ عَلَى مَدْلُولِهِ خَاصٌّ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا يَبْقَى لَنَا عَامٌّ مُطْلَقٌ، لَكِنَّ هَذَا غَيْرُ تَفْسِيرِنَا الْعَامَّ الْمُطْلَقَ بِمَا لَا أَعَمَّ مِنْهُ ; لِأَنَّ مِنَ الْأَلْفَاظِ مَا يَكُونُ عَامًّا لَا أَعَمَّ مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ مَقْصُورُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا تَحْتَهُ ; فَيَكُونُ حِينَئِذٍ عَامًّا مُطْلَقًا لَا عَامًّا مُطْلَقًا بِاعْتِبَارَيْنِ، كَمَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْسِيرَيْنِ، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَى قَوْلًا مُطْلَقًا كَمَا فَعَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، لِئَلَّا يُوهِمَ أَنَّ فِي وُجُودِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ بِتَفْسِيرٍ وَاحِدٍ قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ نَذْكُرُ ذَلِكَ بِتَفْسِيرَيْنِ كَمَا فَعَلَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِثَالُ الْخَاصِّ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ مَا لَا أَخَصَّ مِنْهُ أَسْمَاءُ الْأَشْخَاصِ نَحْوَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، إِذْ لَا يُوجَدُ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِهِ، وَلِهَذَا كَانَتِ الْأَعْلَامُ أَعْرَفَ الْمَعَارِفِ عِنْدَ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ.
وَمِثَالُ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ الْإِضَافِيِّ هُوَ مَا وَقَعَ بَيْنَ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ وَالْخَاصِّ الْمُطْلَقِ، كَالْمَوْجُودِ ; فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْلُومِ، عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَوْهَرِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ ; فَلِأَنَّكَ تَقُولُ: كُلُّ مَوْجُودٍ مَعْلُومٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَعْلُومٍ مَوْجُودًا، إِذِ الْمَعْدُومُ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ مَوْجُودًا.
(2/463)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا الثَّانِي ; فَلِأَنَّكَ تَقُولُ: كُلُّ جَوْهَرٍ مَوْجُودٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَوْجُودٍ جَوْهَرًا ; لِأَنَّ الْعَرَضَ مَوْجُودٌ، وَلَيْسَ جَوْهَرًا ; فَالْمَوْجُودُ أَعَمُّ مِنَ الْجَوْهَرِ، وَالْجَوْهَرُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِسْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْجِسْمَ يَسْتَلْزِمُ الْجَوْهَرَ ضَرُورَةَ تَرَكُّبِهِ مِنَ الْجَوَاهِرِ، وَالْجَوْهَرُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا فَرْدًا، وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ ; فَالْجِسْمُ إِذَنْ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَوْهَرِ، عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّامِي، إِذْ كُلُّ نَامٍ جِسْمٌ، وَلَيْسَ كُلُّ جِسْمٍ نَامِيًا، وَالنَّامِي عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَيَوَانِ، إِذْ كُلُّ حَيَوَانٍ نَامٍ، وَلَيْسَ كُلُّ نَامٍ حَيَوَانًا، بِدَلِيلِ النَّبَاتِ، هُوَ نَامٍ وَلَيْسَ بِحَيَوَانٍ، وَالْحَيَوَانُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ، إِذْ كُلُّ إِنْسَانٍ حَيَوَانٌ، وَلَيْسَ كُلُّ حَيَوَانٍ إِنْسَانًا، بِدَلِيلِ الْفَرَسِ، وَنَحْوِهِ.
وَالضَّابِطُ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ انْقَسَمَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَغَيْرِهِ ; فَالْمُنْقَسِمُ أَعَمُّ مِنَ الْمُنْقَسَمِ إِلَيْهِ ; فَالْمَوْجُودُ يَنْقَسِمُ إِلَى جَوْهَرٍ وَغَيْرِهِ، كَالْعَرَضِ، وَالْجَوْهَرُ يَنْقَسِمُ إِلَى نَامٍ وَغَيْرِهِ، كَالْجَمَادِ، وَالنَّامِي يَنْقَسِمُ إِلَى حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ، كَالنَّبَاتِ، وَالْحَيَوَانُ يَنْقَسِمُ إِلَى إِنْسَانٍ وَغَيْرِهِ، كَالْفَرَسِ.
وَقَوْلُنَا: هَذَا الشَّيْءُ عَامٌّ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، أَوْ عَامٌّ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا تَحْتَهُ، أَوْ بِالنِّسْبَةِ، أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَحْتَهُ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الْأَلْفَاظُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ تَعْرِيفِ الْعِلْمِ بَحْثٌ طَوِيلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَيُنَاسِبُ هَذَا الْبَحْثَ.
(2/464)
________________________________________
وَأَلْفَاظُ الْعُمُومِ أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: مَا عُرِّفَ بِاللَّامِ غَيْرِ الْعَهْدِيَّةِ، وَهُوَ إِمَّا لَفْظٌ وَاحِدٌ، نَحْوَ: السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، أَوْ جَمْعٌ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ لَفْظِهِ، كَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالَّذِينَ، أَوْ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْهُ كَالنَّاسِ، وَالْحَيَوَانِ، وَالْمَاءِ، وَالتُّرَابِ.
الثَّانِي: مَا أُضِيفَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَعْرِفَةٍ، كَعَبِيدِ زَيْدٍ، وَمَالِ عَمْرٍو.
الثَّالِثُ: أَدَوَاتُ الشَّرْطِ، كَمَنْ: فِي مَنْ يَعْقِلُ، وَمَا: فِيمَا لَا يَعْقِلُ وَأَيٌّ فِيهِمَا. وَأَيْنَ فِي الْمَكَانِ، وَمَتَى وَأَيَّانَ فِي الزَّمَانِ.
الرَّابِعُ: كُلٌّ وَجَمِيعٌ.
الْخَامِس: النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. أَوِ الْأَمْرِ، نَحْوَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً، عَلَى قَوْلٍ فِيهِ، وَإِلَّا لَمَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِعِتْقِ أَيِّ رَقَبَةٍ كَانَ.
ثُمَّ قِيلَ: الْعَامُّ الْكَامِلُ: هُوَ الْجَمْعُ لِقِيَامُ الْعُمُومِ بِصِيغَتِهِ، وَمَعْنَاهُ وَبِمَعْنَى غَيْرِهِ فَقَطْ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ تَقْتَضِي الْعُمُومَ وَضْعًا، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ أَوْ قَرِينَتُهُ عِنْدَنَا، وَقَالَتْ الْوَاقِفِيَّةُ: لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ بِالْوَضْعِ لِأَقَلِّ الْجَمْعِ، وَمَا زَادَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ كَالنَّفَرِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، وَقِيلَ: لَا عُمُومَ فِيمَا فِيهِ اللَّامُ، وَقِيلَ: لَا عُمُومَ إِلَّا فِيهِ، وَقِيلَ: لَا عُمُومَ فِي النَّكِرَةِ إِلَّا مَعَ «مِنْ» ظَاهِرَةٍ أَوْ مُقَدَّرَةٍ، نَحْوَ: مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَلْفَاظُ الْعُمُومِ أَقْسَامٌ» ، إِلَى آخِرِهِ.
لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَعْرِيفِ الْعَامِّ، وَانْقِسَامِهِ إِلَى مُطْلَقٍ وَإِضَافِيٍّ، أَخَذَ فِي بَيَانِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ أَيِ الَّتِي يُسْتَفَادُ مِنْهَا الْعُمُومُ وَهِيَ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ:
(2/465)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهَا: «مَا عُرِّفَ بِاللَّامِ غَيْرِ الْعَهْدِيَّةِ» ، أَيِ: الَّتِي لَيْسَتْ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ يَعْنِي هَذَا الْقِسْمَ - مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ إِمَّا لَفْظٌ وَاحِدٌ، نَحْوَ: السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ، أَوْ جَمْعٌ، ثُمَّ الْجَمْعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ لَفْظِهِ، كَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالَّذِينَ جَمْعِ الَّذِي، نَحْوَ: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، أَوْ لَا يَكُونُ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ لَفْظِهِ، كَالنَّاسِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ، إِذْ لَا يُقَالُ فِيهِ: نَاسَةٌ، وَلَا حَيَوَانَةٌ، وَلَا مَاءَةٌ، وَلَا تُرَابَةٌ ; لِأَنَّ هَذِهِ أَلْفَاظٌ وُضِعَتْ لِتَدُلَّ عَلَى جِنْسِ مَدْلُولِهَا لَا عَلَى آحَادِهِ مُنْفَرِدَةً.
وَقَوْلُنَا: «مَا عُرِّفَ بِاللَّامِ غَيْرِ الْعَهْدِيَّةِ» احْتِرَازٌ مِمَّا عُرِّفَ بِلَامِ الْعَهْدِ ; فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَامًّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ، نَحْوَ: لَقِيتُ رَجُلًا ; فَقُلْتُ لِلرَّجُلِ، وَرُبَّمَا جَاءَ ذِكْرُهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَحَاصِلُ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ أَنَّهُ إِمَّا وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ، وَالْجَمْعُ إِمَّا لَهُ وَاحِدٌ مِنْ لَفْظِهِ، أَوْ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: النِّسَاءُ، وَالْخَيْلُ، وَالنَّعَمُ، وَاحِدُهَا: امْرَأَةٌ، أَوْ نَاقَةٌ، أَوْ جَمَلٌ، أَوْ فَرَسٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [الْعَصْرِ: 2] ، إِذِ اللَّامُ فِيهِ جِنْسِيَّةٌ لَا عَهْدِيَّةٌ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الْآيَةَ [الْعَصْرِ: 3] .
الْقِسْمُ «الثَّانِي: مَا أُضِيفَ مِنْ ذَلِكَ» ، أَيْ: مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ الْمَذْكُورَةِ، إِلَى مَعْرِفَةٍ، كَعَبِيدِ زَيْدٍ، وَمَالِ عَمْرٍو ; فَالْأَوَّلُ لَفْظُ جَمْعٍ، وَالثَّانِي اسْمُ جِنْسٍ، أُضِيفَا إِلَى مَعْرِفَةٍ ; فَتَقْتَضِي عُمُومَ الْعَبِيدِ وَالْمَالِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ عَبِيدَ زَيْدٍ، وَشَاهَدْتُ مَالَ عَمْرٍو، اقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ وَالْمُشَاهَدَةَ كَانَتْ لِجَمِيعِ
(2/466)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْمِثَالُ هَاهُنَا وَفِي الْأَصْلِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَالْجِنْسِ الْمُضَافِ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَبَقِيَ اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ، نَحْوَ: السَّارِقِ، وَالزَّانِيَةِ، وَهُوَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ ; لِأَنَّهُ لَا جَمْعَ فِي لَفْظِهِ، بِخِلَافِ عَبِيدٍ وَمَالٍ ; لِأَنَّ فِيهِمَا جَمْعًا حَقِيقِيًّا فِي نَحْوِ: عَبِيدِ زَيْدٍ، أَوْ مَعْنَوِيًّا فِي نَحْوِ: مَالِ زَيْدٍ، وَالْمَالُ جِنْسٌ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا، أَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي وَنَحْوُهُمَا، فَلَمْ يُوضَعْ لَفْظُهُ لِيَدُلَّ عَلَى جَمْعٍ لَفْظِيٍّ وَلَا مَعْنَوِيٍّ، بَلْ لِيَدُلَّ عَلَى ذَاتٍ مُتَّصِفَةٍ بِفِعْلٍ صَدَرَ عَنْهَا، أَوْ قَامَ بِهَا، وَلَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ جَمْعٌ وَلَا إِفْرَادٌ إِلَّا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ.
الْقِسْمُ «الثَّالِثُ» : مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ «أَدَوَاتُ الشَّرْطِ» ، نَحْوَ: «مَنْ فِيمَنْ يَعْقِلُ، وَمَا فِيمَا لَا يَعْقِلُ، وَأَيٍّ فِيهِمَا» ، أَيْ: فِي الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، نَحْوَ: أَيَّ الرِّجَالِ لَقِيتَ، وَأَيَّ الدَّوَابِّ رَكِبْتَ، «وَأَيْنَ فِي الْمَكَانِ، وَمَتَى وَأَيَّانَ فِي الزَّمَانِ» .
وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطَّلَاقِ: 2] ، مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ ; فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْعُقَلَاءِ. {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النَّحْلِ: 96]
(2/467)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آلِ عِمْرَانَ: 198] ، عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ. فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا لَا يَعْقِلُ مِنَ الْمَالِ وَالرِّزْقِ.
(2/468)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيُقَالُ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] ، قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: خَصَمْتُ مُحَمَّدًا ; لِأَنَّهُ قَدْ عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ، أَفَهُمْ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وَلَمْ يَقُلْ: وَمَنْ تَعْبُدُونَ. إِشَارَةً إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ نَزَلَ تَخْصِيصُ
(2/469)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 101] ; إِمَّا تَأْكِيدًا لِمَا فُهِمَ مِنْ لَفْظِ مَا، أَوْ تَنَزُّلًا مَعَ الْخَصْمِ وَكَشْفًا لِلَّبْسِ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ فِرْعَوْنَ سَأَلَ مُوسَى عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَلَّ وَعَلَا بِلَفْظِ مَا لَا يَعْلَمُ حَيْثُ قَالَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، قَالَ لَهُ مُوسَى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشُّعَرَاءِ: 23، 24] ، الْآيَةَ، قَالَ فِرْعَوْنُ: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشُّعَرَاءِ: 27] ; فَقَدَحَ فِي فَهْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَوْنِهِ أَجَابَهُ بِمَنْ يَعْلَمُ عَنْ سُؤَالِهِ بِلَفْظِ مَا لَا يَعْلَمُ.
وَمِثَالُ أَيٍّ: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى} [الْكَهْفِ: 12] ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الْمُلْكِ: 2] ، {أَيًّا مَا تَدْعُوا} [الْإِسْرَاءِ: 110] ، {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} [الْقِصَصِ: 28] ، وَالْأَجْلُ لَيْسَ مِمَّنْ يَعْقِلُ.
وَمِثَالُ أَيْنَ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ} [النِّسَاءِ: 78] ، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 115] ، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا} [الْحَدِيدِ: 4] ،
(2/470)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التَّكْوِيرِ: 26] ، {مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ} [الْأَعْرَافِ: 37] .
وَمِثَالُ مَتَى: قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إِلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ
وَمِثَالُ أَيَّانَ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الْأَعْرَافِ: 187، وَالنَّازِعَاتِ: 42] ، فِي مَوْضِعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، أَيْ: أَيَّ وَقْتِ وُقُوعِهَا، وَجَعَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ أَيْنَ وَأَيَّانَ جَمِيعًا لِلْمَكَانِ، وَهُوَ سَهْوٌ، بَلْ أَيْنَ وَحْدَهَا لِلْمَكَانِ، وَأَيَّانَ لِلزَّمَانِ ; لِأَنَّ أَصْلَهَا: أَيُّ أَوَانٍ يَكُونُ كَذَا، ثُمَّ رُكِّبَتِ الْكَلِمَتَانِ بَعْدَ الْحَذْفِ تَخْفِيفًا، وَجُعِلَا كَلِمَةً وَاحِدَةً، كَمَا قَالُوا: أَيْشٍ ; فِي: أَيِّ شَيْءٍ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَوَابِ قَوْلِهِمْ: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} ، {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الْأَعْرَافِ: 187] ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النَّازِعَاتِ: 46] ; فَأَجَابَ بِالزَّمَانِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النَّحْلِ: 21] ، أَيْ: لَا يَعْلَمُونَ أَيَّ زَمَنٍ يُبْعَثُونَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ اعْتَبِرِ الْأَدَوَاتِ بِجَوَابِهَا ; فَمَا كَانَ ; فَأَضِفْهَا إِلَيْهَا.
(2/471)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ عِنْدَكَ؟ قُلْتَ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَلَا تَقُولُ: فَرَسٌ أَوْ جَمَلٌ مِمَّنْ لَمْ يَعْقِلُ.
وَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا عِنْدَكَ؟ قُلْتَ: فَرَسٌ أَوْ بَغْلٌ، وَلَا تَقُلْ: زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو ; فَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ. وَقَدْ سَبَقَ مِثَالُ أَيٍّ فِي إِضَافَتِهَا إِلَى الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
وَإِذَا قِيلَ لَكَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قُلْتَ: فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا تَقُلْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا غَيْرِهِ مِنَ الْأَزْمِنَةِ ; فَأَيْنَ لِلْمَكَانِ.
وَإِذَا قِيلَ لَكَ مَتَى أَوْ أَيَّانَ قُمْتَ؟ قُلْتَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوِ السَّبْتِ، وَلَا تَقُلْ: فِي الْمَسْجِدِ أَوِ السُّوقِ ; فَمَتَى وَأَيَّانَ مِنْ أَدَوَاتِ الزَّمَانِ.
وَوَاحِدَةُ الْأَدَوَاتِ أَدَاةٌ، وَهِيَ الْآلَةُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ ": مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ: كُلُّ وَجَمِيعُ، وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهَا، نَحْوُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 185] ، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [الْقَصَصِ: 88] ، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَرِ: 62] ، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [الْأَعْرَافِ: 34] ، {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [الْقَمَرِ: 44] ، {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص: 73] .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَفَادَ بِقَوْلِهِ: أَجْمَعُونَ فِي الْآيَةِ، اتِّحَادَ زَمَانِ سُجُودِهِمْ، وَلَمْ يُسْتَفَدْ ذَلِكَ مِنْ كُلُّ، إِنَّمَا أَفَادَتْ أَنَّ السُّجُودَ يُوجَدُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ ; فَإِنَّمَا اسْتُفِيدَ مِنْ أَجْمَعُونَ، وَكَذَلِكَ فَرَّقَ ثَعْلَبُ فِي " أَمَالِيهِ " بَيْنَ جَمِيعًا وَمَعًا ; فَالْأَوَّلُ يُفِيدُ
(2/472)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاجْتِمَاعَ الْمُطْلَقَ، وَالثَّانِي يُفِيدُ الْمَعِيَّةَ وَالِاقْتِرَانِ، نَحْوَ: قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو جَمِيعًا، أَيْ: اجْتَمَعَا فِي وُجُودِ الْقِيَامِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو مَعًا، أَيِ: اجْتَمَعَا فِي الْقِيَامِ مُصْطَحَبَيْنِ فِيهِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ اقْتَرَنَ قِيَامُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِقِيَامِ الْآخَرِ.
الْقِسْمُ «الْخَامِسُ» : مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ «النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الْأَمْرِ» ، مِثَالُ النَّفْيِ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الْأَنْعَامِ: 101] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الْإِسْرَاءِ: 111] ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الْإِخْلَاصِ: 4] ، {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [الْبَقَرَةِ: 255] .
وَمِثَالُ الْأَمْرِ: قَوْلُهُ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً عَلَى قَوْلٍ فِيهِ» ، أَيْ: فِي هَذَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَعُمُّ ; لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ كَمَا ذُكِرَ فِي بَابِهِ، وَالْمُطْلَقُ لَيْسَ بِعَامٍّ لِمَا سَبَقَ فِي حَدِّ الْعَامِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعُمُّ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَعْتِقْ رَقَبَةً لَوْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا، لَمَا خَرَجَ الْمَأْمُورُ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِعِتْقِ أَيِّ رَقَبَةٍ كَانَتْ، لَكِنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ.
وَفِي هَذَا نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِرَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ، وَالْمُطْلَقُ يَكْفِي فِي امْتِثَالِهِ إِيجَادُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ تَحْصِيلُ الْمَاهِيَّةِ، وَهِيَ حَاصِلَةٌ بِفَرْدٍ مَا مِنْ أَفْرَادِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: صَلِّ صَلَاةً، أَوْ: صُمْ يَوْمًا. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/473)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ قِيلَ: الْعَامُّ الْكَامِلُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا قَوْلُ الْبُسْتِيِّ فِيمَا حَكَى الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ. وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ ; كَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ، أَكْمَلُ فِي بَابِ الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ كَالْمُفْرَدِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، نَحْوَ: الزَّانِي، وَالسَّارِقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعُمُومَ قَامَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَمَعْنَاهُ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَهُ يُفِيدُ التَّعَدُّدَ كَمَا أَنَّ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدٌ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، فَإِنَّ التَّعَدُّدَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَدْلُولِهِ لَا فِي لَفْظِهِ ; فَإِنَّا إِذَا قُلْنَا: الرِّجَالُ، دَلَّ هَذَا اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ عَلَى جَمَاعَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ ذُكُورِ بَنِي آدَمَ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ وَالسَّارِقِ ; فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ بِوَضْعِهِ عَلَى وَاحِدٍ وَهُوَ ذَاتٌ اتَّصَفَتْ بِالسَّرِقَةِ، وَعُمُومُ مَدْلُولِهِ إِنَّمَا اسْتَفَدْنَاهُ مِنْ دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَهُوَ كَوْنُ هَذَا اللَّفْظِ أُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.
فَعَلَى هَذَا: الْجَمْعُ الَّذِي لَهُ وَاحِدٌ مِنْ لَفْظِهِ، كَالْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، كَالنَّاسِ، وَالْجَمْعُ الْمُضَافُ، كَعَبِيدِ زَيْدٍ، وَكُلٌّ وَجَمِيعٌ أَكْمَلُ عُمُومًا مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَمِنَ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ نَحْوَ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ ; لِأَنَّ أَلْفَاظَهَا لَيْسَتْ جَمْعًا بِالْوَضْعِ عَلَى حَدِّ الرِّجَالِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ وَالنَّكِرَةِ الْمَذْكُورَةِ أَكْمَلُ مِنَ الْمُفْرَدِ الْمُعَرَّفِ ; لِأَنَّ أَلْفَاظَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَرَائِحَ فِي الْجَمْعِ كَمَا ذَكَرْنَا ; فَهِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَتُفِيدُهُ بِالْجُمْلَةِ.
(2/474)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَهَذَا شَرْحُ قَوْلِهِ: «الْعَامِّ الْكَامِلِ هُوَ الْجَمْعُ لِقِيَامِ الْعُمُومِ بِصِيغَتِهِ وَمَعْنَاهُ جَمِيعًا وَبِمَعْنَى غَيْرِهِ فَقَطْ» .
قَوْلُهُ: «فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: هَذِهِ أَقْسَامُ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ الْمَذْكُورَةُ تَقْتَضِي الْعُمُومَ عِنْدَنَا بِالْوَضْعِ، أَيْ: بِقَصْدِ وَاضِعِ اللُّغَةِ، إِفَادَتَهَا لِلْعُمُومِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ أَوْ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِهِ كَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْخُصُوصُ ; فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ.
«وَقَالَتِ الْوَاقِفِيَّةُ: لَا صِيغَةَ لِلْعُمُومِ، تَدُلُّ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ» . وَأَمَّا الْأَقْسَامُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ ; فَهِيَ بِالْوَضْعِ تَدُلُّ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ بَعْدُ، وَمَا زَادَ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ، أَيْ: بَيْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ، وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ مَعْنَى عِبَارَةِ «الرَّوْضَةِ» ، وَكِلْتَاهُمَا لَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ، وَلَا يَتَحَصَّلُ مِنْهَا تَحْقِيقُ الْمُرَادِ، وَالْعِبَارَةُ الصَّحِيحَةُ عِبَارَةُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ حَيْثُ قَالَ: وَقَالَتِ الْوَاقِفِيَّةُ: لَمْ تُوضَعْ، يَعْنِي الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَةَ، لِعُمُومٍ وَلَا لِخُصُوصٍ، بَلْ أَقَلُّ الْجَمْعِ دَاخِلٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْوَضْعِ، وَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى اسْتِغْرَاقِ الْجَمِيعِ. أَوِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ، أَوْ تَنَاوُلِ صِنْفٍ
(2/475)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَعَدَدٍ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالِاسْتِغْرَاقِ مُشْتَرَكٌ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
قُلْتُ: وَصُورَةُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ قَوْلَنَا: الْمُسْلِمِينَ أَوِ الرِّجَالَ مَثَلًا يَتَنَاوَلُ أَقَلَّ الْجَمْعِ بِحُكْمِ الْوَضْعِ، ثُمَّ هَذَا اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ الرِّجَالِ وَثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ كَالْعَشَرَةِ وَالْعِشْرِينَ ; فَيُقَالُ لِجِنْسِ الذُّكُورِ مِنْ بَنِي آدَمَ: رِجَالٌ، وَلِلثَّلَاثَةِ مِنْهُمْ رِجَالٌ، وَلِمَا فَوْقَ ذَلِكَ رِجَالٌ بِالِاشْتِرَاكِ. وَحَاصِلُ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ أَقَلُّ الْجَمْعِ وَالِاسْتِغْرَاقِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَقَادِيرِ، وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْصَرَ لَفْظُ الْعُمُومِ عَلَى مَا دُونِ أَقَلِّ الْجَمْعِ ; لِأَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لَهُ بِحُكْمِ الْوَضْعِ، وَاشْتِرَاكُ لَفْظِ الْعُمُومِ بَيْنَ الْمَقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ كَاشْتِرَاكِ النَّفَرِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ، إِذِ الثَّلَاثَةُ تُسَمَّى نَفَرًا، وَكَذَلِكَ الْأَرْبَعَةُ وَالْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ، إِلَى الْعَشَرَةِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُسَمَّى نَفَرًا ; فَلَفْظُ النَّفَرِ يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ هَذِهِ الْمَقَادِيرِ بِالِاشْتِرَاكِ، أَيْ: هُوَ مَوْضُوعٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ; فَكَذَلِكَ لَفَظُ الرِّجَالِ مَوْضُوعٌ لِصِنْفِهِمُ الْمُسْتَغْرِقِ لَهُمْ وَلِلثَّلَاثَةِ مِنْهُمْ، وَلِمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ مَقَادِيرِ أَعْدَادِهِمْ.
«وَقِيلَ: لَا عُمُومَ فِيمَا فِيهِ اللَّامُ» ، كَالرَّجُلِ وَالسَّارِقِ.
وَقِيلَ: لَا عُمُومَ إِلَّا فِيمَا فِيهِ اللَّامُ.
«وَقِيلَ: لَا عُمُومَ فِي النَّكِرَةِ إِلَّا مَعَ مِنْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً، نَحْوَ: مَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ» ، وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدٍ «وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، وَنَحْوَهُ ; لِأَنَّ مِنْ فِيهِ مُقَدَّرَةٌ، هَذِهِ الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
(2/476)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَصْلُهُ فِي مَذَاهِبِ النَّاسِ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَهِيَ خَمْسَةٌ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَتِ الْمُرْجِئَةُ إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ لَا صِيغَةَ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَخُصُّهُ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّيَغَ الْمَذْكُورَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْعُمُومِ مَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ الْحَالَ، يَعْنِي أَنَّهَا مَجَازٌ فِي الْعُمُومِ حَقِيقَةٌ فِي غَيْرِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَ فِي عُمُومِ اسْمِ الْجَمْعِ وَاسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ دُونَ غَيْرِهِ كَأَبِي هَاشِمٍ.
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاشْتِرَاكِ وَالْوَقْفِ، وَوَافَقَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْوَقْفِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ فِي الْأَخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الصِّيَغَ الْمَذْكُورَةَ حُجَّةٌ فِي الْخُصُوصِ لِتَيَقُّنِهِ وَالْوَقْفُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ. عُدْنَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
(2/477)
________________________________________
لَنَا وُجُوهٌ:
الْأَوَّلَ: إِجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى التَّمَسُّكِ بِعُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ مَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ. وَكَانُوا يَطْلُبُونَ دَلِيلَ الْخُصُوصِ، لَا الْعُمُومِ، وَهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ.
الثَّانِي: أَنَّ صِيَغَ الْعُمُومِ تَعُمُّ حَاجَةَ كُلِّ لُغَةٍ إِلَيْهَا ; فَيَمْتَنِعُ عَادَةً إِخْلَالُ الْوَاضِعِ الْحَكِيمِ بِهَا مَعَ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مَنْ قَالَ: اقْطَعِ السَّارِقَ، وَاجْلِدِ الزَّانِيَ، وَاقْتُلْ الْمُشْرِكِينَ، وَارْحَمِ النَّاسَ، وَالْحَيَوَانَ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَمَا لِي صَدَقَةٌ، وَمَنْ جَاءَكَ فَأَكْرِمْهُ، وَأَيَّ رَجُلٍ لَقِيتَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، وَأَيْنَ وَأَيَّانَ وَمَتَى وَجَدْتَ زَيْدًا فَاقْتُلْهُ، وَكُلُّ أَوْ جَمِيعُ مَنْ دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَلَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، يُفْهَمُ الْعُمُومُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللِّسَانِ.
الْوَاقِفِيَّةُ مَا زَادَ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ يَحْتَمِلُ إِرَادَتَهُ وَعَدَمَهَا ; فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى وَضْعِ هَذِهِ الصِّيَغِ لِلْعُمُومِ لَيْسَ عَقْلِيًّا، إِذْ لَا أَثَرَ لِلْعَقْلِ فِي اللُّغَاتِ، وَلَا نَقْلِيًّا، إِذْ تَوَاتُرُهُ مَفْقُودٌ، وَآحَادُهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتْهَا فِي الْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ ; فَأَفَادَ الِاشْتِرَاكَ، وَإِلَّا كَانَ جَعْلُهَا مَوْضُوعَةً لِأَحَدِهِمَا تَحَكُّمًا.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ دَعْوَى الشَّكِّ وَعَدَمِ الدَّلِيلِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ لَا يُسْمَعُ، وَاسْتِعْمَالُهُمْ لَهَا فِي الْخُصُوصِ مَجَازٌ بِقَرَائِنَ.
الْآخَرُ: اللَّامُ تُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَلِبَعْضِ الْجِنْسِ، وَلِلْمَعْهُودِ فَبِمَ تَخْتَصُّ بِالْعُمُومِ.
قُلْنَا: بِالْقَرِينَةِ، إِذْ وُجُودُ الْمَعْهُودِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُهَا إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَإِلَى الْجِنْسِ. ثُمَّ هِيَ تَسْتَغْرِقُ الْمَعْهُودَ إِذَا صُرِفَتْ إِلَيْهِ. فَكَذَا الْجِنْسُ إِذَا صُرِفَتْ إِلَيْهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/478)
________________________________________
وَحِينَئِذٍ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَعْضِ الْجِنْسِ مَجَازٌ كَاسْتِعْمَالِهَا فِي بَعْضِ الْمَعْهُودِ مُجَازٌ لِقَرِينَةٍ، وَجَوَابُ الْآخَرِ حَصَلَ بِمَا سَبَقَ.
الْآخَرُ: يَحْسُنُ مَا عِنْدِي رَجُلٌ بَلْ رَجُلَانِ، بِخِلَافِ: مَا عِنْدِي مِنْ رَجُلٍ.
قُلْنَا: النَّفْيُ إِذَا وَقَعَ عَلَى النَّكِرَةِ، اقْتَضَى نَفْيَ مَاهِيَّتِهَا وَهِيَ لَا تَنْتَفِي إِلَّا بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا، وَهَذَا قَاطِعٌ ; فَوَجَبَ تَأْوِيلُ مَا ذَكَرْتُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: بَلْ رَجُلَانِ قَرِينَةُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ إِثْبَاتَ مَا أَثْبَتَ مِنْهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، أَيْ: عَلَى أَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَذْكُورَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِفَادَةِ الْعُمُومِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِعُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مُخَصِّصٌ ; فَيَخُصُّونَ بِهِ الْعُمُومَ، وَكَانُوا فِي اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ إِنَّمَا يَطْلُبُونَ دَلِيلَ الْخُصُوصِ لِيَخُصُّوا بِهِ الْعُمُومَ، لَا دَلِيلَ الْعُمُومِ مَعَ وُجُودِ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ ; فَكَانُوا يَجْعَلُونَ أَلْفَاظَ الْعُمُومِ الْمَذْكُورَةَ أُسًّا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ، فَإِذَا ظَهَرَ لَهُمْ مُخَصِّصٌ، أَعْمَلُوهُ بِحَسَبِهِ، وَهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهَا الْعُمُومَ لُغَةً بِالْوَضْعِ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرَائِنِ الْمُنْضَمَّةِ إِلَيْهِ لِتُفِيدَهُ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى إِرْثِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِنْ أَبِيهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِعُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّسَاءِ: 11] ، حَتَّى رَوَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِيثَ: نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَخَصُّوا بِهِ الْعُمُومَ.
(2/479)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَمَّا نَزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ} ، قَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: إِنِّي ضَرِيرُ الْبَصَرِ ; فَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النِّسَاءِ: 95] ; فَخَصَّهُ وَغَيْرَهُ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ مِنَ الْعُمُومِ.
وَقَدْ سَبَقَتْ حِكَايَةُ ابْنِ الزِّبَعْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] ، الْآيَةَ، فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ غَيْرِ ذَلِكَ.
فَهَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الصِّيَغَ الْمَذْكُورَةَ لِلْعُمُومِ.
الْوَجْهُ «الثَّانِي: أَنَّ صِيَغَ الْعُمُومِ تَعُمُّ حَاجَةَ كُلِّ لُغَةٍ إِلَيْهَا» ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، امْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ إِخْلَالُ الْوَاضِعِ الْحَكِيمِ بِهَا مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا.
أَمَّا أَنَّ الْحَاجَةَ تَعُمُّ إِلَيْهَا فِي كُلِّ لُغَةٍ ; فَلِأَنَّ اللُّغَةَ إِنَّمَا جُعِلَتْ لِلْإِبَانَةِ عَمَّا فِي نُفُوسِ الْعُقَلَاءِ، وَكَمَا يَحْتَاجُ الْعَاقِلُ إِلَى الْبَيَانِ عَنِ الْمُسَمَّى الْخَاصِّ، كَالرَّجُلِ وَنَحْوِهِ، كَذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ عَنِ الْمُسَمَّى الْعَامِّ، كَالرِّجَالِ وَنَحْوِهِمْ ; لِأَنَّ الْكُلَّ يَخْطُرُ فِي النُّفُوسِ وَيَتَعَلَّقُ بِبَيَانِهِ الْغَرَضُ. وَأَمَّا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي الْعَادَةِ إِخْلَالُ
(2/480)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَاضِعِ بِوَضْعِ صِيَغِ الْعُمُومِ ; فَلِأَنَّا فَرَضْنَاهُ حَكِيمًا ; فَلَوْ أَخَلَّ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، لَمْ يَكُنْ حَكِيمًا هَذَا خُلْفٌ.
فَإِنْ قِيلَ: عِنْدَكُمْ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ ; فَلَعَلَّهُ أَخَلَّ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، لِعَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ.
قُلْتُ: إِنْ مَنَعْنَا أَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ يَلْزَمْنَا هَذَا السُّؤَالُ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ ; فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ اللُّغَةَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِهِ ; فَلَوْ كَلَّفَهُمْ بِدُونِهِ، لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّكْلِيفُ بِدُونِ اللُّغَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُقَ فِي قُلُوبِ الْمُكَلَّفِينَ عُلُومًا يُدْرِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِهَا مَا فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ.
قُلْنَا: فَذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ وَاجِبٍ ; فَجَازَ أَنْ يَتْرُكَهُ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ كَمَا قُلْتُمْ فِي اللُّغَةِ، وَحِينَئِذٍ يَدُورُ الْأَمْرُ بَيْنَ وَضْعِ لُغَةٍ يَتَفَاهَمُونَ بِهَا، وَبَيْنَ خَلْقِ عُلُومٍ يُدْرِكُونَ بِهَا مَا فِي نُفُوسِهِمْ ; فَتَرَجَّحَ وَضْعُ اللُّغَةِ بِإِرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ إِطْلَاقَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ يُفْهَمُ مِنْهَا الْعُمُومُ فِي عُرْفِ أَهْلِ اللِّسَانِ ; فَتَكُونُ لِلْعُمُومِ. أَمَّا أَنَّهَا يُفْهَمُ مِنْهَا الْعُمُومُ ; فَلِأَنَّ «مَنْ قَالَ: اقْطَعِ السَّارِقَ، وَاجْلِدِ الزَّانِيَ، وَاقْتُلِ الْمُشْرِكِينَ، وَارْحَمِ النَّاسَ وَالْحَيَوَانَ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَمَالِي صَدَقَةٌ، وَمَنْ جَاءَكَ فَأَكْرِمْهُ، وَأَيَّ رَجُلٍ لَقِيتَ
(2/481)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، وَأَيْنَ وَأَيَّانَ وَمَتَى وَجَدْتَ زَيْدًا ; فَاقْتُلْهُ، وَكُلُّ أَوْ جَمِيعُ مَنْ دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَلَا رَجُلَ فِي الدَّارِ» فَإِنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ يَفْهَمُونَ الْعُمُومَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَقَاوِيلُهُمْ وَوَقَائِعُهُمْ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ، وَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالنَّقْلِ الْمُفِيدِ لِلْعِلْمِ لِمَنِ اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا أَنَّهُمْ إِذَا فَهِمُوا الْعُمُومَ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَكُونُ لِلْعُمُومِ ; فَلَمَّا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَقَدْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرَائِنِ ; فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ الصِّيَغَ الْمَذْكُورَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْعُمُومِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيغَةً مَوْضُوعَةً مَا صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَشَهُّدِهِمْ: السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، السَّلَامُ عَلَى جِبْرِيلَ، السَّلَامُ عَلَى مِيكَائِيلَ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ، وَفُلَانٍ ; فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقُولُوا هَكَذَا، وَلَكِنْ قُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ; فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ ; فَقَدْ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ. وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَ أَنَّ مُقْتَضَى لَفْظِ
(2/482)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصَّالِحِينَ فِي اللُّغَةِ الْعُمُومُ وَالِاسْتِغْرَاقُ، وَحَسْبُكَ بِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالصِّدْقِ.
قَوْلُهُ: «الْوَاقِفِيَّةُ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْوَاقِفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصِّيَغَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ، بَلْ لِمَا ذَكَرُوهُ قَبْلُ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ مُتَحَقِّقُ الْإِرَادَةِ مِنَ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ، نَحْوَ الرِّجَالِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ يَحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَأَنْ لَا يَكُونُ، وَإِذَا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ ; فَلَا تَثْبُتُ إِرَادَتُهُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ إِرَادَتِهِ ; فَيُسْتَصْحَبُ حَالُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى وَضْعِ هَذِهِ الصِّيَغِ لِلْعُمُومِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، إِذْ لَا أَثَرَ وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي اللُّغَاتِ ; لِأَنَّ طَرِيقَهَا التَّوْقِيفُ، أَوِ الِاصْطِلَاحُ. وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ النَّقْلَ إِمَّا تَوَاتُرٌ أَوْ آحَادٌ، وَالتَّوَاتُرُ مَفْقُودٌ، إِذْ لَوْ نُقِلَ أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ لِلْعُمُومِ بِالتَّوَاتُرِ، لَاشْتَرَكْنَا فِيهِ جَمِيعًا، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ كَسَائِرِ الْقَضَايَا الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَمَّا نَقْلُهُ بِطَرِيقِ الْآحَادِ ; فَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْعِلْمِ، بَلْ لِلظَّنِّ ; فَلَا يَثْبُتُ بِهِ هَذَا الْأَصْلُ الْعَامُّ الْعَظِيمُ الْخَطَرِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتْ هَذِهِ الصِّيَغَ فِي الْخُصُوصِ تَارَةً، وَفِي الْعُمُومِ أُخْرَى عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ كَلَامِهِمُ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ كُلِّ مَا اسْتَعْمَلُوهَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ وَأَقَلِّ الْجَمْعِ وَمَا بَيْنَهُمَا، فَلَوْ لَمْ تُجْعَلْ لِلِاشْتِرَاكِ، لَكَانَ جَعْلُهَا مَوْضُوعَةً لِأَحَدِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ تَحَكُّمًا وَتَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ ; فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْعُمُومَ لَا صِيغَةَ لَهُ بِالْوَضْعِ.
(2/483)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- قَوْلُهُ: «وَأُجِيبُ» ، أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْوَاقِفِيَّةُ.
أَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَقَوْلُهُمْ: مَا زَادَ عَنْ أَقَلِّ الْجَمْعِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ; فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهَا لِلْعُمُومِ إِمَّا الْعَقْلُ، أَوِ النَّقْلُ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ.
قُلْنَا: هَذَا لَا يُسْمَعُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى التَّمَسُّكِ فِي الْعُمُومِ بِالصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ ; لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ مُصَادِمٌ لِلْإِجْمَاعِ. ثُمَّ نَقُولُ: هَبْ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ يَحْتَمْلُ أَنَّهُ مُرَادٌ مِنَ الصِّيغَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، لَكِنْ لَيْسَ الِاحْتِمَالَانِ عَلَى السَّوَاءِ، بَلِ احْتِمَالُ إِرَادَتِهِ أَظَهَرُ وَهَكَذَا نَقُولُ: إِنَّ دَلَالَةَ صِيَغِ الْعُمُومِ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ لَا قَاطِعَةٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ إِمَّا عَقْلِيٌّ أَوْ نَقْلِيٌّ.
قُلْنَا: نَقْلِيٌ.
قَوْلُهُمْ: تَوَاتُرُهُ مَفْقُودٌ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ لِمَنِ اسْتَقْرَأَ كَلَامَ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَنَظَرَ فِي وَقَائِعِهِمْ، وَإِنَّمَا لَمْ يَحْصُلْ لَكُمُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا لِلْعُمُومِ ; لِأَنَّكُمْ لَمْ تَسْتَقْرِئُوا مَوَاقِعَهَا فِي اللُّغَةِ وَمُخَاطَبَاتِ أَهْلِهَا، وَالتَّوَاتُرُ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ مَنْ شَارَكَ فِي سَبَبِهِ، وَإِلَّا لَاشْتَرَكَ أَهْلُ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ تَوَاتُرِيَّةٍ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ.
سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ قَوْلَكُمْ آحَادُهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ.
قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إِفَادَةِ الْعِلْمِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَأُجِيبَ» عَنِ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ «بِأَنَّ دَعْوَى الشَّكِّ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ لَا يُسْمَعُ» .
(2/484)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ اسْتَعْمَلَتِ الصِّيَغَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ; فَبِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُمْ لَهَا فِي الْخُصُوصِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ بِقَرَائِنَ أَفَادَتِ التَّجَوُّزَ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي كَوْنَهَا لِلْعُمُومِ بِالْوَضْعِ.
قَوْلُهُ: «الْآخَرُ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْآخَرُ وَهُوَ الَّذِي قَالَ: لَا عُمُومَ فِيمَا فِيهِ اللَّامُ، فَإِنَّ اللَّامَ تُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِغْرَاقِ تَارَةً. نَحْوَ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التَّوْبَةِ: 5] ، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [الْقَمَرِ: 54] ، وَلِبَعْضِ الْجِنْسِ تَارَةً، نَحْوَ: شَرِبْتُ الْمَاءَ، وَأَكَلْتُ الْخُبْزَ، وَالْمُرَادُ بَعْضُهُ بِالضَّرُورَةِ. وَلِلْمَعْهُودِ تَارَةً نَحْوَ: لَقِيتُ الدَّابَّةَ ; فَرَكِبْتُ الدَّابَّةَ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [الْمُزَّمِّلِ: 16] ، أَيِ: الرَّسُولَ الْمَعْهُودَ فِي الْخِطَابِ، وَإِذَا كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَخْتَصُّ بِإِفَادَةِ الْعُمُومِ، وَهَلْ ذَلِكَ إِلَّا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا بِالْقَرِينَةِ» ، أَيْ: قُلْنَا: إِنَّمَا اسْتُعْمِلَتْ فِي بَعْضِ الْجِنْسِ وَفِي الْمَعْهُودِ بِالْقَرِينَةِ. أَمَّا فِي بَعْضِ الْجِنْسِ ; فَلِأَنَّ مَنْ قَالَ: شَرِبْتُ الْمَاءَ، عَلِمْنَا بِقَرِينَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ بَعْضَ الْمَاءِ، وَهُوَ قَدْرُ مَا يُذْهِبُ عَطَشَهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَشْرَبَ كُلَّ مَاءٍ فِي الْأَرْضِ بَلْ فِي الْوُجُودِ. وَأَمَّا فِي الْمَعْهُودِ ; فَلِأَنَّ وُجُودَ الْمَعْهُودِ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ اللَّامَ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَعْهُودٌ، وَجَبَ صَرْفُهَا إِلَى الْجِنْسِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْعُمُومِ ; فَاسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَعْهُودِ وَبَعْضِ الْجِنْسِ بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْوَضْعِ حَتَّى يَكُونَ صَرْفُهَا إِلَى الْعُمُومِ تَحَكُّمًا.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ هِيَ تَسْتَغْرِقُ الْمَعْهُودَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا إِلْزَامٌ قِيَاسِيٌّ لِلْخَصْمِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَعْهُودَ بَعْضُ مَوَارِدِ اللَّامِ كَمَا ذَكَرْتُ، ثُمَّ هِيَ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ لِلْمَعْهُودِ، اسْتَغْرَقَتْهُ، وَتَنَاوَلَتْ جَمِيعَهُ ; فَكَذَا يَنْبَغِي فِي الْجِنْسِ إِذَا
(2/485)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ أَنْ تَسْتَغْرِقَهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْعُمُومِ. وَهَذَا مَعَ مَا قَبْلَهُ مِنْ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي الْمَعْهُودِ وَبَعْضِ الْجِنْسِ بِالْقَرِينَةِ يُفِيدُ أَنَّهَا لِلْعُمُومِ بِحَقِّ الْأَصْلِ.
قَوْلُهُ: «وَحِينَئِذٍ اسْتِعْمَالُهَا فِي بَعْضِ الْجِنْسِ مَجَازٌ كَاسْتِعْمَالِهَا فِي بَعْضِ الْمَعْهُودِ» . هَذَا تَقْرِيرٌ لِكَوْنِ اسْتِعْمَالِ اللَّامِ فِي بَعْضِ الْجِنْسِ مَجَازًا. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ حَيْثُ ثَبَتَ بِمَا سَبَقَ أَنَّ اللَّامَ تَسْتَغْرِقُ الْمَعْهُودَ وَالْجِنْسَ إِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِيهِمَا، دَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي بَعْضِ الْجِنْسِ مُجَازٌ، كَمَا أَنَّهَا إِذَا دَلَّتْ عَلَى بَعْضِ الْمَعْهُودِ لِقَرِينَةٍ، كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا، كَمَا إِذَا قَالَ: لَقِيتُ جَمْعًا مِنَ الرِّجَالِ وَالصِّبْيَانِ ; فَأَمَرْتُ الْجَمْعَ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّامَ إِنَّمَا تَنْصَرِفُ إِلَى بَعْضِ الْجَمْعِ وَهُمُ الْمُكَلَّفُونَ دُونَ الصِّبْيَانِ بِقَرِينَةِ وَضْعِ الْقَلَمِ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: «وَجَوَابُ الْآخَرِ» ، يَعْنِي الَّذِي قَالَ: لَا عُمُومَ إِلَّا فِيمَا فِيهِ اللَّامُ، «حَصَلَ بِمَا سَبَقَ» مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ اللَّامِ مِنَ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ تَقْتَضِي الْعُمُومَ أَيْضًا، وَهِيَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى التَّمَسُّكِ فِي الْعُمُومِ بِهَا، وَاقْتِضَاءُ حِكْمَةِ الْوَاضِعِ وَضْعَهَا لِلْعُمُومِ، وَفَهْمُ الْعُمُومِ مِنْ إِطْلَاقِهَا فِي عُرْفِ اللِّسَانِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ كُلُّهُ.
قَوْلُهُ: «الْآخَرُ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْآخَرُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ: لَا عُمُومَ فِي النَّكِرَةِ إِلَّا مَعَ مِنْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً، وَتَقْرِيرُ حُجَّتِهِ أَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: مَا عِنْدِي رَجُلٌ، بَلْ رَجُلَانِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: مَا عِنْدِي مِنْ رَجُلٍ بَلْ رَجُلَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ: مَا عِنْدِي مِنْ رَجُلٍ يَعُمُّ لِامْتِنَاعِ إِثْبَاتِ
(2/486)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّنَاقُضِ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ، وَأَنَّ مَا عِنْدِي رَجُلٌ، لَا يَعُمُّ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ إِفْضَائِهِ إِلَى التَّنَاقُضِ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ إِلَّا إِثْبَاتُ مِنْ وَعَدِمُهَا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْعُمُومِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَيَلْحَقُ بِثُبُوتِهَا تَحْقِيقًا ثُبُوتُهَا تَقْدِيرًا، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَسِرُّ هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ مِنْ مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجِنْسِ، فَإِذَا دَخَلَ النَّفْيُ عَلَيْهَا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، كَمَا سَبَقَ مِثَالُهُ، أَفَادَ نَفْيَ الْجِنْسِ وَهُوَ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ وَالْعُمُومِ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا، لَمْ يُفِدْ نَفْيَ الْجِنْسِ، بَلْ نَفْيَ الشَّخْصِ الْمَذْكُورِ مُبْهَمًا.
مِثَالُهُ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ رَجُلٍ، يَقْتَضِي نَفْيَ جِنْسِ الرِّجَالِ مِنَ الدَّارِ، وَمَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ، يَقْتَضِي نَفْيَ رَجُلٍ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ جِنْسِ الرِّجَالِ، وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُخْبَرَ بِإِثْبَاتِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ، نَحْوَ بَلْ عِنْدِي رَجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ، وَمِنْ ثَمَّ وَجَبَ بِنَاءُ لَا مَعَ النَّكِرَةِ بَعْدَهَا، نَحْوَ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا جَوَابُ سَائِلٍ سَأَلَ ; فَقَالَ: هَلْ مِنْ رَجُلٍ فِي الدَّارِ؟ وَالْجَوَابُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ طِبْقَ السُّؤَالِ ; فَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ لَا مِنْ رَجُلٍ فِي الدَّارِ لَكِنْ حُذِفَتْ «مِنْ» مِنَ الْجَوَابِ لِدَلَالَتِهَا عَلَيْهِ فِي السُّؤَالِ. ثُمَّ ضُمِّنَ الْكَلَامُ مَعْنَاهَا،
(2/487)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَبُنِيَ، كَمَا أَنَّ خَمْسَةَ عَشَرَ لَمَّا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ فِي خَمْسَةٍ وَعَشَرَةٍ، بُنِيَتْ لِأَنَّ الاضسْمَ إِذَا تَضَمَّنَ مَعْنَى الْحَرْفِ أَشْبَهَ الْحَرْفَ مِنْ جِهَةِ إِفَادَتِهِ مَعْنَاهُ ; فَبُنِيَ كَمَا يُبْنَى الْحَرْفُ.
قَوْلُنَا: «قُلْنَا: النَّفْيُ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ دَلِيلِ هَذَا الْقَائِلِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ النَّفْيَ إِذَا وَقَعَ عَلَى النَّكِرَةِ، اقْتَضَى نَفْيَ مَاهِيَّتِهَا، وَمَاهِيَّتُهَا لَا تَنْتَفِي إِلَّا بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا، كَمَا إِذَا قَالَ: لَا صَلَاةَ بِغَيْرِ طُهُورٍ ; فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِمَاهِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ أَفْرَادِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طُهُورٍ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ. وَهَذَا الدَّلِيلُ قَاطِعٌ فِي الْعُمُومِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَأْوِيلُ مَا ذَكَرْتَ أَيُّهَا الْخَصْمُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْعُمُومِ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٍ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ قَاطِعٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَاطِعُ وَغَيْرُهُ، كَانَ تَقْدِيمُ الْقَاطِعِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مُعَارِضٌ أَوْلَى.
وَوَجْهُ تَأْوِيلِ مَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الدَّلِيلِ هُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا عِنْدِي رَجُلٌ، لَوِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، لَاقْتَضَى الْعُمُومَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: بَلْ رَجُلَانِ، قَرِينَةٌ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ نَفْيَ مَاهِيَّةِ الرَّجُلِ، بَلْ نَفْيَ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسِ، وَإِثْبَاتَ مَا أُثْبِتَ مِنْهُ، وَهُوَ اثْنَانِ ; فَكَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً مُتَّصِلَةً صَارِفَةً عَنْ إِرَادَةِ الْعُمُومِ، كَمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ الرِّجَالِ رَأَيْتُ إِلَّا جَعْفَرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/488)
________________________________________
ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ:
الْأُولَى: أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَحُكِيَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ، وَابْنِ دَاوُدَ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَالنُّحَاةِ أَنَّهُ اثْنَانِ.
لَنَا: إِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالتَّثْنِيَةِ فِي التَّكَلُّمِ وَالتَّصْنِيفِ، وَعَدَمِ نَعْتِ أَحَدِهِمَا وَتَأْكِيدِهِ بِالْآخَرِ ; نَحْوَ: رِجَالٌ اثْنَانِ، أَوْ رَجُلَانِ ثَلَاثَةٌ، أَوِ الرِّجَالُ كِلَاهُمَا، أَوِ الرَّجُلَانِ كُلُّهُمْ، وَصِحَّةِ: لَيْسَ الرَّجُلَانِ رِجَالًا، وَبِالْعَكْسِ.
قَالُوا: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الْحَجِّ: 19] ، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الْحُجُرَاتِ: 9] ، {نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا} [ص: 21] ، وَكَانَ اثْنَيْنِ {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التَّحْرِيمِ: 4] وَحَجَبَ الْأُمَّ إِلَى السُّدُسِ بِأَخَوَيْنِ، وَهُمَا فِي الْآيَةِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ، وَمَعْنَى الْجَمْعِ حَاصِلٌ فِي التَّثْنِيَةِ، وَهُوَ الضَّمُّ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّ الْخَصْمَ وَالطَّائِفَةَ يَقَعَانِ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَوْ جَمَعَ ضَمِيرَ الطَّائِفَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهِمَا، وَ (قُلُوبُكُمَا) تَثْنِيَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ فِرَارًا مِنِ اجْتِمَاعِ تَثْنِيَتَيْنِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْلَا الْإِجْمَاعُ لَاعْتُبِرَ فِي حَجْبِ الْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ ; وَلَمَّا قَالَ لِعُثْمَانَ: لَيْسَ الْأَخَوَانِ إِخْوَةً فِي لِسَانِ قَوْمِكَ، احْتَجَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا مَنَعَ وَالِاثْنَانِ جَمَاعَةٌ فِي حُصُولِ الْفَضِيلَةِ حُكْمًا لَا لَفْظًا، إِذِ الشَّارِعُ يُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ لَا اللُّغَاتِ، وَالْآخَرُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ أَوْ طَرْدٌ لِلِاشْتِقَاقِ، وَهُمَا مَمْنُوعَانِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/489)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ هُنَا مَسَائِلُ» ، أَيْ: بَعْدَ أَنِ انْتَهَى الْكَلَامُ فِي حَدِّ الْعَامِّ، وَمَرَاتِبِهِ، وَإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ، وَدَفْعِ شُبَهِ النُّفَاةِ لَهُ عَلَى مَا مَرَّ، وَذَلِكَ كَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ لِلْبَابِ ; فَهَاهُنَا مَسَائِلُ كَالْجُزْئِيَّاتِ لَهُ:
«الْأُولَى: أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ» ، عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ إِلَّا مَالِكًا، «وَحُكِيَ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ وَابْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالنُّحَاةِ أَنَّهُ اثْنَانِ» ، وَحَكَاهُ أَيْضًا فِي «الْمَحْصُولِ» عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ وَجَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. وَحَكَى الْآمِدِيُّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَمَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالثَّانِي عَنْ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتِ وَمَالِكٍ وَدَاوُدَ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْغَزَّالِيِّ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
«لَنَا» عَلَى الْأَوَّلِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا «عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فِي التَّكَلُّمِ وَالتَّصْنِيفِ» .
أَمَّا فِي التَّكَلُّمِ ; فَلِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَجُلَانِ وَرِجَالٌ، وَأَمَّا فِي التَّصْنِيفِ ; فَلِأَنَّهُ مَا مِنْ كِتَابٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ إِلَّا وَيُوجَدُ فِيهِ بَابُ التَّثْنِيَةِ وَبَابُ الْجَمْعِ، وَأَنَّ رَفْعَ التَّثْنِيَةِ بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ، نَحْوَ: الزَّيْدَانِ، وَرَفْعَ الْجَمْعِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، نَحْوَ: الزَّيْدُونَ، وَحَيْثُ أَجْمَعُوا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ، وَعَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ
(2/490)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضَمِيرِ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، نَحْوَ: ضَرَبَا وَضَرَبُوا، وَيَضْرِبَانِ وَيَضْرِبُونَ، وَضَارِبَانِ، وَضَارِبُونَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ لَيْسَا جَمْعًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا فَرْقًا نَوْعِيًّا بِمَعْنَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ نَوْعُ جَمْعٍ، لَكِنَّهُ اخْتَصَّ بِمَا أَوْجَبَ إِفْرَادَهُ بِالذِّكْرِ فِي التَّكَلُّمِ وَالتَّصْنِيفِ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ نَوْعٌ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَيُفْرَدُ عَنْهُ بِحَدِّهِ وَخَوَاصِّهِ، وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ بِالطَّرِيقِ الْعَامِّ، هُوَ أَنَّ الْجَوَازَ لَا يَكْفِي فِي الثُّبُوتِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي جَوَازِ أَنَّ أَقَلَّ الْجُمَعِ اثْنَانِ، لَكِنْ فِي ثُبُوتِهِ وَوُقُوعِهِ ; فَأَيْنَ دَلِيلُهُ؟ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ مُعَارَضٌ بِجَوَابِهِ وَبِأَدِلَّتِنَا ; فَيَسْقُطُ، وَيَبْقَى الْأَصْلُ، وَهُوَ عَدَمُ دَعْوَاكُمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَ الِاثْنَانِ أَقَلَّ الْجَمْعِ، لَجَازَ لَفْتُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ; فَلَا يَكُونُ الِاثْنَانِ أَقَلَّ الْجَمْعِ.
أَمَّا الْمُلَازَمَةُ ; فَلِأَنَّ أَقَلَّ الشَّيْءِ يَصْدَقُ عَلَيْهِ اسْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ، كَمَا أَنَّ أَقَلَّ الْمَاءِ مَاءٌ، وَأَنَّ أَقَلَّ الْعَدَدِ عَدَدٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ مَعْنَى أَقَلِّ الشَّيْءِ أَنَّهُ شَيْءٌ فِي نِهَايَةِ الْقِلَّةِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ فِي نِهَايَةِ الْقِلَّةِ ; فَيَكُونُ مُشَارِكًا لِأَكْثَرِ الْجَمْعِ فِي مَاهِيَّةِ الْجَمْعِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ نَعْتِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بِاعْتِبَارِ الْمَاهِيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ، أَوْ يُخْبَرُ عَنْهُ بِهِ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ ; فَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ اثْنَانِ، وَلَا هَذَانِ رَجُلَانِ ثَلَاثَةٌ، وَلَا يُقَالُ: الرِّجَالُ رَجُلَانِ، وَلَا الرَّجُلَانِ رِجَالٌ، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ،
(2/491)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الِاثْنَيْنِ لَيْسَا أَقَلَّ الْجَمْعِ ; فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ جَمْعًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ الِاثْنَانِ أَقَلَّ الْجَمْعِ، لَجَازَ تَأْكِيدُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ; فَلَا يَكُونُ الِاثْنَانِ أَقَلَّ الْجَمْعِ. وَتَقْرِيرُ الْمُلَازَمَةِ مَا سَبَقَ فِي الْوَجْهِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا انْتِفَاءُ اللَّازِمِ ; فَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: قَامَ الرِّجَالُ كِلَاهُمَا، وَلَا قَامَ الرَّجُلَانِ كُلُّهُمْ ; فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّا قَدَّمْنَا فِي اللُّغَاتِ أَنَّ صِحَّةَ النَّفْيِ تَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا شَكَّ فِي صِحَّةِ قَوْلِنَا: لَيْسَ الرَّجُلَانِ رِجَالًا، وَبِالْعَكْسِ، لَيْسَ الرِّجَالُ رَجُلَيْنِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ لَيْسَا جَمْعًا حَقِيقَةً، كَمَا أَنَّ الرِّجَالَ لَيْسَ تَثْنِيَةً حَقِيقِيَّةً ; فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الِاثْنَيْنِ لَيْسَا جَمْعًا بِالْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا جَمْعًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ عِنْدَ مَنْ يُطْلِقُهُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: {هَذَانِ خَصْمَانِ} » ، أَيْ: قَالَ الْمُخَالِفُونَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الْحَجِّ: 19] ، وَخَصْمَانِ مُثَنًّى، وَالضَّمِيرُ فِي اخْتَصَمُوا ضَمِيرُ جَمْعٍ، وَقَدْ رَدَّهُ إِلَى خَصْمَانِ، وَالضَّمِيرُ يَجِبُ أَنْ يُطَابِقَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ خَصْمَانِ مُطَابِقٌ لِضَمِيرِ الْجَمْعِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ جَمْعًا ; فَإِذَنْ خَصْمَانِ جَمْعٌ، وَهُوَ مُثَنًّى ; فَالْمُثَنَّى أَقَلُّ الْجَمْعِ ; لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ إِلَّا الْوَاحِدُ، وَلَيْسَ بِجَمْعٍ بِالْإِجْمَاعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}
(2/492)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الْحُجُرَاتِ: 9] ; فَرَدَّ إِلَى الْمُثَنَّى ضَمِيرَ الْجَمْعِ، وَالتَّقْرِيرُ مَا سَبَقَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] ، وَكَانَ الْخَصْمُ الْمَذْكُورُ اثْنَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَعْدُ: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 22، 23] وَقَدْ رَدَّ ضَمِيرَ الْجَمْعِ إِلَى الِاثْنَيْنِ كَمَا سَبَقَ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التَّحْرِيمِ: 4] ; فَجَمَعَ الْقَلْبَ، وَالْخِطَابُ لِاثْنَيْنِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا جَمْعٌ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النِّسَاءِ: 11] ; فَأَثْبَتَ لِأُمِّهِ السُّدُسَ مَعَ الْأُخُوَّةِ وَهُمْ جَمْعٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا تُحْجَبُ مِنَ الثُّلْثِ إِلَى السُّدُسِ بِأَخَوَيْنِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا جَمْعٌ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ.
(2/493)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُهُ: الِاثْنَانِ جَمَاعَةٌ فَمَا فَوْقَهُمَا فَأَخْبَرَ عَنِ الِاثْنَيْنِ بِأَنَّهُمَا جَمَاعَةٌ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَقْصُودِ، وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ الضَّمُّ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي التَّثْنِيَةِ، إِذِ التَّثْنِيَةُ ضَمُّ اسْمٍ إِلَى مِثْلِهِ، وَالْجَمْعُ ضَمُّ اسْمٍ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ التَّثْنِيَةَ نَوْعُ جَمْعٍ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الضَّمُّ، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ نَوْعُ حَيَوَانٍ بِاعْتِبَارِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الْحَيَوَانِيَّةُ ; فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ التَّثْنِيَةَ أَقَلُّ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ» أَيْ: عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
أَمَّا عَنِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ ; فَبِأَنَّ «الْخَصْمَ وَالطَّائِفَةَ يَقَعَانِ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ» .
(2/494)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُقَالُ: هَذَا رَجُلٌ خَصْمٌ، وَرَجُلَانِ خَصْمٌ، وَرِجَالٌ خَصْمٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ، نَحْوَ: رَجُلٌ ضَيْفٌ، وَرِجَالٌ ضَيْفٌ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التَّوْبَةِ: 122] ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ ; لِأَنَّ خَبَرَهُ مَقْبُولٌ فِي التَّعْلِيمِ وَالتَّحْذِيرِ. وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النُّورِ: 2] ، وَالْمُرَادُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْخَصْمُ وَالطَّائِفَةُ يَقَعَانِ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، لَمْ يَبْقَ فِي الْآيَاتِ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَقَلُّ الْجَمْعِ، لِجَوَازِ أَنَّهُمْ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ أَكْثَرُ مِنِ اثْنَيْنِ، أَوْ يُقَالُ فِي الطَّائِفَتَيْنِ: إِنَّهُ جَمَعَ ضَمِيرَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِهِمَا ; لِأَنَّ الطَّائِفَةَ غَالِبًا تُطْلَقُ عَلَى أَفْرَادٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; فَجَمَعَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِ الطَّائِفَتَيْنِ، وَثَنَّاهُمَا بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الْحَجِّ: 19] ; لِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَمِّهِ حَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ بَارَزُوا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأَخَاهُ وَابْنَهُ الْوَلِيدَ يَوْمَ بَدْرٍ ; فَكُلُّ خَصْمٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةٌ ; فَهُمَا جَمِيعًا سِتَّةٌ ; فَجَمَعَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ، وَهِيَ سِتَّةٌ، وَتَثْنِيَةُ الْخَصْمِ بِاعْتِبَارِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمُوا فِيهِمَا.
وَأَمَّا عَنِ الرَّابِعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التَّحْرِيمِ: 4] فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
(2/495)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ الَّذِي فِي «الْمُخْتَصَرِ» -: أَنَّ هَذِهِ تَثْنِيَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، أَيْ: هِيَ تَثْنِيَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَتْ جَمْعًا فِي اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: لَفْظِيَّةٌ: وَهِيَ إِلْحَاقُ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ أَلِفًا وَنُونًا لِيَدُلَّا عَلَى أَنَّ مَعَهُ مِثْلَهُ، نَحْوَ: زَيْدَانِ وَهِنْدَانِ وَمُسْلِمَانِ وَمُسْلِمَتَانِ، وَمَعْنَوِيَّةٌ: وَهُوَ مَا أُضِيفَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى اثْنَيْنِ ; فَيَجْتَمِعُ فِيهِ تَثْنِيَتَانِ ; فَيُسْتَثْقَلُ ; فَيُرَدُّ إِلَى الْجَمْعِ تَخْفِيفًا مِثْلُ: قُلُوبِهِمَا، وَرُؤُوسِهِمَا وَظُهُورِهِمَا، وَبُطُونِهِمَا، إِذْ تَثْنِيَتُهُ اللَّفْظِيَّةُ: قَلْبَاهُمَا وَرَأْسَاهُمَا، وَظَهْرَاهُمَا وَبَطْنَاهُمَا، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى أَصْلِهِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
ظَهَرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ.
فَجَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: ذِكْرُهُ فِي الْمَعَالِمِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى
(2/496)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَيْلِ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ ; فَيُقَالُ لِلْمُنَافِقِ: إِنَّهُ ذُو قَلْبَيْنِ، وَالْمُؤْمِنُ لَهُ قَلْبٌ وَاحِدٌ، وَلِسَانٌ وَاحِدٌ، وَإِذَا كَانَ هَذَا سَائِغًا، وَجَبَ حَمْلُ الْقُلُوبِ عَلَى الْإِرَادَاتِ الْحَاصِلَةِ فِي الْقَلْبِ بِطَرِيقِ الْمُجَاوَرَةِ، كَمَا سُمِّيَ الْعَقْلُ قَلْبًا ; لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] .
قُلْتُ: وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التَّحْرِيمِ: 4] ، قَالَ: مَالَتْ قُلُوبُكُمَا.
قُلْتُ: وَالصَّغْوُ: الْمَيْلُ، وَهُوَ الْإِرَادَةُ، وَقَدْ يَتَعَدَّدُ لِتَقَلُّبِ الْقَلْبِ مَرَّةً كَذَا، وَمَرَّةً كَذَا وَمِنْهُ فِي الْحَدِيثِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ. وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَا سُمِّيَ الْإِنْسَانُ إِلَّا لِأُنْسِهِ ... وَلَا الْقَلْبُ إِلَّا أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ
وَأَمَّا عَنِ الْخَامِسِ: وَهُوَ أَنَّ الْإِخْوَةَ جَمْعٌ وَقَدْ حُجِبَتِ الْأُمُّ إِلَى السُّدُسِ
(2/497)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِاثْنَيْنِ ; فَبِأَنْ نَقُولَ: لَوْلَا الْإِجْمَاعُ، لَاعْتُبِرَ فِي حَجْبِ الْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لِمَ حَجَبْتَ الْأُمَّ بِالِاثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النِّسَاءِ: 11] ، وَلَيْسَ الْأَخَوَانِ إِخْوَةً فِي لِسَانِكَ وَلَا لِسَانِ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: لَا أَنْقُضُ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي، وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ، وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ. فَاحْتَجَّ عُثْمَانُ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا مَنَعَ أَنَّ الْأَخَوَيْنِ لَيْسَا إِخْوَةً، وَلَوْ كَانَا إِخْوَةً فِي اللُّغَةِ وَلَوْ لُغَةِ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ وَإِنْ شَذُّوا، لَرَدَّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ لَهُ: بَلَى، الْأَخَوَانِ إِخْوَةٌ فِي لِسَانِي أَوْ لِسَانِ بَنِي فُلَانٍ حَمْلًا لِلْقُرْآنِ عَلَى ظَاهِرِهِ ; لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ مَا أَمْكَنَ، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِجْمَاعِ، دَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ الْأَخَوَيْنِ لَيْسَا إِخْوَةً فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّثْنِيَةَ لَيْسَتْ جَمْعًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا عَنِ السَّادِسِ ; فَبِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاثْنَيْنِ جَمَاعَةٌ فِي حُصُولِ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ جَمَاعَةً مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، لَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا يُبَيِّنُ الْأَحْكَامَ الَّتِي بُعِثَ لِبَيَانِهَا لَا اللُّغَاتِ الَّتِي عُرِفَتْ مِنْ غَيْرِهِ.
(2/498)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا عَنِ السَّابِعِ - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: مَعْنَى الْجَمْعِ الضَّمُّ، وَهُوَ حَاصِلٌ فِي التَّثْنِيَةِ - فَبِأَنَّ هَذَا «قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ أَوْ طَرْدٌ لِلِاشْتِقَاقِ وَهُمَا مَمْنُوعَانِ» ، أَمَّا كَوْنُهُ قِيَاسًا فِي اللُّغَةِ ; فَلِأَنَّكُمْ حَكَمْتُمْ عَلَى التَّثْنِيَةِ بِأَنَّهَا جَمْعٌ بِجَامِعِ الضَّمِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا كَوْنُهُ طَرْدًا لِلِاشْتِقَاقِ ; فَلِأَنَّكُمْ لَمَّا بَيَّنْتُمْ أَنَّ الْجَمْعَ هُوَ الضَّمُّ، طَرَدْتُمْ مَعْنَاهُ ; فَأَطْلَقْتُمُ الْجَمْعَ حَيْثُ وُجِدَ الضَّمُّ. وَأَمَّا كَوْنُهُمَا مَمْنُوعَيْنِ: أَمَّا الْقِيَاسُ فَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ، لَكِنَّا رَجَّحْنَا جَوَازَهُ فِي اللُّغَةِ ; فَلَا يَصِحُّ مِنَّا هَاهُنَا مَنْعُهُ. وَلَكِنَّ الْجَوَابَ الصَّحِيحَ أَنْ يُقَالَ: هَذَا الْقِيَاسُ هَاهُنَا فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اللُّغَةَ فِي تَسْمِيَةِ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ هِيَ الضَّمُّ الْمُطْلَقُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ هِيَ ضَمٌّ خَاصٌّ، وَهُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ قِيَاسُ التَّثْنِيَةِ عَلَيْهِ، أَوْ يَبْقَى قِيَاسًا شَبَهِيًّا ضَعِيفًا لَا يُعْبَأُ بِهِ. وَأَمَّا طَرْدُ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّ الِاشْتِقَاقَ يُلَاحَظُ فِيهِ خُصُوصِيَّةُ الْمَحَلِّ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ. وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ طَرْدُهُ، وَإِلَّا لَصَحَّ أَنْ يُسَمَّى الْجَمَلُ ضَيْغَمًا، وَكُلُّ مُدْبِرٍ دَبَرَانًا، وَكُلُّ مُسْتَقَرٍّ لِشَيْءٍ قَارُورَةً، لِوُجُودِ الضَّيْغَمِ، وَالْإِدْبَارِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَهُوَ بَاطِلٌ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا ; فَفَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ عُلِّقَ عَلَى جَمْعٍ ; فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِثَلَاثَةٍ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدَرَاهِمَ، أَوْ أَصُومَ أَيَّامًا، أَوْ أُصَلِّيَ رَكَعَاتٍ، أَوْ أَعْتِقَ عَبِيدًا أَوْ إِمَاءً، أَوْ أَتَوَضَّأَ مَرَّاتٍ، أَوْ أَتَمَضْمَضَ بِغَرَفَاتٍ، أَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيَتَزَوَّجَنَّ زَوْجَاتٍ، أَوْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: طَلِّقْنِي عَلَى دَرَاهِمَ، أَوِ اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنَ الدَّرَاهِمِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ، أَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَاتٍ، أَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِدَرَاهِمَ أَوْ
(2/499)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دَنَانِيرَ مُطْلَقَةٍ، وَتَعَذَّرَ الْبَيَانُ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِثَلَاثَةٍ مِمَّا ذُكِرَ عَلَى الْمَشْهُورِ مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ خَارِجٌ عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الْعَدَدِ مُعَيَّنٍ، وَقِيَاسُ قَوْلِ الْخَصْمِ يَكْفِيهِ اثْنَانِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/500)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: الِاعْتِبَارُ فِيمَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ بِعُمُومِهِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
لَنَا: الْحُجَّةُ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ لَا فِي سَبَبِهِ، وَأَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ الْعَامَّةِ وَرَدَتْ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، كَالظِّهَارِ فِي أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَاللِّعَانِ فِي شَأْنِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ.
قَالُوا: لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ، لَجَازَ إِخْرَاجُهُ بِالتَّخْصِيصِ، وَلَمَا نَقَلَهُ الرَّاوِي لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ. وَلَمَا أَخَّرَ بَيَانَ الْحُكْمِ إِلَى وُقُوعِهِ، وَلِأَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ ; فَتَجِبُ مُطَابَقَتُهُ لَهُ.
قُلْنَا: السَّبَبُ أَخَصُّ بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِهِ ; فَلَا يَلْزَمُ جَوَازُ تَخْصِيصِهِ، وَفَائِدَةُ نَقْلِ السَّبَبِ بَيَانُ أَخَصِيَّتِهِ بِالْحُكْمِ، وَمَعْرِفَةُ تَارِيخِهِ بِمَعْرِفَةِ تَارِيخِهِ، وَتَوْسِعَةُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ. وَالتَّأَسِّي بِوَقَائِعِ السَّلَفِ، وَتَأْثِيرُ نَقْلِهِ شُبْهَةٌ فِي وُقُوعِ مِثْلِ هَذَا الْخِلَافِ. وَهُوَ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ، وَتَخْفِيفٌ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَتَأْخِيرُ بَيَانِ الْحُكْمِ إِلَى وُقُوعِ السَّبَبِ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ ; فَلَا يُعَلَّلُ، كَتَخْصِيصِ وَقْتِ إِيجَادِ الْعَالِمِ بِهِ، وَإِلَّا انْتَقَضَ بِالْأَحْكَامِ الِابْتِدَائِيَّةِ الْخَالِيَةِ عَنْ أَسْبَابٍ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِوَقْتٍ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ.
وَالْوَاجِبُ تَنَاوُلُ الْجَوَابِ مَحَلِّ السُّؤَالِ، وَالسَّبَبِ، لَا الْمُطَابَقَةِ الْمَدْعَاةِ إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْصِدَ الشَّارِعُ بِالزِّيَادَةِ عَنْ مَحَلِّ السَّبَبِ تَمْهِيدَ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَقْرِيرَهُ. كَمَا إِذَا قِيلَ: زَنَى أَوْ سَرَقَ فُلَانٌ ; فَقَالَ: مَنْ زَنَى فَارْجُمُوهُ، وَمَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: الِاعْتِبَارُ فِيمَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ بِعُمُومِهِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ» .
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ فِي «التَّنْقِيحِ» أَنَّ الْعُمُومَ إِذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا دُونَ سَبَبِهِ ; فَهُوَ عَلَى
(2/501)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُمُومِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمَالِكِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَالْمُزَنِيِّ، وَعَنْ مَالِكٍ: فِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ فِي الشَّرْحِ: فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبٍ:
يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ.
لَا يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ.
الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَقِلِّ وَغَيْرِهِ ; فَالْمُسْتَقِلُّ لَا يَخْتَصُّ بِسَبَبِهِ كَقِصَّةِ عُوَيْمِرٍ حَيْثُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ ; فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النُّورِ: 6] الْآيَةَ، وَغَيْرُ الْمُسْتَقِلِّ يَخْتَصُّ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ ، قَالُوا: نَعَمْ: قَالَ: فَلَا إِذَنْ. فَقَوْلُهُ: لَا إِذَنْ. كَلَامٌ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ ; فَيَجِبُ ضَمُّهُ إِلَى السُّؤَالِ، وَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ: لَا يُبَاعُ الرُّطَبُ بِالتَّمْرِ ; لِأَنَّهُ يَنْقُصُ إِذَا جَفَّ. هَكَذَا فَهِمْتُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهِ، وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي نَقَلْتُ مِنْهَا مُضْطَرِبًا. وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ تَفْصِيلًا كَثِيرًا.
وَلْنَرْجِعْ إِلَى ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، أَيْ: عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ لَا يَخْتَصُّ بِهِ مُطْلَقًا وَجْهَانِ:
(2/502)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحُجَّةَ فِي لَفْظِ الشَّارِعِ لَا فِي سَبَبِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ عُمُومًا وَخُصُوصًا كَمَا لَوْ وَرَدَ ابْتِدَاءً عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ ; فَلَوْ سَأَلَتِ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا الطَّلَاقَ ; فَقَالَ: كُلُّ نِسَائِي طَوَالِقُ، عَمَّهُنَّ الطَّلَاقُ مَعَ خُصُوصِ السَّبَبِ. وَلَوْ سَأَلَهُ جَمِيعُ نِسَائِهِ الطَّلَاقَ ; فَقَالَ: فُلَانَةٌ طَالِقٌ، اخْتَصَّ الطَّلَاقُ بِهَا وَإِنَّ عَمَّ السَّبَبُ، وَكَذَا لَوْ قِيلَ: سَرَقَ زَيْدٌ ; فَقَالَ: مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ، عَمَّ الْقَطْعُ مَعَ خُصُوصِ سَبَبِهِ، وَلَوْ قِيلَ: سَرَقَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةُ ; فَقَالَ: اقْطَعُوا سَارِقَ نِصَابٍ مِنْ حِرْزٍ، لَاخْتَصَّ الْقَطْعُ بِهِ مَعَ أَنَّ سَبَبَهُ أَعَمُّ ; فَدَوَرَانُ الْحُكْمِ مَعَ اللَّفْظِ عُمُومًا وَخُصُوصًا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «أَكْثَرَ أَحْكَامِ الشَّرْعِ الْعَامَّةِ وَرَدَتْ لِأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ كَوُرُودِ حُكْمِ الظِّهَارِ فِي أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَحُكْمِ اللِّعَانِ فِي شَأْنِ
(2/503)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ» ; فَلَوْ كَانَ السَّبَبُ الْخَاصُّ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْعَامِّ بِهِ، لَمَا عَمَّتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، لَكِنَّهُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَمَّتْ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ.
قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَاللَّفْظُ الْعَامُّ صَالِحٌ لِلتَّعْمِيمِ ; فَتَجِبُ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ الْخَصْمِ عَلَى اخْتِصَاصِ الْعَامِّ بِسَبَبِهِ وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِسَبَبِهِ الْخَاصِّ، لَجَازَ إِخْرَاجُهُ، أَيْ: إِخْرَاجُ السَّبَبِ بِالتَّخْصِيصِ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهُ بِالتَّخْصِيصِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِسَبَبِهِ، لَمَا نَقَلَ الرَّاوِي السَّبَبَ ; لِأَنَّ نَقْلَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ نَقْلِهِ وَعَدَمِ نَقْلِهِ
(2/504)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي عُمُومِ الْحُكْمِ، لَكِنْ لَمَّا نَقَلَ الرُّوَاةُ أَسْبَابَ الْأَحْكَامِ، وَحَافَظُوا عَلَى نَقْلِهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِسَبَبِهِ، لَمَا أَخَّرَ بَيَانَ الْحُكْمِ إِلَى وُقُوعِ السَّبَبِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ تَقْدِيمُ بَيَانِ الْحُكْمِ قَبْلَ وُقُوعِ سَبَبِهِ أَوْلَى، لِيُصَادِفَ السَّبَبُ عِنْدَ وُقُوعِهِ حُكْمًا مُبَيَّنًا مُسْتَقِرًّا، لَكِنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ تَأَخَّرَ إِلَى حِينِ وُقُوعِ سَبَبِهِ ; فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ جَوَابٌ لَهُ، وَجَوَابُ السُّؤَالِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِمَحَلِّ السَّبَبِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ.
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِسَبَبِهِ، لَجَازَ إِخْرَاجُهُ بِالتَّخْصِيصِ ; فَبِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ أَنَّ «السَّبَبَ أَخَصُّ بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِهِ» ، لِاقْتِضَائِهِ لَهُ «فَلَا يَلْزَمُ جَوَازُ تَخْصِيصِهِ» ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ، كَانَ قَذْفُهُ لَهَا سَبَبًا لِنُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ، وَلَهُ بِهَا اخْتِصَاصُ السَّبَبِ بِالْمُسَبَّبِ ; فَلَوْ قِيلَ: لَا تُلَاعِنْ أَنْتَ وَلْيُلَاعِنْ غَيْرُكَ مِنَ النَّاسِ ; لَتَعَطَّلَتْ قَضِيَّتُهُ مَعَ أَنَّهَا سَبَبُ وُرُودِ الْحُكْمِ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ.
وَالْمُخْتَارُ فِي الْجَوَابِ: الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْتِزَامُ جَوَازِ تَخْصِيصِ مَحَلِّ
(2/505)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السَّبَبِ إِذَا قَامَ دَلِيلُهُ، إِذِ التَّخْصِيصُ إِنَّمَا يَكُونُ بِدَلِيلٍ، وَلَوْ قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَحُكْمَ الظِّهَارِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي حُقِّ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، لَجَازَ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، وَتَعَطُّلُ قَضِيَّتِهِمَا غَيْرُ لَازِمٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ فِيهِمَا بِحُكْمٍ غَيْرِ اللِّعَانِ وَالظِّهَارِ، بِحَسَبِ مَا يَرِدُ بِهِ أَمْرُ الشَّرْعِ. وَلَوْ سَلَّمْنَا تَعَطُّلُ قَضِيَّتِهِمَا مِنْ حُكْمٍ، لَمْ يَمْتَنِعْ لِجَوَازِ رَدِّهِمَا فِي ذَلِكَ إِلَى مَا قَبْلَ الشَّرْعِ مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِحُكْمٍ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِسَبَبِهِ، لَمَا نَقَلَهُ الرَّاوِي، لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ - ; فَبِأَنْ نَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَقْلَ السَّبَبِ لَا فَائِدَةَ لَهُ، بَلْ لَهُ فَوَائِدُ:
مِنْهَا: بَيَانُ أَخَصِيَّةِ السَّبَبِ بِالْحُكْمِ، أَيْ: أَنَّ السَّبَبَ أَخَصُّ بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ صُوَرِهِ ; فَيَمْتَنِعُ تَخْصِيصُهُ عَلَى مَا سَبَقَ فِيهِ.
وَمِنْهَا: مَعْرِفَةُ تَارِيخِ الْحُكْمِ بِمَعْرِفَةِ سَبَبِهِ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: قَذَفَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ امْرَأَتَهُ فِي سَنَةِ كَذَا ; فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ ; فَيُعْرَفُ تَارِيخُهَا بِذَلِكَ، وَفِي مَعْرِفَةِ التَّارِيخِ فَائِدَةُ مُعَرَّفَةِ النَّاسِخِ مِنَ الْمَنْسُوخِ كَمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا: تَوْسِعَةُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِأَسْبَابِهَا ; فَيَكْثُرُ ثَوَابُ الْمُصَنِّفِينَ، كَالَّذِينِ صَنَّفُوا أَسْبَابَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، وَالْمُجْتَهِدِينَ بِسَعَةِ مَحَلِّ اجْتِهَادِهِمْ.
(2/506)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهَا: التَّأَسِّي بِوَقَائِعِ السَّلَفِ وَمَا جَرَى لَهُمْ ; فَيَخِفُّ حُكْمُ الْمَكَارِهِ عَلَى النَّاسِ، كَمَنْ زَنَتْ زَوْجَتُهُ فَلَاعَنَهَا ; فَهُوَ يَتَأَسَّى بِمَا جَرَى لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ. وَعُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ فِي ذَلِكَ، وَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنِّي، وَقَدْ جَرَى لَهُمْ هَذَا ; فَلِي أُسْوَةٌ بِهِمْ.
وَمِنْهَا: أَنَّ نَقْلَ السَّبَبِ يُؤَثِّرُ شُبْهَةً فِي وُقُوعِ مِثْلِ هَذَا الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْقَلِ السَّبَبُ، لَمَا اتَّسَعَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَدَّعِيَ اخْتِصَاصَ الْحُكْمِ، وَهُوَ، يَعْنِي الْخِلَافَ فِي الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ، رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ وَتَخْفِيفٌ، لِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهَا مِنْ نَقْلِ السَّبَبِ، وَإِذَا كَانَ لِنَقْلِهِ هَذِهِ الْفَوَائِدُ، لَمْ يَصِحَّ قَوْلُكُمْ: إِنَّ نَقْلَهُ عَدِيمُ الْفَائِدَةِ، لَوْلَا اخْتِصَاصُهُ بِسَبَبِهِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ نَقْلِهِ اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِهِ.
وَأَمَّا عَنْ الثَّالِثِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْلَا اخْتِصَاصُ الْحُكْمِ بِسَبَبِهِ، لَمَا تَأَخَّرَ بَيَانُ الْحُكْمِ إِلَى وُقُوعِهِ ; فَبِأَنْ نَقُولَ: تَأْخِيرُ بَيَانِ الْحُكْمِ إِلَى وُقُوعِ السَّبَبِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ، أَيْ: مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ، وَتَعَلُّقُ الْأَزَلِيِّ بِالشَّيْءِ لَا يُعَلَّلُ، كَتَخْصِيصِ وَقْتِ إِيجَادِ الْعَالِمِ بِهِ ; فَلَا يُقَالُ: لِمَ تَأَخَّرَ بَيَانُ اللِّعَانِ إِلَى وَقْتِ قَذْفِ هَذَا الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَلَمْ يَرِدْ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ بَعْدَهُ،
(2/507)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَمَا لَا يُقَالُ: لِمَ أَوْجَدَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذَا الْعَالَمَ فِي هَذَا الْوَقْتِ الَّذِي أَوْجَدَهُ فِيهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ؟
وَكَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِتَخْصِيصِ الْإِرَادَةِ الْأَزَلِيَّةِ، نَحْوَ: لِمَ خَلَقَ اللَّهُ هَذَا طَوِيلًا وَهَذَا قَصِيرًا، وَكَانَ هَذَا الْجَبَلُ هَاهُنَا وَلَمْ يَكُنْ هَاهُنَا؟ . وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ تَحَكُّمٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ، وَاعْتِرَاضٌ غَيْرُ جَائِزٍ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا انْتَقَضَ بِالْأَحْكَامِ الِابْتِدَائِيَّةِ الْخَالِيَةِ عَنْ أَسْبَابٍ» ، أَيْ: لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: لِمَ اخْتَصَّ وُرُودُ هَذَا الْحُكْمِ بِوَقْتِ وُقُوعِ هَذَا السَّبَبِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ؟ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي الْحُكْمِ الْوَارِدِ ابْتِدَاءً لَا عَلَى سَبَبٍ: لِمَ وَرَدَ الْآنَ دُونَ مَا قَبْلَهُ؟ فَكَأَنْ يُقَالُ: لِمَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ سَنَةَ دُونَ مَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ; فَكَذَلِكَ السُّؤَالُ عَنِ الْحُكْمِ السَّبَبِيِّ لِمَ اخْتَصَّ بِوَقْتِ سَبَبِهِ لَا يَجُوزُ.
وَأَمَّا عَنِ الرَّابِعِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ جَوَابُ سُؤَالٍ فَتَجِبُ مُطَابَقَتُهُ لَهُ ; فَبِأَنْ نَقُولَ: إِنْ عَنَيْتُمْ بِمُطَابَقَةِ الْحُكْمِ سَبَبَهُ أَنْ لَا يَكُونَ أَعَمَّ مِنْهُ وَلَا أَخَصَّ ; فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ بِالْمُطَابَقَةِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مُتَنَاوِلًا مَحَلَّ السُّؤَالِ وَالسَّبَبَ ; فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْجَوَابِ أَعَمَّ مِنْ سَبَبِهِ، إِذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْصِدَ الشَّارِعُ بِالزِّيَادَةِ عَنْ مَحَلِّ السَّبَبِ تَمْهِيدَ الْحُكْمِ وَتَقْرِيرَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا إِذَا قِيلَ: «زَنَى فُلَانٌ أَوْ سَرَقَ فُلَانٌ ; فَقَالَ: مَنْ زَنَى ; فَارْجُمُوهُ، وَمَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ» ، فَإِنَّ فُلَانًا قَدْ دَخَلَ فِي عُمُومِ مَنْ، وَتَنَاوَلَهُ الْجَوَابُ، وَلَمْ يُنَافِ ذَلِكَ تَقْرِيرَ حُكْمِ الْقَطْعِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/508)
________________________________________
الثَّالِثَةُ: نَحْوُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ، يَعُمُّ، خِلَافًا لِقَوْمٍ.
لَنَا: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ السَّلَفِ عَلَى التَّمَسُّكِ فِي الْوَقَائِعِ بِعُمُومِ مِثْلِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَتَرْخِيصًا. وَهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ.
قَالُوا: قَضَايَا أَعْيَانٍ فَلَا تَعُمُّ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ خَاصٌّ فَوَهَمَ الرَّاوِي، وَالْحُجَّةُ فِي الْمَحْكِيِّ، لَا فِي لَفْظِ الْحَاكِي.
قُلْنَا: قَضَايَا الْأَعْيَانِ تَعُمُّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِحُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْوَهْمِ. وَالْحُجَّةُ فِي عُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا سَبَقَ. وَلَا احْتِمَالَ لِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ، وَلِأَصَالَةِ عَدَمِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: نَحْوُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ يَعُمُّ خِلَافًا لِقَوْمٍ» ، أَيْ: قَوْلُ الرَّاوِي: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ كَذَا، وَقَضَى بِكَذَا، يَقْتَضِي الْعُمُومَ، أَيْ: يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْعُمُومِ فِي أَمْثَالِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْمَحْكِيَّةِ، نَحْوُ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ، وَحَكَمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ مِنْهُمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْإِمَامُ فَخْرُ
(2/509)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدِّينِ، وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ ; فِيمَا حَكَاهُ الْآمِدِيُّ، وَاخْتَارَ هُوَ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى الْعُمُومِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، أَيْ: عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهَا فِي الْعُمُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرَهُمْ مِنَ السَّلَفِ أَجْمَعُوا عَلَى التَّمَسُّكِ فِي الْوَقَائِعِ بِعُمُومِ مِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْخِيصِ، نَحْوُ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ، وَرَجَعَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَأَخَذُوا بِحَدِيثِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ. وَبِحَدِيثِ زَيْدٍ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْعَرَايَا. وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَإِجْمَاعُهُمْ
(2/510)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ فِي الْعُمُومِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: قَضَايَا أَعْيَانٍ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ مَنْ مَنَعَ الْعُمُومَ فِي هَذِهِ الصِّيَغِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ هَذِهِ قَضَايَا أَعْيَانٍ، أَيْ: قَضَايَا وَأَحْكَامٌ وَقَعَتْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَحَالٍّ مُعَيَّنَةٍ ; فَحَكَاهَا الرُّوَاةُ عَنْهُ ; فَلَا عُمُومَ فِي لَفْظِهَا، وَلَا فِي مَعْنَاهَا ; فَلَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ، ثُمَّ إِنَّ الْخِطَابَ، أَوِ الْحُكْمَ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ خاصًا بِشَخْصٍ ; فَوَهَمَ الرَّاوِي ; فَظَنَّ أَنَّهُ عَامٌّ، كَمَا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَعَلَ شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ بِشَهَادَتَيْنِ، وَلَمْ يَجُزْ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْعُمُومِ، وَإِذَا احْتَمَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ، لَمْ يَصِحَّ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْعُمُومِ مَعَ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالِ، وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ لَيْسَتْ فِي لَفْظِ الْحَاكِي وَهُوَ الرَّاوِي، إِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي الْمَحْكِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ فِعْلُهُ، نَحْوُ: أَمَرَ وَقَضَى وَحَكَمَ، وَذَلِكَ لَا عُمُومَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ ذَلِكَ يَصْدُقُ بِوُقُوعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَيْ: يَصِحُّ فِيمَنْ أَمَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَنْ يُقَالَ: أَمَرَ، وَفِيمَنْ حَكَمَ مَرَّةً وَاحِدَةً، أَوْ قَضَى مَرَّةً وَاحِدَةً أَنْ يُقَالَ: حَكَمَ، وَقَضَى، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ دَلِيلٌ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ دَلِيلِهِمْ. وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ:
(2/511)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُكُمْ: قَضَايَا أَعْيَانٍ ; فَلَا تَعُمُّ، «قُلْنَا: قَضَايَا الْأَعْيَانِ تَعُمُّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ» ، مِنْ إِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا فِي الْعُمُومِ، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ.
وَقَوْلُكُمْ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْخِطَابَ خَاصٌّ ; فَوَهَمَ الرَّاوِي ; فَظَنَّهُ عَامًّا.
قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُ الْوَهْمِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ الْعَارِفِ بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ لَا يَنْقِلُ مَا يُشْعِرُ بِالْعُمُومِ إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ بِوُجُودِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُدَلِّسًا مُلَبِّسًا فِي الدِّينِ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْهُ جِدًّا وَبِهَذَا يَسْقُطُ قَوْلُهُمْ: الْحُجَّةُ فِي الْمَحْكِيِّ لَا فِي لَفْظِ الْحَاكِي، بَلِ الْحُجَّةُ فِي عُمُومِ لَفْظِ الْحَاكِي كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مِنْ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ.
قُلْتُ: لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: عُمُومُ اللَّفْظِ مُعْتَبَرٌ إِذَا كَانَ لَفْظُ الشَّارِعِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ لَفْظُ الْحَاكِي عَنِ الشَّارِعِ، وَهُوَ فَرْقٌ صَحِيحٌ ; فَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ عُمُومَ لَفْظِ الْحَاكِي مُعْتَبَرٌ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ فَهِمَ الْعُمُومَ، وَإِلَّا كَانَ مُلَبِّسًا.
قَوْلُهُ: «وَلَا احْتِمَالَ» أَيْ: لَيْسَ هَاهُنَا احْتِمَالٌ لَا فِي فَهْمِ الرَّاوِي الْعُمُومَ مِنَ الْخِطَابِ الْخَاصِّ وَلَا فِي لَفْظِهِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِجْمَاعُ الْمَذْكُورُ مِنَ السَّلَفِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهِ فِي الْعُمُومِ، وَذَلِكَ يَنْفِي الِاحْتِمَالَ، أَوْ يَنْفِي كَوْنَهُ مُعْتَبَرًا، وَإِلَّا وَقَعَ الْخَطَأُ فِي الْإِجْمَاعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاحْتِمَالِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَلَا احْتِمَالَ
(2/512)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِلْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ، وَلِأَصَالَةِ عَدَمِهِ» ، أَيْ: عَدَمِ الِاحْتِمَالِ.
قُلْتُ: قَدْ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الْبَحْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِيهَا لَفْظِيٌّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَانِعَ لِلْعُمُومِ يَنْفِي عُمُومَ لَفْظِ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ، نَحْوِ: أَمَرَ وَقَضَى وَحَكَمَ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا تَقَرَّرَ، وَالْمُثْبِتُ لِلْعُمُومِ يُثْبِتُهُ فِيهَا مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ، وَهُوَ إِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِهَا، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ. فَظَهَرَ أَنَّ دَلِيلَ الْخَصْمَيْنِ لَيْسَ مُتَوَارِدًا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ. وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّعْمِيمَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَاصِلٌ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، كَمَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ فِي. . .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ حَكَمَ بِحُكْمٍ، أَوْ قَضَى بِقَضَاءٍ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ حَدَثَتْ لَنَا وَاقِعَةٌ مِثْلُهَا سَوَاءً، قُلْنَا: الْحُكْمُ فِيهَا كَذَا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَكَمَ بِهِ فِي وَاقِعَةِ كَذَا، وَهَذِهِ الْوَاقِعَةُ مِثْلُهَا ; فَلْيَكُنِ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْمِثْلَيْنِ وَاحِدٌ. أَمَّا أَنْ يَكُونَ قَضَاؤُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: هَذَا الْحُكْمُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ وَنَظَائِرِهَا، أَوْ كُلَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ ; فَاحْكُمُوا فِيهَا بِهَذَا الْحُكْمِ ; فَهَذَا بِعِيدٌ جِدًّا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/513)
________________________________________
الرَّابِعَةُ: خِطَابُ النَّاسِ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْأُمَّةِ، وَالْمُكَلَّفِينَ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ. وَخُرُوجُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لِعَارِضٍ، كَالْمَرِيضِ، وَالْمُسَافِرِ، وَالْحَائِضِ. وَيَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي خِطَابِ النَّاسِ، وَمَا لَا مُخَصِّصَ لِأَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ فِيهِ، كَأَدَوَاتِ الشَّرْطِ دُونَ مَا يَخُصُّ غَيْرَهُنَّ، كَالرِّجَالِ وَالذُّكُورِ. أَمَّا نَحْوُ: الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [الْبَقَرَةِ: 187] ; فَلَا يَدْخُلْنَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَالْأَكْثَرِينَ، خِلَافًا لِلْقَاضِي، وَابْنِ دَاوُدَ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، فَإِنْ أَرَادُوا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ أَوْ قَرِينَةٍ فَاتِّفَاقٌ. وَإِلَّا فَالْحَقُّ الْأَوَّلُ.
لَنَا: الْقَطْعُ بِاخْتِصَاصِ الذُّكُورِ بِهَذِهِ الصِّيَغِ لُغَةً، وَقَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الرِّجَالِ، ذُكِرُوا وَلَمْ تُذْكَرِ النِّسَاءُ ; فَنَزَلَ:» {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الْأَحْزَابِ: 35] ; فَفَهِمَتْ عَدَمَ دُخُولِهِنَّ فِي لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِلَّا لَمَا سَأَلَتْ، وَلَكَانَ (وَالْمُسْلِمَاتِ) وَنَحْوُهُ تَكْرَارًا.
قَالُوا: مَتَى اجْتَمَعَا، غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ. وَلَوْ أَوْصَى لِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُمْ، دَخَلْنَ، وَأَكْثَرُ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْقَبِيلَيْنِ بِالصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ.
قُلْنَا: بِقَرَائِنَ، لِشَرَفِ الذُّكُورِيَّةِ، وَالْإِيصَاءِ الْأَوَّلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الرَّابِعَةُ: خِطَابُ النَّاسِ "، أَيِ: الْخِطَابُ الْوَارِدُ مُضَافًا إِلَى النَّاسِ " وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْأُمَّةِ وَالْمُكَلَّفِينَ " نَحْوُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ [الْبَقَرَةِ: 21] ، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النُّورِ: 31] ، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ، أَيْ: يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ مِنْهُمْ، أَيْ: مِنَ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْأُمَّةِ وَالْمُكَلَّفِينَ.
" وَخُرُوجُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ "، كَوُجُوبِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمُعَةِ إِنَّمَا هُوَ لِأَمْرٍ عَارِضٍ، وَهُوَ فَقْرُهُ وَاشْتِغَالُهُ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، " كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحَائِضِ "، يَتَنَاوَلُهُمُ الْخِطَابُ الْمَذْكُورُ، وَيَخْرُجُونَ عَنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ،
(2/514)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَوُجُوبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْحَائِضِ، وَوُجُوبِ الصَّوْمِ، وَإِتْمَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسَافِرِ، وَوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى الْمَرِيضِ لِأَمْرٍ عَارِضٍ وَهُوَ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ وَالْحَيْضُ.
" وَيَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي خِطَابِ النَّاسِ، وَمَا لَا مُخَصِّصَ لِأَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ ": يَعْنِي الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ ; " فِيهِ كَأَدَوَاتِ الشَّرْطِ "، نَحْوُ: مَنْ رَأَيْتَ ; فَأَكْرِمْهُ ; فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ " دُونَ مَا يَخُصُّ غَيْرَهُنَّ كَالرِّجَالِ وَالذُّكُورِ " فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ ; لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ رِجَالًا وَلَا ذُكُورًا.
" أَمَّا نَحْوُ الْمُسْلِمِينَ "، وَالْمُؤْمِنِينَ، " وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ; فَلَا يَدْخُلْنَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَالْأَكْثَرِينَ "، مِنْهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْأَشَاعِرَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ، " خِلَافًا لِلْقَاضِي " أَبِي يَعْلَى، " وَابْنِ دَاوُدَ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ " حَيْثُ قَالُوا: يَدْخُلْنَ فِيهِ.
قُلْتُ: تَلْخِيصُ مَحَلِّ النِّزَاعِ ظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ، وَأَزِيدُهُ ظُهُورًا بِأَنْ أَقُولَ: مَا اخْتَصَّ بِأَحَدِ الْقَبِيلَيْنِ مِنَ الْأَلْفَاظِ لَا يَتَنَاوَلُ الْآخَرَ، كَالرِّجَالِ وَالذُّكُورِ وَالْفِتْيَانِ وَالْكُهُولِ وَالشُّيُوخِ لَا يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ، وَالنِّسَاءِ وَالْإِنَاثِ وَالْفَتَيَاتِ وَالْعَجَائِزِ لَا يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ، وَمَا وُضِعَ لِعُمُومِ الْقَبِيلَيْنِ، دَخَلَا فِيهِ، نَحْوُ: النَّاسِ وَالْبَشَرِ وَالْإِنْسَانِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ النَّوْعُ أَوِ الشَّخْصُ وَوَلَدُ آدَمَ وَذُرِّيَّتُهُ، وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ، نَحْوُ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فُصِّلَتْ: 46] ، وَمَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَابَنِي آدَمَ} [الْأَعْرَافِ: 26] ; فَهُوَ فِي الْوَضْعِ لِلذُّكُورِ، لَكِنْ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ عَادَةً، وَكَذَا لَوْ وَصَّى لِبَنِي
(2/515)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَمِيمٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الْقَبَائِلِ الْكِبَارِ يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ بَنِي زَيْدٍ أَوْ عَمْرٍو مِمَّنْ لَيْسَ أَبًا لِقَبِيلَةٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ. فَهُوَ فِي الْأَصْلِ لِلذُّكُورِ ; لِأَنَّ الشَّابَّ يُجْمَعُ عَلَى شُبَّانٍ وَشَبَابٍ، وَفِي الْمُؤَنَّثِ يُقَالُ: شَابَّةٌ وَشَابَّاتٌ ; فَهُوَ كَمُسْلِمٍ وَمُسْلِمَاتٍ. نَعَمْ يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ أَنَّ شَهْوَةَ النِّكَاحِ غَرِيزَةٌ فِي الْقَبِيلَيْنِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ مُحْتَاجٌ إِلَى قَضَائِهَا.
وَأَمَّا جَمْعُ الْمُذَكَّرِ السَّالِمُ وَضَمِيرُ الْجَمْعِ الْمُتَّصِلُ بِالْفِعْلِ، نَحْوُ: الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، وَقَامُوا وَقَعَدُوا، وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ ; فَفِيهِ النِّزَاعُ الْمَذْكُورُ.
قَوْلُهُ: " فَإِنْ أَرَادُوا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ أَوْ قَرِينَةٍ ; فَاتِّفَاقٌ، وَإِلَّا فَالْحَقُّ الْأَوَّلُ "، أَيْ: إِنْ أَرَادَ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ بِأَنَّ الْإِنَاثَ يَدْخُلْنَ فِي لَفْظِ الْمُسْلِمِينَ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، أَوْ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِنَّ ; فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْكُلِّ ; لِأَنَّ خِلَافَ وَضْعِ اللَّفْظِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُنَّ يَدْخُلْنَ فِيهِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَضْعًا ; فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ.
(2/516)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " لَنَا " أَيْ: عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: " الْقَطْعُ بِاخْتِصَاصِ الذُّكُورِ بِهَذِهِ الصِّيَغِ لُغَةً "، وَاخْتِصَاصِ الْإِنَاثِ بِغَيْرِهَا، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ ; فَيُقَالُ: مُسْلِمُونَ وَمُسْلِمَاتٌ، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا فِي الْمُذَكَّرِ، وَكُلْنَ وَاشْرَبْنَ فِي الْمُؤَنَّثِ، وَقَالُوا: جَمْعُ الْمُذَكَّرِ السَّالِمُ نَحْوُ: مُؤْمِنُونَ، وَجَمْعُ الْمُؤَنَّثِ السَّالِمُ نَحْوُ: مُؤْمِنَاتٍ، وَإِذَا عُبِّرَ عَنْ كُلِّ قَبِيلٍ بِصِيغَةٍ، لَمْ يَتَنَاوَلْ صِيغَةَ الْآخَرِ ; فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فِي التَّكَلُّمِ وَالتَّصْنِيفِ حَيْثُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ لَيْسَا جَمْعًا كَمَا سَبَقَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: " قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الرِّجَالِ ذُكِرُوا وَلَمْ تُذْكَرِ النِّسَاءُ؟ فَنَزَلَ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الْأَحْزَابِ: 35] ، إِلَى آخِرِهِ. هَكَذَا وَقَعَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ; فَلَعَلَّهُ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى أَوْ بَعْضِ أَلْفَاظ
(2/517)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَدِيثِ وَالَّذِي رَوَى التِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ، وَإِنَّمَا لَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ ; فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النِّسَاءِ: 32] ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الْآيَةَ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ. وَعَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَتْ: مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا لِلرِّجَالِ، وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الْآيَةَ.
(2/518)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَدْ فَهِمَتْ عَدَمَ دُخُولِهِنَّ فِي لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ، إِذْ لَوْ تَنَاوَلَهُنَّ، لَمَا سَأَلَتْ، إِذْ كَانَ يَكُونُ سُؤَالُهَا خَطَأً ; فَلَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ جَوَابًا، لَكِنَّهَا قَدْ أُجِيبَتْ بِنُزُولِ الْآيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا فَهِمَتْ عَدَمَ دُخُولِ النِّسَاءِ فِي لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا فَهِمَتْ عَدَمَ دُخُولِهِنَّ فِي لَفْظِ الرِّجَالِ حَيْثُ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ. وَقَالَتْ أُمُّ عُمَارَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا لِلرِّجَالِ. وَعَدَمُ دُخُولِ النِّسَاءِ فِي لَفْظِ الرِّجَالِ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ، إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي دُخُولِهِنَّ فِي لَفْظِ الْمُؤْمِنِينَ وَنَحْوِهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجِهَادَ ثَبَتَ وَجُوبُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التَّوْبَةِ: 123] ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الْحَجِّ: 78] ، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [التَّوْبَةِ: 29] ، اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 5] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُتَنَازَعِ فِي تَنَاوُلِهَا النِّسَاءَ، ثُمَّ إِنَّ سُؤَالَهَا الْمَذْكُورَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا فَهِمَتْ عَدَمَ دُخُولِهِنَّ فِيهَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(2/519)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا لَفْظُ الرِّجَالِ ; فَهُوَ مِنْ كَلَامِ أُمِّ سَلَمَةَ وَأُمِّ عُمَارَةَ، وَالْكَلَامُ فِي تَنَاوُلِ لَفْظِ الشَّارِعِ لِلنِّسَاءِ لَا لَفْظِ غَيْرِهِ، بَلْ قَوْلُهَا: " يَغْزُو الرِّجَالُ وَلَا تَغْزُو النِّسَاءُ "، قَاطِعٌ فِي أَنَّهَا فَهِمَتِ اخْتِصَاصَ الرِّجَالِ بِنَحْوِ: جَاهِدُوا وَقَاتِلُوا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ لَوْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ، لَكَانَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الْأَحْزَابِ: 35] الْآيَةَ وَنَحْوُهُ مِثْلُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التَّوْبَةِ: 71] ، تَكْرَارًا، كَمَا لَوْ قَالَ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الْأَحْزَابِ: 35] ، وَالتَّكْرَارُ عَبَثٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَبَثُ هُوَ التَّكْرَارُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ، أَمَّا التَّكْرَارُ لِفَائِدَةٍ ; فَلَيْسَ عَبَثًا، وَفَائِدَتُهُ هَاهُنَا تَخْصِيصُ النِّسَاءِ بِالذِّكْرِ بِلَفْظٍ يَخُصُّهُنَّ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُسْلِمَاتِ} ; فَلَا يَكُونُ عَبَثًا.
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى السَّبَبِ الْمَذْكُورِ، وَسُؤَالُ الْمَرْأَةِ إِنَّمَا كَانَ عَنْ عَدَمِ ذِكْرِ النِّسَاءِ، لَا عَنْ عَدَمِ تَخْصِيصِهِنَّ بِلَفْظٍ ; فَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرْتُمْ.
الثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا قُلْتُمْ يَكُونُ: وَالْمُسْلِمَاتِ تَأْكِيدًا، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ يَكُونُ تَأْسِيسًا، وَفَائِدَةُ التَّأْسِيسِ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَكْمَلُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَلَيْسَ فِي " الْمُخْتَصَرِ "، أَنَّ الْجَمْعَ تَضْعِيفُ الْوَاحِدِ ; فَالْمُؤْمِنُونَ تَضْعِيفُ مُؤْمِنٍ، وَكُلُوا تَضْعِيفُ ضَمِيرِ كُلْ، وَكَمَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَكُلْ لَا يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، كَذَلِكَ مُؤْمِنُونَ وَكُلُوا
(2/520)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِنَّ.
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الْإِنَاثَ لَا يَدْخُلْنَ فِي اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: مَتَى اجْتَمَعَا "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا حُجَّةُ الْقَاضِي وَمُوَافَقِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ يَتَنَاوَلُ الْإِنَاثَ، وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَتَّى اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [طه: 123] ، وَالْخِطَابُ لِآدَمَ وَإِبْلِيسَ وَحَوَّاءَ وَالْحَيَّةِ ; فَيَتَنَاوَلُهُمَا ضَمِيرُ التَّذْكِيرِ، وَلَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِمَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ عَبِيدِهِ: قُومُوا، وَاقْعُدُوا، تَنَاوَلَ جَمِيعَهُمْ، وَلَوْ قَالَ: قُومُوا، وَقُمْنَ، وَاقْعُدُوا، وَاقْعُدْنَ، لَعُدَّ تَطْوِيلًا وَعِيًّا وَلُكْنَةً، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ أَوْصَى لِرِجَالٍ وَنِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَهُمْ، دَخَلَ النِّسَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ مَعَ أَنَّ " لَهُمْ " ضَمِيرٌ مُذَكَّرٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ ; فَيَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَكْثَرَ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى لِلقَبِيلَيْنِ: الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ بِالصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ، نَحْوَ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 2] ، {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 97] ، لِلْمُحْسِنِينَ [الْأَحْقَافِ: 12] ، {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التَّوْبَةِ: 112] ، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [الْبَقَرَةِ: 155] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْمَائِدَةِ: 1] ، {أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النُّورِ: 31] ، {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} [الْعَنْكَبُوتِ:
(2/521)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
56] ، وَهُوَ كَثِيرٌ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ بِاتِّفَاقٍ، وَإِفْرَادُهُنَّ بِلَفْظٍ خَاصٍّ بِهِنَّ إِيضَاحًا وَتَبْيِينًا، نَحْوَ: الْمُسَلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْأُنْثَى، لَا يَمْتَنِعُ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لِلْعُمُومِ لَهُنَّ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ، نَحْوَ: {وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [الْبَقَرَةِ: 98] ، وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْمَلَائِكَةِ، وَ {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرَّحْمَنِ: 68] ، وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْفَاكِهَةِ، {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الْأَحْزَابِ: 27] ، وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْأَمْوَالِ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: بِقَرَائِنَ لِشَرَفِ الذُّكُورِيَّةِ، وَالْإِيصَاءِ الْأَوَّلِ ".
أَيْ: قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَنَاوُلَ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ لِلنِّسَاءِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا بِأَصْلِ الْوَضْعِ، بَلْ بِقَرَائِنَ لِشَرَفِ الذُّكُورِيَّةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَيُسَمَّى التَّغْلِيبَ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ فِي الْخِطَابِ لِشَرَفِ الذُّكُورِيَّةِ، كَمَا غُلِّبَ الْقَمَرُ عَلَى الشَّمْسِ فِي قَوْلِهِمْ: الْقَمَرَانِ لِشَرَفِ الذُّكُورِيَّةِ وَخِفَّتِهَا ; فَالتَّغْلِيبُ يَقَعُ فِي اللُّغَةِ لِمَعَانِي: مِنْهَا: شَرَفُ الذُّكُورِيَّةِ، وَمِنْهَا: خِفَّةُ اللَّفْظِ، كَتَغْلِيبِ عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِمُ: الْعُمَرَانِ، لِخِفَّةِ الْإِفْرَادِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: يَا عِبَادِيَ وَإِمَائِيَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّاتِي آمَنَّ، وَقُومُوا وَقُمْنَ، كَانَ عِيًّا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ ; فَلِقَرِينَةِ لُزُومِ الْعِيِّ مِنْ إِفْرَادِهِنَّ بِالذِّكْرِ حَكَمْنَا بِدُخُولِهِنَّ فِي الْخِطَابِ الْمَذْكُورِ لَا بِوَضْعِ اللُّغَةِ.
(2/522)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَوْصَيْتُ لَهُمْ، إِنَّمَا تَنَاوَلَ النِّسَاءَ بِقَرِينَةِ الْإِيصَاءِ الْأَوَّلِ ; فَإِنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِالْوَصِيَّةِ لَهُنَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: أَوْصَيتُ لَهُمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ مَنْ أَوْصَى لَهُ أَوَّلًا.
قَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ فَيَطَّرِدُ.
قُلْنَا: مَعَ الْقَرِينَةِ لَا يَثْبُتُ الْإِطْلَاقُ ; فَلَا يَثْبُتُ الِاطِّرَادُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/523)
________________________________________
الْخَامِسَةُ: الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ، وَعِيسَى بْنِ أَبَانٍ.
لَنَا: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ، وَأَكْثَرُهَا مَخْصُوصٌ، وَاسْتِصْحَابُ حَالِ كَوْنِهِ حُجَّةً.
قَالُوا: صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ; فَهُوَ مَجَازٌ، ثُمَّ هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْبَاقِي، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ وَمَا بَيْنَهُمَا. وَلَا مُخَصِّصَ فَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ.
قُلْنَا: لَا مَجَازَ، إِذِ الْعَامُّ فِي تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ مُطَابِقَةٍ لِأَفْرَادِ مَدْلُولِهِ ; فَسَقَطَ مِنْهَا بِالتَّخْصِيصِ طِبْقَ مَا خُصِّصَ مِنَ الْمَعْنَى ; فَالْبَاقِي مِنْهَا وَمِنَ الْمَدْلُولِ مُتَطَابِقَانِ تَقْدِيرًا ; فَلَا اسْتِعْمَالَ فِي غَيْرِ الْمَوْضُوعِ ; فَلَا مَجَازَ.
قَالُوا: الْبَحْثُ لَفْظِيٌّ لُغَوِيٌّ.
قُلْنَا: بَلْ حُكْمِيٌّ عَقْلِيٌّ، وَإِلَّا فَعَمَّنْ نُقِلَ مِنَ الْعَرَبِ، أَوْ فِي أَيِّ دَوَاوِينِ اللُّغَةِ هُوَ؟ ثُمَّ دَعْوَاكُمُ الْمَجَازَ مَجَازٌ، وَإِلَّا فَحَقِيقَةُ الْمَجَازِ فِي الْمُفْرَدَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، وَفِي الْمُرَكَّبَاتِ الْإِسْنَادِيَّةِ خِلَافٌ سَبَقَ لَا فِي الْعَامَّةِ وَالْجُمُوعِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مَجَازٌ بِكُلِّ حَالٍ عِنْدَ قَوْمٍ، وَقِيلَ: إِنْ خُصَّ بِمُنْفَصِلٍ لَا مُتَّصِلٍ.
لَنَا مَا سَبَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الْخَامِسَةُ: الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ وَعِيسَى بْنِ أَبَانٍ» ، أَيِ: اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا خُصَّ بِصُورَةٍ فَأَكْثَرَ، هَلْ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ غَيْرَ مَخْصُوصٍ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَا لَوْ قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ قَالَ: لَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ، هَلْ يَبْقَى قَوْلُهُ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حُجَّةً فِي قَتْلِ كُلِّ مُشْرِكٍ عَدَا أَهْلِ الذِّمَّةِ؟
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ فِي
(2/524)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْخُضْرَوَاتِ صَدَقَةٌ. هَلْ يَبْقَى الْحَدِيثُ حُجَّةً فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِيمَا عَدَا الْخُضْرَاوَاتِ.
وَمِنْهَا: إِذَا قَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، ثُمَّ قَالَ: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ: السَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ. هَلْ تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً فِي تَحْرِيمِ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْمَيْتَاتِ وَالدِّمَاءِ؟ أَوْ لَوْ قَالَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} اقْتَضَى تَحْرِيمَ جِلْدِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ ; فَهَلْ
(2/525)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً فِي نَجَاسَةِ مَا عَدَا الْجِلْدِ مِنَ الْمَيْتَةِ أَمْ لَا؟ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَذَاهِبُ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ غَالِبِ الْفُقَهَاءِ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ، وَعِيسَى بْنِ أَبَانٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ ; فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنَّ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، لَمْ يَبْقَ حُجَّةً، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَلْخِيِّ.
وَالرَّابِعُ: إِنْ كَانَ الْعَامُّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ مُمْكِنَ الِامْتِثَالِ دُونَ بَيَانٍ ; فَهُوَ حُجَّةٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، لَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَاتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ إِذَا خُصَّ تَخْصِيصًا مُجْمَلًا.
قُلْتُ: لِأَنَّهُ إِذَا خُصَّ تَخْصِيصًا مُجْمَلًا، بَقِيَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ مُجْمَلًا أَيْضًا، وَالْعَمَلُ بِالْمُجْمَلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ.
عُدْنَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
- قَوْلُهُ: «لَنَا» ، أَيْ: عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُهُ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ مُطْلَقًا، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ، وَأَكْثَرُهَا مَخْصُوصٌ، كَاحْتِجَاجِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
(2/526)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النِّسَاءِ: 3] ، مَعَ أَنَّهُ
(2/527)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَخْصُوصٌ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ إِذَا كُنَّ مِلْكَ يَمِينٍ لَا يَجُوزُ وَطْؤُهُنَّ، وَكَاحْتِجَاجِ فَاطِمَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي مِيرَاثِهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّسَاءِ: 11] ، مَعَ كَوْنِهِ مَخْصُوصًا بِالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ،
(2/528)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَاحْتِجَاجِ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَلْدِ الزَّانِيَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّورِ: 2] مَعَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْمُكْرَهَةِ وَالْمَجْنُونِ وَالْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الزِّنَى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ احْتِجَاجَاتِهِمْ بِهِ. فَثَبَتَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ ; فَمَنْ خَالَفَ بَعْدَهُ ; فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: اسْتِصْحَابُ حَالِ كَوْنِ الْعَامِّ حُجَّةً قَبْلَ التَّخْصِيصِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْعَامَّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ.
قُلْتُ: غَيْرَ أَنَّ هَذَا احْتِجَاجٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ وَفِيهِ مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ الْخَصْمِ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَا يَكُونُ حُجَّةً.
(2/529)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ; فَيَكُونُ مَجَازًا:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ كَانَ مَوْضُوعًا لِلِاسْتِغْرَاقِ، كَالْمُشْرِكِينَ، فَإِذَا خُصَّ مِنْهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، صَارَ مُسْتَعْمَلًا فِي بَعْضِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ ; لِأَنَّهُ وُضِعَ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَبَعْضُهُ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِمَا سَبَقَ فِي حَدِّ الْمَجَازِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى مَجَازًا ; فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَأَقَلِّ الْجَمْعِ وَمَا بَيْنَهُمَا ; فَيَكُونُ مُجْمَلًا، وَلَا مُخَصِّصَ لِأَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ بِأَنْ يُحْمَلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ ; فَالتَّخْصِيصُ بِأَحَدِهِمَا تَحَكُّمٌ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَمِثَالُ هَذَا بِطْرِيقِ التَّصْوِيرِ: لَوْ قَالَ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ، وَفَرَضْنَا أَنَّهُمْ عِشْرُونَ ; فَهَذَا هُوَ مَدْلُولُ الْعَامِّ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا تُكْرِمُ زَيْدًا، بَقِيَ اللَّفْظُ الَّذِي كَانَ مَوْضُوعًا لِعِشْرِينَ مُسْتَعْمَلًا فِي تِسْعَةَ عَشَرَ، وَهِيَ غَيْرُ الْعِشْرِينَ ; فَيَكُونُ مَجَازًا، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التِسْعَةَ عَشَرَ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ زَيْدٍ الْمَخْصُوصِ، أَوْ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ مِنْهُمْ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ، أَوْ عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالتِّسْعَةَ عَشَرَ، كَالْأَرْبَعَةِ وَالْخَمْسَةِ إِلَى الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ ; فَيَكُونَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْمَقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ تَحَكُّمًا.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: لَا مَجَازَ، إِذِ الْعَامُّ فِي تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ مُطَابِقَةٍ لِأَفْرَادِ مَدْلُولِهِ فَسَقَطَ مِنْهَا بِالتَّخْصِيصِ طِبْقُ مَا خُصِّصَ مِنَ الْمَعْنَى ; فَالْبَاقِي مِنْهَا وَمِنَ الْمَدْلُولِ مُتَطَابِقَانِ تَقْدِيرًا ; فَلَا اسْتِعْمَالَ فِي غَيْرِ الْمَوْضُوعِ لَهُ ; فَلَا مَجَازَ» .
(2/530)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الْجَوَابُ: أَنَا أُجِيبُ بِهِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ أَرَهُ لِأَحَدٍ، وَعِبَارَةُ «الْمُخْتَصَرِ» وَافِيَةٌ بِهِ، لَكِنْ رُبَّمَا تَوَقَّفَ تَصَوُّرُهُ عَلَى بَعْضِ النَّاظِرِينَ ; فَيَحْتَاجُ وُضُوحُهَا إِلَى بَسْطٍ وَكَشْفٍ.
وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ، بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضُوعِهِ أَوَّلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، لَكِنَّهُ فِي تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُطَابِقَةٍ لِأَفْرَادِ مَدْلُولِهِ فِي الْعَدَدِ.
مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ، وَفَرَضْنَا أَنَّ جِنْسَ الرِّجَالِ عِشْرُونَ ; فَلَفْظُ الرِّجَالِ فِي تَقْدِيرِ عِشْرِينَ لَفْظًا يَدُلُّ كُلُّ لَفْظٍ مِنْهَا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْعِشْرِينَ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَكْرِمْ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا وَخَالِدًا وَجَعْفَرًا وَبِشْرًا. . . كَذَلِكَ حَتَّى سَمَّى الْعِشْرِينَ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا تُكْرِمُ زَيْدًا، صَارَ زَيْدٌ مَخْصُوصًا مِنَ الْعِشْرِينَ، وَسَقَطَ لَفْظُ اسْمِهِ الْمُطَابِقُ لِمُسَمَّاهُ تَقْدِيرًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: فَسَقَطَ مِنْهَا بِالتَّخْصِيصِ، أَيْ: مِنَ الْأَلْفَاظِ التَّقْدِيرِيَّةِ طِبْقُ مَا خُصَّ مِنَ الْمَعْنَى، وَهُوَ لَفْظُ زَيْدٍ الْمُطَابِقُ لِمَعْنَاهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ; فَيَبْقَى مَعْنَاهُ تِسْعَةَ عَشَرَ شَخْصًا مِنَ الرِّجَالِ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ لَفْظًا تَقْدِيرِيَّةٌ، هِيَ أَسْمَاؤُهُمْ، وَتِسْعَةَ عَشَرَ اسْمًا تُطَابِقُ فِي الْعَدَدِ تِسْعَةَ عَشَرَ شَخْصًا مُسَمًّى. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: فَالْبَاقِي مِنْهَا، أَيْ: مِنَ الْأَلْفَاظِ التَّقْدِيرِيَّةِ، وَمِنَ الْمَدْلُولِ وَهِيَ الْأَشْخَاصُ، مُتَطَابِقَانِ تَقْدِيرًا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مُطَابِقٌ لِمَدْلُولِهِ فِي التَّقْدِيرِ ; فَهُوَ
(2/531)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ تَقْدِيرًا ; فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ، كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضُوعِهِ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَغَيْرِ الْمَوْضُوعِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَيَنْتَفِي الْإِجْمَالُ الْمَذْكُورُ ; فَلَا يَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَاقِي بَعْدَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ تَحَكُّمًا بَلْ وَاجِبًا بِحُكْمِ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ الثَّابِتِ تَقْدِيرًا، وَصَارَ قَوْلُهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ التِسْعَةَ عَشَرَ فُلَانًا وَفُلَانًا. . . حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى أَسْمَائِهِمْ. فَهَذَا غَايَةُ الْإِفْصَاحِ عَنْ جَوَابِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِمُوجِبِ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» .
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْبَحْثُ لَفْظِيٌّ لُغَوِيٌّ» ، هَذَا سُؤَالٌ مِنَ الْخَصْمِ عَلَى تَقْرِيرِنَا الْمَذْكُورِ لِجَوَابِ دَعْوَاهُمُ الْمَجَازَ فِي الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْبَحْثَ فِي الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَفْظِيٌّ لُغَوِيٌّ أَيْ هُوَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَاسْتِفَادَتُهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَمَا قَرَّرْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ الْعَامَّ فِي تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ مُطَابِقَةٍ لِأَفْرَادِ مَدْلُولِهِ هُوَ تَقْدِيرٌ عَقْلِيٌّ ; فَمَا أَجَبْتُمْ عَنْ دَعْوَانَا الْمَجَازَ مِنْ حَيْثُ يَنْبَغِي الْجَوَابُ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ جَوَابُكُمْ وَتَقْرِيرُكُمُ الْمَذْكُورُ مُتَنَاقِضًا، وَيَبْقَى دَلِيلُنَا عَلَى أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ سَالِمًا عَمَّا يُبْطِلُهُ ; فَثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِجْمَالِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
(2/532)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَحْثَ فِي الْعَامِّ الْمَذْكُورِ لَفْظِيٌّ لُغَوِيٌّ، بَلْ هُوَ حُكْمِيٌّ عَقْلِيٌّ، أَيِ: النَّظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ وَهُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعَامِّ لَا لَفْظٌ مِنْ أَلْفَاظِهِ، وَيُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِالْعَقْلِ بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَاتٍ لُغَوِيَّةٍ، أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، «وَإِلَّا» أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَحْثُ هَاهُنَا حُكْمًا عَقْلِيًّا، بَلْ لَفْظِيًّا لُغَوِيًّا كَمَا زَعَمْتُمْ ; «فَعَمَّنْ نُقِلَ مِنَ الْعَرَبِ» أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ كَمَا زَعَمْتُمْ، أَوْ فِي أَيِّ دَوَاوِينِ اللُّغَةِ هُوَ؟ فَإِنَّ مَنْ يَدَّعِي فِي اللُّغَةِ شَيْئًا لَا بُدَّ أَنْ يَنْقِلَهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَوْ يَعْزُوَهُ إِلَى دَوَاوِينِهِمْ، وَمَا لَا يَتَلَقَّى عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَدَوَاوِينِهَا لَا يَكُونُ مِنْهَا فِي شَيْءٍ. نَعَمْ، الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى لَفْظٍ وَمَعْنًى ; فَحَظُّ اللُّغَوِيِّ النَّظَرُ فِي أَلْفَاظِهِ بِبَيَانِ مَا وُضِعَتْ لَهُ، كَقَوْلِهِ: الْعُمُومُ: الشُّمُولُ، وَالْعَامُّ: الشَّامِلُ، وَالتَّخْصِيصُ: تَمْيِيزُ شَيْءٍ عَمَّا شَارَكَهُ بِحُكْمٍ، وَحَظُّ النَّحْوِيِّ بَيَانُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْحَرَكَاتِ اللَّاحِقَةِ لِآخِرِهِ إِعْرَابًا أَوْ بِنَاءً، وَحَظُّ التَّصْرِيفِيِّ بَيَانُ وَزْنِهِ، وَصَحِيحِهِ مِنْ مُعْتَلِّهِ، وَأَصْلِهِ مِنْ زَائِدِهِ أَوْ بَدَلِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ.
أَمَّا كَوْنُ الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةً أَوْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أَوْ حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا ; فَهَذَا لَيْسَ حَظَّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، بَلْ حَظُّ الْأُصُولِيِّ، وَالْأُصُولِيُّ مَوْضُوعُ عَمَلِهِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْعَرَضِ فِي مَبَادِئِ الْأُصُولِ، كَمَا سَبَقَ فِي اللُّغَاتِ ; فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْبَحْثَ فِي مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ حُكْمِيٌّ عَقْلِيٌّ، وَأَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي جَوَابِ دَعْوَاكُمْ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ صَحِيحٌ.
(2/533)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ دَعْوَاكُمُ الْمَجَازَ مَجَازٌ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: تَسْمِيَتُكُمُ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازًا هُوَ مُجَازٌ أَيْضًا، لِكَوْنِكُمْ رَأَيْتُمُوهُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَجَازِ، أَيْ: إِنَّمَا يُطْلَقُ الْمَجَازُ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي الْمُفْرَدَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، كَالْأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ، وَالْبَحْرِ عَلَى الرَّجُلِ الْجَوَّادِ، وَفِي الْمُرَكَّبَاتِ الْإِسْنَادِيَّةِ خِلَافٌ سَبَقَ، نَحْوَ: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزَّلْزَلَةِ: 2] ، وَأَحْيَانِي اكْتِحَالِي بِطَلْعَتِكَ، وَقَدْ يُعَارِضُونَ هَذَا بِمَا قَرَّرُوا بِهِ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَجَازٌ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ «حَقِيقَةٌ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مَجَازٌ بِكُلِّ حَالٍ عِنْدَ قَوْمٍ. وَقِيلَ: إِنْ خُصَّ» بِدَلِيلٍ «مُنْفَصِلٍ» ، كَانَ مَجَازًا، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ، كَانَ حَقِيقَةً ; لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُتَّصِلَ مَعَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ ; فَهُوَ كَالِاسْتِثْنَاءِ، إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ الرِّجَالَ إِلَّا زَيْدًا هُوَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ.
هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَأَصْلِهِ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَقْوَالًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ مَجَازٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْغَزَّالِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.
(2/534)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ جَمْعًا ; فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَمْعًا ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ عَنْ أَقَلِّ الْجَمْعِ.
وَرَابِعُهَا: إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ مِنْ شَرْطٍ أَوِ اسْتِثْنَاءٍ ; فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ.
وَخَامِسُهَا: إِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ شَرْطًا أَوْ تَقْيِيدًا بِصِفَةٍ ; فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ حَتَّى فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ.
وَسَادِسُهَا: إِنْ كَانَتِ الْقَرِينَةُ الْمُخَصِّصَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَإِلَّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ.
وَسَابِعُهَا: إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ ; فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي، وَإِنَّ خُصَّ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ قَوْمٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
وَثَامِنُهَا: أَنَّهُ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي تَنَاوُلِ الْبَاقِي، مَجَازًا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ آخَرِينَ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَفْقَهُ الْمَذَاهِبِ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: أَكْرِمِ الرِّجَالَ إِلَّا زَيْدًا ; فَلَفْظُ الرِّجَالِ يَتَنَاوَلُ مَنْ عَدَا زَيْدًا مِنْهُمْ بِالْوَضْعِ، كَمَا كَانَ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ قَبْلَ التَّخْصِيصِ ; فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي التَّنَاوُلِ الْمَذْكُورِ. وَأَمَّا اقْتِصَارُ لَفْظِ الرِّجَالِ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْ سِوَى زَيْدٍ ; فَهُوَ مُجَازٌ ; لِأَنَّ حَقَّهُ بِالْوَضْعِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى زَيْدٍ أَيْضًا، فَلَمَّا خَرَجَ زَيْدٌ بِالتَّخْصِيصِ، صَارَ اقْتِصَارًا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى مَنْ عَدَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْوَضْعِ ; فَسَبَبُ التَّجَوُّزِ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ اقْتِصَارِهِ عَلَى مَا عَدَا صُورَةِ التَّخْصِيصِ، لَا مِنْ حَيْثُ تَنَاوُلِهِ لَهُ فَهُوَ إِذَنْ حَقِيقَةٌ مِنْ وَجْهٍ، مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ.
(2/535)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- قَوْلُهُ: «لَنَا مَا سَبَقَ» ، أَيْ: لَنَا عَلَى أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حَقِيقَةٌ ; مَا سَبَقَ فِي تَقْرِيرِ كَوْنِهِ حُجَّةً مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ فِي تَقْدِيرِ أَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ مُطَابِقَةٍ لِأَفْرَادِ مَدْلُولِهِ ; فَيَسْقُطُ مِنْهَا بِالتَّخْصِيصِ طِبْقَ مَا خُصَّ مِنَ الْمَدْلُولِ ; فَيَبْقَى الْبَاقِي مِنْهَا وَمِنَ الْمَدْلُولِ مُتَطَابِقًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضُوعِهِ تَقْدِيرًا، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ وَتَصْوِيرُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/536)
________________________________________
السَّادِسَةُ: الْخِطَابُ الْعَامُّ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إِلَّا فِي الْأَمْرِ، إِذِ الْإِنْسَانُ لَا يَسْتَدْعِي مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَسْتَعْلِي عَلَيْهَا. وَمَنَعَهُ قَوْمٌ مُطْلَقًا. بِدَلِيلِ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَرِ: 62] .
لَنَا: الْمُتَّبَعُ عُمُومُ اللَّفْظِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُهُ، وَلَوْ قَالَ لِغُلَامِهِ: مَنْ رَأَيْتَ أَوْ دَخَلَ دَارِي فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا ; فَرَآهُ فَأَعْطَاهُ، عُدَّ مُمْتَثِلًا، وَإِلَّا عُدَّ عَاصِيًا. أَمَّا مَعَ الْقَرِينَةِ نَحْوَ: فَأَهِنْهُ، أَوْ فَاضْرِبْهُ ; فَلَا ; لِأَنَّهَا مُخَصِّصٌ. وَيَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِ الْعَامِّ وَالْعَمَلُ بِهِ فِي الْحَالِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي.
وَالثَّانِي حَتَّى يَبْحَثَ ; فَلَا يَجِدُ مُخَصِّصًا اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَلِلشَّافِعِيَّةِ كَالْمَذْهَبَيْنِ.
وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا كَالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ إِنْ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى طَرِيقِ تَعْلِيمِ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ، وَمِنْ غَيْرِهِ فَلَا. ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ حُصُولُ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ بِأَنْ لَا مُخَصِّصَ. أَوْ تَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ بِعَدَمِهِ، فِيهِ خِلَافٌ.
لَنَا: وَجَبَ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ فِي الزَّمَانِ حَتَّى يَظْهَرَ النَّاسِخُ ; فَكَذَا فِي الْأَعْيَانِ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُخَصِّصُ. وَلِأَنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ فِي الْعَامِّ عَدَمُ الْمُخَصِّصِ، لَاعْتُبِرَ فِي الْحَقِيقَةِ عَدَمُ الْمَجَازِ، بِجَامِعِ الِاحْتِمَالِ فِيهِمَا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمُخَصِّصِ ; فَيُسْتَصْحَبُ.
قَالُوا: شَرْطُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ عَدَمُ الْمُخَصِّصِ، وَشَرْطُ الْعِلْمِ بِالْعَدَمِ الطَّلَبُ، وَلِأَنَّ وُجُودَهُ مُحْتَمَلٌ ; فَالْعَمَلُ بِالْعُمُومِ إِذَنْ خَطَأٌ.
قُلْنَا: عَدَمُهُ مَعْلُومٌ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَمِثْلُهُ فِي التَّيَمُّمِ مُلْتَزَمٌ، وَظَنُّ صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ مَعَ احْتِمَالِ الْمُخَصِّصِ كَافٍ، وَهُوَ حَاصِلٌ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ إِلَى أَنْ يَبْقَى وَاحِدٌ جَائِزٌ، وَقِيلَ: حَتَّى يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/537)
________________________________________
لَنَا: التَّخْصِيصُ تَابِعٌ لِلْمُخَصِّصِ. وَالْعَامُّ مُتَنَاوِلٌ لِلْوَاحِدِ.
قَالُوا: لَيْسَ بِعَامٍّ.
قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّادِسَةُ: الْخِطَابُ الْعَامُّ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إِلَّا فِي الْأَمْرِ» ، أَيِ: الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامٍ عَامِّ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ كَلَامِهِ مُطْلَقًا فِي الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ. وَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ. قَالُوا: وَمِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ. وَقَالَ: لَنْ
(2/538)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ.
وَفَصَّلَ أَبُو الْخَطَّابِ ; فَقَالَ: إِنْ كَانَ كَلَامُهُ أَمْرًا، لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا، دَخَلَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ ; فَلَوْ دَخَلَ الْمُتَكَلِّمُ تَحْتَ مَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ، لَكَانَ مُسْتَدْعِيًا مِنْ نَفْسِهِ،
(2/539)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمُسْتَعْلِيًا عَلَيْهَا، وَهُوَ مُحَالٌ، «وَمَنَعَهُ قَوْمٌ مُطْلَقًا» ، أَيْ: مَنَعُوا دُخُولَ الْمُتَكَلِّمِ تَحْتَ عُمُومِ كَلَامِهِ مُطْلَقًا فِي الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ ; فَصَارَتِ الْمَذَاهِبُ ثَلَاثَةً: يَدْخُلُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، لَا يَدْخُلُ مُطْلَقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَقَلِّينَ، الثَّالِثُ تَفْصِيلُ أَبِي الْخَطَّابِ، يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ الْخَبَرِ وَنَحْوِهِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
احْتَجَّ الْمَانِعُونَ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَرِ: 62] ، وَلَوْ تَنَاوُلَ الْمُتَكَلِّمَ عُمُومُ كَلَامِهِ، لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتُهُ مَخْلُوقًا لِنَفْسِهِ لِتَنَاوُلِ عُمُومِ لَفْظِ الشَّيْءِ لَهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ.
وَلَنَا عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَّبَعَ عُمُومُ لَفْظِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُهُ كَغَيْرِهِ. وَأَمَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتُهُ ; فَعُمُومُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} يَتَنَاوَلُهُ وَضْعًا، وَيَقْتَضِي دُخُولَهُ تَحْتَهُ لُغَةً، لَكِنَّهُ خَصَّ مِنَ الْعُمُومِ عَقْلًا لِامْتِنَاعِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاسْتِحَالَتِهِ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِغُلَامِهِ: مَنْ رَأَيْتَ ; فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، أَوْ مَنْ دَخَلَ دَارِي ; فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا ; فَرَأَى الْغُلَامُ سَيِّدَهُ، أَوْ دَخَلَ السَّيِّدُ دَارَ نَفْسِهِ ; فَأَعْطَاهُ الْغُلَامُ دِرْهَمًا، عُدَّ مُمْتَثِلًا «وَإِلَّا» أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ عُدَّ عَاصِيًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ كَلَامِهِ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا مَعَ الْقَرِينَةِ، نَحْوَ: فَأَهِنْهُ، أَوْ فَاضْرِبْهُ ; فَلَا ; لِأَنَّهَا مُخَصِّصٌ» ، إِلَى آخِرِهِ. هُوَ جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ وَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ عُمُومِ كَلَامِهِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ،
(2/540)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَكِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا قَالَ لِغُلَامِهِ: مَنْ رَأَيْتَ ; فَأَهِنْهُ أَوْ فَاضْرِبْهُ ; فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ كَلَامِهِ حَتَّى لَوْ رَأَى الْغُلَامُ سَيِّدَهُ ; فَأَهَانَهُ أَوْ ضَرَبَهُ، لَكَانَ عَاصِيًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِهِ فِي صُورَةٍ دُونَ صُورَةٍ ; لَمْ يَصِحَّ قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقًا.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَنَحْوِهَا إِنَّمَا خَرَجَ عَنْ عُمُومِ كَلَامِهِ لِلْقَرِينَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَأْمُرُ بِإِهَانَةِ نَفْسِهِ، وَالْقَرِينَةُ تُخَصِّصُ، وَبِمِثْلِ هَذَا يُجَابُ أَبُو الْخَطَّابِ عَنْ فَرْقِهِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ إِنْ سُلِّمَ لَهُ الْفَرْقُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَدْخُلِ الْمُتَكَلِّمُ تَحْتَ عُمُومِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، لِمَا ذَكَرْتَ مِنْ تَعَذُّرِ اسْتِدْعَائِهِ مِنْهَا، وَاسْتِعْلَائِهِ عَلَيْهَا، لَا لِأَنَّ كَلَامَهُ مُطْلَقًا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ، وَصَارَ اسْتِحَالَةُ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ قَرِينَةً مُخَصِّصَةً لِلْأَمْرِ عَنْ تَنَاوُلِهِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ ; فَافْهَمْ هَذَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: الْخِطَابُ الْوَارِدُ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» وَ «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» يَتَنَاوَلُهُ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ وَالْحَلِيمِيُّ: إِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْخِطَابِ أَمْرٌ بِالتَّبْلِيغِ، نَحْوُ: قُلْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَمْ يَتَنَاوَلْهُ، وَإِلَّا تَنَاوَلَهُ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقًا لِعُمُومِ الصِّيغَةِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَهِمُوا تَنَاوَلَ الْخِطَابِ الْعَامِّ لَهُ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ
(2/541)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَى الْعُمْرَةِ ; فَتَوَقَّفُوا، وَقَالُوا: أَمَرَتْنَا بِالْفَسْخِ، وَلَمْ تَفْسَخْ.
وَخِطَابُ الشَّرْعِ الْوَارِدُ فِي زَمَنِ النُّبُوَّةِ عَامٌّ لِلْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ خِلَافًا لِأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ; احْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ أَهْلًا لِلْخِطَابِ ; فَلَا يَكُونُ الْخِطَابُ مُتَنَاوِلًا لَهُ.
وَلَنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى تَنَاوُلِ الْخِطَابِ الشَّرْعِيِّ جَمِيعَ الْأُمَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا الْمَعْدُومُ ; فَيَصِحُّ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ إِلَيْهِ بِشَرْطِ وُجُودِهِ ; فَهُوَ مُكَلَّفٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَيَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِ الْعَامِّ وَالْعَمَلُ بِهِ» ، أَيْ: إِذَا وَرَدَ اللَّفْظُ، وَجَبَ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ عَامًّا «فِي الْحَالِ» ، وَأَنْ يُعْمَلَ بِهِ «فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي» ، وَالْقَوْلُ «الثَّانِي» : لَا يَجِبُ ذَلِكَ «حَتَّى يَبْحَثَ ; فَلَا يَجِدُ مُخَصِّصًا، اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَلِلشَّافِعِيَّةِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: كَالْأَوَّلِ» أَيْ: يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ فِي الْحَالِ.
وَالْقَوْلُ «الثَّانِي» : فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّ «الْعَامَّ إِنْ سُمِعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى طَرِيقِ تَعْلِيمِ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ» ، أَيْ: يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ فِي الْحَالِ، وَإِنْ سُمِعَ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَجِبِ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ حَتَّى يُبْحَثَ عَنِ الْمُخَصِّصِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَائِلِينَ بِتَوَقُّفِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ عَلَى الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ حُصُولَ اعْتِقَادٍ جَازِمٍ بِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ، وَهُوَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَاكْتَفَى بَعْضُهُمْ بِحُصُولِ الظَّنِّ الْغَالِبِ بِعَدَمِ الْمُخَصِّصِ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، مِنْهُمُ: ابْنُ سُرَيْجٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ.
قُلْتُ: هَذَا نَقْلُ «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ الَّذِي فِي «الرَّوْضَةِ» ، غَيْرَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ إِنَّمَا حَكَى الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فَقَطْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ
(2/542)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَأَنَا ذَكَرْتُ مَعَ ذَلِكَ وُجُوبَ الْعَمَلِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ الْعُمُومِ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِقَادِ عُمُومِهِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَصِّصِ ; فَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ جَزْمًا، وَبِظُهُورِ الْمُخَصِّصِ يَزُولُ ذَلِكَ الْجَزْمُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: يَمْتَنِعُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ بِانْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ، ثُمَّ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ. أَمَّا قَوْلُ الصَّيْرَفِيِّ ; فَلِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِاعْتِقَادِ عُمُومِهِ جَزْمًا عُمُومَ اللَّفْظِ لُغَةً ; فَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَزُولُ بِظُهُورِ الْمُخَصِّصِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ اعْتِقَادَ إِرَادَةِ الْعُمُومِ بِاللَّفْظِ ; فَهُوَ خَطَأٌ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ إِرَادَةِ الْخُصُوصِ بِهِ قَائِمٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ; فَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْعُمُومَاتِ، إِذْ لَا طَرِيقَ إِلَى الْقَطْعِ بِانْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ ; لِأَنَّ مَدْرَكَهُ الْبَحْثُ النَّظَرِيُّ، وَهُوَ إِنَّمَا يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ.
قُلْتُ: أَنَا وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى امْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ مَعَ إِيجَابِ بَعْضِهِمِ اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ مُشْكِلٌ جِدًّا، إِذْ لَا يَظْهَرُ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ فَائِدَةٌ إِلَّا الْعَمَلُ بِهِ فِعْلًا أَوْ كَفًّا ; فَلَوْ قِيلَ لَنَا: قَاتِلُوا الْكُفَّارَ، أَوِ اقْتُلُوهُمْ، وَاعْتَقَدْنَا عُمُومَهُ، وَجَبَ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ حَتَّى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الْمُخَصِّصُ لَهُمْ. وَلَوْ قَالَ الشَّارِعُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، وَاعْتَقَدْنَا عُمُومَهُ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَكُفَّ عَنْ كُلِّ مَيْتَةٍ حَتَّى السَّمَكِ وَالْجَرَادِ حَتَّى يُوجَدَ الْمُخَصِّصُ لَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ هَكَذَا، لَمْ يَكُنْ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِهِ فَائِدَةٌ.
(2/543)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُدْنَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَصِّصِ، وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصٌ فِي الْأَزْمَانِ كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ تَخْصِيصٌ فِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ إِنَّ اعْتِقَادَ عُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْأَزْمَانِ وَاجِبٌ حَتَّى يَظْهَرَ النَّاسِخُ ; فَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ فِي الْأَعْيَانِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا حَتَّى يَظْهَرَ الْمُخَصِّصُ، فَإِذَا قِيلَ لَنَا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ; فَهَذَا اللَّفْظُ يَقْتَضِي دَوَامَ التَّحْرِيمِ فِي جَمِيعِ زَمَنِ التَّكْلِيفِ وَهُوَ الْعُمُومُ الزَّمَانِيُّ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ يُرْفَعُ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ بِالنَّسْخِ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا تَعَلُّقَ التَّحْرِيمِ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَيْتَةِ، وَهُوَ الْعُمُومُ الْعَيْنِيُّ مَعَ احْتِمَالِ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ بَعْضِ الْأَعْيَانِ كَالسَّمَكِ وَالْجَرَادِ، ثُمَّ إِنَّا فِي الْأَوَّلِ لَمْ نَقُلْ: إِنَّا لَا نَعْتَقِدُ دَوَامَ هَذَا التَّحْرِيمِ فِي كُلِّ زَمَانٍ لِاحْتِمَالِ ارْتِفَاعِهِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ بِالنَّسْخِ ; فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا نَقُولُ: إِنَّا لَا نَعْتَقِدُ تَعَلُّقَ التَّحْرِيمِ بِكُلِّ مَيْتَةٍ لِاحْتِمَالِ ارْتِفَاعِهِ عَنْ بَعْضِ أَفْرَادِهَا بِالتَّخْصِيصِ، وَلَا نَعْنِي بِاعْتِقَادِ الْعُمُومِ إِلَّا هَذَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوِ اعْتُبِرَ فِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ كَوْنِ اللَّفْظِ عَامًّا عَدَمُ الْمُخَصِّصِ ; لَاعْتُبِرَ فِي وُجُوبِ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ حَقِيقَةً عَدَمُ الْمَجَازِ بِجَامِعِ
(2/544)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاحْتِمَالِ فِيهِمَا، إِذِ اللَّفْظُ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ مَجَازًا، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَقِيقَةَ، كَمَا أَنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلْخُصُوصِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ، وَالظَّاهِرُ فِيهِ الْعُمُومَ، لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يُشْتَرَطُ فِي اعْتِقَادِ حَقِيقَتِهِ عَدَمُ الْمَجَازِ، كَذَلِكَ الْعَامُّ لَا يُشْتَرَطُ فِي اعْتِقَادِ عُمُومِهِ عَدَمُ الْمُخَصِّصِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الظَّاهِرَ الْعُمُومُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمُخَصِّصِ ; فَيُسْتَصْحَبُ حَالُهُ فِي الْعَدَمِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، فَإِنْ ظَهَرَ مُخَصِّصٌ، كَانَ بُطْلَانُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنِ الْعِبَادِ كَسَائِرِ خَطَّأِ الْحُكَّامِ وَالْمُجْتَهِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ الْخَصْمِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اعْتِقَادِ التَّعْمِيمِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَتَقْرِيرُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «شَرْطَ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ عَدَمُ الْمُخَصِّصِ» ; لِأَنَّهُ يُنَافِيهِ ; فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ مَعَهُ، وَ «شَرْطُ الْعِلْمِ بِالْعَدَمِ الطَّلَبُ» ، كَمَا قُلْنَا فِي طَلَبِ الْمَاءِ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُطْلَبَ الْمُخَصِّصُ ; فَلَا يُوجَدُ، وَإِذَا لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ بِالْعَامِّ، لَمْ يَجُزِ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ اعْتِقَادَ الْعُمُومِ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ ; لِأَنَّهُ فَائِدَتُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ وُجُودَ الْمُخَصِّصِ مُحْتَمَلٌ قَطْعًا ; فَالْعَمَلُ بِالْعُمُومِ مَعَ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ يَكُونُ خَطَأً.
(2/545)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: عَدَمُهُ» ، أَيْ: عَدَمُ الْمُخَصِّصِ «مَعْلُومٌ بِالِاسْتِصْحَابِ» الْمَذْكُورِ ; فَيَحْصُلُ شَرْطُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ «وَمِثْلُهُ فِي التَّيَمُّمِ مُلْتَزَمٌ» ، أَيْ: نَلْتَزِمُ فِي عَدَمِ الْمَاءِ لِإِبَاحَةِ التَّيَمُّمِ مَا الْتَزَمْنَاهُ هَاهُنَا، وَهُوَ أَنَّا لَا نُوجِبُ طَلَبَ الْمَاءِ، وَلَا نَشْتَرِطُهُ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ، بَلْ نَكْتَفِي فِي عَدَمِهِ بِاسْتِصْحَابِ حَالِ فَقْدِهِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنِ الْأَمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [الْمَائِدَةِ: 6] ، وَعَدَمُ الْوِجْدَانِ مُتَحَقِّقٌ بِمُجَرَّدِ الْفَقْدِ بِدُونِ الطَّلَبِ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الْكَهْفِ: 53] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} [الْكَهْفِ: 58] ، أَيْ: فَقَدُوا هُنَالِكَ الْمَصْرِفَ وَالْمَوْئِلَ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا ذَلِكَ، فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَلَا أَنَّ الطَّلَبَ شَرْطٌ فِي عَدَمِ وِجْدَانِهِمْ لَهُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْوِجْدَانِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَبَ لَيْسَ شَرْطًا لِعَدَمِ الْوِجْدَانِ فِي التَّيَمُّمِ وَلَا غَيْرِهِ، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: نَكْتَفِي فِي عَدَمِ الْمَاءِ لِجَوَازِ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ بِاسْتِصْحَابِ حَالِ فَقْدِهِ، وَفِي عَدَمِ الْمُخَصِّصِ لِوُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِ الْعَامِّ وَالْعَمَلِ بِهِ بِاسْتِصْحَابِ حَالِ فَقْدِهِ.
قَوْلُهُمْ: وُجُودُ الْمُخَصِّصِ مُحْتَمَلٌ قَطْعًا.
قُلْنَا: نَعَمْ.
قَوْلُهُمْ: فَالْعَمَلُ بِالْعُمُومِ مَعَ احْتِمَالِ الْمُخَصِّصِ يَكُونُ خَطَأً.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَطَأً لَوْ كَانَ شَرْطُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ الْقِطْعُ بِانْتِفَاءِ
(2/546)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُخَصِّصِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ، بَلْ «ظَنُّ صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ مَعَ احْتِمَالِ الْمُخَصِّصِ كَافٍ، وَهُوَ حَاصِلٌ» .
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْتُهُ فِي أَوَّلِهَا وَهُوَ أَنَّ اعْتِقَادَ عُمُومِ الْعَامِّ وَالْعَمَلَ بِهِ وَاجِبٌ بِمُجَرَّدِ وُرُودِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ظَاهِرٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ إِلَى أَنْ يَبْقَى وَاحِدٌ جَائِزٌ، وَقِيلَ: حَتَّى يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ» .
اخْتَلَفُوا فِيمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ ; فَقِيلَ: يَجُوزُ إِلَى الْوَاحِدِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ مِنْ أَقَلِّ الْجَمْعِ. وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَالْقَفَّالِ، وَالْغَزَّالِيِّ، وَحَكَى الْآمِدِيُّ عَنِ الْقَفَّالِ تَفْصِيلًا، وَهُوَ أَنَّ فِي «مَنْ» خَاصَّةً يَجُوزُ التَّخْصِيصُ إِلَى الْوَاحِدِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَدَوَاتِ الْعُمُومِ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ ثَلَاثَةٍ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَبْقَى بَعْدَ التَّخْصِيصِ فِي جَمِيعِ أَدَوَاتِ الْعُمُومِ عَدَدٌ يَقْرُبُ مِنَ الْأَوَّلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا، وَإِلَيْهِ مَيْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: يَجُوزُ التَّخْصِيصُ عِنْدَنَا إِلَى الْوَاحِدِ، وَهُوَ إِطْلَاقُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَحَكَى الْإِمَامُ إِجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي مَنْ وَمَا وَنَحْوِهِمَا.
قَالَ، يَعْنِي الْإِمَامَ: وَقَالَ الْقَفَّالُ: يَجِبُ أَنْ يَبْقَى أَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْجُمُوعِ الْمُعَرَّفَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: لَا بُدَّ مِنَ الْكَثْرَةِ فِي الْكُلِّ إِلَّا إِذَا اسْتَعْمَلَهُ الْوَاحِدُ الْمُعَظَّمُ فِي نَفْسِهِ، يَعْنِي فَلَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْكَثْرَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ فِي الْأَصْلِ وَاحِدٌ،
(2/547)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 47] .
قُلْتُ: صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ حَتَّى لَا يَبْقَى مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ إِلَّا مُشْرِكٌ وَاحِدٌ، أَوْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ أَوْ مَا يُقَارِبُ الْمُشْرِكِينَ الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِمْ فِي الْكَثْرَةِ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَمَنْ بَدَّلَ دِينَهُ ; فَاقْتُلُوهُ. عَلَى التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ الْمَذْكُورِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ جَوَازُ التَّخْصِيصِ إِلَى الْوَاحِدِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ «التَّخْصِيصَ تَابِعٌ لِلْمُخَصِّصِ، وَالْعَامَّ مُتَنَاوِلٌ لِلْوَاحِدِ» ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ التَّخْصِيصِ إِلَيْهِ.
أَمَّا أَنَّ التَّخْصِيصَ تَابِعٌ لِلْمُخَصِّصِ ; فَلِأَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ الْمُخَصِّصُ اقْتَضَى رَفْعَ مَا يُطَابِقُهُ مِنَ الْعَامِّ، بِمَعْنَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ مَدْلُولَهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِنَ الْعُمُومِ ; فَيَخْرُجُ عَنِ الْإِرَادَةِ بِهِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْعَامَّ مُتَنَاوِلٌ لِلْوَاحِدِ ; فَظَاهِرٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَيَانِهِ لُغَةً وَحَدُّهُ اصْطِلَاحًا، وَهُوَ الشُّمُولُ وَالِاسْتِغْرَاقُ.
وَأَمَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ التَّخْصِيصِ إِلَى الْوَاحِدِ ; فَلِأَنَّهُ كُلَّمَا وَرَدَ التَّخْصِيصُ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ، اقْتَضَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَرْدَ غَيْرُ مُرَادٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا يَبْقَى مِنَ الْعَامِّ، أَوْ نَقُولُ: التَّخْصِيصُ بَيَانُ أَنَّ بَعْضَ
(2/548)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَامِّ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْحُكْمِ، وَالْبَعْضُ الْمَخْصُوصُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ الْعُمُومِ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ نِصْفَهُ ; فَمَا عَدَا الْوَاحِدِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَعْضِ ; فَيَجُوزُ بَيَانُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: قَالُوا: لَيْسَ بِعَامٍّ، أَيْ: قَالَ الْمَانِعُونَ لِلتَّخْصِيصِ إِلَى الْوَاحِدِ: إِنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ بِعَامٍّ ; فَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ إِلَيْهِ.
«قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ» أَيْ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَامًّا، بَلْ هُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ الْعَامَّ هُوَ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، فَإِذَا خُصَّ بِفَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَغْرِقًا ; فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ عَامًّا، وَكَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَيْسَ بِجَمْعٍ أَوْ لَيْسَ بِكَثِيرٍ بِنَاءً عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ تَبْقَى الْكَثْرَةُ عَلَى رَأْيِ أَبِي الْحُسَيْنِ، أَوْ أَقَلُّ الْجَمْعِ عَلَى رَأْيِ الْغَزَّالِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ عَمَلًا بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/549)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْخَاصُّ
الْخَاصُّ: اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ.
وَالتَّخْصِيصُ: بَيَانُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ. أَوْ بَيَانُ أَنَّ بَعْضَ مَدْلُولِ اللَّفْظِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ جَائِزٌ بِدَلِيلِ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزُّمَرِ: 62] ، {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الْأَحْقَافِ: 25] .
وَالْمُخَصِّصُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخَاصِّ، وَمُوجِدُهُ.
وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ مَجَازٌ.
وَالْمُخَصِّصَاتُ تِسْعَةٌ:
الْأَوَّلُ: الْحِسُّ كَخُرُوجِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} حِسًّا.
الثَّانِي: الْعَقْلُ، وَبِهِ خُصَّ مَنْ لَا يَفْهَمُ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ نَحْوُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] .
وَوُجُوبُ تَأَخُّرِ الْمُخَصِّصِ، وَصِحَّةُ تَنَاوُلِ الْعَامِّ مَحَلَّ التَّخْصِيصِ مَمْنُوعٌ.
الثَّالِثُ: الْإِجْمَاعُ لِقَطْعِيَّتِهِ، وَاحْتِمَالِ الْعَامِّ وَهُوَ دَلِيلُ نَصٍّ مُخَصِّصٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْخَاصُّ» .
أَيْ: هَذَا بَيَانُ أَحْكَامِ الْخَاصِّ وَالتَّخْصِيصِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِمَا، وَالْخَاصُّ: هُوَ «اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ» لِأَنَّهُ مُقَابِلُ الْعَامِّ، وَالْعَامُّ يَدُلُّ عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ; فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مَا ذَكَرْنَاهُ ; فَالْعَامُّ، كَالرِّجَالِ. وَالْخَاصُّ، كَزَيْدٍ، وَعَمْرٍو، وَهَذَا الرَّجُلِ.
قَوْلُهُ: «وَالتَّخْصِيصُ: بَيَانُ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ، أَوْ بَيَانُ أَنَّ بَعْضَ مَدْلُولِ اللَّفْظِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْحُكْمِ» ، هَذَانِ تَعْرِيفَانِ لِلتَّخْصِيصِ مُتَسَاوِيَانِ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
(2/550)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الْمَائِدَةِ: 5] ، مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [الْبَقَرَةِ: 221] ; فَهُوَ مُبَيِّنٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكَاتِ مَا عَدَا الْكِتَابِيَّاتِ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ مَدْلُولِ الْمُشْرِكَاتِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالتَّحْرِيمِ، وَهُنَّ الْكِتَابِيَّاتُ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي التَّخْصِيصَ، جَائِزٌ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا نَعْلَمُ اخْتِلَافًا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ.
قُلْتُ: لِأَنَّهُ بَيَانٌ كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِّهِ، وَالْبَيَانُ لَا خِلَافَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرِ فِي بَيَانِهِ، بِخِلَافِ النَّسْخِ ; فَإِنَّهُ رَفْعٌ وَإِبْطَالٌ ; فَاتَّجَهَتِ الشُّبْهَةُ فِي وُقُوعِهِ.
قَوْلُهُ: «بِدَلِيلِ» ، أَيِ: التَّخْصِيصُ جَائِزٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 101] ، {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 102] ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتِهِ، إِذْ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً. وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَةِ الرِّيحِ الَّتِي أَهْلَكَتْ عَادًا: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الْأَحْقَافِ: 25] ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَمْ تُدَمِّرْهَا، كَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا الْأُصُولِيُّونَ عَلَى إِطْلَاقِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْخَاصِّ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا ; لِأَنَّهَا جَاءَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مُقَيَّدَةً بِمَا يَمْنَعُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذَّارِيَاتِ: 41، 42] ، وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} مُقَيَّدٌ بِمَا أَتَتْ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّدْمِيرُ مَخْتَصًّا
(2/551)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِذَلِكَ ; فَتَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً أُرِيدَ بِهَا الْخَاصُّ ; فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا عَلَى مَا يَذْكُرُونَ.
قَوْلُهُ «وَالْمُخَصِّصُ: هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخَاصِّ وَمُوجِدُهُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ مَجَازٌ» . يَعْنِي أَنَّ الْمُخَصِّصَ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا ; فَالْمُخَصِّصُ حَقِيقَةً هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخَاصِّ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ إِذَا صَدَرَ ذَلِكَ عَنْهُمَا، وَوُجِدَ مِنْهُمَا، وَالْمُخَصِّصُ مَجَازًا هُوَ ذَلِكَ الْكَلَامُ الْخَاصُّ الْمُبَيِّنُ لِلْمُرَادِ بِالْعَامِّ ; فَاللَّهُ هُوَ الْمُخَصِّصُ بِالْحَقِيقَةِ، لِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّاتِ مِنْ عُمُومِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 5] ، يُسَمَّى مُخَصِّصًا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مَجَازًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِعْلٌ، وَالْمُخَصِّصُ اسْمُ فَاعِلٍ، وَالْفِعْلُ إِنَّمَا يَصْدُرُ حَقِيقَةً عَنْ فَاعِلٍ حَقِيقِيٍّ، أَمَّا إِسْنَادُهُ إِلَى الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَيْسَ بِفَاعِلٍ حَقِيقِيٍّ ; فَهُوَ مَجَازٌ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ النَّاسِخَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، وَإِطْلَاقُ النَّاسِخِ عَلَى بَعْضِ النُّصُوصِ مَجَازٌ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُخَصِّصَاتُ» ، أَيْ: وَالْأَدِلَّةُ الْمُخَصِّصَاتُ، يَعْنِي أَدِلَّةَ التَّخْصِيصِ «تِسْعَةٌ» :
- «الْحِسُّ» ، أَيْ: أَحَدُهَا الْحِسُّ، «كَخُرُوجِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنْ» قَوْلِهِ عَزَّ
(2/552)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَجُلَّ فِي صِفَةِ الرِّيحِ الْعَقِيمِ: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الْأَحْقَافِ: 25] ; فَإِنَّنَا عَلِمْنَا بِالْحِسِّ أَنَّهَا لَمْ تُدَمِّرِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ; فَكَانَ الْحِسُّ مُخَصِّصًا لِذَلِكَ.
قُلْتُ: وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَظَرٌ كَمَا سَبَقَ فِي صَدْرِ الْبَابِ.
«الثَّانِي» : مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ: الْعَقْلُ، وَبِهِ خُصَّ مَنْ لَا يَفْهَمُ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ، نَحْوَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانِ: 97] ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [الْبَقَرَةِ: 21] ، فَإِنَّ هَذَا الْخِطَابَ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مِنَ النَّاسِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لَكِنَّهُ خَرَجَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ; فَكَانَ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ بِهِ، وَدَلِيلُ الْعَقْلِ الْمُخَصِّصِ لَهُ مَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ.
قَوْلُهُ: «وَوُجُوبُ تَأَخُّرِ الْمُخَصِّصِ وَصِحَّةِ تَنَاوُلِ الْعَامِّ مَحَلَّ التَّخْصِيصِ مَمْنُوعٌ» هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالَيْنِ مُقَدَّرَيْنِ، أُورِدَا عَلَى كَوْنِ الْعَقْلِ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِّهِ ; فَالْمُخَصِّصُ مُبَيِّنٌ وَالْمُبَيِّنُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمُبَيِّنِ، وَالْعَقْلُ سَابِقٌ فِي الْوُجُودِ عَلَى أَدِلَّةِ السَّمْعِ ; فَلَا يَكُونُ مُبَيِّنًا لَهَا ; فَلَا يَكُونُ الْعَقْلُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُقَدَّمِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ النَّسْخُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ.
(2/553)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّ مَحَلَّ التَّخْصِيصِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِحَّ تَنَاوُلُ الْعَامِّ لَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدِ الْمُخَصِّصُ، وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ، لَكِنْ مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ عَقْلًا، لَا يَصِحُّ تَنَاوُلُ اللَّفْظِ لَهُ لُغَةً وَلَا إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ لَهُ. وَحِينَئِذٍ لَا عُمُومَ فِي اللَّفْظِ ; فَلَا تَخْصِيصَ.
وَمِثَالُهُ أَنَّ ذَاتَ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ لَا يَصِحُّ خَلْقُهَا عَقْلًا ; فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 101] مُتَنَاوِلًا لَهَا لُغَةً ; فَلَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ عَامًّا ; فَلَا يَكُونُ الْعَقْلُ مُخَصِّصًا لَهُ. هَذَا تَقْرِيرُ السُّؤَالَيْنِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا بِالْمَنْعِ:
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ ; فَبِأَنَّ حَقَّ الْمُخَصِّصِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا، وَالْعَقْلُ إِنَّمَا سَبَقَ أَدِلَّةَ السَّمْعِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا. أَمَّا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لَهَا ; فَلَا نُسَلِّمُ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا، أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ مَوْجُودٌ دَائِمُ الْوُجُودِ ; فَالْمَوْجُودُ مِنْهُ بَعْدَ وُرُودِ أَدِلَّةِ السَّمْعِ هُوَ اللَّاحِقُ لَهَا بِالتَّخْصِيصِ وَالْبَيَانِ، أَمَّا السَّابِقُ عَلَيْهَا ; فَلَا، وَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّهُ مُخَصِّصٌ مِنْ جِهَةِ مَا تَأَخَّرَ مِنْ وُجُودِهِ عَنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ عَلَيْنَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُقَدَّمُ. لِأَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ بِوُجُودِهِ وَبَيَانِهِ، وَالْعَقْلُ إِنَّمَا تَقَدَّمَ أَدِلَّةَ السَّمْعِ بِوُجُودِهِ، وَتَأَخَّرَ بِبَيَانِهِ.
ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُقَدَّمِ وَالْعَقْلِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُقَدَّمَ لَا يُعَدُّ كَلَامًا وَلَا النَّاطِقَ بِهِ مُتَكَلِّمًا، كَمَنْ قَالَ: إِلَّا زَيْدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَامَ
(2/554)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَوْمُ، بِخِلَافِ دَلِيلِ الْعَقْلِ ; فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ الْبَارِئِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ قَبْلَ دَلِيلِ السَّمْعِ وَبَعْدَهُ، وَالْمُسْتَعْمِلُ لَهُ يُعَدُّ مُسْتَدِلًّا فِي الْحَالَيْنِ. وَأَمَّا امْتِنَاعُ النَّسْخِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ ; فَلِأَنَّ النَّسْخَ إِمَّا رَفْعُ الْحُكْمِ، أَوْ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ، وَلَا قُوَّةَ لِلْعَقْلِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى الشَّرْعِ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ ; فَإِنَّهُ بَيَانٌ، وَالْعَقْلُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِلَفْظِهِ.
وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي. فَبِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَحَلَّ التَّخْصِيصِ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ تَنَاوُلُ الْعَامِّ لَهُ.
قَوْلُهُ: لَوْ لَمْ يَرِدِ الْمُخَصِّصُ. وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ.
قُلْنَا: هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ، بَلْ إِنَّمَا يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَصِحُّ تَنَاوُلُهُ لَهُ. أَمَّا مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ عَقْلًا ; فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ النَّافِي لِلصِّحَّةِ، وَعُدْنَا إِلَى رَأْسِ الْمَسْأَلَةِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ: مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ عَقْلًا لَا يَصِحُّ تَنَاوُلُ اللَّفْظِ لَهُ لُغَةً.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ إِرَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ الْمَعْصُومِ لَهُ. وَحِينَئِذٍ لَا يَمْتَنِعُ أَنَّ مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ عَقْلًا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ لُغَةً، وَيُبَيِّنُ الْعَقْلُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِلْمُتَكَلِّمِ الْمَعْصُومِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا هَذَا بِالْمُتَكَلِّمِ الْمَعْصُومِ ; لِأَنَّ غَيْرَ الْمَعْصُومِ يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يُرِيدَ بِلَفْظِ الْعَامِّ مَا لَا يَصِحُّ وُقُوعُهُ، لَكِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْصُومًا مِنَ الْكَذِبِ، وَبَابُ الْكَذِبِ مَفْتُوحٌ لِمَنْ أَرَادَهُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
الثَّالِثُ: مِنْ مُخَصِّصَاتِ «الْعُمُومِ الْإِجْمَاعُ، لِقَطْعِيَّتِهِ، وَاحْتِمَالِ الْعَامِّ» ، أَيْ: لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ شَرْعِيٌّ، وَالْعَامُّ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ
(2/555)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ لَا بِطْرِيقِ الْقَطْعِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الْقَاطِعُ وَالظَّاهِرُ كَانَ الْقَاطِعُ مُتَقَدِّمًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي الْإِجْمَاعَ، «دَلِيلُ نَصٍّ مُخَصِّصٍ» ، أَيْ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُخَصِّصَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ نَصٍّ مُخَصِّصٍ، كَمَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّاسِخِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا يُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِجْمَاعِ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ ; فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مُسْتَنَدِهِ، وَالتَّخْصِيصُ وَالنَّسْخُ مُضَافٌ إِلَى ذَلِكَ الْمُسْتَنَدِ، فَإِذَا رَأَيْنَا الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدًا عَلَى الْعَمَلِ فِي بَعْضِ صُوَرِ الْعَامِّ بِخِلَافِ مُقْتَضَى الْعُمُومِ، عَلِمْنَا أَنَّ هُنَاكَ نَصًّا عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ.
مِثَالُهُ: أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَامَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْعِوَضِ الْمَعْلُومِ، ثُمَّ رَأَيْنَا النَّاسَ مُجْمِعِينِ عَلَى دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ وَرُكُوبِ السُّفُنِ بِغَيْرِ تَعْيِينِ عِوَضٍ ; فَاسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى وُجُودِ دَلِيلٍ مُخَصِّصٍ لِهَذِهِ الصُّورَةِ وَمَا كَانَ مِنْ أَمْثَالِهَا، وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الِاسْتِحْسَانِ.
(2/556)
________________________________________
الرَّابِعُ: النَّصُّ: كَتَخْصِيصِ «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ،» لِعُمُومِ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [الْمَائِدَةِ: 38] ، «وَلَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» . لِعُمُومِ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ،» وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامُّ كِتَابًا، أَوْ سُنَّةً، مُتَقَدِّمًا، أَوْ مُتَأَخِّرًا، لِقُوَّةِ الْخَاصِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ يُقَدَّمُ الْمُتَأَخِّرُ، خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ، وَلِأَنَّ الْعَامَّ كَآحَادِ صُوَرٍ خَاصَّةٍ ; فَجَائِزٌ أَنْ يُرْفَعَ الْخَاصُّ. وَلَنَا: أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَمَلًا بِكِلَيْهِمَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ ; فَكَانَ أَوْلَى، فَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا. وَمُتَعَارِضَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لِاحْتِمَالِ تَأَخُّرِ الْعَامِّ وَنَسْخِهِ الْخَاصَّ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُخَصُّ عُمُومُ السَّنَةِ بِالْكِتَابِ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَوْلًا لَنَا ; لِأَنَّهَا مُبَيِّنَةٌ لَهُ ; فَلَوْ خَصَّهَا لَبَيَّنَهَا ; فَيَتَنَاقَضُ. وَلَنَا: أَنَّ مَا بَيَّنَتْهُ مِنْهُ لَا يُبَيِّنُهَا وَبِالْعَكْسِ، أَوْ يُبَيِّنُ كُلٌّ مِنْهَا الْآخَرَ بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ ; فَلَا تَنَاقُضَ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يُخَصُّ عُمُومُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِضَعْفِهِ عَنْهُ، وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ: يُخَصَّصُ الْمُخَصِّصُ دُونَ غَيْرِهِ. بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْمُخَصَّصَ مَجَازٌ ; فَيَضْعُفُ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ، إِذِ الْكِتَابُ قَطْعِيُّ السَّنَدِ، وَالْخَبَرُ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ فَيَتَعَادَلَانِ. لَنَا: إِرَادَةُ الْخَاصِّ أَغْلَبُ مِنْ إِرَادَةِ عُمُومِ الْعَامِّ ; فَقُدِّمَ لِذَلِكَ، وَأَيْضًا تَخْصِيصُ الصَّحَابَةِ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] ، بِـ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَآيَةَ الْمِيرَاثِ بِـ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ. وَالْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. وَلَا إِرْثَ لِقَاتِلٍ، وَنَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، وَعُمُومَ الْوَصِيَّةِ بِـ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ، بِـ «حَتَّى يَذُوقَ عَسِيلَتَكِ» . مُتَسَارِعِينَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ تَارِيخٍ. وَدَعْوَى الْوَاقِفِيَّةِ التَّعَادُلَ مَمْنُوعٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَإِلَّا لَتَوَقَّفَ الصَّحَابَةُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/557)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الرَّابِعُ ": مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ: " النَّصُّ " الْخَاصُّ، " كَتَخْصِيصِ " قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] ، فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْقَطْعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ; فَخَصَّ بِالْحَدِيثِ مَا دُونَ رُبُعِ دِينَارٍ ; فَلَا قَطْعَ فِيهِ، وَكَتَخْصِيصِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ. فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعُشْرِ فِي قَلِيلِ مَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ وَكَثِيرِهِ ; فَخُصَّ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنْهُ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ; فَلَا زَكَاةَ فِيهَا.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامُّ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً، وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، فَإِنَّ الْخَاصَّ يَخُصُّهُ، لَا يُقَدَّمُ عَلَيْهِ " لِقُوَّةِ الْخَاصِّ "، أَيْ: لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَدْلُولِهِ ; فَإِنَّهَا قَاطِعَةٌ، وَدَلَالَةُ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ ظَاهِرَةٌ، وَالْقَاطِعُ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ.
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ: كُلَّمَا سَرَقَ السَّارِقُ ; فَاقْطَعُوهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْآيَةِ ; فَدَلَالَتُهُ عَلَى قَطْعِ مَنْ سَرَقَ دُونَ رُبُعِ دِينَارٍ ظَاهِرَةٌ، وَدَلَالَةُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ. عَلَى عَدَمِ الْقَطْعِ فِيمَا دُونَهُ قَاطِعَةٌ ; فَيُقَدَّمُ، " وَهُوَ "
(2/558)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْنِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَ عُمُومِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَقَدِّمَةٌ وَمُتَأَخِّرَةٌ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَيْهِ هُوَ " قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَدَّمُ الْمُتَأَخِّرُ "، مِنَ النَّصَّيْنِ " خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ "، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: بِالْآخَرِ فَالْآخَرِ، وَهُوَ عَامٌ فِي تَقْدِيمِ الْمُتَأَخِّرِ خَاصًّا كَانَ أَوْ عَامًّا ; لِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الشَّرْعِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِنْ كَانَ هُوَ الْخَاصَّ ; فَهُوَ الْمُقَدَّمُ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَامَّ ; فَهُوَ كَآحَادِ صُوَرٍ خَاصَّةٍ ; فَجَازَ أَنْ يُرْفَعَ الْخَاصُّ. وَتَحْقِيقُ هَذَا بِنَحْوِ مَا سَبَقَ فِي أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حَقِيقَةٌ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ كَأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَمَا لَوْ نُصَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِلَفْظٍ ; فَالْحُكْمُ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَصِحُّ أَنْ يَرْفَعَ الْحُكْمَ الْمُنَافِيَ لَهُ فِي مُسَمًّى خَاصٍّ ثَبَتَ قَبْلَهُ.
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، ثُمَّ قَالَ: لَا تُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا ; فَكَأَنَّهُ
(2/559)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ: لَا تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا وَلَا فُلَانًا وَلَا زَيْدًا ; فَكَانَ هَذَا النَّهْيُ عَنْ إِعْطَاءِ زَيْدٍ رَافِعًا لِلْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ بِإِعْطَائِهِ.
قَوْلُهُ: " وَلَنَا أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَمَلًا بِكِلَيْهِمَا، بِخِلَافِ الْعَكْسِ "، أَيْ: لَنَا عَلَى تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، أَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَمَلًا بِكِلَا الدَّلِيلَيْنِ: الْخَاصِّ وَالْعَامِّ فِيمَا عَدَا صُورَةِ التَّخْصِيصِ، وَفِي تَقْدِيمِ الْعَامِّ إِلْغَاءٌ لِلْعَمَلِ بِالْخَاصِّ، وَالنُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مَا أَمْكَنَ ; فَيَكُونُ الْعَمَلُ بِكِلَا النَّصَّيْنِ بِتَقْدِيمِ الْخَاصِّ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ الْخَاصِّ بِتَقْدِيمِ الْعَامِّ.
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا، ثُمَّ قَالَ: لَا تُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا، فَإِذَا عَمِلَ بِهَذَا الْعُمُومِ وَحْدَهُ، وَمَنَعَ زَيْدًا، كَانَ مُلْغِيًا لِلنَّصِّ الْخَاصِّ فِي إِعْطَاءِ زَيْدٍ، وَإِذَا أَعْطَى زَيْدًا، وَمَنَعَ مَنْ سِوَاهُ، كَانَ عَامِلًا بِالنَّصِّ الْخَاصِّ فِي إِعْطَاءِ زَيْدٍ، وَبِالْعَامِّ فِي مَنْعِ غَيْرِهِ ; فَيَكُونُ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ أَحَدِ النَّصَّيْنِ.
وَالْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْخَصْمُ، أَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ ; فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّسْخِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَشَرْطُ النَّسْخِ التَّعَارُضُ وَعَدَمُ إِمْكَانِ الْجَمْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهُوَ مُنْتَفٍ هَاهُنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمُ: الْعَامُّ كَآحَادِ صُوَرٍ خَاصَّةٍ ; فَجَازَ أَنْ يَرْفَعَ الْخَاصَّ.
قُلْنَا: الْجَوَازُ مُسَلَّمٌ، لَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، وَالْأَوْلَى فِي الشَّرْعِيَّاتِ مُتَعَيِّنٌ ; لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ، وَبَيَانُ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ; مَا سَبَقَ فِي دَلِيلِنَا.
(2/560)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ نَسْخٌ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ تَخْصِيصٌ. وَإِذَا تَعَارَضَ النَّسْخُ وَالتَّخْصِيصُ، كَانَ التَّخْصِيصُ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ بَيَانٌ وَتَقْرِيرٌ، وَالنَّسْخُ إِبْطَالٌ وَتَعْطِيلٌ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ دَوَامُ الْحُكْمِ وَاسْتِمْرَارُهُ، وَالْبَيَانُ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ فِي كَلَامِ الْحَكِيمِ إِذِ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ بَيِّنًا، لَكِنَّ الْبَيَانَ قَدْ يُقَارِنُ الْخِطَابَ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ مَثَارَ الْخِلَافِ أَنَّ الْعَامَّ هَلْ يُدَلُّ عَلَى أَفْرَادِهِ بِالنُّصُوصِيَّةِ أَوْ بِالظُّهُورِ؟ .
فَإِنْ قِيلَ: بِالنُّصُوصِيَّةِ ; فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَطِبْقِهِ مِنَ الْعَامِّ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْطُوعٌ بِإِرَادَةِ حُكْمِهِ فِيهِ ; فَيَرْفَعُ الثَّانِي الْأَوَّلَ.
وَإِنْ قُلْنَا: بِالظُّهُورِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ ; فَالْخَاصُّ قَاطِعٌ فِي الدَّلَالَةِ ; فَيُقَدَّمُ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: " فَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ ; فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا "، أَيْ: يُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ ; لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي جَهَالَةِ التَّارِيخِ أَنْ يُقَدَّرَ تَأَخُّرُ الْعَامِّ، وَنَحْنُ لَوْ تَحَقَّقْنَا تَأَخُّرَهُ، قَدَّمْنَا الْخَاصَّ عَلَيْهِ ; فَلَا فَرْقَ عَلَى قَوْلِنَا بَيْنَ تَقَدُّمِهِ وَتَأَخُّرِهِ، وَجَهَالَةِ التَّارِيخِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يَتَعَارَضَانِ، وَهُوَ قِيَاسُ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَالتَّعَارُضُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَمَا قَابَلَهُ مِنَ الْعَامِّ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُتَأَخِّرًا ; فَيَكُونُ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُتَقَدِّمًا ; فَيَكُونُ مَخْصُوصًا بِالْخَاصِّ وَلَا مُرَجِّحَ ; فَيَجِبُ الْوَقْفُ لِئَلَّا يَكُونَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا تَحَكُّمًا.
(2/561)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا بِمَنْعِ عَدَمِ الْمُرَجِّحِ، بَلِ الْمُرَجِّحُ مَوْجُودٌ، وَهُوَ مَا سَبَقَ مِنْ تَرْجِيحِ التَّخْصِيصِ عَلَى النَّسْخِ إِذَا تَعَارَضَا.
قَوْلُهُ: وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يُخَصُّ عُمُومُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ "، هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ قَبْلُ: " وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَامُّ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً "، أَيْ: فَإِنَّهُ يُخَصُّ بِالْخَاصِّ، كِتَابًا كَانَ الْخَاصُّ أَوْ سُنَّةً، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ. " وَخَرَّجَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَوْلًا "، أَيْ: رِوَايَةً " لَنَا " وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْكِتَابِ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] ; فَلَوْ خَصَّصَهَا الْكِتَابُ، لَبَيَّنَهَا ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ. وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ، إِذْ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَيِّنًا لِلْآخَرِ وَتَابِعًا لَهُ ; لِأَنَّ الْمُبَيِّنَ تَابِعٌ لِلْمُبِيَّنِ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّيْئَيْنِ تَابِعًا لِلْآخَرِ بَاطِلٌ.
قَوْلُهُ: " وَلَنَا أَنَّ مَا بَيَّنَتْهُ مِنْهُ لَا يُبَيِّنُهَا وَبِالْعَكْسِ "، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى صِحَّةِ تَخْصِيصِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّوْرَ وَالتَّنَاقُضَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ لَوْ بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ مَا بَيَّنَهُ الْآخَرُ مِنْهُ بِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الَّذِي تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ مِنَ الْكِتَابِ لَا يُبَيِّنُهُ الْكِتَابُ مِنَ السُّنَّةِ، وَمَا يُبَيِّنُهُ الْكِتَابُ مِنَ السُّنَّةِ لَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ مِنَ الْكِتَابِ ; فَلَا دَوْرَ وَلَا تَنَاقُضَ. وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ فِي النَّسْخِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَبْيِينَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ ; فَيَكُونُ ذَلِكَ
(2/562)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْنِ ; فَلَا تَنَاقُضَ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْ يُشْبِهُهُ.
قَوْلُهُ: " وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يُخَصُّ عُمُومُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِضَعْفِهِ "، أَيْ: لِضَعْفِ الْخَبَرِ عَنِ الْكِتَابِ.
وَقَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ: " يُخَصِّصُ الْمُخَصَّصَ دُونَ غَيْرِهِ "، أَيْ: خَبَرُ الْوَاحِدِ يَخُصُّ الْعَامَّ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا كَانَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِهِ، وَلَا يَخُصُّ الْعَامَّ غَيْرَ الْمَخْصُوصِ.
قُلْتُ: هَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ عِيسَى: إِنِ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَبْقَى مَجَازًا ; فَيَضْعُفُ ; فَيَقْوَى خَبَرُ الْوَاحِدِ عَلَى تَخْصِيصِهِ.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ قَوْلُ عِيسَى هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْتُ ; فَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّهَافُتِ ; لِأَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ لَا يَبْقَى حُجَّةً عِنْدَهُ عَلَى مَا سَبَقَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً، لَمْ يَكُنْ لِلْقَوْلِ بِتَخْصِيصِهِ فَائِدَةٌ، إِذْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بَيَانُ أَنَّ الصُّورَةَ الْمَخْصُوصَةَ لَا يَتَنَاوَلُهَا حُكْمُ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَبْقَ لَهُ حُكْمٌ أَوْ لَهُ حُكْمٌ مُجْمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ ; فَيَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ ; فَهَذَا وَجْهُ التَّهَافُتِ فِي قَوْلِهِ: الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ لَا يَبْقَى حُجَّةً مَعَ قَوْلِهِ: يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، يَعْنِي قَوْلَ عِيسَى بْنِ أَبَانَ، قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. " وَتَوَقَّفَ بَعْضُهُمْ "، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْوَاقِفِيَّةِ، فِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّ " الْكِتَابَ قَطْعِيُّ السَّنَدِ " لِتَوَاتُرِهِ، ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ ظَاهِرَةٌ ظَنِّيَّةٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ " قَطْعِيُّ
(2/563)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدَّلَالَةِ " لِخُصُوصِهِ وَنُصُوصِيَّتِهِ فِي مَدْلُولِهِ، ظَنِّيُّ الثُّبُوتِ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ ; لِأَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ كَمَا سَبَقَ ; فَيَتَعَادَلَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ رَاجِحًا مِنْ وَجْهٍ، مَرْجُوحًا مِنْ وَجْهٍ.
مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ} [الْبَقَرَةِ: 168] ، مَعَ نَهْيِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ ; فَيُقَدَّمُ الْخَبَرُ عِنْدَنَا عَلَى مَا يُقَابِلُهُ مِنَ الْآيَةِ وَيَتَعَادَلَانِ عِنْدَ الْوَاقِفِيَّةِ.
" لَنَا " عَلَى تَقْدِيمِ الْخَاصِّ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ " إِرَادَةَ الْخَاصِّ أَغْلَبُ مِنْ إِرَادَةِ عُمُومِ الْعَامِّ "، أَيْ: إِذَا وَرَدَ عَامٌّ وَخَاصٌّ ; فَالظَّاهِرُ الْغَالِبُ أَنَّ حُكْمَ الْخَاصِّ مُرَادٌ بِهِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَامِّ مَا عَدَا الْحُكْمَ الْخَاصَّ.
مِثَالُهُ: إِنَّ إِرَادَةَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُورَثُونَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ". أَظْهَرُ مِنْ إِرَادَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُوَرَثُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11] ، وَإِذَا كَانَتْ إِرَادَةُ الْخَاصِّ أَظْهَرَ وَأَغْلَبَ، قُدِّمَ لِذَلِكَ، أَيْ: لِظُهُورِهِ وَغَلَبَتِهِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِطَرِيقٍ آخَرَ.
(2/564)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ ذَهَبُوا إِلَى ذَلِكَ وَبَادَرُوا إِلَيْهِ بِفِقْهِهِمْ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ:
مِنْهَا: تَخْصِيصُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا "، وَالْآيَةُ بِلَفْظِهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِجَوَازِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا تَخْصِيصُ آيَةِ الْمِيرَاثِ، وَهِيَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النِّسَاءِ: 11] ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ ". وَالْآيَةُ بِلَفْظِهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِتَوَارُثِهِمَا وَالِدًا وَمَوْلُودًا، وَكَذَلِكَ خَصَّتْ فِي الْقَاتِلِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا إِرْثَ لِقَاتِلٍ ". وَفِي وَلَدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَقَارِبِهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ".
وَمِنْهَا: تَخْصِيصُ عُمُومِ الْوَصِيَّةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [الْبَقَرَةِ: 180] ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ". وَالْآيَةُ بِلَفْظِهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِلْوَصِيَّةِ لَهُ.
وَمِنْهَا تَخْصِيصُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
(2/565)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الْبَقَرَةِ: 230] ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ: " لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقُ عُسَيْلَتَكِ ".
وَإِذَا ثَبَتَ تَخْصِيصُ الصَّحَابَةِ عُمُومَ الْكِتَابِ بِخُصُوصِ السُّنَّةِ مُتَسَارِعِينَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ تَارِيخٍ، وَلَا سُؤَالٍ عَنِ الْعَامِّ: هَلْ خُصَّ أَمْ لَا، وَلَا تَوَقَّفَ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ، بَلْ وُجُوبِهِ ; لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْوَاجِبِ، وَذَرِيعَةُ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا الْوَاقِفِيَّةُ ; فَدَعْوَاهُمُ التَّعَادُلُ بَيْنَ عَامِّ الْكِتَابِ وَخَاصِّ السُّنَّةِ مَمْنُوعَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ اتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى التَّخْصِيصِ وَمُبَادَرَتِهِمْ إِلَيْهِ، " وَإِلَّا " أَيْ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا، " لَتَوَقَّفَ الصَّحَابَةُ " كَمَا تَوَقَّفْتُمْ.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُنَا: مِنْ غَيْرِ تَارِيخٍ يُعْرَضُ بِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ التَّارِيخَ إِذَا جُهِلَ، يُقَدَّمُ الْخَاصُّ عِنْدَنَا، وَيَتَعَارَضَانِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَيْ: فَلَوْ صَحَّ هَذَا، لَاسْتَفْصَلَ الصَّحَابَةُ فِي تَخْصِيصِهِمْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، وَاحْتَاجُوا لِذَلِكَ إِلَى طَلَبِ التَّارِيخِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ مَعَ كَثْرَةِ مَجَارِي اجْتِهَادَاتِهِمْ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ وَغَيْرِهِ ; فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ تَقَدُّمِ الْعَامِّ وَتَأَخُّرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ ". فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ ; لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ فِيمَا عَلِمْتُ أَنَّ النِّكَاحَ عَامٌّ فِي الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ حَتَّى يَكُونَ ذَوْقُ
(2/566)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعُسَيْلَةِ تَخْصِيصًا لِأَحَدِهِمَا بِالْإِرَادَةِ، بَلِ الصَّوَابُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ، تَرَدُّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْعَقْدَ أَوِ الْوَطْءَ ; فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ، وَالْأَقْوَالُ الْمَشْهُورَةُ فِي النِّكَاحِ: هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ أَوْ فِي الْعَقْدِ، أَوْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/567)
________________________________________
الْخَامِسُ: الْمَفْهُومُ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ كَالنَّصِّ: " كَتَخْصِيصِ: " «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» "، بِمَفْهُومِ: " «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» . . "
السَّادِسُ: فِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَتَخْصِيصِ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَةِ: 222] ، بِمُبَاشَرَتِهِ الْحَائِضَ دُونَ الْفَرْجِ مُتَّزِرَةً، وَيُمْكِنُ مَنْعُهُ حَمْلًا لِلْقُرْبَانِ عَلَى نَفْسِ الْوَطْءِ كِنَايَةً. وَخَصَّصَ قَوْمٌ عُمُومَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} بِتَرْكِهِ جَلْدَ مَاعِزٍ.
السَّابِعُ: تَقْرِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى خِلَافِ الْعُمُومِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَنْعِ لِأَنَّهُ كَصَرِيحِ إِذْنِهِ، إِذْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْرَارُ عَلَى الْخَطَأِ لِعِصْمَتِهِ.
الثَّامِنُ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ إِنْ جُعِلَ حُجَّةً كَالْقِيَاسِ، وَأَوْلَى.
التَّاسِعُ: قِيَاسُ النَّصِّ الْخَاصِّ يُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ نَصٍّ آخَرَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقْلَا وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ.
احْتَجَّ الْأَوَّلُ: حُكْمُ الْقِيَاسِ حُكْمُ أَصْلِهِ ; فَخَصَّ الْعَامَّ.
الثَّانِي: النَّصُّ أَصْلٌ فَلَا يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ الَّذِي هُوَ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْعَامَّ يُفِيدُ مِنَ الظَّنِّ أَكْثَرَ مِنَ الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ مُعَاذًا قَدَّمَ السُّنَّةَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَقِيلَ: يُخَصُّ بِجَلِيِّ الْقِيَاسِ دُونَ خَفِيِّهِ لِقُوَّتِهِ، وَهُوَ أَوْلَى، ثُمَّ الْجَلِيُّ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَقِيلَ: مَا يَظْهَرُ فِيهِ الْمَعْنَى نَحْوُ: " «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» . . "
وَالْخَفِيُّ: قِيَاسُ الشَّبَهِ، وَقَالَ عِيسَى: يُخَصُّ بِالْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ دُونَ غَيْرِهِ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا سَبَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الْخَامِسُ ": مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ: " الْمَفْهُومُ ; لِأَنَّهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ كَالنَّصِّ "، وَكَمَا أَنَّ النَّصَّ يُخَصِّصُ الْعُمُومَ كَذَلِكَ الْمَفْهُومُ، وَذَلِكَ " كَتَخْصِيصِ " قَوْلِهِ عَلَيْهِ
(2/568)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السَّلَامُ: " فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ "، بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ ". فَإِنَّ الْأَوَّلَ اقْتَضَى بِعُمُومِهِ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَرْبَعِينَ، سَائِمَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ سَائِمَةٍ، وَالثَّانِي خَصَّ بِمَفْهُومِهِ غَيْرَ السَّائِمَةِ ; فَلَا زَكَاةَ فِيهَا.
«السَّادِسُ» : مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «كَتَخْصِيصِ» قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَيْضِ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَةِ: 222] ، بِكَوْنِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُبَاشِرُ الْحَائِضَ دُونَ الْفَرْجِ مُتَّزِرَةً، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ، ثُمَّ يُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ. فَإِنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ عُمُومَ عَدَمِ الْقُرْبَانِ فِي الْفَرْجِ وَغَيْرِهِ، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَصَّ النَّهْيَ بِالْفَرْجِ، وَأَبَاحَ الْقُرْبَانَ لِمَا سِوَاهُ.
قَوْلُهُ: «وَيُمْكِنُ مَنْعُهُ حَمْلًا لِلْقُرْبَانِ عَلَى نَفْسِ الْوَطْءِ كِنَايَةً» ، أَيْ: يُمْكِنُ مَنْعُ كَوْنَ هَذَا الْفِعْلِ مُخَصِّصًا لِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ} ، عَلَى مَعْنَى: لَا تَطَئُوهُنَّ فِي الْفَرْجِ، وَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ بِالْقُرْبَانِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ لَا عُمُومَ فِي الْآيَةِ ; فَلَا تَخْصِيصَ بِالْفِعْلِ، بَلْ يَكُونُ بَيَانًا مُرْسَلًا لِلْكِنَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَدَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ إِرَادَةِ غَيْرِ الْوَطْءِ.
(2/569)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَخَصَّصَ قَوْمٌ عُمُومَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النُّورِ: 2] » ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا مِثَالٌ آخَرُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ لِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْفِعْلِ أَوْ مَا يُشْبِهُ الْفِعْلَ.
وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النُّورِ: 2] ، عَامٌّ فِي الثَّيِّبِ وَالْبِكْرِ، فَلَمَّا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاعِزًا، وَتَرَكَ جَلْدَهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَلْدَ مُخْتَصٌّ بِالْبِكْرِ دُونَ الثَّيِّبِ ; فَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لِلنَّصِّ الْعَامِّ بِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ بِمَعْنَى فِعْلِهِ وَهُوَ تَرْكُ الْجَلْدِ. وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، أَعْنِي أَنَّ الزَّانِيَ الثَّيِّبَ: هَلْ يُجْلَدُ مَعَ الرَّجْمِ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يُجْلَدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
«السَّابِعُ» : مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ: تَقْرِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى خِلَافِهِ، أَعْنِي: عَلَى خِلَافِ الْعُمُومِ «مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَنْعِ» ، مِنْ خِلَافِهِ ; لِأَنَّ إِقْرَارَهُ كَصَرِيحِ إِذْنِهِ، إِذْ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْرَارُ عَلَى الْخَطَأِ لِعِصْمَتِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَنَّهَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَإِقْرَارٌ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ، ثُمَّ إِذَا أَقَرَّ وَاحِدًا مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِ الْعُمُومِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي حَقٍّ وَاحِدٍ، ثَبَتَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ مَا لَمْ يُخَصَّ بِهِ ذَلِكَ الْوَاحِدُ.
(2/570)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثَالُ ذَلِكَ تَقْدِيرًا: لَوْ وَرَدَ النَّهْيُ عَامًّا عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ أَقَرَّ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى نَوْعٍ مِنْهَا، أَوْ مِقْدَارٍ يَسِيرٍ، أَوْ عَلَى شُرْبِ النَّبِيذِ، اسْتَدْلَلْنَا بِذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ مَا أَقَرَّ عَلَيْهِ، وَهَذَا ذَكَرْنَاهُ مِثَالًا تَقْدِيرِيًّا، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ شَيْءٌ.
- «الثَّامِنُ» : مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ «قَوْلُ الصَّحَابِيِّ» إِذَا جُعِلَ حُجَّةً يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ ; فَإِنَّهُ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ ; فَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ الْمُقَدَّمُ عَلَيْهِ أَوْلَى أَنْ يُخَصَّ بِهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «قَوْلُ الصَّحَابِيِّ إِنْ جُعِلَ حُجَّةً كَالْقِيَاسِ وَأَوْلَى» .
فَإِنْ قِيلَ: الصَّحَابِيُّ يُتْرُكُ مَذْهَبُهُ لِلْعُمُومِ، كَتَرْكِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَذْهَبَهُ لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي الْمُخَابَرَةِ ; فَغَيْرُ الصَّحَابِيِّ أَوْلَى بِتَرْكِ قَوْلِهِ لِلْعُمُومِ، وَإِذَا وَجَبَ تَرْكُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لِلْعُمُومِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الْعُمُومُ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِهِ يُنَافِي تَرْكَهُ.
وَأَجَابَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَتْرُكْ مَذْهَبَهُ لِلْعُمُومِ، بَلْ لِنَصٍّ عَارَضَهُ.
قُلْتُ: فَيَكُونُ الْعُمُومُ مُؤَكِّدًا لِذَلِكَ النَّصِّ ; فَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً ; فَلَا يُجِيزُ تَخْصِيصَ الْعَامِّ بِهِ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ، وَمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ.
- «التَّاسِعُ» : مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ «قِيَاسُ النَّصِّ الْخَاصِّ يُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ نَصٍّ آخَرَ» ; فَيُخَصُّ بِهِ «عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي» مِنْ أَصْحَابِنَا، «وَهُوَ قَوْلُ
(2/571)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، خِلَافًا لِأَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقْلَا وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ» ، حَيْثُ قَالُوا: لَا يُخَصُّ الْعُمُومُ بِقِيَاسِ النَّصِّ الْخَاصِّ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [الْبَقَرَةِ: 275] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي جَوَازِ كُلِّ بَيْعٍ، ثُمَّ وَرَدَ النَّصُّ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ، وَقِيَاسُهُ تَحْرِيمُ الرِّبَا فِي الْأُرْزِ ; فَهُوَ قِيَاسُ نَصٍّ خَاصٍّ يُخَصُّ بِهِ عُمُومُ إِحْلَالِ الْبَيْعِ. وَكَذَا تَحْرِيمُ النَّبِيذِ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ، هُوَ قِيَاسُ نَصٍّ خَاصٍّ ; فَيُخَصُّ بِهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الْأَنْعَامِ: 145] الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْقَائِلُ بِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِقِيَاسِ النَّصِّ الْخَاصِّ، بِأَنَّ «حُكْمَ الْقِيَاسِ حُكْمُ أَصْلِهِ» ، الَّذِي هُوَ النَّصُّ الْخَاصُّ، وَكَمَا أَنَّ النَّصَّ الْخَاصَّ يَخُصُّ الْعُمُومَ ; فَكَذَا قِيَاسُهُ الَّذِي حُكْمُهُ حُكْمُهُ ; فَكَمَا أَنَّ النَّصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ خَصَّ عُمُومَ الْبَيْعِ ; فَكَذَا قِيَاسُ الْبُرِّ فِي الْأُرْزِ، وَكَمَا أَنَّ النَّصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ خَصَّ عُمُومَ: {أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}
(2/572)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الْأَنْعَامِ: 145] ; فَكَذَا قِيَاسُ الْخَمْرِ عَلَى النَّبِيذِ يَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ لِأَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ كَأَصْلِهِ الَّذِي هُوَ النَّصُّ.
قَوْلُهُ: «الثَّانِي» ، أَيِ: احْتَجَّ الثَّانِي وَهُوَ الْقَائِلُ بِأَنَّ الْعَامَّ لَا يُخَصُّ بِقِيَاسِ النَّصِّ الْخَاصِّ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ النَّصَّ الَّذِي هُوَ الْعَامُّ أَصْلٌ، وَالْقِيَاسُ فَرْعٌ ; فَلَوْ خُصَّ الْعَامُّ بِهِ، لَقُدِّمَ الْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَامَّ يُفِيدُ مِنَ الظَّنِّ أَكْثَرَ مِمَّا يُفِيدُهُ الْقِيَاسُ مِنْهُ، لِمَا مَرَّ فِي تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْأَقَلِّ فَائِدَةً عَلَى الْأَكْثَرِ فَائِدَةً.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُعَاذًا فِي حَدِيثِهِ الْمَشْهُورِ قَدَّمَ السُّنَّةَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَهُوَ عَامٌّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَخَصَّ أَوْ أَعَمَّ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْعَامِّ عَلَى قِيَاسِ النَّصِّ الْخَاصِّ ; فَلَا يُخَصُّ بِهِ النَّصُّ الْعَامُّ.
قُلْتُ: وَيُجَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ:
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ ; فَبِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيمُ الْفَرْعِ عَلَى أَصْلِهِ، وَالْقِيَاسُ هَاهُنَا لَيْسَ فَرْعًا لِلْعَامِّ، بَلْ لِلنَّصِّ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ الْعَامِّ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَرْعُ الْأَصْلِ الْقَوِيِّ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ الضَّعِيفِ.
وَأَمَّا عَنِ الثَّانِي ; فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَامَّ يُفِيدُ مِنَ الظَّنِّ أَكْثَرَ مِمَّا يُفِيدُهُ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي النَّصِّ الْخَاصِّ مَعَ الْقِيَاسِ، كَحَدِيثِ نَقْضِ الْوُضُوءِ
(2/573)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِمَسِّ الذَّكَرِ، وَأَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ، وَالْكَلَامُ فِي تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ لَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْآنَ.
وَأَمَّا عَنِ الثَّالِثِ ; فَبِأَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ إِنْ ثَبَتَ ; فَاسْتِدْلَالُكُمْ بِعُمُومِهِ ; فَهُوَ إِثْبَاتٌ لِتَقْدِيمِ الْعَامِّ بِالْعَامِّ، وَهُوَ مُدْرَكٌ ضَعِيفٌ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ مُسَاوِيًا لِلسُّنَّةِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَخَصَّ، كَانَ الظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنْهُ أَغْلَبَ فَيُقَدَّمُ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْأَقْوَى مُتَعَيَّنٌ كَالْعُمُومَيْنِ أَوِ الْقِيَاسَيْنِ إِذَا تَقَابَلَا.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: يُخَصُّ» أَيْ: قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: «يُخَصُّ الْعَامُّ بِجَلِيِّ الْقِيَاسِ دُونَ خَفِيِّهِ» ، أَيْ: بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، لِقُوَّتِهِ دُونَ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ لِضَعْفِهِ، «وَهُوَ أَوْلَى» لِمَا سَبَقَ مِنْ تَقْدِيمِ أَقْوَى الظَّنَّيْنِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْجَلِيُّ قِيَاسُ الْعِلَّةِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ اخْتَلَفُوا فِي الْجَلِيِّ مَا هُوَ؟
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، وَالنَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ، وَنَحْوِهِ.
وَقِيلَ: «مَا يَظْهَرُ فِيهِ الْمَعْنَى، نَحْوُ» قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» ; لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَهُوَ اضْطِرَابُ الْخَاطِرِ،
(2/574)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَضَعْفُ إِدْرَاكِ الْحُكْمِ لِقُوَّةِ الْغَضَبِ ; فَيُلْحَقُ بِهِ مَا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ خَوْفٍ أَوْ أَلَمٍ وَنَحْوِهِ.
وَقِيلَ: مَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِخِلَافِهِ.
قُلْتُ: هَذَا دَوْرٌ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُنْقَضُ لِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَإِذَا عَرَّفْنَا الْجَلِيَّ بِمَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِخِلَافِهِ، لَزِمَ الدَّوْرُ، «وَالْخَفِيُّ قِيَاسُ الشَّبَهِ» وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
«وَقَالَ عِيسَى، - هُوَ ابْنُ أَبَانَ -: يُخَصُّ بِالْقِيَاسِ الْمَخْصُوصُ دُونَ غَيْرِهِ» ، أَيْ: إِنَّمَا يُخَصُّ بِالْقِيَاسِ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ دُونَ الْعَامِّ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ، «وَحُكِيَ - هَذَا - عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، كَمَا سَبَقَ» مِنْ قَوْلِهِ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَوَجْهُهُ: أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يُضَعَّفُ، وَلِهَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً أَوْ حَقِيقَةً. وَحِينَئِذٍ يَقْوَى الْقِيَاسُ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِخِلَافِ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ.
(2/575)
________________________________________
خَاتِمَةٌ: إِذَا تَعَارَضَ عُمُومَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَتْنًا، قُدِّمَ أَصَحُّهُمَا سَنَدًا، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِيهِ، قُدِّمَ مَا عَضَدَهُ دَلِيلٌ خَارِجٌ، فَإِنْ فُقِدَ ; فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، فَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ؛ تَوَقَّفَ عَلَى مُرَجِّحٍ. وَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ بِتَقْدِيمِ أَخَصِّهِمَا أَوْ حَمْلِهِ عَلَى تَأْوِيلٍ صَحِيحٍ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ، خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ نَحْوَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا ; فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» . مَعَ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ» ; فَالْأَوَّلُ: خَاصٌّ فِي الْفَائِتَةِ، عَامٌّ فِي الْوَقْتِ، وَالثَّانِي: عَكْسُهُ، وَنَحْوَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، مَعَ: «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» ، تَعَادُلًا وَطُلِبَ الْمُرَجِّحُ، وَيَجُوزُ تَعَارُضُ عُمُومَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ خِلَافًا لِقَوْمٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«خَاتِمَةٌ» ، أَيْ: لِبَيَانِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَهِيَ فِي تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ.
قَوْلُهُ: «إِذَا تَعَارَضَ عُمُومَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ عَامَّانِ ; فَإِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ، أَوْ يَتَعَارَضَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ مَا.
فَإِنْ تَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الْمَتْنِ «قُدِّمَ أَصَحُّهُمَا سَنَدًا» ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُرَجِّحٌ لَهُ ; «فَإِنِ اسْتَوَيَا فِيهِ» ، أَيْ: فِي السَّنَدِ، فَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ صِحَّةً مُتَسَاوِيَةً،
(2/576)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«قُدِّمَ مَا عَضَدَهُ دَلِيلٌ خَارِجٌ» ، مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ ; «فَإِنْ فُقِدَ» الدَّلِيلُ الْخَارِجُ، فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ ; «فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ، تَوَقَّفَ» ، التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا «عَلَى مُرَجِّحٍ» .
وَإِنْ لَمْ يَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الطُّرُقِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ مِنَ الْآخَرِ ; فَيُقَدَّمُ أَخَصُّهُمَا لِمَا سَبَقَ مِنْ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْأَخَصِّ، أَوْ بِأَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى تَأْوِيلٍ صَحِيحٍ يُجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، «فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ، خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ، تَعَادَلَا وَطُلِبَ الْمُرَجِّحُ» الْخَارِجِيُّ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» ، مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ» . «فَالْأَوَّلُ خَاصٌّ فِي الْفَائِتَةِ» الْمَكْتُوبَةِ، «عَامٌّ فِي الْوَقْتِ، وَالثَّانِي عَكْسُهُ» عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ، خَاصٌّ فِي الْوَقْتِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، مَعَ قَوْلِهِ: «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ» ; فَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، خَاصٌّ فِي سَبَبِ الْقَتْلِ، وَهُوَ
(2/577)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّبْدِيلُ، وَالثَّانِي خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ، عَامٌّ فِي النَّهْيِ عَنِ الْقَتْلِ ; فَيَتَعَادَلَانِ وَيُطْلَبُ الْمُرَجِّحُ.
قَوْلُهُ: «وَيَجُوزُ تَعَارُضُ عُمُومَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ خِلَافًا لِقَوْمٍ» . أَمَّا تَعَارُضُ عُمُومَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ ; فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ جَوَازِهِ وَحُكْمِهِ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ
(2/578)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُرَجِّحُ ; فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ حِكْمَةً، وَهُوَ امْتِحَانُ الْمُجْتَهِدِ بِطَلَبِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ ; فَيُثَابُ بِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ. وَمَنَعَ جَوَازَهُ قَوْمٌ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى وُقُوعِ الشُّبَهِ، وَهُوَ مُنَفِّرٌ لِلنَّاسِ عَنِ الطَّاعَةِ. وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ النَّسْخَ قَدْ نَفَرَ مِنْهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/579)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الِاسْتِثْنَاءُ
الِاسْتِثْنَاءُ: إِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِـ «إِلَّا» أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهَا، وَهُوَ «غَيْرُ» ، وَ «سِوَى» ، وَ «عَدَا» ، وَ «لَيْسَ» ، وَ «لَا يَكُونُ» وَ «حَاشَا» ، وَ «خَلَا» ، وَقِيلَ: قَوْلٌ مُتَّصِلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ مَعَهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِخْرَاجِ تَنَاقُضٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ يَجِبُ اتِّصَالُهُ، وَيَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ بِغَيْرِهِ فِيهِمَا. وَيُفَارِقُ النَّسْخَ فِي الِاتِّصَالِ، وَفِي رَفْعِ حُكْمِ بَعْضِ النَّصِّ، وَفِي مَنْعِ دُخُولِ الْمُسْتَثْنَى عَلَى تَعْرِيفِهِ الثَّانِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الِاسْتِثْنَاءُ» ، أَيْ: هَذَا بَيَانُ حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ ; لِأَنَّهَا إِمَّا مُنْفَصِلٌ، وَهُوَ الْمُخَصَّصَاتُ التِّسْعَةُ السَّابِقَةُ، أَوْ مُتَّصِلٌ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ وَالْغَايَةُ وَالصِّفَةُ. فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا، أَوْ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا ; فَقَدْ تَخَصَّصَ الْعَشَرَةُ بِالدِّرْهَمِ، وَالْقَوْمُ بِزَيْدٍ. وَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ قُمْتِ ; فَقَدْ خَصَّ عُمُومَ الْأَحْوَالِ بِحَالَةِ الْقِيَامِ، وَإِذَا قَالَ: أَوْصَيْتُ لِلْقُرَّاءِ الْفُقَهَاءِ، أَوْ لِلشُّرَفَاءِ الْعُلَمَاءِ ; فَقَدْ خَصَّتْ صِفَةُ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ بَعْضَ الْقُرَّاءِ وَالشُّرَفَاءِ. وَإِذَا قَالَ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَةِ: 222] ، تَخَصَّصَ زَمَنُ الْمَنْعِ بِمَا عَدَا زَمَنَ الطُّهْرِ.
- قَوْلُهُ: «الِاسْتِثْنَاءُ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِـ» إِلَّا «أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهَا» .
اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ: اسْتِفْعَالٌ إِمَّا مِنَ التَّثْنِيَةِ ; لِأَنَّ
(2/580)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُسْتَثْنَى فِي كَلَامِهِ يُثَنِّي الْجُمْلَةَ، أَيْ: يَأْتِي بِجُمْلَةٍ ثَانِيَةٍ فِي كَلَامِهِ، نَحْوَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا ; فُهِمَ مِنْهُ قِيَامُ الْقَوْمِ، وَعَدَمُ قِيَامِ زِيدٍ ; فَهِيَ جُمْلَتَانِ، أَوْ مِنْ: ثَنَى الْفَارِسُ عِنَانَ فَرَسِهِ، إِذَا عَطَفَهُ ; لِأَنَّ الْمُسْتَثْنِي يَعْطِفُ عَلَى الْجُمْلَةِ ; فَيُخْرِجُ بَعْضَهَا عَنِ الْحُكْمِ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ; فَقِيلَ: هُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ بِـ إِلَّا أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهَا ; فَإِخْرَاجُهُ بِـ إِلَّا، نَحْوَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَإِخْرَاجُهُ بِمَا قَامَ مَقَامَهَا، وَهُوَ غَيْرُ وَسِوَى، إِلَى آخِرِهِ نَحْوَ: قَامَ الْقَوْمُ غَيْرَ زَيْدٍ وَسِوَى عَمْرٍو، وَلَيْسَ زَيْدًا، وَلَا يَكُونُ عَمْرًا، وَحَاشَى بِشْرًا، وَخَلَا بَكْرًا.
وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ قَوْلٌ مُتَّصِلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ مَعَهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ لَفْظٌ مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةٍ، لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، دَالٌّ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ بِحَرْفِ إِلَّا أَوْ بِأَحَدِ أَخَوَاتِهَا، وَهُوَ فِي مَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ وَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا.
- قَوْلُهُ: «وَهَذَا» ، أَيِ: التَّعْرِيفُ بِقَوْلِهِ: «قَوْلٌ مُتَّصِلٌ» ، إِلَى آخِرِهِ هُوَ «قَوْلُ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ التَّعْرِيفَ» يَعْنِي تَعْرِيفَ الِاسْتِثْنَاءِ «بِالْإِخْرَاجِ» ، أَيْ: بِقَوْلِنَا: هُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ، «تَنَاقُضٌ» لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا: تَعْرِيفُ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِخْرَاجِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ دَخَلَ فِي الْجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا، ثُمَّ
(2/581)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أُخْرِجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ ; فَيَكُونُ تَنَاقُضًا ; لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: قَامَ الْقَوْمُ، اقْتَضَى قِيَامَ زِيدٍ فِيهِمْ، فَإِذَا قَالَ: إِلَّا زَيْدًا، اقْتَضَى أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِيهِمْ ; فَصَارَ التَّقْدِيرُ: قَامَ زَيْدٌ، لَمْ يَقُمْ زَيْدٌ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ، وَعَلَى هَذَا بَنَى أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَقَعَتِ الثَلَاثُ، فَإِذَا قَالَ: إِلَّا وَاحِدَةً، لَمْ يَنْفَعْهُ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ إِذَا وَقَعَ، لَا يَرْتَفِعُ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ الْمَذْكُورُ فِي الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ.
- قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ بِشَيْءٍ» ، أَيْ: هَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا تَنَاقُضَ فِي تَعْرِيفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْإِخْرَاجِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَرَّفُوهُ بِالْإِخْرَاجِ، قَالَ ابْنُ جِنِّي، وَحَسْبُكَ بِهِ مُقَدَّمًا فِي هَذَا الشَّأْنِ: الِاسْتِثْنَاءُ: أَنْ تُخْرِجَ شَيْئًا أَدْخَلْتَ فِيهِ غَيْرَهُ، أَوْ تُدْخِلَهُ فِيمَا أَخْرَجْتَ مِنْهُ غَيْرَهُ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى مَا قَالُوهُ، وَاعْتِقَادُ أَنْ لَا تَنَاقُضَ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَهِيَ وَأَهْلُهَا بَرِيئُونَ مِنَ التَّنَاقُضِ فِيهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا إِذَا قُلْنَا: قَامَ الْقَوْمُ ; فَقَدْ أَسْنَدَنَا الْقِيَامَ إِلَى جَمِيعِهِمْ لِعُمُومِ اللَّفْظِ فِيهِمْ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ زَيْدًا وَغَيْرَهُ، وَلَا مَعْنَى لِدُخُولِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، إِلَّا أَنَّ الْقِيَامَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ كَغَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْنَا بَعْدَ ذَلِكَ: إِلَّا زَيْدًا ; فَقَدْ أَخْرَجْنَاهُ مِنْهُمْ بَعْدَ دُخُولِهِ فِيهِمْ، نَعَمْ، دُخُولُهُ فِيهِمْ دُخُولٌ لَفْظِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ: قَامَ الْقَوْمُ، مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّ زَيْدًا لَمْ يَقُمْ مَعَهُمْ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ
(2/582)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ ; فَاسْتَثْنَاهُ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ دُخُولُ الْمُسْتَثْنَى وَإِخْرَاجُهُ لَفْظِيًّا: لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَنَاقُضٌ.
وَلِمَا تَخَيَّلَهُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ تَعْرِيفَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْإِخْرَاجِ تَنَاقُضٌ، ذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَدْخُلُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ دُخُولًا مُرَاعًى مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنْ وَرَدَ الْمُسْتَثْنَى، لَمْ يَسْتَقِرَّ دُخُولُهُ، وَإِلَّا اسْتَقَرَّ.
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ; فَالطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ، وَالدِّرْهَمُ الْعَاشِرُ دَاخِلَانِ فِي النِّسْبَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَسْتَثْنِيَهُمَا الْمُتَكَلِّمُ ; فَيَسْتَقِرُّ دُخُولُهُمَا، فَإِنِ اسْتَثْنَاهُمَا، لَمْ يَسْتَقِرَّ دُخُولُهُمَا. وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا، ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى شَيْئًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.
وَهَذَا التَّقْرِيرُ لَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ دُخُولَ الْمُسْتَثْنَى وَخُرُوجَهُ لَفْظِيَّانِ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ، يُشْكَلُ عَلَيْهِ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ، وَقَدْ قَالَ بِهِ، مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُؤَاخَذٌ بِمُوجَبِ إِقْرَارِهِ، كَمَا أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِمُوجَبِ إِيقَاعِهِ الطَّلَاقَ، فَلَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْمُسْتَثْنَى لَفْظِيٌّ كَمَا قُلْنَا، لَا مَعْنَوِيٌّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ رَفْعِ الْوَاقِعِ، بَلْ مِنْ بَابِ مَنْعِ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْنَى، أَوْ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ الْمَحْضِ، وَبَيَانِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مُرَادٍ. وَحِينَئِذٍ تَتَقَارَبُ الْأَقْوَالُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، بَلْ تَتَّفِقُ، وَيَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/583)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَالِاسْتِثْنَاءُ يَجِبُ اتِّصَالُهُ، وَيَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ، بِغَيْرِهِ فِيهِمَا» .
هَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَجِبُ اتِّصَالُهُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ ; فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَرَاخَى، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ مُدَّةٍ: اقْبَلُوا الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا تَقْتُلُوهُمْ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ مُدَّةٍ: إِلَّا أَهْلَ الْكِتَابِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ اسْتِقْلَالِ صِيغَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِنَفْسِهَا لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: لَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ; فَإِنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْغَايَةِ وَالصِّفَةِ وَالشَّرْطِ يَجِبُ اتِّصَالُهُ لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ هَذِهِ الْمُخَصَّصَاتِ بِأَنْفُسِهَا. وَإِنَّ قَوْلَنَا: «بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ بِغَيْرِهِ» ، لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ: بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ بِالْمُنْفَصِلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً، وَلَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا
(2/584)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثَلَاثَةً، «وَلِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا» ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ بِغَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ ; فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي النَّصِّ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي الْعَامِّ، وَدَلَالَتُهُ ظَنِّيَّةٌ كَمَا سَبَقَ، فَإِذَا قَالَ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُكْرِمْ زَيْدًا، كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا ; لِأَنَّ دُخُولَ زَيْدٍ فِي الرِّجَالِ بِالنَّظَرِ إِلَى إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَظْنُونٌ لَا مَقْطُوعٌ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى أَسْمَاءِ الرِّجَالِ ; فَقَالَ: أَكْرِمْ عَمْرًا وَبَكْرًا وَبِشْرًا وَخَالِدًا وَجَعْفَرًا وَزَيْدًا، حَتَّى أَتَى عَلَى أَسْمَائِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: لَا تُكْرِمْ زَيْدًا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَخْصِيصًا بَلْ نَسْخًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ يُبَيِّنُ أَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ الْخَاصِّ لَيْسَ مُرَادًا مِنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ الَّذِي هُوَ مُحْتَمِلٌ لِإِرَادَتِهِ وَعَدَمِهَا وَذَلِكَ صَحِيحٌ مُفِيدٌ. أَمَّا إِذَا نَصَّ عَلَى إِرَادَةِ مَدْلُولِ لَفْظٍ كَزَيْدٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الرِّجَالِ، لَمْ يَصِحَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لَهُ لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّنَاقُضِ، بَلْ يَكُونُ نَسْخًا ; لِأَنَّ التَّنَاقُضَ مِنْ لَوَازِمِهِ.
قَوْلُهُ: «وَيُفَارِقُ النَّسْخَ فِي الِاتِّصَالِ، وَفِي رَفْعِ حُكْمِ بَعْضِ النَّصِّ، وَفِي مَنْعِ دُخُولِ الْمُسْتَثْنَى عَلَى تَعْرِيفِهِ الثَّانِي» .
هَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالنَّسْخِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الِاتِّصَالُ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالنَّسْخُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ، بَلْ يُشْتَرَطُ تَرَاخِيهِ كَمَا مَرَّ. وَسَبَبُ الْفَرْقِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ النَّاسِخِ مَعَ الْمَنْسُوخِ ; فَإِنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، وَيُنَافِي الْمَنْسُوخُ ; فَاتِّصَالُهُ بِهِ يَكُونُ تَهَافُتًا.
(2/585)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَرْفَعُ حُكْمَ بَعْضِ النَّصِّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا، وَالنَّسْخُ يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ عَلَى جَمِيعِ حُكْمِ النَّصِّ فَيَرْفَعُهُ ; فَيَصِحُّ أَنْ يُوجِبَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، ثُمَّ يَنْسَخُهَا بِأَنْ يَقُولَ: لَا تُصَلُّوهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: صَلُّوا أَرْبَعًا إِلَّا أَرْبَعًا أَوْ إِلَّا ثَلَاثًا كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَاهُنَا تَحْقِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُنَا: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْفَعُ حُكْمَ بَعْضِ النَّصِّ تَجَوُّزٌ بِاعْتِبَارِ دُخُولِ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَفْظًا، وَإِلَّا فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي التَّحْقِيقِ بَيَانٌ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْمُخَصِّصَاتِ.
الثَّانِي: قَوْلِي: وَالنَّسْخُ يَجُوزُ أَنْ يَرْفَعَ حُكْمَ جَمِيعِ النَّصِّ، أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: إِنَّ النَّسْخَ يَرْفَعُ جَمِيعَ حُكْمِ النَّصِّ ; لِأَنَّ النَّسْخَ قَدْ يَرْفَعُ جَمِيعَ حُكْمِ النَّصِّ، وَقَدْ يَرْفَعُ بَعْضَهُ، كَمَا نُسِخَ خَمْسُ رَضَعَاتٍ مِنْ عَشْرِ، وَكَمَا إِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ يَبْقَى الْجَوَازُ، وَهُوَ بَعْضُ حُكْمِ النَّصِّ.
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا إِشْكَالٌ خَطَرَ لِي عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ لِي الْجَوَابُ عَنْهُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا جَازَ وُرُودِ النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ عَلَى بَعْضِ حُكْمِ النَّصِّ اشْتَبَهَا ; فَبِمَاذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ فَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ، وَالتَّخْصِيصَ بَيَانٌ.
قُلْنَا: صُورَتُهُمَا هَاهُنَا مُشْتَبِهَةٌ ; فَلَا يُعْرَفُ أَيُّهُمَا الرَّفْعُ مِنَ الْبَيَانِ.
فَإِنْ قِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ النَّسْخَ يَكُونُ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالنَّصِّ، وَالتَّخْصِيصَ
(2/586)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَبْلَهُ. فَإِذَا قِيلَ لَنَا: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ قِيلَ لَنَا: لَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ قِتَالِنَا لِلْمُشْرِكِينَ، كَانَ تَخْصِيصًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، كَانَ نَسْخًا لِبَعْضِ الْحُكْمِ.
قُلْنَا: فَالنَّسْخُ قَدْ بَيَّنَّا جَوَازَهُ قَبْلَ الِامْتِثَالِ، وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ يَعُودُ الْإِشْكَالُ ; فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ لَنَا: صُومُوا شَهْرَ الْمُحَرَّمِ، ثُمَّ قَالَ لَنَا قَبْلَ دُخُولِ الْمُحَرَّمِ: لَا تَصُومُوا مِنْهُ غَيْرَ عِشْرِينَ يَوْمًا، لَمْ نَعْلَمْ هَذَا تَخْصِيصًا، أَوْ نَسْخًا لِلْبَعْضِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَانِعٌ، وَالنَّسْخَ رَافِعٌ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمُسْتَثْنَى تَحْتَ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى تَعْرِيفِهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَفْظٌ مُتَّصِلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَالنَّسْخُ يَرْفَعُ مَا دَخَلَ تَحْتَ لَفْظِ الْمَنْسُوخِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النِّزَاعَ فِي تَعْرِيفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْإِخْرَاجِ وَغَيْرِهِ لَفْظِيٌّ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالنَّسْخِ مُطْلَقًا عَلَى كِلَا التَّعْرِيفَيْنِ لِلِاسْتِثْنَاءِ ; فَلَا يَظْهَرُ لِقَوْلِهِ عَلَى تَعْرِيفِهِ الثَّانِي كَبِيرُ فَائِدَةٍ.
تَنْبِيهٌ: يَشْتَمِلُ عَلَى مَا هُوَ كَالتَّكْمِلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَذَلِكَ أَنَّ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ جَامِعًا وَفَارِقًا:
أَمَّا الْجَامِعُ ; فَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِبَعْضِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ كَمَا سَبَقَ.
وَالْفَارِقُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَّنَ أَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ الْخَاصِّ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا مِنْ
(2/587)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَفْظِ الْعَامِّ الدَّالِّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَنْسُوخِ، فَإِنَّ مَدْلُولَهُ كَانَ مُرَادًا بِالْحُكْمِ، ثُمَّ رُفِعَ بِالنَّسْخِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ وَاحِدٍ، نَحْوَ: أَكْرِمْ زَيْدًا، إِذْ لَيْسَ بِعَامٍّ، وَالنَّسْخُ يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَجُوزُ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنَ الْعَامِّ شَيْءٌ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى وَاحِدٌ أَوْ جَمْعٌ كَمَا سَبَقَ، وَالنَّسْخُ يَجُوزُ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ مَدْلُولِ النَّصِّ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ خِطَابِ الشَّرْعِ، كَالْإِجْمَاعِ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ كَمَا سَبَقَ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخِطَابِ الشَّرْعِ، أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّ دَلِيلَ التَّخْصِيصِ قَدْ يَكُونُ مُتَقَدِّمَ الْوُجُودِ عَلَى مَا يُخَصِّصُهُ، بِخِلَافِ دَلِيلِ النَّسْخِ ; فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ تَأْخِيرُهُ.
وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى، وَيَجُوزُ نَسْخُهَا بِهَا، كَمَا ثَبَتَ مِنْ تَنَاسُخِ الشَّرَائِعِ.
وَسَابِعُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ ; لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ، وَالنَّسْخَ رَفْعٌ، وَرَفْعُ الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ الْبَيَانَ، وَالْبَيَانُ لَا يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ الْحُكْمِ.
وَثَامِنُهَا: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ إِلَّا قَبْلَ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْعَمَلِ لَا يَجُوزُ، وَالنَّسْخُ يَجُوزُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ.
(2/588)
________________________________________
وَيُشْتَرَطُ لِلِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ الْمُعْتَادُ كَسَائِرِ التَّوَابِعِ، خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَجَازَهُ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ ;، وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ. وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
لَنَا: الِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا إِخْرَاجُ مَا تَنَاوَلَهُ، أَوْ مَا يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأَحَدُ الْجِنْسَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْآخَرَ.
قَالُوا: وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ كَثِيرًا.
قُلْنَا: يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ ; لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ قَاطِعٌ، وَجَوَازُ اسْتِثْنَاءِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْآخَرِ عِنْدَ بَعْضِهِمِ اسْتِحْسَانٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا إِجْمَاعًا. وَفِي الْأَكْثَرِ وَالنِّصْفِ خِلَافٌ. وَاقْتَصَرَ قَوْمٌ عَلَى الْأَقَلِّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَيُشْتَرَطُ لِلِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ الْمُعْتَادُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ شُرُوطٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا.
وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ.
وَثَالِثُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا.
وَقَدْ ذَكَرْتُ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ، أَمَّا الِاتِّصَالُ ; فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَتَّصِلَ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ اتِّصَالًا عَادِيًا، بِحَيْثُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، وَلَا بِسُكُوتٍ يُمْكِنُ
(2/589)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّكَلُّمُ فِيهِ، «كَسَائِرِ التَّوَابِعِ» اللَّفْظِيَّةِ مِنْ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ أَوْ جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْحَالِ، وَالتَّمْيِيزِ ; فَكَمَا لَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بِالزَّمَانِ، نَحْوُ: زَيْدٌ قَائِمٌ، وَلَا بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِنْ تَقُمْ، ثُمَّ بَعْدَ زَمَانٍ يَقُولُ: أَقُمْ، وَلَا بَيْنَ الْحَالِ وَصَاحِبِهَا، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: جَاءَ زَيْدٌ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَقُولُ: رَاكِبًا، وَلَا بَيْنَ الْمُمَيِّزِ وَالْمُمَيَّزِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عِنْدِي عِشْرُونَ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ مُدَّةٍ: دِرْهَمًا أَوْ ثَوْبًا.
كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ مُدَّةٍ: إِلَّا وَاحِدَةً، أَوْ يَقُولُ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ سَاعَةٍ: إِلَّا دِرْهَمًا. «خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ» ، إِذْ حُكِيَ عَنْهُ جَوَازُ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْفَصِلًا، وَأَجَازَهُ «عَطَاءٌ» بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، «وَالْحَسَنُ» الْبَصْرِيُّ، مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ الْكَلَامِ، «وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ» ، أَيْ: إِلَى انْفِصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ، «أَحْمَدُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ» ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا حَلَفَ بِيَمِينٍ ; فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْيَمِينِ وَالِاسْتِثْنَاءِ كَلَامٌ ; فَإِنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ الْمُبْطِلَ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْكَلَامَ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَهُمَا ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَخَلُّلَ السُّكُوتِ لَا يُؤَثِّرُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ اشْتِرَاطُ الِاتِّصَالِ.
وَقَدْ نَصَّ الْخِرَقِيُّ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ عَلَى أَنَّ تَخَلُّلَ السُّكُوتِ مُبْطِلٌ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا كَانَ يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ
(2/590)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: زُيُوفًا أَوْ صِغَارًا ; أَوْ إِلَى شَهْرٍ، كَانَتْ عَشَرَةٌ جِيَادًا وَافِيَةً حَالَّةً.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَابِعٌ ; فَاشْتَرَطَ اتِّصَالُهُ كَسَائِرِ التَّوَابِعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ انْفِصَالُهُ، لَمَا انْعَقَدَ لِإِمَامٍ بَيْعَةٌ، وَلَا اسْتَقَرَّ لِأَحَدٍ طَلَاقٌ، وَلَا عِتْقٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُودِ، لِجَوَازِ أَنْ يُبَايِعَ الشَّخْصُ، أَوْ يُطَلِّقَ، أَوْ يَعْتِقَ، ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ يَسْتَثْنِي بِذِكْرِ شَرْطٍ ; فَيَزُولُ عَنْهُ لُزُومُ الْعَقْدِ، كَمَا حُكِيَ أَنَّ وَزِيرًا لِلْمَنْصُورِ كَانَ يُبْغِضُ أَبَا حَنِيفَةَ ; فَأَرَادَ أَنْ يُغْرِيَ بِهِ الْمَنْصُورَ ; فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُخَالِفُ جَدَّكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ لَا يَصِحُّ ; فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يُرِيدُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْكَ دَوْلَتَكَ، قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ ، قَالَ: لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْفَصِلَ لَوْ صَحَّ، لَجَازَ لِكُلِّ مَنْ بَايَعَكَ عَامَ أَوَّلٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْآنَ أَوْ بَعْدَ مُدَّةٍ اسْتِثْنَاءً تَنْحَلُّ بِهِ الْبَيْعَةُ مِنْ عُنُقِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَلَيْكَ ; فَضَحِكَ الْمَنْصُورُ، وَقَالَ لَهُ: الْزَمْ مَقَالَتَكَ.
وَمِنَ الْحِكَايَاتِ الْمُضْحِكَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْكُوفَةَ ; فَرَأَى فِيهَا نَخْلًا كَثِيرًا ; فَقَالَ: الطَّلَاقُ لَازِمٌ لِي إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا نَخْلٌ أَكْثَرُ مِنَ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْبَصْرَةَ رَأَى نَخْلًا أَكْثَرَ مِنَ الْكُوفَةِ ; فَقَالَ: إِلَّا الْبَصْرَةَ. وَلَوْ كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحًا، لَمَا اتَّخَذَ النَّاسُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ وَأَشْبَاهَهَا مِنَ الْمُضْحِكَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ النَّاسِ عُرْفًا وَالْفَهْمُ طَبْعًا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
- قَوْلُهُ: «وَأَنْ لَا يَكُونَ» ، أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِلِاسْتِثْنَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ «مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ»
(2/591)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَيْثُ صَحَّحُوا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَبَعْضِ النُّحَاةِ، وَاخْتَارَ هُوَ الْوَقْفَ عَلَى عَادَتِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
قُلْتُ: الْقَائِلُ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، إِنْ أَرَادَ صِحَّتَهُ مَجَازًا ; فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ صِحَّتَهُ حَقِيقَةً فَمَمْنُوعٌ، وَالْحَقُّ خِلَافَهُ.
«لَنَا» عَلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ أَنَّ «الِاسْتِثْنَاءَ إِمَّا إِخْرَاجُ مَا تَنَاوَلَهُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ إِخْرَاجُ مَا يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْمُسْتَثْنَى، وَأَحَدُ الْجِنْسَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْآخَرَ» فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ إِنْ عَرَّفْنَا الِاسْتِثْنَاءَ بِأَنَّهُ قَوْلٌ مُتَّصِلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ غَيْرِ الْجِنْسِ أَيْضًا ; لِأَنَّ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا مِنْ لَفْظِ الْآخَرِ حَتَّى يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ إِرَادَتِهِ مِنْهُ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْقَوْمِ لَا يَتَنَاوَلِ الْحِمَارَ، وَلَا يَصِحُّ تَنَاوُلُهُ إِيَّاهُ، وَلَا إِرَادَتُهُ مِنْهُ حَتَّى يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا حِمَارًا، أَمَّا جَوَازُهُ مَجَازًا ; فَلَا نِزَاعَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» أَيِ: الْمُجَوِّزُونَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ احْتَجُّوا عَلَى جَوَازِهِ بِأَنَّهُ قَدْ «وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ كَثِيرًا» ، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَبَيَانُ الْوُقُوعِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مَرْيَمَ: 62] ، وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 29] ، وَالتِّجَارَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ ; لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْأَعْيَانُ، وَالتِّجَارَةُ التَّصَرُّفُ فِي تِلْكَ الْأَعْيَانِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} .)
(2/592)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[اللَّيْلِ: 19، 20] ، وَابْتِغَاءُ وَجْهِ رَبِّهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النِّعْمَةِ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إِلَّا أَوَارِيُّ [لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ]
وَالْأَوَارِيُّ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى الطَّوَائِلَ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَحَدٍ.
(2/593)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ الْآخَرُ:
يَا لَيْتَنِي وَأَنْتِ يَا لَمِيسُ ... فِي بَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ
إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
(2/594)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْيَعَافِيرُ وَالْعِيسُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِ الْأَنِيسِ ; فَبَانَ بِذَلِكَ كُلِّهِ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، لِوُقُوعِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَاللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: قُلْنَا فِي جَوَابِ هَذَا أَنَّهُ «يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ» ، وَلَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ «لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ» مِنْ دَلِيلِ الِامْتِنَاعِ قَاطِعٌ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مُحْتَمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ احْتِمَالِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْقَاطِعُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُحْتَمَلِ، عَلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ أَوْ أَكْثَرَهُ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ.
أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى ; فَلِأَنَّ اللَّغْوَ وَالسَّلَامَ يَجْمَعُهُمَا جِنْسُ الْكَلَامِ ; فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا مِنَ الْجِنْسِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ ; فَتَقْدِيرُهَا: إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمْوَالًا ذَاتَ تِجَارَةٍ. وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي تِجَارَةٍ ; فَهُوَ اسْتِثْنَاءُ مَالٍ مِنْ مَالٍ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ.
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ ; فَابْتِغَاءُ وَجْهِ رَبِّهِ مُسْتَثْنًى مِنْ جِنْسِ الْغَرَضِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ ; فَتَقْدِيرُهَا: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَلَا غَرَضَ لَهُ فِي إِنْفَاقِ مَالِهِ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ غَرَضٌ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ ; فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ.
وَأَمَّا الْيَعَافِيرُ وَالْعِيسُ ; فَيَحْصُلُ بِهَا الْأُنْسُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَنِيسِ إِنْ
(2/595)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أُرِيدَ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَنِيسِ مَا حَصَلَ بِهِ أُنْسٌ ; فَهُوَ جِنْسٌ عَامٌّ دَخَلَ فِيهِ الْيَعَافِيرُ وَالْعِيسُ وَغَيْرُهُمَا، وَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا الْأَوَارِيُّ فَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هِيَ الْأَوَاخِي مِنْ وَتِدٍ أَوْ حَبْلٍ يُدَقُّ فِي الْأَرْضِ وَتُشَدُّ إِلَيْهِ الدَّابَّةُ.
قُلْتُ: فَإِذَنْ هِيَ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ مَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ، وَهِيَ الدَّوَابُّ ; فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَنِيسِ مَجَازًا.
وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ يُسَمُّونَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ مُنْقَطِعًا، وَيُقَدِّرُونَ إِلَّا فِيهِ بِمَعْنَى لَكِنَّ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ ; لِأَنَّ لَكِنَّ مَوْضُوعَةٌ لَهُ يَسْتَدْرِكُ بِهَا الْمُتَكَلِّمُ خَلَلًا وَقَعَ فِي كَلَامِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ إِلَّا يُسْتَدْرَكُ بِهَا نَحْوُ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَجَوَازُ اسْتِثْنَاءِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْآخَرِ عِنْدَ بَعْضِهِمِ اسْتِحْسَانٌ» .
هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَتَقْدِيرُهُ: كَيْفَ تَمْنَعُونَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَتُجِيزُونَ اسْتِثْنَاءَ الذَّهَبِ مِنَ الْوَرِقِ، وَالْوَرِقِ مِنَ الذَّهَبِ، وَهُمَا جِنْسَانِ؟ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْخِرَقِيِّ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ فِي صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْآخَرِ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ قَوْلَانِ لِأَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنْ مَنَعْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، لَمْ يُرَدَّ عَلَيْنَا، وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ ; فَهُوَ اسْتِحْسَانٌ مُسْتَثْنًى عَنِ الدَّلِيلِ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ هُمَا أَثْمَانُ الْمَبِيعَاتِ، وَقِيَمُ
(2/596)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُتْلَفَاتِ، وَأُرُوشُ الْجِنَايَاتِ، وَمَقَاصِدُهُمَا وَاحِدَةٌ ; فَيُنَزَّلَا لِذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا نَصُّ الْخِرَقِيِّ عَلَى ذَلِكَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ; فَهَذَا وَجْهُهُ، وَقَدْ صَدَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ وَاسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ عَيْنًا مِنْ وَرِقٍ أَوْ وَرِقًا مَنْ عَيْنٍ ; فَنَصَّ عَلَى امْتِنَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ الصُّورَةَ الْمَذْكُورَةَ اسْتِحْسَانًا، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ.
وَيُفِيدُ الْخِلَافُ فِي هَذَا الشَّرْطِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلَّا ثَوْبًا، أَوْ: إِلَّا شَاةً أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْمُتَقَوِّمَاتِ، بَطَلَ الْإِقْرَارُ عِنْدَنَا، وَصَحَّ عِنْدَ الْمُخَالِفِ، وَيَلْزَمُهُ مِائَةٌ إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، لِاشْتِرَاكِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي جِنْسِ الْمَالِيَّةِ، وَمَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْ جَهَالَةٍ تُزَالُ بِالْوَسَاطَةِ أَوِ الصُّلْحِ.
قُلْتُ: وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجِنْسِ الْقَرِيبِ يَصِحُّ إِجْمَاعًا كَاسْتِثْنَاءِ دِرْهَمٍ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٍ مِنْ دَنَانِيرَ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْجِنْسِ الْبَعِيدِ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ مِنَ الدَّرَاهِمِ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمَالِ مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَمِنْهُ اسْتِثْنَاءُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ مِنَ الْآخَرِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً، غَيْرَ أَنَّ صِحَّتَهُ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِ لِتَقَارُبِ مَقَاصِدِ النَّقْدَيْنِ كَمَا سَبَقَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
- قَوْلُهُ: «وَأَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا إِجْمَاعًا» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَغْرِقًا فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا نَحْوَ: لَهُ
(2/597)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا عَشْرَةً، بَطَلَ «إِجْمَاعًا وَفِي الْأَكْثَرِ وَالنِّصْفِ» نَحْوُ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا سِتَّةً، أَوْ: خَمْسَةً - «خِلَافٌ. وَاقْتَصَرَ قَوْمٌ عَلَى الْأَقَلِّ» أَيْ: عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ، نَحْوِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً، «وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا» .
قَالَ صَاحِبُ «الْمُحَرَّرِ» مِنْ أَصْحَابِنَا: يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْأَقَلِّ دُونَ الْأَكْثَرِ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ وَالْمُطَلَّقَاتِ وَالْأَقَارِيرِ نَصَّ عَلَيْهِ. وَفِي النِّصْفِ وَجْهَانِ، وَقِيلَ: يَصِحُّ فِي الْأَكْثَرِ أَيْضًا.
قُلْتُ: الْمُصَحِّحُ لِاسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ هُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَالْمَانِعُ مِنْهُ أَصْحَابُنَا وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي آخِرِ أَقْوَالِهِ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَقَدِ اسْتَقْبَحَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْتِثْنَاءَ عَقْدٍ صَحِيحٍ، وَاخْتَارَ هُوَ الْوَقْفَ.
قُلْتُ: مِثَالُ اسْتِثْنَاءِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ: لَهُ سَبْعُونَ إِلَّا عَشَرَةً.
- وَلْنَذْكُرْ تَوْجِيهَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ:
- أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ ; فَلِإِفْضَائِهِ إِلَى الْعَبَثِ وَكَوْنِهِ نَقْضًا كُلِّيًّا
(2/598)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِلْكَلَامِ، وَرُجُوعًا عَنِ الْإِيجَادِ إِلَى الْإِعْدَامِ ; فَعَلَى هَذَا يَلْغُو الِاسْتِثْنَاءُ، وَيَلْزَمُ الْمُسْتَثْنَى، فَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً، أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا ; لَزِمَهُ عَشَرَةٌ، وَطُلِّقَتْ ثَلَاثًا.
وَأَمَّا وَجْهُ الْخِلَافِ فِي اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ ; فَمَنْ صَحَّحَهُ، احْتَجَّ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْلِيسَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82 وَ 83] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الْحِجْرِ: 42] ; فَاسْتَثْنَى فِي الْأُولَى الْعِبَادَ الْمُخْلَصِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْغَاوِينَ مِنَ الْعِبَادِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ الْأَكْثَرَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ.
وَلِتَقْرِيرِ الدَّلِيلِ مِنْ ذَلِكَ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْتَثْنَى الْغَاوِينَ مِنَ الْعِبَادِ، وَالْغَاوُونَ أَكْثَرُ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 17] ، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 63] ، {لَا يُؤْمِنُونَ} [الْبَقَرَةِ: 100] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَدُّوا الَّتِي نَقَصَتْ تِسْعِينَ مِنْ مِائَةٍ
ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّامَا
(2/599)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: مِائَةٌ إِلَّا تِسْعِينَ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْفَعُ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ ; فَجَازَ فِي الْأَكْثَرِ، كَالتَّخْصِيصِ.
- وَمَنْ مَنَعَ اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ، احْتَجَّ بِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَوْجِيهِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَقَلِّ، وَإِذَا اتَّجَهَ الْخِلَافُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ ; كَانَ فِي اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ أَوْجُهٌ، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ وَالنِّصْفَ وَاسِطَتَانِ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ وَالْمُسْتَغْرَقِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْوَسَائِطَ يَتَّجِهُ فِيهَا الْخِلَافُ لِنُزُوعِهَا بِالشَّبَهِ إِلَى الْأَطْرَافِ.
وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ ; احْتَجَّ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ كَسَائِرِ التَّخْصِيصَاتِ خُولِفَ فِي الْأَقَلِّ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، إِذِ الْمُتَكَلِّمُ قَدْ يَغْلَطُ أَوْ يَنْسَى ; فَيَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ السَّهْوُ وَالْغَلَطُ فِي الْأَقَلِّ غَالِبًا، إِذِ الْعَاقِلُ إِنَّمَا يَغْلَطُ فِي الْمِائَةِ بِعَشَرَةٍ إِلَى أَرْبَعِينَ، أَمَّا غَلَطُهُ بِخَمْسِينَ إِلَى تِسْعِينَ، فَنَادِرٌ جِدًّا، وَمَنْ يَغْلَطُ بِذَلِكَ، لَا يَكَادُ يُعَدُّ عَاقِلًا، بَلْ هُوَ إِمَّا مَجْنُونٌ أَوْ مُغَفَّلٌ، وَإِذَا لَمْ تَدَعُ الْحَاجَةُ إِلَى مَا سِوَى الْأَقَلِّ ; وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ نَصُّوا عَلَى امْتِنَاعِ غَيْرِهِ.
(2/600)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الزَّجَّاجُ: لَمْ يَأْتِ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَّا فِي الْقَلِيلِ مِنَ الْكَثِيرِ. وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: لَوْ قَالَ قَائِلٌ: مِائَةٌ إِلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ ; لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ كَلَامُهُ عِيًّا وَلُكْنَةً. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: صُمْتُ الشَّهْرَ كُلَّهُ إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَلَا يُقَالُ صُمْتُهُ إِلَّا تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، وَيُقَالُ: لَقِيتُ الْقَوْمَ جَمِيعًا إِلَّا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: لَقِيتُهُمْ إِلَّا أَكْثَرَهُمْ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلَا دَعَتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَلَا سَوَّغَهُ قِيَاسٌ، كَانَ مَرْدُودًا.
أَمَّا الْوُجُوهُ الَّتِي ذُكِرَتْ عَلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ ; فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَهُوَ الْآيَتَانِ الْكَرِيمَتَانِ، عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ مِنْهَا ; فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الْحِجْرِ: 42] مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنَّ، أَيْ: لَكِنَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ هُمْ مَعَكَ فِي جَهَنَّمَ، أَوْ هُمْ مِنْ حِزْبِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا، بِدَلِيلِ قَوْلِ إِبْلِيسَ فِي الْآخِرَةِ: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إِبْرَاهِيمَ: 22] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسْتَثْنَى فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ الْمُخْلَصِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَهُمُ الْأَقَلُّ، وَفِي الثَّانِيَةِ اسْتَثْنَى الْغَاوِينَ مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَهُمُ الْأَقَلُّ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26] ; فَهُمْ غَيرُ غَاوِينَ، وَنِسْبَةُ جَمِيعِ بَنِي آدَمَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ يَسِيرَةٌ فَضْلًا عَنِ الْغَاوِينَ مِنْهُمْ.
(2/601)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَالْجَوَابَانِ ضَعِيفَانِ، أَمَّا الْأَوَّلُ ; فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ، وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 22] ، أَيْ: بِالْجَبْرِ وَالْقَهْرِ الْقَدَرِيِّ، بَلْ ذَلِكَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي سُلْطَانَهُ بِالْإِغْوَاءِ وَالْوَسْوَسَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ الْمُثْبَتِ لَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} أَيْ: فَلَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانُ الْإِغْوَاءِ وَالْوَسْوَسَةِ ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ} [الْإِسْرَاءِ: 64] .
وَأَمَّا الثَّانِي ; فَلِأَنَّ الْمُحَاوَرَةَ إِنَّمَا وَقَعَتْ فِي ذُرِّيَّةِ آدَمَ الَّتِي أُخْرِجَ إِبْلِيسُ بِسَبَبِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الْأَعْرَافِ: 14] ، يَعْنِي بَنِي آدَمَ، {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 15] ، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] . وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي ذُرِّيَّةِ آدَمَ، لَمْ يَصِحَّ ضَمُّ الْمَلَائِكَةِ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَكُونَ الْغَاوُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى بَقِيَّةِ بَنِي آدَمَ قَلِيلًا.
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنِ الْآيَةِ: هُوَ أَنَّا نَمْنَعُ مِنَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ إِذَا صَرَّحَ بِعَدَدِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ ; فَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ، كَمَا إِذَا قَالَ: خُذْ مَا فِي هَذَا الْكِيسِ مِنَ الدَّرَاهِمِ إِلَّا الزُّيُوفَ، وَكَانَتْ أَكْثَرَ، وَالْآيَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهَا بِعَدَدِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بَلْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (إِنَّ عِبَادِي) ، وَهُوَ مِقْدَارٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، بِخِلَافِ: لَهُ عِنْدِي مِائَةٌ إِلَّا تِسْعِينَ ; فَهَذَا هُوَ الْمَمْنُوعُ.
(2/602)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ اسْتِثْنَاءٍ. وَمَحَلُّ النِّزَاعِ مَشْرُوطٌ بِالتَّصْرِيحِ بِصِيغَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْعَدَدِ عَلَى أَنَّ ابْنَ فَضَّالٍ النَّحْوِيِّ قَالَ: هَذَا بَيْتٌ مَصْنُوعٌ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ الْعَرَبِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، وَلَوْ سُلِّمَ صِحَّتُهُ ; فَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّخْصِيصِ بِغَيْرِهِ أَنَّ التَّخْصِيصَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ الْأَكْثَرِ بِلَفْظٍ مُسْتَقِلٍّ قَوِيٍّ جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ بِلَفْظٍ ضَعِيفٍ غَيْرِ مُسْتَقِلٍّ، ثُمَّ إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِخْرَاجٌ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ ; فَإِنَّهُ مُبِيِّنٌ لَا رَافِعٌ ; فَلَا يَتَحَقَّقُ الْقِيَاسُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
- فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِشُرُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورَةِ:
- أَحَدُهَا: أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ الْمُعْتَادُ فَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِسَكْتَةٍ بِنَفَسٍ، أَوْ عَارِضِ سُؤَالٍ أَوْ شَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ ضَرُورِيَّةٌ، وَيُشْتَرَطُ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَنْوِيَ الِاسْتِثْنَاءَ قَبْلَ تَكْمِيلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
وَصُورَتُهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً ; يَنْوِي اسْتِثْنَاءَ الْوَاحِدَةِ قَبْلَ
(2/603)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَرَاغِهِ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، أَوْ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا ; يَنْوِي اسْتِثْنَاءَ الدِّرْهَمَ قَبْلَ قَوْلِهِ: عَشَرَةٌ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ، كَانَ جَازِمًا بِوُقُوعِ الْمُسْتَثْنَى وُقُوعًا مُسْتَقِرًّا ; فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ رُجُوعًا مَحْضًا عَمَّا أَوْقَعَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَوَاهُ قَبْلَ تَكْمِيلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ; فَإِنَّهُ يَكُونُ مَنْعًا لِدُخُولِهِ، وَرَفْعًا لَهُ قَبْلَ اسْتِقْرَارِهِ، كَمَا سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
الْفَرْعُ الثَّانِي: قَدْ بَيَّنَّا مَا يَصِحُّ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَمَا يَبْطُلُ وَثَبَتَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} ، {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الْحِجْرِ: 58: 60] ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا خَمْسَةً إِلَّا ثَلَاثَةً إِلَّا دِرْهَمَيْنِ إِلَّا دِرْهَمًا.
فَإِذَا تَخَلَّلَ الِاسْتِثْنَاءَاتِ اسْتِثْنَاءٌ بَاطِلٌ ; فَهَلْ يُلْغَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ الْبَاطِلُ وَمَا بَعْدَهُ ; أَوْ يُلْغَى وَحْدَهُ وَيُرْجَعُ مَا بَعْدَهُ إِلَى مَا قَبْلَهُ ; أَوْ يُنْظَرُ إِلَى مَا تَئُولُ إِلَيْهِ جُمْلَةُ الِاسْتِثْنَاءَاتِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
وَلْنَضْرِبْ أَمْثِلَةً بِأَنْوَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ الْبَاطِلِ، وَهِيَ الْمُسْتَغْرِقُ بِاتِّفَاقٍ، وَالْأَكْثَرُ وَالنِّصْفُ عَلَى الْخِلَافِ.
مِثَالُ الْمُسْتَغْرِقِ: قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا وَاحِدًا.
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ، وَيَلْغُو قَوْلُهُ: إِلَّا عَشَرَةً ; لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُسْتَغْرِقٌ بَاطِلٌ، وَيَلْغُو قَوْلُهُ: إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا وَاحِدًا ; لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَلَى اسْتِثْنَاءٍ بَاطِلٍ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: يَلْغُو الْمُسْتَغْرِقُ وَحْدَهُ تَخْصِيصًا لِلْبُطْلَانِ بِهِ
(2/604)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِاخْتِصَاصِهِ بِسَبَبِهِ ; وَهُوَ الِاسْتِغْرَاقُ، وَيَصِيرُ نَظْمُ الْكَلَامِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا وَاحِدًا ; فَيَلْزَمُهُ سَبْعَةٌ، سَيَأْتِي بَيَانُ الطَّرِيقِ فِي اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ: يُنْظَرُ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ جُمْلَةُ الِاسْتِثْنَاءَاتِ الْبَاطِلِ مِنْهَا وَالصَّحِيحِ ; فَيَلْزَمُهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ ثَلَاثَةٌ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
مِثَالُ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ: قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا أَرْبَعًا إِلَّا وَاحِدًا، فَإِنْ أَبْطَلْنَا اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ:
فَعَلَى الْأَوَّلِ: يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ، وَيَلْغُو اسْتِثْنَاءُ التِّسْعَةِ وَمَا بَعْدَهُ.
وَعَلَى الثَّانِي: يَلْغُو اسْتِثْنَاءُ التِّسْعَةِ وَحْدَهُ ; فَيَلْزَمُهُ سَبْعَةٌ.
وَعَلَى الثَّالِثِ: يَلْزَمُهُ أَرْبَعَةٌ.
وَإِنْ صَحَّحْنَا اسْتِثْنَاءَ الْأَكْثَرِ، لَزِمَهُ أَرْبَعَةٌ كَالْوَجْهِ الثَّالِثِ عَلَى الْقَوْلِ بِبُطْلَانِهِ.
مِثَالُ اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ: قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ إِلَّا خَمْسَةً إِلَّا اثْنَيْنِ إِلَّا وَاحِدًا، فَإِنْ أَبْطَلْنَا اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ لَزِمَهُ عَلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةٌ وَعَلَى الثَّانِي تِسْعَةٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ سِتَّةٌ، وَإِنْ صَحَّحْنَاهُ، لَزِمَهُ سِتَّةٌ أَيْضًا، كَالْوَجْهِ الثَّالِثِ عَلَى الْقَوْلِ بِبُطْلَانِهِ.
وَقَدْ تَتَرَكَّبُ الِاسْتِثْنَاءَاتُ بِأَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى الْمُسْتَغْرِقِ وَالْأَكْثَرِ وَالنِّصْفِ، كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً إِلَّا ثَمَانِيَةً إِلَّا أَرْبَعَةً، فَإِنْ أَلْغَيْنَا الثَّلَاثَةَ، لَزِمَهُ
(2/605)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَاهُنَا عَشَرَةٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَلْغَيْنَا الْمُسْتَغْرِقَ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أَلْغَيْنَا الْمُسْتَغْرِقَ وَحْدَهُ، لَزِمَهُ سِتَّةٌ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى مَا يَئُولُ إِلَيْهِ جُمْلَةُ الِاسْتِثْنَاءَاتِ، لَزِمَهُ أَرْبَعَةٌ، وَإِنْ أَلْغَيْنَا الْمُسْتَغْرِقَ وَالْأَكْثَرَ فَقَطْ، وَصَحَّحْنَا النِّصْفَ ; فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي سِتَّةٌ، وَعَلَى الثَّالِثِ أَرْبَعَةٌ، وَإِنْ أَلْغَيْنَا الْمُسْتَغْرِقَ وَالنِّصْفَ، وَصَحَّحْنَا الْأَكْثَرَ، وَهُوَ بَعِيدٌ فِي الْقِيَاسِ، لَكِنَّا فَرَضْنَاهُ تَصْوِيرًا ; فَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي اثْنَانِ، وَعَلَى الثَّالِثِ أَرْبَعَةٌ كَمَا سَبَقَ. وَالطَّرِيقُ الْعَامُّ فِي اسْتِخْرَاجِ الْبَاقِي عِنْدَ تَكَرُّرِ الِاسْتِثْنَاءَاتِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ.
فَنَقُولُ: فِي الصُّورَةِ الْأُولَى مِنْ صُوَرِ هَذَا الْفَرْعِ، وَهِيَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا وَاحِدًا، أَثْبَتَ عَشَرَةً ثُمَّ نَفَاهَا، ثُمَّ أَثْبَتَ مِنَ الْعَشَرَةِ الْمَنْفِيَّةِ أَرْبَعَةً، ثُمَّ نَفَى مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْمُثْبَتَةِ وَاحِدًا ; فَبَقِيَ ثَلَاثَةٌ، لَكِنْ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِثْنَاءَاتِ يَصْعُبُ سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ، وَيَشُقُّ ضَبْطُهُ ; فَلَكَ فِيهِ طَرِيقَانِ سَهْلَانِ جِدًّا:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَأْخُذَ شَفْعَ الْأَعْدَادِ وَوِتْرَهَا، وَتَعْرِفَ مِقْدَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَتُلْقِيَ أَقَلَّهَا مِنْ أَكْثَرِهَا ; فَمَا بَقِيَ ; فَهُوَ الْجَوَابُ.
وَضَبْطُ هَذَا بِالشَّفْعِ وَالْوِتْرِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الِاسْتِثْنَاءَاتِ اسْتِثْنَاءٌ مُسْتَغْرِقٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا اسْتِثْنَاءٌ مُسْتَغْرِقٌ كَالصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ ; فَضَبْطُهُ أَنْ تَأْخُذَ
(2/606)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَعْدَادَ الْمُثْبَتَةَ ; فَتَعْرِفَ جُمْلَتَهَا، ثُمَّ الْمَنْفِيَّةَ كَذَلِكَ، ثُمَّ تُلْقِي أَقَلَّهَا مِنْ أَكْثَرِهَا ; فَالْبَاقِي هُوَ الْجَوَابُ.
وَيُعْرَفُ الْعَدَدُ الْمُثْبَتُ مِنَ الْمَنْفِيِّ بِأَنْ تَبْتَدِئَ بِالْأَوَّلِ، ثُمَّ تَأْخُذَ الْعَدَدَ الثَّانِيَ مِنْهُ، لَا الَّذِي بَعْدَهُ يَلِيهِ، ثُمَّ الثَّانِيَ مِنْ ذَلِكَ الْعَدَدِ، كَذَلِكَ، حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الِاسْتِثْنَاءَاتِ.
مِثَالُهُ: فِي قَوْلِنَا: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا عَشَرَةً إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا وَاحِدًا، أَنْ تَأْخُذَ الْعَشَرَةَ وَالْأَرْبَعَةَ ; فَهُمَا شَفْعَانِ مُثْبَتَانِ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَتَأْخُذُ الْعَشَرَةَ الثَّانِيَةَ وَالْوَاحِدَ، وَهُمَا مَنْفِيَّانِ، وَذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ ; فَتُلْقِيَهَا مِنَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ كَمَا سَبَقَ.
وَلَوِ اعْتَبَرْتَهُ هَاهُنَا بِالشَّفْعِ وَالْوِتْرِ، لَمْ يَصِحَّ إِذْ لَيْسَ مَعَكَ وِتْرٌ إِلَّا الْوَاحِدَ، وَالشَّفْعُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، تُلْقِي مِنْهَا الْوَاحِدَ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْحَقِّ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ لِأَنَّهُ شَفْعٌ بَعْدَ شَفْعٍ، وَكَذَا لَوْ كَانَ وِتْرًا بَعْدَ وِتْرٍ، نَحْوَ: تِسْعَةٌ إِلَّا تِسْعَةً إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا وَاحِدًا ; فَبِطَرِيقِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، تَأْخُذُ التِّسْعَةَ الْأُولَى وَالْأَرْبَعَةَ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالتِّسْعَةَ الثَّانِيَةَ وَالْوَاحِدَ، وَذَلِكَ عَشَرَةُ، تُلْقِيهَا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، وَبِطَرِيقِ الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ تَحْتَاجُ أَنْ تُلْقِيَ الْأَرْبَعَةَ مِنْ تِسْعَةَ عَشَرَ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلَيْسَ بِالصَّوَابِ.
فَبِالْجُمْلَةِ طَرِيقُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ أَعَمُّ، وَهِيَ الْأَصْلُ، وَطَرِيقُ الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ تَصِحُّ لِخُصُوصِ الْمَادَّةِ غَالِبًا، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ اسْتِثْنَاءٌ مُسْتَغْرِقٌ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِثْنَاءً مُسَاوِيًا لِمَا قَبْلَهُ فِي الزَّوْجِيَّةِ وَالْفَرْدِيَّةِ ; فَيَخْتَلُّ الْعَمَلُ.
(2/607)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ تُلْقِيَ آخِرَ الِاسْتِثْنَاءَاتِ مِمَّا قَبْلَهُ، ثُمَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ مِمَّا قَبْلَهُ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تَصِلَ إِلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَوَّلًا ; فَمَا بَقِيَ ; فَهُوَ الْجَوَابُ.
وَلْنَضْرِبْ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً، وَنَسْتَخْرِجْهَا بِالطَّرِيقَيْنِ تَحْصِيلًا لِضَرْبٍ مِنَ الدُّرْبَةِ: فَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا تِسْعَةً إِلَّا ثَمَانِيَةً إِلَّا سَبْعَةً إِلَّا سِتَّةً إِلَّا خَمْسَةً إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا ثَلَاثَةً إِلَّا اثْنَيْنِ إِلَّا وَاحِدًا ; فَبِطَرِيقِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَوِ الزَّوْجِ وَالْفَرْدِ، تَأْخُذُ الْعَشَرَةَ وَالثَّمَانِيَةَ وَالسِّتَّةَ وَالْأَرْبَعَةَ وَالِاثْنَيْنِ، وَهِيَ الْأَعْدَادُ الشَّفْعُ الْمُثْبَتَةُ، وَجُمْلَتُهَا ثَلَاثُونَ، وَتَأْخُذُ التِّسْعَةَ وَالسَّبْعَةَ وَالْخَمْسَةَ وَالثَّلَاثَةَ وَالْوَاحِدَ، وَهِيَ الْأَعْدَادُ الْوِتْرُ الْمَنْفِيَّةُ، وَجُمْلَتُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ، تُلْقِيهَا مِنَ الثَّلَاثِينَ، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَهُوَ الْجَوَابُ.
وَبِطَرِيقِ التَّرَقِّي مِنْ آخِرِ الِاسْتِثْنَاءَاتِ إِلَى أَوَّلِهَا ; تُلْقِي الْوَاحِدَ مِنْ الِاثْنَيْنِ، يَبْقَى وَاحِدٌ، تُلْقِيهِ مِنَ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ يَبْقَى اثْنَانِ، تُلْقِيهِمَا مِنَ الْأَرْبَعَةِ قَبْلَهُمَا، يَبْقَى اثْنَانِ، تُلْقِيهُمَا مِنَ الْخَمْسَةِ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ، تُلْقِيهَا مِنَ السِّتَّةِ، تَبْقَى ثَلَاثَةٌ، تُلْقِيهَا مِنَ السَّبْعَةِ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ، تُلْقِيهَا مِنَ الثَّمَانِيَةِ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ، تُلْقِيهَا مِنَ التِّسْعَةِ، يَبْقَى خَمْسَةٌ، تُلْقِيهَا مِنَ الْعَشَرَةِ، يَبْقَى خَمْسَةٌ، كَالْجَوَابِ بِالطَّرِيقِ الْأَوَّلِ.
(2/608)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا وَاحِدًا ; فَبِطَرِيقِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، خُذِ الْعَشَرَةَ وَالْأَرْبَعَةَ تَكُنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَخُذِ السَّبْعَةَ وَالْوَاحِدَ تَكُنْ ثَمَانِيَةً، أَسْقِطْهَا مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، يَبْقَ سِتَّةٌ.
وَبِالطَّرِيقِ الْآخَرِ: أَسْقِطِ الْوَاحِدَ مِنَ الْأَرْبَعَةِ قَبْلَهُ، يَبْقَ ثَلَاثَةٌ، أَسْقِطْهَا مِنَ السَّبْعَةِ قَبْلَهَا، يَبْقَ أَرْبَعَةٌ، أَسْقِطْهَا مِنَ الْعَشَرَةِ، يَبْقَ سِتَّةٌ، كَالْجَوَابِ الْأَوَّلِ.
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَمَانِيَةً إِلَّا خَمْسَةً إِلَّا ثَلَاثَةً إِلَّا وَاحِدًا ; فَبِطَرِيقِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ خُذِ الْعَشَرَةَ وَالْخَمْسَةَ وَالْوَاحِدَ تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ، وَخُذِ الثَّمَانِيَةَ وَالثَّلَاثَةَ تَكُنْ أَحَدَ عَشَرَ، أَسْقِطْهَا مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ، يَبْقَ خَمْسَةٌ.
وَبِالطَّرِيقِ الْآخَرِ: أَسْقِطِ الْوَاحِدَ مِنَ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهُ، يَبْقَ اثْنَانِ، أَسْقِطْهُمَا مِنَ الْخَمْسَةِ، يَبْقَ ثَلَاثَةٌ أَسْقِطْهَا مِنَ الثَّمَانِيَةِ، يَبْقَ خَمْسَةٌ، أَسْقِطْهَا مِنَ الْعَشَرَةِ، يَبْقَ خَمْسَةٌ، كَالْجَوَابِ الْأَوَّلِ.
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا سَبْعَةً إِلَّا سِتَّةً إِلَّا خَمْسَةً إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا اثْنَيْنِ إِلَّا وَاحِدًا ; فَبِطَرِيقِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، اجْمَعِ الْعَشَرَةَ وَالسِّتَّةَ وَالْأَرْبَعَةَ وَالْوَاحِدَ يَكُنْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَاجْمَعِ السَّبْعَةَ وَالْخَمْسَةَ وَالِاثْنَيْنِ يَكُنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، أَسْقِطْهَا مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، يَبْقَ سَبْعَةٌ.
وَبِالطَّرِيقِ الْآخَرِ: أَلْقِ وَاحِدًا مِنَ اثْنَيْنِ، يَبْقَ وَاحِدًا، أَلْقِهِ مِنَ الْأَرْبَعَةِ قَبْلَهُ، يَبْقَ ثَلَاثَةٌ، أَلْقِهَا مِنَ الْخَمْسَةِ قَبْلَهَا، يَبْقَ اثْنَانِ، أَلْقِهِمَا مِنَ السِّتَّةِ، يَبْقَ
(2/609)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرْبَعَةٌ، أَلْقِهَا مِنَ السَّبْعَةِ، يَبْقَ ثَلَاثَةٌ، أَلْقِهَا مِنَ الْعَشَرَةِ، يَبْقَ سَبْعَةٌ كَالْجَوَابِ الْأَوَّلِ، وَعَلَى هَذَا قِيَاسُ الْبَابِ.
الْفَرْعُ الثَّالِثِ: إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً، أَوِ اثْنَتَيْنِ إِلَّا اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا ; فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُسْتَغْرِقٌ بَاطِلٌ. وَإِنْ قَالَ: طَلْقَتَيْنِ إِلَّا طَلْقَةً، خَرَجَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ، وَإِنْ قَالَ: ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، خَرَجَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ، وَإِنْ قَالَ: طَلْقَةً إِلَّا نِصْفَ طَلْقَةٍ، أَوْ ثَلَاثًا إِلَّا طَلْقَةً وَنِصْفًا، احْتَمَلَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَى اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ فِي الْأُولَى وَاحِدَةٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ اثْنَتَانِ ; لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَتَبَعَّضُ فِي إِيقَاعِهِ وَلَا فِي رَفْعِهِ.
وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ خَمْسًا إِلَّا ثَلَاثَةً ; فَهَلْ تُطَلَّقُ ثَلَاثًا أَوِ اثْنَتَيْنِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَصْلُهُمَا أَنَّهُ إِذَا أَوْقَعَ مِنَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِمَّا يَمْلِكُ وَاسْتَثْنَى مِنْهُ ; فَهَلْ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى مَا يَمْلِكُهُ ; فَيَكُونُ هَاهُنَا مُسْتَغْرِقًا بَاطِلًا ; فَتَقَعُ الثَّلَاثُ، أَوْ إِلَى مَا أَوْقَعَهُ وَهُوَ هَاهُنَا خَمْسٌ اسْتَثْنَى مِنْهَا ثَلَاثًا يَبْقَى اثْنَتَانِ؟ وَعَلَى هَذَا، لَوْ قَالَ: أَرْبَعٌ إِلَّا وَاحِدَةً، هَلْ يَقَعُ ثَلَاثٌ أَوِ اثْنَتَانِ، وَلَوْ قَالَ: أَرْبَعٌ إِلَّا ثَلَاثًا، هَلْ يَقَعُ وَاحِدَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ؟ وَالْأَشْبَهُ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا يَمْلِكُهُ فَقَطْ ; لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ إِيقَاعَهُ، وَصِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِيقَاعِ، وَالنِّزَاعُ هَاهُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى مُلَاحَظَةِ الْحُكْمِ تَارَةً وَاللَّفْظِ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(2/610)
________________________________________
وَإِذَا تَعَقَّبَ الِاسْتِثْنَاءُ جُمَلًا نَحْوَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النُّورِ: 4] ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النُّورِ: 5] ، وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يُجْلَسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» . عَادَ إِلَى الْكُلِّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَإِلَى الْأَخِيرَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَتَوَقَّفَ الْمُرْتَضَى تَوَقُّفًا اشْتِرَاكِيًّا، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ تَوَقُّفًا عَارِضِيًّا.
لَنَا: الْعَطْفُ يُوجِبُ اتِّحَادَ الْجُمَلِ مَعْنًى ; فَعَادَ إِلَى الْكُلِّ، كَمَا لَوِ اتَّحَدَ لَفْظًا، وَلِأَنَّ تَكْرِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ عَقِيبَ كُلِّ جُمْلَةٍ عِيٌّ قَبِيحٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ ; فَمُقْتَضَى الْفَصَاحَةِ الْعَوْدُ إِلَى الْكُلِّ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ يَعُودُ إِلَى الْكُلِّ نَحْوَ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا ; فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ بِجَامِعِ افْتِقَارِهِمَا إِلَى مُتَعَلِّقٍ، وَلِهَذَا يُسَمَّى التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِثْنَاءً، لَا يُقَالُ: رُتْبَةُ الشَّرْطِ التَّقْدِيمُ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ ; لِأَنَّا نَقُولُ عَقْلًا لَا لُغَةً. ثُمَّ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا تَأَخَّرَ وَلَا فَرْقَ ; ثُمَّ يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْأَوْلَى فَقَطْ مُطْلَقًا، أَوْ إِذَا تَقَدَّمَ وَهُوَ بَاطِلٌ.
قَالُوا: تَفَاصَلَتِ الْجُمَلُ بِالْعَاطِفِ، أَشْبَهَ الْفَصْلَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، وَتَعَلُّقُ الِاسْتِثْنَاءِ ضَرُورِيٌّ ; فَانْدَفَعَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالْمُرَجِّحُ الْقُرْبُ كَإِعْمَالِ أَقْرَبِ الْعَامِلَيْنِ، وَعَوْدُهُ إِلَى الْكُلِّ مَشْكُوكٌ ; فَلَا يُرْفَعُ الْعُمُومُ الْمُتَيَقَّنُ.
وَأُجِيبَ: بِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَطْفَ بِوَاوِ الْجَمْعِ يُوجِبُ اتِّحَادًا مَعْنَوِيًّا، وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ التَّفَاصُلِ اللَّفْظِيِّ. وَتَعَلُّقُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا قَبْلَهُ لِصَلَاحِيَتِهِ لَهُ لَا ضَرُورَةً. وَإِعْمَالُ أَقْرَبِ الْعَامِلَيْنِ بَصَرِيٌّ مُعَارَضٌ بِعَكْسِهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. وَتَيَقُّنُ الْعُمُومِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
الْمُرْتَضَى: اسْتُعْمِلَ فِي اللُّغَةِ عَائِدًا إِلَى الْكُلِّ، وَإِلَى الْبَعْضِ، وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ، وَقِيَاسًا عَلَى الْحَالِ وَالظَّرْفَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/611)
________________________________________
الْقَاضِي: تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ فَيُطْلَبُ الْمُرَجِّحُ الْخَارِجِيُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: وَإِذَا تَعَقَّبَ الِاسْتِثْنَاءُ جُمَلًا «، أَيْ: وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ عَقِيبَ جُمَلٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النُّورِ: 4، 5] ،» وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» . عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ «إِلَى الْكُلِّ» ، أَيْ: إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهُ؛ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى بَعْضِهَا «عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ» ، «وَإِلَى» الْجُمْلَةِ «الْأَخِيرَةِ» خَاصَّةً «عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. وَتَوَقَّفَ الْمُرْتَضَى» مِنَ الشِّيعَةِ «تَوَقُّفًا اشْتِرَاكِيًّا» ، أَيْ: يَصْلُحُ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ وَإِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ عَلَى جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ وَالتَّسَاوِي، وَلَا رُجْحَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، كَمَا يَصْلُحُ لَفْظُ الْقُرْءِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَلَفْظُ الْعَيْنِ لِمُسَمَّيَاتِهِ. وَتَوَقَّفَ «الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ تَوَقُّفًا عَارِضِيًّا» ، أَيْ: لِتَعَارُضِ الدَّلِيلِ فِي كَوْنِهِ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى الْجَمِيعِ، لَا لِكَوْنِهِ صَالِحًا لِلرُّجُوعِ إِلَيْهِمَا بِالِاشْتِرَاكِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: (إِنْ ظَهَرَ) أَنَّ «الْوَاوَ» لِلِابْتِدَاءِ، كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَالنُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ إِلَّا الْبَغَادِدَةَ، اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، وَإِنْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الْعَطْفِ
(2/612)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالِابْتِدَاءِ ; فَالْوَقْفُ.
قُلْتُ: التَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي الْكَلَامِ قَرِينَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ أَوْ لَفْظِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ ; تَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا، وَإِلَّا فَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ.
مِثَالُ الْقَرِينَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ قَوْلُهُ: نِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ وَخَيْلِي وَقْفٌ إِلَّا الْحُيَّضَ ; فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَوْلَى بِقَرِينَةِ الْحَيْضِ الْمُخْتَصِّ بِالنِّسَاءِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا الزِّنْجِيِّينَ أَوِ الْهِنْدِيِّينَ، أَوِ الْحُبْشَانَ، اخْتَصَّ بِالثَّانِيَةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الْعُرْفِ مُخْتَصَّةٌ بِالْعَبِيدِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا الدُّهْمَ أَوِ الْعِرَابَ، اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ صِفَاتُ الْخَيْلِ عُرْفًا.
وَمِثَالُ اللَّفْظِيَّةِ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مِنْ ظُهُورِ الِابْتِدَاءِ فِي الْوَاوِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ كَثِيرٌ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: الْعَطْفُ يُوجِبُ اتِّحَادَ الْجُمَلِ» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُوجِبُ اتِّحَادَ الْجُمَلِ فِي الْمَعْنَى ; لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ ; فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَعَقِّبُ لَهَا عَائِدًا إِلَى جَمِيعِهَا، كَمَا لَوِ اتَّحَدَتْ لَفْظًا إِذْ لَا فَرْقَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ قَوْلِهِ: اضْرِبْ مَنْ قَتَلَ وَسَرَقَ إِلَّا مَنْ تَابَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: اضْرِبِ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ هُمْ قَتَلَةٌ وَسُرَّاقٌ إِلَّا مَنْ تَابَ ; فَكَمَا يَرْجِعُ
(2/613)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاسْتِثْنَاءُ هَاهُنَا إِلَى الْجَمِيعِ ; فَكَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي قَبْلَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «تَكْرِيرَ الِاسْتِثْنَاءِ عَقِيبَ كُلِّ جُمْلَةٍ عِيٌّ قَبِيحٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ» ، إِذْ لَا يَجُوزُ فِي لِسَانِ الْفُصَحَاءِ أَنْ يُقَالَ: فَاجْلِدُوهُمْ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا، وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا، وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا.
وَحَيْثُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; فَمُقْتَضَى الْفَصَاحَةِ أَنْ يَعُودَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الْكُلِّ لِصَلَاحِيَتِهِ لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُقَبَّحِ التَّكْرَارُ الْمَذْكُورُ، بَلْ كَانَ يَتَعَيَّنُ فِيمَا إِذَا أُرِيدَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّرْطَ يَعُودُ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ قَبْلَهُ، «نَحْوَ: نِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا» ; فَيَكُونُ تَكْلِيمُهُ زَيْدًا شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ جَمِيعًا ; فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مِثْلُهُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا افْتِقَارُ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ; فَالشَّرْطُ يَتَعَلَّقُ بِمَشْرُوطِهِ، وَلَا يَسْتَقِلُّ بِدُونِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَا يَسْتَقِلُّ بِدُونِهِ، «وَلِهَذَا» أَيْ: لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعَلُّقِ، وَعَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ «يُسَمَّى التَّعْلِيقُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِثْنَاءً» كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ، وَالْإِيمَانِ، وَالطَّلَاقِ، نَحْوِ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ هَذَا الِاشْتِرَاكَ الْخَاصَّ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي رُجُوعِ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ قَبْلَهُ.
(2/614)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- قَوْلُهُ: «لَا يُقَالُ: رُتْبَةُ الشَّرْطِ التَّقْدِيمُ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ» .
هَذَا قَدْحٌ مِنَ الْخَصْمِ فِي قِيَاسِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَىِ الشَّرْطِ فِي رُجُوعِهِ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ، وَذَلِكَ بِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: الشَّرْطُ رُتْبَتُهُ التَّقْدِيمُ حُكْمًا ; لِأَنَّ وَجُودَهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ مُقَدَّمًا، نَحْوَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ; فَأَنْتِ طَالِقٌ، لِيُطَابِقَ اللَّفْظُ الْحُكْمَ وَالْوَضْعُ الطَّبْعَ، فَإِذَا تَأَخَّرَ لَفْظُهُ عَنِ الْجُمَلِ، تَعَلَّقَ بِجَمِيعِهَا ; لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي التَّقَدُّمِ ; فَهُوَ وَإِنْ تَأَخَّرَ لَفْظًا ; فَهُوَ مُتَقَدِّمٌ حُكْمًا ; فَتَعَلَّقَ بِمَا يَلِيهِ مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ، وَبِمَا قَبْلَهُ مِنْ جِهَةِ حُكْمِهِ.
وَشَبِيهٌ بِذَلِكَ مَا يَذْكُرُهُ النَّحْوِيُّونَ فِي تَقْدِيمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، نَحْوُ: ضَرَبَ غُلَامَهُ زِيدٌ، وَضَرَبَ غُلَامُهُ زَيْدًا، حَيْثُ صَحَّتِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ ; فَإِنَّهُ تَابِعٌ مُتَأَخِّرٌ لَفْظًا وَحُكْمًا، لَا حَقَّ لَهُ فِي التَّقْدِيمِ حَتَّى يَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى رُجُوعِهِ إِلَى أَوَّلِ الْجُمَلِ ; فَبَانَ بِذَلِكَ الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ.
- قَوْلُهُ: «لِأَنَّا نَقُولُ عَقْلًا لَا لُغَةً» ، هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُمْ: رُتْبَةُ الشَّرْطِ التَّقْدِيمُ.
قُلْنَا: فِي الْعَقْلِ لَا فِي اللُّغَةِ، وَكَلَامُنَا فِي بَحْثٍ لُغَوِيٍّ لَا عَقْلِيٍّ، وَلَا يَلْزَمُ
(2/615)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ تَوَقُّفِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ وَلُزُومِ تَقَدُّمِهِ عَقْلًا أَنْ لَا يُسَاوِيَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إِذَا تَأَخَّرَ الشَّرْطُ، وَحِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْجُمَلِ، وَمَا ذُكِرَ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ التَّقَدُّمَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ لَا اعْتِبَارَ بِهِ هَاهُنَا ; فَلَا فَرْقَ إِذَنْ بَيْنَ قَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: نِسَائِي طَوَالِقُ وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ إِلَّا أَنْ أُكَلِّمَ زَيْدًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْفَرْقِ، يَلْزَمُكُمْ أَنْ يَتَعَلَّقَ الشَّرْطُ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى فَقَطْ ; إِمَّا مُطْلَقًا سَوَاءٌ تَقَدَّمَ لَفْظُهُ، أَوْ تَأَخَّرَ نَظَرًا إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ التَّقْدِيمَ حُكْمًا، أَوْ إِذَا تَقَدَّمَ لَفْظُهُ، نَحْوُ: إِنْ كَلَّمْتُ زَيْدًا ; فَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ ; فَيُعْتَقُ عَبِيدُهُ فِي الْحَالِ، وَيَتَوَقَّفُ طَلَاقُ نِسَائِهِ عَلَى تَكْلِيمِهِ زَيْدًا، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشَّرْطِ لِلتَّقْدِيمِ حُكْمًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَوِي الشَّرْطُ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي تَعَلُّقِهِمَا بِجَمِيعِ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُمَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
- قَوْلُهُ: «قَالُوا: تَفَاصَلَتِ الْجُمَلُ بِالْعَاطِفِ» ، إِلَى آخِرِهِ.
(2/616)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذِهِ حُجَّةُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى اخْتِصَاصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَتَقْرِيرُهَا مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْجُمَلَ تَفَاصَلَتْ بِالْعَاطِفِ، أَيْ: وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ كُلِّ جُمْلَتَيْنِ مِنْهَا بِحَرْفِ الْعَطْفِ ; فَأَشْبَهَ الْفَصْلَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، وَلَوْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ، لَمْ يَعُدْ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى الْجَمِيعِ ; فَكَذَا مَا أَشْبَهَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَعَلُّقَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا قَبْلَهُ ضَرُورِيٌّ، أَيْ: لِضَرُورَةِ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ ; فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعَلُّقِهِ بِغَيْرِهَا لِخُرُوجِهِ عَنْ مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَالْمُرَجِّحُ لِلْأَخِيرَةِ عَلَى سَائِرِ الْجُمَلِ قُرْبُهَا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلِلْقُرْبِ تَأْثِيرٌ فِي التَّرْجِيحِ كَإِعْمَالِ أَقْرَبِ الْعَامِلَيْنِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، نَحْوُ: ضَرَبْتُ وَضَرَبَنِي زَيْدٌ، وَسَبَبْتُ وَسَبَّنِي بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَ:
جَرَى فَوْقَهَا وَاسْتَشْعَرَتْ لَوْنَ مُذْهَبِ
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُمُومَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمَلِ مُتَيَقَّنٌ، وَعَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَشْكُوكٌ فِيهِ ; فَلَا يُرْفَعُ الْعُمُومُ الْمُتَيَقَّنُ بِالشَّكِّ، وَإِنَّمَا
(2/617)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَفَعْنَا عُمُومَ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ ضَرُورَةَ تَعَلُّقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِغَيْرِهِ، وَعَدَمَ اسْتِقْلَالِهِ بِدُونِهِ فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ دُونَ غَيْرِهَا.
- قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ:
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ ; فَقَوْلُهُمْ «تَفَاصَلَتِ الْجُمَلُ بِالْعَاطِفِ أَشْبَهَ الْفَصْلَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ» .
قُلْنَا: «قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَطْفَ بِوَاوِ الْجَمْعِ يُوجِبُ اتِّحَادًا مَعْنَوِيًّا» ، وَلِهَذَا قُدِّرَتِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ، نَحْوُ: الزَّيْدَانِ وَالزَّيْدُونَ بِالْعَطْفِ، نَحْوُ: قَامَ زَيْدٌ وَزَيْدٌ وَزَيْدٌ، وَشِبْهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: قَامُوا، فَوَاوُ الْعَطْفِ، وَالْجَمْعُ، وَالضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ بِالْفِعْلِ أَشْبَاهٌ، وَالْمُعْتَبَرُ هَاهُنَا هُوَ الِاتِّحَادُ الْمَعْنَوِيُّ، «دُونَ التَّفَاصُلِ اللَّفْظِيِّ» وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْجُمَلُ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، لِرَبْطِ الْوَاوِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ بَيْنَهَا ; فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى الْجَمِيعِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي ; فَقَوْلُهُمْ: «تَعَلُّقُ الِاسْتِثْنَاءِ ضَرُورِيٌّ ; فَانْدَفِعْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ» .
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعَلُّقَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَا قَبْلَهُ لِلضَّرُورَةِ، بَلْ لِصَلَاحِيَةِ مَا قَبْلَهُ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَسَائِرِ الْجُمَلِ صَالِحٌ لِتَعَلُّقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِهِ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِبَعْضِهَا مَانِعٌ خَاصٌّ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النِّسَاءِ: 92] ; فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى
(2/618)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدِّيَةِ، لَا إِلَى التَّحْرِيرِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَقِّ الْوَرَثَةِ حَتَّى يَصَّدَّقُوا بِهِ، وَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ، اخْتَصَّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ ; فَلَوْ عَادَ إِلَى جَمِيعِ مَا قَبْلَهُ، لَزِمَ اسْتِثْنَاءُ النَّفْيِ مِنَ النَّفْيِ، أَوِ الْإِثْبَاتِ مِنَ الْإِثْبَاتِ، ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ كَمَا سَبَقَ، وَبِالصِّفَةِ، نَحْوُ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، وَبَنِي أَسَدٍ الطِّوَالَ ; فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْجُمَلِ، مَعَ أَنَّ ضَرُورَةَ التَّعَلُّقِ تَنْدَفِعُ بِتَعَلُّقِهِ بِالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ.
وَأَمَّا تَرْجِيحُهُمُ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ بِالْقُرْبِ، قِيَاسًا عَلَى إِعْمَالِ أَقْرَبِ الْعَامِلَيْنِ ; فَإِعْمَالُ أَقْرَبِ الْعَامِلَيْنِ بَصْرِيٌّ، أَيْ: هُوَ رَأْيُ الْبَصْرِيِّينَ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِعَكْسِهِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ ; فَإِنَّهُمْ يُعْمِلُونَ أَبْعَدَ الْعَامِلَيْنِ، لِأَوَّلِيَّتِهِ وَسَبْقِهِ، نَحْوُ: ضَرَبْتُ وَضَرَبَنِي زَيْدًا، وَضَرَبَنِي وَضَرَبْتُ زَيْدٌ، وَيَحْتَجُّونَ بِنَحْوِ قَوْلِهِ:
تُنُخِّلَ فَاسْتَاكَتْ بِهِ عُودُ إِسْحِلِ
وَقَوْلِهِ:
كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ
(2/619)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أَيَّ إِذْلَالِ
وَهِيَ حُجَجٌ صَحِيحَةٌ فِي الْبَابِ.
وَعَلَى هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يَتَعَلَّقُ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى، لِأَوَّلِيَّتِهَا وَسَبْقِهَا ; فَيَتَعَارَضُ الْقَوْلَانِ، وَلَا مُرَجِّحَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ ; فَقَوْلُهُمْ: «عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْكُلِّ مَشْكُوكٌ ; فَلَا يُرْفَعُ الْعُمُومُ الْمُتَيَقَّنُ» .
قُلْنَا: «تَيَقُّنُ الْمَعْلُومِ» فِي الْجُمَلِ ; إِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ حَاصِلٌ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ فَهُوَ «مَمْنُوعٌ» وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ بَعْدَ تَمَامِ الْكَلَامِ ; فَالْكَلَامُ «إِنَّمَا يَتِمُّ بِالِاسْتِثْنَاءِ» وَبَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، لَا يَبْقَى الْعُمُومُ مُتَيَقَّنًا حَتَّى يَكُونَ رَفْعُهُ بِالشَّكِّ مُمْتَنِعًا، إِلَّا عَلَى قَوْلِكُمْ: إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَيَبْقَى الْعُمُومُ فِيمَا قَبْلَهَا، لَكِنَّ هَذَا يَصِيرُ اسْتِدْلَالًا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ ; فَلَا يُسْمَعُ.
(2/620)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْمُرْتَضَى» ، أَيِ: احْتَجَّ الْمُرْتَضَى عَلَى مَا ادَّعَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ ; بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَعَقِّبَ لِلْجُمَلِ، اسْتُعْمِلَ فِي اللُّغَةِ عَائِدًا إِلَى الْجَمِيعِ تَارَةً، وَإِلَى الْبَعْضِ أُخْرَى، وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ ; فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْحَالِ وَالظَّرْفَيْنِ: ظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ; فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا قَائِمًا ; احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَالُ لِجَمِيعِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْأَخِيرَةِ مِنْهُمْ. وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ الْمَسِيرَ، وَالْقِتَالَ، وَالصَّوْمَ يَوْمَ الْجُمُعَةَ، احْتُمِلَ تَعَلُّقِ الظَّرْفِ بِالْمَصَادِرِ الثَّلَاثَةِ، وَاحْتُمِلَ تَعَلُّقُهُ بِالْأَخِيرِ مِنْهَا. وَلَوْ قَالَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا وَبَكْرًا فِي الدَّارِ، احْتُمِلَ تَعَلُّقُ الظَّرْفِ الْمَكَانِيِّ بِهِمْ، أَوْ بِآخِرِهِمْ ; فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي تَعَلُّقِهِ بِجَمِيعِ الْجُمَلِ أَوْ بِآخِرِهَا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَالِ وَالظَّرْفَيْنِ ; كَوْنُهَا مَنْصُوبَاتٍ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ بِنَفْسِهَا، مُفْتَقِرَةً إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ.
- قَوْلُهُ: «الْقَاضِي» ، أَيِ: احْتَجَّ الْقَاضِي عَلَى الْوَقْفِ بِأَنْ قَالَ: «تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ» فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا قَدْ تَقَرَّرَ، وَمَعَ تَعَارُضِهَا يَمْتَنِعُ الْجَزْمُ بِأَحَدِهَا ; فَيَجِبُ الْوَقْفُ، «وَيُطْلَبُ الْمُرَجِّحُ الْخَارِجِيُّ» عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ.
قُلْتُ: وَاعْتَرَضَ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُرْتَضَى: بِأَنْ يُقَالَ: اسْتِعْمَالُ الِاسْتِثْنَاءِ رَاجِعًا إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ لِمَانِعٍ، أَوْ مَجَازًا، وَالْحَقِيقَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِذَا تَعَارَضَ الِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ، كَانَ الْمَجَازُ أَوْلَى، وَقِيَاسُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْحَالِ وَالظَّرْفَيْنِ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ ; فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ أَنْ لَوْ كَانَ احْتِمَالُ رُجُوعِ الْحَالِ وَالظَّرْفِ إِلَى الْجَمِيعِ وَالْبَعْضِ عَلَى السَّوَاءِ، وَهُوَ
(2/621)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَمْنُوعٌ، بَلْ رُجُوعُهُ إِلَى الْجَمِيعِ أَظْهَرُ، وَكَذَا نَقُولُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ.
وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى مَا قَالَهُ الْقَاضِي: بِأَنَّ الْوَقْفَ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، بَلْ هُوَ تَعْطِيلٌ لِلْمَذَاهِبِ، وَتَرَدُّدٌ بَيْنِهَا، وَتَحَيُّرٌ فِيهَا، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ ; فَإِنَّمَا يُسَوَّغُ عِنْدَ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَتَسَاوِيهَا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ هَاهُنَا، بَلْ أَحَدُ الْمَذَاهِبِ ظَاهِرُ الرُّجْحَانِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَرْعٌ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النُّورِ: 4، 5] ، تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ الْقَذْفَ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ: وُجُوبُ الْحَدِّ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَثُبُوتُ الْفِسْقِ. فَمَنْ رَدَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ، قَالَ: الْقَاذِفُ إِذَا تَابَ، تَعُودُ عَدَالَتُهُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يَسْقُطَ الْجَلْدُ عَنْهُ، لَكِنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُهُ حَقَّ آدَمِيٍّ. وَمَنْ رَدِّ الِاسْتِثْنَاءَ إِلَىَ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: إِذَا تَابَ الْقَاذِفُ، زَالَ فِسْقُهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النُّورِ: 4] ; فَيَبْقَى عَلَى عُمُومِهِ فِي الزَّمَانِ، وَجَعَلَ سَلْبَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ مِنْ عُقُوبَاتِ الْقَذْفِ كَالْجَلْدِ، وَكَمَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ، كَذَلِكَ رَدُّ الشَّهَادَةِ ; فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَجْلُودَ فِي الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.
وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا: أَنْ الْأَحْكَامَ الثَّلَاثَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْقَذْفِ:
(2/622)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْهَا: مَا لَا تُؤَثِّرُ التَّوْبَةُ فِي رَفْعِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الْجَلْدُ.
وَمِنْهَا: مَا تُؤَثِّرُ فِي رَفْعِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الْفِسْقُ.
وَمِنْهَا: مَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ، هَلْ يَرْتَفِعُ بِهَا أَمْ لَا؟ وَهُوَ رَدُّ الشَّهَادَةِ هَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَفَهِمَهُ مِنْهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.
وَالَّذِي يَنْقَدِحُ مِنْ قُوَّةِ الْكَلَامِ: أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ حُكْمَيْنِ: وُجُوبَ الْحَدِّ، وَثُبُوتَ الْفِسْقِ.
أَمَّا رَدُّ الشَّهَادَةِ ; فَهُوَ مِنْ آثَارِ الْفِسْقِ، وَمُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا زَالَ الْفِسْقُ، الَّذِي هُوَ الْمُؤَثِّرُ بِالتَّوْبَةِ، زَالَ أَثَرُهُ، الَّذِي هُوَ رَدُّ الشَّهَادَةِ.
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَتَّجِهُ النِّزَاعُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَيْضًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا زَالَتْ، هَلْ يَجِبُ زَوَالُ مَعْلُولِهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ، زَالَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِزَوَالِ الْفِسْقِ ; فَوَجَبَ قَبُولُهَا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ، اسْتُصْحِبَ الْحَالُ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَاحْتَاجَ قَبُولُهَا إِلَى دَلِيلٍ طَارِئٍ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَضَمَّنَتْ حُكْمَيْنِ: وُجُوبَ الْحَدِّ، وَرَدَّ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْفِسْقِ، وَكَانَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النُّورِ: 4] ، تَأْكِيدٌ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ بِذِكْرِ مَلْزُومِهِ، وَهُوَ الْفِسْقُ ; فَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ، أَعْنِي رَدَّ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ ; فَيَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ
(2/623)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَيْهَا إِجْمَاعًا ; فَيَزُولُ رَدُّ الشَّهَادَةِ ; فَيَجِبُ قَبُولُهَا، وَيَنْتَفِي مَلْزُومُهُ وَهُوَ الْفِسْقُ، بِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ وَهُوَ رَدُّ الشَّهَادَةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْأَصْلِ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُؤَمَّنَّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يُجْلَسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ، إِلَّا بِإِذْنِهِ» . فَمَنْ رَدَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ، قَالَ: الْإِذْنُ شَرْطٌ فِي الْحُكْمَيْنِ، وَهُمَا: أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الرَّجُلِ فِي سُلْطَانِهِ غَيْرُهُ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ، وَأَنْ يَجْلِسَ عَلَى تَكْرِمَتِهِ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ، وَمَنْ عَلَّقَهُ بِالْأَخِيرَةِ فَقَطْ، قَالَ: الْإِذْنُ يُشْتَرَطُ فِي جُلُوسِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فَقَطْ، أَمَّا تَقَدُّمُهُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ ; فَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِهِ، بِإِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إِذْنِهِ، بَلْ يَقِفُ الْأَمْرُ عَلَى دَلِيلٍ خَارِجٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/624)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الشَّرْطُ
الشَّرْطُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ ; فَيُسَاوِي مَا سَبَقَ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَتَأْثِيرُهُ إِذَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ فِي تَأْخِيرِ حُكْمِهِ حَتَّى يُوجَدَ، لَا فِي مَنْعِ السَّبَبِيَّةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ، وَنَحْوُهُ الْغَايَةُ، نَحْوُ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَةِ: 222] ، {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الشَّرْطُ: مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ، عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ» .
هَذَا الثَّانِي مِنْ مُخَصِّصَاتِ الْعُمُومِ الْمُتَّصِلَةِ، وَهُوَ الشَّرْطُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَهَا عِلَلٌ، وَهِيَ أَسْبَابُهَا الْمُؤَثِّرَةُ فِي وُجُودِهَا شَرْعًا، أَيِ: الْمُعَرِّفَةُ لَهَا شَرْعًا، وَشُرُوطٌ يَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُ الْعِلَلِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا، كَالزِّنَى هُوَ عِلَّةُ الرَّجْمِ، وَيَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُهُ فِي إِيجَابِ الرَّجْمِ عَلَى الْإِحْصَانِ، وَكَالنِّصَابِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَيَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُهُ فِي إِيجَابِهَا عَلَى تَمَامِ الْحَوْلِ، وَكَالْقَتْلِ هُوَ عِلَّةُ الْقِصَاصِ، وَيَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُهُ فِي إِيجَابِهِ عَلَى وُجُودِ الْمُكَافَأَةِ، وَانْتِفَاءِ الْأُبُوَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَصَحَّ حِينَئِذٍ قَوْلُنَا: «الشَّرْطُ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ» ، يَعْنِي الْعِلَّةَ، أَيِ: الشَّرْطُ: مَا لَا تُؤَثِّرُ الْعِلَّةُ فِي وُجُودِ الْحُكْمِ، إِلَّا بَعْدَ حُصُولِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: «عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ» فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ظَنًّا أَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ غَيْرُ عِلَّتِهِ وَشَرْطِهِ ; فَوَقَعَ الِاحْتِرَازُ
(2/625)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِقَوْلِهِ: «عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ» عَنِ السَّبَبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ السَّبَبُ ; فَصَارَ قَوْلُنَا: «مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ» ، كَافِيًا فِي تَعْرِيفِ الشَّرْطِ، اللَّهُمَّ إِلَّا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ السَّبَبَ مَا حَصَلَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، فَإِنْ تَصَوَّرَ لَنَا حُكْمٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَالشَّرْطُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُهَا عَلَيْهِ، وَالسَّبَبُ الَّذِي يُوجَدُ الْحُكْمُ عِنْدَهُ لَا بِهِ ; كَانَ قَوْلُنَا: «عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ» ، احْتِرَازًا عَنِ السَّبَبِ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْعِلَّةِ، لَكِنْ لَا عَلَى جِهَةِ تَوَقُّفِهِ عَلَى السَّبَبِ الْمَذْكُورِ، مَعَ أَنَّ هَذَا لَا يَكَادُ يَتَحَقَّقُ.
- قَوْلُهُ: «فَيُسَاوِي مَا سَبَقَ» ، أَيْ: فَيُسَاوِي هَذَا التَّعْرِيفُ لِلشَّرْطِ مَا سَبَقَ مِنْ تَعْرِيفِهِ «عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ» فِي خِطَابِ الْوَضْعِ، وَهُوَ قَوْلُنَا: الشَّرْطُ مَا لَزِمَ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ أَمْرٍ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ ; لِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ أَمْرٍ، تَوَقَّفَ وُجُودُ ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى وُجُودِهِ، كَالْإِحْصَانِ ; لَمَّا لَزِمَ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الرَّجْمِ، تَوَقَّفَ وُجُودُ الرَّجْمِ عَلَى وُجُودِهِ، وَهَاهُنَا وَجَبَ قَوْلُنَا: عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ ; لِأَنَّا لَمْ نَتَعَرَّضْ فِيهِ لِذِكْرِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ ; فَاحْتَجْنَا أَنْ نَحْتَرِزَ عَنْهَا ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَائِهَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ، لَكِنْ لَا عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الشَّرْطِ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي وُجُودِ الْحُكْمِ ; فَانْتِفَاؤُهُ لِانْتِفَاءِ تَأْثِيرِهَا فِي وُجُودِهِ، وَالشَّرْطُ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي وُجُودِ الْحُكْمِ، بَلْ هُوَ مُصَحِّحٌ لِتَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرِ ; فَوَجَبَ الِاحْتِرَازُ فِي حَدِّ الشَّرْطِ عَنِ السَّبَبِ بِمَا ذَكَرْنَا، بِخِلَافِ قَوْلِنَا هَاهُنَا: مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْعِلَّةُ، وَلَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي هَذَا الْحَدِّ، حَتَّى يُحْتَرَزَ عَنْهَا بِقَوْلِنَا: عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ ; لِأَنَّهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ، بَلْ هِيَ الْمُؤَثِّرُ نَفْسُهُ. وَحِينَئِذٍ قَوْلُنَا هَاهُنَا: مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ
(2/626)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُؤَثِّرِ، هُوَ الْمُسَاوِي لِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِنَا قَبْلُ: مَا لَزِمَ مِنَ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ أَمْرٍ، عَلَى غَيْرِ جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ، وَقَوْلُنَا ذَلِكَ هَاهُنَا لَاغٍ ; فَاعْلَمْ ذَلِكَ.
- قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الشَّرْطَ، مِنَ «الْمُخَصِّصَاتِ» لِلْعُمُومِ، «كَالِاسْتِثْنَاءِ» . قَدْ سَبَقَ دَلِيلُ هَذَا وَمِثَالُهُ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النِّسَاءِ: 101] ; فَأَجَازَ قَصْرَ الصَّلَاةِ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ.
وَالْآخَرُ: خَوْفُ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ.
فَنَسَخَ اعْتِبَارَ الشَّرْطِ الثَّانِي بِالرُّخْصَةِ، حَتَّى جَازَ الْقَصْرُ مَعَ الْأَمْنِ، بِحَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ، وَبَقِيَ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ ; فَلَا يَجُوزُ الْقَصْرُ بِدُونِهِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النُّورِ: 33] ، فَمَشْرُوعِيَّةُ كِتَابَةِ الْعَبْدِ، اسْتِحْبَابًا، أَوْ وُجُوبًا، عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ مَشْرُوطَةٌ بِأَنْ يُعْلَمَ مِنْهُ صَلَاحٌ. وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
- قَوْلُهُ: «وَتَأْثِيرُهُ إِذَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ: فِي تَأْخِيرِ حُكْمِهِ حَتَّى يُوجَدَ، لَا
(2/627)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي مَنْعِ السَّبَبِيَّةِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ» .
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الشَّرْطَ إِذَا دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ، لَمْ يَمْنَعْ مِنَ انْعِقَادِ السَّبَبِ، بَلْ تَأْثِيرُهُ فِي تَأْخِيرِ حُكْمِ السَّبَبِ، حَتَّى يُوجَدَ، يَعْنِي الشَّرْطَ.
مِثَالُهُ: إِذَا قَالَ: بِعْتُكَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إِلَى ثَلَاثٍ ; فَالْبَيْعُ سَبَبُ الْمِلْكِ، وَدُخُولُ شَرْطِ الْخِيَارِ عَلَيْهِ لَا يَقْدَحُ فِي سَبَبِيَّتِهِ عِنْدَنَا ; فَيَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، لَكِنْ يَتَأَخَّرُ حُكْمُ الْبَيْعِ، وَهُوَ لُزُومُ الْمِلْكِ وَاسْتِقْرَارُهُ، حَتَّى يُوجَدَ الشَّرْطُ، بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْخِيَارِ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: خِيَارُ الشَّرْطِ مَانِعٌ مِنَ انْعِقَادِ الْبَيْعِ سَبَبًا نَاقِلًا لِلْمِلْكِ بِالْجُمْلَةِ، عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِيهِ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ. وَهَذَا مَعْنَى مَا حَكَاهُ الزَّنْجَانِيُّ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ.
وَمِثَالُهُ عَلَى مَا أَحْسَبُ: - وَقَدْ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ - وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَوْ نَحْوَهُ أَبُو بَكْرٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، فِي كِتَابِ «الْمِيزَانِ» فَقَالَ: وَقِرَانُ الشَّرْطِ بِالْأَمْرِ، أَثَرُهُ مَعَ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ، إِلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْخَصْمِ، أَثَرُهُ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ عَنِ السَّبَبِ، مَعَ انْعِقَادِهِ شَرْعًا.
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
قَوْلُهُ: «وَنَحْوُهُ الْغَايَةُ» ، وَالْغَايَةُ فِي تَخْصِيصِهَا لِلْعُمُومِ نَحْوُ الشَّرْطِ، مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَةِ: 222] ، فَقَوْلُهُ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} رَفَعَ الْمَنْعَ الدَّائِمَ، الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (لَا تَقْرَبُوهُنَّ) ، وَبَقِيَ الْمَنْعُ
(2/628)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَاصًّا بِحَالِ الْحَيْضِ، فَإِذَا طَهُرَتْ، جَازَ وَطْؤُهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ، اقْتَضَى هَذَا تَحْرِيمَهَا عَلَيْهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ أَبَدًا ; فَبِقَوْلِهِ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ، ارْتَفَعَ عُمُومُ التَّحْرِيمِ، وَبَقِيَ مُخْتَصًّا بِمَا قَبْلَ نِكَاحِهَا زَوْجًا غَيْرَهُ، فَإِذَا نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ، حَلَّتْ لَهُ.
وَمِنْ صِيَغِ الْغَايَةِ «إِلَى» نَحْوُ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [الْبَقَرَةِ: 187] ، {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [الْمَائِدَةِ: 6] ، {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [الْمَائِدَةِ: 6] ، وَنَحْوُهُ.
وَحُكْمُ الْغَايَةِ: أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا، وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ مُخَصَّصَةً، وَلَا غَايَةً، بَلْ وَسَطًا.
وَقَدْ سَبَقَ مِثَالُ التَّخْصِيصِ بِالصِّفَةِ فِي أَوَّلِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَحُكْمُ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ وَالصِّفَةِ، فِي رُجُوعِهَا إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَعَدِّدَةِ قَبْلَهَا، أَوْ إِلَى الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ، غَيْرَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الشَّرْطِ فِي ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ النُّحَاةِ، أَمَّا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، فَاتَّفَقُوا عَلَى رُجُوعِهِ إِلَى الْجَمِيعِ كَمَا سَبَقَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/629)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ
الْمُطْلَقُ: مَا تَنَاوَلَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةٍ شَامِلَةٍ لِجِنْسِهِ نَحْوُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النِّسَاءِ: 92] ، «وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» .
وَالْمُقَيَّدُ: مَا تَنَاوَلَ مُعَيَّنًا أَوْ مَوْصُوفًا بِزَائِدٍ عَلَى حَقِيقَةِ جِنْسِهِ نَحْوُ: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النِّسَاءِ: 92] ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الدَّالَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ فَقَطْ مُطْلَقٌ ; فَالْمُقَيَّدُ يُقَابِلُهُ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ، وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْقُيُودِ وَكَثْرَتِهَا، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ بِالْجِهَتَيْنِ كَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قُيِّدَتْ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ، وَأُطْلِقَتْ مِنْ حَيْثُ مَا سِوَاهُ وَيُقَالُ: فِعْلٌ مُقَيَّدٌ، أَوْ مُطْلَقٌ بِاعْتِبَارِ اخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ مَفَاعِيلِهِ مِنْ ظَرْفٍ، وَنَحْوِهِ وَعَدَمِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْمُطْلَقُ» ، هَذَا مَوْضِعُ الْكَلَامِ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ ; فَالْمُطْلَقُ: «مَا تَنَاوَلَ وَاحِدًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةٍ شَامِلَةٍ لِجِنْسِهِ، نَحْوُ» ، قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [الْمُجَادَلَةِ: 3] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» . فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ لَفْظِ الرَّقَبَةِ وَالْوَلِيِّ، قَدْ تَنَاوَلَ وَاحِدًا غَيْرَ
(2/630)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُعَيَّنٍ، مِنْ جِنْسِ الرِّقَابِ وَالْأَوْلِيَاءِ. «وَالْمُقَيَّدُ مَا تَنَاوَلَ مُعَيَّنًا» ، نَحْوُ: أَعْتَقَ زَيْدًا مِنَ الْعَبِيدِ ; أَوْ مَوْصُوفًا بِوَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى حَقِيقَةِ جِنْسِهِ، نَحْوُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاءِ: 92] ، وَ {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النِّسَاءِ: 92] ، وَصَفَ الرَّقَبَةَ بِالْإِيمَانِ، وَالشَّهْرَيْنِ بِالتَّتَابُعِ، وَذَلِكَ وَصْفٌ زَائِدٌ عَلَى حَقِيقَةِ جِنْسِ الرَّقَبَةِ وَالشَّهْرَيْنِ ; لِأَنَّ الرَّقَبَةَ قَدْ تَكُونُ مُؤْمِنَةً وَكَافِرَةً، وَالشَّهْرَيْنِ قَدْ يَكُونَانِ مُتَتَابِعَيْنِ وَغَيْرِ مُتَتَابِعَيْنِ.
- قَوْلُهُ: «وَقَدْ سَبَقَ» ، يَعْنِي فِي تَعْرِيفِ حَدِّ الْعَامِّ «أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ فَقَطْ» ، أَيْ: بِالنَّظَرِ إِلَى تَجَرُّدِهَا عَنْ كُلِّ عَارِضٍ يَلْحَقُهَا، مِنْ وَحْدَةٍ وَتَعَدُّدٍ، وَطُولٍ وَقِصَرٍ، وَصِغَرٍ وَكِبَرٍ، هُوَ الْمُطْلَقُ، «فَالْمُقَيَّدُ يُقَابِلُهُ» ، أَيْ: يُقَابِلُ الْمُطْلَقَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ ; لِأَنَّهُمَا فِي الْأَصْلِ مُتَقَابِلَانِ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمُطْلَقَ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْعَوَارِضِ، الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَلْحَقَهَا، أَوْ بَعْضَهَا ; فَالْمُقَيَّدُ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، مَعَ تِلْكَ الْعَوَارِضِ، أَوْ بَعْضِهَا.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْمُطْلَقُ: هُوَ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، كَقَوْلِنَا: رَجُلٌ،
(2/631)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمُقَيَّدُ: مَا كَانَ مِنَ الْأَلْفَاظِ دَالًّا عَلَى وَصْفِ مَدْلُولِهِ الْمُطْلَقِ، بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَيْهِ، كَقَوْلِنَا: رَجُلٌ عَالِمٌ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُقَيَّدِ.
- قَوْلُهُ: «وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ» ، أَيْ: مَعَانِي مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدُ مُتَقَارِبَةٌ، لَا يَكَادُ يَظْهَرُ بَيْنَهَا تَفَاوُتٌ ; لِأَنَّ قَوْلَنَا: رَقَبَةٌ، هُوَ لَفْظٌ تَنَاوَلَ وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهِ، غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ لَفْظٌ دَلَّ عَلَى مَاهِيَّةِ الرَّقَبَةِ، مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ، أَيْ: مُجَرَّدَةً عَنِ الْعَوَارِضِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ إِثْبَاتٍ.
وَقَوْلُنَا: رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ. هُوَ لَفْظٌ، تَنَاوَلَ مَوْصُوفًا بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى مَاهِيَّتِهِ، وَهُوَ لَفْظٌ، دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، مَعَ بَعْضِ عَوَارِضِهَا، وَهُوَ لَفْظٌ دَلَّ عَلَى وَصْفِ مَدْلُولِهِ الْمُطْلَقِ، بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ، عِنْدَ تَدْقِيقِ النَّظَرِ، بِصُورَةٍ نَادِرَةٍ، أَوْ خَفِيَّةٍ، لَكِنَّا لَمْ نَسْبُرْ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ، يَكُونَانِ تَارَةً فِي الْأَمْرِ، نَحْوَ: أَعْتِقْ رَقَبَةً وَأَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، وَتَارَةً فِي الْخَبَرِ، نَحْوَ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ» «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ.»
فَائِدَةٌ: الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ فِي الْأَلْفَاظِ: مُسْتَعَارَانِ مِنْهُمَا فِي الْأَشْخَاصِ،
(2/632)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُقَالُ: رَجُلٌ أَوْ حَيَوَانٌ مُطْلَقٌ: إِذَا خَلَا مِنْ قَيْدٍ، أَوْ عِقَالٍ، أَوْ شِكَالٍ، وَمُقَيَّدٌ: إِذَا كَانَ فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ، أَوْ عِقَالٌ، أَوْ شِكَالٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ مَوَانِعِ الْحَيَوَانِ مِنَ الْحَرَكَةِ الطَّبِيعِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، الَّتِي يَنْتَشِرُ بِهَا بَيْنَ جِنْسِهِ.
فَإِذَا قُلْنَا: أَعْتِقْ رَقَبَةً ; فَهَذِهِ الرَّقَبَةُ شَائِعَةٌ فِي جِنْسِهَا، شُيُوعَ الْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ بِحَرَكَتِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بَيْنَ جِنْسِهِ.
وَإِذَا قُلْنَا: أَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ لَهَا، كَالْقَيْدِ الْمُمَيِّزِ لِلْحَيَوَانِ الْمُقَيَّدِ، مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِ جِنْسِهِ، وَمَانِعَةً لَهَا مِنَ الشُّيُوعِ، كَالْقَيْدِ الْمَانِعِ لِلْحَيَوَانِ مِنَ الشُّيُوعِ بِالْحَرَكَةِ فِي جِنْسِهِ.
قَوْلُهُ: «وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ» ، أَيْ: مَرَاتِبُ الْمُقَيَّدِ فِي تَقْيِيدِهِ «بِاعْتِبَارِ قِلَّةِ الْقُيُودِ وَكَثْرَتِهَا» فَمَا كَانَتْ قُيُودُهُ أَكْثَرَ ; كَانَتْ رُتْبَتُهُ فِي التَّقْيِيدِ أَعْلَى، وَهُوَ فِيهِ أَدْخَلُ ; فَقَوْلُهُ: أَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، مُصَلِّيَةً، سُنِّيَّةً، حَنْبَلِيَّةً، أَعْلَى رُتْبَةً فِي التَّقْيِيدِ مِنْ قَوْلِهِ: أَعْتِقْ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً.
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التَّحْرِيمِ: 5] ، أَعْلَى رُتْبَةً فِي التَّقْيِيدِ مِنْ قَوْلِهِ: {مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} لَا غَيْرَ.
- وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُون} َ لِحُدُودِ اللَّهِ) [التَّوْبَةِ: 112] ، أَعْلَى وَأَدْخَلُ فِي التَّقْيِيدِ، مِنَ اقْتِصَارِهِ عَلَى بَعْضِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ ; فَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْأَوْصَافُ الْمُخَصِّصَةُ، الْمُمَيِّزَةُ لِلذَّاتِ مِنْ
(2/633)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرِهَا ; كَانَتْ رُتْبَةُ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ فِيهَا أَعْلَى.
- قَوْلُهُ: «وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ» ، يَعْنِي الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي «لَفْظٍ وَاحِدٍ» بِاعْتِبَارِ الْجِهَتَيْنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاءِ: 92] ، «قُيِّدَتْ مِنْ حَيْثُ الدِّينُ» ، بِالْإِيمَانِ، «وَأُطْلِقَتْ مِنْ حَيْثُ سِوَاهُ» ، كَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالنَّسَبِ وَالْبَلَدِ ; فَهِيَ مُقَيَّدَةٌ مِنْ جِهَةٍ، مُطْلَقَةٌ مِنْ جِهَةٍ.
وَكَذَلِكَ «يُقَالُ: فِعْلٌ مُقَيَّدٌ، أَوْ مُطْلَقٌ، بِاعْتِبَارِ اخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ مَفَاعِيلِهِ، مِنْ ظَرْفِ» زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَفَاعِيلِ، كَالْمَصْدَرِ، وَالْعِلَّةِ، وَالْآلَةِ، وَمَحَلِّ الْفِعْلِ، وَعَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ.
وَمِثَالُ هَذَا: مَا سَبْقَ لَنَا فِي أَنَّ الْأَمْرَ لِلْفَوْرِ وَالتَّكْرَارِ أَمْ لَا؟ حَيْثُ قُلْنَا: إِنَّ الْأَمْرَ كَقَوْلِهِ: صَلِّ، مَثَلًا، مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْآلَةِ، لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ ; فَكَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى فَوْرٍ وَلَا تَرَاخٍ، وَلَا مَرَّةٍ وَلَا مِرَارٍ.
وَقَدْ يُقَيَّدُ الْفِعْلُ بِبَعْضِ مَفَاعِيلِهِ دُونَ بَعْضٍ ; فَيَكُونُ مُطْلَقًا مُقَيَّدًا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ: صُمْ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ; فَالصَّوْمُ مُقَيَّدٌ مِنْ جِهَةِ ظَرْفِ الزَّمَانِ ; مُطْلَقٌ مِنْ جِهَةِ ظَرْفِ الْمَكَانِ، وَلَوْ قَالَ: صُمْ فِي مَكَّةَ يَوْمَيْنِ لَكَانَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ.
(2/634)
________________________________________
وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا اتَّحَدَا سَبَبًا وَحُكْمًا، نَحْوُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ» ، مَعَ «إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.
لَنَا: إِعْمَالُهُمَا أَوْ إِلْغَاؤُهُمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا مُمْتَنِعٌ، وَتَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ; فَتَعَيَّنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْنَا.
قَالَ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَكَلَامُ الْحَكِيمِ يُحْمَلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا.
قُلْنَا: الْأَوَّلُ، وَنَصِّيَّتُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُطْلَقِ مَمْنُوعَانِ.
وَالثَّانِي: مَعَارَضٌ بِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَأْمُرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَلَا التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَيَأْتِي الْجَوَابُ الثَّالِثُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِذَا اتَّحَدَا سَبَبًا وَحُكْمًا» ، إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَنَا لَفْظٌ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ ; فَإِمَّا أَنْ يَتَّحِدَ حُكْمُهُمَا، أَوْ يَخْتَلِفَ، فَإِنِ اتَّحَدَ حُكْمُهُمَا ; فَإِمَّا أَنْ يَتَّحِدَ سَبَبُهُمَا أَوْ يَخْتَلِفَ ; فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّحِدَا فِي السَّبَبِ وَالْحُكْمِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِاتِّحَادِهِمَا سَبَبًا وَحُكْمًا، أَيْ: يَكُونُ سَبَبُهُمَا وَاحِدًا، وَحُكْمُهُمَا وَاحِدًا، نَحْوُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ» ، مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» ; فَالْأَوَّلُ مُطْلَقٌ فِي الْوَلِيِّ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرُّشْدِ
(2/635)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْغَيِّ، وَفِي الشُّهُودِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَدَالَةِ وَالْفِسْقِ، وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ بِالرُّشْدِ فِي الْوَلِيِّ، وَالْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ، وَهُمَا مُتَّحِدَانِ سَبَبًا وَحُكْمًا ; لِأَنَّ سَبَبَهُمَا النِّكَاحُ، وَحُكْمَهُمَا نَفْيُهُ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ ; فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ هَاهُنَا، وَيُعْتَبَرُ رُشْدُ الْوَلِيِّ وَعَدَالَةُ الشُّهُودِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ.
«لَنَا» عَلَى وُجُوبِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ هَاهُنَا: أَنَّ «إِعْمَالَهُمَا» ، أَيْ: إِعْمَالَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، يَعْنِي الْعَمَلَ بِهِمَا «أَوْ إِلْغَاؤُهُمَا، أَوْ أَحَدِهِمَا» ، أَيْ: إِلْغَاءُ أَحَدِهِمَا «مُمْتَنِعٌ، وَتَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ» ، يَعْنِي إِعْمَالَهُمَا، أَوْ إِلْغَاءَهُمَا مُمْتَنِعٌ، وَإِلْغَاءُ أَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ.
وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ: أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ إِذَا اجْتَمَعَا ; فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ نَعْمَلَ بِهِمَا، أَوْ نُلْغِيَهُمَا ; فَلَا نَعْمَلُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ نَعْمَلُ بِأَحَدِهِمَا، وَنُلْغِي الْآخَرَ، أَوْ نَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَالْأَوَّلُ: وَهُوَ الْعَمَلُ بِهِمَا مُمْتَنِعٌ، لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّنَاقُضِ، إِذْ يَلْزَمُ أَنْ يَعْتَبِرَ الرُّشْدَ فِي الْوَلِيِّ مَثَلًا، وَلَا يَعْتَبِرُهُ، وَيَشْتَرِطُ الْعَدَالَةَ فِي الشُّهُودِ، وَلَا يَعْتَبِرُهَا، وَهُوَ مُحَالٌ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ إِلْغَاؤُهُمَا مُمْتَنِعٌ أَيْضًا، لِإِفْضَائِهِ إِلَى خُلُوِّ الْوَاقِعَةِ عَنْ حُكْمٍ، مَعَ وُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، وَإِلَى تَعْطِيلِ النَّصِّ، مَعَ إِمْكَانِ اسْتِعْمَالِهِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ إِعْمَالُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ ; فَيَتَعَيَّنُ الرَّابِعُ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ بِهِمَا، بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ ; لِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(2/636)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالَ» : يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ احْتَجَّ لِمَذْهَبِهِ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُقَيَّدِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ الْمُطْلَقِ، «وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ» فَلَوْ حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، لَكَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْمُطْلَقِ، وَالنَّسْخُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ; فَيَجِبُ تَرْكُهُ مَا أَمْكَنَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُطْلَقَ كَلَامُ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ، «وَكَلَامُ الْحَكِيمِ يُحْمَلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ» ، لِوُجُوبِ اسْتِقْلَالِهِ بِالْفَائِدَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَائِلُهُ حَكِيمًا، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ حَكِيمًا، هَذَا خُلْفٌ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ دَلَالَةَ الْمُقَيَّدِ عَلَى عَدَمِ إِفَادَةِ الْمُطْلَقِ لِحُكْمِهِ، إِنَّمَا هُوَ «مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ» .
وَبَيَانُهُ أَوْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ مُرْشِدٍ» ، إِنَّمَا دَلَّ بِمَفْهُومِهِ - عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُرْشِدِ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ - لَا بِمَنْطُوقِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ ; لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْنَا ; «لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا» .
- قَوْلُهُ: «قُلْنَا: الْأَوَّلُ، وَنَصِّيَّتُهُ عَلَى إِرَادَةِ الْمُطْلَقِ مَمْنُوعَانِ» .
«الْأَوَّلُ» : إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: «الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ» أَيْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ نَسْخٌ. وَقَدْ سَبَقَ وَجْهُ الْمَنْعِ فِي بَابِ النَّسْخِ، وَكَذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُطْلَقَ مَنْصُوصٌ عَلَى إِرَادَتِهِ مُجَرَّدًا، بَلْ بِقَيْدِ الْمُقَيَّدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي دَلِيلِهِ ادَّعَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُطْلَقَ مَنْصُوصٌ عَلَى إِرَادَتِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ التَّقْيِيدَ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ; فَمَنَعْنَا الْأَمْرَيْنِ.
«وَالثَّانِي» : وَهُوَ قَوْلُهُ: «كَلَامُ الْحَكِيمِ يُحْمَلُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِلَّا لَمَا اسْتَقَلَّ بِالْفَائِدَةِ ; فَيَقْدَحُ فِي حِكْمَتِهِ» «مُعَارِضٌ، بِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَأْمُرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ
(2/637)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ضِدَّيْنِ» وَلَا بِالتَّرْجِيحِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا لُزُومَ ذَلِكَ، مَنْ تَرْكِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، بِمَا ذَكَرْنَا.
قَوْلُهُ: «وَيَأْتِي جَوَابُ الثَّالِثِ» ، يَعْنِي قَوْلَهُ: إِنَّ دَلَالَةَ الْمُقَيَّدِ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الصِّفَةِ. وَجَوَابُهُ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي بَابِ الْمَفْهُومِ.
قُلْتُ: لَا نِزَاعَ فِي بُطْلَانِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، مِنْ دَلِيلِ التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ إِعْمَالُ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَإِلْغَاؤُهُمَا، وَإِعْمَالُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي كَيْفِيَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ; فَنَحْنُ نَقُولُ: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَأَبُو حَنِيفَةُ يَقُولُ بِالْعَمَلِ بِالْمُطْلَقِ جَوَازًا، وَبِالْمُقَيَّدِ اسْتِحْبَابًا، وَلَا جَرَمَ أَنَّهُ قَالَ: يَصِحُّ النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَهُوَ بَوَلِيٍّ أَوْلَى، وَكَذَا عَدَالَةُ الشُّهُودِ أَوْلَى، وَعَدَمُهَا لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» ، عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ وَالْأَوْلَوِيَّةِ، لَا عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ. وَلَعَمْرِي، إِنَّ لِمَذْهَبِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ اتِّجَاهًا.
(2/638)
________________________________________
وَإِنِ اتَّحَدَا حُكْمًا لَا سَبَبًا، كَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَرَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فِي الظِّهَارِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي، وَالْمَالِكِيَّةِ. وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقْلَا.
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إِنْ عَضَدَهُ قِيَاسٌ، حُمِلَ عَلَيْهِ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَعَلَّهُ أَوْلَى.
النَّافِي: لَعَلَّ إِطْلَاقَ الشَّارِعِ وَتَقْيِيدَهُ لِتَفَاوُتِ الْحُكْمَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ عِنْدَهُ ; فَتَسْوِيَتُنَا بَيْنَهُمَا عَكْسُ مَقْصُودِهِ.
الْمُثْبِتُ: عَادَةُ الْعَرَبِ الْإِطْلَاقُ فِي مَوْضِعٍ وَالتَّقْيِيدُ فِي آخَرَ.
وَقَدْ عُلِمَ مِنَ الشَّرْعِ بِنَاءُ قَوَاعِدِهِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ تَخْصِيصِ الْعَامِّ وَتَبْيِينِ الْمُجْمَلِ ; فَكَذَا هَاهُنَا.
وَلِأَنَّهُ قَدْ قَيَّدَ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 282] ، بِـ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاقِ: 2] ، فَإِنِ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ ; فَلَا حَمْلَ، كَتَقْيِيدِ الصَّوْمِ بِالتَّتَابُعِ، وَإِطْلَاقِ الْإِطْعَامِ، إِذْ شَرْطُ الْإِلْحَاقِ اتِّحَادُهُ. وَمَتَى اجْتَمَعَ مُطْلَقٌ، وَمُقَيَّدَانِ مُتَضَادَّانِ، حُمِلَ عَلَى أَشْبَهِهِمَا بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَإِنْ اتَّحَدَا حُكْمًا لَا سَبَبًا» ، هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَهُوَ أَنْ يَخْتَلِفَ سَبَبُهُمَا وَيَتَّحِدَ حُكْمُهُمَا، كَعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَعِتْقِ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، كَمَا وَرَدَ فِي الْآيَتَيْنِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النِّسَاءِ: 92] ، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [الْمُجَادَلَةِ: 3] ، فَسَبَبُهُمَا مُخْتَلِفٌ وَهُوَ الظِّهَارُ وَالْقَتْلُ، وَحُكْمُهُمَا مُتَّحِدٌ، وَهُوَ عِتْقُ الرَّقَبَةِ ; فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ، أَيْ:
(2/639)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ «عِنْدَ الْقَاضِي، وَالْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ» ، أَيْ: بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، «وَأَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبُو إِسْحَاقَ بْنِ شَاقْلَا» مِنْ أَصْحَابِنَا ; فَقَالُوا: لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ هَاهُنَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا.
«وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: إِنْ عَضَدَهُ قِيَاسٌ، حُمِلَ عَلَيْهِ، كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ» .
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُحْمَلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، إِنْ وَافَقَهُ قِيَاسٌ دَلَّ عَلَيْهِ، قِيَاسًا عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ الْخَاصِّ، كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْهُ قِيَاسٌ، لَمْ يُحْمَلِ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي فَهِمْتُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَكَلَامُهُ فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: يُبْنَى عَلَيْهِ، أَيْ: يُبْنَى الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ كَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالْقِيَاسِ الْخَاصِّ.
قُلْتُ: فَتَعْلِيلُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْكَلَامِ، يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُ، وَفَهِمْتُ مِنْ كَلَامِهِ، وَهُوَ أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ هَاهُنَا يَحْتَاجُ إِلَى قِيَاسٍ عَاضِدٍ، مُوَافِقٍ لَهُ، كَمَا أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ يَحْتَاجُ إِلَى قِيَاسٍ مُخَصِّصٍ، لَكِنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يُبْنَى الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، يَحْتَمِلُ مَا فَهِمْتُهُ مِنْ كَلَامِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ قِيَاسُ صُورَةِ الْإِطْلَاقِ، عَلَى صُورَةِ التَّقْيِيدِ، بِجَامِعِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، مِنَ اتِّحَادِ
(2/640)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمِ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَ بِالْإِطْلَاقِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ التَّقْيِيدُ.
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَتَرَتَّبُ فِي الْحُكْمِ خِلَافٌ ; لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، إِنْ وُجِدَ قِيَاسٌ يَدُلُّ عَلَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ حُمِلَ، وَإِلَّا فَلَا ; فَحَمْلُهُ عَلَيْهِ فِي حَالٍ مِنْ حَالَيْنِ، وَعَلَى تَقْدِيرٍ مِنْ تَقْدِيرَيْنِ.
وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ، لَكِنَّ مُسْتَنَدَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ هَلْ هُوَ الْقِيَاسُ أَوْ قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِمُطْلَقِ كَلَامِهِ مُقَيَّدَةً ; فَافْهَمْ هَذَا.
- قَوْلُهُ: «وَلَعَلَّهُ أَوْلَى» ، أَيْ: قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ، إِنْ عَضَدَهُ قِيَاسٌ، حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا، يَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى مِنَ الْخِلَافِ الْمُرْسَلِ، بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الْمُطْلَقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، نَظَرَ إِلَى اتِّحَادِ الْحُكْمِ، وَمَنْ نَفَاهُ، نَظَرَ إِلَى اخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَكِلَا النَّظَرَيْنِ لَيْسَ كَافِيًا فِي مُسْتَنَدِ الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ، فَإِذَا وُجِدَ قِيَاسٌ مُوَافِقٌ لِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، قَوِيَ مُسْتَنَدُهُ ; فَصَلُحَ أَنْ يُثْبَتَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قِيَاسٌ مُوَافِقٌ لَهُ، لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ، اسْتِصْحَابًا لِلْحَالِ فِي ذَلِكَ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ جَوَازِهِ.
(2/641)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- قَوْلُهُ: «النَّافِي» لِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، إِذَا اخْتَلَفَ سَبَبُهُمَا، أَيِ: احْتَجَّ النَّافِي بِأَنْ قَالَ: «لَعَلَّ إِطْلَاقَ الشَّارِعِ» الْحُكْمَ فِي مَوْضِعٍ، «وَتَقْيِيدَهُ» فِي آخَرَ، «لِتَفَاوُتِ الْحُكْمَيْنِ فِي الرُّتْبَةِ عِنْدَهُ» مِثْلُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِي الظِّهَارِ أَخَفُّ مِنْهَا فِي الْقَتْلِ ; فَلِذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْ فِيهِ الرَّقَبَةَ بِالْإِيمَانِ، تَغْلِيظًا عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الْأَغْلَظِ، وَتَخْفِيفًا عَنْهُ فِي الْأَخَفِّ، مُنَاسَبَةً مِنْهُ وَعَدْلًا ; «فَتَسْوِيَتُنَا بَيْنَهُمَا» ، بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، عَكْسُ مَقْصُودِ الشَّارِعِ إِظْهَارَ تَفَاوُتِ الْحُكْمَيْنِ، وَإِنِ احْتَمَلَ وُجُودُ الْمَانِعِ مِنَ الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ جَوَازِهِ، وَجَبَ أَنْ يَسْتَصْحِبَ فِيهِ حَالَ عَدَمِ الْجَوَازِ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ الْإِفْضَاءَ إِلَى عَكْسِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ.
- قَوْلُهُ: «الْمُثْبِتُ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْمُثْبِتُ لِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، بِوُجُوهٍ:
- أَحَدُهَا: أَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ فِي لُغَتِهَا إِطْلَاقُ الْكَلَامِ فِي مَوْضِعٍ، وَتَقْيِيدُهُ فِي آخَرَ، وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَارِدَانِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ ; فَيُحْمَلُ أَمْرُهُمَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي لُغَتِهَا، وَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُقَيَّدِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ «قَدْ عُلِمَ مِنَ الشَّرْعِ بِنَاءُ قَوَاعِدِهِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ» ، كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْخَاصِّ، وَتَبْيِينِ الْمُجْمَلِ بِالْمُبَيَّنِ «فَكَذَا هَاهُنَا» ، يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ ; لِأَنَّهُ مِنْهُ، أَيْ: لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ، لِاحْتِمَالِهِ أَمْرَيْنِ فَأَكْثَرَ، كَالرَّقَبَةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ ; فَتُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ ; لِأَنَّهُ كَالْمُبَيَّنِ بَلْ هُوَ مُبَيَّنٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، بِمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ التَّقْيِيدِ، أَوْ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ مِنْهُ، أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ مِنْ جُمْلَةِ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، الَّتِي يَنْبَغِي بِنَاءُ
(2/642)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَقَدْ شَذَّ عَنِّي الْآنَ مَا أَرَدْتُ بِهِ عِنْدَ الِاخْتِصَارِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ قَدْ وَقَعَ فِي الشَّرْعِ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى وُجُوبِهِ، حَيْثُ قَيَّدْنَا مُطْلَقَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُدَايَنَةِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 282] ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُرَاجَعَةِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاقِ: 2] ، وَحَيْثُ وَجَبَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ; فَلْيَجِبْ فِي نَظَائِرِهَا، إِذْ حُكْمُ الْأَمْثَالِ وَاحِدٌ.
قُلْتُ: مَأْخَذُ الْخِلَافِ هَاهُنَا: أَنَّ إِطْلَاقَ الْمُتَكَلِّمِ فِي مَوْضِعٍ، وَتَقْيِيدَهُ فِي آخَرَ، هَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي إِرَادَتِهِ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ قَاعِدَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَأَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ فِي مَوْضِعٍ اتِّكَالًا عَلَى مَا قَيَّدُوهُ فِي غَيْرِهِ، أَوْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ إِرَادَتِهِ التَّقْيِيدَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ التَّقْيِيدَ، لَقَيَّدَ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ يَقْرُبُ مِنْ دَلَالَةِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ; لِأَنَّ الْقَائِلَ يَقُولُ: لَمَّا قَيَّدَ الرَّقَبَةَ فِي الْقَتْلِ، دُونَ الظِّهَارِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهَا الْإِيمَانَ، وَإِلَّا لَقَيَّدَ فِيهَا، كَمَا قَيَّدَ فِي الْقَتْلِ. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْلَالٌ بِالسُّكُوتِ عَنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، وَفِيهِ مَا فِيهِ، وَالْبَحْثُ مُتَقَابِلٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنِ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ ; فَلَا حَمْلَ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا هُوَ الْقَسَمُ الثَّالِثُ مِنْ أَقْسَامِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ أَنْ
(2/643)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا ; فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ سَبَبُهُمَا، أَوِ اخْتَلَفَ، كَتَقْيِيدِ الصَّوْمِ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَإِطْلَاقِ الْإِطْعَامِ فِيهَا، فَإِنَّ سَبَبَهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَهُوَ الصَّوْمُ وَالْإِطْعَامُ.
وَمِثَالُ اخْتِلَافِ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ تَقْيِيدُ الصَّوْمِ بِالتَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَإِطْلَاقُ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، أَوْ فِدْيَةِ الصَّوْمِ ; فَلَا يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ; لِأَنَّ شَرْطَ إِلْحَاقِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اتِّحَادُهُ، أَيِ: اتِّحَادُ الْحُكْمِ، وَهُوَ هَاهُنَا مُخْتَلِفٌ ; فَيَنْتَفِي الْإِلْحَاقُ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ شَرْطَ الْإِلْحَاقِ اتِّحَادُ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ لَمَّا كَانَ حُكْمُهُمَا بِالنَّظَرِ إِلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ مُخْتَلِفًا، كَانَ فَائِدَةُ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ اتِّحَادَ الْحُكْمِ، وَالتَّخَلُّصَ مِنْ تَعَدُّدِهِ وَتَعَارُضِهِ، اللَّذَيْنِ هُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُهُمَا مُخْتَلِفًا بِالنَّصِّ، انْتَفَتِ الْفَائِدَةُ الْمَذْكُورَةُ ; فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ.
وَقَدْ بَانَ بِقَوْلِنَا: إِنَّ الْحُكْمَ إِذَا اخْتَلَفَ، امْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ، سَوَاءٌ اتَّفَقَ السَّبَبُ أَوِ اخْتَلَفَ، أَنَّ أَقْسَامَ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ أَرْبَعَةٌ ; لِأَنَّ السَّبَبَ وَالْحُكْمَ ; إِمَّاَ أَنْ يَتَّفِقَا أَوْ يَخْتَلِفَا، أَوْ يَتَّفِقَ الْحُكْمُ وَيَخْتَلِفَ السَّبَبُ، أَوْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ وَيَتَّفِقَ السَّبَبُ، وَقَدْ بَانَتْ أَمْثِلَتُهَا، وَهَذِهِ أَصَحُّ وَأَضْبَطُ مِنَ الْقِسْمَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ، وَإِنْ كَانَ الْمُوجِبِ لَهَا أَنَّ ظَاهِرَ الْأَقْسَامِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ثَلَاثَةٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَا إِذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ، يَتَضَمَّنُ الرَّابِعَ بِتَقْدِيرِ اتِّفَاقِ السَّبَبِ وَاخْتِلَافِهِ ; فَاعْلَمْ ذَلِكَ.
(2/644)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَمَتَى اجْتَمَعَ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدَانِ مُتَضَادَّانِ، حُمِلَ» ، يَعْنِي الْمُطْلَقَ «عَلَى أَشْبَهِهِمَا بِهِ» ، يَعْنِي يُحْمَلُ عَلَى مَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنَ الْمُقَيَّدَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فِي صُورَةٍ يَتَّجِهُ فِيهَا ذَلِكَ، كَمَا إِذَا اتَّفَقَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ، أَوِ الْحُكْمُ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّا: إِمَّا أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ; فَيَلْزَمُ التَّضَادُّ، كَالصَّوْمِ، هُوَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مُقَيَّدٌ بِالتَّتَابُعِ، وَفِي مُتْعَةِ الْحَجِّ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ ; فَلَوْ حَمَلْنَا الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مُطْلَقٌ، لَزِمَ أَنْ يَجِبَ فِيهِ التَّتَابُعُ وَالتَّفْرِيقُ مَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ لَا نَحْمِلُهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ; فَتَبْطُلُ قَاعِدَةُ إِلْحَاقِ الْمُطْلَقِ بِالْمُقَيَّدِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَيْهِ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا اعْتِبَاطًا، بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ، مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ ; فَيَكُونُ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ.
وَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ، تَعَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ، وَهُوَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَشْبَهِ بِهِ مِنْهُمَا، بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَا اجْتِهَادَ.
وَمِثَالُهُ الْأَصَحُّ: أَنَّ غَسْلَ الْأَيْدِي فِي الْوُضُوءِ، وَرَدَ مُقَيَّدًا بِالْمَرَافِقِ، وَقَطْعُهَا فِي السَّرِقَةِ مُقَيَّدٌ بِالْكُوعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَسْحُهَا فِي الَّتَّيَمُّمِ وَرَدَ مُطْلَقًا ; فَهَلْ يُلْحَقُ بِالْقَطْعِ فِي تَقْيِيدِهِ بِالْكُوعِ، أَوْ بِالْغَسْلِ فِي تَقْيِيدِهِ بِالْمَرَافِقِ؟ وَلِهَذَا خَرَجَ الْخِلَافُ فِيهِ.
أَمَّا تَرَدُّدُ صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَيْنَ صَوْمِ الظِّهَارِ وَالْحَجِّ ; فَمِثَالٌ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَا وَرَدَ عَنِ الشَّرْعِ إِلَّا مُقَيَّدًا بِالتَّتَابُعِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ»
(2/645)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَنَّهَا إِمَّا قُرْآنٌ، أَوْ خَبَرٌ، كَمَا سَبَقَ. نَعَمْ يَصِحُّ تَمْثِيلُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ بِهِ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى التَّتَابُعَ فِيهِ، وَضَرْبُ الْأَمْثِلَةِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ لَا يَخْتَصُّ بِمَذْهَبٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/646)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْمُجْمَلُ
الْمُجْمَلُ: لُغَةً: مَا جُعِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لَا يَنْفَرِدُ بَعْضُ آحَادِهَا عَنْ بَعْضٍ، وَاصْطِلَاحًا: اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ مُحْتَمَلَيْنِ فَصَاعِدًا عَلَى السَّوَاءِ. وَقِيلَ: مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى.
قُلْتُ: مُعَيَّنٌ وَإِلَّا بَطَلَ بِالْمُشْتَرَكِ ; فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى غَيْرُ مُعَيَّنٍ. وَهُوَ إِمَّا فِي الْمُفْرَدِ، كَالْعَيْنِ، وَالْقُرْءِ، وَالْجَوْنِ، وَالشَّفَقِ فِي الْأَسْمَاءِ، وَعَسْعَسَ، وَبَانَ فِي الْأَفْعَالِ، وَتَرَدُّدِ «الْوَاوِ» بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ فِي نَحْوِ: (وَالرَّاسِخُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، وَ «مِنْ» بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالتَّبْعِيضِ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ فِي الْحُرُوفِ، أَوْ فِي الْمُرَكَّبِ كَتَرَدُّدِ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ، وَقَدْ يَقَعُ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ كَالْمُخْتَارِ وَالْمُغْتَالِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَحُكْمُهُ التَّوَقُّفُ عَلَى الْبَيَانِ الْخَارِجِيِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْمُجْمَلُ» .
لَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، أَخَذَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ.
الْمُجْمَلُ لُغَةً، أَيْ: فِي اللُّغَةِ، «مَا جُعِلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً، لَا يَنْفَرِدُ
(2/647)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضُ آحَادِهَا عَنْ بَعْضٍ» ، كَالْمُجْمَلِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَدْ أَجْمَلْتُ الْحِسَابَ: إِذَا رَدَدْتُهُ إِلَى الْجُمْلَةِ.
قُلْتُ: وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْقَدَرِ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، لَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ. وَذَكَرَ فِي أَهْلِ النَّارِ كَذَلِكَ، الْحَدِيثَ، وَمَادَّةُ الْكَلِمَةِ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى التَّكْثِيرِ وَالِاجْتِمَاعِ وَانْضِمَامِ الْآحَادِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَقِيلَ: الْمُجْمَلُ الْمُحَصَّلُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَجْمَلْتُ الْحِسَابَ: إِذَا حَصَّلْتُهُ.
قُلْتُ: الْأَوَّلُ أَشْبَهُ.
- قَوْلُهُ: «وَاصْطِلَاحًا» ، أَيْ: وَالْمُجْمَلُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: «هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ مُحْتَمَلَيْنِ فَصَاعِدًا عَلَى السَّوَاءِ» ، أَيْ: لَا رُجْحَانَ لَهُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ.
فَقَوْلُنَا: اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ، احْتِرَازٌ مِنَ النَّصِّ ; فَإِنَّهُ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، إِذْ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا.
(2/648)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُنَا: «عَلَى السَّوَاءِ» احْتِرَازٌ مِنَ الظَّاهِرِ ; فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مُحْتَمَلَيْنِ، لَكِنْ لَا عَلَى السَّوَاءِ، بَلْ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَظَهَرُ، وَكَالْحَقِيقَةِ الَّتِي لَهَا مَجَازٌ ; فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَظَهَرُ، وَالْمُجْمَلُ فِي الْأَلْفَاظِ كَالشَّكِّ فِي الْإِدْرَاكِ ; لِأَنَّ الشَّكَّ: هُوَ احْتِمَالُ أَمْرَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْمُجْمَلُ: مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ، لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى» .
هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِلْمُجْمَلِ، وَهُوَ الَّذِي قُدِّمَ فِي أَصْلِ «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ نَاقِصٌ ; لِأَنَّ مَا لَا يُفِيدُ مَعْنًى لَيْسَ كَلَامًا، وَهُوَ مَوْضُوعُ نَظَرِ أَحَدٍ، لَا لُغَوِيٍّ، وَلَا أُصُولِيٍّ، وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ لَفْظٌ مُهْمَلٌ، وَالْمُجْمَلُ يُفِيدُ مَعْنًى، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمَا تَعَيَّنَ مُرَادُهُ بِالْبَيَانِ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ كَاشِفٌ عَنِ الْمُرَادِ بِالْمُجْمَلِ، لَا مُنْشِئٌ لِلْمُرَادِ ; فَلِذَلِكَ كَمَّلْتُ هَذَا التَّعْرِيفَ بِقَوْلِي: قُلْتُ: مُعَيَّنٌ، أَيِ: الْمُجْمَلُ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى مُعَيَّنٌ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا بَطَلَ بِالْمُشْتَرَكِ» ، أَيْ: لَوِ اقْتَصَرْنَا فِي تَعْرِيفِ الْمُجْمَلِ عَلَى مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى، لَبَطَلَ بِالْمُشْتَرَكِ نَحْوُ الْقُرْءِ لِلْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالْجَوْنِ لِلْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَالْعَيْنِ لِلذَّهَبِ وَالْعُضْوِ الْبَاصِرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُجْمَلٌ، وَهُوَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ; فَإِنَّا إِذَا أَطْلَقْنَا لَفَظَ الْقُرْءِ ; فَهِمْنَا مِنْهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَهُوَ مَعْنًى مُجْمَلٌ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ إِمَّا فِي الْمُفْرَدِ» ، إِلَى آخِرِهِ. يَعْنِي الْمُجْمَلَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي
(2/649)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، أَوِ الْمُرَكَّبِ، وَالْوَاقِعُ فِي الْمُفْرَدِ، إِمَّا أَنْ يَقَعَ فِي الْأَسْمَاءِ، أَوِ الْأَفْعَالِ، أَوِ الْحُرُوفِ.
أَمَّا فِي الْأَسْمَاءِ ; فَكَالْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ ; فَإِنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ، وَهِيَ أَخَصُّ مِنْهُ، إِذْ كَلُّ مُشْتَرَكٍ مُجْمَلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مُجْمَلٍ مُشْتَرَكًا، وَذَلِكَ كَالْعَيْنِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ مُحْتَمَلَاتِهِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، وَالْقُرْءِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَالْجَوْنِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ، وَالشَّفَقِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ.
وَلِهَذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي دُخُولِ وَقْتِ عِشَاءِ الْآخِرَةِ، هَلْ هُوَ بِغَيْبُوبَةِ حُمْرَةِ الشَّمْسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ، أَوْ بِغَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ الَّذِي هُوَ بَعْدَهَا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الشَّفَقِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَثَرِ، هُوَ الْبَيَاضُ أَوِ الْحُمْرَةُ.
وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا لُغَةً، لَكِنَّ أَكْثَرَ السَّلَفِ، كَابْنِ عُمَرَ، وَعُبَادَةَ، وَشَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَغَيْرِهِمْ فَسَّرُوهُ بِالْحُمْرَةِ هَاهُنَا.
وَأَمَّا فِي الْأَفْعَالِ ; فَنَحْوُ: عَسْعَسَ، بِمَعْنَى أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: يُقَالُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ: إِذَا أَقْبَلَ ظَلَامُهُ. قَالَ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى عَسْعَسَ: أَدْبَرَ.
قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التَّكْوِيرِ: 17] ، يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَقْسَمَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى إِقْبَالِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ، أَيْ: أَقْبَلَ، وَعَلَى إِقْبَالِ النَّهَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(2/650)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التَّكْوِيرِ: 18] ، أَوْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَقْسَمَ بِقُدْرَتِهِ عَلَى إِذْهَابِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} ، أَيْ: أَدْبَرَ، وَعَلَى الْإِتْيَانِ بِالنَّهَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَاخْتِلَافَهُمَا، مِنْ أَعْجَبِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَدَلِّهَا عَلَى قُدْرَةِ الْبَارِئِ وَحِكْمَتِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ ذِكْرُهُمَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، نَحْوَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الْبَقَرَةِ: 164] ، {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الْحَدِيدِ: 6] ، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [الْقَصَصِ: 73] ، فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَكَذَلِكَ «بَانَ» بِمَعْنَى ظَهَرَ، وَمِنْهُ: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ} [الْبَقَرَةِ: 256] ، {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} [النُّورِ: 18] ، وَبَانَ بِمَعْنَى غَابَ وَاخْتَفَى، وَمِنْهُ: بَانَتْ سُعَادُ، بَانَ الْخَلِيطُ، وَمِنْهُ الْبَيْنُ، وَهُوَ الْفِرَاقُ وَالْبُعْدُ، وَمِنْهُ: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الْأَنْعَامِ: 94] ، وَغُرَابُ الْبَيْنِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا فِي الْحُرُوفِ ; فَنَحْوُ «تَرَدُّدِ الْوَاوِ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ فِي نَحْوِ» قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، مُسْتَوْفًى بِحَمْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْهُ. وَكَتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْعَطْفِ وَالْحَالِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الْأَنْفَالِ: 66] .
لِأَنَّهَا إِنْ جُعِلَتْ عَاطِفَةً، لَزِمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِضَعْفِهِمْ حَدَثَ الْآنَ، وَبِهِ احْتَجَّ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى حُدُوثِ عِلْمِ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ بِالْمَعْلُومَاتِ.
وَإِنْ جُعِلَتْ حَالِيَّةً، كَانَ تَقْدِيرُهُ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ، عَالِمًا أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ; فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَا ذُكِرَ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا يَضْعُفُ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُوجِبُ إِضْمَارَ
(2/651)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«قَدْ» ، أَيِ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَقَدْ عَلِمَ ; لِأَنَّ الْمَاضِيَ لَا يَقَعُ حَالًا إِلَّا مَعَ قَدْ ظَاهِرَةً أَوْ مُقَدَّرَةً، نَحْوُ: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ} [النِّسَاءِ: 90] ، أَيْ: وَقَدْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَنَحْوُ تَرَدُّدِ مِنْ بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَالتَّبْعِيضِ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [الْمَائِدَةِ: 6] ; فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَعْنَاهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، أَيِ: اجْعَلُوا ابْتِدَاءَ الْمَسْحِ مِنَ الصَّعِيدِ، أَوِ ابْتَدِئُوا الْمَسْحَ مِنَ الصَّعِيدِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هِيَ لِلتَّبْعِيضِ، أَيِ: امْسَحُوا وُجُوهَكُمْ بِبَعْضِ الصَّعِيدِ ; فَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ لِمَا يُتَيَمَّمُ بِهِ غُبَارٌ، يَعْلَقُ بِالْيَدِ، لِيَتَحَقَّقَ الْمَسْحُ بِبَعْضِهِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمَسْحِ مِنَ الصَّعِيدِ: وَهُوَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضَ ; فَقَدْ حَصَلَ ; فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ عُهْدَةِ النَّصِّ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ غُبَارٌ أَوْ لَا.
وَكَذَلِكَ الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 6] تَرَدُّدٌ بَيْنَ الْإِلْصَاقِ وَالتَّبْعِيضِ، عَلَى مَا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيَّةُ، وَنَقَلُوهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ ; فَانْبَنَى عَلَيْهِ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنْكَرُوا وُرُودَ الْبَاءِ لِلتَّبْعِيضِ.
وَالْمَأْخَذُ الْجَيِّدُ فِي تَبْعِيضِ مَسْحِ الرَّأْسِ غَيْرُ هَذَا، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبَاءَ اسْتُعْمِلَتْ فِي اللُّغَةِ تَارَةً بِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ، نَحْوَ: أَمْسَكْتُ الْحَبَلَ بِيَدِي، أَيْ: أَلْصَقْتُهَا بِهِ، وَتَارَةً لِلتَّبْعِيضِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ
(2/652)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَوْضُوعَةً لَهُ، نَحْوَ: مَسَحْتُ بِرَأْسِ الْيَتِيمِ، وَمَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ، وَأَخَذْتُ بِثَوْبِ الرَّجُلِ، وَبِرِكَابِهِ.
وَلَمَّا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْمَعْنَيَيْنِ، بَقِيَتْ فِي الْآيَةِ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَهُمَا ; فَكَانَتْ مُجْمَلَةً ; فَاقْتُصِرَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى مُطْلَقِ الِاسْمِ ; لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ ; فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ.
وَيُرَدُّ عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ، أَنَّ الْبَاءَ حَيْثُ اسْتُعْمِلَتْ لِلتَّبْعِيضِ، كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا، لِقَرَائِنَ ظَاهِرَةٍ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَالْأَصْلُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ، كَمَا سَبَقَ.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ، هَلْ يَكْتَفِي بِأَوَّلِ ذَلِكَ الِاسْمِ، أَوْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَهُ؟ فَلَمَّا عُلِّقَ الْمَسْحُ بِالرَّأْسِ هُنَا، اتَّجَهَ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمُجْمَلُ الْوَاقِعُ فِي اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ ; فَكَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [الْبَقَرَةِ: 237] ; فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوَلِيِّ وَالزَّوْجِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَلْقَمَةُ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَشُرَيْحٌ، وَالْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الْوَلِيُّ، الَّذِي الْمَرْأَةُ فِي حِجْرِهِ ; فَهُوَ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الَّتِي لَمْ تَمْلِكْ أَمْرَهَا، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الزَّوْجُ. قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
(2/653)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْهُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَشُرَيْحٌ رَجَعَ إِلَيْهِ.
قُلْتُ: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ الْوَلِيُّ الْأَبُ وَسَيِّدُ الْأَمَةِ. وَالْمُخْتَارُ الرَّاجِحُ فِي النَّظَرِ: أَنَّهُ الْوَلِيُّ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْتُ أَدِلَّتَهُ اعْتِرَاضًا وَجَوَابًا فِي التَّفْسِيرِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ.
- قَوْلُهُ: «وَقَدْ يَقَعُ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ، كَالْمُخْتَارِ وَالْمُغْتَالِ، لِلْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ» ، يَعْنِي أَنَّ الْإِجْمَالَ أَوِ الْمُجْمَلَ، قَدْ يَقَعُ فِي الْكَلَامِ مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ يَقَعُ عَارِضًا مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ ; وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعَرَفُ بِهِ أَحْوَالُ أَبْنِيَةِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ كَالْمُخْتَارِ ; فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الِاخْتِيَارُ، وَبَيْنَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الِاخْتِيَارُ ; فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُخْتَارٌ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ: وَقَعَ مِنْهُ اخْتِيَارُهُ رَسُولًا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُخْتَارٌ، أَيْ: وَقَعَ عَلَيْهِ اخْتِيَارُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَكَذَلِكَ الْمُغْتَالُ ; يَصْلُحُ لِمَنِ اغْتَالَ غَيْرَهُ، أَيْ: قَتَلَهُ غِيلَةً، أَيْ: خُفْيَةً، وَلِمَنِ اغْتِيلَ، أَيْ: قُتِلَ كَذَلِكَ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ مُخْتَارَ أَصْلُهُ مُخْتِيرٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ فِي الْفَاعِلِ وَفَتْحِهَا لِلْمَفْعُولِ، نَحْوَ: مُصْطَفِي وَمُصْطَفًى، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ كَسْرًا وَفَتْحًا، وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا، قُلِبَتْ أَلِفًا وَالْأَلِفُ لَا تَحْمِلُ الْحَرَكَةَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْفَاعِلُ مِنَ الْمَفْعُولِ ; فَلَا جَرَمَ وَقَعَ اللَّبْسُ، وَجَاءَ الْإِجْمَالُ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْمُغْتَالِ.
(2/654)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- قَوْلُهُ: «وَحُكْمُهُ التَّوَقُّفُ عَلَى الْبَيَانِ الْخَارِجِيِّ» ، أَيْ: وَحُكْمُ الْمُجْمَلِ أَنْ يُتَوَقَّفَ فِيهِ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُبَيِّنِ لِلْمُرَادِ بِهِ، خَارِجًا عَنْ لَفْظِهِ، كَمَا أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وَالظَّاهِرِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْنَا الْعَمَلَ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَالْمُجْمَلُ لَا دَلِيلَ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ ; فَلَا نُكَلَّفُ بِالْعَمَلِ بِهِ. فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِالْمُجْمَلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا ذَلِكَ أَيْضًا: هُوَ أَنَّ فِي الْعَمَلِ بِهِ تَعَرُّضًا بِالْخَطَأِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ، وَالتَّعَرُّضُ بِالْخَطَأِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا بِالْخَطَأِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ إِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ ; فَإِمَّا أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا، أَوْ لَا يُرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، أَوْ يُرَادَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ; فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ، يَسْقُطُ مِنْهَا الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ لَا يُرَادَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْحُكَمَاءِ، أَنْ يَتَكَلَّمُوا كَلَامًا لَا يَقْصِدُونَ بِهِ مَعْنًى، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، لَا دَلِيلَ عَلَى إِرَادَةِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا.
فَإِذَا أَقْدَمْنَا عَلَى الْعَمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ، احْتَمَلَ أَنْ نُوَافِقَ مُرَادَ الشَّرْعِ ; فَنَصِيبُ حُكْمَهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ نُخَالِفَهُ ; فَنُخْطِئُ حُكْمَهُ ; فَتَحَقَّقَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُجْمَلِ قَبْلَ الْبَيَانِ تَعَرَّضَ بِالْخَطَأِ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ; فَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ، وَالتَّعَرُّضُ بِالْخَطَأِ فِيهِ يُنَافِي تَعْظِيمَهُ ; فَيَكُونُ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنَ الْإِهْمَالِ لَهُ، وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ وَالِاحْتِفَالِ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
(2/655)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِثَالُ ذَلِكَ، لَوْ قَالَ: إِذَا غَابَ الشَّفَقُ ; فَصَلُّوا الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ بِالشَّفَقِ الْحُمْرَةَ وَالْبَيَاضَ جَمِيعًا، وَأَنْ يُرِيدَ الْحُمْرَةَ فَقَطْ، وَأَنْ يُرِيدَ الْبَيَاضَ فَقَطْ.
فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُرِيدَهُمَا جَمِيعًا ; فَلَوْ صَلَّيْنَا قَبْلَ مَغِيبِ الْبَيَاضِ، أَخْطَأْنَا، فَلَمَّا جَاءَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ، فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ ; فَقَدْ وَجَبَ عِشَاءُ الْآخِرَةِ» . عِلِمْنَا الْمُرَادَ.
وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ، أَوْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ، قَالَ: الْأَصْلُ بَقَاءُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ ; فَمَنِ ادَّعَى خُرُوجَهُ بِمُجَرَّدِ غَيْبُوبَةِ الْحُمْرَةِ ; فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّيَ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الْبَيَاضِ مُمْتَثِلٌ إِجْمَاعًا، وَقَبْلَهُ مُخْتَلَفٌ فِي امْتِثَالِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ ; فَيُسْتَصْحَبُ فِيهِ الْحَالُ.
(2/656)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [الْبَقَرَةِ: 238] ، احْتَمَلَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُيَّضُ وَالْأَطْهَارُ، وَأَنَّ الْعِدَّةَ تَنْقَضِي بِأَيِّهِمَا كَانَ، وَاحْتَمَلَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُيَّضُ فَقَطْ، أَوِ الْأَطْهَارُ فَقَطْ ; فَلَوْ أَمَرْنَاهَا قَبْلَ الْبَيَانِ بِبَعْضِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَلَمْ يُوَافِقْ مُرَادَ الشَّرْعِ فِيهِ، كُنَّا مُخْطِئِينَ، فَلَمَّا جَاءَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطَّلَاقِ: 4] ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ ; لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ جَعَلَ الشُّهُورَ فِي الْآيِسَةِ بَدَلًا عَنِ الْحُيَّضِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} ، وَلَمْ يَقُلْ: يَئِسْنَ مِنَ الْأَطْهَارِ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ «قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْحَائِضِ: اتْرُكِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ»
(2/657)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالصَّلَاةُ إِنَّمَا تُتْرَكُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ لَا الطُّهْرِ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ أَقْوَى مِنَ الْحَدِيثِ.
(2/658)
________________________________________
وَقَدِ ادُّعِيَ الْإِجْمَالُ فِي أُمُورٍ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ. مِنْهَا نَحْوُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، أَيْ: أَكْلُهَا، وَأُمَّهَاتُكُمْ [النِّسَاءِ: 23] ، أَيْ: وَطْؤُهُنَّ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِلْقَاضِي وَالْكَرْخِيِّ.
لَنَا: الْحُكْمُ، الْمُضَافُ إِلَى الْعَيْنِ يَنْصَرِفُ لُغَةً وَعُرْفًا إِلَى مَا أُعِدَّتْ لَهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالُوا: الْمُحَرَّمُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، لَا نَفْسِهَا، وَالْأَفْعَالُ مُتَسَاوِيَةٌ.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلِ التَّرْجِيحُ عُرْفِيٌّ كَمَا ذُكِرَ، وَكَذَا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الْبَقَرَةِ: 275] ، مُجْمَلٌ عِنْدِ الْقَاضِي لِتَرَدُّدِ الرِّبَا بَيْنَ مُسَمَّيَيْهِ، اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَقَدِ ادُّعِيَ الْإِجْمَالُ فِي أُمُورٍ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ» .
أَيِ: ادَّعَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ أَنَّهَا مُجْمَلَةٌ، وَلَيْسَتْ مُجْمَلَةً.
«مِنْهَا» ، أَيْ: مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي ادُّعِيَ الْإِجْمَالُ فِيهَا وَلَيْسَتْ مُجْمَلَةً، إِضَافَةُ الْأَحْكَامِ إِلَى الْأَعْيَانِ، نَحْوُ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النِّسَاءِ: 23] ، وَ {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [الْمَائِدَةِ: 4] ، لَا إِجْمَالَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ: حَرُمَ عَلَيْكُمْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَوَطْءُ الْأُمَّهَاتِ. وَأُحِلَّ لَكُمْ أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ. وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى، وَالْكَرْخِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ،
(2/659)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُجْمَلٌ.
«لَنَا» عَلَى عَدَمِ الْإِجْمَالِ: أَنَّ «الْحُكْمَ الْمُضَافَ إِلَى الْعَيْنِ، يَنْصَرِفُ لُغَةً وَعُرْفًا إِلَى مَا أُعِدَّتْ لَهُ» مِنَ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَوَطْءِ الْأُمَّهَاتِ، إِذْ لَيْسَتِ الْمَيْتَةُ وَالْأُمَّهَاتُ مُعَدَّةً فِي مَشْهُورِ الْعُرْفِ إِلَّا لِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [الْمَائِدَةِ: 1] ، {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [الْمَائِدَةِ: 96] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ; فُهِمَ مِنْهُ الْأَكْلُ، وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النِّسَاءِ: 24] ; فُهِمَ مِنْهُ النِّكَاحُ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا نَظَرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِجْمَالَ يُخِلُّ بِالتَّفَاهُمِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
- قَوْلُهُ: «قَالُوا:» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلُ الْخَصْمِ عَلَى الْإِجْمَالِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْأَعْيَانَ أَنْفُسَهَا لَا تَتَّصِفُ بِالتَّحْرِيمِ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَالْأَفْعَالُ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ، إِذْ لَا يَدْرِي هَلِ الْمُحَرَّمُ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا، أَمْ بَيْعُهَا، أَمِ النَّظَرُ إِلَيْهَا، أَمْ لَمْسُهَا؟ وَمِنَ الْأُمِّ وَطْؤُهَا، أَمِ النَّظَرُ إِلَيْهَا، أَمْ لَمْسُهَا؟ وَإِضْمَارُ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ الْمُحْتَمَلَةِ تَكْثِيرٌ لِمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْإِضْمَارُ ; فَلَا يَجُوزُ إِضْمَارُ فِعْلٍ مُعَيَّنٍ لَا دَلِيلَ فِي اللَّفْظِ عَلَيْهِ ; فَتَعَيَّنَ الْإِجْمَالُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
- قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَمْنُوعٌ، بَلِ التَّرْجِيحُ عُرْفِيٌّ كَمَا ذُكِرَ» ، أَيْ: تَسَاوِي الْأَفْعَالِ فِي فَهْمِ تَعَلُّقِهَا بِالْأَعْيَانِ مَمْنُوعٌ، بَلْ رُجْحَانُ تَعَلُّقِ بَعْضِهَا حَاصِلٌ بِالْعُرْفِ، كَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ وَالْعُرْفِ تُبَادِرُ أَفْهَامُهُمْ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ:
(2/660)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَرَّمْتُ عَلَيْكَ هَذَا الطَّعَامَ ; إِلَى تَحْرِيمِ أَكْلِهِ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ، إِلَى تَحْرِيمِ وَطْئِهَا، دُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَلَوْ سَلَّمْنَا عَدَمَ هَذَا الرُّجْحَانِ عُرْفًا أَوْ لُغَةً، لَكُنَّا نُضْمِرُ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهَا بِالْعَيْنِ ; لِأَنَّ الْإِضْمَارَ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنَ الْإِجْمَالِ، وَإِذَا أَضْمَرْنَا جَمِيعَ الْأَفْعَالِ ; فَلَا إِجْمَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
- قَوْلُهُ: «وَكَذَا» : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [الْبَقَرَةِ: 275] ، مُجْمَلٌ عِنْدِ الْقَاضِي ; لِتَرَدُّدِ الرِّبَا بَيْنَ مُسَمَّيَيْهِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ كَيْفَ كَانَتْ، وَحَيْثُ كَانَتْ، وَفِي الشَّرْعِ: هُوَ زِيَادَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهُوَ التَّفَاضُلُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ، وَصَاعٍ بِصَاعَيْنِ ; فَنَتَوَقَّفُ فِيهِ، حَتَّى نَعْلَمَ أَيَّ الزِّيَادَتَيْنِ أَرَادَ. هَكَذَا قَرَّرَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ.
وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فَقَطْ، وَهُوَ أَصَحُّ وَأَوْلَى.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْبِيَاعَاتِ فِي الشَّرْعِ، مِنْهَا حَلَالٌ كَالْعُقُودِ الْمُسْتَجْمِعَةِ لِشُرُوطِ الصِّحَّةِ، وَمِنْهَا حَرَامٌ كَبُيُوعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ التَّلَقِّي، وَالْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَنَحْوِهِ.
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَيْعَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} مُجْمَلٌ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْبِيَاعَاتِ الْجَائِزَةِ وَالْمُحَرَّمَةِ، ثُمَّ وَرَدَ الْبَيَانُ مِنَ الشَّرْعِ، بِالْمُحَرَّمِ مِنْهَا مِنَ الْجَائِزِ.
(2/661)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عَامٌّ فِي الْبُيُوعِ الْجَائِزَةِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ خَصَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا بِأَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ، وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ ثَابِتًا بِالْعُمُومِ الْأَوَّلِ، وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ نَوْعٌ مِنَ الْبَيَانِ.
نَعَمْ، تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [الْبَقَرَةِ: 275] ، إِنْ قُلْنَا: هُوَ مُجْمَلٌ بُيِّنَ كَانَ حُجَّةً بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ عَامٌّ خُصَّ كَانَ فِي بَقَائِهِ حُجَّةُ الْخِلَافِ السَّابِقِ، فِي أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ أَمْ لَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ، فَكَوْنُهُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ أَوْلَى، وَأَكْثَرُ، وَأَشْهَرُ.
(2/662)
________________________________________
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ» «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» . وَهُوَ مُجْمَلٌ عِنْدِ الْحَنَفِيَّةِ، قِيلَ: لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَقِيلَ: لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى نَفْيِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ ; فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ، وَالْأَحْكَامُ مُتَسَاوِيَةٌ.
وَلَنَا: أَنَّ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّرْعِيَّةَ غَلَبَتْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ ; فَاللُّغَوِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا مَجَازٌ، وَأَيْضًا اشْتَهَرَ عُرْفًا نَفْيُ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ، نَحْوُ: لَا عِلْمَ إِلَّا مَا نَفَعَ، وَلَا بَلَدَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ. فَيُحْمَلُ هُنَا عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ لِانْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي «لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَمِنْهَا» ، أَيْ: وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي ادُّعِيَ الْإِجْمَالُ فِيهَا، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ،» «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» . وَنَحْوُهُ «وَهُوَ مُجْمَلٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ» ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ
(2/663)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْبَصْرِيِّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ.
قَوْلُهُ: «قِيلَ: لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ» ، أَيْ: ثُمَّ، تَارَةً يُوَجَّهُ إِجْمَالُ ذَلِكَ، بِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، كَالصَّلَاةِ بَيْنَ الدُّعَاءِ، وَالْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالصِّيَامِ بَيْنَ الْإِمْسَاكِ الْمُطْلَقِ لُغَةً، وَالْإِمْسَاكِ الْخَاصِّ شَرْعًا ; فَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا الْمُرَادُ.
وَتَارَةً يُوَجَّهُ إِجْمَالُهُ، بِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ» ; إِمَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ صُورَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ نَفْيُ حُكْمِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ صُورَةَ الصَّلَاةِ شَرْعًا يُمْكِنُ إِيجَادُهَا بِغَيْرِ طَهُورٍ، كَصَلَاةِ الْمُحْدِثِ ; فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ حُكْمِ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَكِنَّ الْأَحْكَامَ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ، كَالصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ، وَالْإِجْزَاءِ ; فَيَبْقَى الْكَلَامُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ: لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ، أَوْ لَا تَكْمُلُ، أَوْ لَا تُجْزِئُ، أَوْ لَا تُقْبَلُ بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهَا الْمُرَادُ ; فَيَجِيءُ الْإِجْمَالُ.
قَوْلُهُ: «وَلَنَا» ، يَعْنِي عَلَى نَفْيِ الْإِجْمَالِ فِي هَذَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْمَوْضُوعَاتُ، يَعْنِي الْمُصْطَلَحَاتِ، الشَّرْعِيَّةَ غَلَبَتْ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، لِمَا سَبَقَ فِي إِثْبَاتِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، مِنْ أَنَّ الشَّارِعَ شَأْنُهُ بَيَانُ الْأَحْكَامِ، لَا بَيَانُ اللُّغَاتِ، وَحِينَئِذٍ صَارَتِ الْمَوْضُوعَاتُ اللُّغَوِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْعِيَّةِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مَجَازًا كَمَا سَبَقَ، فَإِذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ
(2/664)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمَجَازِ ; فَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى بِهِ ; فَإِذَنْ حَمْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا صَلَاةَ، وَلَا صِيَامَ وَنَحْوِهِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ ; فَلَا إِجْمَالَ فِيهِ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ تَوَجُّهِ الْإِجْمَالِ أَوَّلًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ اشْتَهَرَ فِي الْعُرْفِ نَفْيُ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ: لَا عِلْمَ إِلَّا مَا نَفَعَ، وَلَا بَلَدَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ غَيْرُ النَّافِعِ عِلْمًا بِالْحَقِيقَةِ، وَالْبَلَدُ الَّذِي لَا سُلْطَانَ فِيهِ بَلَدًا بِالْحَقِيقَةِ ; فَيُحْمَلُ الْكَلَامُ هُنَا عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، لِانْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَالصِّيَامَ بِغَيْرِ تَبْيِيتِ نِيَّةٌ لَا يُفِيدَانِ ; فَانْتَفَتْ صِحَّتُهُمَا، لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِمَا، إِذْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الصِّحَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْتِيبِ الْفَوَائِدِ، وَالْآثَارِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْفِعْلِ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ تَوْجِيهِ الْإِجْمَالِ ثَانِيًا.
قَوْلُهُمْ: «حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الصُّورَةِ بَاطِلٌ» .
قُلْنَا: نَعَمْ.
قَوْلُهُمْ: «تَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ، وَالْأَحْكَامُ مُتَسَاوِيَةٌ» .
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ تَسَاوِيَهَا، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ أَوْلَى، عُرْفًا وَلُغَةً، لِدُخُولِ حَرْفِ النَّفْيِ عَلَى ذَاتِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ نَفْيُ صُورَتِهِ، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ صِحَّتِهِ أَقْرَبَ إِلَى حَمْلِهِ عَلَى نَفْيِ صُورَتِهِ ; فَكَانَ أَوْلَى.
وَقَدْ قُرِّرَ الدَّلِيلُ فِي هَذَا الْأَصْلِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ: أَنَّ الشَّارِعَ، إِنْ كَانَ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عُرْفٌ، وَجَبَ تَنْزِيلُ لَفْظِهِ عَلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ فِي
(2/665)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُرْفِهِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْغَالِبَ مُخَاطَبَتُهُ لَنَا بِعُرْفِهِ ; فَلَا إِجْمَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا عُرْفٌ ; فَلَا إِجْمَالَ أَيْضًا حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ عُرْفًا، وَهُوَ نَفْيُ الْفَائِدَةِ وَالْجَدْوَى. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الصِّحَّةِ، إِذْ صَحِيحٌ، لَا فَائِدَةَ وَلَا جَدْوَى لَهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْإِضْمَارِ، أَضْمَرْنَا نَفْيَ الصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ جَمِيعًا، إِذْ مَا يُمْكِنُ إِضْمَارُهُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهُمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ تَكْثِيرٌ لِلْإِضْمَارِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: تَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ مَعَ حُصُولِ الْبَيَانِ أَوْلَى مِنَ الْإِجْمَالِ.
قَوْلُهُ: «وَكَذَا الْكَلَامُ فِي» قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ» ، أَيْ: لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، إِذِ الْمُرَادُ نَفْيُ فَائِدَتِهِ وَجَدْوَاهُ بِدُونِ النِّيَّةِ ; فَتَنْتَفِي صِحَّتُهُ لِمَا مَرَّ، وَمَنِ ادَّعَى إِجْمَالَهُ، قَالَ: صُورَةُ الْعَمَلِ بِدُونِ النِّيَّةِ لَا تَنْتَفِي ; فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ نَفْيَ حُكْمِهِ، وَأَحْكَامُهُ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ، كَالصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ ; فَجَاءَ الْإِجْمَالُ.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ تَسَاوِيَ أَحْكَامِهِ، بَلْ نَفْيُ الصِّحَّةِ أَظْهَرُ عُرْفًا وَلُغَةً كَمَا سَبَقَ. سَلَّمْنَا تَسَاوِيَهَا لَكِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ جَمِيعِهَا، وَتَكْثِيرُ الْإِضْمَارِ أَوْلَى مِنَ الْإِجْمَالِ.
(2/666)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَنْبِيهٌ: النِّزَاعُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . مِنْ هَذَا الْبَابِ ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ; فَاخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ الصِّحَّةُ؟ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ صَحِيحَةٌ، أَوِ الْكَمَالُ؟ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ كَامِلَةٌ، وَالْأَظْهَرُ إِضْمَارُ الصِّحَّةِ لِمَا سَبَقَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/667)
________________________________________
وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، أَيْ: رُفِعَ حُكْمُهُ، إِذْ حَمْلُهُ عَلَى رَفْعِ حَقِيقَتِهِ يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْخَبَرِ لِوُقُوعِهَا مِنَ النَّاسِ كَثِيرًا.
ثُمَّ قِيلَ: رُفِعَ الْإِثْمُ خَاصَّةً دُونَ الضَّمَانِ وَالْقَضَاءِ، إِذْ لَيْسَ صِيغَةَ عُمُومٍ فَيَعُمَّ كُلَّ حُكْمٍ، وَأَفْسَدَهُ أَبُو الْخَطَّابِ بِأَنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ الْأُمَّةِ بِهِ، إِذِ النَّاسِي وَنَحْوُهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ أَصْلًا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ.
قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا حَيْثُ لَزِمَ الْقَضَاءُ أَوِ الضَّمَانُ بَعْضَ مَنْ ذُكِّرَ، كَنَاسِي الصَّلَاةِ يَقْضِيهَا، وَالْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ يُقْتَلُ، أَوْ يُضَمَّنُ، يَكُونُ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَمِنْهَا» ، أَيْ: وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي ادُّعِيَ فِيهَا الْإِجْمَالُ، وَلَيْسَتْ مُجْمَلَةً: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، أَيْ: رُفِعَ حُكْمُهُ، يَعْنِي أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ: رَفْعُ حُكْمُ
(2/668)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْخَطَأِ، وَالنِّسْيَانِ، وَالْإِكْرَاهِ ; لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى رَفْعِ حَقِيقَةِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، يَسْتَلْزِمُ كَذِبَ الْخَبَرِ ; لِأَنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ يَقَعَانِ مِنَ النَّاسِ كَثِيرًا، وَالْكَذِبُ فِي خَبَرِ الْمَعْصُومِ مُحَالٌ ; فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى رَفْعِ حُكْمِهِ.
ثُمَّ قِيلَ: الْحُكْمُ الْمَرْفُوعُ هُوَ الْإِثْمُ خَاصَّةً، دُونَ الضَّمَانِ وَالْقَضَاءِ ; لِأَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ صِيغَةَ عُمُومٍ فَيَعُمَّ كُلَّ حُكْمٍ.
قُلْتُ: فِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْحَدِيثِ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي حُكْمُ الْخَطَأِ، وَاللَّامُ فِي الْخَطَأِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَحُكْمُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْعَامِّ عَامٌّ. وَهَذَا يَقْتَضِي رَفْعَ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْخَطَأِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا خَطَأً، لَا يَأْثَمُ بِإِتْلَافِهِ، وَلَا يُضَمَّنُهُ، وَمَنْ تَرَكَ عِبَادَةً خَطَأً، أَوْ نِسْيَانًا، أَوْ إِكْرَاهًا، لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا ; فَلَا يَلْزَمُ قَضَاؤُهَا. وَعَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ اخْتِصَاصُ الرَّفْعِ بِالْإِثْمِ، يَسْقُطُ الْإِثْمُ فِي صُورَةِ الْإِتْلَافِ وَالتَّرْكِ، وَيَجِبُ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ، وَقَضَاءُ الْمَتْرُوكِ.
قَوْلُهُ: «وَأَفْسَدَهُ أَبُو الْخَطَّابِ» ، يَعْنِي اخْتِصَاصَ الرَّفْعِ بِالْإِثْمِ دُونَ غَيْرِهِ، أَفْسَدَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، «بِأَنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ الْأُمَّةِ بِهِ» ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ» . وَذَلِكَ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا بِهَذِهِ الرُّخْصَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالتَّسْهِيلَ عَلَيْهَا، وَاللُّطْفَ بِهَا ; فَلَوْ قُلْنَا: إِنَّ الرَّفْعَ فِي حَقِّهَا
(2/669)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُخْتَصٌّ بِالْإِثْمِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ تَمَيُّزٌ ; لِأَنَّ النَّاسِيَ وَنَحْوَهُ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ، كَالْمُخْطِئِ، وَالْمُكْرَهِ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ أَصْلًا فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ فِي شُرُوطِ التَّكْلِيفِ.
قُلْتُ: وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأُمَّةِ بِالذِّكْرِ، يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا بِحُكْمٍ زَائِدٍ عَلَى بَقِيَّةِ الْأُمَمِ، إِذْ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رَفْعَ الْإِثْمِ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ سَائِرِ الْأُمَمِ.
قُلْتُ: وَالِاعْتِرَاضَانِ ضَعِيفَانِ، وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ; «فَعَلَى هَذَا: حَيْثُ لَزِمَ الْقَضَاءُ أَوِ الضَّمَانُ بَعْضَ مَنْ ذُكِّرَ» يَعْنِي الْمُخْطِئَ، أَوِ النَّاسِيَ، أَوِ الْمُكْرَهَ، «كَنَاسِي الصَّلَاةِ يَقْضِيهَا، وَالْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ يُقْتَلُ أَوْ يُضَمَّنُ» ، كَانَ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [الْمَائِدَةِ: 45] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا ; فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِنْ شَاءُوا، قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ» . لَا بِحَقِّ الْأَصْلِ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ أَنْ لَا يَجِبَ بِالْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ شَيْءٌ. عَرَفْنَا ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا قُرِّرَ مِنْ دَلَالَتِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ فِي الْمُجْمَلِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ، وَهَذَا حِينُ الْكَلَامِ فِي الْمُبَيَّنِ.
(2/670)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْمُبَيَّنُ
الْمُبَيَّنُ: يُقَابِلُ الْمُجْمَلَ.
أَمَّا الْبَيَانُ ; فَقِيلَ: الدَّلِيلُ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ.
وَقِيلَ: مَا دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ، وَهُمَا تَعْرِيفُ لِلْمُبَيَّنِ الْمَجَازِيِّ لَا لِلْبَيَانِ. فَقِيلَ: إِيضَاحُ الْمُشْكِلِ، فَوَرَدَ الْبَيَانُ الِابْتِدَائِيُّ، فَإِنْ زِيدَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ زَالَ، وَيَحْصُلُ الْبَيَانُ بِالْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ، كَالْكِتَابَةِ، وَالْإِشَارَةِ، نَحْوُ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَنَحْوُ: صَلُّوا، وَخُذُوا، وَبِالْإِقْرَارِ عَلَى الْفِعْلِ، وَكُلُّ مُقَيَّدٍ مِنَ الشَّارِعِ بَيَانٌ، وَالْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ، وَتَبْيِينُ الشَّيْءِ بِأَضْعَفَ مِنْهُ كَالْقُرْآنِ بِالْآحَادِ جَائِزٌ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ إِلَّا عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ، وَعَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِهَا جَائِزٌ عِنْدَ الْقَاضِي، وَابْنِ حَامِدٍ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنْعَهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَالتَّمِيمِيُّ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْمُبَيَّنُ: يُقَابِلُ الْمُجْمَلَ» ، وَقَدْ سَبَقَ لِلْمُجْمَلِ تَعْرِيفَانِ ; فَخُذْ ضِدَّهُمَا فِي الْمُبَيَّنِ.
فَإِنْ قُلْتَ: الْمُجْمَلُ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ بَيْنَ مُحْتَمَلَيْنِ فَصَاعِدًا عَلَى السَّوَاءِ، قُلْ فِي الْمُبَيَّنِ: هُوَ اللَّفْظُ النَّاصُّ عَلَى مَعْنًى، غَيْرِ مُتَرَدِّدٍ، مُتَسَاوٍ.
وَإِنْ قُلْتَ: الْمُجْمَلُ: مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى مُعَيَّنٌ، قُلِ: الْمُبَيَّنُ مَا فُهِمَ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مَعْنًى مُعَيَّنٌ، مِنْ نَصٍّ أَوْ ظُهُورٍ، بِالْوَضْعِ أَوْ بَعْدَ الْبَيَانِ.
(2/671)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُبَيَّنُ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ عَلَى مَعْنًى ; إِمَّا بِالْأَصَالَةِ، وَإِمَّا بَعْدَ الْبَيَانِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: الْمُبَيَّنُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْخِطَابُ الْمُسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ عَنِ الْبَيَانِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَيْهِ، كَالْمُجْمَلِ وَغَيْرِهِ.
قُلْتُ: الْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا الْبَيَانُ ; فَقِيلَ: الدَّلِيلُ» ، يَعْنِي أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ كَانَ فِي الْمُبَيَّنِ، وَهَذَا فِي الْبَيَانِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، يُقَالُ: مُجْمَلٌ وَإِجْمَالٌ، وَمُبَيَّنٌ وَبَيَانٌ.
فَالْمُجْمَلُ: اللَّفْظُ الْمُتَرَدِّدُ.
وَالْإِجْمَالُ: إِرَادَةُ التَّرَدُّدِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، أَوِ النُّطْقُ بِاللَّفْظِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ فِيهِ التَّرَدُّدُ.
وَالْمُبَيَّنُ: اللَّفْظُ الدَّالُّ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ.
وَالْبَيَانُ: نَحْنُ الْآنَ فِي الْكَلَامِ فِيهِ.
«فَقِيلَ» : هُوَ «الدَّلِيلُ» ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَأَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَاخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: وَهُوَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ دَلِيلٍ.
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: هُوَ التَّعْرِيفُ.
وَالْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْمَسْأَلَةُ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ كَاللَّفْظِيَّةِ ; لِأَنَّ التَّعْرِيفَ مِنْ آثَارِ
(2/672)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدَّلِيلِ ; فَاسْتَوَتْ، أَوْ تَقَارَبَتِ الْأَقْوَالُ جِدًّا، وَيَجْمَعُ الْكُلَّ مَعْنَى الظُّهُورِ، إِذْ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: بَانَ الشَّيْءُ يَبِينُ بَيَانًا، إِذَا ظَهَرَ وَاتَّضَحَ، وَالدَّلِيلُ يُوَضِّحُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَيُظْهِرُهُ، وَيُعَرِّفُهُ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي الدَّلِيلَ، «مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ» .
فَقَوْلُنَا: «مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ» ، يَعْنِي مَا كَانَتْ لَهُ صَلَاحِيَّةُ الِاتِّصَالِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، لِيَعُمَّ الدَّلِيلُ بِالْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ، أَيْ: مَا اسْتُعْمِلَ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَمَا صَلَحَ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي التَّوَصُّلِ إِلَيْهِ، كَقَوْلِنَا: يَصْلُحُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [الْبَقَرَةِ: 188] ، عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِيلُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ فِي الْبَاطِنِ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى الْأَمْوَالَ مَأْكُولَةً بِالْبَاطِلِ، مَعَ الْإِدْلَاءِ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ.
وَقَوْلُنَا: «بِصَحِيحِ النَّظَرِ» : احْتِرَازٌ مِمَّا يُوَصِّلُ بِفَاسِدِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ، إِنْ قَدَّرْنَاهُ صَحِيحًا، كَانَ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ بِفَاسِدِ النَّظَرِ مُمْتَنِعًا، وَإِنْ قَدَّرْنَاهُ بَاطِلًا، لَمْ يَكُنْ مَا تَوَصَّلْنَا بِهِ إِلَيْهِ دَلِيلًا.
وَقَوْلُنَا: «إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ» : يَعُمُّ مَا أَوْصَلَ إِلَى عِلْمٍ، كَقَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ ; فَالْإِنْسَانُ جِسْمٌ. أَوْ إِلَى ظَنٍّ، كَغَالِبِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا ; فَمِنْهُمْ مَنْ سَمَّاهُ دَلِيلًا، سَوَاءٌ أَوَصَلَ إِلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّ الدَّلِيلَ بِمَا أَوْصَلَ إِلَى عِلْمٍ، وَسَمَّى مَا أَوْصَلَ إِلَى ظَنٍّ أَمَارَةً، - بِفَتْحِ
(2/673)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْهَمْزَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ - وَلَعَلَّهُ أَقَرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ، وَالْخِلَافُ اصْطِلَاحِيٌّ.
- قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَا دَلَّ» ، أَيْ: وَقِيلَ: الْبَيَانُ مَا دَلَّ «عَلَى الْمُرَادِ، مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ» ، يَعْنِي إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ كَالْقُرْءِ وَنَحْوِهِ ; فَمَا دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ، هُوَ الْبَيَانُ كَمَا سَبَقَ مِثَالُهُ فِي الْمُجْمَلِ. فَهَذَانَ تَعْرِيفَانِ لِلْبَيَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِأَنَّهُ الدَّلِيلُ.
وَالثَّانِي: بِمَا ذُكِرَ هَهُنَا.
قَوْلُهُ: «وَهُمَا تَعْرِيفٌ لِلْمُبَيَّنِ الْمَجَازِيِّ، لَا لِلْبَيَانِ» ، يَعْنِي أَنَّ تَعْرِيفَ الْبَيَانِ بِالدَّلِيلِ، وَبِمَا دَلَّ عَلَى الْمُرَادِ، مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، لَيْسَ تَعْرِيفًا لِلْبَيَانِ، بَلْ لِلْمُبَيَّنِ الْمَجَازِيِّ.
وَكَشْفُ هَذَا: بِأَنَّهُ لَابُدَ لَنَا مِنْ مُبَيِّنٍ، بِكَسْرِ الْيَاءِ، وَمُبَيَّنٍ بِفَتْحِهَا، وَمُبَيَّنٍ بِهِ، وَبَيَانٍ.
فَالْمُبَيِّنُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الشَّارِعُ، إِذْ عَنْهُ تَظْهَرُ الْأَحْكَامُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْمُبَيَّنِ بِهِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ، وَهُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ الدَّالِّ عَلَى الْمُرَادِ مِمَّا لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ.
وَالْمُبَيَّنُ: هُوَ الْمُتَّضِحُ بِنَفْسِهِ، أَوِ الْمُجْمَلُ الْمُحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ. فَقَدِ اتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ التَّعْرِيفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْبَيَانِ لَيْسَا تَعْرِيفًا لَهُ، بَلْ لِلْمُبَيِّنِ الْمَجَازِيِّ، أَيِ: الَّذِي يُسَمَّى مُبِيِّنًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ.
قَوْلُهُ: «فَقِيلَ إِيضَاحُ الْمُشْكِلِ، فَوَرَدَ الْبَيَانُ الِابْتِدَائِيُّ» أَيْ: لَمَّا لَمْ
(2/674)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَتَحَصَّلْ لَنَا تَعْرِيفُ الْبَيَانِ بِالْحَقِيقَةِ مِمَّا سَبَقَ، احْتَجْنَا إِلَى أَنْ نَذْكُرَ تَعْرِيفَهُ.
وَقَدْ قِيلَ: هُوَ إِيضَاحُ الْمُشْكِلِ، وَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِيهِ، أَنَّهُ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنَ الْإِشْكَالِ إِلَى الْوُضُوحِ، فَلَمَّا عُرِفَ بِهَذَا، وَرَدَ عَلَيْهِ الْبَيَانُ الِابْتِدَائِيُّ، أَيِ: الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ ابْتِدَاءً، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى بَيَانٍ خَارِجٍ، كَالنُّصُوصِ وَالظَّوَاهِرِ، وَمَا عُرِفَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِالتَّعْلِيلِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، أَوْ بِاللُّزُومِ، كَالدَّلَالَةِ عَلَى الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ، كَدَلَالَةِ الصَّلَاةِ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَدَلَالَةِ الْمِلْكِ عَلَى تَقَدُّمِ سَبَبِهِ، مِنْ بَيْعٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوِ اكْتِسَابٍ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُبَيَّنٌ بِبَيَانٍ، وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ إِيضَاحُ مُشْكِلٍ ; فَتَعْرِيفُ الْبَيَانِ بِإِيضَاحِ مُشْكِلٍ غَيْرُ جَامِعٍ.
- قَوْلُهُ: «فَإِنْ زِيدَ بِالْفِعْلِ أَوِ الْقُوَّةِ، زَالَ» ، أَيْ: فَإِنْ زِيدَ هَذَا عَلَى التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ، زَالَ وُرُودُ الْبَيَانِ الِابْتِدَائِيِّ، وَاسْتَقَامَ التَّعْرِيفُ ; فَيُقَالُ: الْبَيَانُ: هُوَ إِيضَاحُ الْمُشْكِلِ بِالْقُوَّةِ أَوِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَكُونُ مُشْكِلًا بِالْفِعْلِ، أَيْ: إِشْكَالُهُ ظَاهِرٌ مَوْجُودٌ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْكِلًا بِالْقُوَّةِ، أَيْ: هُوَ قَابِلٌ لِأَنْ يَرِدَ مُشْكِلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَادَّةَ الْكَلَامِ لِذَاتِهَا قَابِلَةٌ لِلْإِشْكَالِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ نُظُمِهِ وَصِيَغِهِ، وَمَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِهِ.
وَمِثَالُ هَذَا: مَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ، وَهَذَا كَلَامٌ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ، صَحِيحٌ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ. وَنَقَلَ
(2/675)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَظَاهِرُ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ - مُشْكِلٌ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ جَمِيعًا مُؤْمِنُونَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ كُفَّارٌ، وَأَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِيهَا إِلَّا كَافِرٌ، لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَلْحَقَ بِكَلَامِهِ بَيَانًا بَيَّنَهُ، وَأَظْهَرَ مَعْنَاهُ الْمُرَادَ لَهُ، بِأَنْ قَالَ: لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مُؤْمِنٌ ; لِأَنَّ الْكُفَّارَ حِينَئِذٍ يُعَايِنُونَ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ ; فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، أَيْ: يُصَدِّقُونَ، لَكِنْ إِيمَانًا لَا يَنْفَعُهُمْ ; لِأَنَّهُ اضْطِرَارِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ، وَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غَافِرٍ: 85] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِفِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ لَمَّا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ: آمَنْتُ -: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يُونُسَ: 91] .
فَقَدْ حَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ مُشْكِلٌ بِالْفِعْلِ ; فَاحْتَاجَ إِلَى الْبَيَانِ، وَكَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيِّنٌ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ بِالْقُوَّةِ، إِذْ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُورِدَهُ عَلَى نَظْمٍ يَسْتَشْكِلُ، نَحْوَ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ. كَلَامٌ مُتَّضِحٌ
(2/676)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَيِّنٌ، إِذْ مَعْنَاهُ: لَا فَاعِلَ لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ إِلَّا اللَّهُ.
ثُمَّ عَرَضَ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ الْإِشْكَالُ، بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا يُورَدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ، أَيْ: مَنْ لَهُ إِبِلٌ مِرَاضٌ عَلَى مَنْ لَهُ إِبِلٌ صِحَاحٌ. وَقَوْلِهِ: فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ. لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ هَذَا إِثْبَاتُ الْعَدْوَى، وَهُوَ يُنَاقِضُ نَفْيَهَا فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ; فَاحْتِيجَ إِلَى بَيَانِ الْمُزِيلِ لِلْإِشْكَالِ، بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ نَافٍ لِلْعَدْوَى، أَيْ: لَا يُعْدِي مَرِيضٌ صَحِيحًا، وَأَمَّا الثَّانِي، فَلَمْ يَنْهَ فِيهِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ لِكَوْنِهِ يُعْدِي الْإِبِلَ، بَلْ خَشْيَةَ أَنْ يُحْدِثَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِبِلٍ مُصِحٍّ مَرَضًا ; فَيَعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنَ الْعَدْوَى ; فَيَكُونَ بِذَلِكَ مُشْرِكًا مَعَ اللَّهِ فَاعِلًا غَيْرَهُ ; فَزَالَ الْإِشْكَالُ.
وَقَدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ; فَقَدْ رَأَيْتُ كَيْفَ كَانَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ بَيِّنًا بِنَفْسِهِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ الْإِشْكَالُ ; فَكَذَلِكَ قَدْ يَرِدُ الْكَلَامُ بَيِّنًا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ
(2/677)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعَ ذَلِكَ مُشْكِلٌ بِالْقُوَّةِ، أَيْ: قَابَلٌ لِعُرُوضِ الْإِشْكَالِ لَهُ مِنْ ذَاتِهِ، بِتَقْدِيرِ تَغَيُّرِ صِفَتِهِ أَوْ مِنْ أَمْرٍ خَارِجٍ.
قَوْلُهُ: «وَيَحْصُلُ الْبَيَانُ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ» ، إِلَى آخِرِهِ. لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى تَعْرِيفِ الْبَيَانِ، وَتَحْقِيقِ مَاهِيَّتِهِ، أَخَذَ فِي ذِكْرِ الْمُبَيَّنِ بِهِ، وَهُوَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ.
وَالَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: «الْقَوْلُ» : بِأَنْ يَقُولَ الْمُتَكَلِّمُ، أَوْ مَنْ عَلِمَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ: الْمُرَادُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَذَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْقَارِعَةُ} {مَا الْقَارِعَةُ} {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [الْقَارِعَةِ: 1، 2، 3] ; فَهَذَا إِجْمَالٌ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [الْقَارِعَةِ: 4] ; فَبَيَّنَ أَنَّ الْقَارِعَةَ تَكُونُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، بِهَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ.
وَكَذَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الِانْفِطَارِ: 17، 18] ، ثُمَّ بَيَّنَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا بَعْدَهُ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [الْمُدَّثِّرِ: 30] ; فَهَذَا مُجْمَلٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَؤُلَاءِ مَلَائِكَةٌ، أَوْ آدَمِيُّونَ، أَوْ شَيَاطِينُ، أَوْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَهُمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} [الْمُدَّثِّرِ: 31] .
وَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَالسُّنَّةِ الشَّرِيفَةِ كَثِيرٌ.
وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}
(2/678)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الْأَنْفَالِ: 60] ، كَانَتِ الْقُوَّةُ مُجْمَلَةً ; فَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِ: أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ. لِأَنَّ الْقَوْلَ لَمَّا كَانَ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ، جَازَ أَنْ يُبَيِّنَ غَيْرَهُ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمَاءِ الطَّهُورِ: لَمَّا كَانَ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ، جَازَ أَنْ يَدْفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ، إِذَا كَانَ كَثِيرًا.
الثَّانِي: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْبَيَانُ: الْفِعْلُ ; فَمِنْهُ الْكِتَابَةُ، كَكِتَابَةِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ إِلَى عُمَّالِهِمْ فِي الصَّدَقَاتِ، وَغَيْرِهَا مِنَ السِّيَاسَاتِ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقُومُ مَقَامَ اللِّسَانِ فِي تَأْدِيَةِ مَا فِي النَّفْسِ ; فَكَانَتْ بَيَانًا.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرَّحْمَنِ: 1 - 4] ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الْبَيَانَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [الْعَلَقِ: 4، 5] ; فَالْبَيَانُ بِالْقَلَمِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَيَانِ الَّذِي عَلَّمَهُ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ بَيَانُ نُطْقٍ، وَبَيَانُ كِتَابَةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمِنْهُ، أَيْ: مِنَ الْبَيَانِ الْفِعْلِيِّ، الْإِشَارَةُ كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ آلَى مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا ; فَأَقَامَ فِي مُشْرَبَةٍ لَهُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ ; فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ آلَيْتَ شَهْرًا ; فَقَالَ: الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ، وَقَبَضَ إِبْهَامَهُ فِي الثَّالِثَةِ، يَعْنِي تِسْعَةً وَعِشْرِينَ.
وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، هَكَذَا بِلَفْظِهِ
(2/679)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ بَيَانٌ قَوْلِيٌّ ; فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ نَوْعَيِ الْبَيَانِ، الْقَوْلِيِّ وَالْفِعْلِيِّ.
وَمِنَ الْبَيَانِ الْفِعْلِيِّ قَوْلُهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي. وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، أَيِ: انْظُرُوا إِلَى فِعْلِي فِي الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ; فَافْعَلُوا مِثْلَهُ ; فَكَانَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِمَا مُبَيِّنًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْأَنْعَامِ: 72] ، {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 196] .
فَإِنْ قِيلَ: بَيَانُ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ إِنَّمَا حَصَلَ بِقَوْلِهِ: صَلُّوا، وَ: خُذُوا.
قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ هَذَا اللَّفْظُ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ تَفَاصِيلُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، بَلْ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ بُقُولِهِ: صَلُّوا، وَخُذُوا أَنَّ فِعْلَهُ مُبَيِّنٌ لِتَفَاصِيلِ الصَّلَاةِ وَالْمَنَاسِكِ، وَلِهَذَا قَضَى مَنَاسِكَهُ فِي حَجَّتِهِ رَاكِبًا، لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ النَّاسُ.
نَعَمْ، يَرِدُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: صَلُّوا، وَخُذُوا عَنِّي، سُؤَالٌ أَصَحُّ مِنَ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ; فَيُجِيبَهُمْ عَنْهَا ; فَيَكُونُ الْبَيَانُ قَوْلِيًّا لَا فِعْلِيًّا، كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي. وَكَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَامَ مَقَامًا ; فَقَالَ فِيهِ: لَا تَسْأَلُونِي فِي مَقَامِي هَذَا عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَجَبْتُكُمْ،
(2/680)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ ; فَقَوْلُهُ: خُذُوا عَنِّي، يَعْنِي بِالسُّؤَالِ، لَا بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَفْعَالِ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا، لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ; لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِفِعْلِ الْمَنَاسِكِ، كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَغَيْرِهِ، وَأَمْرُهُ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ اقْتِدَاؤُهُمْ بِأَفْعَالِهِ، عَمَلًا بِقَرِينَةِ الْحَالِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الثَّالِثُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْبَيَانُ: «الْإِقْرَارُ عَلَى الْفِعْلِ» فَيَكُونُ ذَلِكَ تِبْيَانًا لِجَوَازِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ سَبَقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى السُّنَّةِ، أَنَّ الْقَوْلَ، وَالْفِعْلَ، وَالْإِقْرَارَ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ - سُنَّةٌ، وَهِيَ دَلِيلٌ وَحُجَّةٌ، وَمَا كَانَ دَلِيلًا فِي نَفْسِهِ، صَلَحَ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِغَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: " وَكُلُّ مُقَيَّدٍ مِنَ الشَّارِعِ بَيَانٌ "، هَذِهِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ، يَتَنَاوَلُ مَا سَبَقَ، وَمَا يَأْتِي بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَدِلَّ الشَّارِعُ اسْتِدْلَالًا عَقْلِيًّا ; فَيُبَيِّنَ بِهِ الْعِلَّةَ، أَوْ مَأْخَذَ الْحُكْمِ، أَوْ فَائِدَةً مَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ مَاءِ السَّحَابِ: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فَاطِرٍ: 9] ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] ، {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الرُّومِ: 19] ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ.
فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَنَا بِذَلِكَ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ
(2/681)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمَعَادِ، وَلَوْلَا هَذَا الطَّرِيقُ الَّذِي فَتَحَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَمَا اجْتَرَأَ مُتَكَلِّمُوهُمْ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَيْهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُنْكِرِينَ لَهُ فِيهِ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 22] ، {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الْمُؤْمِنُونَ: 91] ; فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَوْحِيدِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَبَيَّنَ بُقُولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ} [الرُّومِ: 28] ، الْآيَةَ، قُبْحَ الْإِشْرَاكِ، وَمَنْعَهُ وَتَحْرِيمَهُ، وَجَمِيعُ اسْتِدْلَالَاتِ الْقُرْآنِ عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ لِلْبَيَانِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالَ لَهُ: قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ. فَقَاسَ الْقُبْلَةَ عَلَى الْمَضْمَضَةِ، وَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْفِطْرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا يُجَاوِزُ الْحَلْقَ إِلَى الْجَوْفِ، أَوْ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَقْصُودُهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ مِنَ الْمُفَطِّرَاتِ، وَالْقُبْلَةُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا مَقْصُودُ جِنْسِهَا وَهُوَ الْإِنْزَالُ، كَمَا أَنَّ الْمَضْمَضَةَ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهَا مَقْصُودُ الشُّرْبِ، وَهُوَ الرِّيُّ.
وَقَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ. فَبَيَّنَ أَنَّ دَيْنَ اللَّهِ كَدَيْنِ
(2/682)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْآدَمِيِّ، فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَقَبُولِ النِّيَابَةِ، وَأَوْلَى، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: التَّرْكُ: مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ فِعْلًا قَدْ أَمَرَ بِهِ، أَوْ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ فِعْلُهُ ; فَيَكُونُ تَرْكُهُ لَهُ مُبَيِّنًا لِعَدَمِ وُجُوبِهِ.
وَذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [الْبَقَرَةِ: 282] ، ثُمَّ إِنَّهُ كَانَ يُبَايِعُ وَلَا يُشْهِدُ، بِدَلِيلِ الْفَرَسِ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنَ الْأَعْرَابِيِّ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ الْبَيْعَ ; فَشَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ لَا عَنْ حُضُورٍ، بَلْ عَنْ تَصْدِيقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; فَعُلِمَ أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التَّرَاوِيحَ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ تَرَكَهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْهِمْ ; فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا، إِذْ يَمْتَنِعُ مِنْهُ تَرْكُ الْوَاجِبِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: السُّكُوتُ بَعْدَ السُّؤَالِ عَنْ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ. فَيُعْلَمُ أَنْ لَا حُكْمَ لِلشَّرْعِ فِيهَا، كَمَا رُوِيَ، أَنَّ زَوْجَةَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، جَاءَتْ بِابْنَتَيْهَا إِلَى النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَاتَانِ ابْنَتَا سَعْدٍ، قُتِلَ أَبُوهُمَا
(2/683)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعَكَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ أَخَذَ عَمُّهُمَا مَالَهُمَا، وَلَا يُنْكَحَانِ إِلَّا بِمَالٍ ; فَقَالَ: " اذْهَبِي حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكِ ; فَذَهَبَتْ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّسَاءِ: 11] ; فَبَعَثَ خَلْفَ الْمَرْأَةِ وَابْنَتَيْهَا وَعَمِّهِمَا ; فَقَضَى فِيهِمْ بِحُكْمِ الْآيَةِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، كَمَا سَيُذْكَرُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ تَحْتَمِلُ وُجُوهًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا إِنْ وُجِدَتْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَالْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ» ، أَيِ: الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنَ الْبَيَانِ بِالْقَوْلِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْبَيَانِ بِهِمَا، إِلَّا عِنْدَ شُذُوذٍ مِنَ النَّاسِ فِي الْبَيَانِ الْفِعْلِيِّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِيِّ: أَنَّ الْفِعْلِيَّ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ وَعِيَانٌ لِصُورَةِ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُهُ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ ; فَالْبَيَانُ الْفِعْلِيُّ مُدْرَكٌ بِالتَّصَوُّرِ الذِّهْنِيِّ، وَالْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ، بِخِلَافِ الْقَوْلِيِّ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا التَّصَوُّرُ الذِّهْنِيُّ فَقَطْ ; فَكَانَ الْفِعْلِيُّ أَقْوَى.
وَلِهَذَا كَانَ غَالِبُ النَّاسِ عَالِمًا بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ، لِتَكَرُّرِ أَفْعَالِهَا عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، بِخِلَافِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِنَّ صِبْيَانَ مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى - أَعْلَمُ بِهَا مِنْ كَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْآفَاقِ الْمُبَرِّزِينَ فِي الْعِلْمِ، لِدُرْبَةِ أُولَئِكَ الصِّبْيَانِ بِهَا دُونَهُمْ.
وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُعَرِّفَ أَصْحَابَهُ مَثَلَ ابْنِ آدَمَ، وَأَجَلَهُ، وَأَمَلَهُ، خَطَّ لَهُمْ خَطًّا مُرَبَّعًا، صَوَّرَ لَهُمْ ذَلِكَ فِيهِ، كَمَا صَحَّ فِي السُّنَّةِ.
(2/684)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَخَطَّ لَهُمْ مَرَّةً خَطًّا مُسْتَقِيمًا وَإِلَى جَانِبِهِ خُطُوطٌ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ، وَهَذِهِ سُبُلٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الْأَنْعَامِ: 153] .
وَكَذَلِكَ الْمُهَنْدِسُونَ وَأَصْحَابُ عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَضَعُوا فِي كُتُبِهِمْ صُوَرَ الْأُكَرِ، وَالزَّوَايَا، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَشْكَالِ، لِتَكُونَ أَسْرَعَ إِلَى فَهْمِ الْمُتَعَلِّمِ.
قَوْلُهُ: «وَتَبْيِينُ الشَّيْءِ بِأَضْعَفَ مِنْهُ، كَالْقُرْآنِ بِالْآحَادِ جَائِزٌ» .
اعْلَمْ أَنَّ الْبَيَانَ ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنَ الْمُبَيَّنِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، أَوْ أَضْعَفَ مِنْهُ فِي الدَّلَالَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْبَيَانِ بِالْأَقْوَى.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَيَانِ بِالْأَضْعَفِ ; فَأَجَازَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بِالْأَضْعَفِ وَالْمُسَاوِي، وَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ رَاجِحًا. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا، لَكَانَ إِمَّا مُسَاوِيًا، أَوْ مَرْجُوحًا.
وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْوَقْفُ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِأَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِلْآخَرِ مِنَ الْعَكْسِ.
وَالثَّانِي: يَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الرَّاجِحِ بِالْمَرْجُوحِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَهَذَا حُجَّةُ الْكَرْخِيِّ عَلَى مَنْعِ الْبَيَانِ بِالْأَضْعَفِ.
وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَتَّجِهُ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ ; لِأَنَّ تَبْيِينَ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ
(2/685)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دَلَالَةً مِنْهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ; لِأَنَّ التَّبْيِينَ تَخْلِيصٌ، وَتَمْيِيزٌ لِبَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ مِنْ بَعْضٍ، وَالضَّعِيفُ لَا يُخَلِّصُ الْقَوِيَّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِمَثَابَةِ تَعْدِيلِ الْفَاسِقِ لِلْعَدْلِ، وَتَصْيِيرِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ طَهُورًا بِإِضَافَةِ الْمَاءِ النَّجِسِ إِلَيْهِ، وَالتَّعْرِيفِ بِالْأَخْفَى، كَقَوْلِنَا: الْأَسَدُ هُوَ الْغَضَنْفَرُ، أَوِ الدَّلَهْمَسُ، وَالْعَنْكَبُوتُ: هُوَ الْخَدَرْنَقُ، وَالْأَرْنَبُ: الْخِرْنِقُ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْبَيَانَ بِالْأَضْعَفِ يَجُوزُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَنْ ذَلِكَ الْأَضْعَفُ عِنْدَهُ أَقْوَى، لَكِنْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى هَذَا الشَّخْصِ لَيْسَ بَيَانًا بِالْأَضْعَفِ بَلْ بِالْأَقْوَى، كَمَا يُقَالُ لِلْعِرَاقِيِّ: الْفُولُ الْبَاقِلَّا ; لِأَنَّ الْبَاقِلَّا أَشْهَرُ عَنْهُ، وَبِعَكْسِ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِيِّ وَنَحْوِهُ ; لِأَنَّ الْفُولَ عِنْدَهُمْ أَشْهَرُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مَسْأَلَةَ «الْمُخْتَصَرِ» ; لِأَنَّ الْكَلَامَ هَهُنَا فِي تَبْيِينِ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ، وَمَسْأَلَةُ «الْمُخْتَصَرِ» وَ «الرَّوْضَةِ» مُمَثَّلَةٌ بِتَبْيِينِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ فِي الرُّتْبَةِ لَا فِي الدَّلَالَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ الرُّتْبَةِ ضَعَّفُ الدَّلَالَةِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْأَضْعَفُ رُتْبَةً أَقْوَى دَلَالَةً، كَتَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ أَخَصُّ ; فَيَكُونُ أَدَلَّ.
فَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ الضَّعْفَ إِنْ كَانَ فِي الدَّلَالَةِ، لَمْ يَجُزْ تَبْيِينُ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ، لِمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ فِي الرُّتْبَةِ، جَازَ إِذَا كَانَ أَقْوَى دَلَالَةً، وَمَنْ أَجَازَ
(2/686)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْبَيَانَ بِالْأَضْعَفِ، أَجَازَهُ بِالْمُسَاوِي، وَلَا عَكْسَ، وَمَنِ اشْتَرَطَ الرُّجْحَانَ فِي الْبَيَانِ، لَمْ يُجِزْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا سَبَقَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَائِدَةٌ: قَدْ يَكُونُ الْبَيَانُ مُتَّصِلًا كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ يَكُونُ مُنْفَصِلًا كَتَبْيِينِهِ سُبْحَانَهُ الْمُرَادَ مِنَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: مِنَ الْفَجْرِ [الْبَقَرَةِ: 187] ، وَكَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
فَلَا يَغُرَّنَّكَ مَا مَنَّتْ
فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنَّهُ مِنَ الْمَنِّ، وَهُوَ الْإِنْعَامُ بِالْوَصْلِ، أَوِ الْوَعْدُ الصَّادِقُ بِهِ، أَوْ مِنَ التَّمَنِّي، ثُمَّ بَيَّنَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ:
إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
(2/687)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ التَّمَنِّي، الَّذِي هُوَ كَأَحْلَامِ النَّائِمِ، لَا مِنَ الْمَنِّ.
قَوْلُهُ: «وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ، إِلَّا عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ» ، يَعْنِي تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ ; فَمَنْ أَجَازَهُ، أَجَازَ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَمَنْ مَنْعَهُ، مَنَعَهُ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: صَلُّوا غَدًا، ثُمَّ لَا يُبَيِّنُ لَهُمْ فِي غَدٍ كَيْفَ يُصَلُّونَ، أَوْ: آتَوُا الزَّكَاةَ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ، ثُمَّ لَا يُبَيِّنُ لَهُمْ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ كَمْ يُؤَدُّونَ، أَوْ إِلَى مَنْ يُؤَدُّونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَالتَّفْرِيعُ عَلَى امْتِنَاعِهِ.
قَوْلُهُ: «وَعَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِهَا جَائِزٌ» ، أَيْ: وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ جَائِزٌ عِنْدَ الْقَاضِي، وَابْنِ حَامِدٍ، وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَمَنَعَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَأَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ، وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْأَمْرِ دُونَ الْخَبَرِ، وَذَهَبَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: مَا لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ، كَالْمُجْمَلِ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ، وَمَا لَهُ ظَاهِرٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ، يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ التَّفْصِيلِيِّ، لَا الْإِجْمَالِيِّ، بِأَنْ يَقُولَ وَقْتَ الْخِطَابِ مَثَلًا: هَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ، وَلَا يَجِبْ تَفْصِيلُ أَحْكَامِ تَخْصِيصِهِ بِبَيَانِ غَيْرِ الْمُخَصَّصِ وَمِقْدَارِ مَا يُخَصُّ مِنْهُ.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ، دُونَ
(2/688)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرِهِ كَالظَّاهِرِ وَالْعُمُومِ وَالنَّسْخِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الْبَيَانِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ مُطْلَقًا.
وَصُورَتُهُ: أَنْ يَقُولَ وَقْتَ الْفَجْرِ مَثَلًا: صَلُّوا الظُّهْرَ، ثُمَّ يُؤَخِّرَ بَيَانَ أَحْكَامِ الظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، أَوْ يَقُولَ: حُجُّوا فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ يُؤَخِّرَ بَيَانَ أَحْكَامِ الْحَجِّ إِلَى دُخُولِ الْعَشْرِ.
(2/689)
________________________________________
لَنَا: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هُودٍ: 1] ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 19] ، وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي، وَأُخِّرَ بَيَانُ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنَّ ابْنَ نُوحٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيَانَ: {ذَوِي الْقُرْبَى} ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ. وَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} ، وَبَيَّنَ جِبْرِيلُ: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} بِفِعْلِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ، وَلِأَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ زَمَنِيٌّ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ ; فَكَذَا هَذَا.
قَالُوا: الْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ عَبَثٌ، وَتَجْهِيلٌ فِي الْحَالِ كَمُخَاطَبَةِ الْعَرَبِيِّ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَعَكْسِهِ، وَإِيجَابِ الصَّلَاةِ بِأَبْجَدْ هَوَّزْ، وَكَإِرَادَةِ الْبَقَرِ مِنْ قَوْلِهِ: «فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ» .
قُلْنَا: بَاطِلٌ بِالْمُتَشَابِهِ لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهُ، وَلَيْسَ تَجْهِيلًا، وَلَا عَبَثًا، فَإِنْ مَنَعَ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَائِدَتُهُ الِانْقِيَادُ الْإِيمَانِيُّ.
قُلْنَا: وَهَذَا الِانْقِيَادُ التَّكْلِيفِيُّ وَإِيجَابُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَطْعُ السَّارِقِ وَنَحْوُهَا يُفِيدُ مَاهِيَّاتِ الْأَحْكَامِ، وَتُفَصَّلُ عِنْدَ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ ; فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«لَنَا» عَلَى جَوَازِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِدْلَالِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هُودٍ: 1] .
الثَّانِي: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 18، 19] .
فَرَتَّبَ تَفْصِيلَ الْآيَاتِ عَلَى أَحْكَامِهَا، وَبَيَانَ الْقُرْآنِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِـ «ثُمَّ» وَهِيَ لِلتَّرَاخِي، وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا جَوَازُهُ إِلَيْهَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(2/690)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ، ثُمَّ أَخَّرَ بَيَانَ صِفَتِهَا حَتَّى رَاجَعُوهُ فِيهَا مِرَارًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [الْبَقَرَةِ: 67، 71] ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، أَخَّرَ بَيَانَ أَنَّ ابْنَ نُوحٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {اصْنَعِ الْفُلْكَ} [هُودٍ: 37] ، وَ {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هُودٍ: 40] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي ابْنِهِ وَغَيْرِهِ، فَلَمَّا أَدْرَكَ ابْنَ نُوحٍ الْغَرَقُ، خَاطَبَ نُوحٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هُودٍ: 45] ، أَيْ: وَعَدْتَنِي أَنْ تُنْجِيَ أَهْلِي، وَإِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ; فَأَنْجِهِ ; فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هُودٍ: 46] ; فَسَكَتَ نُوحٌ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ مَا سَمِعَ خَائِفًا مُسْتَغْفِرًا ; فَهَذَا تَأْخِيرُ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَخَّرَ بَيَانَ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ:
مِنْهَا: بَيَانُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الْأَنْفَالِ: 41] ، اقْتَضَتِ الْآيَةُ أَنَّ جَمِيعَ الْغَنِيمَةِ لِهَذِهِ الْأَصْنَافِ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقُرْبَى بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ، دُونَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، لِمَنْعِهِ لَهُمْ مِنْهَا، وَقَوْلِهِ: إِنَّا وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ.
(2/691)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الْحَجِّ: 78] ، بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْكَامَهَا مُؤَخَّرًا، بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ، فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ أَحْكَامِ الزَّكَاةِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آلِ عِمْرَانَ: 97] ، أَخَّرَ بَيَانَهُ بِفِعْلِهِ، وَقَوْلِهِ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ. كَمَا سَبَقَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْأَنْعَامِ: 72] ، بَيَّنَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِفِعْلِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ، كُلُّ ذَلِكَ مُتَأَخِّرًا، وَالْإِشَارَةُ بِالْيَوْمَيْنِ، إِلَى مَا رَوَى نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَمَّنِي جِبْرِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ ; فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ، الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ ; فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا وَقْتُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِكَ، وَالْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ
(2/692)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.
السَّادِسُ: أَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا بَيَانٌ فِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ قَدْ وَجَبَ التَّأْخِيرُ فِي النَّسْخِ ; فَلْيَجُزِ التَّأْخِيرُ هَهُنَا، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّسْخِ وَغَيْرِهِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ ; لِأَنَّ تَأْخِيرَ النَّسْخِ يُوهِمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي زَمَنٍ، لَيْسَ ثَابِتًا فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَتَأْخِيرُ تَخْصِيصِ الْعَامِّ يُوهِمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ التَّخْصِيصِ، وَلَيْسَ ثَابِتًا فِيهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَكِلَاهُمَا مَحْذُورٌ. وَقَدِ الْتَزَمَ الْخَصْمُ أَحَدَهُمَا ; فَيَلْزَمُهُ الْتِزَامُ الْآخَرِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: الْخِطَابُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا حُجَّةُ الْمَانِعِينَ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْخِطَابَ بِالْمُجْمَلَ بِدُونِ بَيَانِهِ ; خِطَابٌ بِمَا لَا يُفْهَمُ، وَالْخِطَابُ بِمَا لَا يُفْهَمُ عَبَثٌ، وَتَجْهِيلٌ لِلسَّامِعِ فِي الْحَالِ، إِذْ لَا يَعْلَمُ مَا الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ، وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ إِنَّمَا هُوَ إِفَادَةُ الْمُرَادِ بِهِ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ فَائِدَتَهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَبَثًا مُمْتَنِعًا، وَصَارَ ذَلِكَ كَمُخَاطَبَةِ الْعَرَبِيِّ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَمُخَاطَبَةِ الْعَجَمِيِّ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ: أَبْجَدْ هَوَّزْ، وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهِ إِيجَابَ الصَّلَاةِ عَلَيْكُمْ. أَوْ قَالَ: فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ. وَقَالَ أَرَدْتُ بِالْإِبِلِ الْبَقَرَ ; فَهَذَا كُلُّهُ وَأَشْبَاهُهُ غَيْرُ جَائِزٍ، لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ ; فَكَذَلِكَ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: بَاطِلٌ» ، أَيْ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ بِمَا لَا يُفْهَمُ عَبَثٌ ; فَلَا يَجُوزُ، بَاطِلٌ بِمُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ، كَالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ وَغَيْرِهَا عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ ; فَإِنَّهُ لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهُ، وَلَيْسَ الْخِطَابُ بِهِ تَجْهِيلًا لِلسَّامِعِ، وَلَا عَبَثًا مِنَ
(2/693)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُتَكَلِّمِ، فَكَمَا جَازَ الْخِطَابُ بِالْمُتَشَابِهِ، بِدُونِ فَهْمِ حَقِيقَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عَبَثًا، كَذَلِكَ يَجُوزُ الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ، وَإِنْ أَخَّرَ بَيَانَ حَقِيقَتِهِ، وَلَا يَكُونُ عَبَثًا.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ مَنَعَ، فَقَدْ بَيَّنَّاهُ» ، أَيْ: إِنْ مَنَعَ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهُ ; فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَأَنَّ تَأْوِيلَهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ لَا غَيْرَ.
وَإِنْ قَالَ الْخَصْمُ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ «فَائِدَتُهُ الِانْقِيَادُ الْإِيمَانِيُّ» ، أَيِ: الِانْقِيَادُ لِلْإِيمَانِ بِهِ، كَمَا قَالَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ: آمَنَّا بِهِ.
قُلْنَا: وَفَائِدَةُ الْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ «الِانْقِيَادُ التَّكْلِيفِيُّ» ، أَيِ: الِانْقِيَادُ لِلْعَزْمِ عَلَى امْتِثَالِ التَّكْلِيفِ بِهِ، فَإِذَا قِيلَ لِلْمَرْأَةِ: اعْتَدِّيِ بِالْأَقْرَاءِ ; عَزَمَتْ عَلَى الِاعْتِدَادِ بِأَنَّهَا أُمِرَتْ بِهِ، وَبُيِّنَ لَهَا، وَإِذَا قِيلَ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التَّوْبَةِ: 103] ، أَفَادَ عَزْمَ كُلِّ ذِي مَالٍ عَلَى إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ، مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ مَالِهِ وَمَقَادِيرِهِ، حَتَّى يَرِدَ التَّخْصِيصُ النَّوْعِيُّ بِسَائِمَةِ الْأَنْوَاعِ، وَالنَّقْدَيْنِ، وَالْخَارِجِ مِنَ الْأَرْضِ، وَالتَّخْصِيصُ الْمِقْدَارَيُّ بِشَاةٍ مِنْ أَرْبَعِينَ، وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْ مِائَتَيْنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ، عَصَى، وَهَذَا شَبِيهٌ بِمَا مَرَّ بِالنَّسْخِ قَبْلَ امْتِثَالِ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أَفَادَهَا الْخِطَابُ بِالْمُجْمَلِ ; فَهِيَ فِي بَابِهَا كَفَائِدَةِ الْإِيمَانِ بِالْمُتَشَابِهِ فِي بَابِهَا.
قَوْلُهُ: «وَإِيجَابِ الصَّلَاةِ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ ثَانٍ بِالْفَرْقِ، وَالَّذِي سَبَقَ جَوَابٌ بِالنَّقْضِ.
وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَوَابِ: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْخِطَابِ بِالْمُجْمَلِ، وَالْخِطَابِ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ، مِنْ أَبْجَدْ هَوَّزْ وَنَحْوِهِ، هُوَ أَنَّ الْخِطَابَ بِالْمُجْمَلِ يُفِيدُ مَاهِيَّاتِ
(2/694)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَحْكَامِ ; فَلَا يَضُرُّ تَأْخِيرُ بَيَانِ تَفْصِيلِهَا إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النُّورِ: 56] ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] ، {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آلِ عِمْرَانَ: 130] ، وَنَحْوِهِ، أَفَادَنَا وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَقَطْعَ يَدِ السَّارِقِ، وَتَحْرِيمَ الرِّبَا، وَإِذَا اسْتُفِيدَتْ مَاهِيَّةُ الْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ، وَجَبَ اعْتِقَادُهَا ; فَمَنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ، وَتَحْرِيمَ الرِّبَا عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِلْأَمْرِ بِهِمَا، عِنْدَ بَيَانِ أَحْكَامِهِمَا ; أُثِيبَ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ، عَصَى، وَإِذَا جَاءَ وَقْتُ الْعَمَلِ، بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الصَّلَاةَ خَمْسٌ، وَأَنَّ رَكَعَاتِهَا سَبْعَ عَشْرَةَ، وَأَنَّ الْفَجْرَ رَكْعَتَانِ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثٌ، وَبَقِيَّةَ الصَّلَاةِ رُبَاعِيَّةٌ، وَأَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْرُمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ، جَازَ التَّفَاضُلُ يَدًا بِيَدٍ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا لَا مَانِعَ مِنْهُ، شَرْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ خِطَابِ الْعَجَمِيِّ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِيجَابِ الصَّلَاةِ بِأَبْجَدْ هَوَّزْ ; فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً أَصْلًا، وَإِرَادَةُ الْبَقَرِ مِنْ لَفْظِ الْإِبِلِ تَغْيِيرٌ لِلْوَضْعِ، وَقَلْبٌ لِحَقَائِقِ اللُّغَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ، احْتَجَّ بِأَنَّ الْخَبَرَ وَالْإِجْمَالَ يُوهِمُ الْكَذِبَ ; فَيَجِبُ تَدَارُكُهُ بِالْبَيَانِ، بِخِلَافِ الْأَمْرِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ فِي الْأَمْرِ أَيْضًا تَوَهُّمَ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ، مِنَ الْأَعْيَانِ أَوِ الزَّمَانِ، وَهُوَ قَبِيحٌ كَالْكَذِبِ.
وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَغَيْرِهِ، احْتَجَّ بِأَنَّ الْمُجْمَلَ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ، وَلَا
(2/695)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُوهِمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ، كَالْعَامِّ مَثَلًا ; فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي إِرَادَةِ جَمِيعِ مَدْلُولِهِ بِالْحُكْمِ.
وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ بَعْضَ مَدْلُولِهِ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ ; فَيَكُونُ إِيهَامًا لِلْبَاطِلِ ; فَيَجِبُ تَدَارُكُهُ بِالْبَيَانِ، نَفْيًا لِهَذَا الْإِيهَامِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ بِنَحْوِ الْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ يُوهِمُ إِرَادَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُحْتَمَلَيْهِ، أَوْ مُحْتَمَلَاتِهِ، مَعَ أَنَّ جَمِيعَهَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَهُوَ إِيهَامٌ لِلْبَاطِلِ ; فَهُوَ كَإِيهَامِ الْعُمُومِ التَّعْمِيمَ ; وَإِنْ ظَهَرَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي قُوَّةِ الْإِيهَامِ وَضَعْفِهِ، غَيْرَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيهَامِ مَوْجُودٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ.
فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: وَقَعَ ذِكْرُ ابْنِ نُوحٍ فِي أَدِلَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ، هَلْ كَانَ ابْنَهُ لِصُلْبِهِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ، بَلْ كَانَ لِلزِّنَى ; فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ; قَالُوا: وَإِنَّمَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ، مِنْ أَجْلِ ابْنِ نُوحٍ، وَحَلَفَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ لَيْسَ بِابْنِهِ، وَحَلَفَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: إِنَّهُ ابْنُهُ، وَلِلنِّزَاعِ مَأْخَذَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} [التَّحْرِيمِ: 10] ، هَلْ هِيَ بِمَا عَدَا الزِّنَا، أَوْ بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ ; فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَانَتَاهُمَا بِالْكُفْرِ ; فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ
(2/696)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَجْنُونٌ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ ضَيْفٌ، تُخْبِرُ بِهِ قَوْمَهَا، وَتُغْرِيهِمْ بِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَمَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَلَا ابْتُلِيَ الْأَنْبِيَاءُ فِي نِسَائِهِمْ بِهَذَا، يَعْنِي الزِّنَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: خَانَتَاهُمَا بِالزِّنَا وَغَيْرِهِ. فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: هُوَ ابْنُهُ،
(2/697)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/698)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي، قَالَ: لَيْسَ بِابْنِهِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ خِيَانَتِهَا بِالزِّنَا.
قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ ; فَلِأَنَّ الْخِيَانَةَ الْمَنْسُوبَةَ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ مُطْلَقَةٌ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى تَحْقِيقِهَا بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَذَى، وَذَلِكَ وَافٍ بِمُطْلَقِ الْآيَةِ، يَبْقَى خُصُوصُ الزِّنَا، لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ تَقْدِيرَ أَنَّهَا خَائِنَةٌ بِالزِّنَا ; لَكِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مُطْلَقٌ، يَكْفِي فِي تَحْقِيقِهِ زِنَا مَرَّةٍ ; فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ مِنْ تِلْكَ الْمَرَّةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا زَنَتْ مِرَارًا، لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فِي تَحَقُّقِ أَنَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمِرَارِ، وَلَا فِي ظُهُورِ ذَلِكَ فَضَعُفَ هَذَا الْمَأْخَذُ.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي}
(2/699)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا [هُودٍ: 42] ، وَقَالَ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ، لِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ: ابْنِي، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَمَنْ تَابَعَهُمَا، وَعَوَّلَ الْحَسَنُ وَمَنْ تَابَعَهُ، عَلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هُودٍ: 46] ، وَحَقِيقَتُهُ تَقْتَضِي نَفْيَ النَّسَبِ.
قُلْتُ: وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ تُسْتَعْمَلُ فِي اللِّسَانِ تَارَةً فِي النَّسَبِ، وَتَارَةً فِي الدِّينِ وَغَيْرِهِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: هُوَ ابْنُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ خَالَفَهُ فِي الْعَمَلِ وَالنِّيَّةِ ; فَهِيَ مُجْمَلٌ، وَالتَّصْرِيحُ بِالْبُنُوَّةِ، وَإِضَافَتُهَا لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَيِّنٌ ; فَيَكُونُ مُقَدَّمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الَّذِي وَعَدْتُكَ أَنْ أُنْجِيَهُمْ، كَمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ فَقَالَ: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} وَتَقُولُ: لَيْسَ بِابْنِهِ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ؟ قَالَ: قُلْتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الَّذِينَ وَعَدْتُكَ أَنْ أُنْجِيَهُمْ مَعَكَ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنَّهُ ابْنُهُ، قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَكْذِبُونَ.
وَاحْتَجَّ الطَّنْزِيُّ، بِالنُّونِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ، عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ الْحَسَنِ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} فَكَيْفَ يُخْبِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّا لَمْ يَكُنْ؟
الثَّانِي: أَنَّ نُوحًا عَاشَ عُمْرَ ابْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: ابْنِي.
(2/700)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يُبْتَلَ نَبِيٌّ بِهَذِهِ الْبَلْوَى، وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رُسُلَهُ عَمَّا هُوَ دُونَ هَذِهِ الرَّذِيلَةِ، وَبِهَذَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ حَيْثُ قَالَتْ: هَبْكَ شَكَكْتَ فِيَّ، أَشَكَكْتَ فِي نَفْسِكَ.
قُلْتُ: هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهِ قَبْلُ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ قَوَاطِعَ فِي بُطْلَانِ قَوْلِ الْحَسَنِ، إِذْ لَهُ أَنْ يُجِيبَ:
عَنِ الْأَوَّلِ ; بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَهُ إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِضَافَةَ فِرَاشٍ، لَا إِضَافَةَ وِلَادَةٍ.
وَعَنِ الثَّانِي بِذَلِكَ أَوْ بِأَنَّ نُوحًا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَلَمْ يُطْلِعْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ مَا.
وَعَنِ الثَّالِثِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ صِيَانَةِ مَنْصِبِ غَالِبِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ هَذِهِ الْبَلْوَى ; صِيَانَةُ مَنْصِبِ نُوحٍ عَنْهَا، لِجَوَازِ أَنْ يَخُصَّهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا، أَوْ لِشَقَاءِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، كَمَا خَصَّ امْرَأَةَ لُوطٍ بِالْقِيَادَةِ وَالسِّعَايَةِ فِي اللِّوَاطِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي امْرَأَةِ نَبِيٍّ غَيْرِهِ.
قُلْتُ: وَثَمَّ مَأْخَذٌ آخَرُ لِلْخِلَافِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هُودٍ: 46] ، فَإِنَّ فِيهِ إِيمَاءً إِلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ عِلَّةُ إِهْلَاكِهِ الْكُفْرَ، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، إِذْ نُوحٌ قَدْ كَانَ يَعْلَمُ كُفْرَ ابْنِهِ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَمْ يَعْلَمْهُ هُوَ كَوْنُهُ لِغَيْرِ صُلْبِهِ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ مِنْ
(2/701)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَهْلِ النَّارِ، وَنُوحٌ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ.
قُلْتُ: التَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا قَاطِعَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَلَا نِزَاعَ فِي احْتِمَالِ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، وَانْهُ لَيْسَ بِمُحَالٍ عَقْلًا.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الظُّهُورُ ; فَالظَّاهِرُ مَعَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ، وَقَدْ يُجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُ ابْنُهُ لِلْفِرَاشِ دُونَ الصُّلْبِ، وَانْبَنَى عَلَى النِّزَاعِ الْمَذْكُورِ الْخِلَافُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هُودٍ: 46] فَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمَنْ تَابَعَهُ: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} بِالرَّفْعِ، يَعْنِي: ابْنُ نُوحٍ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّنَا وَهُوَ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ السَّبْعَةِ إِلَّا الْكِسَائِيَّ ; فَإِنَّهُ قَرَأَ: عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي، يَعْنِي عَمِلَ الْكُفْرَ، لَا أَنَّهُ مِنْ زِنَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمُجْمَلَ وَالْمُبَيَّنَ يَتَفَاوَتَانِ فِي مَرَاتِبِ الْإِجْمَالِ وَالْبَيَانِ ; فَيَكُونُ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ أَشَدَّ إِجْمَالًا مِنْ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا أَشَدَّ بَيَانًا مِنْ بَعْضٍ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39 - 40] وَفِي سُورَةِ الطُّورِ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطُّورِ: 48 - 49] ، وَفِي سُورَةِ هُودٍ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هُودٍ: 114] . فَهَذِهِ الْآيَاتُ إِشَارَةٌ إِلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الْخَمْسِ، وَأَشَدُّ بَيَانًا مِنْهَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} ، يَعْنِي الظَّهْرَ {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} يَتَنَاوَلُ الْعَصْرَ
(2/702)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْعِشَاءَيْنِ، {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} الصُّبْحَ، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الْإِسْرَاءِ: 78 - 79] التَّطَوُّعَ، فَجَمَعَ فِي الْآيَةِ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَنَفْلَهَا. وَفِي سُورَةِ طَهَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طَهَ: 130] ، يَعْنِي الْفَجْرَ {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يَعْنِي الْعَصْرَ، {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} يَعْنِي الْعِشَاءَيْنِ وَالتَّطَوُّعَ، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} يَعْنِي الظُّهْرَ ; لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ النَّهَارِ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، أَوْ يُرِيدُ بِمَا قَبْلَ غُرُوبِهَا الْعَصْرَ وَالظُّهْرَ ; لِأَنَّ وَقْتَهُمَا وَاحِدٌ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: الظُّهْرُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِذَا أَدْرَكَ الْمَعْذُورُ قَدْرَ تَكْبِيرَةٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ، لَزِمَهُ قَضَاءُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} الْعِشَاءَيْنِ وَالتَّطَوُّعَ، {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} التَّطَوُّعَ أَيْضًا. وَفِي سُورَةِ الرُّومِ [الْآيَةِ: 17] : {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} الْعَصْرَ {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} الْفَجْرَ، مُطَابَقَةً لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] ، وَعَشِيًّا الْعِشَاءَانِ، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الرُّومِ: 18] الظُّهْرَ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ: أَدْخَلُ فِي الْبَيَانِ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ، مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ، وَأَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ أَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ،، وَأَبْيَنُ مِنْ أَحَادِيثِ السُّنَّةِ مَا فَصَّلَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَإِلَى هُنَا انْتَهَى الْبَيَانُ.
وَهَكَذَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ ; السُّنَّةُ أَبْيَنُ مِنَ الْكِتَابِ ; لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِبَيَانِهِ، وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ أَبْيَنُ مِنَ السُّنَّةِ ; لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِتَفْصِيلِ أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/703)
________________________________________
خَاتِمَةٌ
فَحْوَى اللَّفْظِ: مَا أَفَادَهُ لَا مِنْ صِيغَتِهِ، وَيُسَمَّى إِشَارَةً، وَإِيمَاءً، وَلَحْنًا، وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ، وَهُوَ عَلَى أَضْرُبٍ:
الْأَوَّلُ: الْمُقْتَضَى، وَهُوَ الْمُضْمَرُ الضَّرُورِيُّ لِصِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ، نَحْوَ: لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ أَيْ: صَحِيحٌ. أَوْ لِوُجُودِ الْحُكْمِ شَرْعًا، نَحْوَ: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} أَيْ: فَأَفْطِرْ، وَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي، فِي اقْتِضَائِهِ مِلْكَ الْقَائِلِ لَهُ. أَوْ عَقْلًا، نَحْوَ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فِي إِضْمَارِ الْوَطْءِ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فِي إِضْمَارِ الْأَهْلِ.
الثَّانِي: تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ، نَحْوَ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} ، وَ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} أَيْ: لِلسَّرِقَةِ، وَالزِّنَا، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} ، أَيْ: لِلْبِرِّ وَالْفُجُورِ، لِمَيْلِ الْعُقَلَاءِ إِلَى: أَكْرِمِ الْعُلَمَاءَ وَأَهِنِ الْجُهَّالَ، وَنُفُورِهِمْ مِنْ عَكْسِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
خَاتِمَةٌ: فَحْوَى اللَّفْظِ: مَا أَفَادَهُ لَا مِنْ صِيغَتِهِ ".
اعْلَمْ أَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ ; إِمَّا مَنْقُولٌ، وَإِمَّا مَعْقُولٌ، أَوْ ثَابِتٌ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ.
فَالْمَعْقُولُ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ; وَدَلَالَتُهُمَا: إِمَّا مِنْ مَنْطُوقِ اللَّفْظِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ مَنْطُوقِ اللَّفْظِ.
(2/704)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَالْأَوَّلُ يُسَمَّى مَنْطُوقًا، كَفَهْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ، فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، وَكَفَهْمِ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ، فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاءِ: 23] .
وَالثَّانِي يُسَمَّى فَحْوَى وَمَفْهُومًا، كَفَهْمِ عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ مِنَ الْحَدِيثِ، وَتَحْرِيمِ الضَّرْبِ مِنَ الْآيَةِ، وَهَذِهِ الْخَاتِمَةُ مَذْكُورَةٌ لِبَيَانِ ذَلِكَ.
وَالْمَعْقُولُ: الْقِيَاسُ ; لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ بِوَاسِطَةِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ.
وَالثَّابِتُ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَلَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، هُوَ الْإِجْمَاعُ، كَمَا سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي إِثْبَاتِهِ.
وَقَوْلُنَا: هَذَا الْإِجْمَاعُ مَنْقُولٌ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا مَجَازٌ ; لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِجْمَاعِ الِاتِّفَاقُ، وَهُوَ لَا يُنْقَلُ، إِنَّمَا الْمَنْقُولُ هُوَ الْإِخْبَارُ بِوُجُودِهِ، بِخِلَافِ النُّصُوصِ، فَإِنَّ نَفْسَهَا هِيَ الْمَنْقُولُ، وَالْقِيَاسُ نَفْسُهُ هُوَ الْمَعْقُولُ. إِذَا عَرَفَتْ هَذَا، عُدْنَا إِلَى حَلِّ لَفْظِ الْكِتَابِ.
فَقَوْلُهُ: " فَحْوَى اللَّفْظِ " هُوَ: " مَا أَفَادَهُ ". جِنْسٌ، يَتَنَاوَلُ مَا أَفَادَهُ نُطْقًا وَغَيْرَهُ.
وَبِقَوْلِهِ: " لَا مِنْ صِيغَتِهِ " يَخْرُجُ الْمَنْطُوقُ ; لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنَ الصِّيغَةِ، كَمَا
(2/705)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذُكِرَ فِي حَدِيثِ السَّائِمَةِ، وَآيَةِ التَّأْفِيفِ ; فَبَقِيَ مَا يُسْتَفَادُ لَا مِنَ الصِّيغَةِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فَحَوَى - بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - وَبَعْضُ مَنْ لَا يَعْلَمُ يَقُولُهَا بِالْجِيمِ، وَهُوَ تَصْحِيفٌ قَبِيحٌ، وَالْفَحْوَى فِي اللُّغَةِ: مَعْنَى الْقَوْلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: فَحَوَى الْقَوْلِ مَعْنَاهُ وَلَحْنُهُ، يُقَالُ: عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي فَحْوَى كَلَامِهِ وَفَحْوَاءِ كَلَامِهِ مَقْصُورًا وَمَمْدُودًا، وَإِنَّهُ لِيُفَحِّيَ بِكَلَامِهِ إِلَى كَذَا وَكَذَا - قُلْتُ أَنَا: مَعْنَاهُ: يُشِيرُ - قَالَ: وَالْفِحَا - مَقْصُورٌ -: أَبْزَارُ الْقِدْرِ بِكَسْرِ الْفَاءِ، وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ، وَالْجَمْعُ أَفْحَاءُ، وَفِي الْحَدِيثِ: مَنْ أَكَلَ فَحَا أَرْضٍ، لَمْ يَضُرَّهُ مَاؤُهَا يَعْنِي الْبَصَلَ، يُقَالُ: فَحِّ قِدْرَكَ تَفْحِيَةً.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الْفَحْوَى مَأْخُوذٌ مِنَ الْفَحَا ; لِأَنَّ فَحْوَى الْكَلَامِ تَجَاوُزُ لَفْظِهِ أَوْ مَوْضُوعِهِ إِلَى الذِّهْنِ، مُجَاوَزَةَ رَائِحَةِ الْفَحَا إِلَى الشَّمِّ.
(2/706)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَيُسَمَّى إِشَارَةً، وَإِيمَاءً، وَلَحْنًا "، يَعْنِي فَحْوَى الْكَلَامِ الْمُسْتَفَادِ لَا مِنْ صِيغَتِهِ: يُسَمَّى بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَلَكَ الْخِيَرَةُ فِي تَسْمِيَتِهِ بِأَيِّهَا شِئْتَ.
قُلْتُ: وَهَذَا صَحِيحٌ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ كُلَّهَا يَجْمَعُهَا إِفْهَامُ الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ، وَالْفَحْوَى قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَالْإِشَارَةُ: إِيمَاءٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَشَارَ إِلَيْهِ بِالْيَدِ: أَوْمَأَ إِلَيْهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَوْمَأَ إِلَيْهِ: أَشَارَ.
قُلْتُ: غَيْرَ أَنَّهُ يُشْبِهُ أَنَّ الْإِيمَاءَ أَعَمُّ مِنَ الْإِشَارَةِ، بِأَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ مُخْتَصَّةً بِالْيَدِ، وَالْإِيمَاءُ إِشَارَةٌ بِالْيَدِ وَغَيْرِهَا ; فَكُلُّ إِشَارَةٍ إِيمَاءٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِيمَاءٍ إِشَارَةً.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَاللَّحَنُ - بِالتَّحْرِيكِ - الْفِطْنَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ، أَيْ: أَفْطَنُ لَهَا.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: لَحَنْتُ لَهُ - بِالْفَتْحِ - أَلْحَنُ لَحْنًا، إِذَا قُلْتَ لَهُ قَوْلًا يَفْهَمُهُ عَنْكَ، وَيَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ، وَلَحِنَهُ هُوَ عَنِّي - بِالْكَسْرِ - يَلْحَنُهُ لَحْنًا، أَيْ: فَهِمَهُ، وَأَلْحَنْتُهُ إِيَّاهُ. وَلَاحَنْتُ النَّاسَ: فَاطَنْتُهُمْ.
(2/707)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَسْمَاءَ الْفَزَارِيُّ:
وَحَدِيثٌ أَلَذُّهُ هُوَ مِمَّا ... يَنْعَتُ النَّاعِتُونَ يُوزَنُ وَزْنَا
مَنْطِقٌ رَائِعٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا ... نًا، وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا
يُرِيدُ: أَنَّهَا تَتَكَلَّمُ بِشَيْءٍ، وَهِيَ تُرِيدُ غَيْرَهُ، وَتُعَرِّضُ فِي حَدِيثِهَا ; فَتُزِيلُهُ عَنْ جِهَتِهِ، مِنْ فِطْنَتِهَا وَذَكَائِهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [مُحَمَّدٍ: 30] ، أَيْ: فِي فَحْوَاهُ وَمَعْنَاهُ. آخِرُ كَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ.
قُلْتُ: فَقَدْ تَبَيَّنَ اتِّفَاقُ مَعَانِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ تَقْسِيمًا يَقْتَضِي الْفَرْقَ بَيْنَ بَعْضِهَا ; فَقَالَ: وَأَمَّا دَلَالَةُ غَيْرِ الْمَنْظُومِ، وَهُوَ مَا دَلَالَتُهُ غَيْرُ صَرِيحَةٍ ; فَلَا يَخْلُو ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهُ
(2/708)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ، أَوْ لَا.
فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا، فَإِنْ تَوَقَّفَ صِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ صِحَّةُ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَلَيْهِ ; فَهِيَ دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ، فَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ ; فَهِيَ دَلَالَةُ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ، وَإِلَّا ; فَدَلَالَةُ الْمَفْهُومِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُهُ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ ; فَهِيَ دَلَالَةُ الْإِشَارَةِ.
قُلْتُ: فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ، وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ ; لِأَنَّ غَالِبَ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ يَجْمَعُهَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، مِنْ أَنَّهَا مَفْهُومَةٌ مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ ; فَهِيَ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ.
قَوْلُهُ: " وَتَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُ "، أَيْ: مَرَاتِبُ اللَّحْنِ، وَفَحْوَى الْخِطَابِ ; لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إِفْهَامُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ، وَإِفْهَامُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ، قَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ أَدَلَّ مِنْ بَعْضٍ، وَأَلْزَمَ لِمَدْلُولِ الصَّرِيحِ مِنْ بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي لَحْنَ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ، «عَلَى أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: الْمُقْتَضَى» - بِفَتْحِ الضَّادِ - أَيْ: الَّذِي يَقْتَضِيهِ صِحَّةُ الْكَلَامِ وَيَطْلُبُهُ، «وَهُوَ الْمُضْمَرُ الضَّرُورِيُّ» ، أَيِ: الَّذِي تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى إِضْمَارِهِ، وَتَقْدِيرِهِ فِي اللَّفْظِ، وَالضَّرُورَةُ تَدْعُو إِلَى إِضْمَارِهِ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: «صِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ، نَحْوَ: لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ أَيْ» : لَا عَمَلَ «صَحِيحٌ» إِلَّا بِنِيَّةٍ، إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِدْقًا ; لِأَنَّ صُورَةَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، كَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ يُمْكِنُ وُجُودُهَا بِلَا نِيَّةٍ،
(2/709)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَكَانَ إِضْمَارُ الصِّحَّةِ مِنْ ضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِمَّا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى الْإِضْمَارِ لِأَجْلِهِ ; «وُجُودُ الْحُكْمِ شَرْعًا نَحْوَ» قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [الْبَقَرَةِ: 184] تَقْدِيرُهُ: أَوْ عَلَى سَفَرٍ ; فَأَفْطَرَ ; فَعَلَيْهِ صَوْمُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ; لِأَنَّ قَضَاءَ الصَّوْمِ عَلَى الْمُسَافِرِ، إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا أَفْطَرَ فِي سَفَرِهِ، أَمَّا إِذَا صَامَ فِي سَفَرِهِ ; فَلَا مُوجِبَ لِلْقَضَاءِ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ لُغَةً وَشَرْعًا، خِلَافًا لِمَا يُحْكَى عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْ أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ صَوْمُ عِدَّةِ أَيَّامٍ أُخَرَ ; سَوَاءٌ صَامَ فِي سَفَرِهِ أَوْ أَفَطَرَ، وَهُوَ مِنْ جُمُودِهِمُ الْمَعْرُوفِ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} [الْبَقَرَةِ: 60] ، أَيْ: فَضَرَبَهُ ; فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ; لِأَنَّ الضَّرْبَ سَبَبُ الِانْفِجَارِ ; فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِهِ. وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [الْفَرْقَانِ: 36] ، أَيْ: فَقُلْنَا: اذْهَبَا ; فَذَهَبَا إِلَى الْقَوْمِ ; فَكَذَّبُوهُمَا ; فَاسْتَحَقُّوا التَّدْمِيرَ ; فَدَمَّرْنَاهُمْ. لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ هَذَا كُلِّهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: «أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي» وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ، «فِي اقْتِضَائِهِ مِلْكَ الْقَائِلِ لَهُ» أَيْ: لِلْعَبْدِ ; لِأَنَّا قُلْنَا: إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْتَقَهُ الْمَقُولُ لَهُ، يَعْتِقُ عَنِ الْقَائِلِ، وَالْقَاعِدَةُ: أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عَنِ الْإِنْسَانِ إِلَّا مَا كَانَ مِلْكًا لَهُ ; فَوَجَبَ ضَرُورَةُ تَصْحِيحِ هَذَا الْعِتْقِ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يُقَدَّرَ دُخُولُ الْعَبْدِ فِي مِلْكِ الْقَائِلِ، قَبْلَ عِتْقِهِ بِزَمَنٍ مَا، لِيَكُونَ الْعِتْقُ مُتَفَرِّعًا عَلَى مِلْكِهِ، وَمَبْنِيًّا عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِمَّا تَدْعُو الضَّرُورَةُ إِلَى الْإِضْمَارِ لِأَجْلِهِ: وُجُودُ الْحُكْمِ «عَقْلًا، نَحْوَ» قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النِّسَاءِ: 23] ،
(2/710)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَإِنَّ الْعَقْلَ يَأْبَى إِضَافَةَ التَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ ; فَوَجَبَ لِذَلِكَ إِضْمَارُ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحْرِيمُ، وَهُوَ الْوَطْءُ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهُ هُنَاكَ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82] ، فَإِنَّ السُّؤَالَ إِنَّمَا يَصِحُّ عَقْلًا مِمَّا يَصِحُّ مِنْهُ الْجَوَابُ، وَالْقَرْيَةُ الَّتِي هِيَ الْجُدْرَانُ وَالْأَبْنِيَةُ لَا يَصِحُّ مِنْهَا ذَلِكَ ; فَوَجَبَ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ الْخَبَرِ عَقْلًا، إِضْمَارُ مَا يَصِحُّ سُؤَالُهُ وَجَوَابُهُ، وَهُوَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: اصْعَدِ السَّطْحَ، يَقْتَضِي بِالضَّرُورَةِ إِضْمَارَ نَصْبِ السُّلَّمِ.
قُلْتُ: وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَقْسَامَ دَلَالَةِ غَيْرِ الْمَنْظُومِ أَرْبَعَةً كَمَا سَبَقَ:
أَوَّلُهَا: دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ: وَهُوَ مَا كَانَ الْمَدْلُولُ فِيهِ مُضْمَرًا ; إِمَّا لِضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، أَيْ: حُكْمُهُ. أَوْ لِصِحَّةِ الْمَلْفُوظِ بِهِ ; إِمَّا عَقْلًا نَحْوَ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يُوسُفَ: 82] ، أَوْ شَرْعًا، نَحْوَ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ، إِذْ يَسْتَدْعِي إِضْمَارَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ، لِتَوَقُّفِ الْعِتْقِ عَنْهُ شَرْعًا عَلَيْهِ.
وَثَانِيهَا: دَلَالَةُ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ، وَهِيَ خَمْسَةُ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِيَاسِ.
وَثَالِثُهَا: دَلَالَةُ الْإِشَارَةِ: كَدَلَالَةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ: تَمْكُثُ شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي. تَفْسِيرًا لِنُقْصَانِ دِينِهَا، عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الطُّهْرِ، وَأَكْثَرَ
(2/711)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَيْضِ - خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا.
وَرَابِعُهَا: دَلَالَةُ الْمَفْهُومِ: وَذَكَرَ فِيهِ نَحْوَ مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «الثَّانِي» ، أَيِ: الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ - «تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، نَحْوَ» قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 39] ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النُّورِ: 2] ، أَيْ: لِأَجْلِ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا. وَكَذَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الِانْفِطَارِ: 13، 14] ، أَيْ: لِأَجْلِ الْبِرِّ وَالْفُجُورِ، فَإِنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ السَّرِقَةَ عِلَّةُ الْقَطْعِ، وَالزِّنَا عِلَّةُ الْجَلْدِ، وَالْبِرَّ وَالْفُجُورَ سَبَبُ النَّعِيمِ وَالْجَحِيمِ، «لِمَيْلِ الْعُقَلَاءِ» ، أَيْ: لِأَنَّ الْعُقَلَاءَ تَقْبَلُ عُقُولُهُمْ، وَيَمِيلُونَ «إِلَى» قَوْلِ الْقَائِلِ: «أَكْرِمِ الْعُلَمَاءَ، وَأَهِنِ الْجُهَّالَ، وَنُفُورِهِمْ مِنْ» عَكْسِ ذَلِكَ، نَحْوَ: أَهِنِ الْعُلَمَاءَ، وَأَكْرِمِ الْجُهَّالَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ فِي الْأَوَّلِ فَهِمُوا أَنَّ الْعِلْمَ سَبَبُ الْإِكْرَامِ، وَالْجَهْلَ سَبَبُ الْإِهَانَةِ، وَهُوَ تَرْتِيبُ حُكْمٍ عَلَى سَبَبٍ مُنَاسِبٍ لَهُ عَقْلًا ; فَلِذَلِكَ قَبِلُوهُ، وَمَالُوا إِلَيْهِ.
وَفِي الثَّانِي فَهِمُوا تَعْلِيلَ الْإِهَانَةِ بِالْعِلْمِ، وَالْإِكْرَامِ بِالْجَهْلِ، وَهُوَ تَرْتِيبُ حُكْمٍ عَلَى سَبَبٍ غَيْرِ مُنَاسِبٍ ; فَلِذَلِكَ أَنْكَرَتْهُ عُقُولُهُمْ، وَنَفَرُوا مِنْهُ، كَمَا يَنْفِرُونَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ ; فَأَهِنْهُ، وَمَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ ; فَأَكْرِمْهُ.
(2/712)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مُعَلَّلَةٌ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ، كَالسَّرِقَةِ، وَالزِّنَا، وَالْبِرِّ، وَالْفُجُورِ ; فَذَلِكَ لَيْسَ مَفْهُومًا لَنَا مِنْ صَرِيحِ النُّطْقِ وَنَصِّهِ، بَلْ مِنْ فَحْوَى الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ ; فَبَانَ بِذَلِكَ أَنْ فَهْمَ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ الْمُقْتَرِنِ بِهِ مِنْ قَبِيلِ الْفَحْوَى وَلَحْنِ الْخِطَابِ.
(2/713)
________________________________________
الثَّالِثُ: فَهْمُ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ كَفَهْمِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وَشَرْطُهُ فَهْمُ الْمَعْنَى فِي مَحَلِّ النُّطْقِ كَالتَّعْظِيمِ فِي الْآيَةِ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ السُّلْطَانُ عَنْ مُنَازِعٍ لَهُ: اقْتُلُوا هَذَا، وَلَا تَصْفَعُوهُ، وَهُوَ قِيَاسٌ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْخَرَزِيِّ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَالْقَاضِي، وَالْحَنَفِيَّةِ.
لَنَا: إِلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُقْتَضَى، وَهُوَ الْقِيَاسُ، كَقِيَاسِ الْجُوعِ وَنَحْوِهِ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْغَضَبِ لِمَنْعِهِمَا كَمَالَ الْفِكْرَةِ. وَالزَّيْتِ عَلَى السَّمْنِ فِي التَّنْجِيسِ بِجَامِعِ السِّرَايَةِ.
قَالُوا: قَاطِعٌ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ بِلَا تَأَمُّلٍ.
قُلْنَا: قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَنَحْوُهُ رُدَّتْ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ ; فَالْكَافِرُ أَوْلَى، إِذِ الْكُفْرُ فِسْقٌ وَزِيَادَةٌ، وَقَتْلُ الْخَطَأِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ ; فَالْعَمْدُ أَوْلَى، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، لِجَوَازِ تَحَرِّي الْكَافِرِ الْعَدَالَةَ فِي دِينِهِ، بِخِلَافِ الْفَاسِقِ، وَاخْتِصَاصِ الْعَمْدِ بِمُسْقِطٍ مُنَاسِبٍ كَالْغَمُوسِ.
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: إِذَا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا ; فَحَالًا أَجْوَزُ، لِبُعْدِهِ مِنَ الْغَرَرِ.
رُدَّ بِأَنَّ الْغَرَرَ مَانِعٌ احْتُمِلَ فِي الْمُؤَجَّلِ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ لِانْتِفَاءِ مَانِعِهِ، بَلْ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ الِارْتِفَاقُ بِالْأَجَلِ، وَقَدِ انْتَفَى فِي الْحَالِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الثَّالِثُ» ، أَيِ: الضَّرْبُ الثَّالِثُ مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ: «فَهْمُ
(2/714)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، كَفَهْمِ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الْإِسْرَاءِ: 23] » ، فَإِنَّ مَنْطُوقَ هَذَا تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ وَالِانْتِهَارِ، وَمَفْهُومَهُ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى تَحْرِيمُ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْإِيلَامَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى التَّأْفِيفِ وَالِانْتِهَارِ بِطَرِيقِ أَوْلَى، وَسُمِّيَ هَذَا مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ ; لِأَنَّهُ يُوَافِقُ الْمَنْطُوقَ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ فِي التَّأْكِيدِ، بِخِلَافِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ; فَإِنَّهُ يُخَالِفُ حُكْمَ الْمَنْطُوقِ كَفَهْمِ عَدَمِ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 75] ; فَتَأْدِيَتُهُ لِلدِّينَارِ بِطَرِيقِ أَوْلَى، وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْهُ، {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 75] ، يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمُ تَأْدِيَتِهِ لِلْقِنْطَارِ بِطَرِيقِ أَوْلَى.
وَكَذَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 7] ، يُفْهَمُ مِنْهُ بِطَرِيقِ أَوْلَى أَنَّهُ يَرَى مِثْقَالَ الْجَبَلِ مِنَ الْخَيْرِ.
وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ: قَاعِدَةُ نَفْيِ الْأَعَمِّ، وَإِثْبَاتِ الْأَخَصِّ ; فَمَتَى وَرَدَ النَّفْيُ عَلَى الْأَعَمِّ، اقْتَضَى نَفْيَ الْأَخَصِّ بِطَرِيقِ أَوْلَى، وَإِنْ وَرَدَ الْإِثْبَاتُ عَلَى الْأَخَصِّ، اقْتَضَى إِثْبَاتَ الْأَعَمِّ بِطَرِيقِ أَوْلَى، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِثْبَاتِ الْمَلْزُومِ،
(2/715)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَنَفْيِ اللَّازِمِ.
قَوْلُهُ: «وَشَرْطُهُ» ، أَيْ: شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ «فَهْمُ الْمَعْنَى فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، كَالتَّعْظِيمِ فِي الْآيَةِ» ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاءِ: 23] ; فَإِنَّا فَهِمْنَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِيَ لِهَذَا النَّهْيِ هُوَ تَعْظِيمُ الْوَالِدَيْنِ ; فَلِذَلِكَ فَهِمْنَا تَحْرِيمَ الضَّرْبِ بِطَرِيقِ أَوْلَى، حَتَّى لَوْ لَمْ نَفْهَمْ مِنْ ذَلِكَ تَعْظِيمًا، لَمَا فَهِمْنَا تَحْرِيمَ الضَّرْبِ أَصْلًا، لَكِنَّهُ لَمَّا نَفَى التَّأْفِيفَ لِلْأَعَمِّ، دَلَّ عَلَى نَفْيِ الضَّرْبِ لِلْأَخَصِّ بِطَرِيقِ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا فَيَجُوزُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يُفْهَمِ الْمَعْنَى فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، لَمْ يَحْصُلْ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ شَارٍ عَلَيْهِ، أَوْ مُنَازِعٌ لَهُ فِي مُلْكِهِ ; فَيَقُولَ: اقْتُلُوا هَذَا، وَلَا تَصْفَعُوهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُتَنَافِيًا، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ نَفْيِ الصَّفْعِ نَفْيُ الْقَتْلِ ; لِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ، لِيَكْتَفِيَ شَرَّهُ، وَيَنْهَى عَنْ صَفْعِهِ مُرَاعَاةً لِلْجَامِعِ الْجِنْسِيِّ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ حُرْمَةُ الْمُلْكِ، وَمَنْصِبُ الرِّيَاسَةِ، كَمَا فِي سِيرَةِ الْإِسْكَنْدَرِ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْمَغْرِبِ، وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ، وَاسْتَخْلَفَ فِيهِ، صَارَ مَلِكُ الشَّرْقِ لَهُ شَوْكَةٌ قَوِيَّةٌ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: إِنَّا إِنِ اقْتَتَلْنَا بِالْعَسَاكِرِ ; فَنِيَ هَذَا الْعَالَمُ، وَلَيْسَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلَكِنِ ابْرُزْ لِي، وَأَبْرُزُ لَكَ ; فَأَيُّنَا قَتَلَ صَاحِبَهُ، اسْتَقَلَّ فِي الْأَرْضِ ; فَبَارَزَهُ ; فَقَتَلَهُ الْإِسْكَنْدَرُ، ثُمَّ أَمَرَ بِجِهَازِهِ، وَنَزَلَ ; فَمَشَى بَيْنَ يَدَيِ الْجِنَازَةِ،
(2/716)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ; فَقَالَ: قَتَلْتُهُ لِخُرْقِهِ، وَاحْتَرَمْتُهُ مَيِّتًا لِلْجَامِعِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، يَعْنِي مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ «قِيَاسٌ عِنْدَ أَبِي الْحَسَنِ الْخَرَزِيِّ» ، مِنْ أَصْحَابِنَا، «وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ» ، يَعْنِي بَعْضَ الشَّافِعِيَّةِ «وَالْقَاضِي وَالْحَنَفِيَّةِ» ، فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، بَلْ مُسْتَنَدُ فَهْمِهِ الدَّلَالَةُ اللَّفْظِيَّةُ، لَا الْقِيَاسِيَّةُ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، أَيْ: عَلَى أَنَّهُ قِيَاسٌ أَنَّهُ «إِلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُقْتَضَى، وَهُوَ» حَقِيقَةُ «الْقِيَاسِ» كَإِلْحَاقِ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِسْكَارِ، وَإِلْحَاقِ الذُّرَةِ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ بِالْحِنْطَةِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْكَيْلِ، وَ «كَقِيَاسِ الْجُوعِ وَنَحْوِهِ» مِنْ مَوَانِعِ كَمَالِ الْفِكْرِ، فِي مَنْعِ الْحَاكِمِ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْغَضَبِ، لِمَنْعِهِمَا مِنْ كَمَالِ الْفِكْرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانٌ. وَكَقِيَاسِ «الزَّيْتِ عَلَى السَّمْنِ فِي التَّنْجِيسِ» ، بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، «بِجَامِعِ السِّرَايَةِ» ، عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي سَمْنٍ مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ: إِنْ كَانَ مَائِعًا ; فَلَا تَقْرَبُوهُ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا ; فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا، وَكُلُوهُ.
(2/717)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَكَذَلِكَ هَهُنَا أَرْكَانُ الْقِيَاسِ الْأَرْبَعَةِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ:
الْأَصْلُ: وَهُوَ تَحْرِيمُ التَّأْفِيفِ.
وَالْفَرْعُ: وَهُوَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ.
وَالْعِلَّةُ: وَهُوَ تَعْظِيمُ الْوَالِدَيْنِ.
وَالْحُكْمُ: وَهُوَ التَّحْرِيمُ.
فَلْيَكُنْ قِيَاسًا، لِاجْتِمَاعِ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، إِلَى آخِرِهِ، يَعْنِي الْمَانِعِينَ، لِكَوْنِهِ قِيَاسًا، احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا: مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، «قَاطِعٌ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ بِلَا تَأَمُّلٍ» ; فَلَا يَكُونُ قِيَاسًا، إِذْ لَابُدَّ فِي الْقِيَاسِ مِنَ التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ، فِي تَحْقِيقِ أَرْكَانِهِ، وَلَا كَذَلِكَ
(2/718)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا، فَإِنَّ السَّامِعَ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهِ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاءِ: 23] ، يَسْبِقُ إِلَى فَهْمِهِ النَّهْيُ عَنِ الضَّرْبِ بِلَا تَأَمُّلٍ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: قِيَاسٌ جَلِيٌّ» ، أَيْ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ قَاطِعًا، يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ بِلَا تَأَمُّلٍ، أَنْ لَا يَكُونَ قِيَاسًا، بَلْ هُوَ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ شَأْنُهُ ذَلِكَ، وَمَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى إِحْدَى مُقَدِّمَتَيْنِ مَمْنُوعَتَيْنِ، وَهُوَ أَنْ تَقُولُوا: قَاطِعٌ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ بِلَا تَأَمُّلٍ، وَكُلُّ قَاطِعٍ يَسْبِقُ بِلَا تَأَمُّلٍ لَا يَكُونُ قِيَاسًا، وَهَذِهِ مَمْنُوعَةٌ. أَوْ تَقُولُوا: وَالْقِيَاسُ لَابُدَّ فِيهِ مِنْ تَأَمُّلٍ ; فَهُوَ مَمْنُوعٌ أَيْضًا.
وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ ; إِمَّا أَضْعَفُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، أَوْ مُسَاوٍ لَهُ.
وَرَجَّحَ الْآمِدِيُّ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، بَلْ مُسْتَنَدُهُ إِلَى فَحْوَى الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَأْكِيدِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ ; لِأَنَّهُ أَدَلُّ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالْحُكْمِ فِيهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: فُلَانٌ يَأْسَفُ بِشَمِّ رَائِحَةِ مَطْبَخِهِ، أَبْلَغُ عِنْدَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: فُلَانٌ لَا يَقْرِي الضَّيْفَ. وَقَوْلَهُمْ: فَرَسُكَ لَا يَلْحَقُ غُبَارَ فَرَسِي، أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَرَسُكَ لَا يَسْبِقُ، أَوْ لَا
(2/719)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَلْحَقُ فَرَسِي.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ شَرْطَ هَذَا الْمَفْهُومِ فَهْمُ الْمَعْنَى فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَكَوْنُهُ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، وَلَوْ كَانَ قِيَاسًا، لَمَا اشْتُرِطَ هَذَا الشَّرْطُ الْأَخِيرُ فِيهِ.
قُلْتُ: دَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مُتَجَاذَبٌ، وَكَأَنَّ مَا قَالَهُ الْآمِدِيُّ أَرْجَحُ.
قَوْلُهُ: «وَنَحْوُهُ» ، أَيْ: وَنَحْوُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُمْ: «رُدَّتْ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ ; فَالْكَافِرُ أَوْلَى» ، بِرَدِّ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّ «الْكُفْرَ فِسْقٌ وَزِيَادَةٌ، وَقَتْلُ الْخَطَأِ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ فَالْعَمْدُ أَوْلَى» ، بِوُجُوبِهَا، لِاخْتِصَاصِهِ بِالْإِثْمِ، وَوُجُوبِ الْقَوَدِ، فَإِنَّ هَذَا كَقَوْلِنَا: إِذَا حُرِّمَ التَّأْفِيفُ ; فَالضَّرْبُ أَوْلَى.
قَوْلُهُ: «لَكِنَّهُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: إِنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ يَنْقَسِمُ إِلَى قَاطِعٍ، كَآيَةِ التَّأْفِيفِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا مِنْ نَظَائِرِهَا، وَإِلَى ظَنِّيٍّ غَيْرِ قَاطِعٍ، كَرَدِّ شَهَادَةِ الْكَافِرِ، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْعَمْدِ ; لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ عَدْلًا فِي دِينِهِ ; فَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ الْكَافِرَ الْعَدْلَ فِي دِينِهِ يَلِي مَالَ وَلَدِهِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ الْفَاسِقِ، فَإِنَّ مُسْتَنَدَ قَبُولِ شَهَادَتِهِ الْعَدَالَةُ، وَهِيَ مَفْقُودَةٌ ; فَهُوَ فِي مَظِنَّةِ الْكَذِبِ، إِذْ لَا وَازِعَ لَهُ عَنْهُ كَالرِّوَايَةِ وَأَوْلَى، وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْعَمْدِ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِمُسْقِطٍ لِلْكَفَّارَةِ مُنَاسِبٍ لِإِسْقَاطِهَا، كَمَا قُلْنَا فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ:
(2/720)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا كَفَّارَةَ فِيهَا ; لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ إِلَّا بِالنَّارِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ غَمُوسًا ; لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ، بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَيْمَانِ، فَإِنَّ الْحَالِفَ لَمْ يَتَعَمَّدِ الْكَذِبَ فِيهَا، كَذَلِكَ يُقَالُ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ: هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ، لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} إِلَى قَوْلِهِ: {عَظِيمًا} [النِّسَاءِ: 93] ، وَلِهَذَا حَكَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِخُلُودِ قَاتِلِ الْعَمْدِ فِي النَّارِ، وَأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَمْ تُنْسَخْ ; لِأَنَّ الْوَعِيدَ تَكَاثَفَ فِيهَا، بِخِلَافِ قَتْلِ الْخَطَأِ، فَإِنَّ حُكْمَهُ مَرْفُوعٌ كَمَا سَبَقَ، وَلَيْسَ عَلَى فَاعِلِهِ لَائِمَةٌ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّزْ عَنِ السَّبَبِ الْمُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ ; فَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ رَفْعًا لِتِلْكَ اللَّائِمَةِ ; لِأَنَّهَا لَطِيفَةٌ يَسِيرَةٌ، تَقْوَى الْكَفَّارَةُ عَلَى رَفْعِهَا.
قَوْلُهُ: «وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا مُبْتَدَأٌ، خَبَرُهُ «رُدَّ» ، أَيْ: إِنَّ
(2/721)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الْمَفْهُومَ إِمَّا قَاطِعٌ كَآيَةِ التَّأْفِيفِ، أَوْ ظَنِّيٌّ، ثُمَّ الظَّنِّيُّ: إِمَّا صَحِيحٌ وَاقِعٌ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، كَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ كَمَا ذُكِرَ، أَوْ فَاسِدٌ كَقَوْلِهِمْ: «إِذَا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا» ; فَهُوَ «حَالًا أَجْوَزُ ; لِبُعْدِهِ مِنَ الْغَرَرِ» ، إِذِ الْمُؤَجَّلُ عَلَى غَرَرٍ، هَلْ يَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ؟ وَالْحَالُّ مُتَحَقِّقُ الْحُصُولِ فِي الْحَالِ ; فَهُوَ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ، لَكِنَّ هَذَا مَرْدُودٌ بِأَنَّ الْغَرَرَ فِي الْعُقُودِ مَانِعٌ مِنَ الصِّحَّةِ، لَا مُقْتَضٍ لَهَا، وَالْحُكْمُ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وَمُصَحِّحِهِ، لَا لِانْتِفَاءِ مَانِعِهِ، إِذْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَانِعَ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَدِمِهِ وُجُودٌ وَلَا عَدَمٌ، وَالْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ السِّلْمِ هُوَ الِارْتِفَاقُ بِالْأَجَلِ، عَلَى مَا قُرِّرَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، كَالْأَجَلِ فِي الْكِتَابَةِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْحَالِ، وَالْغَرَرُ مَانِعٌ لَهُ، لَكِنَّهُ احْتُمِلَ فِي الْمُؤَجَّلِ، رُخْصَةً وَتَحْقِيقًا لِلْمُقْتَضَى، وَهُوَ الِارْتِفَاقُ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/722)
________________________________________
الرَّابِعُ: دَلَالَةُ تَخْصِيصِ شَيْءٍ بِحُكْمٍ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ نَحْوَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} ، {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ، {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} ، «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» ، وَهُوَ حُجَّةٌ إِلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
لَنَا: تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا مَعَ اسْتِوَائِهِمَا عِيٌّ، إِذْ هُوَ عُدُولٌ عَنِ الْأَخْصَرِ وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَإِبْطَالٌ لِفَائِدَةِ التَّخْصِيصِ.
قَالُوا: فَائِدَتُهُ تَوْسِعَةُ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ لِنَيْلِ فَضِيلَتِهِ وَتَأْكِيدُ حُكْمِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ، لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ، أَوْ سَبَبِيَّتِهِ، أَوْ وُقُوعِ السُّؤَالِ عَنْهُ، أَوِ احْتِيَاطًا لَهُ لِئَلَّا يُخْرِجَهُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ عَنِ الْحُكْمِ وَنَحْوِهِ، وَلَا تَخْتَصُّ بِمَا ذَكَرْتُمْ.
قُلْنَا: جَعْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جُمْلَةِ فَوَائِدِهِ تَكْثِيرًا لَهَا - أَوْلَى، وَأَيْضًا إِجْمَاعُ الْفُصَحَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَلَى فَهْمِ مَا ذَكَرْنَاهُ، كَقَوْلِ أَبِي ذَرٍّ: مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ؟ وَقَوْلِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: مَا لَنَا نَقْصُرُ، وَقَدْ أَمِنَّا؟ وَوَافَقَهُ عُمَرُ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ: «لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبَرَانِسَ» ، يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ جَوَابًا.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْيَهُودِيُّ أَوِ النَّصْرَانِيُّ إِذَا نَامَ غَمَّضَ عَيْنَيْهِ، وَإِذَا أَكَلَ حَرَّكَ فَكَّيِهِ - لَسَخِرَ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْهُ وَضَحِكَ عَلَيْهِ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الشَّافِعِيَّةُ أَوِ الْحَنَابِلَةُ فُضَلَاءُ، أَوْ عُلَمَاءُ، أَوْ زُهَّادٌ - لَاغْتَاظَ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ اللَّفْظِيِّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْمَعْنَوِيِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(2/723)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الرَّابِعُ» ، أَيِ: الضَّرْبُ الرَّابِعُ مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ «دَلَالَةُ تَخْصِيصِ شَيْءٍ بِحُكْمٍ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ» ، أَيِ: الْمَفْهُومُ مِنْهُ يُخَالِفُ الْمَنْطُوقَ بِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ لَهُ أَمْثِلَةً:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [الْمَائِدَةِ: 95] ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْعَمْدِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ بِهِ، يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} إِلَى قَوْلِهِ: {الْمُؤْمِنَاتِ} [النِّسَاءِ: 25] ، أَيْ: مِنَ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ ; فَتَخْصِيصُهُ الْمُؤْمِنَاتِ بِجَوَازِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَادِمَ الطَّوْلِ لَا يُبَاحُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ الْكَوَافِرِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا.
وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} الْآيَةَ ; فَتَخْصِيصُ جَوَازِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ بِعَدَمِ الطَّوْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَاجِدَ الطَّوْلِ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ ; فَفِي الْآيَةِ مَفْهُومَانِ:
أَحَدُهُمَا: هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ إِلَّا أَمَةً مُؤْمِنَةً.
وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ،
(2/724)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَخْصِيصُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِالسَّائِمَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، أَيْ: مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، «حُجَّةٌ إِلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ» .
قَالَ الْآمِدِيُّ: أَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَشْعَرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَنَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَالْقَفَّالُ، وَالشَّاشِيُّ، وَجُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ وَرَدَ لِلْبَيَانِ أَوِ التَّعْلِيمِ، دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، وَإِلَّا فَلَا. وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ النَّفْيَ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: «لَنَا:» ، أَيْ: عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يُفِيدُ نَفْيَهُ عَمَّا عَدَاهُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مُسَاوِيًا لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ، لَكَانَ «تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا مَعَ اسْتِوَائِهِمَا» عِيًّا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ بَاطِلَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ «عُدُولٌ عَنِ الْأَخْصَرِ» لَا لِفَائِدَةٍ، إِذْ قَوْلُهُ: فِي الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، أَخْصَرُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، وَالتَّقْدِيرُ أَنْ لَا اخْتِصَاصَ لِلسَّائِمَةِ بِالْحُكْمِ ; فَيَكُونُ ذَلِكَ عِيًّا، وَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، بَلْ مُتَعَيَّنًا فِي اللُّغَةِ.
(2/725)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي: أَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا بِالذِّكْرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ «تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ» ، إِذْ لَيْسَ قَوْلُهُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ، بِأَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: فِي مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ. وَلَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [الْمَائِدَةِ: 95] ، أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: مُخْطِئًا ; فَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ اسْتِوَاءَهُمَا فِي الْحُكْمِ يُبْطِلُ فَائِدَةَ تَخْصِيصِ أَحَدِهِمَا بِالذِّكْرِ، إِذْ لَا أَوْلَوِيَّةَ لَهُ بِالتَّخْصِيصِ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ ; فَهَذِهِ أُمُورٌ بَاطِلَةٌ، تُلْزِمُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِالذِّكْرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: فَائِدَتُهُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا مَنْعٌ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ، بَلْ لِلتَّخْصِيصِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ فَوَائِدُ:
إِحْدَاهُنَّ: «تَوْسِعَةُ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ» ، لِيَنَالَ الْمُجْتَهِدُ فَضِيلَةَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ مَعَ احْتِمَالِ الِاخْتِصَاصِ بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، يَحْصُلُ بِهِ لِلنَّاظِرِ فَضِيلَةُ النَّظَرِ ; لِأَنَّ فِيهِ إِتْعَابًا لِلْقَرِيحَةِ، وَالثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي وُرُودِ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ، وَكَمَا قُلْنَا: إِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ تَوْسِيعَ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ بِإِلْحَاقِ الْفُرُوعِ بِالْأُصُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَحْكَامِهَا،
(2/726)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَالرِّبَوِيَّاتِ السِّتَّةِ، مَعَ أَنَّ غَيْرَهَا مِثْلُهَا.
الثَّانِيَةُ: «تَأْكِيدُ حُكْمِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ، لِشِدَّةِ مُنَاسَبَتِهِ» ، كَتَأْكِيدِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ، لِمُنَاسَبَةِ السَّوْمِ لَهُ، أَوْ لِكَوْنِ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ سَبَبًا لِوُرُودِ النَّصِّ، أَوْ مَسْئُولًا عَنْهُ، كَمَا لَوْ قِيلَ: مَا تَقُولُ فِي السَّائِمَةِ؟ فَيَقُولُ: فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ، أَوْ يُقَالُ: مَا حُكْمُ الرَّبِيبَةِ فِي الْحِجْرِ؟ فَيُقَالُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الرَّبَائِبُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُخَصَّ الشَّيْءُ بِالذِّكْرِ «احْتِيَاطًا لَهُ، لِئَلَّا يُخْرِجَهُ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ» ، عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْحُكْمِ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِصَاصِ الْعَامِّ بِسَبَبِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ، مِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ الْمُتَكَلِّمُ إِفْرَادَ كُلِّ صُورَةٍ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِنَصٍّ، لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ، أَوْ يَكُونَ بَيَانُ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ قَدْ سَبَقَ، وَأَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ صَاحِبِ الشَّرْعِ تَكْثِيرَ أَلْفَاظِ النُّصُوصِ لِيَكْثُرَ ثَوَابُ الْقَارِئِ وَالْحَافِظِ لَهَا، وَلَا تَخْتَصُّ فَائِدَتُهُ «بِمَا ذَكَرْتُمْ» مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: جَعْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَا يُنَافِي مَا نَقُولُهُ، فَإِنَّ مَا بَيَّنْتُمُ احْتِمَالَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ لَا يُنَافِي أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَوَائِدِهِ، بَلْ جَعْلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جُمْلَةِ فَوَائِدِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ أَوْلَى، تَكْثِيرًا
(2/727)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِفَوَائِدِهِ، فَإِنَّ تَكْثِيرَ فَوَائِدِ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنْ تَقْلِيلِهَا.
قَوْلُهُ: «وَأَيْضًا» ، إِلَى آخِرِهِ. ذَكَرَ حُجَّةً أُخْرَى عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ إِجْمَاعَ الْفُصَحَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَلَى فَهْمِ اخْتِصَاصِ الشَّيْءِ بِالْحُكْمِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِالذِّكْرِ.
أَمَّا الْفُصَحَاءُ ; فَكَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ ; فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ مِنَ الْأَصْفَرِ؟ وَكَذَلِكَ الرَّاوِي عَنْ أَبِي ذَرٍّ سَأَلَ أَبَا ذَرٍّ عَنْ ذَلِكَ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا فَهِمَا مِنْ تَخْصِيصِ الْأَسْوَدِ بِالذِّكْرِ اخْتِصَاصَهُ بِقَطْعِ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا؟ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النِّسَاءِ: 101] ; فَفَهِمَ اخْتِصَاصَ جَوَازِ الْقَصْرِ بِحَالِ الْخَوْفِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ لَهُ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ; فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ ذَلِكَ ; فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ ; فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ. وَقَدْ حَصَلَتْ بِذَلِكَ الْمُوَافَقَةُ عَلَى مَا فَهِمَهُ يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ وَعُمَرُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْضًا، حَيْثُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا مَا فَهِمَاهُ، بَلْ عَدَلَ
(2/728)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَى ذِكْرِ الرُّخْصَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَا فَهِمَاهُ صَحِيحًا، لَرَدَّهُ عَلَيْهِمَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْقَصْرِ بِحَالَةِ الْخَوْفِ، كَمَا سَبَقَ مِنْ رَدِّهِ عَلَى ابْنِ الزِّبَعْرَى مَا فَهِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] ، فِي بَابِ الْعُمُومِ، وَكَذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ ; فَقَالَ: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْبَرَانِسَ. دَلَّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ يَنْفِي الْحُكْمَ عَمَّا عَدَاهُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمَا كَانَ مَا ذَكَرَهُ جَوَابًا لِلسَّائِلِ ; لَأَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمَ عَامٌّ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْقُمُصُ، وَالسَّرَاوِيلَاتُ مُخْتَصَّةً بِالتَّحْرِيمِ، لَمَا كَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا.
وَأَمَّا الْعُقَلَاءُ ; فَلِأَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: «الْيَهُودِيُّ أَوِ النَّصْرَانِيُّ إِذَا نَامَ، غَمَّضَ عَيْنَيْهِ، وَإِذَا أَكَلَ حَرَّكَ فَكَّيْهِ - لَسَخِرَ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْهُ، وَضَحِكَ عَلَيْهِ» ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ، «وَكَذَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الشَّافِعِيَّةُ، أَوِ الْحَنَابِلَةُ فُضَلَاءُ، أَوْ عُلَمَاءُ، أَوْ زُهَّادٌ، لَاغْتَاظَ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَكَذَا بِالْعَكْسِ» ، لَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْحَنَفِيَّةُ فُضَلَاءُ، لَاغْتَاظَ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ
(2/729)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّافِعِيَّةِ أَوِ الْحَنَابِلَةِ، «وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ اللَّفْظِيِّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْمَعْنَوِيِّ» ; فَقَدْ ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا بِاتِّفَاقِ الْفُصَحَاءِ وَالْعُقَلَاءِ.
(2/730)
________________________________________
قَالُوا: لَوْ دَلَّ، لَدَلَّ: زَيْدٌ عَالِمٌ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ وَالرِّسَالَةِ عَنْ غَيْرِهِمَا.
قُلْنَا: مَفْهُومُ اللَّقَبِ، وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ. فَإِنْ سُلِّمَ فَلِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ.
قَالُوا: لَوْ دَلَّ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ، نَحْوَ: مَنْ ضَرَبَكَ عَامِدًا فَاضْرِبْهُ ; فَيَقُولُ: فَإِنْ ضَرَبَنِي مُخْطِئًا؟ .
قُلْنَا: لِعَدَمِ نُصُوصِيَّتِهِ وَقَطْعِيَّتِهِ. كَالْعَامِّ، نَحْوَ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ ; فَيَقُولُ: وَزَيْدًا أَيْضًا؟ لَا لِعَدَمِ إِفَادَتِهِ التَّخْصِيصَ.
قَالُوا: مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَلَا دَلِيلَ فِي السُّكُوتِ.
قُلْنَا: بِالسُّكُوتِ فِيهِ وَالنُّطْقِ فِي قَسِيمِهِ تَعَاضَدَا عَلَى إِفَادَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ يُفِيدُ الْمُرَكَّبُ مَا لَا تُفِيدُ مُفْرَدَاتُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، إِلَى آخِرِهِ. . . . هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى لِلْخَصْمِ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُ لَوْ دَلَّ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ، عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ، لَدَلَّ قَوْلُنَا: «زَيْدٌ عَالِمٌ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ» ، عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ، وَنَفْيِ الرِّسَالَةِ عَنْ غَيْرِ مُحَمَّدٍ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، إِذِ الْعُلَمَاءُ غَيْرُ زَيْدٍ، وَالرُّسُلُ غَيْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرٌ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مَفْهُومُ اللَّقَبِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ
(2/731)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلَنَا: زَيْدٌ عَالِمٌ، إِنَّمَا يَدُلُّ مِنْ حَيْثُ «مَفْهُومُ اللَّقَبِ، وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ» ، يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ مَنَعْنَا كَوْنَهُ حُجَّةً، لَمْ يَلْزَمْنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ حُجَّةً بِالْجُمْلَةِ ; فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ اخْتِصَاصِهِ بِالذِّكْرِ، بَلْ لِدَلَالَةِ «الْعَقْلِ وَالْحِسِّ عَلَى عَدَمِ اخْتِصَاصِ» ، زَيْدٍ بِالْعِلْمِ، وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالرِّسَالَةِ، إِذْ قَدْ عَلِمْنَا بِالتَّوَاتُرِ الَّذِي بَعْضُ مُقَدِّمَاتِهِ عَقْلِيَّةٌ، أَنَّ هُنَاكَ رُسُلًا كَثِيرِينَ، وَنَعْلَمُ بِالْحِسِّ وُجُودَ عُلَمَاءَ غَيْرِ زَيْدٍ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي مِثْلِهِ، بَلْ فِيمَا لَا قَرِينَةَ فِيهِ بِعَدَمِ الِاخْتِصَاصِ، وَذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلِاخْتِصَاصِ، إِذْ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: لَوْ دَلَّ، لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى لَهُمْ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُ لَوْ دَلَّ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ، لَكِنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَحْسُنُ ; فَلَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَحْسُنُ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ: «مَنْ ضَرَبَكَ عَامِدًا ; فَاضْرِبْهُ» ، لَحَسُنَ مِنَ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: «فَإِنْ ضَرَبَنِي مُخْطِئًا» ، أَفَأَضْرِبُهُ أَمْ لَا؟ وَلَوِ اخْتَصَّ الْعَامِدُ بِالْحُكْمِ، لَمَا حَسُنَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا، إِنَّمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ السَّامِعِ،
(2/732)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِعَدَمِ نُصُوصِيَّةِ التَّخْصِيصِ اللَّفْظِيِّ عَلَى التَّخْصِيصِ الْحُكْمِيِّ، وَعَدَمِ قَطْعِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ، أَيْ: لَيْسَ نَصًّا فِي ذَلِكَ وَلَا قَاطِعًا، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ كَالْعَامِّ ; فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: «أَكْرِمِ الرِّجَالَ» ، لَحَسُنَ مِنَ السَّامِعِ أَنْ يَقُولَ: «وَزَيْدًا أَيْضًا أُكْرِمُ» ؟ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الرِّجَالِ زَيْدًا، بَلْ لِعَدَمِ نُصُوصِيَّتِهِ فِيهِ ; فَالِاسْتِفْهَامُ إِنَّمَا هُوَ لِتَحْصِيلِ النُّصُوصِيَّةِ وَالْقَطْعِ فِيمَا اسْتُفْهِمَ عَنْهُ ; «لَا لِعَدَمِ إِفَادَتِهِ التَّخْصِيصَ» .
قَوْلُهُ: «قَالُوا: مَسْكُوتٌ عَنْهُ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ حُجَّةٌ أُخْرَى لَهُمْ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ غَيْرَ الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، «وَلَا دَلِيلَ فِي السُّكُوتِ» .
مِثَالُهُ: الْمَعْلُوفَةُ مَسْكُوتٌ عَنْهَا، فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ. وَالسُّكُوتُ عَدَمُ الْكَلَامِ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْعَدَمِ.
«قُلْنَا: بِالسُّكُوتِ فِيهِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّلَالَةَ فِي السُّكُوتِ الْمُجَرَّدِ، بَلِ الدَّلَالَةُ فِي السُّكُوتِ عَنِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، «وَالنُّطْقِ فِي قَسِيمِهِ» وَهُوَ الْمَخْصُوصُ بِالذِّكْرِ مِنْهُمَا جَمِيعًا «تَعَاضَدَا عَلَى إِفَادَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ» مِنَ الِاخْتِصَاصِ الْمَعْنَوِيِّ لِلِاخْتِصَاصِ اللَّفْظِيِّ ; فَالدَّلَالَةُ هَهُنَا مُسْتَفَادَةٌ مِنْ تَرْكِيبِ النُّطْقِ وَالسُّكُوتِ فِي الْمَخْصُوصِ بِالذِّكْرِ، وَقَسِيمِهِ، «وَقَدْ يُفِيدُ الْمُرَكَّبُ مَا لَا تُفِيدُ مُفْرَدَاتُهُ» وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/733)
________________________________________
ثُمَّ هَهُنَا صُوَرٌ أَنْكَرُوهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ: إِحْدَاهُنَّ: نَحْوَ: لَا عَالِمَ إِلَّا زَيْدًا، قَالُوا: هُوَ سُكُوتٌ عَنِ الْمُسْتَثْنَى، لَا إِثْبَاتُ الْعِلْمِ لَهُ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ: الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَالْعَادَةُ ذِكْرُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ.
وَلَنَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى إِفَادَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِثْبَاتَ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إِمَّا فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ أَوْ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَالْأَوَّلُ يَسْتَلْزِمُ الْإِثْبَاتَ فِي الْمُسْتَثْنَى، إِذِ الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ إِمَّا نَافِيَةٌ ; فَهُوَ تَطْوِيلٌ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ، أَوْ مُثْبَتَةٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَالثَّانِي يَمْنَعُ الْوَاسِطَةَ، إِذْ بَعْضُ الْجُمْلَةِ لَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ حُكْمٍ، ثُمَّ تَصَوُّرُ الْوَاسِطَةِ فِي الْكَلَامِ مَعَ اسْتِلْزَامِهِ التَّرْكِيبَ الْإِسْنَادِيَّ الْإِفَادِيَّ - مُحَالٌ ; فَأَمَّا: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ» وَنَحْوُهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " ثُمَّ هَهُنَا صُوَرٌ أَنْكَرُوهَا "، يَعْنِي مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ " بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَفْهُومِ:
إِحْدَاهُنَّ: نَحْوَ: لَا عَالِمَ إِلَّا زَيْدًا. قَالُوا: هُوَ سُكُوتٌ عَنِ الْمُسْتَثْنَى "، وَهُوَ زَيْدٌ، " لَا إِثْبَاتُ الْعِلْمِ لَهُ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ النَّفْيِ
(2/734)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِثْبَاتٌ، وَالْعَادَةُ ذِكْرُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَكِنِّي تَابَعْتُ الْأَصْلَ فِي ذِكْرِهَا هَهُنَا، " وَعُمْدَتُهُمْ "، يَعْنِي الْخُصُومَ، " أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ "، وَإِنَّمَا هُوَ نُطْقٌ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَمَّا الْمُسْتَثْنَى ; فَمَسْكُوتٌ عَنْهُ.
" وَلَنَا " يَعْنِي عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ: " الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " يُفِيدُ " إِثْبَاتَ الْإِلَهِيَّةِ لِلَّهِ " سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ اسْتِثْنَاءُ إِثْبَاتٍ مِنْ نَفْيٍ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ إِلَّا اللَّهُ.
قَوْلُهُ: " وَفِيهِ "، أَيْ: فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ " نَظَرٌ "، أَيْ: هُوَ لَا يَتَحَقَّقُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمَطْلُوبُ، إِذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَفَادَ إِثْبَاتَ الْآلِهِيَّةِ بِمَجَرَّدِهِ، بَلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي هَذَا الْكَلَامِ مَسْكُوتٌ عَنْ ثُبُوتِ إِلَهِيَّتِهِ وَنَفْيِهَا، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ هَذَا اللَّفْظِ.
قَوْلُهُ: " وَالْمُعْتَمَدُ "، أَيِ: الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ " أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إِمَّا فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ، أَوْ " فِي تَقْدِيرِ " جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْأَوَّلُ " وَهُوَ كَوْنُهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ " يَسْتَلْزِمُ الْإِثْبَاتَ "، فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ ; فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا.
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ; لِأَنَّ " الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ إِمَّا نَافِيَةٌ "، أَوْ مُثْبِتَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً، لَزِمَ مِنْهُ " التَّطْوِيلُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ "، وَهُوَ بَاطِلٌ، مُنَافٍ لِحِكْمَةِ وَاضِعِ اللُّغَةِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّطْوِيلُ بِلَا فَائِدَةٍ ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى
(2/735)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَافِيَةٌ ; فَلَوْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ كَذَلِكَ، لَزِمَ مَا ذَكَرْنَاهُ، إِذْ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَوَّلِ يُفِيدُ نَفْيَ الثَّانِيَةِ.
مِثَالُهُ: إِذَا قُلْنَا: لَا إِلَهَ ; فَهَذِهِ جُمْلَةٌ نَافِيَةٌ ; فَقَوْلُنَا: إِلَّا اللَّهُ، لَوْ كَانَتْ نَافِيَةً أَيْضًا، لَكَانَ فِي قَوْلِنَا: لَا إِلَهَ، غُنْيَةٌ عَنْهَا، إِذْ قَدْ فَهِمْنَا عُمُومَ نَفْيِ الْإِلَهِ مِنْهَا، فَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى مَا بَعْدَهَا. وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا: مَا قَامَ أَحَدٌ، هِيَ جُمْلَةٌ نَافِيَةٌ ; فَقَوْلُنَا: إِلَّا زَيْدٌ، لَوْ أَفَادَ نَفْيَ قِيَامِ زَيْدٍ، لَكَانَ قَوْلُنَا: مَا قَامَ أَحَدٌ، كَافِيًا عَنْهُ ; فَبَانَ بِهَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَتْ نَافِيَةً ; فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ مُثْبِتَةً، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِنَا: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، " وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ". هَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَتَيْنِ.
قَوْلُهُ: " وَالثَّانِي "، يَعْنِي كَوْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي تَقْدِيرِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ " يَمْنَعُ الْوَاسِطَةَ "، أَيْ: يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى وَاسِطَةً بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِأَحَدِهِمَا ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْمُسْتَثْنَى بَعْضُهَا، وَبَعْضُ الْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو عَنْ حُكْمٍ ; إِمَّا نَفْيٌ أَوْ إِثْبَاتٌ. وَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ صَدْرَ الْجُمْلَةِ مَنْفِيٌّ، وَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ; فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا كَذَلِكَ لِاسْتِحَالَةَ كَوْنِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ نَفْيًا، وَبَعْضِهَا إِثْبَاتًا.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ تَصَوُّرُ الْوَاسِطَةِ فِي الْكَلَامِ، مَعَ اسْتِلْزَامِهِ التَّرْكِيبَ الْإِسْنَادِيَّ الْإِفَادِيَّ - مُحَالٌ ". هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى امْتِنَاعِ تَصَوُّرِ الْوَاسِطَةِ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ ; فَيَقُولُ: الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّفْيِ لَا مُثْبَتٌ وَلَا مَنْفِيٌّ، بَلْ
(2/736)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا.
وَبَيَانُ امْتِنَاعِ الْوَاسِطَةِ فِي ذَلِكَ: هُوَ أَنَّ الْكَلَامَ هَهُنَا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّفْيِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ الِاسْتِثْنَائِيَّةِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّرْكِيبِ الْإِسْنَادِيِّ الْإِفَادِيِّ، أَيْ: هِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جُزْءَيْنِ فَصَاعِدًا، أُسْنِدَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ لِلْإِفَادَةِ، كَقَوْلِنَا: الْقَوْمُ قِيَامٌ إِلَّا زَيْدًا، وَقَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، وَمَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ، وَكُلُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى التَّرْكِيبِ الْإِسْنَادِيِّ الْإِفَادِيِّ ; فَهُوَ كَلَامٌ ; فَالْجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ كَلَامٌ، وَكُلُّ كَلَامٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُثْبَتًا أَوْ مَنْفِيًّا ; لِأَنَّهُ لَابُدَ فِيهِ مِنْ مَحْكُومٍ بِهِ، وَمَحْكُومٍ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ إِمَّا بِنَفْيٍ، أَوْ إِثْبَاتٍ، نَحْوَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، وَقَامَ زَيْدٌ، وَمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَمَا قَامَ زَيْدٌ. وَإِذَا كَانَتِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ الْإِفَادِيَّ، الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، وَالْكَلَامُ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ، وَالْحُكْمُ مُنْحَصِرٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، كَانَتِ الْوَاسِطَةُ مَعَ ذَلِكَ فِي التَّرْكِيبِ الْإِفَادِيِّ مُحَالًا، وَإِذَا انْتَفَتِ الْوَاسِطَةُ، بَقِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّفْيِ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا أَوْ مُثْبَتًا، وَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْفِيٍّ ; فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُثْبَتًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: " فَأَمَّا: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ. . . " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَذْكُرُهُ الْحَنَفِيَّةُ، مُسْتَدِلِّينَ بِهِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ إِثْبَاتًا، لَكَانَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ،
(2/737)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ يَقْتَضِي صِحَّةَ الصَّلَاةِ عِنْدَ وُجُودِ الطَّهُورِ، وَالنِّكَاحِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَلِيِّ ; لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ نَفْيِ الصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَكُمْ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ الصِّحَّةُ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ لِجَوَازِ تَخَلُّفِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ وُجُودِ الطَّهُورِ، لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ صِحَّةُ النِّكَاحِ مَعَ وُجُودِ الْوَلِيِّ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ ; لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصْدُقُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى فِيهِ بَعْدَ " إِلَّا " اسْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ مَا قَبْلَهَا، أَوْ يَكُونُ مَا بَعْدَ " إِلَّا " جُزْءًا مِمَّا قَبْلَهَا، نَحْوَ: مَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ ; فَزَيْدٌ أَحَدٌ، وَمَا قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ ; فَزَيْدٌ جُزْءٌ مِنَ الْقَوْمِ.
وَإِذَا عَرَفَتْ هَذَا ; فَالطَّهُورُ وَالْوَلِيُّ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمَا اسْمُ مَا قَبْلَهُمَا، وَلَا هُمَا جُزْءٌ مِنْهُ، إِذِ الطَّهُورُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ وَلَا جُزْئِهَا، وَالْوَلِيُّ لَيْسَ بِنِكَاحٍ وَلَا جُزْئِهِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ. لَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ، بَلْ مِنْ بَابِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ " لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ "، فَالطَّهُورُ شَرْطُ الصَّلَاةِ، وَالْوَلِيُّ شَرْطُ النِّكَاحِ ; فَيَنْتَفِيَانِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وَجُودُهُمَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/738)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: «إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» يُفِيدُ الْحَصْرَ، أَيْ: حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَالْفِعْلِ فِي الْفَاعِلِ فِي الْفِعْلِيَّةِ عِنْدَ قَوْمٍ خِلَافًا لِمُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَوْلَى.
الْأَوَّلُونَ: «إِنَّ» لِلْإِثْبَاتِ وَ «مَا» لِلنَّفْيِ ; فَأَفَادَا مُجْتَمِعَيْنِ مَا أَفَادَا مُنْفَرِدَيْنِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْمَذْكُورِ، وَنَفْيُ مَا عَدَاهُ. وَلِفَهْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ مِنْ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» . وَهُوَ عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ «مَا» لَهَا أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ ; فَتَخْصِيصُ هَذِهِ بِالنَّافِيَةِ مِنْهَا تَحَكُّمٌ، ثُمَّ إِنَّ «مَا» هَذِهِ هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا كَافَّةٌ ; فَلَوْ كَانَتْ نَافِيَةً لَأَفَادَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ
نَفْيَ طَلَبِ الْمَجْدِ وَهُوَ مُنَاقِضٌ لِمَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَلَاتَّحَدَتْ كَيْفِيَّةُ الْمُسْتَدْرَكِ وَالْمُسْتَدْرَكِ مِنْهُ بِلَكِنَّمَا، نَحْوَ: مَا قَامَ زَيْدٌ لَكِنَّمَا عَمْرٌو قَائِمٌ، وَهُوَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، وَلِأَنَّ النُّحَاةَ قَالُوا: دَخَلَتْ «مَا» عَلَى «إِنَّ» كَمَا دَخَلَتْ «إِنَّ» عَلَى «مَا» فِي نَحْوِ: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} مُقَاصَّةً. فَالظَّاهِرُ اتِّحَادُهُمَا فِي الْحَرْفِيَّةِ.
سَلَّمْنَا، لَكِنَّ قَوْلَكُمْ: «أَفَادَا مُجْتَمِعَيْنِ مَا أَفَادَا مُنْفَرِدَيْنِ» ، مَنْقُوضٌ بِلَوْلَا، وَفَهْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ لَعَلَّهُ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ مِنْ قِيَاسٍ، وَنَحْوِهُ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَهُ مُرْسَلٌ ; فَلَعَلَّ وَهْمًا دَخَلَهُ، وَمَعَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فَلْتَكُنْ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لَا لِنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصُّورَةُ «الثَّانِيَةُ» مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي أَنْكَرَهَا مُنْكِرُو الْمَفْهُومِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا
(2/739)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْهُ: الْحَصْرُ بِإِنَّمَا، نَحْوَ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ ; فَهُوَ «يُفِيدُ الْحَصْرَ» ، أَيْ: حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وَالْفِعْلِ فِي الْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ.
قُلْتُ: تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ إِنَّمَا لَا يَقَعُ بَعْدَهَا إِلَّا جُمْلَةٌ خَبَرِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ ; إِمَّا اسْمِيَّةٌ، نَحْوَ: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. أَوْ فِعْلِيَّةٌ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آلِ عِمْرَانَ: 178] ، وَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ، فَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ إِنَّمَا جُمْلَةٌ إِسْمِيَّةٌ اقْتَضَتْ حَصْرَ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ، كَالْوَلَاءِ فِيمَنْ أَعْتَقَ، وَالْأَعْمَالِ فِيمَا وَقَعَ بِالنِّيَّاتِ، وَزَيْدٍ فِي الْقِيَامِ فِي قَوْلِنَا: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ. وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ، اقْتَضَتْ حَصْرَ الْفِعْلِ فِي الْفَاعِلِ، كَالْقِيَامِ فِي زَيْدٍ فِي قَوْلِنَا: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ.
وَمَعْنَى الْحَصْرِ: أَنَّ الْمُبْتَدَأَ لَا يَكُونُ مُتَّصِفًا إِلَّا بِالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ صِفَةً لِغَيْرِهِ، نَحْوَ: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ ; فَزَيْدٌ لَا يَتَّصِفُ إِلَّا بِالْقِيَامِ، وَإِنِ اتَّصَفَ بِالْقِيَامِ عَمْرٌو وَبَكْرٌ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ لَا يَتَّصِفُ بِهِ إِلَّا الْفَاعِلُ، وَإِنِ اتَّصَفَ الْفَاعِلُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ، نَحْوَ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ ; فَالْقِيَامُ لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي زَيْدٍ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْ زَيْدٍ ضَرْبٌ، وَقَتْلٌ، وَأَكْلٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَفْعَالِ، فَإِذَا
(2/740)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُرِفَ مَعْنَى الْحَصْرِ ; فَإِنَّمَا يَقْتَضِيهِ عِنْدَ قَوْمٍ، خِلَافًا لِمُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، وَهُوَ أَوْلَى، يَعْنِي عَدَمَ اقْتِضَائِهَا الْحَصْرَ. هَكَذَا ظَهَرَ لِي فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَعَلَيْهِ تَرَتَّبَ الْبَحْثُ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْغَزَّالِيُّ، وَالْهَرَّاسِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِإِنَّمَا، ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ، مُحْتَمَلٌ فِي التَّأْكِيدِ، وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْحَصْرِ، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُونَ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ عَلَى دَعْوَى الْحَصْرِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «إِنَّمَا» مُرَكَّبَةٌ مِنْ «إِنَّ» وَ «مَا» ; فَـ «إِنَّ» لِلْإِثْبَاتِ، نَحْوَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَ «مَا» لِلنَّفْيِ، نَحْوَ: مَا زَيْدٌ قَائِمٌ ; فَأَفَادَا مُجْتَمِعَيْنِ، يَعْنِي بَعْدَ التَّرْكِيبِ، مَا أَفَادَا مُنْفَرِدَيْنَ، أَيْ: حَالَ إِفْرَادِهِمَا قَبْلَ التَّرْكِيبِ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفِيدُ حَالَ تَرْكِيبِهَا مَا أَفَادَتْهُ حَالَ إِفْرَادِهِمَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ; فَيَجِبُ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تُفِيدَ إِنَّمَا إِثْبَاتًا بِاعْتِبَارِ إِنَّ، وَنَفْيًا بِاعْتِبَارِ مَا. ثُمَّ لَا يَخْلُو ; إِمَّا أَنْ تُفِيدَ نَفْيَ الْمَذْكُورِ بَعْدَهَا، وَإِثْبَاتَ مَا عَدَاهُ، أَوْ إِثْبَاتَ مَا بَعْدَهَا، وَنَفْيَ مَا عَدَاهُ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِلَّا لَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِمَنْ عَدَا الْمُعْتِقِ، وَمِنْ قَوْلِنَا: إِنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، أَنَّ الْقَائِمَ مَنْ عَدَا زَيْدٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ إِثْبَاتُ الْمَذْكُورِ، بَعْدَ إِنَّمَا وَنَفْيُ مَا عَدَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَصْرِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(2/741)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ. حَصْرَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ لَا يُحَرِّمُ إِلَّا بَيْعَ الرِّبَوِيَّاتِ نَسِيئَةً، وَكَانَ يُجِيزُ التَّفَاضُلَ فِيهَا، حَتَّى سَمِعَ النُّصُوصَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ ; فَرَجَعَ «وَهُوَ - يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ - عَرَبِيٌّ فَصِيحٌ» ; فَيَكُونُ فَهْمُهُ لِلْحَصْرِ مِنْ إِنَّمَا حُجَّةً ; فَتَكُونُ لِلْحَصْرِ.
قَوْلُهُ: «وَالْجَوَابُ» ، يَعْنِي عَنِ الْوَجْهَيْنِ:
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ: فَقَوْلُهُمْ: إِنَّ لِلْإِثْبَاتِ، قُلْنَا: نَعَمْ. قَوْلُهُمْ: وَمَا لِلنَّفْيِ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، وَمُسْتَنَدُ الْمَنْعِ مِنْ وُجُوهٍ.
أَحَدُهَا: «أَنَّ» مَا «لَهَا أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ» ، كَكَوْنِهَا صِلَةً، وَمَوْصُولَةً، وَنَافِيَةً، وَتَعَجُّبِيَّةً، وَشَرْطِيَّةً، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِهَا ; «فَتَخْصِيصُ هَذِهِ» يَعْنِي مَا فِي إِنَّمَا، «بِالنَّافِيَةِ» مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ «تَحَكُّمٌ» وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: «أَنَّ مَا هَذِهِ هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا كَافَّةٌ» ، أَيْ: لِتَكُفَّهَا عَنِ الْعَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا، وَتُهَيِّئَهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، نَحْوَ: إِنَّمَا، وَكَأَنَّمَا، وَلَيْتَمَا، وَلَعَلَّمَا، وَلَكِنَّمَا، كَانَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ قَبْلَ دُخُولِ مَا عَلَيْهَا مُخْتَصَّةً بِالدُّخُولِ عَلَى الْأَسْمَاءِ، عَامِلَةً فِيهَا، نَحْوَ: إِنَّ زَيْدًا قَائِمٌ، وَلَعَلَّ عَمْرًا قَادِمٌ ; فَكَفَّتْهَا مَا عَنِ الْعَمَلِ، وَهَيَّأَتْهَا لِلدُّخُولِ عَلَى الْفِعْلِ، نَحْوَ: إِنَّمَا قَامَ زَيْدٌ، وَلَعَلَّمَا قَدِمَ عَمْرٌو. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا هَهُنَا هِيَ الْكَافَّةُ
(2/742)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِ «إِنَّ» وَأَخَوَاتِهَا ; «فَلَوْ كَانَتْ نَافِيَةً» ، لَلَزِمَ مِنْهُ التَّنَاقُضُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَمْرَأَ الْقَيْسِ يَقُولُ:
وَلَوْ أَنَّمَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي وَلَمْ أَطْلُبْ قَلِيلٌ مِنَ الْمَالِ
وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ... وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي
فَلَوْ كَانَتْ مَا فِي «لَكِنَّمَا» نَافِيَةً، لَأَفَادَ قَوْلُهُ: وَلَكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ، أَنَّهُ لَا يَسْعَى لِلْمَجْدِ، وَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنَّنِي مَا أَسْعَى لِمَجْدٍ ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ مَا لِلنَّفْيِ، لَكِنَّ ذَلِكَ «مُنَاقِضٌ لِمَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ» ، أَمَّا مَا قَبْلَهُ ; فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ أَنَمَا أَسْعَى لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ كَفَانِي، وَ «لَوْ» تَقْتَضِي امْتِنَاعَ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ ; فَاقْتَضَتْ هَهُنَا امْتِنَاعَ كِفَايَةِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمَالِ لَهُ، لِامْتِنَاعِ سَعْيِهِ لِأَدْنَى مَعِيشَةٍ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ أَدْنَى مَعِيشَةٍ. وَأَمَّا مَا بَعْدَهُ ; فَهُوَ قَوْلُهُ: وَقَدْ يُدْرِكُ الْمَجْدَ الْمُؤَثَّلَ أَمْثَالِي ; فَهُوَ يُسَهِّلُ إِدْرَاكَ الْمَجْدِ عَلَى نَفْسِهِ، لِيُقْدِمَ عَلَى طَلَبِهِ، وَقِصَّتُهُ وَسِيَاقُ قَصِيدَتِهِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ; فَقَدْ لَزِمَ التَّنَاقُضُ الْمَذْكُورُ مَنْ جَعَلَ مَا فِي «لَكِنَّمَا» لِلنَّفْيِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلنَّفْيِ ; لِأَنَّ مَلْزُومَ
(2/743)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْبَاطِلِ بَاطِلٌ. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي «لَكِنَّمَا» ; ثَبَتَ فِي بَقِيَّةِ أَخَوَاتِهَا، وَمِنْهَا «إِنَّمَا» ; لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمْثَالِ وَاحِدٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَتْ مَا فِي «لَكِنَّمَا» لِلنَّفْيِ، «لَاتَّحَدَتْ كَيْفِيَّةُ الْمُسْتَدْرَكِ وَالْمُسْتَدْرَكِ مِنْهُ» ، «نَحْوَ: مَا قَامَ زَيْدٌ، لَكِنَّمَا عَمْرٌو قَائِمٌ» ; فَكَانَ يَلْزَمُ نَفْيُ الْقِيَامِ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو، «وَهُوَ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا» ; لِأَنَّ الْمُسْتَدْرَكَ وَالْمُسْتَدْرَكَ مِنْهُ يَجِبُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ، أَيُّهُمَا كَانَ مُثْبَتًا، كَانَ الْآخَرُ مَنْفِيًّا، نَحْوَ: مَا قَامَ زَيْدٌ ; لَكِنَّمَا عَمْرٌو قَائِمٌ ; فَقِيَامُ عَمْرٍو مُثْبَتٌ. وَقَوْلُهُمْ: قَامَ زَيْدٌ، لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَقُمْ، قَدْ ظَهَرَ فِيهِ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ. وَلَوْ قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ، لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَقُمْ، قَدْ ظَهَرَ فِيهِ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ. وَلَوْ قُلْتَ: قَامَ زَيْدٌ، لَكِنْ عَمْرٌو، لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّ الِاسْتِدْرَاكَ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ عَمَّا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْحُكْمِ ; فَيَجِبُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُخْرَجِ وَالْمُخْرَجِ مِنْهُ. وَلِهَذَا قُلْنَا: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَمِنِ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَتْ «مَا» فِي «إِنَّ» وَأَخَوَاتِهَا لِلنَّفْيِ، لَكَانَ قَوْلُنَا: لَيْتَمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَلَعَلَّمَا بَكْرٌ قَادِمٌ جَمْعًا بَيْنَ التَّمَنِّي أَوِ التَّرَجِّي وَالنَّفْيِ، وَهُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ النَّفْيَ خَبَرٌ لِاحْتِمَالِهِ التَّصْدِيقَ أَوِ التَّكْذِيبَ، وَالتَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي لَا يَحْتَمِلَانِ ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بَاطِلٌ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنْ مُسْتَنَدِ الْمَنْعِ: «أَنَّ النُّحَاةَ قَالُوا» فِي إِنَّمَا: «دَخَلَتْ مَا عَلَى إِنَّ كَمَا دَخَلَتْ إِنَّ عَلَى مَا، فِي نَحْوِ: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} [الْقَصَصِ: 76] مُقَاصَّةً» ، أَيْ: كَمَا دَخَلَتْ إِنَّ عَلَى مَا ; اقْتُصَّ لِـ «مَا» مِنْهَا،
(2/744)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَدَخَلَتْ مَا عَلَيْهَا ; فَقَالُوا: «إِنَّمَا» كَمَا قَالُوا: مَا إِنَّ، وَظَاهِرُ هَذَا «اتِّحَادُهُمَا» يَعْنِي اتِّحَادَ إِنَّ وَمَا فِي الْحَرْفِيَّةِ، أَيْ: فِي كَوْنِهِمَا حَرْفَيْنِ، إِذِ التَّسَاوِي وَالْمُكَافَأَةُ مِنْ شَرْطِ الْقِصَاصِ.
قُلْتُ: وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي دَعْوَى الْخَصْمِ أَنَّهَا نَافِيَةٌ، إِذِ النَّافِيَةُ حَرْفِيَّةٌ أَيْضًا، وَلَكِنِّي سَهَوْتُ فِي إِيرَادِهِ.
قَوْلُهُ: «سَلَّمْنَا» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: سَلَّمْنَا أَنَّ «مَا» فِي إِنَّمَا لِلنَّفْيِ، لَكِنَّ قَوْلَكُمْ: إِنَّ «إِنَّ» وَ «مَا» «أَفَادَا مُجْتَمِعَيْنِ مَا أَفَادَا مُنْفَرِدَيْنَ» ، مَمْنُوعٌ، وَهُوَ «مَنْقُوضٌ بِلَوْلَا» ; فَإِنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ «لَوْ» وَ «لَا» وَ «لَوْ» تَقْتَضِي امْتِنَاعَ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ، وَلَا تَقْتَضِي النَّفْيَ، ثُمَّ بَعْدَ التَّرْكِيبِ اقْتَضَتْ مَعْنًى ثَالِثًا، وَهُوَ امْتِنَاعُ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ - فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِ التَّرْكِيبِ، وَنَحْنُ نَمْنَعُهُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، بَلْ إِنَّمَا حَرْفٌ وُضِعَ لِإِفَادَةِ الْإِثْبَاتِ الْمُؤَكَّدِ.
قَوْلُهُ: «وَفَهْمُ ابْنِ عَبَّاسٍ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ دَلِيلِهِمُ الثَّانِي.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ فَهْمَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَصْرَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ «- لَعَلَّهُ كَانَ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ» عَنِ الْحَدِيثِ، «مِنْ قِيَاسٍ» أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا احْتُمِلَ أَنَّهُ فَهِمَ الْحَصْرَ مَنْ لَفْظِ إِنَّمَا وَأَنَّهُ
(2/745)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَهِمَهُ مَنْ غَيْرِهِ، لَمْ يَبْقَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْحَصْرِ ; لِأَنَّ احْتِجَاجَكُمْ بِفَهْمِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفَهْمُهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا مُرْسَلٌ، كَمَا سَبَقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى السُّنَّةِ، وَإِذَا كَانَ مُرْسَلًا ; «فَلَعَلَّ وَهْمًا دَخَلَهُ» فِي لَفْظِهِ حَتَّى حُرِّفَ وَتَغَيَّرَ. وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ تَضْعُفُ دَلَالَتُهُ جِدًّا.
قَوْلُهُ: «وَمَعَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ» يَعْنِي أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ، أَوْ لَيْسَتْ لِلْحَصْرِ ; «فَلْتَكُنْ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ» بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، «وَهُوَ تَأْكِيدُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ» بَعْدَهَا «لَا لِنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ» لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، هَذَا تَوْجِيهُ مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَاحْتَجَّ الْآمِدِيُّ عَلَى أَنَّهَا لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ أَيْضًا: بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْحَصْرِ، لَكَانَ وُرُودُهَا بِدُونِ: عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ رِبَا الْفَضْلِ إِلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ; فَكَانَ مُجْمِعًا عَلَيْهِ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لَا يَجُوزُ.
قَالَ: وَالْحَصْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الْكَهْفِ: 110] ، وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ، لَا مِنْ إِنَّمَا.
قُلْتُ: حَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّهَا لِلتَّوْكِيدِ، وَحَيْثُ أَفَادَتِ الْحَصْرَ ; فَمِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ الْآنَ: أَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْهَا فِي غَالِبِ مَوَاقِعِهَا، وَالْمُتَبَادِرُ إِلَى أَفْهَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهَا، وَوَرَدَتْ مُفَسَّرَةً بِصَرِيحِ
(2/746)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَصْرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هُودٍ: 12] ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فَاطِرٍ: 23] ، وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ.
قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
أَنَا الرَّجُلُ الْحَامِي الذِّمَارَ وَإِنَّمَا ... يُدَافِعُ عَنْ أَحْسَابِهِ أَنَا أَوْ مِثْلِي
فَحَصَرَ الْمُدَافَعَةَ عَنِ الْأَحْسَابِ فِيهِ، أَوْ فِي مِثْلِهِ، وَلِأَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ لِلْحَصْرِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِاتِّفَاقٍ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
فَإِنْ قُلْتَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِأَنَّهَا وَرَدَتْ لِغَيْرِ الْحَصْرِ فِي مَوَاضِعَ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وَرَدَتْ لِغَيْرِ الْحَصْرِ أَصْلًا، وَلَا فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، لَكِنَّ الْحَصْرَ تَابِعٌ لِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالْمُتَكَلِّمُ تَارَةً يُرِيدُ الْحَصْرَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَتَارَةً مِنْ بَعْضِ الْجِهَاتِ، وَبِبَعْضِ الِاعْتِبَارَاتِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
مِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرَّعْدِ: 7] ، أَيْ: بِاعْتِبَارِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ، إِذْ حَظُّهُ مِنْهُ الْإِنْذَارُ لَا غَيْرَ ; فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَحْصُورٌ فِي كَوْنِهِ مُنْذِرًا، لَا وَصْفَ لَهُ غَيْرُ الْإِنْذَارِ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَوْصُوفٌ بِالْبِشَارَةِ، وَالْعِلْمِ، وَالشَّجَاعَةِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [النَّحْلِ: 82] ،
(2/747)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الْمَائِدَةِ: 99] ، {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشُّورَى: 48] ، {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فَاطِرٍ: 23] ، لَكِنَّ الْحَصْرَ بِاعْتِبَارِ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِهِ مُنْذِرًا لَهُمْ، وَإِلَّا فَالنَّظَرُ إِلَى كَوْنِهِ عَبْدًا مُكَلَّفًا، عَلَيْهِ سَائِرُ الْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الْكَهْفِ: 110] ، حَصَرَ نَفْسَهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ، بِالنَّظَرِ إِلَى مَا سَأَلَهُ الْكُفَّارُ عَلَى جِهَةِ الْعَنَتِ مِنْ إِظْهَارِ الْآيَاتِ، وَإِيرَادِهِمْ عَلَيْهِ عَدَمَ إِحَاطَتِهِ بِالْمُغَيَّبَاتِ ; فَحَصَرَ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ فِي صِفَةِ الْبَشَرِيَّةِ، بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَقَامِ، أَيْ: لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْبَشَرِيَّةُ الصِّرْفَةُ، كَقَوْلِهِ لَمَّا سَأَلُوهُ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا: {إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [الْعَنْكَبُوتِ: 50] ، {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الْإِسْرَاءِ: 93] ، وَقَوْلِهِ: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الْأَعْرَافِ: 188] ، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الْأَحْقَافِ: 9] ، وَنَحْوِهُ، كُلُّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِكَثِيرٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، كَالنُّبُوَّةِ، وَالرِّسَالَةِ، وَالْحُكْمِ، وَالْعِلْمِ، وَالْجُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النِّسَاءِ: 171] ، يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِغَيْرِ الْوَحْدَةِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْعُلَى الْكَثِيرَةِ، الَّتِي مِنْهَا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ صِفَةً، الْمَشْهُورَةُ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى، وَإِنَّمَا حَصَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَفْسَهُ الشَّرِيفَةَ فِي صِفَةِ الْوَحْدَةِ، مِنْ جِهَةِ الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى الْمُثَلِّثَةِ، حَيْثُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} [النِّسَاءِ: 171] ; فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ الْخَاصَّةِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْخَاصِّ، حَصَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ فِي
(2/748)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صِفَةِ التَّوْحِيدِ لَا مُطْلَقًا.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [مُحَمَّدٍ: 36] ، حَصَرَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ لَا مُطْلَقًا، بَلْ بِاعْتِبَارِ مَنْ آثَرَهَا، وَجَرَّدَ لَهَا هَمَّهُ، وَصَرَفَ إِلَيْهَا هِمَّتَهُ ; فَإِنَّهَا فِي حَقِّهِ لَهْوٌ مَحْضٌ، وَلَعِبٌ صِرْفٌ، أَمَّا بِاعْتِبَارِ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا، وَزَهَدَ فِيهَا، وَاتَّخَذَهَا قَنْطَرَةً يَعْبُرُ بِهَا إِلَى الْآخِرَةِ ; فَبَادَرَ فِيهَا إِلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَجَرَّعَ فِيهَا الْغُصَصَ لِانْتِهَازِ الْفُرَصِ ; فَهِيَ فِي حَقِّهِ جِدٌّ صِرْفٌ، وَحَقٌّ مَحْضٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ; فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِنَّمَا وَرَدَتْ لِغَيْرِ الْحَصْرِ، حَتَّى تُجْعَلَ حَقِيقَةً فِيهِ.
وَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ الْآمِدِيُّ ; فَمُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْحَصْرِ، لَكَانَ وُرُودُهَا لِلْحَصْرِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/749)
________________________________________
الثَّالِثَةُ: نَحْوَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» ، وَ «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ هَلْ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ أَمْ لَا؟ وَتَحْلِيلُهَا وَتَحْرِيمُهَا مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى الصَّلَاةِ وَفِيهَا اللَّامُ ; فَالْكَلَامُ هُنَا كَذَلِكَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ لَا أَخَصَّ ; فَلَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ أَخَصَّ مِنْ تَحْلِيلِ الصَّلَاةِ لَخَرَجَ عَنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصُّورَةُ " الثَّالِثَةُ ": مِمَّا أَنْكَرَهُ مُنْكِرُو الْمَفْهُومِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْهُ " نَحْوَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَنَحْوِهُ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ أَمْ لَا؟ أَثْبَتَهُ الْغَزَّالِيُّ وَالْهَرَّاسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، مَعَ أَنَّهُ فِي الْقُوَّةِ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَنَفَاهُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
قَوْلُهُ: " وَأَصْلُهُ "، أَيْ: أَصْلُ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ أَوْ أَصْلُ الْحُكْمِ فِيهِ، يَعْنِي
(2/750)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي دَلِيلِهِ " أَنَّ " الِاسْمَ " الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ " يَعْنِي لَامَ التَّعْرِيفِ " هَلْ يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ أَمْ لَا؟ " ; فَمَنْ قَالَ: لَيْسَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ عِنْدَهُ الْحَصْرَ، وَصَارَ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: بَعْضُ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ، وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ.
وَمَنْ قَالَ: هُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَالْعُمُومَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَحْلِيلُهَا وَتَحْرِيمُهَا، مُضَافٌ إِلَى ضَمِيرٍ عَائِدٍ إِلَى مَا فِيهِ اللَّامُ، وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطَّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَالْمُضَافُ إِلَى ضَمِيرِ مَا فِيهِ اللَّامُ، مُضَافٌ إِلَى مَا فِيهِ اللَّامُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ.
قَوْلُهُ: " فَالْكَلَامُ هُنَا كَذَلِكَ "، أَيِ: الْكَلَامُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ كَذَلِكَ، أَيْ: كَالْمُضَافِ إِلَى مَا فِيهِ اللَّامِ، أَوْ كَالَّذِي فِيهِ اللَّامُ ; فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ، أَيْ: عُمُومُ الشُّفْعَةِ ثَابِتَةٌ فِي الْمَقْسُومِ، وَعُمُومُ الْأَعْمَالِ مُنْحَصِرَةٌ فِي الصِّحَّةِ، أَوِ الْكَمَالِ فِي الْوُقُوعِ بِالنِّيَّةِ.
قَوْلُهُ: " وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: " وَقِيلَ: " إِنَّمَا أَفَادَ هَذَا الْحَصْرَ ; " لِأَنَّ الْمَحْكُومَ بِهِ " - وَهُوَ الْخَبَرُ - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْمُبْتَدَأُ - أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ، لَا أَخَصَّ.
مِثَالُ الْمُسَاوِي: قَوْلُنَا: الْإِنْسَانُ بَشَرٌ، وَالْحَيَوَانُ النَّاطِقُ إِنْسَانٌ، أَوِ الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ.
(2/751)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِثَالُ الْأَعَمِّ: قَوْلُنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ ; فَالْحَيَوَانُ هُوَ الْخَبَرُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ الْمُبْتَدَأُ، وَهَذَانِ صَحِيحَانِ.
وَمِثَالُ الْأَخَصِّ: قَوْلُنَا: الْحَيَوَانُ إِنْسَانٌ ; فَهَذَا لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ الْخَبَرَ مَحْكُومٌ بِهِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَشَأْنُ الْمَحْكُومِ بِهِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَالْحَيَوَانُ صَادِقٌ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ صَادِقًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْحَيَوَانِ، إِذْ لَا يَصْدُقُ أَنَّ الْفَرَسَ، أَوِ الْجَمَلَ، أَوِ الطَّائِرَ، إِنْسَانٌ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ أَعَمَّ ; فَتَحْلِيلُ الصَّلَاةِ مُبْتَدَأٌ، وَالتَّسْلِيمُ خَبَرُهُ ; " فَلَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ، الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ، أَخَصَّ مِنْ تَحْلِيلِ الصَّلَاةِ "، لَخَرَجَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ " عَنْ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ "، وَدَلِيلِ الْعَقْلِ ; فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ التَّسْلِيمُ مُسَاوِيًا لِلتَّحْلِيلِ، أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، يَنْحَصِرُ التَّحْلِيلُ فِي التَّسْلِيمِ، انْحِصَارَ الْإِنْسَانِ فِي الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ فِي قَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، أَوِ انْحِصَارَهُ فِي الْحَيَوَانِ فِي قَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي التَّحْرِيمِ مَعَ التَّكْبِيرِ، وَالشُّفْعَةِ مَعَ مَا لَمْ يُقْسَمْ، وَالْأَعْمَالِ فِي الْمَنْوِيِّ، لِانْحِصَارِهَا فِيهِ انْحِصَارَ الْمُسَاوِي فِي مُسَاوِيهِ، أَوِ انْحِصَارَ الْأَخَصِّ فِي الْأَعَمِّ.
قُلْتُ: اعْلَمْ أَنِّي وَجَّهْتُ الْحَصْرَ فِي " الْمُخْتَصَرِ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِتَوْجِيهَيْنِ كَمَا قَرَّرْتُهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا تَوْجِيهٌ وَاحِدٌ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ:
(2/752)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الِاسْمَ الْمُفْرَدَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ، يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْخَبَرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ.
وَتَقْرِيرُهُ عَلَى هَذَا: أَنَّ تَحْرِيمَهَا وَتَحْلِيلَهَا فِي حُكْمِ الْمُضَافِ إِلَى الْمُفْرِدِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، وَالْمُفْرَدُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ ; فَكَذَا مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ ; فَتَحْرِيمُهَا وَتَحْلِيلُهَا مُبْتَدَأٌ عَامٌّ مُسْتَغْرِقٌ، وَالْمُبْتَدَأُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْخَبَرِ، أَوْ أَخَصَّ مِنْهُ، وَكُلُّ مُسَاوٍ لِشَيْءٍ، أَوْ أَخَصَّ مِنْ شَيْءٍ، يَجِبُ أَنْ يَنْحَصِرَ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ ; فَإِذَنِ التَّحْلِيلُ يَجِبُ انْحِصَارُهُ فِي التَّسْلِيمِ، وَالتَّحْرِيمُ يَجِبُ انْحِصَارُهُ فِي التَّكْبِيرِ ; فَلَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِهِمَا، وَالشُّفْعَةُ يَجِبُ انْحِصَارُهَا فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ; فَلَا تَجِبْ إِلَّا فِيهِ، وَالْأَعْمَالُ يَجِبُ انْحِصَارُهَا فِي الْمَنَوِيِّ ; فَلَا تَصِحُّ أَوْ لَا تَكْمُلُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَكِنِّي وَهِمْتُ فِي تَوْجِيهِ الْمَسْأَلَةِ ; فَجَعَلْتُ كُلَّ مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَتَيْ دَلِيلِهَا دَلِيلًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَوَائِدُ: الْحَصْرُ وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ: كِلَاهُمَا إِثْبَاتُ نَقِيضِ الْمَنْطُوقِ بِهِ لِلْمَسْكُوتِ عَنْهُ، لَا ضِدِّهِ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الْمَفْهُومِ سَلْبُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، كَسَلْبِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ الثَّابِتِ فِي السَّائِمَةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ، وَالنَّقِيضُ أَعَمُّ مِنَ الضِّدِّ، كَمَا مَرَّ فِي مَوْضِعِهِ، وَبِهَذَا يَضْعُفُ اسْتِدْلَالُ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ، بِمَفْهُومِ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التَّوْبَةِ: 84] ; لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، بَلِ الْمَفْهُومُ مِنْهُ سَلْبُ تَحْرِيمِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً أَوْ وَاجِبَةً.
(2/753)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: صِيَغُ الْحَصْرِ: " إِنَّمَا "، نَحْوَ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ.
وَتَقَدُّمُ النَّفْيِ قَبْلَ " إِلَّا "، نَحْوَ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً إِلَّا بِطَهُورٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمُعْمُولَاتِ، نَحْوَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الْفَاتِحَةِ: 5] ، أَيْ: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ، {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 27] ، أَيْ: لَا يَعْمَلُونَ إِلَّا بِأَمْرِهِ.
وَالْمُبْتَدَأِ مَعَ الْخَبَرِ، نَحْوَ: تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ.
وَيَنْقَسِمُ إِلَى حَصْرِ الْمَوْصُوفَاتِ فِي الصِّفَاتِ، نَحْوَ: إِنَّمَا زَيْدٌ الْعَالِمُ، وَإِلَى حَصْرِ الصِّفَاتِ فِي الْمَوْصُوفَاتِ، نَحْوَ إِنَّمَا الْعَالِمُ زَيْدٌ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ; فَقَدْ تَعُمُّ جِهَاتُ الْحَصْرِ، وَقَدْ تَخُصُّ كَمَا سَبَقَ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ بَابِ الْحَصْرِ: قَوْلُهُمْ: زَيْدٌ صَدِيقِي، وَصَدِيقِي زَيْدٌ ; فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي انْحِصَارَ زَيْدٍ فِي صَدَاقَتِكَ ; فَلَا يُصَادِقُ غَيْرَكَ، وَأَنْتَ يَجُوزُ أَنْ تُصَادِقَ غَيْرَهُ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي انْحِصَارَ أَصْدِقَائِكَ فِي زَيْدٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي صَدَاقَتِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَادِقَ غَيْرَكَ.
قُلْتُ: وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا فَائِدَةٌ دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّا قَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ، أَوْ مُسَاوِيًا لِلْمُبْتَدَأِ وَصَدِيقَيْ أَعَمُّ مِنْ زَيْدٍ، ثُمَّ هُوَ تَارَةً مُقَدَّمٌ، وَتَارَةً مُؤَخَّرٌ ; فَلَوْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَالَةٍ مُؤَخَّرًا، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ أَخَصَّ مِنَ الْمُبْتَدَأِ فِي قَوْلِنَا: صَدِيقِي زَيْدٌ ; فَتَخْتَلُّ الْقَاعِدَةُ الَّتِي قُرِّرَتْ ; فَلَزِمَ
(2/754)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ هَذَا أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ وَصَفٌ عَرَضِيٌّ، يَخْتَلِفُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَكُونُ أَعَمَّ مُؤَخَّرًا، وَأَخَصَّ مُقَدَّمًا، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قُدِّمَ تَخَصَّصَ بِالْعِنَايَةِ وَالِاهْتِمَامِ بِهِ، لِيُوضَعَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(2/755)
________________________________________
أَمَّا دَرَجَاتُ دَلِيلِ الْخِطَابِ فَسِتٌّ:
أَوَّلُهَا: مَدُّ الْحُكْمِ إِلَى غَايَةٍ بِحَتَّى أَوْ إِلَى نَحْوَ: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَيُفِيدُ أَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا، بِدَلِيلِ عَدَمِ حُسْنِ الِاسْتِفْهَامِ، نَحْوَ: فَإِنْ نَكَحَتْ؟ أَوْ جَاءَ اللَّيْلُ؟ وَقَالُوا: حُكْمُ مَا بَعْدَهَا حُكْمُ مَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا لِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ.
الثَّانِيَةُ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى شَرْطٍ، نَحْوَ {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا} يُفِيدُ انْتِفَاءَ الْإِنْفَاقِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَمْلِ، وَأَنْكَرَهُ قَوْمٌ، إِذْ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيقَهُ بِشَرْطَيْنِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الثَّانِي، فَإِذَا ثَبَتَ اعْتَبَرْنَاهُ.
الثَّالِثَةُ: تَعْقِيبُ ذِكْرِ الِاسْمِ الْعَامِّ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ، نَحْوَ: «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» ، وَ «مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ» ، وَنَحْوُهُ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ» - حُجَّةٌ طَلَبًا لِفَائِدَةِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْسِيمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «أَمَّا دَرَجَاتُ دَلِيلِ الْخِطَابِ فَسِتٌّ» ، يَعْنِي أَنَّ لِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ - مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ، لَكِنِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ خَالَفَ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ فِي تَرْتِيبِهَا ; فَقَالَ: فَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ ; فَعَلَى دَرَجَاتٍ سِتٍّ، وَذَكَرَ تَرْتِيبَهَا، كَمَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ قَالَ: الْقَوْلُ فِي دَرَجَاتِ دَلِيلِ الْخِطَابِ: اعْلَمْ أَنَّ تَوَهُّمَ النَّفْيِ مِنَ الْإِثْبَاتِ عَلَى مَرَاتِبَ وَدَرَجَاتٍ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ، وَذَكَرَ مَفْهُومَ
(2/756)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّقَبِ، ثُمَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ الدَّالَّ عَلَى جِنْسٍ، نَحْوَ: لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ، ثُمَّ تَخْصِيصَ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَطْرَأُ وَتَزُولُ، نَحْوَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ تَعْقِيبَ الِاسْمِ الْعَامِّ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ، نَحْوَ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ، ثُمَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ، ثُمَّ مَفْهُومَ الْحَصْرِ بِـ «إِنَّمَا» وَنَحْوِهَا، نَحْوَ: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، ثُمَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ بِحَتَّى، وَإِلَى، ثُمَّ مَفْهُومَ الْحَصْرِ بِالنَّفْيِ، نَحْوَ: لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ.
قُلْتُ: فَالْخِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي التَّرْتِيبِ بَيِّنٌ.
أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا فِي الْعَدَدِ ; فَلِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ قَدَّمَ مَفْهُومَ الْحَصْرِ بِإِنَّمَا وَبِالنَّفْيِ ; فَبَقِيَتِ الْمَرَاتِبُ بَعْدَ ذَلِكَ سِتًّا كَمَا ذَكَرَ، وَالْأَشْبَهُ تَرْتِيبُ أَبِي حَامِدٍ، لَكِنَّا نَجْرِي فِي الْكَلَامِ عَلَى تَرْتِيبِ «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ وَفْقُ تَرْتِيبِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ: «أَوَّلُهَا» ، أَيْ: أَوَّلُ دَرَجَاتِ دَلِيلِ الْخِطَابِ: «مَدُّ الْحُكْمِ إِلَى غَايَةٍ بِحَتَّى أَوْ إِلَى» ، وَيُسَمَّى مَفْهُومَ الْغَايَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ، وَقَوْلِهِ عَزَّ
(2/757)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَجَلَّ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَةِ: 222] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوْبَةِ: 29] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [الْبَقَرَةِ: 187] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [الْمَائِدَةِ: 6] ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، «فَيُفِيدُ أَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ يُخَالِفُ مَا قَبْلَهَا» ، كَالْحِلِّ بَعْدَ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ، وَجَوَازِ الْقُرْبَانِ بَعْدَ التَّطَهُّرِ، وَمَنْعِ الْقِتَالِ بَعْدَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَأَنْ لَا صِيَامَ بَعْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، وَلَا غُسْلَ وَاجِبٌ بَعْدَ الْمَرَافِقِ وَالْكَعْبَيْنِ.
قَوْلُهُ: «بِدَلِيلِ عَدَمِ حُسْنِ الِاسْتِفْهَامِ» ، أَيِ: الْغَايَةُ تُفِيدُ أَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَهَا يُخَالِفُ حُكْمَ مَا قَبْلَهَا بِدَلِيلِ عَدَمِ حُسْنِ الِاسْتِفْهَامِ، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [الْبَقَرَةِ: 230] ; فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ بِأَنْ يُقَالَ: فَإِنْ نَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ ; فَمَا الْحُكْمُ؟ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ فُهِمَ، وَالسُّؤَالُ عَمَّا فُهِمَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مَفْهُومٌ هُوَ أَنَّ: {حَتَّى تَنْكِحَ} لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ; فَهُوَ إِذَنْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ} ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِ ثُبُوتِ الْحِلِّ بَعْدَهَا،
(2/758)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَنَّ التَّقْدِيرَ: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ; فَتَحِلَّ لَهُ، إِذْ لَوْ أُضْمِرُ بَعْدَهَا نَفْيُ الْحِلِّ، لَكَانَ تَطْوِيلًا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [الْبَقَرَةِ: 187] ، لَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ: فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ ; فَمَا الْحُكْمُ؟ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ مَجِيءِ اللَّيْلِ مَعْلُومٌ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّوْمِ، وَلِأَنَّ حَتَّى وَإِلَى مَوْضُوعَتَانِ لِلْغَايَةِ فِي اللُّغَةِ، وَغَايَةُ الشَّيْءِ مُنْتَهَاهُ وَمُنْقَطَعُهُ، فَإِذَا انْتَهَى وَانْقَطَعَ، لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ إِلَّا ضِدُّهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُنْقَطِعًا، وَضِدُّ التَّحْرِيمِ الْحِلُّ، وَوُجُوبِ الصَّوْمِ عَدَمُ وُجُوبِهِ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: اضْرِبْهُ حَتَّى يَتُوبَ، يَقْتَضِي تَرْكَ الضَّرْبِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَقَوْلُهُمْ: لَأَلْزَمَنَّكَ حَتَّى أَوْ إِلَى أَنْ تَقْضِيَنِي حَقِّي وَنَحْوَهُ - يُفِيدُ ذَلِكَ فِي اللِّسَانِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا:» يَعْنِي مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ، وَأَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا مَفْهُومَ لِلْغَايَةِ، «بَلْ حُكْمُ مَا بَعْدَ» الْغَايَةِ «حُكْمُ مَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا لِأَنَّهُ» يَعْنِي مَا بَعْدَهَا «مَسْكُوتٌ عَنْهُ» ، كَمَا قَالُوا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّفْيِ، وَقَرَّرُوهُ بِأَنَّ مَا لَهُ ابْتِدَاءٌ ; فَغَايَتُهُ مُنْقَطَعُ ابْتِدَائِهِ، كَالسَّطْحِ، مَبْدَؤُهُ طَرْفُهُ، وَغَايَتُهُ مُنْقَطَعُ ذَلِكَ الْمَبْدَأِ ; فَيَرْجِعُ الْحُكْمُ بَعْدَ الْغَايَةِ إِلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْبِدَايَةِ، وَقَبْلَ الْبِدَايَةِ لَمْ
(2/759)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ ; فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْغَايَةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ نَوْعُ تَمَسُّكٍ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، لَكِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي أَشَرْنَا إِلَى تَقْرِيرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ، لَا يَثْبُتُ قَبْلَ مَبْدَئِهِ، وَلَا بَعْدَ مُنْتَهَاهُ، كَالْجِسْمِ، وَالسَّطْحِ، وَالْخَطِّ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ مَحْسُوسٌ. وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ مَبْدَئِهِ، وَلَا بَعْدَ مُنْتَهَاهُ ; فَالثَّابِتُ حِينَئِذٍ: إِمَّا ضِدُّهُ، أَوْ مِثْلُهُ، أَوْ لَا وَاحِدَ مِنْهُمَا، وَهَذَا الثَّالِثُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُ يُوجِبُ خُلُوَّ الْمَكَانِ، وَعَدَمَ خُلُوِّهِ عَنْ شَاغِلٍ فِي مَبَادِئِ الْأَجْسَامِ وَنِهَايَاتِهَا، وَهُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ، وَالْقَائِلُ قَائِلَانِ: إِمَّا بِالْخَلَاءِ أَوْ بِالْمَلَاءِ، أَمَّا اجْتِمَاعُهُمَا ; فَلَا قَائِلَ بِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي تَحْقِيقِ هَذَا نَظَرًا بَيِّنًا، وَأَمَّا فِي مَبَادِئِ الْأَحْكَامِ وَنِهَايَاتِهَا ; فَيُوجِبُ تَعْطِيلَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا عَنِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ ثُبُوتُ الْأَحْكَامِ ; إِمَّا قَبْلَ الشَّرْعِ بِالْإِبَاحَةِ، أَوِ الْحَصْرِ كَمَا سَبَقَ، أَوْ بَعْدَهُ بِأَحَدِ الْأَحْكَامِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا.
وَالثَّانِي وَهُوَ ثُبُوتُ مِثْلِ الشَّيْءِ قَبْلَ مَبْدَئِهِ وَبَعْدَ مُنْتَهَاهُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ ; فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الشَّيْءِ ضِدُّهُ، وَضِدُّ التَّحْرِيمِ قَبْلَ نِكَاحِ الزَّوْجِ الثَّانِي، الْحِلُّ بَعْدَهُ، وَضِدُّ تَحْرِيمِ قُرْبَانِ الْحَائِضِ قَبْلَ التَّطَهُّرِ، جَوَازُهُ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ بَاقِيهَا.
(2/760)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَلْتَزِمَ أَنَّ بَعْدَ نِهَايَةِ الشَّيْءِ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ وَلَا ضِدُّهُ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ شَاغِلٍ وَحُكْمٍ، وَلَا نُسَلِّمُ تَعَطُّلَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ عَنْ حُكْمٍ، بَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ مَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا تَعَطُّلَهَا، لَكِنَّ تَعَطُّلَهَا عَنْ حُكْمٍ لَا مُحَالَ فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَتَرَدُّدٍ ; فَلَا سَبِيلَ فِيهَا إِلَى الْقَطْعِ بِشَيْءٍ، أَمَّا مِنْ حَيْثُ الظَّنِّ ; فَالظَّاهِرُ مَعَ مُثْبِتِي مَفْهُومِ الْغَايَةِ لُغَةً وَعُرْفًا.
«الثَّانِيَةُ» : أَيْ: مِنْ دَرَجَاتِ دَلِيلِ الْخِطَابِ «تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى شَرْطٍ نَحْوَ: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاقِ: 6] ، يُفِيدُ انْتِفَاءَ» ، وُجُوبِ «الْإِنْفَاقِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَمْلِ» ، وَهُوَ مَفْهُومُ الشَّرْطِ، وَنَحْوَ: إِذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَا ; فَافْعَلْ كَذَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَالْهَرَّاسِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْكَرْخِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، إِذْ حُكْمُ الشَّرْطِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَبَعْضُهُمْ يُتَرْجِمُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، بِأَنَّ الْمُعَلَّقَ
(2/761)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى شَيْءٍ بِحَرْفِ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ، عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، «وَأَنْكَرَهُ قَوْمٌ» وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَالْغَزَّالِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ.
قَوْلُهُ: «إِذْ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيقَهُ بِشَرْطَيْنِ» . هَذِهِ مِنْ حُجَجِ الْمُنْكِرِينَ لِمَفْهُومِ الشَّرْطِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِشَرْطٍ لَا يَمْنَعُ تَعْلِيقَهُ بِشَرْطَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَإِذَا جَازَ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطَيْنِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنِ انْتِفَاءِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ، لِوُجُودِ الشَّرْطِ الْآخَرِ.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ: أَحْكُمُ بِالْمَالِ إِنْ شَهِدَ بِهِ شَاهِدَانِ، أَوْ شَاهِدٌ وَاحِدٌ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي، أَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ; فَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ شَاهِدَيْنِ، أَوْ شَاهِدٍ وَيَمِينٍ، انْتِفَاءُ الْحُكْمِ بِالْمَالِ، لِجَوَازِ ثُبُوتِهِ بِالْإِقْرَارِ، وَبِالْعَكْسِ.
قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» ، أَيْ: وَرُدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الشَّرْطِ الثَّانِي، وَالْأَصْلُ التَّعْلِيقُ عَلَى شَرْطٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِتَصْحِيحِ تَأْثِيرِ الْمُؤَثِّرِ ; فَالزَّائِدُ خِلَافُ الْأَصْلِ ; فَلَا يُعْتَبَرُ تَقْرِيرُهُ. وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ مَا ذَكَرْنَاهُ، مِنِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ الْمُعَلَّقِ بِهِ، فَإِنْ «ثَبَتَ» تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ ثَانٍ فَصَاعِدًا، لِدَعْوَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ; «اعْتَبَرْنَاهُ» ، وَلَمْ نَحْكُمْ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ إِلَّا بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ شُرُوطِهِ، كَانْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ.
(2/762)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: الشَّرْطُ الَّذِي تَعَلَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ إِمَّا مُفْرَدٌ، نَحْوَ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ ; فَأَنْتِ طَالِقٌ ; فَلَزِمَ انْتِفَاءُ الطَّلَاقِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الدُّخُولِ. أَوْ مُتَعَدِّدٌ، ثُمَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ: إِمَّا عَلَى الْجَمِيعِ، أَوْ عَلَى الْبَدَلِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْجَمِيعِ، نَحْوَ: إِنْ قُمْتِ، وَأَكَلْتِ، وَشَرِبْتِ، وَدَخَلْتِ الدَّارَ، وَكَلَّمْتِ زَيْدًا ; فَأَنْتِ طَالِقٌ ; فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إِلَّا عِنْدَ جَمِيعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَيَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِهَا ; لِأَنَّ جَمِيعَهَا شَرْطٌ وَاحِدٌ، مُرَكَّبٌ مِنْ أَجْزَاءٍ ; فَلَا يُؤَثِّرُ إِلَّا وُجُودُ جَمِيعِهَا، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْبَدَلِ، نَحْوَ: إِنْ قُمْتِ، أَوْ أَكَلْتِ، أَوْ شَرِبْتِ، أَوْ دَخَلْتِ الدَّارَ، أَوْ كَلَّمْتِ زَيْدًا ; فَأَنْتِ طَالِقٌ - طُلِّقَتْ بِوُجُودِ أَيِّهَا كَانَ، وَانْتَفَى وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِانْتِفَاءِ جَمِيعِهَا. وَعِنْدَ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّ احْتِجَاجَهُمْ بِجَوَازِ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطَيْنِ، يَخْلُفُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لَا مَعْنَى لَهُ، كَمَا بَيَّنَّا، لَكِنْ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَجٌ أُخْرَى، لَا يَتَّسِعُ لَنَا ذِكْرُهَا، إِذْ نَحْنُ شَارِحُونَ لِهَذَا «الْمُخْتَصَرِ» لَا مُسْتَوْعِبُونَ لِأَقْوَالِ النَّاسِ وَحُجَجِهِمْ.
فَائِدَةٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَيْسَ النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فِي أَنَّ الْمَشْرُوطَ لَا يَجِبُ انْتِفَاؤُهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ ; فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، بَلْ فِي أَنَّ ذَلِكَ الِانْتِفَاءَ هَلْ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، أَوْ الِاسْتِصْحَابُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ؟ وَذَلِكَ أَنَّ فِي الشَّرْطِ نَحْوَ هَذِهِ الصِّيغَةِ أُمُورًا أَرْبَعَةً:
(2/763)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهَا: ارْتِبَاطُ الطَّلَاقِ بِالدُّخُولِ.
وَثَانِيهَا: ارْتِبَاطُ عَدَمِ الطَّلَاقِ بِعَدَمِ الدُّخُولِ.
وَثَالِثُهَا: دَلَالَةُ لَفْظِ التَّعْلِيقِ عَلَى ارْتِبَاطِ الطَّلَاقِ بِالدُّخُولِ.
وَرَابِعُهَا: دَلَالَةُ لَفْظِ التَّعْلِيقِ عَلَى ارْتِبَاطِ عَدَمِ الطَّلَاقِ بِعَدَمِ الدُّخُولِ.
وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالنِّزَاعُ فِي الرَّابِعِ، وَهُوَ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَدْخُلِ الدَّارَ، لَمْ تُطَلَّقِ اسْتِصْحَابًا لِلْعِصْمَةِ السَّابِقَةِ، وَالِاسْتِصْحَابُ الْمَذْكُورُ مَعَ دَلَالَةِ التَّعْلِيقِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْمَفْهُومُ هُنَا حُجَّةٌ.
قُلْتُ: وَهَذَا تَحْقِيقٌ حَسَنٌ جِدًّا.
«الثَّالِثَةُ» : يَعْنِي مِنْ دَرَجَاتِ دَلِيلِ الْخِطَابِ «تَعْقِيبُ ذِكْرِ الِاسْمِ الْعَامِّ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ» ، هَكَذَا وَقَعَ فِيمَا رَأَيْتُهُ مِنَ النُّسَخِ، وَالصَّوَابُ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْرَاكِ وَالْبَيَانِ، كَذَا فِي «الْمُسْتَصْفَى» أَيْ: بِذِكْرِ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ عُقَيْبَ ذِكْرِ الِاسْمِ الْعَامِّ ; فَيَكُونُ مُسْتَدْرِكًا لِعُمُومِهِ بِخُصُوصِ الصِّفَةِ، مُبَيِّنًا أَنَّ الْمُرَادَ بِعُمُومِهِ الْخُصُوصُ، نَحْوَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ ; فَالْغَنَمُ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ السَّائِمَةَ وَالْمَعْلُوفَةَ ; فَاسْتَدْرَكَ عُمُومَهُ بِخُصُوصِ السَّائِمَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا الْمُرَادُ مِنْ عُمُومِ الْغَنَمِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا ; فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ. فَالنَّخْلُ عَامٌّ فِي الْمُؤَبَّرِ وَغَيْرِهِ ; فَاسْتَدْرَكَ عُمُومَهُ بِخُصُوصِ الْمُؤَبَّرِ،
(2/764)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْ عُمُومِ النَّخْلِ.
قَوْلُهُ: «وَنَحْوُهُ: الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ. حُجَّةٌ» أَيْ: وَمِمَّا يَلْحَقُ بِتَعْقِيبِ ذِكْرِ الِاسْمِ الْعَامِّ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، وَهُوَ فِي مَعْنَاهُ - تَقْسِيمُ الِاسْمِ أَوِ الصِّنْفِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَتَخْصِيصُ كُلِّ قِسْمٍ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ ; فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْحُكْمِ عَنِ الْقِسْمِ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْأَيِّمُ، أَيِ الَّتِي فَارَقَتْ زَوْجَهَا، أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ. فَخَصَّ الْبِكْرَ بِالِاسْتِئْذَانِ ; فَدَلَّ عَلَى نَفْيِهِ فِي الْأَيِّمِ.
قَوْلُهُ: «طَلَبًا لِفَائِدَةِ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْسِيمِ» ، أَيْ: إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مَفْهُومَ الصِّفَةِ وَالتَّقْسِيمِ حُجَّةٌ، طَلَبًا لِفَائِدَةِ التَّخْصِيصِ، فِي نَحْوِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ، وَلِفَائِدَةِ التَّقْسِيمِ، أَيْ: تَقْسِيمِ الْمَرْأَةِ إِلَى أَيِّمٍ وَبِكْرٍ، وَتَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِحُكْمٍ، إِذْ لَوْ سَوَّيْنَا بَيْنَ السَّائِمَةِ وَغَيْرِهَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَبَيْنَ الْأَيِّمِ وَالْبِكْرِ فِي الِاسْتِئْذَانِ أَوْ عَدَمِهِ، لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ وَالتَّقْسِيمِ الْمَذْكُورَيْنِ.
(2/765)
________________________________________
الرَّابِعَةُ: تَخْصِيصُ وَصْفٍ غَيْرِ قَارٍّ بِالْحُكْمِ، نَحْوَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا» - حُجَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ لِذَلِكَ خِلَافًا لِلتَّمِيمِيِّ، وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لِاحْتِمَالِ الْغَفْلَةِ عَنْ غَيْرِ وَصْفِ الْمَذْكُورِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ.
الْخَامِسَةُ: تَخْصِيصُ نَوْعٍ بِحُكْمٍ، نَحْوَ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ» ، وَلَيْسَ الْوُضُوءُ مِنَ الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ. يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا فَوْقَهُ لَهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَدَاوُدُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِأَكْثَرِهِمْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ.
السَّادِسَةُ: تَخْصِيصُ اسْمٍ بِحُكْمٍ، وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالَّذِي قَبْلَهُ، وَأَنْكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ مُشْتَقًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُشْتَقٍّ، وَإِلَّا لَمَنَعَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ جَرَيَانَ الرِّبَا فِي غَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«الرَّابِعَةُ» : يَعْنِي مِنْ دَرَجَاتِ دَلِيلِ الْخِطَابِ «تَخْصِيصُ وَصْفٍ غَيْرِ قَارٍّ بِالْحُكْمِ» ، أَيْ: إِنْ تَعَلَّقَ الْحُكْمُ عَلَى وَصْفٍ لَا يَسْتَقِرُّ، بَلْ يَطْرَأُ وَيَزُولُ، كَالسَّوْمِ وَالثُّيُوبَةِ فِي قَوْلِنَا: فِي السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ وَالثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا - فَمَفْهُومُهُ «حُجَّةٌ» عِنْدَنَا، وَعِنْدَ «أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ لِذَلِكَ» ، أَيْ: طَلَبًا لِفَائِدَةِ التَّخْصِيصِ كَمَا مَرَّ، «خِلَافًا لِلتَّمِيمِيِّ» مِنْ أَصْحَابِنَا «وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ» فِي أَنَّهُ لَيْسَ حُجَّةً.
قَالُوا: «لِاحْتِمَالِ الْغَفْلَةِ عَنْ غَيْرِ وَصْفِ الْمَذْكُورِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ» . وَهَذَا مِنْهُمْ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا الْمَفْهُومِ وَالَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ تَعْقِيبُ الِاسْمِ الْعَامِّ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ.
(2/766)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُ الْفَرْقِ فِي هَذَا الْمَكَانِ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَغْفُلَ الْمُتَكَلِّمُ عَنْ ضِدِّ الْوَصْفِ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، كَالْبَكَارَةِ فِي قَوْلِهِ: الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ. يُحْتَمَلُ أَنَّهُ غَفَلَ حِينَئِذٍ عَنِ الثُّيُوبَةُ، فَلَمْ تَخْطُرْ بِبَالِهِ، حَتَّى يَقْصِدَ نَفْيَ الِاسْتِئْذَانِ عَنْهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا. يُحْتَمَلُ أَنَّ الْبِكْرَ لَمْ تَخْطُرْ لَهُ، حَتَّى يَقْصِدَ نَفْيَ أَحَقِّيَّتِهَا بِنَفْسِهَا عَنْهَا. وَإِذَا قَالَ: السَّائِمَةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْلُوفَةَ لَمْ تَخْطُرْ لَهُ حَتَّى يَنْفِيَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَنْهَا. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قَصْدُ الْمُتَكَلِّمِ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ظَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، لَكِنْ ظُهُورًا ضَعِيفًا، لِمُعَارَضَةِ الِاحْتِمَالِ الْمَذْكُورِ لَهُ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ هَذَا الْمَفْهُومِ، وَهُوَ ذِكْرُ الِاسْمِ الْعَامِّ، وَتَعْقِيبُهُ بِذِكْرِ الصِّفَةِ الْخَاصَّةِ، نَحْوَ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ. فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ مُنْتَفٍ هَهُنَا قَطْعًا ; لِأَنَّهُ لَمَّا نَطَقَ بِلَفْظِ الْغَنَمِ الْعَامِّ فِي السَّائِمَةِ وَفِي غَيْرِهَا، لَزِمَ اسْتِحْضَارُ الصِّنْفَيْنِ فِي ذِهْنِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا لَا يَتَصَوَّرُ ; فَيَكُونُ هَذْرًا مِنَ الْقَوْلِ، كَكَلَامِ الْمَجْنُونِ وَنَحْوِهِ، وَإِذَا لَزِمَ اسْتِحْضَارُ الْمَعْلُوفَةِ فِي ذِهْنِهِ، لَزِمَ أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالسَّائِمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ احْتِرَازٌ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ، وَأَنَّهُ قَصَدَ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْهَا. فَهَذَا تَقْرِيرُ الْفِرَقِ بَيْنَ مُنْكِرِي هَذَا الْمَفْهُومِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ ; وَإِنْ كَانَ مُتَّجِهًا، لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ أَنَّ تَعْلِيقَ
(2/767)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ غَيْرِ الْقَارِّ، كَالْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ، وَالسَّوْمِ الْمُجَرَّدِ، ظَاهِرٌ فِي قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ ضِدِّهِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ; لِأَنَّ الشَّيْءَ يُذْكَرُ بِضِدِّهِ غَالِبًا، وَإِنْ كَانَ قَصْدُ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ظَاهِرًا كَفَى فِي التَّمَسُّكِ بِهِ ; لِأَنَّ مَنَاطَ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ الظُّهُورُ وَغَلَبَةُ الظَّنِّ، وَلِذَلِكَ عُلِّقَتْ عَلَى الْأَمَارَاتِ، وَثَبَتَتْ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ أَقْوَى مِنْهُ.
بَقِيَ الْحَاصِلُ مِنْ فَرْقِكُمُ الْمَذْكُورِ، أَنَّ مَفْهُومَ تَعْقِيبِ الِاسْمِ الْعَامِّ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، نَحْوَ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ، أَظْهَرُ مِنْ مَفْهُومِ الْوَصْفِ الْمُجَرَّدِ غَيْرِ الْقَارِّ، لَكِنْ لَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ، لِجَوَازِ التَّمَسُّكِ بِالظَّاهِرِ، وَالْأَظْهَرِ، وَالْقَاطِعِ، كَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ، وَالْمُتَوَاتِرِ، وَكَقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَقِيَاسِ الدَّلَالَةِ، وَقِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَكَالْإِجْمَاعَاتِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَهَا ظَاهِرٌ، كَالسُّكُوتِيِّ وَبَعْضُهَا قَاطِعٌ كَالنُّطْقِيِّ التَّوَاتُرِيِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
«الْخَامِسَةُ» : - مَفْهُومُ الْعَدَدِ - يَعْنِي مِنْ دَرَجَاتِ دَلِيلِ الْخِطَابِ تَخْصِيصُ نَوْعٍ مِنَ الْعَدَدِ «بِحُكْمٍ، نَحْوَ» قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ. يَعْنِي فِي الرَّضَاعِ، لَيْسَ الْوُضُوءُ مِنَ الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا فَوْقَهُ لَهُ، يَعْنِي تَحْرِيمَ ثَلَاثِ رَضَعَاتٍ وَوُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ ثَلَاثِ قَطَرَاتٍ.
(2/768)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْمِثَالِ، وَإِلَّا فَفِي الْحَدِيثِ: إِنَّمَا الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ. وَقَدْ لَا يَسِيلُ الدَّمُ بِثَلَاثِ قَطَرَاتٍ ; فَهَذَا يُسَمَّى مَفْهُومَ الْعَدَدِ، وَهُوَ قَوْلُ «مَالِكٍ، وَدَاوُدَ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، خِلَافًا لِأَكْثَرِهِمْ» ، يَعْنِي أَكْثَرَ الشَّافِعِيَّةِ «وَلِأَبِي حَنِيفَةَ» .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ تَقَدَّمَ.
قُلْتُ: وَلَمْ أَسْتَحْضِرْ أَنَّهُ قَدَّمَ الْكَلَامَ فِي «الرَّوْضَةِ» فِي خُصُوصِ مَفْهُومِ الْعَدَدِ ; فَأَحْسَبُهُ أَحَالَ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ فِي سَائِرِ الْمَفْهُومَاتِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْآمِدِيُّ فِي «الْمُنْتَهَى» ; لِأَنَّ الْبَابَ وَاحِدٌ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ مِقْدَارٍ مِنَ الْعَدَدِ بِحُكْمٍ، كَتَخْصِيصِ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ بِحُكْمٍ ; فَالْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْكَمِّ وَالثَّانِي مِنْ بَابِ الْكَيْفِ، وَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ، أَوْ تَحْتَ جِنْسٍ مَا مِنَ الْأَجْنَاسِ، وَلَوْ جِنْسَ الْأَعْرَاضِ.
(2/769)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ يُحْتَجُّ عَلَى مَفْهُومِ الْعَدَدِ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التَّوْبَةِ: 80] ; فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ ; فَنَزَلَتْ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [الْمُنَافِقُونَ: 6] ; فَوَجْهُ دَلَالَتِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَهِمَ أَنَّ حُكْمَ مَا فَوْقَ السَّبْعِينَ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَهُوَ أَعْلَى أَهْلِ اللُّغَةِ رُتْبَةً فِيهَا ; فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِلْخَصْمِ عَلَيْهِ اعْتِرَاضَاتٌ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَفْهُومِ الْعَدَدِ بِالْخُصُوصِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَفَاهِيمِ عَلَى الْعُمُومِ، مَا حُكِيَ، وَرَأَيْتُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَتَصَانِيفِ أَهْلِ الْأَدَبِ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَعْمَلَ عَامِلًا أَحْمَقَ، فَذَكَرَ الْمَجُوسَ يَوْمًا ; فَقَالَ قَائِلٌ: لَعَنَ اللَّهُ الْمَجُوسَ، يَنْكِحُونَ أُمَّهَاتِهِمْ، وَاللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ مَا نَكَحْتُ أُمِّي. فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ ; فَقَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ، أَتَرَاهُ لَوْ زِيدَ
(2/770)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ، كَانَ يَفْعَلُ. مَعَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ مِنَ اللُّغَةِ وَالْفَصَاحَةِ بِمَكَانٍ.
فَائِدَةٌ: تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي مَفْهُومِ الْعَدَدِ: أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا قُيِّدَ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ ; فَمِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ فِيمَا نَقَصَ عَنْهُ، وَمِنْهُ مَا هُوَ بِضِدِّ ذَلِكَ.
فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ. دَلَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ.
وَالْمَثَّالُ الثَّانِي: إِذَا قِيلَ: اجْلِدُوا الزَّانِيَ مِائَةَ جَلْدَةٍ، دَلَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى وُجُوبِ جَلْدِهِ تِسْعِينَ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ مَقَادِيرِ الْعَدَدِ لِدُخُولِهِ فِي الْمِائَةِ بِالتَّضَمُّنِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ ; فَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ التَّقْيِيدُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَالنَّاقِصِ عَنِ الْقُلَّتَيْنِ، وَالزَّائِدِ عَنْ مِائَةِ سَوْطٍ - هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فِي مَفْهُومِ الْعَدَدِ ; لِأَنَّ مَا يُفْهَمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى يَكُونُ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ ; فَلَا يَتَّجِهُ فِيهِ الْخِلَافُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
«السَّادِسَةُ» : مَفْهُومُ اللَّقَبِ، يَعْنِي مِنْ دَرَجَاتِ مَفْهُومِ الْخِطَابِ «تَخْصِيصُ اسْمٍ بِحُكْمٍ، وَالْخِلَافُ فِيهِ كَمَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ» ، يَعْنِي هُوَ كَالَّذِي قَبْلَهُ فِي وُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، «وَأَنْكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ» ، وَيُسَمَّى مَفْهُومَ اللَّقَبِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ، وَالدَّقَّاقِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
(2/771)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَصُورَتُهَا: إِذَا عُلِّقَ الْحُكْمُ بِاسْمِ جِنْسٍ، كَتَخْصِيصِ الرِّبَوِيَّاتِ السِّتَّةِ بِتَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ، أَوِ اسْمِ عَلَمٍ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ عَالِمٌ.
قُلْتُ: فَجَعَلَ اسْمَ الْجِنْسِ وَالْعَلَمِ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: قَالَ التِّبْرِيزِيُّ: وَاللَّقَبُ كَالْأَعْلَامِ، وَجَعَلَهَا الْأَصْلَ، وَأَلْحَقَ بِهَا أَسْمَاءَ الْأَجْنَاسِ. قَالَ: وَغَيْرُهُ - يَعْنِي غَيْرَ التَّبْرِيزِيِّ، - أَطْلَقَ فِي الْجَمِيعِ.
قُلْتُ: كَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى الْآمِدِيِّ وَغَيْرِهِ، مِمَّنْ أَطْلَقَ مَفْهُومَ اللَّقَبِ عَلَى مَفْهُومِ الْجِنْسِ وَالْعَلَمِ.
قَوْلُهُ: «مُشْتَقًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُشْتَقٍّ» ، يَعْنِي الِاسْمَ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، سَوَاءً كَانَ مُشْتَقًّا، نَحْوَ: لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. فَإِنَّ الطَّعَامَ مُشْتَقٌّ مِنَ الطَّعْمِ، «أَوْ غَيْرَ مُشْتَقٍّ» ، كَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ، وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَعْيَانِ السِّتَّةِ الرِّبَوِيَّةِ ; فَإِنَّ مَفْهُومَهُ حُجَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الدَّقَّاقِ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَمَنَعَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ، جَرَيَانَ الرِّبَا فِي غَيْرِهَا» . هَذَا حُجَّةٌ لِمُنْكِرِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ ; لِأَنَّهُ يَلِي ذِكْرَهُمْ، أَيْ: وَأَنْكَرَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَإِلَّا لَمَنَعَ، إِلَى آخِرِهِ.
تَقْرِيرُهُ: لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ حُجَّةً، لَمَنَعَ التَّنْصِيصُ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي
(2/772)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ، مِنْ أَنْ يَجْرِيَ الرِّبَا فِي غَيْرِهَا ; لِأَنَّ مُعْتَمَدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مَا سَبَقَ مِنْ طَلَبِ فَائِدَةِ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ، وَالْأَعْيَانُ السِّتَّةُ قَدْ خُصَّتْ بِالذِّكْرِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا ; فَكَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الرِّبَا فِي غَيْرِهَا، لَكِنَّهُ بَاطِلٌ، إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي كُلِّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ عِلَّتُهَا، عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهَا، كَالذُّرَةِ، وَالسِّمْسِمِ، وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْمَكِيلَاتِ، وَالْحَدِيدِ، وَالرَّصَاصِ، وَالنُّحَاسِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ، وَالْفَوَاكِهِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْغَزَّالِيَّ جَعَلَ مَفْهُومَ اللَّقَبِ أَوَّلَ مَرَاتِبِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، قَالَ: وَهُوَ أَبْعَدُهَا، وَقَدْ أَقَرَّ بِبُطْلَانِهِ كُلُّ مُحَصِّلٍ، كَتَخْصِيصِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فِي الرِّبَا، ثُمَّ قَالَ: الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ: الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ الدَّالُّ عَلَى جِنْسٍ، نَحْوَ: «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ» . قَالَ: فَيَظْهَرُ إِلْحَاقُهُ بِاللَّقَبِ ; لِأَنَّ الطَّعَامَ لَقَبٌ لِجِنْسِهِ، أَيْ: بِالنَّظَرِ إِلَى جِنْسِهِ، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا مِمَّا يُتَطَعَّمُ، كَالْغَنَمِ وَالْمَاشِيَةِ ; فَلَا يُدْرَكُ تَفْرِقَةٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: فِي الْغَنَمِ الزَّكَاةُ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: «فِي الْمَاشِيَةِ الزَّكَاةُ» . وَإِنْ كَانَتْ مُشْتَقَّةً مِنَ الْمَشْيِ مَثَلًا.
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ مُنْكِرُو مَفْهُومِ اللَّقَبِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُجَّةً، لَبَطَلَ الْقِيَاسُ مُطْلَقًا، أَوْ غَالِبًا، أَوْ كَثِيرًا، إِذْ هُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ، بِالْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ ; فَلَوْ صَحَّ مَفْهُومُ اللَّقَبِ ; لَكَانَ النَّصُّ عَلَى الْأَصْلِ مُفِيدًا انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِهِ ; فَلَا يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ الْقِيَاسِيُّ.
(2/773)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُتَّبَعَ فِي الْأَحْكَامِ، الْأَرْجَحُ فَالْأَرْجَحُ، وَلَا يَمْنَعُ أَنْ يُفِيدَ الْقِيَاسُ مِنَ الظَّنِّ أَرْجَحَ مِمَّا يُفِيدُهُ الْمَفْهُومُ ; فَيُقَدَّمُ، كَمَا يُقَدَّمُ خَبَرُ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَكَمَا فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَالْعِلَّةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ حُجَّةً، لَكَانَ الْقَائِلُ: عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ، كَافِرًا، لِدَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ الرِّسَالَةِ عَنْ بَقِيَّةِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ إِنْ تَنَبَّهَ لِمَفْهُومِ لَفْظِهِ هَذَا، وَأَرَادَهُ، حُكِمَ بِكُفْرِهِ، لَكِنَّ الْمُتَكَلِّمَ قَدْ لَا يَتَنَبَّهُ لِفَحْوَى خِطَابِهِ، خُصُوصًا هَذَا الْمَفْهُومَ ; فَإِنَّهُ وَإِنِ احْتُجَّ بِهِ، لَكِنَّهُ مِنْ أَضْعَفِ الْمَفْهُومَاتِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ ; فَقَدْ لَا يُرِيدُهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ حُجَّةً، لَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: زَيْدٌ يَأْكُلُ. نَافِيًا لِلْأَكْلِ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ.
وَأُجِيبَ بِالْتِزَامِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَفْهَمُ ذَلِكَ مِنْهُ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، أَوْ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ.
أَمَّا مُعْتَمَدُ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ ; فَهُوَ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْمَنْطُوقَ بِهِ لَوْ شَارَكَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ فِي الْحُكْمِ، لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ، فَإِنْ بَيَّنَ الْخَصْمُ لِتَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةً غَيْرَ اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ. قُلْنَا: لَا مُنَافَاةَ فِي ذَلِكَ، وَيَكُونُ اخْتِصَاصُهُ بِالْحُكْمِ مِنْ جُمْلَةِ فَائِدَتِهِ تَكْثِيرًا لَهَا، كَمَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ.
نَعَمْ، هَذَا الْمَفْهُومُ ضَعِيفٌ جِدًّا ; فَلِذَلِكَ أَلْغَاهُ الْخَصْمُ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَسَبَبُ ضَعْفِهِ أَنَّ الصِّفَةَ وَالشَّرْطَ، وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ، مُشْعِرٌ بِالتَّعْلِيلِ فِي
(2/774)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَانْتِفَاءُ الْعِلَّةِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْحُكْمِ فِيهِ، بِخِلَافِ اللَّقَبِ ; فَإِنَّهُ لِجُمُودِهِ، ضَعُفَ ظُهُورُ التَّعْلِيلِ فِيهِ، لَكِنَّ ضَعْفَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْغَايَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّ ضَعْفَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، أَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ ; فَقَوِيٌّ يَصْلُحُ لِلْعَمَلِ.
قُلْتُ: الْأَشْبَهُ الَّذِي تَسْكُنُ النَّفْسُ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَنَّهُ فِي الْمَفْهُومَاتِ كَالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي الْمَنْطُوقَاتِ، وَالْقِيَاسِ الشَّبَهِيِّ فِي الْأَقْيِسَةِ.
فَائِدَةٌ: اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ مَا ظَهَرَ سَبَبُ تَخْصِيصِهِ لِلْمَنْطُوقِ بِالذِّكْرِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، كَوُقُوعِهِ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ عَنْهُ، أَوْ خُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ ; فَكَمَا قِيلَ: أَنَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ؟ قَالَ: تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ; فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ لُحُومِ الْإِبِلِ لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، إِذِ النَّوَاقِضُ كَثِيرَةٌ، وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ السَّائِلَ هُوَ الَّذِي ذَكَّرَ الْمُتَكَلِّمَ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ، لِسُؤَالِهِ عَنْهُ ; فَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ تَصَوَّرَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ، وَقَصَدَهُ بِنَفْيِ الْحُكْمِ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْخَارِجُ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَمَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْمُقَيَّدُ بِهَا غَالِبَةً عَلَى الْمَوْصُوفِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا} [النِّسَاءِ: 35] ، إِذْ خَوْفُ الشِّقَاقِ غَالِبُ حَالِ الْخَلْعِ، وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النِّسَاءِ: 23] ، إِذِ الْغَالِبُ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ تَبَعًا لِأُمِّهَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الْإِسْرَاءِ: 31] ، أَيْ: فَقْرٍ وَإِقْتَارٍ، إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ قَتْلَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَكُونُ لِضَرُورَةٍ،
(2/775)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَضَرُورَةِ الْفَقْرِ وَقِلَّةِ الْمَعَاشِ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ فِي الْمَوْءُودَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَوْلَادِ، يَقْتُلُونَهُمْ خَوْفَ الْعَارِ وَالْحَاجَةِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُنْكِرُو مَفْهُومِ اللَّقَبِ: لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: صُبُّوا عَلَى بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، وَقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ: ثُمَّ اقْرُصِيهِ بِالْمَاءِ بِحَيْثُ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ بِحَيْثُ يَتَعَيَّنُ جِنْسُ الْحَجَرِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ وَالْحَجَرَ غَالِبَانِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَالِاسْتِنْجَاءِ، وَالِاسْتِجْمَارِ. أَمَّا فَهْمُ عَدَمِ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَا دُونُ الثَّلَاثَةِ ; فَهُوَ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الْعَدَدِ، وَلِذَلِكَ أَوْرَدَ عَلَى مَنِ اشْتَرَطَ السَّوْمَ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ، أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، إِذِ الْغَالِبُ عَلَى أَغْنَامِ الْحِجَازِ وَغَيْرِهَا السَّوْمُ ; فَلَا مَفْهُومَ لَهُ.
وَوَجْهُ كَوْنِ التَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ الْغَالِبَةِ لَا مَفْهُومَ لَهُ: بِأَنَّ الصِّفَةَ إِذَا غَلَبَتْ
(2/776)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى الْمَوْصُوفِ، لَزِمَتْهَا فِي الذِّهْنِ ; فَكَانَ اسْتِحْضَارُ الْمُتَكَلِّمِ لَهَا لِغَلَبَتِهَا، لَا لِقَصْدِ تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِهَا، وَإِذَا لَمْ تَغْلِبِ الصِّفَةُ عَلَى مَوْصُوفِهَا، ظَهَرَ أَنَّ اسْتِحْضَارَ الْمُتَكَلِّمِ الْحُكْمَ بِهَا، لَا لِغَلَبَتِهَا وَلُزُومِهَا لِلْحَقِيقَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِهَا. وَعَارَضَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا التَّوْجِيهَ بِعَكْسِهِ، وَهُوَ أَنَّ الصِّفَةَ إِذَا غَلَبَتْ، كَانَ ثُبُوتُهَا لِلْحَقِيقَةِ مَعْلُومًا بِالْغَلَبَةِ، وَعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ; فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعْرِيفِ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ ذِكْرَ الْمُتَكَلِّمِ لَهَا تَقْيِيدٌ لِلْحُكْمِ بِهَا، بِخِلَافِ الصِّفَةِ غَيْرِ الْغَالِبَةِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا لَمْ يُفِدْ ثُبُوتُهَا لِلْحَقِيقَةِ، أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذِكْرَ الْمُتَكَلِّمِ لَهَا تَعْرِيفًا لِلسَّامِعِ بِثُبُوتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ، لَا لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِهَا، وَهِيَ مُعَارَضَةٌ جَيِّدَةٌ، وَجَوَابُهَا مَا سَبَقَ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْهَا.
خَاتِمَةٌ: ذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ الْمُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ:
أَحَدُهَا: اقْتِرَانُ الِاسْمِ الْعَامِّ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ، نَحْوَ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ.
الثَّانِي: مَفْهُومُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، نَحْوَ: إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ ; فَأَكْرِمُوهُ.
الثَّالِثُ: مَفْهُومُ الْغَايَةِ، نَحْوَ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [الْبَقَرَةِ: 222] .
(2/777)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرَّابِعُ: مَفْهُومُ إِنَّمَا، نَحْوَ: إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ.
الْخَامِسُ: مَفْهُومُ التَّخْصِيصِ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي تَطْرَأُ وَتَزُولُ، نَحْوَ: فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ.
السَّادِسُ: مَفْهُومُ اللَّقَبِ، كَتَخْصِيصِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا.
السَّابِعُ: مَفْهُومُ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُشْتَقِّ، كَقَوْلِهِ: لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ لِكَوْنِ الطَّعَامِ لَقَبًا لِجِنْسٍ.
الثَّامِنُ: مَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [الصَّافَّاتِ: 35، مُحَمَّدٍ: 19] ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ.
التَّاسِعُ: مَفْهُومُ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ خَاصٍّ، كَتَخْصِيصِ حَدِّ الْقَذْفِ بِثَمَانِينَ.
الْعَاشِرُ: مَفْهُومُ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ، نَحْوَ: الْعَالِمُ زَيْدٌ.
قَالَ: وَمُسْتَنَدُ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ: إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ إِلَى فَائِدَةِ تَخْصِيصِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ.
وَذَكَرَهَا الْقَرَافِيُّ أَيْضًا عَشَرَةً:
أَحَدُهَا: مَفْهُومُ الْعِلَّةِ، نَحْوَ: مَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ.
وَمَفْهُومُ الصِّفَةِ، نَحْوَ: فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعِلَّةَ
(2/778)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الْأَوَّلِ عَيْنُ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ الْإِسْكَارُ، وَفِي الثَّانِي السَّوْمُ لَيْسَ عِلَّةً، بَلْ مُكَمِّلٌ لِلْعِلَّةِ وَهِيَ الْغِنَى.
وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ، نَحْوَ: مَنْ تَطَهَّرَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ.
وَمَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْغَايَةِ، وَالْحَصْرِ، وَأَمْثِلَتُهَا ظَاهِرَةٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ.
وَمَفْهُومُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، نَحْوَ: سَافَرْتُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَجَلَسْتُ أَمَامَ زَيْدٍ.
وَمَفْهُومُ الْعَدَدِ. وَمَفْهُومُ اللَّقَبِ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى مُجَرَّدِ أَسْمَاءِ الذَّوَاتِ، نَحْوَ: «فِي الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» . وَهُوَ أَضْعَفُهَا، وَبَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَفَاوُتٌ لَا يَخْفَى، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُهُمَا تَدْرِيبًا لِلنَّاظِرِ بِتَغَايُرِ الْعِبَارَاتِ، وَاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ، وَضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ، وَلِذَلِكَ تَأْثِيرٌ فِي الْفَهْمِ.
قُلْتُ: الضَّابِطُ فِي بَابِ الْمَفْهُومِ: أَنَّهُ مَتَى أَفَادَ ظَنًّا عُرِفَ مِنْ تَصَرُّفِ الشَّرْعِ الِالْتِفَاتُ إِلَى مِثْلِهِ، خَالِيًا عَنْ مُعَارِضٍ، كَانَ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَالظُّنُونُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ مُتَفَاوِتَةٌ بِتَفَاوُتِ مَرَاتِبِهِ، وَمَنْ تَدَرَّبَ بِالنَّظَرِ فِي اللُّغَةِ، وَعَرَفَ مَوَاقِعَ الْأَلْفَاظِ، وَمَقَاصِدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، سَهُلَ عِنْدَهُ إِدْرَاكُ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/779)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْإِجْمَاعُ
لُغَةً: الْعَزْمُ وَالِاتِّفَاقُ.
وَاصْطِلَاحًا اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي الْعَصْرِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، وَأَنْكَرَ قَوْمٌ جَوَازَهُ عَقْلًا، وَهُوَ ضَرُورِيٌّ فَإِنْكَارُهُ عِنَادٌ، ثُمَّ الْوُقُوعُ يَسْتَلْزِمُهُ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ مَعَ وُجُودِ الْعَقْلِ، وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَوَعِيدِ الشَّرْعِ الْبَاعِثِ عَلَى الْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ، وَقِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ كَيْفَ يَمْتَنِعُ! وَاخْتِلَافُ الْقَرَائِحِ عَقْلِيٌّ بِخِلَافِ اخْتِلَافِ الدَّوَاعِي الشَّهْوَانِيَّةِ، إِذْ هُوَ طَبَعِيٌّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا جَلِيٌّ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا يُحْكَمُ بِتَصَوُّرِ وَجُودِهِ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ عِنْدَ قِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَوْلُ فِي «الْإِجْمَاعِ» وَهُوَ «لُغَةً» أَيْ: فِي اللُّغَةِ «الْعَزْمُ وَالِاتِّفَاقُ» أَيْ: يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَجْمَعْتُ الْأَمْرَ، وَعَلَى الْأَمْرِ، إِذَا عَزَمْتَ عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ مُجْمَعٌ. قُلْتُ: وَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ، لِتَعَدِّيهِ بِحَرْفِ الْجَرِّ فِيمَا حَكَاهُ.
قُلْتُ: وَكَمَا تَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ، تَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ، فَيُقَالُ: أَجْمَعَ وَجَمَّعَ، وَفِي الْحَدِيثِ: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَيْ: يَعْزِمْ عَلَيْهِ.
(3/5)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَجُوزُ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ: أَجْمَعَ، يُجْمِعُ، وَبِالتَّشْدِيدِ مِنْ: جَمَّعَ يُجَمِّعُ. وَيُقَالُ:
أَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا، أَيِ: اتَّفَقُوا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَاصْطِلَاحًا» أَيْ: وَالْإِجْمَاعُ فِي الِاصْطِلَاحِ، أَيِ: اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الشَّرْعِ: «اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي الْعَصْرِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ» .
فَقَوْلُنَا: «مُجْتَهِدِي» : احْتِرَازٌ مِنِ اتِّفَاقِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وَلَا يُعَدُّ إِجْمَاعًا.
وَقَوْلُنَا: «مُجْتَهِدِي الْعَصْرِ» : عَامٌّ فِي الْمُجْتَهِدِينَ كُلِّهِمْ، فَفِيهِ احْتِرَازٌ مِنِ اتِّفَاقِ بَعْضِهِمْ فَقَطْ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُنَا: «مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» : احْتِرَازٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ غَيْرِهَا، كَاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَنَحْوِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى أَحْكَامِ دِينِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْنَا.
وَقَوْلُنَا: «عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ» أَيْ: يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ لِذَاتِهِ أَصْلًا أَوْ فَرْعًا، احْتِرَازٌ مِنِ اتِّفَاقِ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ عَلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، كَالْمَصْلَحَةِ فِي إِقَامَةِ مَتْجَرٍ، أَوْ حِرْفَةٍ، أَوْ عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، لَكِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ لِذَاتِهِ، بَلْ بِوَاسِطَةٍ، كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ، أَوِ اللُّغَةِ، أَوِ الْحِسَابِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا، أَوِ اصْطِلَاحِيًّا، وَإِنْ كَانَ إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا فِي الْحَقِيقَةِ، لِتَعَلُّقِهِ بِالشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ بِوَاسِطَةٍ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: الْإِجْمَاعُ فِي الشَّرْعِ: اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ. وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ تَلْخِيصُ هَذَا.
(3/6)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ اتِّفَاقُ جُمْلَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَصْرٍ مَا عَلَى حُكْمِ وَاقِعَةٍ مِنَ الْوَقَائِعِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ.
قَالَ: وَنَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ الِاشْتِرَاكَ، إِمَّا فِي الْقَوْلِ، أَوِ الْفِعْلِ، أَوِ الِاعْتِقَادِ. وَبِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ: الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَبِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ: الشَّرْعِيَّاتِ، وَالْعَقْلِيَّاتِ، وَالْعُرْفِيَّاتِ.
قَوْلُهُ: «وَأَنْكَرَ قَوْمٌ جَوَازَهُ» أَيْ: جَوَازَ الْإِجْمَاعِ مِنْ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ «عَقْلًا» أَيْ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى حُكْمِ وَاقِعَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَقَلِّينَ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» أَيْ: جَوَازُ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى حُكْمٍ مَا «ضَرُورِيٌّ» أَيْ: مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِغَيْرِهِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْكَارُهُ» أَيْ: حَيْثُ ثَبَتَ أَنَّ جَوَازَ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ ضَرُورِيٌّ، فَإِنْكَارُ جَوَازِهِ «عِنَادٌ» لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الضَّرُورِيَّاتِ عِنَادٌ.
نَعَمْ. هَؤُلَاءِ اسْتَبْعَدُوا وُقُوعَهُ مَعَ كَثْرَةِ الْعِبَادِ وَتَبَاعُدِ الْبِلَادِ وَاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ، فَظَنُّوا الِاسْتِبْعَادَ اسْتِحَالَةً.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْوُقُوعُ يَسْتَلْزِمُهُ» هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى جَوَازِ وُقُوعِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ وَقَعَ، وَالْوُقُوعُ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ، أَيْ: يَدُلُّ عَلَيْهِ
(3/7)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّ الْجَوَازَ لِلْوُقُوعِ، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ، أَمَّا وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ «فَكَالْإِجْمَاعِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ» الْخَمْسِ، وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ، وَوَاجِبَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَحْكَامٍ أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ، وَفِيهَا لَا يَخْتَلِفُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِالتَّوَاتُرِ، لَا بِالْإِجْمَاعِ.
قُلْنَا: الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا ثَابِتٌ، لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَأَمَّا التَّوَاتُرُ فِيهَا، فَهُوَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ، أَوْ أَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ مَعًا، أَوْ مُرَتَّبًا، لَمَّا تَوَاتَرَتْ أُجْمِعَ عَلَيْهَا، أَوْ لَمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهَا، تَوَاتَرَتْ، وَكَيْفَمَا كَانَ، فَالْإِجْمَاعُ فِيهَا ثَابِتٌ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ.
وَأَمَّا أَنَّ الْوُقُوعَ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ، فَلِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا مَا هُوَ جَائِزُ الْوُقُوعِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ مَعَ وُجُودِ الْعَقْلِ، وَنَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَوَعِيدِ الشَّرْعِ الْبَاعِثِ عَلَى الْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ، وَقِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ كَيْفَ يَمْتَنِعُ! هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى جَوَازِهِ، عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ وَالتَّسْهِيلِ لَهُ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ هَاهُنَا أُمُورًا لَا يَمْتَنِعُ مَعَهَا وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ:
أَحَدُهَا: وُجُودُ الْعَقْلِ فِي الْمُجْتَهِدِينَ.
(3/8)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالثَّانِي: نَصْبُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَى الْأَحْكَامِ.
وَالثَّالِثُ: وَعِيدُ الشَّرْعِ الْبَاعِثُ عَلَى الْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ، وَالنَّظَرِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: انْظُرُوا {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} [الْأَعْرَافِ: 7 و185] ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ بِالنَّظَرِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي النَّظَرِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَالْعَقْلُ يَضْطَرُّ صَاحِبَهُ مَعَ الْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِ الِاجْتِهَادِ إِلَى النَّظَرِ، وَيَسْتَعِينُ عَلَى دَرْكِ الْحَقِّ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ إِدْرَاكُهُ، خُصُوصًا مَعَ قِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الرَّابِعُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنَّ مُجْتَهِدِي كُلِّ عَصْرٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ قَلِيلٌ جِدًّا، بِحَيْثُ إِنَّ الْإِقْلِيمَ الْعَظِيمَ، الطَّوِيلَ الْعَرِيضَ، لَا يُوجَدُ فِيهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ، فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ مَعَ تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأُمُورِ، لَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ:» وَاخْتِلَافُ الْقَرَائِحِ عَقْلِيٌّ بِخِلَافِ اخْتِلَافِ الدَّوَاعِي الشَّهْوَانِيَّةِ، إِذْ هُوَ طَبَعِيٌّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا جَلِيٌّ «.
هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَمَشْهُورٍ لِمُنْكِرِي جَوَازِ الْإِجْمَاعِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ اتِّفَاقَ الْمُجْتَهِدِينَ لَوْ جَازَ وُقُوعُهُ لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، أَوْ قَطْعِيٍّ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الْأَذْهَانِ وَالْقَرَائِحِ اجْتِمَاعُ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَى مُوجِبِ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَادَةً اتِّفَاقُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ الشَّهَوَاتِ وَالدَّوَاعِي عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ اتِّفَاقُهُمْ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ يُبْطِلُ فَائِدَةَ الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْقَاطِعَ
(3/9)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَتَوَفَّرُ دَوَاعِي نَقْلِهِ، فَيَسْتَحِيلُ خَفَاؤُهُ عَادَةً، فَيَجِبُ ظُهُورُهُ، وَمَعَ ظُهُورِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا كَانَ حُجَّةً لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْقَاطِعِ، وَإِذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْقَاطِعِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَانَ أَوْلَى مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةٍ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّهُ يَجُوزُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَعَنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمْ.
أَمَّا انْعِقَادُهُ عَنِ الظَّنِّيِّ فَجَائِزٌ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُكُمْ: يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى مُوجِبِهِ عَادَةً، كَمَا يَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَذْهَانِ وَالْقَرَائِحِ فِي النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ عَقْلِيٌّ، أَيْ: مُسْتَنَدُهُ الْعَقْلُ وَالْعَقْلُ مَعَ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَبَاعِثِ الْوَعِيدِ عَلَى النَّظَرِ يُرْشِدُ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ، لَا يَخْتَلِفُ، فَيَصِحُّ وُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ اخْتِلَافِ الدَّوَاعِي الشَّهْوَانِيَّةِ» يَعْنِي شَهَوَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَإِنَّهُ «طَبَعِيٌّ» أَيْ: مُسْتَنَدُهُ الطَّبْعُ، وَالطِّبَاعُ تَخْتَلِفُ بِحَقَائِقِهَا وَأَعْرَاضِهَا اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا فِي أُصُولِ الْعَالَمِ، وَمَا رُكِّبَ مِنْهُ.
أَمَّا أُصُولُ الْعَالَمِ أَعْنِي عَالَمَ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، وَهِيَ الْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعُ فَاخْتِلَافُ طِبَاعِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا مَحْسُوسٌ، إِذِ الْأَرْضُ طَبْعُهَا الْهُبُوطُ التَّامُّ، وَالنَّارُ طَبْعُهَا الصُّعُودُ التَّامُّ، وَالْمَاءُ طَبْعُهُ الْهُبُوطُ الْقَاصِرُ، وَالْهَوَاءُ طَبْعُهُ الصُّعُودُ الْقَاصِرُ، وَالنَّارُ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ، وَالْهَوَاءُ حَارٌّ رَطْبٌ، وَالْمَاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ، وَالْأَرْضُ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ.
وَأَمَّا مَا تَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْعَنَاصِرِ مِنَ الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ وَغَيْرِهِ، وَاخْتِلَافِ
(3/10)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طِبَاعِهِ وَأَمْزِجَتِهِ ظَاهِرٌ، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ ذَلِكَ تَخْتَلِفُ شَهَوَاتُهُمْ، فَمِنْهُمُ الْمَحْرُورُ الَّذِي يُؤْثِرُ تَنَاوُلَ الْمُبَرِّدَاتِ، وَالْمَقْرُورُ الَّذِي يُؤْثِرُ تَنَاوُلَ الْمُسَخِّنَاتِ وَذُو الْمِزَاجِ الْيَابِسِ الَّذِي يُؤْثِرُ الْمُرَطِّبَاتِ، وَذُو الْمِزَاجِ الرَّطْبِ الَّذِي يُؤْثِرُ تَنَاوُلَ الْمُجَفِّفَاتِ، لِأَنَّ الضِّدَّ مِنْ ذَلِكَ يُقْمَعُ بِضِدِّهِ، وَتَقْتَضِي الطَّبِيعَةُ تَعْدِيلَ الْمِزَاجِ بِتَنَاوُلِهِ، فَلِذَلِكَ جَازَ وُقُوعُ الْإِجْمَاعِ عَلَى قَتْلِ الْقَاتِلِ وَالْمُرْتَدِّ، وَحَدِّ الزَّانِي، وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَنَحْوِهَا، لِأَنَّا لَمَّا عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ مِنْ حِكْمَةِ الشَّرْعِ، التَّشَوُّفَ إِلَى حِفْظِ النُّفُوسِ، وَالْأَدْيَانِ، وَالْأَنْسَابِ، وَالْعُقُولِ، وَوَرَدَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِعُقُوبَاتِ أَهْلِ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا فِي النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ، لَا جَرَمَ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عُقُوبَاتِ هَؤُلَاءِ، وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَلَمْ يَجُزِ الِاتِّفَاقُ عَلَى الِاغْتِذَاءِ بِالْبِطِّيخِ أَوِ الْبَاذِنْجَانِ أَوِ السَّمَكِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، مِنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ هُنَاكَ أَمْزِجَةً لَا تُوَافِقُ هَذِهِ الْمَآكِلَ، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا أَصْحَابُهَا.
وَسِرُّ الْفَرْقِ: أَنَّ الْعَقْلَ أَمْرٌ مُخْتَارٌ، يَدُورُ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ مَا دَارَ، بِخِلَافِ الطَّبْعِ، فَإِنَّهُ مَجْبُورٌ بِقُدْرَةِ الْجَبَّارِ، عَلَى مَا سُخِّرَ لَهُ بِطَرِيقِ الِاضْطِرَارِ، فَبَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لِذَوِي الْأَبْصَارِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا جَلِيٌّ» .
وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْقَاطِعِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُبْطِلُ فَائِدَةَ الْإِجْمَاعِ،
(3/11)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنَّهُ كَافٍ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: إِنَّمَا يُحْكَمُ بِتَصَوُّرِ وُجُودِهِ» يَعْنِي وُجُودَ الْإِجْمَاعِ «عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عِنْدَ قِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ» يَعْنِي الْإِمْكَانَ الْمَوْقُوفَ عَلَى آرَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْعَادٍ، كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهِ، وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ تَوَسَّطَ بَيْنَ إِحَالَةِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ، وَتَجْوِيزِهِ عَلَى اسْتِبْعَادٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قَامَ دَلِيلُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيُّ كَمَا مَرَّ، فَانْتَفَتِ الِاسْتِحَالَةُ، وَقَامَ دَلِيلٌ بَعْدَ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا فِي كُلِّ عَصْرٍ، إِذْ مِنَ الْمُسْتَبْعَدِ جِدًّا انْتِشَارُ الْحَادِثَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْبِلَادِ الْوَاسِعَةِ، وَبُلُوغُهَا إِلَى الْأَطْرَافِ الشَّاسِعَةِ، لِيَقِفَ عَلَيْهَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ، ثُمَّ يَذْكُرُ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا عَلَيْهِ فِي حُكْمِهَا يَعْتَمِدُ، وَإِلَيْهِ يَسْتَنِدُ ثُمَّ يُطْبِقُونَ فِيهَا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْعَادَةَ عَلَى هَذَا لَا تُسَاعِدُ، فَلِذَلِكَ ذَهَبَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى مَا ذَهَبَ، وَلَعَمْرِي إِنَّهُ لِنِعْمَ الْمَذْهَبُ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْحَوَادِثِ تَقَعُ فِي أَقَاصِي الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، وَلَا يَعْلَمُ بِوُقُوعِهَا مَنْ بَيْنَهُمَا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَمَا وَالَاهُمَا، فَكَيْفَ تَصِحُّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ الْكُلِّيِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ بِإِجْمَاعٍ جُزْئِيٍّ، وَهُوَ إِجْمَاعُ مُجْتَهِدِي الْإِقْلِيمِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ.
(3/12)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ قَاطِبَةً، فَمُتَعَذِّرٌ فِي مِثْلِهَا، إِذِ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا فَرْعُ الْعِلْمِ بِهَا، وَالتَّصْدِيقُ مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ، فَمَنْ لَا يَعْلَمُ مَحَلَّ الْحُكْمِ، كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ؟ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/13)
________________________________________
وَهُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ خِلَافًا لِلنَّظَّامِ فِي آخَرِينَ.
لَنَا: وَجْهَانِ.
الْأَوَّلُ: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} يُوجِبُ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ، وَهُوَ دَوْرِيٌّ {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ: عُدُولًا {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وَالْعَدْلُ لَا سِيَّمَا بِتَعْدِيلِ الْمَعْصُومِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا حَقٌّ، فَالْإِجْمَاعُ حَقٌّ.
الثَّانِي: مَا تَوَاتَرَ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ مِنْ نَحْوِ: «أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ» ، «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» حَتَّى صَارَ كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وَجُودِ حَاتِمٍ.
وَيَرِدُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهَا ظَوَاهِرُ، وَعَلَى الثَّانِي مَنْعُ التَّوَاتُرِ بِدَعْوَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا شُبِّهَ بِهِ، ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِهِ وَهُوَ ظَنِّيٌّ إِذْ يَحْتَمِلُ: لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالِةِ الْكُفْرِ، وَالْأَجْوَدُ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقَاطِعِ إِجْمَاعًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَاطِعًا لَتَعَارَضَ الْإِجْمَاعَانِ، أَعْنِي الْإِجْمَاعَ عَلَى تَقْدِيمِهِ، وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُهُ، وَلِلنَّظَّامِ مَنْعُ الْأُولَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَهُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، خِلَافًا لِلنَّظَّامِ فِي آخَرِينَ» يَعْنِي: الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِلنَّظَّامِ بِتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَالشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ، قَالُوا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
قَالَ النَّظَّامُ: الْإِجْمَاعُ كُلُّ قَوْلٍ قَامَتْ حُجَّتُهُ، وَنُسِبَ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ شَنَاعَةَ قَوْلِهِ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
(3/14)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا» أَيْ: عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ «وَجْهَانِ» أَيْ: طَرِيقَانِ أَوْ مَسْلَكَانِ: «الْأَوَّلُ» : مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النِّسَاءِ: 115] ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ تَوَعَّدَ بِالنَّارِ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ «يُوجِبُ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ» وَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمْرٍ، كَانَ سَبِيلًا لَهُمْ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ دَوْرِيٌّ» أَيِ: الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ، عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ دَوْرِيٌّ، أَيْ: يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ، لِأَنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ لَيْسَتْ قَاطِعَةً فِي الدِّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهَا ظَاهِرَةٌ، لَكِنَّ الظَّوَاهِرَ إِنَّمَا ثَبَتَ كَوْنُهَا حُجَّةً بِالْإِجْمَاعِ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً بِالظَّوَاهِرِ، لَزِمَ الدَّوْرُ.
قُلْتُ: يُمْكِنُ مَنْعُ لُزُومِ الدَّوْرِ هَاهُنَا بِأَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّوَاهِرَ إِنَّمَا كَانَتْ حُجَّةً بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ بِالْوَضْعِ وَالْعُرْفِ اللُّغَوِيِّ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَسْتَعْمِلُ الظَّوَاهِرَ فِي كَلَامِهَا، وَتَتَفَاهَمُ بِهَا مَقَاصِدَهَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِجْمَاعٌ، ثُمَّ وَرَدَتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، فَسَلَكْنَا فِي الِاحْتِجَاجِ بِظَوَاهِرِهَا نَهْجَهُمْ فِي ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ الْمَذْكُورُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [الْبَقَرَةِ: 143]
(3/15)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«أَيْ: عُدُولًا» خِيَارًا، كَذَلِكَ قَالَ أَئِمَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ:
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْوَسَطُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: أَعْدَلُهُ، وَقَالَ تَعَالَى: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ: عَدْلًا، وَيُقَالُ أَيْضًا: شَيْءٌ وَسَطٌ، أَيْ: بَيْنَ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {أُمَّةً وَسَطًا} قَالَ: عُدُولًا.
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: قِيلَ لِلْعَدْلِ: وَسَطٌ، لِتَوَسُّطِهِ بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ فِي أَخْلَاقِهِ.
وَقِيلَ: شُبِّهَ بِوَسَطِ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِمَّا يَلْحَقُ الْأَطْرَافَ مِنَ الْآفَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسَطِ الْعُدُولُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الْبَقَرَةِ: 143] أَيْ: لِتَشْهَدُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْأُمَمِ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ بَلَّغُوهُمْ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّوْحِيدِ وَأَحْكَامِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسَطِ مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، خُصُوصًا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، عَلَى ذَلِكَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ: وَهُوَ الْعَدْلُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَسَطَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الْعَدْلُ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَصْفَهُمْ بِالْعَدَالَةِ فِي سِيَاقِ الْمَدْحِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْمَدْحُ إِذَا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ يَكُونُ صَوَابًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْوَصْفَ بِالْعَدَالَةِ، إِمَّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ
(3/16)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِمَجْمُوعِهِمْ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ قَطْعًا، لِوُجُودِ آحَادِ الْفُسَّاقِ فِيهِمْ كَثِيرًا، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْوَصْفَ بِالْعَدَالَةِ لِمَجْمُوعِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ مُجْتَمِعِينَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، لِأَنَّ قَائِلَ غَيْرِ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ يَكُونُ كَاذِبًا، وَالْكَاذِبُ لَا يَكُونُ عَدْلًا.
وَيَرِدُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الصَّوَابَ وَالْحَقَّ؛ تَارَةً يَكُونُ عَنْ إِخْبَارٍ، فَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ وُجُودُهُ فِي الْأُمَّةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْعَدَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ جُعِلُوا وَسَطًا لِيَشْهَدُوا عَلَى النَّاسِ، وَالشَّهَادَةُ إِخْبَارٌ، وَتَارَةً يَكُونُ الصَّوَابُ وَالْحَقُّ عَنْ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنَ الْوَصْفِ بِالْعَدَالَةِ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي الصَّوَابِ النَّظَرِيِّ، لَا فِي الصَّوَابِ الْإِخْبَارِيِّ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ هَذَا مَدْحٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ الْمَدْحُ إِذَا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ، وَالصَّوَابُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ، مِنْ أَنَّ الصَّوَابَ النَّظَرِيَّ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاللَّامُ فِيهِمَا لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالْعُمُومِ، أَيْ: يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ، وَيَنْهَوْنَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَفُوتَهُمْ حَقٌّ وَلَا صَوَابٌ، لَا يَأْمُرُونَ بِهِ، وَلَا يَفُوتَهُمْ بَاطِلٌ وَلَا خَطَأٌ، لَا يَنْهَوْنَ عَنْهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا اتَّفَقُوا
(3/17)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ، وَتَآمَرُوا بِهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ، وَكُلَّ مَا اتَّفَقُوا عَلَى نَفْيِهِ، وَتَنَاهَوْا عَنْهُ بَاطِلٌ وَخَطَأٌ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ مِنْ لَوَازِمِ إِجْمَاعِهِمْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَيَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (تَأْمُرُونَ) وَ (تَنْهَوْنَ) مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ، فَيَصْدُقُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّ اللَّامَ فِي الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ، أَوْ لِبَعْضِ الْجِنْسِ، لِاسْتِحَالَةِ نَهْيِهِمْ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ فِي الْوُجُودِ بِالضَّرُورَةِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذُكِرَ.
قَوْلُهُ: «وَالْعَدْلُ» إِلَى آخِرِهِ هَذَا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [الْبَقَرَةِ: 143] وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَخْبَرَ أَنَّ الْأُمَّةَ عُدُولٌ، وَ «الْعَدْلُ» لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا حَقٌّ فَالْإِجْمَاعُ حَقٌّ «لِأَنَّهُ صَادِرٌ عَنْهُمْ» لَا سِيَّمَا «إِذَا كَانَ الْعَدْلُ عَدْلًا» بِتَعْدِيلِ الْمَعْصُومِ «فَيَكُونُ الْحَقُّ لَازِمًا لَهُ، لَا يَنْفَكُّ عَنْ تَصَرُّفِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ النَّظَرِيَّ لَا يَلْزَمُ ضَرُورَةً عَنِ الْعَدْلِ، بَلِ الْحَقُّ الْإِخْبَارِيُّ هُوَ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْعَدَالَةِ.
الثَّانِي: مِنَ الْمَسْلَكَيْنِ فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ:» مَا تَوَاتَرَ التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ مِنْ نَحْوِ: أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ إِلَى آخِرِهِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ صَادِرٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَالْأُمَّةُ مَعْصُومَةٌ وَالْمَعْصُومُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا الصَّوَابُ.
(3/18)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ صَادِرٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، فَلِمَا سَبَقَ فِي حَدِّهِ، وَلِأَنَّ الْفَرْضَ ذَلِكَ، وَنَعْنِي بِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ مَجْمُوعَ مُجْتَهِدِيهَا، لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، إِذْ إِلَيْهِمْ إِبْرَامُ أُمُورِهِمْ وَنَقْضُهَا، وَحَلُّهَا وَعَقْدُهَا، وَسَيَأْتِي الدَّلِيلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُجْتَهِدِ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ شَاحَّ الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ؛ الْتَزَمْنَا قَوْلَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي اعْتِبَارِ مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَلَا يَضُرُّنَا ذَلِكَ، وَيَلْزَمُ الْخَصْمَ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.
وَأَمَّا أَنَّ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ، فَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ النَّبَوِيَّةَ فِي عِصْمَتِهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا، وَاشْتِرَاكِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ نَفْيُ الْخَطَأِ عَنْهَا، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الضَّلَالَةِ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ بِالَّذِي يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ وَفِي لَفْظٍ: «عَلَى الْخَطَأِ» وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ، فَأَعْطَانِيهَا، أَيْ: أَعْطَانِي تِلْكَ الْخَصْلَةَ الْمَطْلُوبَةَ. مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، وَلَا
(3/19)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُبَالِي بِشُذُوذِ مَنْ شَذَّ، مَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ، فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ،
(3/20)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، مَنْ خَرَجَ عَنِ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ، مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ، شَذَّ فِي النَّارِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ، تَنَاقَلَهَا الْأَئِمَّةُ، وَتَدَاوَلُوهَا، مُتَلَقِّينَ لَهَا بِالْقَبُولِ، غَيْرَ مُنْكِرِينَ لِشَيْءٍ مِنْهَا، حَتَّى صَارَتْ لِتَوَاتُرِهَا الْمَعْنَوِيِّ كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ، وَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عِصْمَةَ الْأُمَّةِ مِنَ الْخَطَأِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْمَعْصُومَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا الصَّوَابُ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُ الْمَعْصُومِ وَمَفْهُومُهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الصَّادِرَ عَنِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ صَوَابٌ، وَالصَّوَابُ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ حُجَّةً.
قَوْلُهُ: «وَيَرِدُ عَلَى الْأَوَّلِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْمَسْلَكَيْنِ الْمُسْتَدَلِّ بِهِمَا عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَاتِ الثَّلَاثِ، فَيَرِدُ عَلَيْهِ «أَنَّهَا ظَوَاهِرُ» لَا قَوَاطِعُ فِي الدِّلَالَةِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْإِجْمَاعُ الْقَاطِعُ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يَصْلُحُ
(3/21)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُسْتَنَدًا لِلْقَوِيِّ، وَهَذَا عَيْنُ السُّؤَالِ الدَّوْرِيِّ الَّذِي سَبَقَ إِيرَادُهُ وَجَوَابُهُ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، فَيَرِدُ عَلَيْهِ مَنْعُ تَوَاتُرِهَا التَّوَاتُرَ الْمَعْنَوِيَّ بِدَعْوَى الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا شُبِّهَتْ بِهِ، مِنْ شَجَاعَةِ عَلِيٍّ، وَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا عَرَضْنَا عَلَى عُقُولِنَا الْأَخْبَارَ الْمُدَّعَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، وَالْأَخْبَارَ الدَّالَّةَ عَلَى شَجَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَجَدْنَاهَا يَعْنِي الْعُقُولَ لَا تُصَدِّقُ بِالْأَوَّلِ كَتَصْدِيقِهَا بِالثَّانِي، بَلْ تَصْدِيقُهَا بِالثَّانِي أَقْوَى بِكَثِيرٍ جِدًّا، وَلَوْ كَانَتْ مُتَوَاتِرَةً، لَسَاوَتْ أَخْبَارَ عَلِيٍّ وَحَاتِمٍ فِي قُوَّةِ التَّصْدِيقِ بِهَا، لِأَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ كَمَا سَبَقَ، وَالْإِدْرَاكُ الْعِلْمِيُّ لَا يَتَفَاوَتُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْلَ جَازِمٌ بِوُجُودِ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمِصْرَ، وَبَغْدَادَ، وَالْبَصْرَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمَاكِنِ الْمُتَوَاتِرَةِ جَزْمًا مُتَسَاوِيًا، لِتَوَاتُرِهَا، بِخِلَافِ الْبَصْرَةِ وَضَيْعَةٍ مِنْ ضِيَاعِ الْعِرَاقِ، يُقَالُ لَهَا: صَرْصَرَا، وَغَيْرِهَا مِنَ الضِّيَاعِ، فَإِنَّ الْجَزْمَ بِهِمَا غَيْرُ مُتَسَاوٍ، لِعَدَمِ تَسَاوِيهِمَا فِي التَّوَاتُرِ، فَإِنَّ صَرْصَرَا، لَمْ يَقَعِ الْجَزْمُ بِهَا إِلَّا عِنْدَ مَنْ عَايَنَهَا، أَوْ قَرُبَ مِنْهَا، فَتَوَاتَرَتْ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الْبَصْرَةِ; فَإِنَّهُ يُصَدِّقُ بِهَا مَنْ قَرُبَ وَمَنْ بَعُدَ، فَإِنْ وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ تَفَاوُتًا بَيْنَ التَّصْدِيقِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ; وَأَنَّهُ بِمَكَّةَ أَشَدُّ تَصْدِيقًا; فَلَيْسَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى حَقِيقَةِ الْجَزْمِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى طُرُقِ الْإِخْبَارِ بِمَكَّةَ، فِي كُلِّ عَامٍ، عَلَى لِسَانِ
(3/22)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَنْ يَقْصِدُهَا مِنْ وُفُودِ الْحَاجِّ; أَمَّا الْجَزْمُ، فَحَقِيقَتُهُ لَا تَتَغَيَّرُ، وَلَا تَتَفَاوَتُ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَوَجَدْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ أَخْبَارِ عَلِيٍّ وَحَاتِمٍ، وَالْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِصْمَةِ الْأُمَّةِ ; دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً، لِأَنَّ أَخْبَارَ عَلِيٍّ وَحَاتِمٍ مُتَوَاتِرَةٌ وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ دُونَهَا فِي جَزْمِ الْعَقْلِ بِمُوجِبِهَا، وَمَا دُونَ الْمُتَوَاتِرِ لَا يَكُونُ مُتَوَاتِرًا.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَخْبَارَ الْمَذْكُورَةَ مُتَوَاتِرَةٌ، لَكِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِعُمُومِهَا وَهُوَ يَعْنِي الْعُمُومَ ظَنِّيٌّ لَا قَاطِعٌ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةِ الْكُفْرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِصْمَتُهَا مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ أَخَصُّ مِنَ الْخَطَأِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْأَخَصِّ انْتِفَاءُ الْأَعَمِّ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا اتَّجَهَ حَمْلُ الضَّلَالَةِ عَلَى الْكُفْرِ، حُمِلَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ وَجُعِلَ الْكُفْرُ مُبَيِّنًا لَهُ. وَقَوْلُهُ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ حَدِيثٌ لَيْسَ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُرْوَى. وَبَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْجَمَاعَةِ، لَا لِأَنَّ الصَّوَابَ الِاجْتِهَادِيَّ لَازِمٌ لَهَا، بَلْ لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْقَعُ لِلْهَيْبَةِ فِي نَفْسِ عَدُوِّ الْإِسْلَامِ، وَأَجْدَرُ بِاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَالِاحْتِرَازِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ الذِّئْبَ يَأْكُلُ الْقَاصِيَةَ شَبَّهَ الشَّيْطَانَ بِالذِّئْبِ، وَالْمُنْفَرِدَ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِالشَّاةِ الْمُتَخَلِّفَةِ عَنْ
(3/23)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَمَاعَةِ الْغَنَمِ، فَيَحْكُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ حُكْمَ الذِّئْبِ عَلَى الْقَاصِيَةِ.
وَلِهَذَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ: لَوْلَا مَخَافَتِي مِنَ الْوَسْوَاسِ، لَسَكَنْتُ بِلَادًا لَا أَنِيسَ بِهَا، وَهَلْ يُهْلِكُ النَّاسَ إِلَّا النَّاسُ. وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَدِلَالَتِهَا عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا يُنَاقِضُهَا، مِمَّا حَالُهُ فِي الصِّحَّةِ وَالشُّهْرَةِ مِثْلُ حَالِهَا، وَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَتَفَرَّقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ. فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ أُمَّتَهُ تَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً، فَالْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ لَوْ دَلَّتْ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، لَكَانَتْ إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى عِصْمَةِ جَمِيعِهَا، أَوْ عَلَى عِصْمَةِ بَعْضِهَا.
وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ دَلَّ عَلَى خَطَأِ أَكْثَرِهَا، وَهُوَ ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ مِنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فِي النَّارِ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا، بَلْ لَا يَكُونُ صَالِحًا، فَضْلًا عَنْ مَعْصُومٍ.
(3/24)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ مُجْتَهِدِي ذَلِكَ الْبَعْضِ لَيْسُوا جَمِيعَ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ ; بَلْ هُمْ مُجْتَهِدُو جُزْءٍ قَلِيلٍ مِنَ الْأُمَّةِ، إِذْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فِيهَا مُجْتَهِدُونَ، فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ. وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ تَقْدِيرُ أَحَادِيثِكُمْ: لَا يَجْتَمِعُ مُجْتَهِدُو فِرْقَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ، وَهُوَ خَبْطٌ عَظِيمٌ، وَصَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ أَكْثَرِ مَضْمُونِهِ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمَسْلَكَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا يَنْهَضَانِ بِالدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَجْوَدُ أَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقَاطِعِ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَالْأَجْوَدُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ هَذَا الْمَسْلَكُ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّصِّ الْقَاطِعِ، مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً قَاطِعَةً «لَتَعَارَضَ الْإِجْمَاعَانِ أَعْنِي الْإِجْمَاعَ عَلَى» تَقْدِيمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى النَّصِّ الْقَاطِعِ «وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنْ لَا يُقَدَّمَ عَلَى الْقَاطِعِ غَيْرُهُ» وَتَعَارُضُ الْإِجْمَاعَيْنِ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «وَلِلنَّظَّامِ مَنْعُ الْأُولَى» أَيْ: مَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: الْإِجْمَاعُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّصِّ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ هُوَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، فَلَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ، إِذِ النِّزَاعُ مَعَهُ. وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ تَفْسِيرِهِ الْإِجْمَاعَ بِكُلِّ قَوْلٍ
(3/25)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَامَتْ حُجَّتُهُ، فَإِذَا قَامَتْ حُجَّةُ النَّصِّ، كَانَ مُقَدَّمًا عِنْدَهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ الِاتِّفَاقِيِّ، إِذْ لَيْسَ حُجَّةً عِنْدَهُ.
وَحِينَئِذٍ إِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقَاطِعِ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَعَارُضُ الْإِجْمَاعَيْنِ، ثُمَّ اسْتِحَالَةُ تَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، فَيَكُونُ دَوْرًا وَمُصَادَرَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ.
(3/26)
________________________________________
وَقِيلَ: لَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ فِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى خَالَفَ النَّظَّامُ، وَالْإِجْمَاعُ قَبْلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِإِجْمَاعٍ سُكُوتِيٍّ ضَعِيفٍ عَلَى قَطْعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى بَاقِي الْأَدِلَّةِ، لَا بِمَعْنَى الْجَازِمِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِلَّا لَمَا اخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِ مُنْكِرِ حُكْمِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ فِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ، حَتَّى خَالَفَ النَّظَّامُ، وَالْإِجْمَاعُ قَبْلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ» .
هَذَا دَلِيلٌ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ النَّظَّامِ فِي نَفْيِ ذَلِكَ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، لَمْ يَزَالُوا يَتَمَسَّكُونَ عَلَى صِحَّةِ ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ خِلَافًا فِي التَّمَسُّكِ بِهِ، حَتَّى ظَهَرَ النَّظَّامُ فَخَالَفَ فِيهِ، وَيَسْتَحِيلُ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَةِ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ فِي الْأَعْصَارِ الْمُتَكَرِّرَةِ، مَعَ اخْتِلَافِ فِطَرِهِمْ، وَتَفَاوُتِ مَذَاهِبِهِمْ فِي الرَّدِّ وَالْقَبُولِ، عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ،
(3/27)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَذَلِكَ قَاطِعٌ فِي حُكْمِ الْعَادَةِ، بِأَنَّهُمْ ظَفِرُوا بِقَاطِعٍ، دَلَّ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَبْلَ النَّظَّامِ حُجَّةً عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ خِلَافُهُ مُعْتَبَرًا، لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقَاطِعِ.
قَوْلُهُ: «إِلَّا أَنَّهُ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَمْشِيَةٌ لِمَذْهَبِ النَّظَّامِ بِتَوْهِينِ مَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِ، مِنَ الْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ مُتَّجِهٌ بِالْجُمْلَةِ بِالْإِجْمَاعِ قَبْلَهُ «إِلَّا أَنَّهُ تَمَسُّكٌ بِإِجْمَاعٍ سُكُوتِيٍّ ضَعِيفٍ عَلَى قَطْعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ» أَيْ: عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً قَاطِعَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: مَا زَالُوا يَتَمَسَّكُونَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ خِلَافًا ; هُوَ مَعْنَى الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِهَا عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ، وَهَلْ ذَلِكَ إِلَّا إِثْبَاتُ الْقَوِيِّ بِالضَّعِيفِ، كَمَا سَبَقَ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ بِالظَّوَاهِرِ.
وَاحْتَجَّ الْآمِدِيُّ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ: بِأَنَّ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ مِنْ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى حُكْمٍ، وَجَزَمُوا بِهِ، وَبَلَغَ عَدَدُهُمْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، اسْتَحَالَ فِي الْعَادَةِ أَنْ لَا يَتَنَبَّهَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْخَطَأِ فِيمَا حَكَمُوا بِهِ فِي ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ بِحُكْمِ الْعَادَةِ عَلَى إِصَابَتِهِمْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(3/28)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثُمَّ قَالَ: لَكِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ تَخْتَصُّ بِمَا إِذَا بَلَغَ الْمُجْمِعُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَقَصُوا عَنْهُ.
قُلْتُ: هَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الطَّرِيقَةُ السَّابِقَةُ فِي قَوْلِنَا: وَقِيلَ: لَمْ يَظْهَرْ خِلَافٌ حَتَّى خَالَفَ النَّظَّامُ، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ بُلُوغِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، بَلِ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ عَادَةً إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ، قَضَتِ الْعَادَةُ بِصَوَابِهِمْ فِيهِ. أَمَّا اشْتِرَاطُ التَّوَاتُرِ، فَغَيْرُ مُتَّجِهٍ، لِأَنَّ عَدَدَهُ غَيْرُ مَحْصُورٍ كَمَا سَبَقَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِعَدَدِ التَّوَاتُرِ الْعَدَدُ الَّذِي إِذَا أَخْبَرَ، حَصَّلَ خَبَرُهُ الْعِلْمَ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ حَاصِلٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، عِنْدَ إِخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ، لَا بِطَرِيقِ التَّوَلُّدِ عَنِ الْإِخْبَارِ.
وَحِينَئِذٍ لَا يُعْلَمُ الْعَدَدُ الَّذِي لَوْ أَخْبَرَ، لَأَفَادَ خَبَرُهُ الْعِلْمَ مَا هُوَ.
قَوْلُهُ: «وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً» إِلَى آخِرِهِ.
لَمَّا سَبَقَ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، وَكَانَ الْقَاطِعُ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، كَقَوْلِنَا: الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ، وَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الضِّدَّيْنِ، وَتَارَةً يُطْلَقُ عَلَى مَا يَجِبُ امْتِثَالُ مُوجِبِهُ قَطْعًا، وَلَا يَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُ شَرْعًا ; أَحْبَبْتُ أَنْ أُبَيِّنَ مَا الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إِجْمَالٍ وَاحْتِمَالٍ.
وَمَعْنَى كَوْنِهِ حُجَّةً قَاطِعَةً: أَنَّ الْعَمَلَ يَجِبُ «بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى بَاقِي الْأَدِلَّةِ» : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ، فَيُقَدَّمُ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَمِيعِهَا بِحَيْثُ إِذَا
(3/29)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَدَلَّ نَصُّ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْقِيَاسِ، أَوْ جَمِيعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِمَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ دُونَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ بَاقِي الْأَدِلَّةِ، لِدِلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نَصٍّ قَاطِعٍ نَاسِخٍ لِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ، أَوْ مُعَارِضٍ لَهَا رَاجِحٍ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً الْقَطْعَ الْعَقْلِيَّ، وَهُوَ الْجَزْمُ «الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ» لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا بِهَذَا التَّفْسِيرِ، لَمَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، لِأَنَّ الْقَوَاطِعَ الْعَقْلِيَّةَ لَا يُخْتَلَفُ فِيهَا، وَلَا فِي تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ أَحْكَامَهَا الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا، كَمَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَكْفِيرِ مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، أَوْ بِنَفْيِ الصَّانِعِ، أَوْ تَوْحِيدِهِ، أَوْ قُدْرَتِهِ، أَوْ عِلْمِهِ، أَوْ بِنَفْيِ النُّبُوَّاتِ، وَدِلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَيْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَكِنْ سَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي تَكْفِيرِ مُنْكِرِ الْحُكْمِ الْجَمَاعِيِّ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِهِ قَاطِعًا، هُوَ الْقَطْعُ الشَّرْعِيُّ لَا الْعَقْلِيُّ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/30)
________________________________________
ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ قَوْلُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لَا الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ قَطْعًا، وَكَذَا الْعَامِّيُّ الْمُكَلَّفُ عَلَى الْأَكْثَرِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ لِتَنَاوُلِ الْأُمَّةِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَهُ، وَجَوَازِ أَنَّ الْعِصْمَةَ لِلْكُلِّ الْمَجْمُوعِيِّ.
لَنَا: غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إِلَى دَلِيلٍ، فَقَوْلُهُ جَهْلٌ لَا يُعْتَبَرُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا خَالَفَ فَاعْتِبَارُ الْقَوْلَيْنِ وَإِلْغَاؤُهُمَا وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ بَاطِلٌ، فَتَعَيَّنَ الرَّابِعُ، وَخُصَّ مِنَ الْأُمَّةِ بِدَلِيلٍ كَالصَّبِيِّ، وَيُعْتَبَرُ فِي إِجْمَاعِ كُلِّ فَنٍّ قَوْلُ أَهْلِهِ، إِذْ غَيْرُهُمْ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ عَامَّةٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ فِيهِ» أَيْ: فِي الْإِجْمَاعِ «مَسَائِلُ» يَعْنِي أَنَّ مَا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ فِي حَدِّهِ وَجَوَازِهِ، وَكَوْنِهِ حُجَّةً، هُوَ كَالْكُلِّيَّاتِ لِبَابِ الْإِجْمَاعِ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ كَالْجُزْئِيَّاتِ لَهُ:
الْمَسْأَلَةُ «الْأُولَى: الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ قَوْلُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لَا الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ قَطْعًا، وَكَذَا الْعَامِّيُّ الْمُكَلَّفُ عَلَى الْأَكْثَرِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ» .
اعْلَمْ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ، فَمُوَافَقَتُهُ فِي الْإِجْمَاعِ مُعْتَبَرَةٌ قَطْعًا بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ إِمَّا غَيْرُ مُكَلَّفٍ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَلَا تُعْتَبَرُ مُوَافَقَتُهُ قَطْعًا، أَوْ يَكُونُ مُكَلَّفًا كَالْعَامَّةِ، وَيُلْحَقُ بِهِمْ طَلَبَةُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا رُتْبَةَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ الِاجْتِهَادِيِّ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْفُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ حَيْثُ قَالَ: أَعْتَبِرُ
(3/31)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُوَافَقَةَ الْعَامِّيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ.
قَوْلُهُ: «لِتَنَاوُلِ الْأُمَّةِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ الْقَاضِي عَلَى اعْتِبَارِ الْعَامِّيِّ، وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا كَانَ حُجَّةً لِلدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، وَإِيجَابِهِ اتِّبَاعَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَبَقَ، وَلَفْظُ الْأُمَّةِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَتَنَاوَلُ الْعَامِّيَّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: «أَنَّ الْعِصْمَةَ» جَازَ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً لِلْمُجْتَهِدِينَ خَاصَّةً، كَمَا يَقُولُ الْخَصْمُ، وَجَازَ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً «لِلْكُلِّ الْمَجْمُوعِيِّ» وَالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَغَيْرِهِمْ، لَكِنَّ الْأَخْذَ بِهَذَا أَحْوَطُ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَكَانَ وَاجِبًا. وَتَخْصِيصُ هَذَا الدَّلِيلِ بِالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إِجْمَاعًا لَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ بِالْعَامَّةِ، لِقِيَامِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّكْلِيفُ فِي الْعَامِّيِّ الْمُكَلَّفِ دُونَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
وَالثَّانِي: الْعَامِّيُّ إِذَا فَهِمَ الْحُكْمَ وَدَلِيلَهُ قَدْ يَفْهَمُهُ، وَقَدْ يَخْطُرُ لَهُ رَأْيٌ أَوْ مَشُورَةٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ.
فَإِنْ قِيلَ: التَّكْلِيفُ الْمُجَرَّدُ عَنْ أَهْلِيَّةِ النَّظَرِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ، فَلَا يَكُونُ فَارِقًا بَيْنَ الْعَامِّيِّ وَبَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
قُلْنَا: بَلْ يَتَّجِهُ كَوْنُهُ فَارِقًا بَيْنَهُمَا، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عِصْمَةُ الْأُمَّةِ فَائِضَةً
(3/32)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُنْصَبَّةً عَلَيْهَا مِنَ الْعِصْمَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَيُصِيبُ الْعَامِّيُّ الْمُكَلَّفُ مِنْهَا بِقِسْطِهِ، لِتَأَهُّلِهِ لِلْعِبَادَاتِ فِي الْحَالِ، إِذِ الْعِبَادَةُ وَأَهْلِيَّتُهَا بَرَكَةٌ وَتَأْثِيرٌ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ الَّذِي هُوَ فِي الْحَالِ كَالْبَهِيمَةِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إِلَى دَلِيلٍ» إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ الْجُمْهُورِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ قَوْلِ الْعَامِّيِّ، وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَ الْعَامِّيَّ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إِلَى دَلِيلٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ عَامِّيًّا، وَمَا لَيْسَ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ، يَكُونُ جَهْلًا وَخَطَأً، لِأَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ الْقَوْلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْجَهْلُ وَالْخَطَأُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا خَالَفَ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ، فَقَالَ بِالنَّفْيِ، وَقَالُوا بِالْإِثْبَاتِ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ قَوْلَاهُمَا، فَيَجْتَمِعَ النَّقِيضَانِ، أَوْ يُلْغَى قَوْلَاهُمَا فَيَرْتَفِعَ النَّقِيضَانِ، وَتَخْلُوَ الْوَاقِعَةُ عَنْ حُكْمٍ، أَوْ يُقَدَّمَ قَوْلُ الْعَامِّيِّ، فَيُفْضِيَ إِلَى تَقْدِيمِ مَا لَا مُسْتَنَدَ لَهُ عَلَى مَا لَهُ مُسْتَنَدٌ، وَالْكُلُّ «بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الرَّابِعُ» وَهُوَ تَقْدِيمُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَامِّيَّ وَافَقَ الْمُجْتَهِدَ فِي الرَّأْيِ، كَانَ التَّأْثِيرُ لِرَأْيِ الْمُجْتَهِدِ دُونَ رَأْيِ الْعَامِّيِّ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّهُ إِذَا خَالَفَ، لَمْ يُعْتَبَرْ بِهِ.
قَوْلُهُ: «وَخُصَّ مِنَ الْأُمَّةِ بِدَلِيلٍ كَالصَّبِيِّ» . هَذَا جَوَابٌ عَنِ احْتِجَاجِ
(3/33)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَاضِي بِتَنَاوُلِ لَفْظِ الْأُمَّةِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَهُ، وَهُوَ عُمُومُ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ السَّمْعِيِّ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْعَامِّيَّ خُصَّ مِنْ عُمُومِ الْأُمَّةِ بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، كَمَا خُصَّ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ بِدَلِيلٍ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ أَهْلِيَّةِ النَّظَرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّكْلِيفِ، وَالْفَهْمُ بِالتَّفْهِيمِ لَا أَثَرَ لَهُ.
أَمَّا التَّكْلِيفُ، فَلَوِ اعْتُبِرَ فِي الْعَامِّيِّ، لَاعْتُبِرَ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِيهِمَا بِالْقُوَّةِ، إِذْ هُمَا أَهْلٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ زَوَالِ الْمَانِعِ، وَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ مَوْجُودًا فِي الْعَامِّيِّ بِالْفِعْلِ، إِذْ مَعْنَى التَّكْلِيفِ إِلْزَامُ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ. وَانْصِبَابُ الْعِصْمَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى الْأُمَّةِ يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِلْعَامِّيِّ وَغَيْرِهِ فِي الِاعْتِبَارِ.
وَأَمَّا فَهْمُ الْعَامِّيِّ بِالتَّفْهِيمِ، فَلَا فَائِدَةَ لَهُ، إِذِ الْمُعْتَبَرُ مَنْ يَفْهَمُ بِقُوَّتِهِ لِيُفِيدَ وَيُنَبِّهَ النَّاسَ عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ، لَا مَنْ يَكُونُ كَلًّا عَلَى الْعُلَمَاءِ يَقُولُ:
افْهَمُوا وَفَهِّمُونِي. وَأَيْضًا مَا أَقْبَحَ وَأَسْمَجَ أَنْ يُقَالَ فِي مَحْفِلِ الْإِجْمَاعِ وَالِاجْتِهَادِ: انْتَظِرُوا الْإِمَامَ الْفَاضِلَ الْمُجْتَهِدَ فُلَانًا، وَالْفَلَّاحَ أَوِ الْمُكَارِيَ فُلَانًا، أَوِ الْمُقَامِرَ فُلَانًا، وَبِمِثْلِ هَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: فُلَانٌ الْعَامِّيُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ، لَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْتَبَرَ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَكُونَ مِنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ كَالْعَامِّيِّ شَرْطًا فِي الْعِصْمَةِ الَّتِي هِيَ مُسْتَنَدُ
(3/34)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاحْتِجَاجِ بِالْإِجْمَاعِ، إِذْ يَبْعُدُ مِنْ حِكْمَةِ الشَّرْعِ أَنْ يَجْعَلَ نُفُوذَ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ مَوْقُوفًا عَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ، مَعَ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَهُمْ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 43] ، إِذْ كَيْفَ يَأْمُرُهُمْ بِسُؤَالِ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ يَجْعَلُهُمْ كَالْأُمَرَاءِ عَلَيْهِمْ، لَا يَنْفُذُ قَوْلُهُمْ إِلَّا بِمُوَافَقَتِهِمْ ; هَذَا بِعِيدٌ جِدًّا، مُنَافٍ لِلْحِكْمَةِ، مُنَافِرٌ لَهَا، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ لِلْكُلِّ الْمَجْمُوعِيِّ. ضَعِيفٌ جِدًّا، إِذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ عِصْمَةِ جَاهِلٍ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَأَيْضًا اعْتِبَارُ قَوْلِ الْعَامَّةِ فِي الْإِجْمَاعِ يَعُودُ بِبُطْلَانِ الْإِجْمَاعِ، لِكَثْرَةِ الْعَامَّةِ، وَتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّهُمْ لِقِلَّتِهِمْ لَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِيهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ الْعَوَّامُّ فِي الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ، كَتَحْرِيمِ الطَّلَاقِ، وَالرِّبَا، وَالزِّنَى، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، دُونَ الْإِجْمَاعِ الْخَاصِّ الْحَاصِلِ فِي دَقَائِقِ الْفِقْهِ.
قُلْتُ أَنَا: هَذَا أَقْرَبُ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ اعْتِبَارَ قَوْلِهِمْ مَعَ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الْعَامَّ يَحْتَاجُ إِلَى أَهْلِيَّةِ النَّظَرِ، وَالْعَامِّيُّ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ فَإِنْ أُحِيلَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ عَلَى الْعِصْمَةِ لِلْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ ; كَمَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ; وَجَبَ طَرْدُ ذَلِكَ، حَتَّى فِي دَقَائِقِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهَا، إِذْ ذَلِكَ يَكُونُ اعْتِمَادًا عَلَى تَأْيِيدٍ إِلَهِيٍّ، عَلَى نَحْوِ التَّأْيِيدِ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ بِرُوحِ الْقُدُسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/35)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: وَ «يُعْتَبَرُ فِي إِجْمَاعِ كُلِّ فَنٍّ قَوْلُ أَهْلِهِ» كَالْفَقِيهِ فِي الْفِقْهِ، وَالْأُصُولِيِّ فِي الْأُصُولِ، وَالنَّحْوِيِّ فِي النَّحْوِ، وَالطَّبِيبِ فِي الطِّبِّ «إِذْ غَيْرُهُمْ» أَيْ: غَيْرُ أَهْلِ ذَلِكَ الْفَنِّ «بِالْإِضَافَةِ» إِلَى ذَلِكَ الْفَنِّ «عَامَّةٌ» .
وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَفْظٌ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَامَّةِ، وَالْعَامَّةُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُمُومِ، وَهُوَ الْكَثْرَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ بِكُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَا يَعْلَمُهُ، وَمَنْ لَا يَعْلَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْلَمُهُ بِكَثِيرٍ، فَهُمْ عَامَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلَمَاءِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَالْفَقِيهُ الَّذِي لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، أَوِ الْأُصُولَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّحَاةِ وَالْأُصُولِيِّينَ، كَالْفَلَّاحِ وَالْمُكَارِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفُقَهَاءِ، فَإِنِ اتَّفَقَ مَنْ يَعْرِفُ فُنُونًا، كَالْفِقْهِ، وَالْأُصُولِ، وَالْعَرَبِيَّةِ وَنَحْوِهَا، اعْتُبِرَ قَوْلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْهَا، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ عَالِمٌ بِذَلِكَ الْفَنِّ، لَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْإِجْمَاعِ فِي فَنٍّ إِجْمَاعُ أَهْلِ سَائِرِ الْفُنُونِ، لِأَنَّ أَسْوَأَ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يَكُونُوا كَالْعَامَّةِ وَهُوَ يَعْتَبِرُ قَوْلَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/36)
________________________________________
أَمَّا الْأُصُولِيُّ غَيْرُ الْفُرُوعِيِّ وَعَكْسُهُ، وَالنَّحْوِيُّ فِي مَسْأَلَةٍ مَبْنَاهَا عَلَى النَّحْوِ فَقَطْ، فَفِي اعْتِبَارِ قَوْلِهِمِ الْخِلَافُ فِي تَجْزِيءِ الِاجْتِهَادِ، وَالْأَشْبَهُ اعْتِبَارُ قَوْلِ الْأُصُولِيِّ وَالنَّحْوِيِّ فَقَطْ لِتَمَكُّنِهِمَا مِنْ دَرْكِ الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ كَافِرٍ مُتَأَوِّلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُتَأَوِّلُ كَالْكَافِرِ عِنْدَ الْمُكَفِّرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَفِي الْفَاسِقِ بِاعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ النَّفْيُ عِنْدَ الْقَاضِي، إِذْ لَيْسَ عَدْلًا وَسَطًا، وَالْإِثْبَاتُ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، إِذْ هُوَ مِنَ الْأُمَّةِ.
وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ، أَيْ: يَكُونُ الْإِجْمَاعُ الْمُنْعَقِدُ بِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ لِلْمُجْمِعِينَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِي الْأَكْثَرِ، إِذِ الْعِصْمَةُ لِلْأُمَّةِ، فَلَوِ انْحَصَرَتْ فِي وَاحِدٍ، فَقِيلَ: حُجَّةٌ لِدَلِيلِ السَّمْعِ. وَقِيلَ: لَا لِانْتِفَاءِ مَعْنَى الْإِجْمَاعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «أَمَّا الْأُصُولِيُّ غَيْرُ الْفُرُوعِيِّ» أَيِ: الْعَالِمُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ دُونَ فُرُوعِهِ، كَكَثِيرٍ مِنَ الْأَعَاجِمِ تَتَوَفَّرُ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الْمَنْطِقِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ، فَيَتَسَلَّطُونَ بِهِ عَلَى أُصُولِ الْفِقْهِ، إِمَّا عَنْ قَصْدٍ، أَوِ اسْتِتْبَاعٍ لِتِلْكَ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلِهَذَا جَاءَ كَلَامُهُمْ فِيهِ عَرِيًّا عَنِ الشَّوَاهِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْفَهْمِ عَلَى الْمُشْتَغِلِينَ، مَمْزُوجًا بِالْفَلْسَفَةِ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ تَكَلَّفَ إِلْحَاقَ الْمَنْطِقِ بِأَوَائِلِ كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ، لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ مِنْ مَوَادِّهِ، كَمَا ذُكِرَ
(3/37)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي صَدْرِ هَذَا الشَّرْحِ، فَتَرَكُوا مَا يَنْبَغِي، وَذَكَرُوا مَا لَا يَنْبَغِي.
«وَعَكْسُهُ» يَعْنِي: الْفُرُوعِيَّ غَيْرَ الْأُصُولِيِّ «وَالنَّحْوِيُّ فِي مَسْأَلَةٍ مَبْنَاهَا [عَلَى] النَّحْوِ» أَيْ: تَنْبَنِي عَلَيْهِ، كَمَسْأَلَةِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ، الْمَبْنِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ، أَوِ التَّبْعِيضِ، وَمَسَائِلِ الشُّرُوطِ فِي الطَّلَاقِ، وَمَسَائِلِ الْإِقْرَارِ، نَحْوَ: لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا، أَوْ دِرْهَمٌ بِالرَّفْعِ، أَوِ الْجَرِّ غَيْرُ دِرْهَمٍ، عَلَى الْوَصْفِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. «فَفِي اعْتِبَارِ» قَوْلِ هَؤُلَاءِ «الْخِلَافُ فِي تَجْزِيءِ الِاجْتِهَادِ» .
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ هَلْ يَجُوزُ تَجْزِيئُهُ؟ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ مُجْتَهِدًا فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِنْ أَجَزْنَا ذَلِكَ، اعْتُبِرَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، لَكِنَّهُ أَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِهَا، مِثْلَ أَنْ يَبْنِيَ الْأُصُولِيُّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالنَّحْوِيُّ مَسَائِلَ الشُّرُوطِ فِي الطَّلَاقِ عَلَى بَابِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ تَجْزِيءُ الِاجْتِهَادِ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، وَالْأَشْبَهُ الْقَوْلُ بِتَجْزِيءِ الِاجْتِهَادِ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ كَامِلَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْمَسَائِلِ دُونَ بَعْضٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْأُمَّةِ إِمَّا أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأُصُولَ وَلَا الْفُرُوعَ، فَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِهِ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي اعْتِبَارِ الْعَامَّةِ، أَوْ يَعْرِفَهُمَا جَمِيعًا، فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُ
(3/38)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اتِّفَاقًا، أَوْ يَعْرِفَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، بِأَنْ يَكُونَ أُصُولِيًّا فَقَطْ، أَوْ فُرُوعِيًّا فَقَطْ، فَفِيهَا الْخِلَافُ، وَمَتَى اشْتُرِطَ لِلِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ جَمِيعًا، كَانَ اعْتِبَارُ قَوْلِ هَذَيْنِ مُشْكِلًا، لِعَدَمِ كَمَالِ الْأَهْلِيَّةِ فِيهِمَا، لَكِنَّ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِيهِمَا يَدُلُّ عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَشْبَهُ» يَعْنِي بِالصَّوَابِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ «اعْتِبَارُ قَوْلِ الْأُصُولِيِّ وَالنَّحْوِيِّ فَقَطْ» دُونَ الْفَقِيهِ الصِّرْفِ «لِتَمَكُّنِهِمَا» يَعْنِي الْأُصُولِيَّ وَالنَّحْوِيَّ «مِنْ دَرْكِ الْحُكْمِ» أَيْ: مِنْ إِدْرَاكِهِ، وَاسْتِخْرَاجِهِ «بِالدَّلِيلِ» هَذَا بِقَوَاعِدِ الْأُصُولِ، وَهَذَا بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ عِلْمَهُمَا مِنْ مَوَادِّ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، فَيَتَسَلَّطَانِ بِهِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ مَبَاحِثَ الْأُصُولِ وَالْعَرَبِيَّةِ عَقْلِيَّةٌ، وَفِيهِمَا مِنَ الْقَوَاطِعِ كَثِيرٌ، فَيَتَنَقَّحُ بِهَا الذِّهْنُ، وَيَقْوَى بِهَا اسْتِعْدَادُ النَّفْسِ لِإِدْرَاكِ التَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ، حَتَّى يَصِيرَ لَهَا ذَلِكَ مَلَكَةً، فَإِذَا تَوَجَّهَتْ إِلَى الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ، أَدْرَكَتْهَا، إِذْ هِيَ فِي الْغَالِبِ لَا تُخَالِفُ قَوَاعِدَ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةَ إِلَّا بِعَارِضٍ بَعِيدٍ، أَوْ تَخْصِيصِ عِلَّةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ مَارَسَ الْمَبَاحِثَ الْأُصُولِيَّةَ.
وَلِهَذَا حُكِيَ عَنْ أَبِي عُمَرَ الْجَرْمِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لِي كَذَا وَكَذَا سَنَةً أُفْتِي فِي
(3/39)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفِقْهِ مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، يَعْنِي فِي النَّحْوِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ مَأْخَذَ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ فِي غَايَةِ اللَّطَافَةِ، وَنَظَرَهُ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ، وَالْجَرْيُ عَلَى قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ، وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ - لِمَنِ اعْتَبَرَهَا - مِنَ الْحِكْمَةِ بِمَكَانٍ عَلَى مَا أَشَرْتُ إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهُ فِي الْقَوَاعِدِ. وَهَذَا رَجُلٌ قَدْ كَانَ ذَكِيًّا، وَلَهُ نَظَرٌ يَسِيرٌ فِي الْفِقْهِ، فَعَادَ يَتَنَبَّهُ بِلَطَافَةِ حِكْمَةِ سِيبَوَيْهِ، وَمَأْخَذِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ عَلَى حُكْمِ الشَّرْعِ، وَمَأْخَذِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الْكِسَائِيَّ قِيلَ لَهُ يَوْمًا: مَا تَقُولُ فِي الْمُصَلِّي يَسْهُو فِي صِلَاتِهِ، وَيَسْهُو أَنَّهُ سَهَا هَلْ يَسْجُدُ لِسَهْوِ السَّهْوِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقِيلَ لَهُ: مَا الْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّ التَّصْغِيرَ عِنْدَنَا لَا يُصَغَّرُ.
قُلْتُ: فَقَدِ اعْتَبَرَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْوَاحِدَ لَا يَتَكَرَّرُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذَا الْمِثَالَ، لِئَلَّا يَسْتَبْعِدَ بَعْضُ أَجْلَافِ الْفُقَهَاءِ مَا حُكِيَ عَنِ الْجَرْمِيِّ وَيَقُولُ: أَيْنَ النَّحْوُ مِنَ الْفِقْهِ حَتَّى تُسْتَفَادَ أَحْكَامُهُ مِنْهُ؟ ! فَبَيَّنْتُ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مَعَ جَوْدَةِ الذِّهْنِ، وَلُطْفِ الْمَأْخَذِ، وَدِقَّةِ النَّظَرِ، وَسُرْعَةِ التَّنْبِيهِ، دَاخِلٌ فِي الْمُمْكِنِ، قَرِيبُ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُوَّةِ إِلَى الْفِعْلِ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْفَقِيهِ الصِّرْفِ الَّذِي لَمْ يَتَنَقَّحْ ذِهْنُهُ بِالْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْمَآخِذِ النَّظَرِيَّةِ، فَإِنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى الَّذِي قَبْلَهُ مِمَّنْ تَهَذَّبَتْ قُوَّتُهُ النَّظَرِيَّةُ نِسْبَةُ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ، وَالظُّلْمَةِ إِلَى الضِّيَاءِ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ جَاهِلًا مُرَكَّبًا، يَجْهَلُ، وَيَجْهَلُ أَنَّهُ يَجْهَلُ، فَيَكُونُ كَمَا قِيلَ: إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ شَقَاءً مَنْ بُلِيَ بِلِسَانٍ
(3/40)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُنْطَلِقٍ، وَقَلْبٍ مُنْطَبِقٍ، فَهُوَ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْكُتَ.
قَوْلُهُ: «وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ» . هَذَا الْكَلَامُ لَا أَعْلَمُ الْآنَ مَا أَرَدْتُ بِهِ وَقْتَ الِاخْتِصَارِ، لَكِنْ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْقَوَاطِعِ، بَلْ هِيَ مِنْ مَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ، فَيَحْتَمِلُ اعْتِبَارُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَهُمُ الْأُصُولِيُّ وَالْفُرُوعِيُّ وَالنَّحْوِيُّ الصِّرْفُ، وَيَحْتَمِلُ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ، وَلَا قَطْعَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُعْتَبَرُ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي اعْتِبَارِهِ، فَاعْتِبَارُهُ هَؤُلَاءِ أَوْلَى، وَلَا يَتَّجِهُ فِيهِ خِلَافٌ.
الثَّانِي: أَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ، فَمَتَى اعْتَبَرْنَا قَوْلَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ مُخَالِفًا، لَمْ يَبْقَ الْإِجْمَاعُ مَعَ خِلَافِهِ حُجَّةً قَاطِعَةً، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي «الرَّوْضَةِ» وَالْأَشْبَهُ أَنِّي أَشَرْتُ إِلَيْهِ، وَالْوَجْهَانِ صَحِيحَانِ، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُمَا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِمَا، وَالْخَطْبُ فِيهِ يَسِيرٌ.
قَوْلُهُ: «وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ كَافِرٍ مُتَأَوِّلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُتَأَوِّلُ كَالْكَافِرِ عِنْدَ الْمُكَفِّرِ دُونَ غَيْرِهِ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَانِدًا، أَوْ مُتَأَوِّلًا، فَإِنْ كَانَ مُعَانِدًا غَيْرَ
(3/41)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُتَأَوِّلٍ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ رَغْبَةً عَنْهُ، أَوْ بِإِنْكَارِ مَا عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى عِصْمَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأُمَّةِ، وَهَذَا خَارِجٌ عَنْهُمَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا خَرَجَ عَنِ الْمِلَّةِ، اتُّهِمَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُؤْتَمَنْ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا، أَيْ: مُسْتَنِدًا إِلَى شُبْهَةٍ، كَمُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْخَوَارِجِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَالرَّافِضَةِ، وَالْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ مُطْلَقًا، كَغَيْرِ الْمُتَأَوِّلِ بِجَامِعِ الْكُفْرِ وَالتَّكْفِيرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ كَالْكَافِرِ عِنْدَ مَنْ كَفَّرَهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ.
أَمَّا مَنْ لَا يُكَفِّرُهُ، فَقَوْلُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ.
مِثَالُهُ: أَنَّ الْخَوَارِجَ اخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِهِمْ، فَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُكَفِّرُونَهُمْ، فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ مُجْتَهَدِيِ الْخَوَارِجِ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُحَدِّثُونَ، وَالْفُقَهَاءُ لَا يُكَفِّرُونَ الْخَوَارِجَ، فَيُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَدْلِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إِذَا كَانَ الْمُجْتَهِدُ مُبْتَدِعًا، فَإِنْ كُفِّرَ بِبِدْعَتِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ مُوَافَقَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي مُسَمَّى الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ هُوَ بِكُفْرِ نَفْسِهِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَسَوَاءٌ أَصَرَّ عَلَى بِدْعَتِهِ، أَوْ تَابَ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَّا عَلَى اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يُكَفَّرْ بِبِدْعَتِهِ، فَحَكَى أَقْوَالًا، ثَالِثُهَا: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَى غَيْرِهِ.
قُلْتُ: يُشِيرُ بِهَذَا إِلَى مَا سَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي الْفَاسِقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(3/42)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَفِي الْفَاسِقِ بِاعْتِقَادٍ» يَعْنِي كَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْفِرَقِ، إِذَا لَمْ نُكَفِّرْهُمْ بِقَوْلٍ «أَوْ فِعْلٍ» كَشَارِبِ الْخَمْرِ، وَالزَّانِي وَالسَّارِقِ وَنَحْوِهِمْ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: «النَّفْيُ» أَيْ: نَفْيُ اعْتِبَارِ قَوْلِهِ «عِنْدَ الْقَاضِي» أَبِي يَعْلَى وَجَمَاعَةٍ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ «لَيْسَ عَدْلًا وَسَطًا» وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الشَّرْعُ قَوْلَ الْعَدْلِ الْوَسَطِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الْبَقَرَةِ: 143] ، وَالْفِسْقُ يُنَافِي الْعَدَالَةَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: «الْإِثْبَاتُ» أَيْ: إِثْبَاتُ اعْتِبَارِ قَوْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُ «أَبِي الْخَطَّابِ» لِأَنَّهُ «مِنَ الْأُمَّةِ» فَيَتَنَاوَلُهُ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى عِصْمَتِهَا.
وَيُجَابُ عَمَّا قَالَهُ الْقَاضِي: بِأَنَّ الْعَدَالَةَ تُعْتَبَرُ لِلرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، لَا لِلنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ مُخْبِرٌ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ نَظَرُهُ وَاجْتِهَادُهُ، وَخَبَرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِفِسْقِهِ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: «يُعْتَبَرُ» قَوْلُهُ «فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِ، أَيْ: يَكُونُ الْإِجْمَاعُ الْمُنْعَقِدُ بِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ» .
مِثَالُهُ: لَوْ أَجْمَعَ مَعَ بَقِيَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ، أَوْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لَا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ مُجَرَّدُ عَقْدِ الثَّانِي عَلَيْهَا، أَوْ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الثَّعْلَبِ وَنَحْوِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ لَهُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ،
(3/43)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَمْ يَجُزْ لَهُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ بِالتَّحْرِيمِ، وَلَوْ ظَهَرَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْمِعِينَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ، جَازَ لَهُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَكْمُلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ بِالتَّحْرِيمِ، فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي الْكَافِرِ الْمُتَأَوِّلِ، وَالْفَاسِقِ بِاعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ، وَقَدْ يَتَّحِدَانِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ النَّظَرِ، لِأَنَّ الْقَائِلَ بِبِدْعَةٍ إِنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ مُتَأَوِّلٌ، وَإِنْ لَمْ نُكَفِّرْهُ فَهُوَ فَاسِقٌ.
فَائِدَةٌ: الْمُخْتَارُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَتَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُكَفَّرُ بِبِدْعَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، مَا اسْتَنَدَ فِيهَا إِلَى تَأْوِيلٍ يَلْتَبِسُ بِهِ الْأَمْرُ عَلَى مِثْلِهِ، فَيُقْبَلُ قَوْلُ جَمِيعِ مُبْتَدِعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ كَذَلِكَ، إِذَا عُرِفَ مِنْهُمُ الصِّدْقُ وَالْعَدَالَةُ فِي بِدْعَتِهِمْ، كَمَا قُلْنَا: إِنَّ الْكَافِرَ الْعَدْلَ فِي دِينِهِ ; يَلِي مَالَ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْعَدَالَةُ مَعَ الْكُفْرِ، فَمَعَ الْبِدْعَةِ أَوْلَى.
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْحَدِيثِ قَبِلُوا أَخْبَارَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْغَلِيظَةِ، لِصِدْقِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ فِي بِدْعَتِهِمْ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يُعْتَبَرُ لِلْمُجْمِعِينَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ» أَيْ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْلُغَ الْمُجْمِعُونَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ «فِي الْأَكْثَرِ» أَيْ: عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ «إِذِ الْعِصْمَةُ لِلْأُمَّةِ» أَيْ: لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ دَلَّ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، فَسَوَاءٌ بَلَغَتْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، أَوْ لَمْ تَبْلُغْ، كَانَ اتِّفَاقُهَا مَعْصُومًا «فَلَوْ» قُدِّرَ أَنَّ الْأُمَّةَ «انْحَصَرَتْ فِي وَاحِدٍ» بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا إِلَّا هُوَ، كَمَا قَدْ وُعِدَ بِمِثْلِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَوْ كَانَ مُجْتَهِدٌ وَاحِدٌ بَيْنَ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ الْكُفْرِ، وَاحْتَاجَ إِلَى الْحُكْمِ
(3/44)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّرْعِيِّ فِي حَادِثَةٍ مَا، وَقُلْنَا بِأَنَّ اتِّفَاقَ مُجْتَهِدِي كُلِّ إِقْلِيمٍ إِجْمَاعٌ، عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ قَبْلُ «فَقِيلَ» : يَكُونُ قَوْلُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ «حُجَّةً لِدَلِيلِ السَّمْعِ» وَهُوَ عِصْمَةُ الْأُمَّةِ، وَقَدِ انْحَصَرَتْ فِي هَذَا الْوَاحِدِ «وَقِيلَ» : لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَيُشْعِرُ بِمَعْنَاهُ، وَالِاجْتِمَاعُ مُنْتَفٍ فِي الْوَاحِدِ، إِذْ هُوَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا مِنِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا.
قُلْتُ: الْقَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ مَدْرَكَ الْإِجْمَاعِ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً ; هُوَ السَّمْعُ أَوِ الْعَقْلُ.
فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ، فَقَوْلُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، لِدِلَالَةِ السَّمْعِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، وَقَدِ انْحَصَرَتْ فِيهِ.
وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي، لَمْ يَكُنْ حُجَّةً، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا كَانَ حُجَّةً لِدِلَالَةِ الْقَاطِعِ، فَهُوَ حُجَّةٌ لِذَلِكَ الْقَاطِعِ، لَا لِقَوْلِ الْأُمَّةِ وَعِصْمَتِهَا، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْقَاطِعِ، وَلَا تُحِيلُ الْعَادَةُ الْخَطَأَ عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ فِي كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً ; هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي «الْبُرْهَانِ» . حَكَاهُ عَنْهُ الْقَرَافِيُّ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ سَمْعِيٌّ، وَالْعَقْلُ مُؤَكِّدٌ لَهُ، وَهُوَ إِحَالَةُ الْعَادَةِ خَطَأَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ فِي حُكْمٍ لَا يَتَنَبَّهُ أَحَدٌ لِمَوْقِعِ الْخَطَأِ فِيهِ، وَأَنَّ النُّصُوصَ شَهِدَتْ بِعِصْمَةِ الْأُمَّةِ، فَلَا يَقُولُونَ إِلَّا حَقًّا، سَوَاءٌ اسْتَنَدُوا فِي قَوْلِهِمْ
(3/45)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَى قَاطِعٍ، أَوْ مَظْنُونٍ، كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا كَانَ مَعْصُومًا، كَانَ مَا يَقُولُهُ حُجَّةً، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَنَدُهُ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا.
حُجَّةُ مَنِ اشْتَرَطَ عَدَدَ التَّوَاتُرِ لِلْمُجْمِعِينَ: هُوَ أَنَّا مُكَلَّفُونَ بِالْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ، وَالْقِطَعِ بِصِحَّةِ قَوَاعِدِهَا فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، كَبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَظُهُورِ الْمُعْجِزِ الْقَاطِعِ عَلَى يَدِهِ، وَوُرُودِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اللَّذَيْنِ هُمَا أَصْلُ الشَّرِيعَةِ عَلَى لِسَانِهِ، وَمَتَى قَصُرَ عَدَدُ الْمُجْمِعِينَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، اخْتَلَّ عِلْمُنَا بِتِلْكَ الْقَوَاعِدِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقَوَاعِدِ الْمَذْكُورَةِ قَدْ يَحْصُلُ بِأَخْبَارِ الْمُجْمِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ الْأُمَّةِ، إِذِ التَّوَاتُرُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِسْلَامُ، أَوْ بِقَرَائِنَ تَنْضَمُّ إِلَى إِجْمَاعِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرْتُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ لِلْمُجْمِعِينَ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى رَأْيِ مَنْ جَعَلَ طَرِيقَ إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ السَّمْعَ، أَمَّا مَنْ جَعَلَ طَرِيقَ إِثْبَاتِهِ الْعَقْلَ، فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدِ الصُّوَرِ فِيهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ.
(3/46)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: لَا يَخْتَصُّ الْإِجْمَاعُ بِالصَّحَابَةِ، بَلْ إِجْمَاعُ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ، خِلَافًا لِدَاوُدَ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلَهُ.
لَنَا: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُسْلِمُونَ وَالْجَمَاعَةُ صَادِقٌ عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ فَيَحْرُمُ خِلَافُهُمْ، وَلِأَنَّ مَعْقُولَ السَّمْعِيِّ إِثْبَاتُ الْحُجَّةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ مُدَّةَ التَّكْلِيفِ، وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: لَا يَخْتَصُّ الْإِجْمَاعُ بِالصَّحَابَةِ، بَلْ إِجْمَاعُ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ، خِلَافًا لِدَاوُدَ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلَهُ» .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ أَوْمَأَ أَحْمَدُ إِلَى نَحْوٍ مِنْ قَوْلِهِ، يَعْنِي قَوْلَ دَاوُدَ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُحْتَجَّ بِهِ مُخْتَصٌّ بِالصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ مَا حَكَيْنَاهُ أَوَّلًا كَقَوْلِ الْأَكْثَرِينَ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: الْمُؤْمِنُونَ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَلِيلَ السَّمْعِ مُتَنَاوِلٌ لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ، وَصَادِقٌ عَلَيْهِمْ، فَيَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ:
(3/47)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
115] ، وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا. . وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ «صَادِقٌ عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ» إِذْ تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُسْلِمِينَ، وَجَمَاعَةً تَعْرِيفًا وَتَنْكِيرًا.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُ إِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً ; فَلِأَنَّهُ إِذَا تَنَاوَلَهُمْ لَفْظُ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَدَقَ عَلَيْهِمْ، حَرُمَ خِلَافُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الْآيَةَ، كَمَا سَبَقَ. فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ إِجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 115] الْآيَةَ، وَأَخَوَاتُهَا مِمَّا سَبَقَ ; هُوَ «إِثْبَاتُ الْحُجَّةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ مُدَّةَ التَّكْلِيفِ» . إِذْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ حَقٌّ، فَاتَّبِعُوهُ مَا دُمْتُمْ مُكَلَّفِينَ. وَالْخِطَابُ لِلْمَوْجُودِينَ، وَلِمَنْ سَيُوجَدُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَالتَّكْلِيفُ «لَيْسَ مُخْتَصًّا بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ» بَلْ هُوَ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمَعْقُولِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَعْصَارِ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ، إِذْ مَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مَعْدُومٌ.
(3/48)
________________________________________
قَالُوا: السَّمْعِيُّ خِطَابٌ لِحَاضِرِيهِ فَيَخْتَصُّ بِهِمْ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُخْرِجُهُمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأُمَّةِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِمْ كَالْغَائِبِ.
قُلْنَا: الْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِسَائِرِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، فَإِنَّهُ عَمَّ وَمَا خَصَّ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ بِاللَّاحِقِ، لَا يُقَالُ: الْفَرْقُ ثُبُوتُ قَوْلِ الْمَاضِي دُونَهُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْجَامِعُ الْعَدَمُ، وَلَا قَوْلَ لِمَيِّتٍ، وَعُمُومُ الْأُمَّةِ مَخْصُوصٌ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اللَّاحِقِ، فَالْمَاضِي بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَالْغَائِبُ يُمْكِنُ مُرَاجَعَتُهُ وَاسْتِعْلَامُ رَأْيِهِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ، فَإِلْحَاقُهُ بِاللَّاحِقِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَوْلَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " قَالُوا: السَّمْعِيُّ خِطَابٌ لِحَاضِرِيهِ ". هَذَا حُجَّةُ الظَّاهِرِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ دَلِيلَ السَّمْعِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْإِجْمَاعُ " خِطَابٌ لِحَاضِرِيهِ " أَيْ: لِحَاضِرِي ذَلِكَ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [الْبَقَرَةِ: 143] ، الْآيَتَيْنِ. وَهَذَا خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ " فَيَخْتَصُّ " بِمُقْتَضَاهُ، وَهُوَ كَوْنُ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً " بِهِمْ " دُونَ غَيْرِهِمْ، لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ لَهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَوْتَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْأُمَّةِ لَهُمْ، فَلَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ بِدُونِهِمْ كَالْغَائِبِ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابُ مَا ذَكَرُوهُ، أَيْ: قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ " الْأَوَّلِ " وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " السَّمْعِيُّ خِطَابٌ لِحَاضِرِيهِ فَيَخْتَصُّ بِهِمْ " أَنَّهُ
(3/49)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" بَاطِلٌ بِسَائِرِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ " نَحْوَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الْبَقَرَةِ: 43] وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ، وَعَمَّ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِمْ.
وَعَنْهُ جَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ مِنْ نُصُوصِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ مَا لَيْسَ خِطَابًا لِلْحَاضِرِينَ، نَحْوَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} الْآيَةَ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالْأَحَادِيثُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ عَامَّةٌ، فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْعُمُومُ لِغَيْرِ الصَّحَابَةِ.
وَالْجَوَابُ عَنِ " الثَّانِي " وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " الْمَوْتُ لَا يُخْرِجُهُمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، [وَالْأُمَّةِ] فَلَا يَنْعَقِدُ بِدُونِهِمْ كَالْغَائِبِ " ; هُوَ أَنَّهُ " بَاطِلٌ بِاللَّاحِقِ " وَهُوَ مَنْ سَيُوجَدُ، فَإِنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ تَخَلُّفُهُ عَنِ الْمَوْجُودِ فِي الْحَالِ عَنْ تَنَاوُلِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ.
قَوْلُهُ: " لَا يُقَالُ: " إِلَى آخِرِهِ، هَذَا إِيرَادُ فَرْقٍ بَيْنَ السَّابِقِ الْمَيِّتِ وَبَيْنَ اللَّاحِقِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّاحِقِ وَالْمَيِّتِ السَّابِقِ: هُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ السَّابِقَ ثَبَتَ قَوْلُهُ، وَاسْتَقَرَّ، وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ، بِخِلَافِ اللَّاحِقِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ اجْتِهَادٌ وَقَوْلٌ، فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ قَوْلُ الْمَيِّتِ السَّابِقِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُ اللَّاحِقِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْفَرْقِ: أَنَّ " الْجَامِعَ " بَيْنَ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ هُوَ " الْعَدَمُ " ;
(3/50)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا عَدَمٌ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا بِكَوْنِهِ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، فَبِهَذَا الْجَامِعِ أَلْزَمْنَاكُمُ اللَّاحِقَ عَلَى اعْتِبَارِكُمُ السَّابِقَ.
وَأَمَّا الْفَارِقُ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ثُبُوتُ قَوْلِ السَّابِقِ دُونَ اللَّاحِقِ، فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ " لَا قَوْلَ لِمَيِّتٍ " بَلْ يَبْطُلُ قَوْلُهُ بِمَوْتِهِ، لِجَوَازِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا، لَرَجَعَ عَنْهُ بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لِلْمَيِّتِ قَوْلًا، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِدُونِهِ، وَحِينَئِذٍ يَسْتَوِي السَّابِقُ وَاللَّاحِقُ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: " وَعُمُومُ الْأُمَّةِ مَخْصُوصٌ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اللَّاحِقِ، فَالْمَاضِي بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ " هُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَوِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِدُونِ الصَّحَابَةِ مَعَ تَنَاوُلِ الْأُمَّةِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ، وَإِمْكَانِ النَّظَرِ فِي أَقْوَالِهِمُ الَّتِي مَاتُوا عَنْهَا، لَكَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِعُمُومِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
فَأَجَبْتُ عَنْهُ بِأَنَّ عُمُومَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَهُوَ الْأُمَّةُ وَنَحْوُهُ مَخْصُوصٌ بِعَدَمِ اعْتِبَارِ اللَّاحِقِ، فَإِنَّا لَمْ نَعْتَبِرْهُ إِجْمَاعًا فَلْيُخَصَّ السَّابِقُ مِنْهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى اللَّاحِقِ، بِجَامِعِ الْعَدَمِ.
وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْ ثُبُوتِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِمْكَانِ النَّظَرِ فِيهَا، بِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لِمَيِّتٍ، أَوْ بِأَنَّ قَوْلَ الْمَيِّتِ لَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْإِجْمَاعِ بِدُونِهِ.
قَوْلُهُ: " وَالْغَائِبُ " إِلَى آخِرِهِ. هُوَ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمُ السَّابِقَ عَلَى الْغَائِبِ فِي اعْتِبَارِهِمَا فِي الْإِجْمَاعِ، بِجَامِعِ تَنَاوُلِ الْأُمَّةِ لَهُمَا، وَذَلِكَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْغَائِبَ يُمْكِنُ مُرَاجَعَتُهُ، وَاسْتِعْلَامُ رَأْيِهِ " فِي الْوَاقِعَةِ
(3/51)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْمُرَاسَلَةِ، وَيُمْكِنُ انْتِظَارُ أَوْبَتِهِ، فَيُؤَخَّرُ الْإِجْمَاعُ إِلَى حِينِ إِيَابِهِ، فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ قَوْلُهُ " بِخِلَافِ الْمَيِّتِ " فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ مُرَاجَعَتُهُ، وَلَا تُرْجَى أَوْبَتُهُ، فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ، وَيَكُونُ إِلْحَاقُهُ بِاللَّاحِقِ الَّذِي لَمْ يُولَدْ بَعْدُ، وَبِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إِذْ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمَا أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِالْغَائِبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/52)
________________________________________
الثَّالِثَةُ: الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ خِلَافًا لِابْنِ جَرِيرٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ لِارْتِكَابِ الْأَقَلِّ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ.
لَنَا: الْعِصْمَةُ لِلْأُمَّةِ وَلَا تَصْدُقُ بِدُونِهِ، وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَسَائِلَ فَجُوِّزَ لَهُمْ.
قَالُوا: أُنْكِرَ عَلَيْهِ الْمُتْعَةُ ; وَحَصْرُ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وَالْعِينَةُ عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.
قُلْنَا: لِخِلَافِ مَشْهُورِ السُّنَّةِ، ثُمَّ قَدْ أُنْكِرَ عَلَى الْمُنْكِرِ، فَلَا إِجْمَاعَ، فَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، حُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ بِدَلِيلِ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ} ، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّالِثَةُ: الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ» يَعْنِي الْإِجْمَاعَ «بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ» دُونَ الْأَقَلِّ، حَتَّى يَتَّفِقَ الْجَمِيعُ، «خِلَافًا لِابْنِ جَرِيرٍ» الطَّبَرِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى انْعِقَادِهِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ «وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ» أَيْ: مِثْلُ قَوْلِهِمْ. قَالَ فِي «الرَّوْضَةِ» : أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ.
قُلْتُ: وَحَكَاهُ الْآمِدِيُّ رِوَايَةً عَنْهُ فِي جُمْلَةِ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَحُكِيَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ:
أَحَدُهَا: إِنْ بَلَغَ الْأَقَلُّ عَدَدَ التَّوَاتُرِ، لَمْ يَنْعَقِدِ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ ; وَإِلَّا انْعَقَدَ. وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ، وَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطِ، فِيمَا حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ.
(3/53)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: هَذَا يَتَخَرَّجُ عَلَى رَأْيِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ الْعَقْلُ لَا السَّمْعُ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ يُشْتَرَطُ لَهُ عَدَدُ التَّوَاتُرِ، إِذِ التَّوَاتُرُ يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَيَجُوزُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الْأَقَلِّ الْمُخَالِفِ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ إِذَنْ.
قُلْتُ: وَهُوَ بَادِئَ الرَّأْيِ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ مَقْبُولٌ، لَكِنَّهُ مَعَ النَّظَرِ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَدَدَ التَّوَاتُرِ غَيْرُ مَحْدُودٍ، فَكَيْفَ يُعَلَّقُ هَذَا الْحُكْمُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ مَحْدُودًا، لَكِنْ إِذَا كَانَ الْأَقَلُّ بَالِغًا عَدَدَ التَّوَاتُرِ، فَالْأَكْثَرُ أَوْلَى، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعَارُضُ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ، وَهُوَ أَبْعَدُ فِي الِاسْتِحَالَةِ مِنْ تَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَمَا نَشَأَ هَذَا الضَّعْفُ إِلَّا مِنِ اعْتِبَارِ التَّوَاتُرِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّوَاتُرِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْخَبَرِيَّاتِ، لَا فِي النَّظَرِيَّاتِ الِاجْتِهَادِيَّاتِ ; فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَوْ أَخْبَرُونَا بِأَمْرٍ شَاهَدُوهُ، كَمَدِينَةٍ مِنَ الْمُدُنِ، أَوْ وُقُوعِ زَلْزَلَةٍ فِي مَكَانٍ مَا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، صَدَّقْنَاهُمْ، وَأَفَادَ خَبَرُهُمُ الْعِلْمَ، إِذَا بَلَغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ خَبَرِيٌّ، وَلَوْ أَخْبَرُونَا عَنْ أَنَّ مُحَمَّدًا غَيْرُ نَبِيٍّ، أَوْ عَنْ بُطْلَانِ شَيْءٍ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، أَوْ عَنْ قِدَمِ الْعَالَمِ وَنَحْوِهِ، لَمْ نُصَدِّقْهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ نَظَرِيٌّ، صَدَرَ عَنْ نَظَرٍ فَاسِدٍ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنْ سَوَّغَتِ الْجَمَاعَةُ الِاجْتِهَادَ فِي مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ، كَانَ خِلَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ.
قُلْتُ: وَهُوَ قَوْلٌ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِالْأَكْثَرِ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ تَسْوِيغَهُمْ قَوْلَ الْمُخَالِفِ وَعَدَمَهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةً، لَمَا كَانَ تَسْوِيغُهُمُ الْمَذْكُورُ حُجَّةً.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ إِتِّبَاعَ الْأَكْثَرِ أَوْلَى، وَخِلَافُهُ جَائِزٌ.
(3/54)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: إِنَّ قَوْلَ الْأَكْثَرِ حُجَّةٌ لَا إِجْمَاعٌ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: يُعْتَبَرُ عِنْدَ مَالِكٍ مُخَالَفَةُ الْوَاحِدِ فِي إِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إِذَا خَالَفَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، مَنْ قَصُرَ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، فَلَا إِجْمَاعَ حِينَئِذٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَضُرُّ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ.
وَقَالَ ابْنُ الْإِخْشَاذِ: لَا يَضُرُّ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ فِي أُصُولِ الدِّينِ، وَالتَّأْثِيمِ وَالتَّضْلِيلِ، بِخِلَافِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ.
وَهَذَا مَا اتَّفَقَ مِنْ نَقْلِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلْنَرْجِعِ الْآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى ذِكْرِ دَلِيلِهَا عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
قَوْلُهُ: «لِارْتِكَابِ [الْأَقَلِّ] الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ» . هَذِهِ حُجَّةُ ابْنِ جَرِيرٍ وَأَتْبَاعِهِ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِدُونِ الْأَقَلِّ الْمُخَالِفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْأَقَلِّ شُذُوذٌ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَالشُّذُوذُ عَنِ الْجَمَاعَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ، فَمَاتَ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْمُخَالِفُ الشَّاذُّ عَاصِيًا فَاسِقًا، فَلَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ، وَيَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: الْعِصْمَةُ لِلْأُمَّةِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا
(3/55)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَنْعَقِدُ بِدُونِ الْمُخَالِفِ، وَإِنْ كَانَ شَاذًّا، وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِصْمَةَ الْإِجْمَاعِيَّةَ إِنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْأُمَّةِ، وَالْأُمَّةُ لَا تَصْدُقُ عَلَى الْأَكْثَرِينَ بِدُونِ هَذَا الْمُخَالِفِ، فَلَا يَكُونُ اتِّفَاقُهُمْ بِدُونِهِ إِجْمَاعًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ، وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خَالَفَا جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلَ، فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْهُمْ بِخَمْسِ مَسَائِلَ فِي الْفَرَائِضِ، وَانْفَرَدَا وَغَيْرُهُمَا فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ بِمَسَائِلَ أُخَرَ. وَجَوَّزَ الصَّحَابَةُ لَهُمْ هَذَا الِانْفِرَادَ، وَلَوِ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِدُونِهِمَا، لَاسْتَحَالَ فِي الْعَادَةِ تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَيْهِمَا، وَإِقْرَارُهُمَا عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ بِدُونِهِمَا لَمْ يَنْعَقِدْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: أُنْكِرَ عَلَيْهِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا مُعَارَضَةٌ لِهَذَا الدَّلِيلِ مِنْ وَجْهٍ، دَلِيلٌ ابْتِدَائِيٌّ لِلْخَصْمِ مِنْ وَجْهٍ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُمْ إِنْ كَانُوا لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ مَا خَالَفَا فِيهِ فِي الْفَرَائِضِ، فَقَدْ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إِبَاحَةَ «الْمُتْعَةِ» حَتَّى رَجَعَ عَنْهَا «وَحَصْرَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» حَتَّى تَرَكَهُ، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ بَيْعَ الْعِينَةِ ; وَهِيَ شِرَاءُ مَا بِيعَ نَسِيئَةً بِأَقَلَّ مِمَّا بِيعَ بِهِ وَأَغْلَظَتْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَتْ لِأُمِّ وَلَدِهِ: أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ
(3/56)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَلَوْلَا أَنَّ اتِّفَاقَ الْأَكْثَرِ حُجَّةٌ، لَمَا كَانَ لَهُمُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ «قُلْنَا: لِخِلَافِ مَشْهُورِ السُّنَّةِ» . هَذَا جَوَابٌ عَلَى دَلِيلِهِمُ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِنْكَارَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى هَؤُلَاءِ انْفِرَادَهُمْ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ، إِنَّمَا كَانَ لِمُخَالَفَتِهِمْ فِيهَا السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ، وَالدَّلِيلَ الظَّاهِرَ، لَا لِكَوْنِ اتِّفَاقِهِمْ مَعَ مُخَالَفَةِ هَؤُلَاءِ إِجْمَاعًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ «أُنْكِرَ عَلَى الْمُنْكِرِ» أَيْ: كَمَا أَنْكَرَ الصَّحَابَةُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ مَا انْفَرَدُوا بِهِ ; كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ أَنْكَرُوا عَلَى الصَّحَابَةِ إِنْكَارَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَنَاظَرُوهُمْ فِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي الْعَوْلِ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ، إِنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا، لَمْ يَجْعَلْ فِي مَالٍ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا، هَذَانِ نِصْفَانِ ذَهَبَا بِالْمَالِ، فَأَيْنَ مَوْضِعُ الثُّلُثِ؟ وَإِذَا حَصَلَ الْإِنْكَارُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ «فَلَا إِجْمَاعَ» بَلْ هُوَ «مُخْتَلَفٌ فِيهِ، حُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِدَلِيلِ» قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشُّورَى: 10] ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} [النِّسَاءِ: 59] .
(3/57)
________________________________________
قَالُوا: يُطْلَقُ الْكُلُّ عَلَى الْأَكْثَرِ.
قُلْنَا: مُعَارَضٌ بِمَا دَلَّ عَلَى قِلَّةِ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ نَحْوِ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} ، {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وَعَكْسِهِ، ثُمَّ هُوَ مَجَازٌ وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، وَالشُّذُوذُ الْمَذْمُومُ الشَّاقُّ عَصَا الْإِسْلَامِ الْمُثِيرُ لِلْفِتَنِ كَالْخَوَارِجِ، لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ حُجَّةٌ إِذْ إِصَابَةُ الْأَكْثَرِ أَظْهَرُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا:» يَعْنِي الْقَائِلِينَ: إِنَّ اتِّفَاقَ الْأَكْثَرِ إِجْمَاعٌ: يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْكُلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ لُغَةً، فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْأُمَّةِ عَلَى أَكْثَرِهَا، فَلَا يَضُرُّ شُذُوذُ الْأَقَلِّ كَمَا يُقَالُ: بَنُو تَمِيمٍ يُكْرِمُونَ الضَّيْفَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَكْثَرُ مِنْهُمْ، وَإِذَا صَحَّ إِطْلَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى أَكْثَرِهَا، تَنَاوَلَهُ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ، نَحْوَ: أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 110] ، وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ اتِّفَاقُ الْأَكْثَرِ إِجْمَاعًا، وَلَا يَقْدَحُ فِيهِ شُذُوذُ الْقَلِيلِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: مُعَارَضٌ» إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ «عَلَى قِلَّةِ أَهْلِ الْحَقِّ» «وَعَكْسِهِ» يَعْنِي كَثْرَةَ أَهْلِ الْبَاطِلِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَنَحْوُ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [الْبَقَرَةِ: 249] ، وَقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سَبَأٍ: 13] .
(3/58)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا الثَّانِي: فَنَحْوُ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 63] ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 131] ، {لَا يَشْكُرُونَ} [يُونُسَ: 60] ، {لَا يُؤْمِنُونَ} [الْبَقَرَةِ: 100] ، {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الْأَعْرَافِ: 17] ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُصِيبَ الْأَقَلُّ، وَيُخْطِئَ الْأَكْثَرُ، فَلَا يَحْصُلُ الْيَقِينُ بِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَيُسْتَصْحَبُ حَالُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِطْلَاقَ الْكُلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ «مَجَازٌ» لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ «وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ» فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا مَا لَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ قَاطِعٌ.
قَوْلُهُ: «وَالشُّذُوذُ الْمَذْمُومُ» . هَذَا جَوَابٌ عَنْ حُجَّةِ ابْنِ جَرِيرٍ حَيْثُ قَالَ: لَا يُعْتَبَرُ خِلَافُ الْأَقَلِّ لِارْتِكَابِهِ الشُّذُوذَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّ الشُّذُوذَ الْمَذْمُومَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ شَرْعًا هُوَ الشُّذُوذُ «الشَّاقُّ عَصَا الْإِسْلَامِ، الْمُثِيرُ لِلْفِتَنِ» كَشُذُوذِ الْخَوَارِجِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ، لَا الشُّذُوذُ فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: ثُمَّ إِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ قَدْ شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَبَرَ خِلَافُهُ، وَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ بِعَيْنِ مَا ذُكِرَ.
قَوْلُهُ: «لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ حُجَّةٌ» يَعْنِي: اتِّفَاقَ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ، اخْتُلِفَ فِيهِ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ «إِصَابَةَ الْأَكْثَرِ أَظْهَرُ» مِنْ خَطَئِهِمْ، فَيَكُونُ حُجَّةً يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَهْلِهِ، وَلَا يَكُونُ
(3/59)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَاطِعًا كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكُلُّ إِجْمَاعٍ حُجَّةٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ، فَالْإِجْمَاعُ أَخَصُّ مِنَ الْحُجَّةِ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ حُجَّةً كَمَا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَخَصُّ، فَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْأَعَمِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/60)
________________________________________
الرَّابِعَةُ: التَّابِعِيُّ الْمُجْتَهِدُ الْمُعَاصِرُ مُعْتَبَرٌ مَعَ الصَّحَابَةِ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، فَإِنْ نَشَأَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ فَعَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
لَنَا: مُجْتَهِدٌ مِنَ الْأُمَّةِ فَلَا يَنْهَضُ السَّمْعِيُّ بِدُونِهِ، وَلِأَنَّهُمْ سَوَّغُوا اجْتِهَادَهُمْ وَفَتْوَاهُمْ، وَقَالَ عُمَرُ لِشُرَيْحٍ: اجْتَهِدْ رَأْيَكَ، وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتَهَدَ فِيهَا: قَالُونُ، أَيْ: جَيِّدٌ، بِالرُّومِيَّةِ.
وَسُئِلَ أَنَسٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ غَابَ وَحَضَرْنَا وَحَفِظَ وَنَسِينَا، وَلَوْلَا صِحَّتُهُ لَمَا سَوَّغُوهُ فَلْيُعْتَبَرْ فِي الْإِجْمَاعِ.
قَالُوا: شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ فَهُمْ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ، فَالتَّابِعُونَ مَعَهُمْ كَالْعَامَّةِ مَعَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ تَفْسِيرُهُمْ، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ مُخَالَفَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قُلْنَا: الْأَعْلَمِيَّةُ لَا تَنْفِي اعْتِبَارَ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ، وَكَوْنُهُمْ مَعَهُمْ كَالْعَامَّةِ مَعَ الْعُلَمَاءِ تَهَجُّمٌ مَمْنُوعٌ، وَالصُّحْبَةُ لَا تُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ، وَإِنْكَارُ عَائِشَةَ إِمَّا لِأَنَّهَا لَمْ تَرَهُ مُجْتَهِدًا أَوْ لِتَرْكِهِ التَّأَدُّبَ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الرَّابِعَةُ: التَّابِعِيُّ الْمُجْتَهِدُ الْمُعَاصِرُ» لِلصَّحَابَةِ «مُعْتَبَرٌ» مَعَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ، لَا إِجْمَاعَ لَهُمْ بِدُونِهِ «فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ، اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ» وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. «فَإِنْ نَشَأَ» التَّابِعِيُّ «بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ» عَلَى حُكْمٍ «فَعَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ» أَيْ: خَرَجَ اعْتِبَارُهُ مَعَهُمْ عَلَى انْقِرَاضِ الْعَصْرِ.
إِنْ قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ، لَمْ يُعْتَبَرْ، وَإِلَّا اعْتُبِرَ، لِأَنَّ شَرْطَ اسْتِقْرَارِهِ لَمْ يُوجَدْ «خِلَافًا لِلْقَاضِي، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ»
(3/61)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، حَيْثُ قَالُوا: لَا اعْتِبَارَ بِمُجْتَهِدِي التَّابِعِينَ مَعَ الصَّحَابَةِ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ: الْحَقُّ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّ الْوَاقِعَةَ إِنْ حَدَثَتْ لِلصَّحَابَةِ بَعْدَ أَنْ صَارَ التَّابِعِيُّ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، كَانَ كَأَحَدِهِمْ لَا إِجْمَاعَ لَهُمْ بِدُونِهِ، وَإِنْ حَدَثَتْ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى حُكْمِهَا، أَوِ اخْتَلَفُوا، أَوْ تَوَقَّفُوا، لَمْ يُعْتَدَّ بِقَوْلِهِ.
قُلْتُ: وَنَحْوَهُ اخْتَارَ الْآمِدِيُّ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ مَتَى أَدْرَكَ الْخِلَافَ فِيهَا، أَوِ التَّوَقُّفَ، اعْتُبِرَ قَوْلُهُ فِيهَا اخْتِلَافًا أَوِ اتِّفَاقًا.
قَوْلُهُ: «لَنَا: مُجْتَهِدٌ مِنَ الْأُمَّةِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَنَا عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ مَعَ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ «مُجْتَهِدٌ مِنَ الْأُمَّةِ، فَلَا يَنْهَضُ» دَلِيلُ السَّمْعِ عَلَى عِصْمَةِ الْإِجْمَاعِ «بِدُونِهِ» إِذِ الْعِصْمَةُ لِلْأُمَّةِ وَالصَّحَابَةِ بِدُونِ هَذَا التَّابِعِيِّ بَعْضِهَا لَا كُلِّهَا، فَلَا يَكُونُ اتِّفَاقُهُمْ إِجْمَاعًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ سَوَّغُوا اجْتِهَادَ التَّابِعِينَ وَفَتْوَاهُمْ فِي عَصْرِهِمْ، فَوَلَّى عُمَرُ شُرَيْحًا الْقَضَاءَ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ: مَا لَمْ تَجِدْهُ فِي السُّنَّةِ، فَاجْتَهِدْ فِيهِ رَأْيَكَ. «وَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ» يَعْنِي لِشُرَيْحٍ «فِي مَسْأَلَةٍ اجْتَهَدَ فِيهَا» فَأَصَابَ: «قَالُونُ، أَيْ: جَيِّدٌ بِالرُّومِيَّةِ» .
(3/62)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمَسْأَلَةُ: أَنَّهُ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ ادَّعَتِ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِي شَهْرٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: اقْضِ فِيهَا يَا شُرَيْحُ، فَقَالَ: إِنْ جَاءَتْ بِبِطَانَةٍ مِنْ أَهْلِهَا، يَشْهَدُونَ أَنَّهَا تَرَكَتِ الصَّلَاةَ، فَقَدِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَإِلَّا فَهِيَ كَاذِبَةٌ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَالُونُ، أَيْ: أَصَبْتَ. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي «الزُّهْدِ» أَنَّ أَنَسًا سُئِلَ «عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: سَلُوا مَوْلَانَا الْحَسَنَ، فَإِنَّهُ غَابَ وَحَضَرْنَا، وَحَفِظَ وَنَسِينَا» .
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كَعَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِمَا، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَفُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ كَانُوا يُفْتُونَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْلَا صِحَّةُ اجْتِهَادِهِمْ مَعَهُمْ «لَمَا سَوَّغُوهُ» وَإِذَا كَانَ اجْتِهَادُهُمْ صَحِيحًا، وَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَاجْتِهَادِ الصَّحَابِيِّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَظْهَرَ لِلتَّابِعِيِّ مَا لَا يَظْهَرُ لَهُمْ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ التَّابِعِينَ كَانُوا أَفْقَهَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ» إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ الْقَاضِي، وَمَنْ وَافَقَهُ، عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ قَوْلِ التَّابِعِيِّ مَعَ الصَّحَابَةِ، وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ «شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، فَهُمْ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ» وَأَعْرَفُ بِالْمَقَاصِدِ، وَقَوْلُهُمْ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ «فَالتَّابِعُونَ مَعَهُمْ كَالْعَامَّةِ مَعَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ تَفْسِيرُهُمْ» لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى تَفْسِيرِ غَيْرِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ عَائِشَةَ أَنْكَرَتْ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «مُخَالَفَةَ
(3/63)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابْنِ عَبَّاسٍ» فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّمَا مَثَلُكِ كَمَثَلِ الْفَرُّوجِ ; سَمِعَ الدِّيَكَةَ تَصَايَحُ، فَصَاحَ لِصِيَاحِهَا، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ مُعْتَبَرًا، لَمَا أَنْكَرَتْ عَلَيْهِ خِلَافَهُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: الْأَعْلَمِيَّةُ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا جَوَابُ حُجَّةِ قَوْلِهِمْ: «شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، فَهُمْ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ» . «قُلْنَا: الْأَعْلَمِيَّةُ» أَيْ: كَوْنُهُمْ أَعْلَمَ ; «لَا تَنْفِي اعْتِبَارَ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ» مَعَهُمْ، كَبَعْضِ الصَّحَابَةِ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ أَعْلَمُ مِنْ بَعْضٍ، فَالتَّابِعُونَ مَعَهُمْ كَالْعَامَّةِ.
قُلْنَا: هَذَا تَهَجُّمٌ عَلَى التَّابِعِينَ يُوهِمُ تَنَقُّصَهُمْ، حَيْثُ شَبَّهْتُمُوهُمْ بِالْعَامَّةِ، وَأَطْلَقْتُمْ عَلَيْهِمْ هَذَا اللَّفْظَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَشْبِيهًا مُطْلَقًا، ثُمَّ كَوْنُهُمْ مَعَ الصَّحَابَةِ كَالْعَامَّةِ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُمْ كَالْعُلَمَاءِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، فَاضِلًا وَمَفْضُولًا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ التَّابِعِينَ أَعْلَمُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمُعْتَبَرِ قَوْلُهُمْ، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، مَعَ مِثْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَلِهَذَا رَدَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ رِوَايَتَهُ، لِاشْتِرَاطِهِمْ فِي الرَّاوِي أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا، وَلَمْ يَكُنْ أَبُو هُرَيْرَةَ عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ، وَصُحْبَةُ الصَّحَابَةِ لَا تُوجِبُ اخْتِصَاصَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ، وَلَا بِكَوْنِهِمْ أَعْلَمَ، بَلِ الْعِلْمُ نَصِيبٌ يُوَسِّعُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ صَحَابِيًّا كَانَ أَوْ تَابِعِيًّا، وَلِهَذَا لَمَّا حَضَرَتْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ الْوَفَاةُ، قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَوْصِنَا. قَالَ: أَجْلِسُونِي، فَأَجْلَسُوهُ، فَقَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ
(3/64)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَكَانَهُمَا، مَنِ ابْتَغَاهُمَا، وَجَدَهُمَا، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يَنْقَطِعُ مَا دَامَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ، فَهُمَا عُمْدَةُ النَّاسِ، وَهُمَا كَالْبَحْرِ لَا يَنْفَذُ مَا فِيهِ، فَمَنْ غَاصَ عَلَى الْمَعَانِي مِنْهُمَا، اسْتَخْرَجَ عِلْمًا كَثِيرًا مَسْبُوقًا إِلَيْهِ وَغَيْرَهُ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; فَلَا تَأْثِيرَ لِلصُّحْبَةِ فِي الِاخْتِصَاصِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْإِجْمَاعِ.
وَأَمَّا إِنْكَارُ عَائِشَةَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ، فَلَيْسَ لِمَا ذَكَرْتُمْ «بَلْ إِمَّا لِأَنَّهَا لَمْ تَرَهُ» بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَلِهَذَا شَبَّهَتْهُ بِالْفَرُّوجِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الدِّيَكَةِ «أَوْ لِتَرْكِهِ التَّأَدُّبَ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ» فِي أَمْرٍ خَاصٍّ أَدْرَكَتْهُ، كَرَفْعِ صَوْتٍ، أَوْ مُبَادَرَةٍ فِي الْكَلَامِ وَنَحْوِهِ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/65)
________________________________________
الْخَامِسَةُ: الْجُمْهُورُ لَا يَشْتَرِطُ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ; وَأَوْمَأَ إِلَى الْأَوَّلِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ لِلسُّكُوتِيِّ ; وَقِيلَ: لِلْقِيَاسِيِّ.
لَنَا: الْإِجْمَاعُ: الِاتِّفَاقُ، وَقَدْ وُجِدَ، وَالسَّمْعِيُّ عَامٌّ ; فَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ لَمَا صَحَّ احْتِجَاجُ التَّابِعِينَ عَلَى مُتَأَخِّرِي الصَّحَابَةِ بِهِ، وَلَامْتَنَعَ وُجُودُهُ أَصْلًا لِلتَّلَاحُقِ، وَاللَّازِمَانِ بَاطِلَانِ، وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الْخَامِسَةُ: الْجُمْهُورُ» أَيْ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ «لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضُ» عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ ; «خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ» وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ ; مِنْهُمُ ابْنُ فُورَكٍ، «وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ» وَقَوْلُهُ الْمُوَافِقُ لِلْجُمْهُورِ أَوْمَأَ إِلَيْهِ إِيمَاءً، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِي: «وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ» وَأَعْنِي اشْتِرَاطَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ «وَأَوْمَأَ إِلَى الْأَوَّلِ» يَعْنِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ.
«وَقِيلَ» أَيْ: قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: «يُشْتَرَطُ» انْقِرَاضُ الْعَصْرِ لِلْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُ بَعْضِهِمْ نَظَرًا وَتَأَمُّلًا، لَا جَزْمًا وَوِفَاقًا، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ دَلِيلُ الْخِلَافِ، فَيَجِبُ قَبُولُهُ مِنْهُمْ، وَإِظْهَارُ الْخِلَافِ بَعْدَ السُّكُوتِ دَلِيلُ ظُهُورِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، لِانْتِفَاءِ هَذَا الِاحْتِمَالِ.
«وَقِيلَ» أَيْ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُشْتَرَطُ انْقِرَاضُهُ لِلْإِجْمَاعِ الْقِيَاسِيِّ، أَيِ: الْمُنْعَقِدُ عَنْ قِيَاسٍ، كَنَحْوِ مَا سَبَقَ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ،
(3/66)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيَقَعُ فِيهِ الْخَطَأُ كَثِيرًا، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ سُكُوتَ السَّاكِتِ فِيهِ، أَوْ وِفَاقَ الْمُوَافِقِ كَانَ عَنْ تَأَمُّلٍ أَوْ عَنْ خَطَأٍ، ثُمَّ يَظْهَرُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَلِيلُ الصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا:» أَيْ: عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ «الْإِجْمَاعَ: الِاتِّفَاقَ، وَقَدْ وُجِدَ» قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ «وَالسَّمْعِيُّ» أَيْ: دَلِيلُ السَّمْعِ الدَّالُّ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ وَعِصْمَتِهِ «عَامٌّ» فِي كَوْنِهِ حُجَّةً قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ وَبَعْدَهُ «فَالتَّخْصِيصُ» بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً بَعْدَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ «تَحَكُّمٌ» مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
وَبَيَانُ عُمُومِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ ; أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 115] يَقْتَضِي وُجُوبَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَيَكُونُ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: وُجُوبُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مَأْمُورٌ بِهِ، لِأَنَّهُ وَاجِبٌ، وَكُلُّ وَاجِبٍ مَأْمُورٌ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ، كَانَ عُمُومُهُ فِي الزَّمَانِ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ وُجُوبَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ، لَا مِنْ بَابِ الْعَامِّ، وَالْمُطْلَقُ يَحْصُلُ امْتِثَالُهُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، فَاتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يَحْصُلُ بِالِاتِّبَاعِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَهُوَ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ كَمَا قُلْنَاهُ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ إِنَّمَا يُرَخَّصُ فِي إِيرَادِ مِثْلِهِ عِنْدَ التَّشْغِيبِ، وَالْمَغَالِيطِ الْجَدَلِيَّةِ لِقَهْرِ الْخَصْمِ، أَمَّا عِنْدَ التَّحْقِيقِ، فَلَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا بِالضَّرُورَةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَرَادَ الدَّوَامَ عَلَى اتِّبَاعِ
(3/67)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي عُمُومِ الْأَزْمِنَةِ، فَيَبْقَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ خَيَالًا يُصَادِمُ خَيَالًا، مَعَ أَنَّ بُطْلَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ ظَاهِرٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: «لَوِ اشْتُرِطَ» انْقِرَاضُ الْعَصْرِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ «لَمَا صَحَّ احْتِجَاجُ التَّابِعِينَ عَلَى مُتَأَخِّرِي الصَّحَابَةِ بِهِ» أَيْ: بِالْإِجْمَاعِ، إِذْ قَدْ كَانَ لِلصَّحَابَةِ أَنْ يَقُولُوا لِلتَّابِعِينَ: كَيْفَ تَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ لَمْ يَصِحَّ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ بَعْدُ، لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّتِهِ انْقِرَاضُ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَاقٍ لِأَنَّنَا نَحْنُ مِنَ الْمُجْمِعِينَ، وَهَا نَحْنُ بَاقُونَ، لَكِنِ التَّابِعُونَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مُتَأَخِّرِي الصَّحَابَةِ، كَأَنَسٍ وَغَيْرِهِ، وَيُقِرُّونَهُمْ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ بِالْإِجْمَاعِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَعَلَى بَعْضِ التَّابِعِينَ، كَقَوْلِ عُثْمَانَ فِي حَجْبِ الْأُمِّ بِأَخَوَيْنِ: لَا أُخَالِفُ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي، وَلَوِ اشْتُرِطَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ، لَمَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوِ اشْتُرِطَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ لِصِحَّةِ الْإِجْمَاعِ «لَامْتَنَعَ» وَتَعَذَّرَ «وُجُودُهُ أَصْلًا، لِلتَّلَاحُقِ» أَيْ: لِتَلَاحُقِ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، مُتَّصِلًا فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ، فَإِنَّ الْوِلَادَةَ وَالتَّنَاسُلَ فِي الْعَالَمِ مُتَّصِلٌ، فَكُلَّمَا وُلِدَ مَوْلُودٌ، وَاشْتَغَلَ بِالْعِلْمِ حَتَّى بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُجْمِعِينَ قَبْلَهُ وَلَوْ وَاحِدٌ، لَمْ يَتِمَّ الْإِجْمَاعُ بِدُونِ هَذَا الْمُجْتَهِدِ اللَّاحِقِ، فَيَتَلَاحَقُ مُجْتَهِدُو التَّابِعِينَ بِمُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ، فَيَمْتَنِعُ اسْتِقْرَارُ إِجْمَاعِهِمْ، وَمُجْتَهِدُو
(3/68)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَابِعِي التَّابِعِينَ بِمُجْتَهِدِي التَّابِعِينَ كَذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرًّا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَلَا يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ، مُحْتَجٌّ بِهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، بِاتِّفَاقِ أَهْلِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ.
قَوْلُهُ: «وَاللَّازِمَانِ بَاطِلَانِ» يَعْنِي اللَّازِمَيْنِ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، لِأَنَّهُمَا دَخَلَا فِي ضِمْنِ مُلَازَمَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ: «لِأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ» يَعْنِي انْقِرَاضَ الْعَصْرِ «لَمَا صَحَّ احْتِجَاجُ التَّابِعِينَ» بِالْإِجْمَاعِ «وَلَامْتَنَعَ وُجُودُهُ أَصْلًا لِلتَّلَاحُقِ» فَامْتِنَاعُ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ، وَعَدَمُ صِحَّةِ احْتِجَاجِ التَّابِعِينَ بِهِ عَلَى الصَّحَابَةِ لَازِمَانِ، لِاشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لَهُ، وَهَذَانِ اللَّازِمَانِ بَاطِلَانِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ وُجِدَ، وَمَا امْتَنَعَ، وَاحْتِجَاجُ التَّابِعِينَ بِهِ عَلَى الصَّحَابَةِ قَدْ صَحَّ، وَمَا عُدِمَ، وَلَا انْتَفَى، وَإِذَا بَطَلَ اللَّازِمَانِ، بَطَلَ مَلْزُومُهُمَا، وَهُوَ اشْتِرَاطُ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: «وَفِي الْأَخِيرِ نَظَرٌ» أَيْ: فِي الْوَجْهِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ امْتِنَاعُ الْإِجْمَاعِ لِلتَّلَاحُقِ، وَصِحَّةُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْخَصْمَ إِنَّمَا يَشْتَرِطُ انْقِرَاضَ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ، لَا مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ وَيَلْحَقُ بِهِمْ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، لَا يَلْزَمُ مِنْ تَلَاحُقِ الْمُجْتَهِدِينَ امْتِنَاعُ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ أَصْلًا، فَلَمَّا انْقَرَضَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، اسْتَقَرَّ إِجْمَاعُهُمْ، وَصَحَّ، وَصَارَ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ ; وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مِائَةُ أَلْفِ مُجْتَهِدٍ قَدْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ، لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي اسْتِقْرَارِ إِجْمَاعِهِمْ بِانْقِرَاضِهِمْ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ
(3/69)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِجْمَاعِ التَّابِعِينَ مَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهَلُمَّ جَرًّا، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ، لِأَنَّ الْمُجْمِعِينَ يَنْقَرِضُونَ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُجْتَهِدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ.
وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا: أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ، ثُمَّ نَشَأَ مِنْهُمْ مُجْتَهِدٌ، لَمْ يَحْضُرْ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَأَصَاغِرِ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ مَعَ أَكَابِرِهِمْ، لَمْ يُشْتَرَطْ فِي انْقِرَاضِ عَصْرِهِمِ انْقِرَاضُ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ اللَّاحِقِ لَهُمُ، الَّذِي لَمْ يَحْضُرُ مَعَهُمُ الْإِجْمَاعَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، بَلْ يَكْفِي فِي اسْتِقْرَارِ إِجْمَاعِهِمْ ذَلِكَ أَنْ يَنْقَرِضُوا هُمْ دُونَهُ.
وَهَذَا الْوَجْهُ يَحْتَجُّ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَهُوَ مُسْتَدْرَكٌ بِمَا ذَكَرْتُ. نَعَمْ هَذَا الِاسْتِدْرَاكُ قَدْ يُسْتَدْرَكُ بِأَنَّ الْمُشْتَرِطَ لِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ، إِنَّمَا اشْتَرَطَهُ لِجَوَازِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُجْمِعِينَ يَتَغَيَّرُ اجْتِهَادُهُ، وَيَظْهَرُ لَهُ دَلِيلُ الْخِلَافِ نَصًّا أَوِ اجْتِهَادًا صَحِيحًا، فَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ.
وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي اللَّاحِقِ. وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ امْتِنَاعُ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ أَصْلًا، لِلتَّلَاحُقِ كَمَا سَبَقَ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْمُعْتَمَدُ يَعْنِي فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ أَنَّ الْمُجْمِعِينَ هُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، فَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً لِمَا سَبَقَ مِنَ النُّصُوصِ.
قُلْتُ: حَتَّى عَلَى اللَّاحِقِ، فَلَا يَضُرُّ لُحُوقُهُ.
(3/70)
________________________________________
قَالُوا: لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَمَا جَازَ لِلْمُجْتَهِدِ الرُّجُوعُ، كَعَلِيٍّ فِي بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ ; وَلَمَا كَانَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ إِجْمَاعًا لِتَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَعَلَى تَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَاللَّازِمَانِ بَاطِلَانِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِمَنْعِ رُجُوعِ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، وَرُجُوعُ عَلِيٍّ أَنْكَرَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ عَلَيْهِ، وَلَا حُجَّةَ فِي رُجُوعِهِ لِجَوَازِ ظَنِّهِ مَا ظَنَنْتُمْ.
وَعَنِ الثَّانِي: بِمَنْعِ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ تَسْوِيغٌ لِلْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا إِذْ كُلُّ طَائِفَةٍ تُخَطِّئُ الْأُخْرَى، وَتَحْصُرُ الْحَقَّ فِي جِهَتِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا:» يَعْنِي الْمُشْتَرِطِينَ لِانْقِرَاضِ الْعَصْرِ احْتَجُّوا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: «لَوْ لَمْ يُشْتَرَطِ» انْقِرَاضُ الْعَصْرِ «لَمَا جَازَ لِلْمُجْتَهِدِ الرُّجُوعُ» عَمَّا وَافَقَ عَلَيْهِ الْمُجْمِعِينَ، لِاسْتِقْرَارِ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ رُجُوعِهِ، فَيَكُونُ مَحْجُوجًا بِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ قَدْ جَازَ، وَوَقَعَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَبَيَانُ وُقُوعِهِ بِصُوَرٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تُعْتَقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا وَلَا تُبَاعُ، ثُمَّ خَالَفَ عَلِيٌّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ، وَأَجَازَ بَيْعَهَا كَالْأَمَةِ، كَمَا
(3/71)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَانَ حُكْمُهَا قَبْلَ إِجْمَاعِهِمْ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ فِي قِسْمَةِ الْفَيْءِ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ، فَضَّلَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ فَضَائِلِهِمْ مِنْ: سَابِقَةِ هِجْرَةٍ، أَوْ غَنَاءٍ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ شَرَفٍ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ جَلَدَا شَارِبَ الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَهُ عُمَرُ ثَمَانِينَ، فَبَانَ بِهَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ لِلْمُجْتَهِدِ الرُّجُوعَ عَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ اشْتِرَاطُ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ لَمْ يُشْتَرَطِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ، لَمَا كَانَ اتِّفَاقُ الْمُجْمِعِينَ «عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ» فِي الْمَسْأَلَةِ «بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ» فِيهَا «إِجْمَاعًا» إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ تَعَارُضُ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: يَلْزَمُ مِنْهُ تَعَارُضُ الْإِجْمَاعَيْنِ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ; فَاخْتِلَافُهُمْ فِيهَا إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ ذَلِكَ الْخِلَافِ، وَجَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، صَارَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، وَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى عَدَمِ تَسْوِيغِ الْخِلَافِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، بَلْ حَصَرُوا الْحُكْمَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ مَا صَارُوا إِلَيْهِ آخِرًا، فَهَذَا الْإِجْمَاعُ الثَّانِي مُعَارِضٌ لِلْأَوَّلِ.
(3/72)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تَعَارُضَ الْإِجْمَاعَيْنِ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ قَاطِعٌ، وَالْقَوَاطِعُ الْمَعْصُومَةُ لَا تَتَعَارَضُ، لِأَنَّ تَعَارُضَهَا يُوجِبُ بُطْلَانَ بَعْضِهَا، وَالْبَاطِلُ عَلَى الْقَوَاطِعِ الْمَعْصُومَةِ مُحَالٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ «لِتَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَعَلَى تَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا» لَكِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ إِجْمَاعٌ صَحِيحٌ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ، كَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَعَلَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الْمُتْعَةِ، وَحَصْرِ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، بَعْدَ الْخِلَافِ فِيهَا، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِتَقْدِيرِ اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ إِذَنْ لَمْ يَسْتَقِرَّ حَتَّى يُعَارِضَ الْإِجْمَاعَ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: «وَاللَّازِمَانِ بَاطِلَانِ» يَعْنِي: عَدَمُ جَوَازِ الرُّجُوعِ لِلْمُجْتَهِدِ بَعْدَ الْوِفَاقِ، لَازِمٌ لِلْقَوْلِ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ، فَيَبْطُلُ مَلْزُومُهُ، وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الِانْقِرَاضِ، وَكَذَلِكَ عَدَمُ كَوْنِ اتِّفَاقِهِمْ بَعْدَ الْخِلَافِ إِجْمَاعًا، لَازِمٌ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الِانْقِرَاضِ، وَقَدْ بَانَ بُطْلَانُهُ، فَيَبْطُلُ مَلْزُومُهُ، وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الِانْقِرَاضِ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» أَيْ: عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ دَلِيلِ الْخَصْمِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: «لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ، لَمَا جَازَ لِلْمُجْتَهِدِ الرُّجُوعُ» وَقَدْ جَازَ «بِمَنْعِ» جَوَازِ «رُجُوعِ الْمُجْتَهِدِ» أَيْ: لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ رُجُوعِهِ «بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ» بِمُوَافَقَتِهِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ «حُجَّةٌ عَلَيْهِ» فَصَارَ كَالْمُؤَاخَذِ بِإِقْرَارِهِ.
وَأَمَّا رُجُوعُ عَلِيٍّ عَنْ تَحْرِيمِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ ; فَعَنْهُ جَوَابَانِ:
(3/73)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: قَدْ كَانَ اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْآنَ بَيْعَهَا، فَقَالَ لَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: رَأْيُكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ لَنَا مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ، فَيُقَالُ: إِنَّ عَلِيًّا قَالَ لَهُ: لِلَّهِ دَرُّكَ، مَا أَفْقَهَكَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ رُجُوعُهُ، وَأَنَّهُ عَاوَدَ مُوَافَقَةَ الْجَمَاعَةِ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: بِتَقْدِيرِ أَنَّ رُجُوعَهُ اسْتَقَرَّ، فَلَا حُجَّةَ فِي رُجُوعِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، لِجَوَازِ أَنَّهُ ظَنَّ مَا ظَنَنْتُمُوهُ مِنِ اشْتِرَاطِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ.
وَأَمَّا رُجُوعُ عُمَرَ عَنِ التَّسْوِيَةِ فِي قِسْمَةِ الْفَيْءِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ وَافَقَ عَلَيْهَا ظَاهِرًا حَتَّى تَكُونَ مُخَالَفَتُهُ رُجُوعًا.
سَلَّمْنَا مُوَافَقَتَهُ ظَاهِرًا ; لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ مُوَافَقَتَهُ بَاطِنًا، فَلَعَلَّهُ مَا أَظْهَرَ الْخِلَافَ إِكْرَامًا لِأَبِي بَكْرٍ عَنْ رَدِّ رَأْيِهِ، أَوْ مَهَابَةً لَهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ حِينَ قِيلَ لَهُ: أَيْنَ كَانَ رَأْيُكَ هَذَا فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؟
(3/74)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَالَ: هِبْتُهُ، وَكَانَ امْرَأً مَهِيبًا، ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَظْهَرَ رَأْيَهُ لِعَدَمِ مَنْ يَهَابُهُ.
وَأَمَّا ضَرْبُهُ لِشَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ ; فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ رُجُوعٌ عَنِ الْإِجْمَاعِ، بَلْ كَانَ حَدُّ الشَّارِبِ بِأَصْلِ السُّنَّةِ أَحَدَ الْمِقْدَارَيْنِ: أَرْبَعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ: أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَمَرَ عَلِيًّا بِجَلْدِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ فِي الْخَمْرِ ; أَمَرَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ فَجَلَدَهُ، وَعَلِيٌّ يَعُدُّ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ، فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ. فَقَوْلُهُ: وَكُلٌّ سُنَّةٌ ; يَقْتَضِي سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ ثَمَانِينَ.
(3/75)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَلَا إِشْكَالَ لِأَنَّ هَذَا تَضَمَّنَ زِيَادَةً، فَيُقْبَلُ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَأَى جَلْدَهُ أَرْبَعِينَ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهَا، ثُمَّ رُفِعَ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ بِتَكْمِلَةِ الثَّمَانِينَ مُوَافَقَةً لِمَا أَخَذَ بِهِ عُمَرُ، لَكِنَّ الَّذِي يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ حَدَّ الشَّارِبِ كَانَ بِأَصْلِ السُّنَّةِ أَحَدَ الْمِقْدَارَيْنِ ; مَا رَوَى أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ، فَضَرَبَهُ بِجَرِيدَتَيْنِ نَحْوَ الْأَرْبَعِينَ، وَفَعَلَهَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، اسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ثَمَانِينَ، فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَوْ كَانَتِ الثَّمَانُونَ بِأَصْلِ السُّنَّةِ، لَمَا احْتَاجَ عُمَرُ إِلَى مُشَاوَرَةِ النَّاسِ فِيهِ، إِذْ خَفَاءُ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ بَعِيدٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
سَلَّمْنَا أَنَّ حَدَّ الشَّارِبِ لَمْ يَكُنْ بِأَصْلِ السُّنَّةِ أَحَدَ الْمِقْدَارَيْنِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ انْعَقَدَ عَلَى نَفْيِ الثَّمَانِينَ، بَلْ عَلَى ثُبُوتِ الْأَرْبَعِينَ، لِحُصُولِ الزَّجْرِ بِهَا، وَكَانَ نَفْيُ الثَّمَانِينَ مِنْ ثُبُوتِ الْأَرْبَعِينَ مَفْهُومًا عَدَدِيًّا ضَعِيفًا، فَلَمَّا دَعَتِ الْمَصْلَحَةُ إِلَى إِثْبَاتِ الثَّمَانِينَ، لِتَتَابُعِ النَّاسِ فِي الْخَمْرِ، فَعَلَهُ عُمَرُ، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، وَلَا رَاجِعًا عَنْهُ.
(3/76)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَعَنِ الثَّانِي» أَيْ: وَأُجِيبَ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ دَلِيلِ الْخَصْمِ وَهُوَ جَوَازُ اتِّفَاقِ الْمُجْمِعِينَ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ «تَسْوِيغٌ لِلْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا» لِأَنَّ «كُلَّ طَائِفَةٍ تُخَطِّئُ الْأُخْرَى» فِي قَوْلِهَا الَّذِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِ «وَتَحْصُرُ الْحَقَّ فِي جِهَتِهَا» . وَحِينَئِذٍ لَا يُوجَدُ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ، حَتَّى يُعَارَضَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/77)
________________________________________
السَّادِسَةُ: إِذَا اشْتُهِرَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ بَعْضِهِمُ التَّكْلِيفِيُّ وَلَمْ يُنْكَرْ فَإِجْمَاعٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ.
وَقِيلَ: حُجَّةٌ لَا إِجْمَاعٌ، وَقِيلَ: فِي الْفُتْيَا لَا الْحُكْمِ، وَقِيلَ: هُمَا بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَقِيلَ: بِشَرْطِ إِفَادَةِ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا.
لَنَا: يَمْتَنِعُ عَادَةً السُّكُوتُ عَنْ إِظْهَارِ الْخِلَافِ، لَا سِيَّمَا مِنَ الصَّحَابَةِ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْحَقِّ الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ فِيهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
قَالُوا: يَحْتَمِلُ سُكُوتُهُ النَّظَرَ، وَالتَّقِيَّةَ، وَالتَّصْوِيبَ، وَالتَّأْخِيرَ لِمَصْلَحَةٍ، أَوْ ظَنَّ إِنْكَارِ غَيْرِهِ، أَوْ خَوْفَ عَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الرِّضَا تَحَكُّمٌ.
قُلْنَا: كُلُّ ذَلِكَ إِذَا قُوبِلَ بِظَاهِرِ حَالِهِمْ لَمْ يَنْهَضْ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى خُلُوِّ الْعَصْرِ عَنْ قَائِمٍ بِحُجَّةٍ، وَلِأَنَّ غَالِبَ الْإِجْمَاعَاتِ كَذَا، إِذِ الْعِلْمُ بِتَصْرِيحِ الْكُلِّ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَعَذِّرٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " السَّادِسَةُ: إِذَا اشْتُهِرَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ بَعْضِهِمُ التَّكْلِيفِيُّ " أَيِ: الْمُتَعَلِّقُ بِأَحْكَامِ التَّكْلِيفِ " وَلَمْ يُنْكَرْ " أَيْ: لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ، فَهُوَ " إِجْمَاعٌ " إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ فِي " الرَّوْضَةِ " فَرَضَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الصَّحَابَةِ، وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِمْ، بَلْ هَذِهِ مَسْأَلَةُ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ، مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ مُجْتَهِدِي الْأَعْصَارِ، وَلَكِنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِمَا إِذَا قَالَ بَعْضُ الْأُمَّةِ قَوْلًا، وَسَكَتَ الْبَاقُونَ مَعَ اشْتِهَارِ
(3/78)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَلِكَ الْقَوْلِ فِيهِمْ، وَكَانَ الْقَوْلُ تَكْلِيفِيًّا، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا أَمْ لَا؟ فَلَوْ لَمْ يَشْتَهِرِ الْقَوْلُ فِيهِمْ، لَمْ يَدُلَّ سُكُوتُهُمْ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ تَكْلِيفِيًّا، لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ أَمْرٌ دِينِيٌّ، وَمَا لَيْسَ تَكْلِيفِيًّا، لَيْسَ دِينِيًّا بَلْ دُنْيَوِيًّا.
فَإِذَا اشْتُهِرَ قَوْلُ بَعْضِ الْأُمَّةِ التَّكْلِيفِيُّ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ، وَالْجُبَّائِيِّ، لَكِنَّهُ اشْتُرِطَ فِيهِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ لِضَعْفِهِ كَمَا سَبَقَ " خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ " وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ حَيْثُ قَالَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ دَاوُدَ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ.
" وَقِيلَ ": هُوَ " حُجَّةٌ لَا إِجْمَاعٌ " أَيْ: حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ يَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هَاشِمٍ، وَاخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ.
" وَقِيلَ: فِي الْفُتْيَا " أَيْ: هُوَ إِجْمَاعٌ فِي الْفُتْيَا " لَا " فِي " الْحُكْمِ " أَيْ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ فُتْيَا مِنْ مُفْتٍ ; كَانَ مَعَ سُكُوتِ الْبَاقِينَ عَنْ إِنْكَارِهِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا مِنْ حَاكِمٍ، لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ يَتَخَلَّفُ الْإِنْكَارُ عَنْهُ، إِمَّا مَهَابَةً لَهُ، أَوْ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ تَتْبَعُ اطِّلَاعَهُ عَلَى أَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ، فَرُبَّمَا حَكَمَ بِحُكْمٍ لِأَمْرٍ اخْتَصَّ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، فَلَا يُقْدِمُ غَيْرُهُ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، لِقِيَامِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَحِينَئِذٍ سُكُوتُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، لِجَوَازِ أَنَّ الْحَاكِمَ أَخْطَأَ ظَاهِرًا، وَأَصَابَ
(3/79)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَاطِنًا، فَمَنَعَهُ ذَلِكَ مِنَ الْإِنْكَارِ، بِخِلَافِ الْمُفْتِي، فَإِنَّهُ لَا يُهَابُ الرَّدُّ عَلَيْهِ، بَلْ عَادَةُ الْفُقَهَاءِ رَدُّ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَحُكْمُ الْفَقِيهِ مُسْتَنِدٌ إِلَى أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ يَنْظُرُ فِيهَا، لَا إِلَى أُمُورٍ بَاطِنَةٍ يَخْتَصُّ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: " وَقِيلَ: هُمَا بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ " أَيْ: وَقِيلَ: هُوَ حُجَّةٌ وَإِجْمَاعٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفٍ، وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: " وَقِيلَ: بِشَرْطِ " أَيْ: هُوَ إِجْمَاعٌ بِشَرْطِ " إِفَادَةِ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا " أَيْ: يُوجَدُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَا السَّاكِتِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
وَهَذَا أَحَقُّ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ إِفَادَةَ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا، كَإِفَادَةِ النُّطْقِ لَهُ، فَيَصِيرُ كَالْإِجْمَاعِ النُّطْقِيِّ مِنَ الْجَمِيعِ وَهَذَا يُنَافِي قَوْلَ أَبِي هِشَامٍ فِي أَنَّهُ حُجَّةٌ لَا إِجْمَاعٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ مَعَ عَدَمِ الْقَرَائِنِ، وَهَذَا مَعَ الْقَرَائِنِ، فَيَسْتَوِيَانِ، وَالْقَوْلُ الْمَذْكُورُ مَعَ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ الْقَرَائِنَ إِذَا أَفَادَتِ الْعِلْمَ بِرِضَا السَّاكِتِينَ، لَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا مُتَّجِهًا، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي قَوْلِ الْبَعْضِ، وَسُكُوتِ الْبَعْضِ، مُجَرَّدًا عَنِ الْقَرَائِنِ، وَفِيهِ الْأَقْوَالُ الْخَمْسَةُ الْأُوَلُ.
" لَنَا: " أَيْ: عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ مُطْلَقًا أَنَّهُ " يَمْتَنِعُ " فِي الْعَادَةِ " السُّكُوتُ عَنْ إِظْهَارِ الْخِلَافِ " إِذَا لَاحَ دَلِيلُهُ " لَا سِيَّمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، الْمُجَاهِدِينَ فِي
(3/80)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَقِّ، الَّذِينَ لَا يَخَافُونَ فِيهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ " وَإِذَا كَانَ السُّكُوتُ عَنِ الْخِلَافِ مُمْتَنِعًا فِي الْعَادَةِ ; وَجَبَ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ دَلِيلَ الرِّضَا عَادَةً، فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْمَذْكُورُ مَعَهُ إِجْمَاعًا.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: " أَيِ: الْمَانِعُونَ لِكَوْنِهِ إِجْمَاعًا، احْتَجُّوا بِأَنَّ سُكُوتَ السَّاكِتِ عَنْ إِظْهَارِ خِلَافِ قَوْلِ الْقَائِلِ " يَحْتَمِلُ " أُمُورًا:
أَحَدُهَا: " النَّظَرُ " فِي الدَّلِيلِ، وَالتَّرَوِّي فِي الْحُكْمِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَسْتَحْضِرُ الدَّلِيلَ بَدِيهَةً، وَلَا كُلُّ دَلِيلٍ يُسْتَحْضَرُ كَذَلِكَ، لِتَفَاوُتِ الْأَذْهَانِ فِي الْإِدْرَاكِ، وَالْأَحْكَامِ فِي الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ.
الثَّانِي: " التَّقِيَّةُ " لِلْقَائِلِ، أَيْ: يَتَّقِي سَطْوَتَهُ مَهَابَةً لَهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
هِبْتُهُ، وَكَانَ امْرَأً مَهِيبًا، يَعْنِي عُمَرَ.
الثَّالِثُ: " التَّصْوِيبُ " وَهُوَ أَنْ يَسْكُتَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهَذَا الْقَائِلُ مُجْتَهِدٌ، فَيَكُونُ مُصِيبًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافَقَةُ السَّاكِتِ.
الرَّابِعُ: " التَّأْخِيرُ لِمَصْلَحَةٍ " وَالْمَصَالِحُ الَّتِي يُقَدَّرُ عُرُوضُهَا، وَمُنَاسَبَةُ تَأْخِيرِ الْإِنْكَارِ لَهَا كَثِيرَةٌ، كَخَوْفِ إِثَارَةِ فِتْنَةٍ وَنَحْوِهِ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ سَكَتَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ أَنْكَرَ فَسَقَطَ الْإِنْكَارُ عَنْهُ، لِأَنَّ إِنْكَارَ مَا لَا يَجُوزُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَيَسْقُطُ عَنِ الْجَمِيعِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ كَمَا سَبَقَ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ سَكَتَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى إِنْكَارِهِ، بِأَنْ ظَهَرَتْ لَهُ
(3/81)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَارَاتُ ذَلِكَ فَيَضَعَ مِنْهُ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ ذَا مَنْصِبٍ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ بِالْإِنْكَارِ.
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَسْقُطُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَفِي شُبَهِ ذَلِكَ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، حِينَ عُوتِبَ عَلَى فِرَارِهِ يَوْمَ بَدْرٍ:
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَرَكْتُ قِتَالَهُمْ ... حَتَّى عَلَوْا فَرَسِي بِأَشْقَرَ مُزْبِدِ
وَعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أُقَاتِلْ وَاحِدًا ... أُقْتَلْ وَلَا يَضْرُرْ عَدُوِّي مَشْهَدِي
وَوَجْهٌ سَابِعٌ: وَهُوَ أَنْ، يُنْكِرُ السَّاكِتُ، لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ إِنْكَارُهُ. وَإِذَا كَانَ السُّكُوتُ يَحْتَمِلُ هَذِهِ الْأُمُورَ " فَحَمْلُهُ عَلَى الرِّضَا تَحَكُّمٌ " نَادِرٌ، لِأَنَّهُ احْتِمَالٌ مِنْ ثَمَانِيَةِ احْتِمَالَاتٍ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: " يَعْنِي فِي الْجَوَابِ " كُلُّ ذَلِكَ " أَيْ: كُلُّ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ إِذَا قُوبِلَتْ " بِظَاهِرِ حَالِهِمْ " فِي تَرْكِ السُّكُوتِ، وَجَرَيَانِ الْعَادَةِ، وَاقْتِضَاءِ الطِّبَاعِ إِظْهَارَ مَا يَعْتَقِدُهُ حَقًّا، لَا يَنْهَضُ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
(3/82)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ظَاهِرِ حَالِهِمْ أَغْلِبُ وَأَظْهَرُ، وَاحْتِمَالٌ وَاحِدٌ قَوِيٌّ، يَظْهَرُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْخَفِيَّةِ، كَمَا قِيلَ: وَوَاحِدٌ كَالْأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَنَا.
" وَلِأَنَّهُ " أَيْ: وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ السُّكُوتِ عَلَى الرِّضَا " يُفْضِي إِلَى خُلُوِّ الْعَصْرِ عَنْ قَائِمٍ بِحُجَّةِ " الشَّرْعِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةَ، إِذَا حُقِّقَ أَمْرُهَا عَلَى التَّفْصِيلِ بَانَ ضَعْفُهَا، أَوْ ضَعْفُ بَعْضِهَا.
قَوْلُهُ: " وَلِأَنَّ غَالِبَ الْإِجْمَاعَاتِ كَذَا ". هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ دَلِيلُ الرِّضَا.
وَتَقْرِيرُهُ: لَوْ لَمْ يَدُلَّ سُكُوتُ السَّاكِتِ عَلَى الرِّضَا لِتَعَذُّرِ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ بِالْأَصَالَةِ، أَوْ تَعَذُّرِ وُجُودِهِ غَالِبًا، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ النُّطْقِيَّ عَزِيزٌ جِدًّا " إِذِ الْعِلْمُ بِتَصْرِيحِ " كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ " بِحُكْمٍ وَاحِدٍ، فِي وَاقِعَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَعَذِّرٌ " لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الشَّرْعِ الْفَرْعِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ قَوْلُ الْبَعْضِ وَإِقْرَارُ الْبَعْضِ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلَانِ آخَرَانِ:
وَهُوَ أَنَّ إِقْرَارَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا سَمِعَهُ أَوْ يَرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ وَتَصْوِيبِهِ، فَكَذَلِكَ سُكُوتُ الْمُجْتَهِدِينَ وَإِقْرَارُهُمْ، لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ بِنَصِّ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ.
(3/83)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي: أَنَّ التَّابِعِينَ كَانُوا إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مَسْأَلَةٌ، فَوَجَدُوا فِيهَا قَوْلَ صَحَابِيٍّ مُنْتَشِرًا لَمْ يُنْكَرْ ; لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهُ، وَذَلِكَ إِجْمَاعٌ مِنَ التَّابِعِينَ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ، تَظْهَرُ قُوَّتُهُ فِيمَا إِذَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، لَكِنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ لَا إِجْمَاعٌ.
قَالَ ": لِأَنَّا إِنْ قَدَّرْنَا رِضَا السَّاكِتِ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ، وَإِلَّا فَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعَصْرِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ، بِالْمَهَابَةِ وَعَدَمِهَا، وَمَا ذُكِرُ قَبْلُ، فَإِنَّمَا يَتَّجِهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْحَاكِمُ كَالْمُفْتِينَ فِي ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: الْقَاعِدَةُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ وَاللُّغَةِ أَنْ لَا يُنْسَبَ إِلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ كَالْقَوْلِ، حُكْمًا أَوْ حَقِيقَةً، لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَالْأَحْكَامُ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَدَمِ، وَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْأَقْوَالُ.
فَلِهَذَا لَوْ أَتْلَفَ إِنْسَانٌ مَالَ غَيْرِهِ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَمْ يَمْنَعْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ضَمِنَ الْمُتْلِفُ، وَلَا يُجْعَلْ سُكُوتُ الْمَالِكِ إِذْنًا فِيهِ.
وَلَوِ ادُّعِيَ عَلَى شَخْصٍ دَعْوَى، فَلَمْ يُجِبْ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، لَمْ يُجْعَلْ
(3/84)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُقِرًّا بِالْحَقِّ بِسُكُوتِهِ، بَلْ يَقُولُ لَهُ الْحَاكِمُ: إِنْ أَجَبْتَ، وَإِلَّا جَعَلْتُكَ نَاكِلًا، وَقَضَيْتُ عَلَيْكَ، فَإِذَا لَمْ يُجِبْ، قَضَى لِوُجُودِ شَرْطِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ عَدَمُ إِجَابَتِهِ، تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ، لِظُهُورِهِ فِيهِ، لَا أَنَّهُ إِقْرَارٌ حَقِيقَةً. وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَثْنَاةِ الَّتِي يُنْسَبُ فِيهَا إِلَى السَّاكِتِ قَوْلٌ بِدَلِيلٍ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَطَلَّقْتَ امْرَأَتَكَ؟ أَوْ أَعْتَقْتَ رَقِيقَكَ؟ أَوْ زَوَّجْتَ ابْنَتَكَ فُلَانًا؟ أَوْ بِعْتَهُ؟ أَوْ رَهَنْتَهُ؟ أَوْ وَهَبْتَهُ هَذِهِ الْعَيْنَ؟ أَوْ لِفُلَانٍ عِنْدَكَ كَذَا؟ فَسَكَتَ، لَمْ يَكُنْ إِقْرَارًا.
أَمَّا إِنْ قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ أَوْ عَقْلِيٌّ عَلَى نِسْبَةِ الْقَوْلِ أَوْ مُقْتَضَاهُ إِلَى السَّاكِتِ، عُمِلَ بِهِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْبِكْرِ: إِذْنُهَا صُمَاتُهَا، وَكَذَلِكَ ضَحِكُهَا وَبُكَاؤُهَا يَعْنِي فِي تَزْوِيجِهَا، وَكَقَوْلِنَا: إِنَّ إِقْرَارَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى إِنْكَارِهِ حُجَّةٌ، وَإِنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ، وَكَقَوْلِنَا: إِنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَحَدِ وَلَدَيْنِ وَلَدَتْهُمَا امْرَأَتُهُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَسَكَتَ عَنْ تَوْأَمِهِ، لَحِقَهُ نَسَبُهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ، لِاسْتِلْزَامِ إِقْرَارِهِ بِتَوْأَمِهِ الْإِقْرَارَ بِهِ عَقْلًا، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ وَالْآخَرُ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ هُنِّئَ بِوَلَدِهِ، فَسَكَتَ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُ، أَوْ أَخَّرَ نَفْيَهُ مَعَ إِمْكَانِهِ، وَالْعِلْمِ بِأَنَّ لَهُ نَفْيَهُ ; لَحِقَهُ نَسَبُهُ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ هَاهُنَا كَالْقَوْلِ، وَلَوْ حَلَقَ
(3/85)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَلَالٌ رَأْسَ مُحْرِمٍ، وَقَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إِذْنٌ، فَهَلِ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْحَالِقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، لِأَنَّ سُكُوتَهُ هَاهُنَا قَوِيٌّ، لِاقْتِرَانِهِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْعِ، فَصَارَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْإِذْنِ الْمَحْضِ، وَالسُّكُوتِ الْمَحْضِ، وَسُكُوتُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ عَنِ الْجَوَابِ لَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا فِي التَّحْقِيقِ، إِلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ، أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ ظَاهِرَةٍ، مِثْلَ أَنْ يُعْرَفَ بِحُبِّ الْمُنَاظَرَةِ، وَقَهْرِ الْخُصُومِ، وَتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا سُكُوتُهُ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنِ انْقِطَاعٍ.
أَمَّا لَوِ انْتَفَتِ الْقَرِينَةُ، لَمْ يَدُلَّ سُكُوتُهُ عَلَى الِانْقِطَاعِ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اسْتِحْضَارِ الدَّلِيلِ، وَتَرَفُّعِهِ عَنِ الْخَصْمِ لِظُهُورِ بَلَادَتِهِ، أَوْ تَعْظِيمِهِ، وَإِجْلَالِهِ عَنِ انْقِطَاعِهِ مَعَهُ، أَوْ إِفْضَاءِ الْمُنَاظَرَةِ إِلَى الرِّيَاءِ، وَسُوءِ الْقَصْدِ، فَيُحِبُّ السَّلَامَةَ بِالسُّكُوتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ، وَلِذَلِكَ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْعَامَّةِ، إِذَا قَرَّرُوا شَخْصًا بِأَمْرٍ، فَسَكَتَ، قَالُوا: سُكُوتُهُ إِقْرَارُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، بَلْ إِنْ ظَهَرَتْ قَرَائِنُ الْإِقْرَارِ، دَلَّ سُكُوتُهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، نَحْوَ: خُذْ، وَأَعْطِنِي، أَوْ يَتَعَاطَيَانِ بِلَا قَوْلٍ أَصْلًا مِنْ إِيجَابٍ وَقَبُولٍ، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ: لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ حَرَامٌ إِلَّا بِالتَّرَاضِي وَهُوَ خَفِيٌّ فِي النَّفْسِ،
(3/86)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَحْتَاجُ إِلَى قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ السَّاكِتَ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ قَوْلٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَكْثَرُ عَنِ الْعُلَمَاءِ صِحَّتُهُ، لِدَلَالَةِ السُّكُوتِ مَعَ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ عَلَى الرِّضَا قَطْعًا، وَلِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعِيًّا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كُلُّ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ.
وَالسِّرُّ فِيهِ، أَنَّ الْعِبَارَاتِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا، بَلْ لِدِلَالَتِهَا عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ مِنَ الْإِرَادَاتِ وَالْمَعَانِي، فَإِذَا حَصَلَتِ الدِّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ بِدُونِ الْأَلْفَاظِ، صَارَتْ فَضْلَةً لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، كَمَا لَا يَحْتَاجُ الطَّائِرُ فِي صُعُودِهِ السَّطْحَ إِلَى نَصْبِ سُلَّمٍ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ بِالْجَنَاحِ، وَلِهَذَا وَقَعَ الْحَذْفُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لِحُصُولِ مَقْصُودِ اللَّفْظِ الْمَحْذُوفِ بِالْقَرَائِنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/87)
________________________________________
السَّابِعَةُ: إِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ، امْتَنَعَ إِحْدَاثُ ثَالِثٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ.
لَنَا: هُوَ مُخَالَفَةُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَنِسْبَةٌ لِلْأُمَّةِ إِلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ.
قَالُوا: لَمْ يُصَرِّحُوا بِتَحْرِيمِ الثَّالِثِ، فَجَازَ كَمَا لَوْ عُلِّلَ أَوِ اسْتُدِلَّ بِغَيْرِ عِلَّتِهِمْ وَدَلِيلِهِمْ، وَكَمَا لَوْ نَفَى بَعْضٌ فِي مَسْأَلَتَيْنِ وَأَثْبَتَ بَعْضٌ، فَنَفَى الثَّالِثُ فِي إِحْدَاهُمَا وَأَثْبَتَ فِي الْأُخْرَى.
قُلْنَا: وَسَكَتُوا عَنِ الثَّانِي، وَلَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهُ، وَالْعِلَّةُ وَالدَّلِيلُ يَجُوزُ تَعَدُّدُهُمَا وَلَمْ يَتَعَبَّدُوا بِهِ، وَالْوَاحِدُ مِنْهُمَا يَكْفِي، وَالنَّافِي فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْ ثَمَّ جَازَ انْقِسَامُ الْأُمَّةِ إِلَى فِرْقَتَيْنِ تُصِيبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ وَتُخْطِئُ فِي الْأُخْرَى عَلَى الْأَصَحِّ فِيهِ، إِذِ الْمُمْتَنِعُ خَطَأُ الْجَمِيعِ فِي كِلْتَيْهِمَا لَا فِي بَعْضٍ بِالتَّرْكِيبِ.
وَقِيلَ: إِنْ رَفَعَ الثَّالِثُ الْإِجْمَاعَ امْتَنَعَ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ أَوْلَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " السَّابِعَةُ: إِذَا اخْتَلَفُوا " يَعْنِي أَهْلَ الْعَصْرِ " عَلَى قَوْلَيْنِ، امْتَنَعَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ " إِحْدَاثُ " قَوْلٍ " ثَالِثٍ " عِنْدَ الْجُمْهُورِ " خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ " وَالشِّيعَةِ.
قَوْلُهُ: " لَنَا: " أَيْ: عَلَى امْتِنَاعِ إِحْدَاثِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ " مُخَالَفَةُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ " فَيَمْتَنِعُ، أَمَّا أَنَّهُ خِلَافُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ حَصْرٌ لِلْحَقِّ فِيهِمَا فَلَا
(3/88)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَتَجَاوَزُهُمَا، فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ خَارِجٌ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنِ الْحَقِّ الْمَحْصُورِ فِيهِ، وَأَمَّا أَنَّ خِلَافَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، مُمْتَنِعٌ بِالْأَدِلَّةِ لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نِسْبَةَ الْأُمَّةِ إِلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَمَا أَفْضَى إِلَى غَيْرِ الْجَائِزِ لَا يَجُوزُ.
أَمَّا أَنَّهُ يُوجِبُ نِسْبَةَ الْأُمَّةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ اقْتَضَى حَصْرَ الْحَقَّ فِيهِمَا، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ حَقًّا، لَكَانَتِ الْأُمَّةُ قَدْ ضَيَّعَتْهُ. وَأَمَّا أَنَّ نِسْبَتَهَا إِلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ، فَلِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْعِصْمَةَ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عِصْمَتِهَا، وَمَا نَافَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا أَنَّ مَا أَفْضَى إِلَى غَيْرِ الْجَائِزِ لَا يَجُوزُ، فَلِأَنَّ وَسِيلَةَ الْمَمْنُوعِ مَمْنُوعَةٌ، وَمِنْ كُلِّيَّاتِ الْقَوَاعِدِ: أَنَّ الْوَسَائِلَ تَتْبَعُ الْمَقَاصِدَ.
قُلْتُ: وَيَرِدُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَنْعُ أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ حَصْرٌ لِلْحَقِّ فِيهِمَا، بَلْ إِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الْقَوْلَيْنِ، لَا عَلَى نَفْيِ الثَّالِثِ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ حُدُوثِ الثَّالِثِ، فَلَمَّا حَدَثَ الثَّالِثُ، تَبَيَّنَ أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: " يَعْنِي الْمُجَوِّزِينَ لِإِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، احْتَجُّوا بِأَنَّ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ " لَمْ يُصَرِّحُوا بِتَحْرِيمِ " الْقَوْلِ " الثَّالِثِ، فَجَازَ " إِحْدَاثُهُ، كَمَا لَوْ عَلَّلُوا أَوِ اسْتَدَلُّوا بِعِلَّةٍ أَوْ دَلِيلٍ، فَعَلَّلَ مَنْ بَعْدَهُمْ، أَوِ اسْتَدَلَّ بِغَيْرِ تِلْكَ الْعِلَّةِ وَذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ، فَكَذَا إِحْدَاثُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَكَذَا لَوْ
(3/89)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَفَى بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْحُكْمَ فِي مَسْأَلَتَيْنِ، وَأَثْبَتَهُ بَعْضُهُمْ فِيهِمَا " فَنَفَى الثَّالِثُ فِي إِحْدَاهُمَا، وَأَثْبَتَ فِي الْأُخْرَى " جَازَ.
كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِذَا أُودِعَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ وَالْعَبْدُ مَالًا، فَأَتْلَفَاهُ، ضَمِنَاهُ، وَقَالَ قَائِلٌ: لَا يَضْمَنَانِ، فَقَالَ الثَّالِثُ: يَضْمَنُ الْعَبْدُ دُونَ الصَّبِيِّ.
وَكَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَطْهُرُ جِلْدُ الْكَلْبِ، وَلَا الْخِنْزِيرِ بِالدِّبَاغِ. وَقَالَ آخَرُ: يَطْهُرَانِ، فَقَالَ ثَالِثٌ: يَطْهُرُ جِلْدُ الْكَلْبِ دُونَ الْخِنْزِيرِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، فَكَذَا إِحْدَاثُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: وَسَكَتُوا عَنِ الثَّانِي، وَلَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهُ ". هَذَا نَقْضٌ لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يُصَرِّحُوا بِنَفْيِ الثَّالِثِ، فَيَجُوزُ إِحْدَاثُهُ، وَإِلْزَامٌ لَهُمْ عَلَى اعْتِلَالِهِمْ فِيهِ مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ.
وَتَوْجِيهُ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ: أَنَّهُمْ كَمَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِنَفْيِ الثَّالِثِ ; كَذَلِكَ إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، لَمْ يُصَرِّحُوا بِنَفْيِ قَوْلٍ ثَانٍ، بَلْ سَكَتُوا عَنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهُ بِاتِّفَاقٍ، فَإِنْ كَانَ عَدَمُ تَصْرِيحِهِمْ بِالثَّالِثِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِحْدَاثِهِ، فَلْيَكُنْ عَدَمُ تَصْرِيحِهِمْ بِالثَّانِي غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ إِحْدَاثِهِ، وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ.
قَوْلُهُ: " وَالْعِلَّةُ وَالدَّلِيلُ " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا فَرْقٌ بَيْنَ إِحْدَاثِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَبَيْنَ التَّعْلِيلِ أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِغَيْرِ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ.
وَتَقْرِيرُ الْفَرْقِ: أَنَّ " الْعِلَّةَ وَالدَّلِيلَ يَجُوزُ تَعَدُّدُهُمَا " أَيْ: ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، أَوْ دَلِيلَيْنِ، يَخْفَى أَحَدُهُمَا عَنْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَيَظْهَرُ لِأَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي، وَلَيْسُوا مُتَعَبَّدِينَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى جَمِيعِ الْعِلَلِ وَالْأَدِلَّةِ، إِذْ
(3/90)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَقْصُودُ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ بِالْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ وَالدَّلِيلِ الْوَاحِدِ، فَالْعِلَلُ وَالْأَدِلَّةُ وَسَائِلُ لَا مَقَاصِدُ، بِخِلَافِ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَدُّدُهُ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ، فَيَكُونُ مَنْفِيًّا مُثْبَتًا، أَوْ وَاجِبًا مُحَرَّمًا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ مُتَعَبَّدٌ بِهِ، مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ، فَإِحْدَاثُهُ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى غَيْرِهِ خِلَافٌ لِسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَقْصُودِ، وَنِسْبَةٌ لَهُمْ إِلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ وَإِهْمَالِهِ، بِخِلَافِ الْعِلَّةِ، وَالدَّلِيلِ.
قَوْلُهُ: " وَالنَّافِي " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى مَا لَوْ نَفَى الْبَعْضُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ، وَأَثْبَتَ الْبَعْضُ الْآخَرُ فِيهِمَا، فَنَفَى الثَّالِثُ فِي إِحْدَاهُمَا.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ " النَّافِيَ فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ " أَلَا تَرَاهُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَافَقَ بَعْضَهُمْ فِي تَضْمِينِ الْعَبْدِ، وَالْبَعْضَ الْآخَرَ فِي عَدَمِ تَضْمِينِ الصَّبِيِّ، بِخِلَافِ مَنْ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا، فَإِنَّهُ خَرَجَ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ خُرُوجًا كُلِّيًّا.
قَوْلُهُ: " وَمِنْ ثَمَّ " أَيْ: وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُمْتَنِعَ إِنَّمَا هُوَ الْخُرُوجُ الْكُلِّيُّ عَنْ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا الْخُرُوجُ الْجُزْئِيُّ ; " جَازَ " أَنْ تَنْقَسِمَ " الْأُمَّةُ إِلَى فِرْقَتَيْنِ، تُصِيبُ كُلُّ وَاحِدَةٍ " مِنْهُمَا " فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَتُخْطِئُ فِي الْأُخْرَى عَلَى الْأَصَحِّ " فِي ذَلِكَ.
مِثَالُهُ: خَطَأُ الْحَنَابِلَةِ فِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، وَإِصَابَةُ الشَّافِعِيَّةِ فِي
(3/91)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، وَخَطَأُ الشَّافِعِيَّةِ فِي إِبَاحَةِ الْبِنْتِ الْمَخْلُوقَةِ مِنَ الزِّنَى، وَكَرَاهَةِ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ، وَإِصَابَةُ الْحَنَابِلَةِ فِي تَحْرِيمِهَا وَعَدَمِ كَرَاهَتِهِ.
وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ، لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ خَطَأُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ " لَا فِي بَعْضٍ بِالتَّرْكِيبِ " أَيْ: لَيْسَ الْمُمْتَنِعُ خَطَأَ الْأُمَّةِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ خَطَأً مُرَكَّبًا، بِأَنْ تُخْطِئَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْخَطَأَ الْمُرَكَّبَ جُزْئِيٌّ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَتِهَا مِنْهُ، إِنَّمَا دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى نَفْيِ الْخَطَأِ الْكُلِّيِّ ; وَهُوَ أَنْ يُخْطِئَ مَجْمُوعُ الطَّائِفَتَيْنِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ; بِخِلَافِ الْخَطَأِ الْمُرَكَّبِ، لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ فِيهِ مُخْطِئَةً مِنْ وَجْهٍ، فَهِيَ مُصِيبَةٌ مِنْ وَجْهٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ خَطَأَ كُلِّ فِرْقَةٍ فِي مَسْأَلَةٍ هُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، فَلِهَذَا خَرَجَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقْضِي أَنَّهُ إِمَّا أَنْ تُخْطِئَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، أَوْ تُصِيبَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، أَوْ تُصِيبَ كُلُّ وَاحِدَةٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَتُخْطِئَ فِي الْأُخْرَى، فَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُ خَطَأٌ كُلِّيٌّ، وَالثَّانِي جَائِزٌ حَسَنٌ، لِأَنَّهُ إِصَابَةٌ كُلِّيَّةٌ، وَالثَّالِثُ وَاسِطَةٌ، لِأَنَّهُ خَطَأٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ أُلْحِقَ بِالطَّرَفِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْخَطَأُ الْكُلِّيُّ فِي الِامْتِنَاعِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الصَّوَابِ أُلْحِقَ بِالطَّرَفِ الثَّانِي، وَهُوَ الصَّوَابُ الْكُلِّيُّ فِي الْجَوَازِ.
قَوْلُهُ: " وَقِيلَ: إِنْ رَفَعَ الثَّالِثُ الْإِجْمَاعَ امْتَنَعَ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ أَوْلَى " هَذَا
(3/92)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ إِحْدَاثَ الْقَوْلِ الثَّالِثِ إِنْ رَفَعَ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ، جَازَ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِي " الْمَحْصُولِ " وَالْآمِدِيِّ فِي " مُنْتَهَى السُّولِ ".
مِثَالُ الرَّافِعِ لِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ: أَنَّ الْوَالِدَ لَا يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مُطْلَقًا، وَقَالَ مَالِكٌ: يُقْتَلُ إِذَا تَعَمَّدَ قَتْلَهُ، مِثْلَ أَنْ يَذْبَحَهُ ذَبْحًا وَنَحْوَهُ، لَا أَنْ حَذَفَهُ بِسَيْفٍ وَنَحْوِهِ ; لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ تَأْدِيبَهُ، فَأَتَى عَلَى نَفْسِهِ خَطَأً. فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ آخَرُ: يُقْتَلُ بِوَلَدِهِ مُطْلَقًا، كَانَ رَافِعًا لِلْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ بَعْضُ الْأُمَّةِ بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ طَهَارَةٍ، وَقَالَ الْبَعْضُ الْآخَرُ: بِاعْتِبَارِهَا فِي بَعْضِ الطَّهَارَاتِ دُونَ بَعْضٍ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ لِلتَّيَمُّمِ دُونَ الْوُضُوءِ، فَالنَّافِي لِاعْتِبَارِهَا فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مُطْلَقًا ; يَكُونُ رَافِعًا لِلْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ بَعْضُ الْأُمَّةِ: الْجَدُّ يُسْقِطُ الْإِخْوَةَ، وَيَأْخُذُ الْمَالَ دُونَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُقَاسِمُهُمْ كَأَخٍ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى تَفْصِيلٍ فِيهِ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْإِخْوَةَ يَحُوزُونَ الْمَالَ كُلَّهُ ; كَانَ رَافِعًا لِلْإِجْمَاعِ. عَلَى أَنَّ الْقَرَافِيَّ حَكَى عَنِ ابْنِ حَزْمٍ فِي " الْمُحَلَّى " أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَالَ: الْمَالُ كُلُّهُ لِلْإِخْوَةِ، تَغْلِيبًا لِلْبُنُوَّةِ عَلَى الْأُبُوَّةِ،
(3/93)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ هَذَا الْمِثَالُ، لِكَوْنِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَيْسَ رَافِعًا لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا الرَّافِعُ لِلْإِجْمَاعِ أَنْ يُقَدَّرَ قَوْلُ قَائِلٍ بِأَنَّ الْجَدَّ يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ نِصْفَيْنِ ; قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، أَوْ يُفَصِّلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا لِأَبَوَيْنِ، فَيَحُوزُونَهُ أَوْ يُقَاسِمُونَ، أَوْ لِأَبٍ، فَيَنْفَرِدُ بِهِ عَنْهُمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ التَّقْدِيرَاتِ الَّتِي لَمْ يَقُلْ بِهَا قَائِلٌ.
وَمِثَالُ مَا لَيْسَ رَافِعًا لِلْإِجْمَاعِ: مَا سَبَقَ مِنَ النَّفْيِ فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَكَمَا لَوِ اخْتَلَفُوا فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَاتِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَمْتَنِعُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعِ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ، بَلْ وَافَقَ كُلَّ فَرِيقٍ فِي بَعْضِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مُخَالَفَةُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُونُ بَاطِلًا، لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ إِنَّمَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ مُخَالَفَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَبِيلُ بَعْضِهِمْ لَا يَتَنَاوَلُهُ دَلِيلُ السَّمْعِ، وَإِلَّا لَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/94)
________________________________________
الثَّامِنَةُ: اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعٌ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَالْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِلْقَاضِي وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
لَنَا: سَبِيلُ مُؤْمِنِي عَصْرٍ فَيَنْهَضُ السَّمْعِيُّ، كَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ.
قَالُوا: فُتْيَا بَعْضِ الْأُمَّةِ، وَلَا يَبْطُلُ مَذْهَبُ الْمَيِّتِ بِمَوْتِهِ.
قُلْنَا: يَلْزَمُ اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاعِ بِالصَّحَابَةِ كَقَوْلِ دَاوُدَ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّامِنَةُ: اتِّفَاقُ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ إِجْمَاعٌ» أَيْ: إِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَاتَّفَقَ التَّابِعُونَ عَلَى أَحَدِهِمَا، كَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا «عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ وَالْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ» حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعٍ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَنَا وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِيهِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى الْخِلَافِ يَقْتَضِي أَنَّهُ الْحَقُّ، فَيَمْتَنِعُ الِاتِّفَاقُ بَعْدَهُ، أَوْ هُوَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
قُلْتُ: وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ امْتِنَاعَ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ الْخِلَافِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِالتَّابِعِينَ مَعَ الصَّحَابَةِ، بَلْ أَيُّ عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ اخْتَلَفَ أَهْلُهُ، فَهَلْ يَصِحُّ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ بَعْدَهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ؟ وَلَا نِزَاعَ فِي إِمْكَانِ تَصَوُّرِ ذَلِكَ عَقْلًا، بَلْ فِي صِحَّتِهِ شَرْعًا.
«لَنَا:» أَيْ: عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي «سَبِيلُ مُؤْمِنِي عَصْرٍ، فَيَنْهَضُ» الدَّلِيلُ «السَّمْعِيُّ» عَلَى كَوْنِهِ مَعْصُومًا، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ
(3/95)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ أَنَّ إِجْمَاعَ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ، وَصَارَ ذَلِكَ «كَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ» فَإِنَّهُ يَكُونُ إِجْمَاعًا، كَذَلِكَ هَذَا.
قَوْلُهُ: «قَالُوا:» يَعْنِي الْمَانِعِينَ لِكَوْنِ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ حُجَّةً ; قَالُوا: هَذَا الِاتِّفَاقُ هُوَ «فُتْيَا بَعْضِ الْأُمَّةِ» فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، لَا لِبَعْضِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ فُتْيَا بَعْضِ الْأُمَّةِ هُوَ أَنَّ حُكْمَ الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بَاقٍ، لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِهِ وَإِنْ مَاتُوا ; لَكِنَّ قَوْلَهُمْ لَمْ يَمُتْ، لِأَنَّ مَذْهَبَ الْمَيِّتِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ أَقْوَالَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَعْمُولٌ بِهَا، مُعْتَمَدٌ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا فَمَا بَعْدَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَحَدَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ قَائِلِهِ ; كَانَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ اتِّفَاقًا عَلَى فُتْيَا بَعْضِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: يَلْزَمُ اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاعِ بِالصَّحَابَةِ، كَقَوْلِ دَاوُدَ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ» .
تَوْجِيهُ هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ بِأَنَّ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ أَنَّهُ فُتْيَا بَعْضِ الْأُمَّةِ لَا كُلِّهَا، يَلْزَمُ مِنْهُ اخْتِصَاصُ الْإِجْمَاعِ بِالصَّحَابَةِ، بِأَنْ لَا يَصِحَّ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ إِلَّا مِنْهُمْ، وَلَا يَصِحَّ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، لِأَنَّهُمْ وَإِنْ مَاتُوا، فَأَقْوَالُهُمْ لَمْ تَبْطُلْ بِمَوْتِهِمْ، فَكُلُّ مَنِ اتَّفَقَ بَعْدَهُمْ عَلَى حُكْمٍ، فَقَوْلُهُ فُتْيَا بَعْضِ الْأُمَّةِ لَا فُتْيَا
(3/96)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كُلِّهَا ; فَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بَعْدَهُمْ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، لَكِنَّ اخْتِصَاصَ الْإِجْمَاعِ بِالصَّحَابَةِ بَاطِلٌ، بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنَ الْخَصْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَيَبْطُلُ مَلْزُومُهُ، وَهُوَ أَنَّ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ فَيَصِحُّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ.
تَنْبِيهٌ: أَمَّا اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْوَاحِدِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ، فَجَائِزٌ، خِلَافًا لِلصَّيْرَفِيِّ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ الْوُقُوعُ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ، ثُمَّ اتَّفَقُوا، وَقَدْ سَبَقَتْ أَمْثِلَتُهُ فِي مَسْأَلَةِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَلَعَلَّ الصَّيْرَفِيَّ يَحْتَجُّ بِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ فَأَكْثَرَ ; إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْوَالِ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ، فَاتِّفَاقُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ رَفْعٌ لِذَلِكَ الْإِجْمَاعِ، وَمُعَارَضَةٌ لِلْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِمْ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَأَمَّا كَوْنُ اخْتِلَافِهِمْ إِجْمَاعًا عَلَى تَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ سُلِّمَ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ إِجْمَاعٍ ثَانٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ إِجْمَاعٌ أَصْلًا، وَأَنْ يَجُوزَ نَقْضُ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ أَبَدًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَالْمُفْضِي إِلَيْهِ بَاطِلٌ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ تَعَيَّنَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَوَجْهُ الْحَقِّ، فَاسْتَقَرَّتْ لَهُ الْعِصْمَةُ، بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ عَلَى
(3/97)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلَيْنِ، فَإِنَّ جِهَةَ الْمَصْلَحَةِ لَمْ تَتَعَيَّنْ فِي أَحَدِهِمَا، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ الْعِصْمَةُ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى تَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَكَانَ اسْتِقْرَارُهُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، فَإِذَا وُجِدَ، زَالَ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ لِزَوَالِ شَرْطِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/98)
________________________________________
التَّاسِعَةُ: اتِّفَاقُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ لَيْسَ إِجْمَاعًا ; وَكَذَا أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَوْلَى. وَالْخِلَافُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِمَا يُفِيدُ أَنَّهُ حُجَّةٌ. وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ.
لَنَا: الْعِصْمَةُ لِلْأُمَّةِ لَا لِلْبَعْضِ وَلَا لِلْمَكَانِ ; قَالَ: يَمْتَنِعُ اتِّفَاقُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْخَطَأِ عَادَةً.
قُلْنَا: بَاقِي الْأُمَّةِ أَكْثَرُ، فَالتَّمَسُّكُ بِهَذَا فِي حَقِّهِمْ أَوْلَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «التَّاسِعَةُ: اتِّفَاقُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ» بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ «لَيْسَ إِجْمَاعًا، وَكَذَا» اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ «أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَأَوْلَى» أَيْ: إِذَا لَمْ يَكُنِ اتِّفَاقُ الْأَرْبَعَةِ إِجْمَاعًا، فَقَوْلُ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ إِجْمَاعًا وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهَؤُلَاءِ بَعْضُهَا.
قَوْلُهُ: «وَالْخِلَافُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِمَا يُفِيدُ أَنَّهُ حُجَّةٌ» يَعْنِي أَنَّ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نُقِلَ عَنْهُ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَنُقِلَ عَنْهُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ بِاتِّفَاقِ الْأَرْبَعَةِ، وَبِاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ فِي اتِّفَاقِ الْأَرْبَعَةِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ فِي الشَّيْخَيْنِ أَيْضًا.
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ
(3/99)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَعُمَرَ، وَلَوْ لَمْ تَقُمِ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، لَمَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِمْ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إِنْ كَانَتْ هِيَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا اخْتِصَاصَ لَهُمْ بِهَا، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِينُهُ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ لَا بَعْضِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَمْ تُعْتَبَرْ، فَكَانَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا اعْتِبَارَ سُنَّتِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ لَا تُعْتَبَرَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ سُنَّتِهِمْ، أَوْ تُعْتَبَرَ مَعَهَا، فَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ، لَزِمَ اسْتِقْلَالُ سُنَّتِهِمْ بِالصَّوَابِ، مَعَ مُخَالَفَتِهَا سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ. وَإِنِ اعْتُبِرَتْ مَعَهَا سُنَّةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَمْ تَسْتَقِلَّ سُنَّتُهُمْ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ، لِأَنَّ مَا اعْتُبِرَ لَهُ سَبَبَانِ، أَوْ عُلِّقَ عَلَى سَبَبَيْنِ، لَمْ يَحْصُلْ بِأَحَدِهِمَا.
أَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ; فَهُوَ تَعْرِيفٌ بِصِفَةِ الْخِلَافَةِ مَعَ الرَّشَادِ، فَلَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْبَعَةِ وَلَا بِالشَّيْخَيْنِ، بَلْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ خَلِيفَةٍ رَاشِدٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَمَّ فِي الِاعْتِبَارِ إِلَى قَوْلِهِمْ قَوْلُ كُلِّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَنَحْوِهِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورُونَ، لَكِنَّ الْأَمْرَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِمْ لَا يَنْفِي اعْتِبَارَ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ مَعَهُمْ، إِذْ بَقِيَّةُ الْأُمَّةِ مَسْكُوتٌ عَنْهُمْ فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ دَلَّ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِمْ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْحَدِيثِ:
(3/100)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْكُمْ بِسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمُوَافِقَةِ لِقَوْلِ بَاقِي أُمَّتِي، وَخَصَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمْ رُؤَسَاءُ الْأُمَّةِ وَخَيْرُهَا وَأَفْضَلُهَا.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اتِّبَاعُ سُنَّتِهِمْ فَقَطْ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ نَصًّا فِي أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ إِجْمَاعٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي الْفُتْيَا، أَوِ السِّيَاسَةِ، أَوِ الرِّوَايَةِ، أَوْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، يُقَدَّمُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ، لِقِدَمِ عَهْدِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَرُسُوخِهِمْ فِيهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ لَيْسَ كُلُّ حُجَّةٍ إِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ حُمِلَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَحْمَدَ، مِنْ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُمْ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِمْ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ إِجْمَاعٌ، لَكِنْ هَاهُنَا مَا يُعَارِضُهُ، وَهُوَ أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ بِمُجَرَّدِهِ، لَوْ كَانَ إِجْمَاعًا، لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ إِجْمَاعًا، وَلَا قَائِلَ بِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ ضَرَبَ بِالْحَقِّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ. وَقَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ، وَنُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: كُنَّا نَرَى أَنَّ مَعَ عُمَرَ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثٍ يَرْوِيهِ مِشْرَحُ ابْنُ هَاعَانَ: «لَوْ كَانَ نَبِيٌّ بَعْدِي يُنْتَظَرُ، لَكَانَ عُمَرُ» وَقَالَ فِي عَلِيٍّ: اللَّهُمَّ
(3/101)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَدِرِ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ. وَلَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ، فَقَالَ: اذْهَبْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ، وَيُسَدِّدُ لِسَانَكَ، قَالَ: فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضِيَّةٍ بَعْدُ، فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عُمَرَ مَضْرُوبٌ بِالْحَقِّ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَهُوَ شَهَادَةٌ لَهُ بِالْعِصْمَةِ مِنَ الْخَطَأِ، وَدَعَا لِعَلِيٍّ بِدَوَرَانِ الْحَقِّ مَعَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَهُ، وَيُسَدِّدُ لِسَانَهُ حَتَّى قَالَ: أَقْضَاكُمْ عَلِيٌّ وَهُوَ شَهَادَةٌ لَهُ أَيْضًا بِذَلِكَ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا مَعًا، أَوْ قَوْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا حُجَّةً قَاطِعَةً. وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِيهِمَا، لَزِمَ ثُبُوتُهُ فِي أَبِي بَكْرٍ، لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ، وَفِي عُثْمَانَ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، لَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ قَوْلَ كُلٍّ مِنْهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ إِلَّا الشِّيعَةُ فِي عَلِيٍّ، لِاعْتِقَادِهِمْ عِصْمَتَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ نَحْوٌ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ هُمَا مُعَارَضَانِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَصْحَابِي
(3/102)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَالنُّجُومِ بِأَيِّهُمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ، وَأَيْضًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ سَائِرَ الصَّحَابَةِ خَالَفُوا الشَّيْخَيْنِ فِي حُكْمٍ ; فَالْأَخْذُ بِالْقَوْلَيْنِ وَإِلْغَاؤُهُمَا بَاطِلٌ، وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِمَا مَعَ خِلَافِ الْأَكْثَرِ لَهُمَا بَعِيدٌ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَيَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَنَحْوِهِ، فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ضَعْفُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اتِّفَاقَ الْأَرْبَعَةِ أَوِ الشَّيْخَيْنِ إِجْمَاعٌ، وَأَنَّ حَمْلَ مَا نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ; عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا قَاطِعَةٌ مُتَعَيِّنٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، خِلَافًا لِمَالِكٍ» وَحْدَهُ، فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّوْقِيفُ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: هُوَ حُجَّةٌ مُطْلَقًا فِي نَقْلٍ نَقَلُوهُ، أَوْ فِي عَمَلٍ عَمِلُوهُ.
«لَنَا:» أَيْ: عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ أَنَّ الْعِصْمَةَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ بَعْضُهَا لَا جَمِيعُهَا، فَلَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ لِقَوْلِهِمْ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، بَلْ يَكُونُ حُجَّةً ظَنِّيَّةً يُعْمَلُ بِهِ إِذَا خَلَا عَنْ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ.
قَوْلُهُ: «وَلَا لِلْمَكَانِ» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ وَرَدَ فِي فَضْلِهَا نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ، فَرُبَّمَا ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَ أَهْلِهَا إِجْمَاعٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَيْسَتْ لِلْمَكَانِ، وَإِلَّا لَكَانَتْ مَكَّةُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَ الْمَدِينَةِ أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا فِيهِ، لِأَنَّهَا أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ لِلْأُمَّةِ جَمِيعِهَا.
قَوْلُهُ: «قَالَ:» يَعْنِي مَالِكًا: احْتَجَّ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جَمٌّ غَفِيرٌ، شَاهَدُوا
(3/103)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّنْزِيلَ، وَعَلِمُوا التَّأْوِيلَ، وَتَنَاقَلَ ذَلِكَ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْآبَاءِ، وَالْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ، وَ «اتِّفَاقُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْخَطَأِ» مُمْتَنِعٌ فِي الْعَادَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ صَوَابًا فِي الْعَادَةِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: بَاقِي الْأُمَّةِ أَكْثَرُ، فَالتَّمَسُّكُ بِهَذَا فِي حَقِّهِمْ أَوْلَى» . أَيْ: إِنْ دَلَّتْ كَثْرَةُ مُجْتَهِدِي الْمَدِينَةِ عَلَى صَوَابِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَبَقِيَّةُ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، فَلْتَكُنْ أَكْثَرِيَّتُهُمْ أَدَلَّ عَلَى صَوَابِ قَوْلِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى صَوَابِ قَوْلِهِمْ.
وَيَتَقَرَّرُ هَذَا الْجَوَابُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، مُنَبَّهٍ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرْتُهُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَاقِيَ الْأُمَّةِ خَالَفُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي حُكْمٍ، فَإِمَّا أَنْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ الْفَرِيقَيْنِ، أَوْ يُتْرَكَ قَوْلُهُمَا، وَهُمَا بَاطِلَانِ، لِمَا سَبَقَ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْعَامِّيِّ، أَوْ يُقَدَّمَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّ بَاقِيَ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، وَهُوَ بَعِيدٌ، مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ السَّوَادِ الْأَكْثَرِ.
وَقَوْلُهُ: «يَمْتَنِعُ اتِّفَاقُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْخَطَأِ عَادَةً» .
قُلْنَا: بَقِيَّةُ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ جَمٌّ غَفِيرٌ، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ عَادَةً، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةً مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، كَانُوا بِهَا، كَمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ الْقَاضِي الْمَرْوَزِيُّ فِي كِتَابِ «الْعِلْمِ» بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ:
(3/104)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَدِمْتُ الْكُوفَةَ، فَوَجَدْتُ فِيهَا أَرْبَعَمِائَةِ فَقِيهٍ.
قُلْتُ: يَعْنِي مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاتِّفَاقُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ عَلَى الْخَطَأِ يَمْتَنِعُ عَادَةً، وَبِهِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ أَظُنُّهُمْ أَصْحَابَ الرَّأْيِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ حُجَّةٌ، وَمَالِكٌ لَا يَقُولُ بِهِ.
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ وَجْهَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رِوَايَتَهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَكَذَا اتِّفَاقُهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ، لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ مُسْتَنَدُهُ الْعِصْمَةُ السَّمْعِيَّةُ، وَلَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِهِمْ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ الْمَدِينَةَ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالْخَطَأُ خَبَثٌ، فَوَجَبَ نَفْيُهُ عَنْ أَهْلِهَا.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ، وَبَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَصَابَتْهُ فِيهَا حُمَّى، فَسَأَلَهُ إِقَالَةَ الْبَيْعَةِ لِيَخْرُجَ إِلَى الْبَادِيَةِ، فَلَمْ يُجِبْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى ذَلِكَ، فَخَرَجَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَتَضَيَّعُ طِيبُهَا.
(3/105)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَعِنْدَ مَالِكٍ: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ لَا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْعُمُومِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَثَ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ لَا يُفِيدُ الْخَطَأَ، مُطَابَقَةً، وَلَا تَضَمُّنًا، وَلَا الْتِزَامًا، فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ الْخَطَأِ، وَلَئِنْ جَازَ لِلْمَالِكِيَّةِ الِاحْتِجَاجُ بِنَفْيِ الْخَبَثِ عَنِ الْمَدِينَةِ ; عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَ أَهْلِهَا حُجَّةٌ، جَازَ لِلشِّيعَةِ الِاحْتِجَاجُ بِنَفْيِ الرِّجْسِ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ ; عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ حُجَّةٌ، لِأَنَّ دِلَالَةَ الرِّجْسِ عَلَى الْخَطَأِ لَا تَتَقَاصَرُ عَنْ دِلَالَةِ الْخَبَثِ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْخَطَأِ مِنَ الْخَبَثِ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ; فِي النَّفْسِ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ طُمَأْنِينَةٌ، وَسُكُونٌ قَوِيٌّ جِدًّا، فَالتَّوَقُّفُ فِيهَا غَيْرُ مُلْزِمٍ.
(3/106)
________________________________________
وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ وَحْدَهُمْ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ.
لَنَا: مَا سَبَقَ.
قَالُوا: الْخَطَأُ رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ مَنْفِيٌّ عَنْهُمْ.
قُلْنَا: الْآيَةُ وَرَدَتْ فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; ثُمَّ الرِّجْسُ: الْكُفْرُ، أَوِ الْعَذَابُ، أَوِ النَّجَاسَةُ، وَالْخَطَأُ الِاجْتِهَادِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا ; ثُمَّ الرِّجْسُ مُفْرَدًا حُلِّيَ بِاللَّامِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ.
قَالُوا: «كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي» .
قُلْنَا: الْمُعَلَّقُ عَلَى شَيْئَيْنِ لَا يُوجَدُ بِأَحَدِهِمَا، وَالْكِتَابُ يَمْنَعُ مَا ذَكَرْتُمْ ; ثُمَّ الْعِتْرَةُ لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْبَيْتِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِأَهْلِ الْبَيْتِ وَحْدَهُمْ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ. لَنَا: مَا سَبَقَ " يَعْنِي مِنْ أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ، وَالْعِصْمَةُ إِنَّمَا تَثْبُتُ لِجَمِيعِهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ حُجَّةً مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ، لَا إِجْمَاعًا، كَمَا قُلْنَا فِي اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: " يَعْنِي الشِّيعَةَ: " الْخَطَأُ رِجْسٌ، وَالرِّجْسُ مَنْفِيٌّ " عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 33] .
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: الْآيَةُ وَرَدَتْ ". هَذَا جَوَابٌ عَنِ اسْتِدْلَالِ الشِّيعَةِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِينَ تَعْنُونَهُمْ، بَلْ إِنَّمَا " وَرَدَتْ
(3/107)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي نِسَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " بِدِلَالَةِ السِّيَاقِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} الْآيَةَ [الْأَحْزَابِ: 32 - 34] .
فَخِطَابُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَكْشِفُ مَا اسْتَدْلَلْتُمْ بِهِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ، فَكُنَّ مُرَادَاتٍ مِنْهُ وَلَا بُدَّ، فَأَمَّا عَلَى الْخُصُوصِ، فَلَا حُجَّةَ لَكُمْ فِي الْآيَةِ أَصْلًا، أَوْ مَعَ أَهْلِ الْبَيْتِ الَّذِينَ هُمُ الْعِتْرَةُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يُعْتَبَرَ مَعَهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِمُشَارَكَتِهِنَّ لَهُمْ فِي إِذْهَابِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَكُمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرِّجْسَ يُطْلَقُ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْعَذَابِ، وَالنَّجَاسَةِ، فَالْمُرَادُ مِنْهُ فِي الْآيَةِ أَحَدُهَا " وَالْخَطَأُ الِاجْتِهَادِيُّ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهَا " فَلَا يَلْزَمُ إِذَنْ مِنْ نَفْيِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ نَفْيُ الْخَطَأِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثِ: أَنَّ الرِّجْسَ اسْمٌ مُفْرَدٌ حُلِّيَ بِاللَّامِ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي الِاسْتِغْرَاقَ، فَبِتَقْدِيرِ أَنَّ الرِّجْسَ هُوَ الْخَطَأُ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ جَمِيعِهِ عَنْهُمْ، فَلَا يَبْقَى فِي الْآيَةِ دِلَالَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ قَوِيَّةٌ فِي جَوَابِ دَلِيلِ الشِّيعَةِ، غَيْرَ أَنَّ جَوَابَهُمْ عَنْهَا قَوِيٌّ مُتَيَسِّرٌ أَيْضًا.
فَيُقَالُ: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ خَاصٌّ بِمَنْ سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلَيْسَ نِسَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرَادَاتٍ مِنْهُ عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَاطَبَ نِسَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ،
(3/108)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَحْوَ: قَرْنَ وَلَا تَبَرَّجْنَ وَاذْكُرْنَ حَتَّى جَاءَ إِلَى ذِكْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ، خَاطَبَهُمْ بِضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ الْكَافِ وَالْمِيمِ حَيْثُ قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ} ، وَلَمْ يَقُلْ: عَنْكُنَّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ الزَّوْجَاتِ، وَهُمْ مَنْ نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يَتَنَاوَلُ الذُّكُورَ، إِذْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْمُذَكَّرِ، أَعْنِي: لَفْظَ (أَهْلَ) ، فَغَلَبَ جَانِبُ التَّذْكِيرِ، فَجِيءَ بِضَمِيرِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مَا رَوَى عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نَزَلَتْ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، فَدَعَا فَاطِمَةَ وَعَلِيًّا وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَأَنَا مَعَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ ، قَالَ: أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ عُمَرَ، وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إِذَا خَرَجَ إِلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ، ثُمَّ يَقُولُ: الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الْأَحْزَابِ: 33] الْآيَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
(3/109)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ مُبَاهَلَةَ نَصَارَى نَجْرَانَ، شَمَلَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِكِسَاءٍ، وَجَاءَ بِهِمْ لِيُبَاهِلَ بِهِمْ، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي وَذَلِكَ حِينَ نَزَلَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 61] الْآيَةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ هُمْ هَؤُلَاءِ لَا غَيْرُ، وَلَيْسَ النِّسَاءُ مُرَادَاتٍ مِنْهُ، وَإِلَّا لَقَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: أَنْتِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَقُلْ لَهَا ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ نَفْيُ كَوْنِهَا مِنْهُمْ.
أَمَّا دِلَالَةُ السِّيَاقِ عَلَى أَنَّهُنَّ مُرَادَاتٌ مِنَ الْآيَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَ فِيهَا بَعْضُ التَّمَسُّكِ ; لَكِنَّ ذَلِكَ مَعَ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ خَاصٌّ بِهَؤُلَاءِ، فَلَا يُفِيدُ، وَالْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ يَقَعُ فِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْكَلَامِ بِالْأَجْنَبِيِّ كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً} إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - " أَذِلَّةً [النَّمْلِ: 34] هَذَا حِكَايَةُ قَوْلِ بِلْقِيسَ، {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النَّمْلِ: 34] كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} إِلَى قَوْلِهِ: الصَّادِقِينَ [يُوسُفَ: 51] هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ الْمَرْأَةِ، {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ [يُوسُفَ: 52 - 53] كَلَامُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ} [آلِ عِمْرَانَ: 121] إِلَى قَرِيبِ آخِرِ السُّورَةِ يَوْمَ أُحُدٍ فِي مَعْنَى غَزَاتِهَا، وَتَذْكِيرِ يَوْمِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِ، وَوَقَعَ الِاعْتِرَاضُ بَيْنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 130 - 139] .
(3/110)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبِالْجُمْلَةِ فَاعْتِرَاضَاتُ الْعَرَبِيَّةِ، وَالتَّخَلُّصَاتُ مِنْ كَلَامٍ إِلَى كَلَامٍ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَبْدَعِ مَا يَكُونُ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَوَالِيَتَيْنِ مِنْهُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ فِي مَعْنًى، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ ذَلِكَ، وَنَظَرَ فِيهِ، عَرَفَهُ، وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وَقَعَ اعْتِرَاضًا وَفَصْلًا بَيْنَ أَجْزَاءِ خِطَابِ النِّسْوَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السُّنَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّ الرِّجْسَ يَتَنَاوَلُ الْخَطَأَ لُغَةً وَاسْتِدْلَالًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَوْهَرِيَّ قَالَ: الرِّجْسُ: الْقَذَرُ، قُلْنَا: وَالْقَذَرُ أَعَمُّ مِمَّا يَسْتَقْبِحُهُ الطَّبْعُ كَالنَّجَاسَاتِ الْمُتَجَسِّدَةِ، أَوِ الْعَقْلُ كَالنَّقَائِصِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ تَتَنَاوَلُ الْخَطَأَ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يُونُسَ: 100] : إِنَّهُ الْعِقَابُ وَالْغَضَبُ.
قُلْنَا: فَإِنْ كَانَ الرِّجْسُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُرَادًا مِنَ الْآيَةِ، فَقَدْ نَفَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ الْعِقَابَ وَالْغَضَبَ، وَالْخَطَأُ مِنْ أَسْبَابِهِمَا، فَيَلْزَمُ نَفْيُهُ عَنْهُمْ، وَإِلَّا انْتَفَى الْمُسَبَّبُ مَعَ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُسَبَّبِ، فَلَوْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ الْمُسَبَّبِ مَعَ ثُبُوتِ مَا يَقْتَضِي وُجُودَهُ، لَزِمَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَالٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ.
قُلْتُ: هَذَا الِاسْتِدْلَالُ لَا يَنْهَضُ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْمُسَبَّبِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَوُجُودُ السَّبَبِ وَتَخَلُّفُ الْمُسَبَّبِ لِمَانِعٍ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَيْضًا، وَاسْتِدْلَالُهُمْ
(3/111)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِنَّمَا هُوَ بِنَفْيِ الْمَلْزُومِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَلَا عَدَمِهِ، وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنْ يُخْطِئُوا فِي اجْتِهَادِهِمْ، وَيَتَخَلَّفَ الْعِقَابُ عَنْهُمْ، لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، أَوْ لِلرُّخْصَةِ بِكَوْنِهِ خَطَأً اجْتِهَادِيًّا فِيهِ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَمَعَ الْإِصَابَةِ أَجْرَانِ.
قَالُوا: وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي " تَفْسِيرِهِ ": أَنَّ الرِّجْسَ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْإِثْمِ، وَعَلَى الْعَذَابِ، وَعَلَى النَّجَاسَاتِ وَالنَّقَائِصِ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ جَمِيعَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْجُمْهُورَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرِّجْسَ يَقَعُ عَلَى النَّقَائِصِ، فَالْخَطَأُ مِنْ أَقْبَحِهَا، لَا سِيَّمَا فِي الِاجْتِهَادِ الشَّرْعِيِّ، فَيَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِصَابَتُهُمْ فِي الِاجْتِهَادِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُمْ حُجَّةً قَاطِعَةً بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، وَهِيَ أَدَلُّ فِي حَقِّهِمْ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّالِثِ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُفْرَدَ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ لَا يَسْتَغْرِقُ، بَلْ قَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، كَمَا حَكَاهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمَعَالِمِ ".
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الرِّجْسِ إِنْ أَفَادَ الْعُمُومَ، اسْتَدْلَلْنَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْدِهُ، اسْتَدْلَلْنَا بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 33] وَدِلَالَتُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(3/112)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اقْتِرَانَ لَفْظِ التَّطْهِيرِ بِذِكْرِ الرِّجْسِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّطْهِيرَ مِنْ ذَلِكَ الرِّجْسِ، وَهُوَ يَقْتَضِي عُمُومَ التَّطْهِيرِ، بِدَلِيلِ تَأْكِيدِهِ بِالْمَصْدَرِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِذِكْرِ الرِّجْسِ، لَأَفَادَ عُمُومَ التَّطْهِيرِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ اسْتِدْلَالٌ بِمَجْمُوعِ لَفْظِ الرِّجْسِ وَالتَّطْهِيرِ، وَالثَّانِي اسْتِدْلَالٌ بِلَفْظِ التَّطْهِيرِ الْمُؤَكِّدِ وَحْدَهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: هَبْ أَنَّ لَفْظَ الرِّجْسِ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، لَكِنَّ وُقُوعَ النَّفْيِ عَلَيْهِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ مَاهِيَّتِهِ، وَهِيَ لَا تَنْتَفِي إِلَّا بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا، فَيَلْزَمُ عُمُومُ النَّفْيِ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
قَالَتِ الشِّيعَةُ: فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ لَا تَقْبَلُونَ رِوَايَةَ الصَّحَابَةِ، فَكَيْفَ قَبِلْتُمُوهَا فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الْبَيْتِ بِمَنْ ذَكَرْتُمْ.
قُلْنَا: نَحْنُ إِنَّمَا أَوْرَدْنَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ إِلْزَامًا لَكُمْ بِرِوَايَةِ مَنْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى اطِّرَاحِ رِوَايَتِهِ، لَا اعْتِمَادًا مِنَّا عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا اعْتَمَدْنَا عَلَى تَوَاتُرِ ذَلِكَ عِنْدَنَا مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَمَنْ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ، لَكِنَّا لَوِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، رُبَّمَا مَنَعْتُمُونَاهُ، فَاحْتَجَجْنَا عَلَيْكُمْ بِمَا تَقْبَلُونَ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ مُؤَكِّدًا لِمَا عِنْدَنَا، لَا مُسْتَقِلًّا بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: كِتَابُ اللَّهِ وَعِتْرَتِي ". هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ لِلشِّيعَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ رَوَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ
(3/113)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا، كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَأَبِي سَعِيدٍ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ، كِتَابَ اللَّهِ، حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي، أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا النَّصِّ: أَنَّهُ أَمَرَ بِالتَّمَسُّكِ بِالْعِتْرَةِ، وَأَخْبَرَ بِعَدَمِ ضَلَالِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ حُجَّةً قَاطِعَةً لَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(3/114)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: " إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَّقَ نَفْيَ الضَّلَالِ عَلَى شَيْئَيْنِ: الْكِتَابِ وَالْعِتْرَةِ، و" الْمُعَلَّقُ عَلَى شَيْئَيْنِ لَا يُوجَدُ بِأَحَدِهِمَا " فَنَفْيُ الضَّلَالِ لَا يُوجَدُ بِالتَّمَسُّكِ بِالْعِتْرَةِ وَحْدَهَا، دُونَ الْكِتَابِ " وَالْكِتَابُ يَمْنَعُ مَا ذَكَرْتُمْ " مِنْ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النِّسَاءِ: 115] وَنَحْوِهِ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْعِصْمَةَ لِلْأُمَّةِ لَا لِبَعْضِهَا.
" ثُمَّ " إِنَّ " الْعِتْرَةَ لَا تَخْتَصُّ بِأَهْلِ الْبَيْتِ " بَلْ هِيَ فِي اللُّغَةِ: نَسْلُ الرَّجُلِ وَرَهْطُهُ الْأَدْنَوْنَ. كَذَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: نَحْنُ عِتْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قُلْتُ: وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَخْبَرَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتَهُ لَنْ يَتَفَرَّقَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَتَنَافَيَانِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْبَيْتِ حَجَّةٌ بِنَفْيِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافَقَةُ الْكِتَابِ لِإِجْمَاعِهِمْ، وَعَدَمُ مُنَافَاتِهِ لَهُ، وَأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ لَا يَثْبُتُ، وَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ.
وَعَنِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ مَرْدُودٌ بِقَوْلِهِ: وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي. وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ مَنْ هُمْ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
قُلْتُ: وَأَوْرَدَ الْقَرَافِيُّ عَلَى احْتِجَاجِهِمْ بِقَوْلِهِ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الْأَحْزَابِ: 33] الْآيَةَ، أَنَّ الْحَصْرَ مُتَعَذِّرٌ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ، فَيَتَعَيَّنُ إِبْطَالُ الْحَقِيقَةِ، وَوُجُوهُ الْمَجَازِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ، فَيَبْقَى مُجْمَلًا، فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.
(3/115)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: يُشِيرُ إِلَى أَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، وَهِيَ هَاهُنَا تَقْتَضِي حَصْرَ إِرَادَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي إِذْهَابِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ، وَلَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي ذَلِكَ، بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، وَتَمَامُ الْكَلَامِ ظَاهِرٌ.
قُلْتُ: وَلَهُمْ أَنْ يُجِيبُوا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْعُ أَنَّ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ، بَلْ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا سَبَقَ.
الثَّانِي: بِتَقْدِيرِ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ لَكِنْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحَصْرَ تَارَةً يَعُمُّ، وَتَارَةً يَخُصُّ، نَحْوَ: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النِّسَاءِ: 171] ، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرَّعْدِ: 7] ، أَيْ: بِالنَّظَرِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنْذِرِينَ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْآيَةِ خَاصٌّ بِاعْتِبَارِ أَهْلِ الْبَيْتِ، أَوْ جِهَةٍ مَا مِنَ الْجِهَاتِ.
قُلْتُ: أَقْرَبُ مَا يُسْلَكُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْإِمَامِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا سَلَكْنَاهُ فِي الرَّدِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي اعْتِبَارِ الْعَامِّيِّ ; وَعَلَى مَالِكٍ فِي إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا خَالَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ بَاقِيَ الْأُمَّةِ فِي حُكْمٍ، فَإِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ الْقَوْلَانِ، أَوْ يُلْغَيَا جَمِيعًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، أَوْ يُقَدَّمَ قَوْلُ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اتَّبِعُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ، شَذَّ فِي النَّارِ.
الثَّانِي: أَنَّ إِصَابَةَ آحَادٍ يَسِيرَةٍ، وَخَطَأَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ بَعِيدٌ جِدًّا.
قُلْتُ: وَلَهُمْ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ اعْتِرَاضَاتٌ، لَا أُطِيلُ بِذِكْرِهَا.
(3/116)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَذَكَرَ ابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ " الرُّوحِ وَالنَّفْسِ " ; قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ: ذَهَبَتِ الشِّيعَةُ فِي أَهْلِ الْبَيْتِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَخَ فِي آدَمَ مِنْ رُوحِ ذَاتِهِ، ثُمَّ انْتَقَلَ ذَلِكَ الرُّوحُ فِي الْأَنْبِيَاءِ مِنْ وَلَدِهِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ إِلَى عَلِيٍّ، ثُمَّ إِلَى وَلَدِهِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّهُمْ بِذَلِكَ الرُّوحِ مَعْصُومُونَ، يَعْلَمُونَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَيَسْتَغْنُونَ عَنْ مُعَلِّمٍ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، حَتَّى أَفْضَى الْأَمْرُ بِبَعْضِ الشِّيعَةِ إِلَى أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا إِلَهِيَّةَ عَلِيٍّ، وَالْأَئِمَّةِ مِنْ وَلَدِهِ.
هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، وَقَدْ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/117)
________________________________________
الْعَاشِرَةُ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقِيلَ: لَا يُتَصَوَّرُ عَنْ قِيَاسٍ، وَقِيلَ: يُتَصَوَّرُ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ.
لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ مَعَ مَدَارِكِ الظَّنِّ كَإِلْحَاقِ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ.
قَالُوا: الْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَا إِجْمَاعَ مَعَ الْخِلَافِ.
قُلْنَا: نَفْرِضُهُ قَبْلَ الْخِلَافِ فِيهِ، أَوْ يَسْتَنِدُ الْمُخَالِفُ فِيهِ إِلَى مَدْرَكٍ لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، أَوْ يَظُنُّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ كَالْعَكْسِ.
قَالُوا: ظَنِّيٌّ، فَلَا يُثْبِتُ أَصْلًا أَقْوَى مِنْهُ.
قُلْنَا: بَاطِلٌ بِالْعُمُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِذَا تُصُوِّرَ كَانَ حُجَّةً بِأَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الْعَاشِرَةُ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَا بُدَّ لِلْإِجْمَاعِ مِنْ دَلِيلٍ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَأَجَازَهُ قَوْمٌ بِمُجَرَّدِ الِاتِّفَاقِ وَالتَّبْحِيثِ، أَيْ: لَا يَسْتَنِدُونَ فِيهِ إِلَى حُجَّةٍ، بَلْ مَتَى اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلٍ، لَزِمَ أَنْ يُوَافِقَ ذَلِكَ الصَّوَابَ، لِمَا ثَبَتَ لَهَا مِنَ الْعِصْمَةِ.
حُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى بَاطِلٌ، فَالْقَوْلُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَّةِ بَاطِلٌ.
أَمَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى ; فَلِأَنَّ بِدُونِ الْحُجَّةِ يَسْتَوِي الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ، فَالْقَوْلُ بِأَحَدِهِمَا بِلَا دَلِيلٍ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا بِالْهَوَى وَالتَّشَهِّي.
(3/118)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى بَاطِلٌ ; فَظَاهِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ بَاطِلٌ.
حُجَّةُ الْمُجَوِّزِينَ: أَنَّ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ فِي الدِّينِ، وَالْمَعْصُومُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا الصَّوَابُ، لِأَجْلِ أَنَّهُ مَعْصُومٌ لَا لِاسْتِنَادٍ إِلَى حُجَّةٍ وَشُبْهَةٍ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ ظَاهِرَتَانِ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُمَا.
وَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ: إِنَّ الْقَوْلَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، بِأَنْ قَالُوا: اتِّبَاعُ الْهَوَى مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ أَوْ مِنْ جَمِيعِهَا؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.
قَوْلُهُمْ " لِأَنَّهُ بِدُونِ الْحُجَّةِ يَسْتَوِي النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ.
قُلْنَا: نَعَمْ.
قَوْلُهُمْ: فَالْقَوْلُ بِأَحَدِهِمَا بِلَا دَلِيلٍ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلِ الْمُرَجِّحُ هَاهُنَا الْعِصْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ، الثَّابِتَةُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ، وَسَائِرُ أَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ. وَحِينَئِذٍ مَتَى اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ، كَانَ حَقًّا وَصَوَابًا، لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا يُلْهِمُهُمْ سِوَاهُ، وَلَا يُجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ إِلَّا إِيَّاهُ.
قُلْتُ: هَذَا الْمَذْهَبُ سَهْلٌ مُتَّجِهٌ، أَمَّا سُهُولَتُهُ، فَظَاهِرَةٌ مِنْ جِهَةِ اسْتِرَاحَةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ النَّظَرِ، وَالنِّزَاعِ فِيهِ قَبْلَ الِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا اتِّجَاهُهُ، فَبِمَا ذُكِرَ، وَيُذْكَرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِمَّا يَقْرُبُ مِنْهُ، وَيُجْعَلُ نَظِيرًا لَهُ، صَلَاةُ الِاسْتِخَارَةِ، فَإِنَّ فِي
(3/119)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَدِيثِ: مَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ وَفِيهِ: مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَةُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رَوَى مَعْنَاهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ قَدْ رَأَيْنَا بَعْضَ النَّاسِ عَوَّدَهُ اللَّهُ مِنْهُ عَادَةً جَمِيلَةً ; وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى اسْتَخَارَهُ فِي أَمْرٍ، وَفَوَّضَ إِلَيْهِ فِيهِ، لَا يَخْتَارُ لَهُ إِلَّا الْأَصْلَحَ فِيهِ، وَلَا يُوَفِّقُهُ وَيُيَسِّرُهُ إِلَّا لَهُ. بِمُقْتَضَى دُعَاءِ الِاسْتِخَارَةِ الْمَشْهُورِ، وَتَظْهَرُ الْمَصْلَحَةُ لِذَلِكَ الشَّخْصِ فِيمَا يَخْتَارُ لَهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ وَفَاءً بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطَّلَاقِ: 3] ، فَكَذَا الْأُمَّةُ لَا يُوَفِّقُهَا، وَيُجْرِي عَلَى أَذْهَانِهَا وَأَلْسِنَتِهَا فِيمَا تَتَّفِقُ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوَابُ وَفَاءً بِعِصْمَتِهِ لَهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ اعْتَبَرُوا الدَّلِيلَ فِي الْإِجْمَاعِ، لَكِنِ الْأَوَّلُونَ اعْتَبَرُوا الدَّلِيلَ الْخَاصَّ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْإِجْمَاعِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ، وَالْآخَرُونَ اكْتَفَوْا بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَتَفَرَّعَ اخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَصْلٍ، فَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّعْ عَلَيْهِ، فَهُوَ مُشْبِهٌ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اخْتَلَفُوا فِي التَّفْوِيضِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: احْكُمْ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِحَقٍّ ; هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ فَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ
(3/120)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِنَاءً عَلَى عِصْمَتِهِ، فَكَذَا هَاهُنَا تَحْكُمُ الْأُمَّةُ بِرَأْيِهَا بِدَلِيلٍ وَغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا تَحْكُمُ إِلَّا بِحَقٍّ بِنَاءٍ عَلَى عِصْمَتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَمْ يَجُزْ فِي الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُمْ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَعِصْمَتُهُمْ فَرْعٌ عَلَى عِصْمَتِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ وَهُمُ الْقَائِلُونَ: لَا إِجْمَاعَ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ فِي مُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ قِيَاسًا وَغَيْرَهُ مِنْ دَلِيلٍ، أَوْ أَمَارَةٍ، أَوْ حُجَّةٍ، أَوْ شُبْهَةٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " لَا يُتَصَوَّرُ " الْإِجْمَاعُ " عَنْ قِيَاسٍ ".
وَقَالَ آخَرُونَ: " يُتَصَوَّرُ " عَنِ الْقِيَاسِ، لَكِنْ لَا يَكُونُ حُجَّةً.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَصِحُّ عَنِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ.
قَوْلُهُ: " لَنَا: " أَيْ: عَلَى انْعِقَادِهِ عَنْ قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ: هُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى حُصُولِ ظَنِّ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُحَصِّلٌ لِلظَّنِّ، وَإِذَا حَصَلَ الظَّنُّ، جَازَ الِاتِّفَاقُ عَلَى مُوجِبِهِ حِسًّا وَشَرْعًا.
أَمَّا حِسًّا، فَكَمَا أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ إِذَا شَاهَدُوا الْغَيْمَ الرَّطْبَ، اشْتَرَكُوا فِي ظَنِّ وُقُوعِ الْمَطَرِ.
وَأَمَّا شَرْعًا، فَكَمَا إِذَا عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ النَّبِيذَ مُسْكِرٌ كَالْخَمْرِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ حَرَامٌ كَالْخَمْرِ، بِجَامِعِ الْإِسْكَارِ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى مُوجِبِ هَذَا الظَّنِّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: " يَعْنِي الْمَانِعِينَ بِانْعِقَادِهِ عَنِ الْقِيَاسِ احْتَجُّوا بِأَنَّ " الْقِيَاسَ
(3/121)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلَا إِجْمَاعَ مَعَ الْخِلَافِ " أَيِ: الْإِجْمَاعُ فَرْعُ مُسْتَنَدِهِ، وَإِذَا كَانَ الْمُسْتَنَدُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُسْتَنَدُ إِلَيْهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ؟ وَكَيْفَ يُخْتَلَفُ فِي الْأَصْلِ، وَيُتَّفَقُ عَلَى الْفَرْعِ، وَالْفُرُوعُ تَابِعَةٌ لِأُصُولِهَا؟
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: " أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّا إِذَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ قَبْلَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ، لَمْ يَرِدْ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلْ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ.
وَإِنْ فَرَضْنَاهُ بَعْدَ حُدُوثِ الْخِلَافِ فِي الْقِيَاسِ، قُلْنَا: يَسْتَنِدُ أَهْلُ الْقِيَاسِ إِلَيْهِ، و" يَسْتَنِدُ الْمُخَالِفُ فِيهِ إِلَى مَدْرَكٍ " مِنْ مَدَارِكِ الِاجْتِهَادِ " لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا " وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ، وَذَلِكَ مُتَصَوَّرٌ وَاقِعٌ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ اسْتَنَدُوا إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ، وَسَمَّوْهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، كَالتَّنْبِيهِ، وَتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ جَائِعٌ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ عَلَى الْغَضَبِ بِالْجَامِعِ الْمَعْرُوفِ، وَيَقُولُونَ: نَبَّهَ بِحَالَةِ الْغَضَبِ عَلَى حَالَةِ الْجُوعِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ، وَالْحَنَفِيَّةُ مَعَ قَوْلِهِمْ: لَا قِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، أَوْجَبُوا الْكَفَّارَةَ عَلَى الصَّائِمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ عَلَى الْوَطْءِ، بِجَامِعِ الْإِفْسَادِ، وَقَالُوا: هَذَا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ اعْتِبَارًا مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، لِعُمُومِ الْإِفْسَادِ، لَا لِخُصُوصِ الْجِمَاعِ، فَهَكَذَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ الْمُخَالِفُ فِي الْقِيَاسِ عِنْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، وَهُوَ قِيَاسٌ، فَيَتَّحِدُ الْمُسْتَنَدُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، أَوْ نَفْرِضُ أَنَّ الْمُخَالِفَ " يَظُنُّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ
(3/122)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَالْعَكْسِ " أَيْ: كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ غَيْرَ الْقِيَاسِ قِيَاسًا كَالتَّنْقِيحِ، وَالتَّنْبِيهِ، وَمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ، فَيَسْتَنِدُ إِلَيْهِ فِي الْإِجْمَاعِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ هَكَذَا وَقَعَ فِي " الْمُخْتَصَرِ ": " أَوْ يَظُنُّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ " بَأَوْ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ ظَنَّ الْقِيَاسِ غَيْرَ قِيَاسٍ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِنَادِ إِلَى مَدْرَكٍ لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، وَهُوَ قِيَاسٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَا مُتَغَايِرَيْنِ، بَلْ هُمَا وَاحِدٌ، فَإِنْ أُرِيدَ تَصْحِيحُهُ عَلَى مَا فِي " الرَّوْضَةِ " قِيلَ: بِالْوَاوِ، هَكَذَا: " إِلَى مَدْرَكٍ لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، وَيَظُنُّ الْقِيَاسَ غَيْرَ قِيَاسٍ كَالْعَكْسِ " لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنِّي وَقْتَ الِاخْتِصَارِ قَصَدْتُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا فِي " الرَّوْضَةِ " بِأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى الْقِيَاسِ، وَلَا يَظُنَّهُ قِيَاسًا، أَوْ يَسْتَنِدَ إِلَى مَدْرَكٍ لَا يَعْتَقِدُهُ قِيَاسًا، وَلَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسٌ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ مَدْرَكِ الْإِجْمَاعِ فِي نَوْعِهِ، وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ كَأَنَّهُ حَافَظَ عَلَى اتِّحَادِ نَوْعِ الْمُسْتَنَدِ، فَلَمْ يَفْرِضْ إِلَّا أَنَّ الْمُخَالِفَ اسْتَنَدَ إِلَى قِيَاسٍ، وَاعْتَقَدَهُ غَيْرَ قِيَاسٍ كَالْعَكْسِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: ظَنِّيٌّ " أَيِ: احْتَجَّ الْمَانِعُونَ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الْقِيَاسِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ " ظَنِّيٌّ " وَالْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، فَلَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يُثْبِتُ أَقْوَى مِنْهُ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: " أَيْ: فِي الْجَوَابِ: إِنَّ هَذَا " بَاطِلٌ بِالْعُمُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ " وَهُمَا ظَنِّيَّانِ، وَيَثْبُتُ بِهِمَا الْإِجْمَاعُ، ثُمَّ يُقَالُ: مَا الْمُرَادُ بِقَوْلِكُمُ: الْقِيَاسُ ظَنِّيٌّ؟ إِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَالْإِجْمَاعُ كَذَلِكَ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ
(3/123)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْقَطْعِ فِيهِ لَيْسَ الْمَانِعَ مِنَ النَّقِيضِ عَقْلًا، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ مُسْتَنَدَ الْقِيَاسِ ظَنِّيٌّ، وَهُوَ النَّظَرُ فِي أَرْكَانِهِ: الْأَصْلِ، وَالْفَرْعِ، وَالْعِلَّةِ، وَالْحُكْمِ، فَمُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ كَذَلِكَ، وَهُوَ ظَوَاهِرُ الْكِتَابِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ عَنَيْتُمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَرْقَ مَمْنُوعٌ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ، فَلَا يَجُوزُ خِلَافُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْخِلَافِ إِنَّمَا حَصَلَ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ قِبَلِ ثُبُوتِ الْعِصْمَةِ لِلْأُمَّةِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ دَلِيلًا، وَذَلِكَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: " وَإِذَا تُصُوِّرَ، كَانَ حُجَّةً بِأَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ ". هَذَا جَوَابُ الْقَائِلِينَ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ يُتَصَوَّرُ عَنِ الْقِيَاسِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُ إِذَا تُصُوِّرَ الِاتِّفَاقُ عَنِ الْقِيَاسِ، كَانَ حُجَّةً بِأَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَحْرُمُ خِلَافُهُ، وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَنَحْوِهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ ظَاهِرٌ، وَهُوَ جَيِّدٌ مُنَاسِبٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ، فَالْمُثْبِتُونَ لِوُقُوعِهِ زَعَمُوا أَنَّ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَقِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَتَحْرِيمَ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَحَدَّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، وَجَزَاءَ الصَّيْدِ، وَأُرُوشَ الْجِنَايَاتِ، وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ ثَبَتَتْ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ.
(3/124)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمَانِعُونَ لِلْوُقُوعِ احْتَجُّوا بِمَا سَبَقَ، مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِنَادُهُ إِلَى الِاجْتِهَادِ الظَّنِّيِّ، وَانْتِفَاءُ الْجَوَازِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْوُقُوعِ دِلَالَةَ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ، وَأَمَّا الصُّوَرُ الْمَذْكُورَةُ، فَهِيَ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ النُّصُوصِ، فَإِمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي، وَقَوْلِهِ لِلْمَرْأَةِ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي، فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَشَحْمُ الْخِنْزِيرِ حُرِّمُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الْأَنْعَامِ: 145] ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْخِنْزِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الضَّمِيرِ.
قُلْتُ: وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ ضَعِيفٌ، وَأَمَّا حَدُّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ، فَبِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ: وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَعِلَّتُهُ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ. وَكَذَلِكَ تَكَلَّفُوا لِبَقِيَّةِ الصُّوَرِ، وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْوُقُوعُ.
ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِوُقُوعِهِ عَنِ اجْتِهَادٍ، اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ مُخَالَفَتِهِ، وَالْأَشْبَهُ عَدَمُ جَوَازِهَا، لِأَنَّهُ سَبِيلُ الْأُمَّةِ، فَأَشْبَهَ الْمُنْعَقِدَ عَنْ قَاطِعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/125)
________________________________________
خَاتِمَةٌ:
الْإِجْمَاعُ إِمَّا نُطْقِيٌّ مِنَ الْكُلِّ، أَوْ سُكُوتِيٌّ، وَكِلَاهُمَا تَوَاتُرٌ، أَوْ آحَادٌ، وَالْكُلُّ حُجَّةٌ، وَمَرَاتِبُهَا مُتَفَاوِتَةٌ.
فَأَقْوَاهَا: النُّطْقِيُّ تَوَاتُرًا، ثُمَّ آحَادًا، ثُمَّ السُّكُوتِيُّ كَذَلِكَ فِيهِمَا.
وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، فَلَا يُثْبِتُ قَاطِعًا.
لَنَا: نَقْلُ الْخَبَرِ الظَّنِّيِّ مُوجِبٌ للْعَمَلِ، فَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الظَّنَّ مُتَّبَعٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ بِالْجُمْلَةِ ظَنِّيٌّ، إِذْ هُوَ ظَوَاهِرُ النَّصِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«خَاتِمَةٌ» يَعْنِي لِكِتَابِ الْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ: «الْإِجْمَاعُ إِمَّا نُطْقِيٌّ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا ذِكْرٌ لِأَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ «الْإِجْمَاعَ إِمَّا نُطْقِيٌّ، أَوْ سُكُوتِيٌّ» وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: إِمَّا «تَوَاتُرٌ أَوْ آحَادٌ» .
فَالنُّطْقِيُّ: مَا كَانَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ جَمِيعِهِمْ عَلَيْهِ نُطْقًا، بِمَعْنَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَطَقَ بِصَرِيحِ الْحُكْمِ فِي الْوَاقِعَةِ، نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «إِمَّا نُطْقِيٌّ مِنَ الْكُلِّ» .
وَالسُّكُوتِيُّ: مَا نَطَقَ بِهِ الْبَعْضُ، وَسَكَتَ الْبَعْضُ. وَقَدْ سَبَقَ مَعَ تَفْصِيلٍ فِيهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ إِمَّا أَنْ يُنْقَلَ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا، أَيْ: يُنْقَلُ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ
(3/126)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْآحَادِ أَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ نَطَقُوا بِصَرِيحِ الْحُكْمِ، أَوْ يُنْقَلَ بِالتَّوَاتُرِ أَوِ الْآحَادِ أَنَّ بَعْضَ الْمُجْتَهِدِينَ أَفْتَى، وَبَعْضُهُمْ سَكَتَ. هَذِهِ الْقِسْمَةُ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الِاخْتِيَارُ.
أَمَّا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: الْإِجْمَاعُ إِمَّا مَقْطُوعٌ أَوْ مَظْنُونٌ، فَالْمَقْطُوعُ مَا وُجِدَ فِيهِ جَمِيعُ الشُّرُوطِ الَّتِي لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ مَعَ وُجُودِهَا، وَنُقِلَ تَوَاتُرًا، وَالْمَظْنُونُ مَا اخْتَلَّ فِيهِ أَحَدُ الْقَيْدَيْنِ، بِأَنْ يُوجَدَ عَلَى وَجْهٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مُتَوَاتِرًا، وَمُتَّفَقًا عَلَيْهِ آحَادًا.
مِثَالُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ: أَنْ يَتَّفِقَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، أَوْ يُؤْخَذَ بِقَوْلِ الْبَعْضِ وَسُكُوتِ الْبَعْضِ، أَوْ يُوجَدَ الِاتِّفَاقُ فِي بَعْضِ الْعَصْرِ، وَلَمْ يَنْقَرِضْ حَتَّى خُولِفَ، أَوْ يُجْمِعَ الصَّحَابَةُ بِدُونِ التَّابِعِيِّ الْمُعَاصِرِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ إِجْمَاعٍ غَيْرُ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْخِلَافُ فِيهِ مَعَ الظَّاهِرِيَّةِ كَمَا سَبَقَ.
وَمِثَالُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ آحَادًا: أَنْ يُنْقَلَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِشُرُوطِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْآحَادِ.
قَوْلُهُ: «وَالْكُلُّ حُجَّةٌ» أَيْ: أَقْسَامُ الْإِجْمَاعِ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا حُجَّةٌ، لِتَنَاوُلِ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ، وَأَدِلَّتِهِ الْخَاصَّةِ لَهَا.
قَوْلُهُ: «وَمَرَاتِبُهَا» أَيْ: مَرَاتِبُ أَقْسَامِ الْإِجْمَاعِ «مُتَفَاوِتَةٌ» فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَأَقْوَاهَا النُّطْقِيُّ الْمُتَوَاتِرُ، ثُمَّ النُّطْقِيُّ الْمَنْقُولُ آحَادًا، لِضَعْفِ الْآحَادِ عَنِ التَّوَاتُرِ، ثُمَّ السُّكُوتِيُّ الْمُتَوَاتِرُ، ثُمَّ السُّكُوتِيُّ الْمَنْقُولُ آحَادًا.
(3/127)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «ثُمَّ السُّكُوتِيُّ كَذَلِكَ فِيهِمَا» أَيْ: فِي تَقْدِيمِ تَوَاتُرِهِ عَلَى آحَادِهِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ السُّكُوتِيَّ عَنِ النُّطْقِيِّ لِقُوَّتِهِ، وَضِعْفِ السُّكُوتِيِّ عَنْهُ ضَعْفَ الْآحَادِ عَنِ التَّوَاتُرِ. فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ، طَرَفَانِ وَوَاسِطَتَانِ، لِأَنَّهَا إِمَّا نُطْقِيٌّ مُتَوَاتِرٌ، أَوْ سُكُوتِيٌّ آحَادٌ، هَذَانِ طَرَفَانِ، فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِهَتَا قُوَّةٍ أَوْ ضَعْفٍ، أَوْ نُطْقِيٌّ آحَادٌ، أَوْ سُكُوتِيٌّ مُتَوَاتِرٌ، هَذَانِ وَاسِطَتَانِ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جِهَةُ قُوَّةٍ وَجِهَةُ ضَعْفٍ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ أَرَدْنَا التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْوَاسِطَتَيْنِ، فَالنُّطْقِيُّ الْآحَادُ أَوْلَى بِالرُّجْحَانِ، لِأَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ الْقَادِحَةَ فِي السُّكُوتِيِّ أَكْثَرُ وَأَقْوَى مِنْهَا فِي الْآحَادِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَا يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ» .
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: فَأَجَازَهُ الْحَنَابِلَةُ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْإِجْمَاعُ الْمَرْوِيُّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ حُجَّةٌ، يَعْنِي عِنْدَ مَالِكٍ، خِلَافًا لِأَكْثَرِ النَّاسِ.
قُلْتُ: احْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّهُ - يَعْنِي خَبَرَ الْوَاحِدِ - «ظَنِّيٌّ» أَيْ: إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ: «فَلَا يُثْبِتُ قَاطِعًا» وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، وَخَبَرَ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ، فَلَا يَثْبُتُ الْقَاطِعُ بِالظَّنِّيِّ، لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يَكُونُ مُسْتَنَدًا لِلْقَوِيِّ.
قَوْلُهُ: «لَنَا:» أَيْ: عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمَرْوِيَّ آحَادًا حُجَّةٌ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «نَقْلَ الْخَبَرِ الظَّنِّيِّ» آحَادًا يُوجِبُ الْعَمَلَ «فَنَقْلُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ» آحَادًا «أَوْلَى» أَنْ يُوجِبَ الْعَمَلَ، لِأَنَّ الظَّنَّ وَاقِعٌ فِي ذَاتِ خَبَرِ الْوَاحِدِ
(3/128)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَطَرِيقِهِ، وَالْإِجْمَاعُ إِنَّمَا وَقَعَ الظَّنُّ فِي طَرِيقِهِ لَا فِي ذَاتِهِ، وَإِذَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْأَوَّلِ، كَانَ بِالثَّانِي أَوْجَبَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الظَّنَّ مُتَّبَعٌ فِي الشَّرْعِ» وَهُوَ مَنَاطُ الْعَمَلِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ «وَهُوَ - يَعْنِي الظَّنَّ - حَاصِلٌ بِمَا ذَكَرْنَا» يَعْنِي الْإِجْمَاعَ الْمَنْقُولَ آحَادًا.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ بِالْجُمْلَةِ ظَنِّيٌّ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: «لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، فَلَا يُثْبِتُ قَاطِعًا» .
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ الْعَامِّ بِالْجُمْلَةِ ظَنِّيٌّ، لِأَنَّ مُسْتَنَدَهُ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ، وَأَخْبَارُ الْآحَادِ ضَعِيفَةُ الدِّلَالَةِ، أَوِ السَّنَدِ، أَوْ هُمَا، فَلَئِنْ ضَعُفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِلْقَاطِعِ، فَلْتَضْعُفْ هَذِهِ الظَّوَاهِرُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَنَدًا لِلْقَاطِعِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْطِيلُ الْإِجْمَاعِ مِنْ أَصْلِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلِيلٌ قَاطِعٌ فِي حَقِّ مَنْ شَافَهَهُ بِهِ، كَمَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي نَفْسِهِ قَاطِعٌ، ثُمَّ إِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نُقِلَ آحَادًا، كَانَ حُجَّةً ; كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ إِذَا نُقِلَ آحَادًا، كَانَ حُجَّةً، وَلَا فَرْقَ.
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ: أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا ; بِخِلَافِ وَقَائِعِ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَحَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ
(3/129)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِجْمَاعُهُمْ إِلَّا آحَادًا، دَلَّ عَلَى وَهَاءِ ذَلِكَ النَّقْلِ ; وَأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، وَالصَّحِيحُ قَبُولُهُ بِرِوَايَةِ الْآحَادِ، وَهُوَ يَنْقُضُ الِاسْتِدْلَالَ الْمَذْكُورَ.
وَلِلْخَصْمِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا ; بِأَنَّ تَوَفُّرَ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الْإِجْمَاعِ أَشَدُّ مِنْهُ عَلَى نَقْلِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مِنَ الْأَخْبَارِ قَطْعًا، فَاحْتُمِلَ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ آحَادًا مَا لَا يُحْتَمَلُ فِي الْإِجْمَاعِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: الْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ عَلَى وُجُوبِ اشْتِرَاطِ الْقَاطِعِ فِي الْأُصُولِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ.
قُلْتُ: يَعْنِي: أَنَّهُ إِنِ اشْتُرِطَ الْقَاطِعُ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، لَمْ يُقْبَلِ الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ آحَادًا، وَإِلَّا قُبِلَ، وَهُوَ صَحِيحٌ. وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ إِيرَادِ الدَّلِيلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ.
(3/130)
________________________________________
وَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ.
وَفِي الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ خِلَافٌ، وَفِي أَقَلِّ مَا قِيلَ كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ الثُّلُثُ بِهِ وَبِالِاسْتِصْحَابِ لَا بِهِ فَقَطْ، إِذِ الْأَقَلُّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ دُونَ نَفْيِ الزِّيَادَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ فِيمَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ» أَيْ: كُلُّ أَمْرٍ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ، لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْأَمْرِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ فَرْعُ ذَلِكَ الْأَمْرِ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْإِجْمَاعِ، لَكَانَ ذَلِكَ إِثْبَاتًا لِلْأَصْلِ بِالْفَرْعِ وَهُوَ دَوْرٌ.
مِثَالُهُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ثُبُوتِ الرِّسَالَةِ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مَا صَدَرَ عَنْهَا مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ، فَلَا يَصِحُّ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ الدَّوْرُ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا مَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، فَيَصِحُّ إِثْبَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَيْسَ فَرْعًا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِهِ بِالْإِجْمَاعِ دَوْرٌ مَحْذُورٌ، وَلَا غَيْرُهُ.
مِثَالُهُ: الْوَحْدَانِيَّةُ، وَحُدُوثُ الْعَالَمِ، لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمَا صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ، فَيَجُوزُ التَّمَسُّكُ فِي إِثْبَاتِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْقَاعِدَةُ قَدْ عُهِدَتْ وَعُرِفَتْ، وَهِيَ أَنَّ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ، لَمْ يَثْبُتْ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ ; يَثْبُتُ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، فَالتَّمْثِيلُ فِيمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ
(3/131)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ بِالرِّسَالَةِ صَحِيحٌ.
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ مِمَّا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ وُجُودُ الصَّانِعِ، وَقُدْرَتُهُ، وَعِلْمُهُ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ شُرُوطٌ فِي صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ فَرْعُ النُّبُوَّةِ، وَالنُّبُوَّةُ فَرْعُ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَالْوُجُودُ، وَالْقُدْرَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْإِرَادَةُ، وَالْحَيَاةُ مِنْ شُرُوطِ الرُّبُوبِيَّةِ، فَهِيَ إِذَنْ شُرُوطٌ لِأَصْلِ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ، وَشَرْطُ الْأَصْلِ شَرْطٌ لِلْفَرْعِ، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهَا شُرُوطٌ، وَإِثْبَاتُ الشَّرْطِ بِمَشْرُوطِهِ دَوْرٌ، لِتَوَقُّفِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَذَكَرَ مِمَّا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ الْوَحْدَانِيَّةُ، وَحُدُوثُ الْعَالَمِ ; قَالَ: فَإِنَّ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالنَّظَرِ الْبَعِيدِ. وَذَكَرَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ كَلَامًا صَحِيحًا، وَإِنْ نَفَرَ مِنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَفْهَمُهُ أَوْ مَنْ يَفْهَمُهُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ.
قَوْلُهُ: «وَفِي الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ خِلَافٌ» أَيْ: إِنْ كَانَ مَا لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ أَمْرًا دِينِيًّا، جَازَ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ «كَالْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ» وَمُكَايَدَةِ الْعَدُوِّ، وَسِيَاسَاتِ الْعَسَاكِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَفِيهِ «خِلَافٌ» .
مَأْخَذُهُ: أَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ الدَّالَّ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ ; هَلْ دَلَّ عَلَى عِصْمَتِهَا مُطْلَقًا عَلَى الْعُمُومِ، أَوْ فِي خُصُوصِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ وَالْأَظْهَرُ التَّعْمِيمُ، وَأَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُخَالَفَةُ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ
(3/132)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنَ الْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا.
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَحْفَظُ فِيهِ عَنْ أَصْحَابِنَا شَيْئًا.
قُلْتُ: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا أَحْسَبُهُ يُتَصَوَّرُ، وَإِنْ تُصُوِّرَ، فَهُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ.
أَمَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ: فَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مَا كَانَتْ ثَمَرَتُهَا وَمَقْصُودُهَا مُتَعَلِّقًا بِالدِّينِ، وَرَاجِعًا إِلَيْهِ، خَاصًّا بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ وُقُوعُهُ فِي الدُّنْيَا، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَنَصْبِ الْمَوَازِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: الْحُرُوبُ وَالْآرَاءُ فِيهَا: إِنْ كَانَتْ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَهِيَ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ عَصَبِيَّةً، أَوْ بَغْيًا، أَوْ طَلَبًا لِلدُّنْيَا، أَوْ إِظْهَارًا لِلْفَخْرِ، وَالْخُيَلَاءِ، وَالْغَلَبَةِ عَلَى الْخَصْمِ ; فَأَصْلُ تِلْكَ الْحُرُوبِ مُحَرَّمَةٌ، فَالْآرَاءُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالْمَكِيدَةُ فِيهَا أُمُورٌ مُحَرَّمَةٌ، وَالْمُحَرَّمَاتُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّمَسُّكُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، إِذِ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا لَهُ أَصْلٌ فِي الْجَوَازِ، فَمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي الْجَوَازِ، لَا يُتَصَوَّرُ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ كَالتَّمَسُّكِ عَلَى جَوَازِ شُرْبِ الْخَمْرِ، أَوْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، أَوِ الْخِنْزِيرِ، أَوْ بَيْعِهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مُحَالٌ شَرْعًا.
وَإِنْ وُجِدَ حَرْبٌ، وَقِتَالٌ مَشُوبٌ بِقَصْدِ الْجِهَادِ وَالْعَصَبِيَّةِ وَالتَّكَثُّرِ مِنْ
(3/133)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدُّنْيَا ; كَانَ ذَلِكَ مِنْ ذَوَاتِ الْجِهَتَيْنِ، فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِهَادٌ دِينِيٌّ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْصِيَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ.
وَأَمَّا أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ إِنْ تُصَوِّرَ نَزَلَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ، فَقَدْ بَانَ بِمَا تَقَدَّمَ ; وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْحَرْبُ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، جَازَ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ قِتَالَ مَعْصِيَةٍ، أَوْ لَمْ يَكُنْ طَاعَةً، لَمْ يَجُزْ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: اخْتُلِفَ فِي إِجْمَاعِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ; هَلْ كَانَ حُجَّةً؟ فَقِيلَ: لَا، وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: إِجْمَاعُ كُلِّ أُمَّةٍ حُجَّةٌ، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِي الْمِلَلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ.
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إِنْ قَطَعَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِقَوْلِهِمْ، فَهُوَ حُجَّةٌ، لِاسْتِنَادِهِ إِلَى قَاطِعٍ فِي الْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ، وَإِلَّا كَانَ مُسْتَنَدُهُ مَظْنُونًا، وَالْوَجْهُ الْوَقْفُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ كَانَ الْحَالُ، يَعْنِي هَلْ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً أَمْ لَا؟
قُلْتُ: فَقَدْ تَلَخَّصَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ: ثَالِثُهَا: الْوَقْفُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَقَوْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَقْرَبُ فِيهَا إِلَى الصَّوَابِ.
وَالْمُخْتَارُ فِي الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ كَانَ عَقْلِيًّا ; فَإِجْمَاعُ كُلِّ أُمَّةٍ حُجَّةٌ عَلَى حَسَبِ إِجْمَاعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي مَرَاتِبِهِ، إِذِ الْمَدَارِكُ الْعَقْلِيَّةُ لَا تَخْتَلِفُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُ إِجْمَاعِ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَمْعِيًّا، فَالْوَقْفُ فِي
(3/134)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِجْمَاعِ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، إِذْ لَمْ يَبْلُغْنَا الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ، فَنُثْبِتُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ بُلُوغِ ذَلِكَ لَنَا عَدَمُ وُجُودِهِ فَنَنْفِيهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ رِيَاضَاتِ الْفَنِّ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا كَبِيرُ فَائِدَةٍ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَفِي أَقَلِّ مَا قِيلَ، كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ الثُّلُثُ، بِهِ وَبِالِاسْتِصْحَابِ لَا بِهِ فَقَطْ» أَيْ: وَالتَّمَسُّكُ «فِي أَقَلِّ مَا قِيلَ» أَوِ الْأَخْذُ بِأَقَلِّ الْأَقْوَالِ، لَيْسَ تَمَسُّكًا بِالْإِجْمَاعِ فَقَطْ، بَلْ «بِهِ وَبِالِاسْتِصْحَابِ» وَذَلِكَ «كَدِيَةِ الْكِتَابِيِّ» ; اخْتُلِفَ فِي مَقَادِرِهَا، فَقِيلَ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَقِيلَ: نِصْفُهَا، وَقِيلَ: ثُلُثُهَا، وَالْقَائِلُ إِنَّهَا الثُّلُثُ وَهُوَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ لَيْسَ تَمَسُّكًا بِالْإِجْمَاعِ فَقَطْ، لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ الثُّلُثِ، أَمَّا نَفْيُ الزَّائِدِ عَنْهُ، فَلَيْسَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ مُثْبِتُهُ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْآخِذَ بِالْأَقَلِّ ; إِنَّمَا تَمَسَّكَ بِالْإِجْمَاعِ فِي إِثْبَاتِهِ، وَبِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي نَفْيِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «إِذِ الْأَقَلُّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ دُونَ نَفْيِ الزِّيَادَةِ» .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّ الْآخِذَ بِالْأَقَلِّ، هَلْ هُوَ آخِذٌ بِالْإِجْمَاعِ؟ وَهُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ. وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى هَذَا الْخِلَافِ بِقَوْلِي: «لَا بِهِ فَقَطْ» وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(3/135)
________________________________________
وَمُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ لَا يَكْفُرُ، وَفِي الْقَطْعِيِّ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَالثَّالِثُ يَكْفُرُ بِإِنْكَارِ مِثْلِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ دُونَ غَيْرِهَا، وَارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا فِي الْأَصَحِّ لِعِصْمَتِهَا مِنَ الْخَطَأِ، وَالرِّدَّةُ أَعْظَمُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَمُنْكِرُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الظَّنِّيِّ لَا يَكْفُرُ، وَفِي الْقَطْعِيِّ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ، وَالثَّالِثُ: يَكْفُرُ بِإِنْكَارِ مِثْلِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ دُونَ غَيْرِهَا» .
اعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِمَّا ظَنِّيٌّ، أَوْ قَطْعِيٌّ:
فَالظَّنِّيُّ كَالسُّكُوتِيِّ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا، وَكَالنُّطْقِيِّ آحَادًا، فَهَذَا لَا يَكْفُرُ مُنْكِرُ حُكْمِهِ، أَيْ: إِذَا ثَبَتَ بِمِثْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ حُكْمٌ، فَأَنْكَرَهُ مُنْكِرٌ لَا يَكْفُرُ، لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ، فَلَمْ يَكْفُرْ مُنْكِرُ حُكْمِهِ، كَالْعُمُومِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ، وَسَنَزِيدُ ذَلِكَ تَقْرِيرًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْقَطْعِيُّ: هُوَ النُّطْقِيُّ الْمُتَوَاتِرُ الْمُسْتَكْمِلُ الشُّرُوطِ، كَمَا سَبَقَ، فَفِيهِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: لَا يَكْفُرُ مُنْكِرُ حُكْمِهِ، لِمَا سَيُقَرَّرُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَكْفُرُ، لِأَنَّهُ خَالَفَ الْقَاطِعَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَفَ الْعَقْلِيَّ الْقَاطِعَ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَتَوْحِيدِهِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ.
(3/136)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَالْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ وَنَحْوِهَا، كَفَرَ مُنْكِرُهُ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهِ.
وَالْفَرْقُ: أَنَّ الْأَوَّلَ يَتَحَقَّقُ تَكْذِيبُهُ لِصَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، دُونَ الثَّانِي، لِجَوَازِ كَوْنِ مَا أَنْكَرُهُ يَخْفَى عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مِثْلِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّ وُجُوبَهَا لَا يَخْفَى عَلَى مُسْلِمٍ، بَلِ الْكُفَّارُ يَعْلَمُونَ وُجُوبَهَا عَلَى أَهْلِهَا.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: إِنْ كَانَ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ كَالرِّسَالَةِ، كَفَرَ مُنْكِرُ حُكْمِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
قُلْتُ: هَذَا أَخَصُّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، وَالَّذِي قَبْلَهُ أَوْلَى مِنْهُ، لِأَنَّهُ تَكْذِيبُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، وَمَا لَزِمَهُ مُسْتَقِلٌّ بِالتَّكْفِيرِ، فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى تَخْصِيصِهِ بِمَا كَانَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ، إِذْ لَوْ سُوِّغَ ذَلِكَ، لَأَفْضَى إِلَى تَكْذِيبِ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ بِدُونِ تَكْفِيرِ ذَلِكَ الْمُكَذِّبِ، وَهُوَ إِهْمَالٌ لِحُرْمَةِ الشَّرْعِ، وَتَضْيِيعٌ لِنَامُوسِهِ.
قُلْتُ: الْمُخْتَارُ أَنَّ مُنْكِرَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ إِنْ كَانَ عَامِّيًّا، كَفَرَ مُطْلَقًا، ظَنِّيًّا كَانَ الْإِجْمَاعُ أَوْ قَطْعِيًّا، إِذَا كَانَ قَدِ اشْتُهِرَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، وَعَلِمَهُ الْمُنْكِرُ، وَاعْتَقَدَ تَحْرِيمَ إِنْكَارِهِ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا، يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْإِجْمَاعِ، وَيَتَصَرَّفُ فِي الْأَدِلَّةِ، لَمْ يَكْفُرْ إِلَّا بِإِنْكَارِ مِثْلِ الْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، لِجَوَازِ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ مَا أَنْكَرَهُ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إِذَا قُلْنَا بِتَكْفِيرِ مُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ
(3/137)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ ضَرُورِيًّا مِنَ الدِّينِ.
قُلْتُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِمُخَالَفَةِ مَا لَيْسَ ضَرُورِيًّا قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَعَلَّهُ مَذْهَبُهُ أَوِ اخْتِيَارُهُ، وَإِلَّا فَالْخِلَافُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ مُطْلَقًا ثَابِتٌ.
قُلْتُ: مَأْخَذُ الْخِلَافِ فِي تَكْفِيرِ مُنْكِرِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ: هُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ ظَنِّيٌّ أَوْ قَطْعِيٌّ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ ظَنِّيٌّ، قَالَ: لَا يَكْفُرُ كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَحُجَّتُهُ أَنَّ مُسْتَنَدَ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ هُوَ مَا سَبَقَ مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَمَا اسْتَنَدَ إِلَى الظَّنِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا.
وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَطْعِيٌّ، قَالَ: إِنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ قَاطِعٌ، وَمَا اسْتَنَدَ إِلَى الْقَاطِعِ، فَهُوَ قَاطِعٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى قَاطِعٍ، لِأَنَّ جُزْئِيَّاتِ أَدِلَّتِهِ لَوِ اسْتُقْرِئَتِ اسْتِقْرَاءً تَامًّا، لَاجْتَمَعَ مِنْهَا الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، لَكِنَّ اسْتِقْرَاءَهَا الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهَا شَيْءٌ مُتَعَذِّرٌ، كَمَا أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْحِكَايَاتِ الْجُزْئِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى سَخَاءِ حَاتِمٍ اسْتِقْرَاءً تَامًّا مُتَعَذِّرٌ، فَلِذَلِكَ نَبَّهَ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِهِمْ بِأَدِلَّةٍ جُزْئِيَّةٍ عَلَى تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ التَّامِّ لَوْ أَمْكَنَ.
قَالَ: وَالْغَفْلَةُ عَنْ هَذَا التَّقْرِيرِ هِيَ الْمُوجِبُ لِأَسْئِلَةٍ وَرَدَتْ عَلَى
(3/138)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْإِجْمَاعِ، لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا، وَكَوْنِ مُخَالِفِهِ لَا يَكْفُرُ، وَهِيَ مُنْدَفِعَةٌ بِهَذَا التَّقْرِيرِ.
قُلْتُ: هَذَا التَّقْرِيرُ ضَعِيفٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَقْوَى أُصُولِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ عَلَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ، فَهُوَ لِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ يَقْتَضِي تَوَفُّرَ دَوَاعِي الْأُمَّةِ عَلَى ضَبْطِ أَدِلَّتِهِ، وَحِفْظِ مُسْتَنَدِهِ، إِذْ مِنَ الْمُمْتَنِعِ عَادَةً تَضْيِيعُ مِثْلِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِجْمَاعِ دَلِيلٌ إِلَّا مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي كُتُبِهِمْ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ وَبَيَانُ ضَعْفِ الدِّلَالَةِ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ حِكَايَاتِ حَاتِمٍ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اسْتِقْرَاؤُهَا أَوِ اسْتِقْرَاءُ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَوَاتُرُ سَخَائِهِ مِنْهَا، إِذْ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا مَنْقُولَةٌ مُدَوَّنَةٌ فِي دِيوَانِ حَاتِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ التَّوَارِيخِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّ عُلَمَاءَ الشَّرْعِ لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِمْ بِهَا لَمْ يَعْتَنُوا بِهَا حَتَّى تَتَوَاتَرَ بَيْنَهُمْ وَتَشْتَهِرَ، وَقَدِ اشْتُهِرَتْ عِنْدَ الْإِخْبَارِيِّينَ الْعُلَمَاءِ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ.
أَمَّا أَحَادِيثُ الْإِجْمَاعِ وَأَدِلَّتُهُ، فَهُمْ بِالضَّرُورَةِ مُعْتَنُونَ بِهَا، مُهْتَمُّونَ غَايَةَ الِاهْتِمَامِ، فَالْمَانِعُ لَهُمْ مِنْ نَقْلِهَا عَادَةً لَيْسَ إِلَّا عَدَمُهَا، وَأَنَا ذَاكِرٌ لَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَصْلًا ذَكَرْتُهُ فِي «الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى» فِي هَذَا الْبَابِ يُحَقِّقُ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيًّا، وَهُوَ أَنِّي قُلْتُ هُنَاكَ: وَمِنَ الْعَدْلِ التَّرْجِيحُ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، وَإِلْغَاءُ الضَّعِيفِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي تَرْجِيحَاتِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، كَتَرْجِيحِ الْقَاطِعِ عَلَى الظَّنِّيِّ، وَالْخَبَرِ الْأَصَحِّ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالصَّحِيحِ عَلَى الضَّعِيفِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُخَالِفَ الْإِجْمَاعِ وَمُنْكِرَ حُكْمِهِ لَا يَكْفُرُ، مَا لَمْ
(3/139)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُنْكِرُ ضَرُورِيًّا مِنَ الدِّينِ كَمَا سَبَقَ وَقُرِّرَ ذَلِكَ: بِأَنَّ جَرَيَانَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ مُحَقَّقٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَلَا يُرْفَعُ بِالْإِجْمَاعِ الْمُحْتَمَلِ، وَبَيَانُ احْتِمَالِهِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ مُحْتَمَلَةٍ، وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الْمُحْتَمَلِ مُحْتَمَلٌ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَاتُ، فَهِيَ ظَوَاهِرُ الْكِتَابِ، نَحْوُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النِّسَاءِ: 115] الْآيَةَ، وَأَحَادِيثُ السُّنَّةِ.
أَمَّا ظَوَاهِرُ الْكِتَابِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا صَحَّ التَّمَسُّكُ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بِهَا، لَزِمَ الدَّوْرُ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَلَيْسَتْ مُتَوَاتِرَةً تَوَاتُرًا حَقِيقِيًّا بِالِاتِّفَاقِ، وَكَوْنُهُ تَوَاتُرًا مَعْنَوِيًّا، كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ، وَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى مِنَ الثَّانِي، وَحَيْثُ الْأَوَّلُ تَوَاتُرٌ ; فَالثَّانِي لَيْسَ بِتَوَاتُرٍ، فَهُوَ آحَادٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مَذَاهِبَ مُخْتَلِفَةٍ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفِيضًا، وَالْمُسْتَفِيضُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الَّذِي يَقْوَى عَلَى رَفْعِ عِصْمَةِ الدِّمَاءِ.
وَقَوْلُهُمْ: تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، وَهِيَ مَعْصُومَةٌ، إِثْبَاتُ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، هُوَ كَوْنُهُ صَادِرًا عَنِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ، وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ صَدَرَ عَنِ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ، لِأَنَّ
(3/140)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمَعْصُومَةَ تَلَقَّتْ أَدِلَّتَهُ بِالْقَبُولِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ.
سَلَّمْنَا أَنَّ الْخَبَرَ مُتَوَاتِرٌ، لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي دِلَالَتِهِ.
فَقَوْلُهُ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ، اللَّامُ إِمَّا لِلْعَهْدِ، وَهُمْ قَوْمٌ مَعْهُودُونَ بَيْنَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبَيْنَ مَنْ خَاطَبَهُ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجْمَاعِ، أَوْ لِلِاسْتِغْرَاقِ ; فَهُوَ عَامٌّ، وَدِلَالَةُ الْعَامِّ ظَنِّيَّةٌ، ثُمَّ قَدْ خُصَّ بِمَنْ قَبْلَ عَصْرِ الْإِجْمَاعِ وَبَعْدَهُ، وَبِالصِّبْيَانِ، وَالْمَجَانِينِ، وَالْعَامَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، فَصَارَ عَامًّا مَخْصُوصًا، وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً، أَوْ غَيْرَ حُجَّةٍ، وَحَقِيقَةً فِي الْبَاقِي، أَوْ مَجَازًا، خِلَافٌ مَشْهُورٌ سَبَقَ، ثُمَّ قَوْلُهُ: «حَسَنًا» يَحْتَمِلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ، وَهُوَ فِيهِ أَظْهَرُ، وَلَا دِلَالَةَ لَهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ أَصْلًا، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ، بِهِ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ بِلَفْظِهِ أَشْبَهُ، إِذْ هُوَ مِنْ مَادَّتِهِ لَفْظًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالضَّلَالَةِ: الْكُفْرَ، وَيَكُونُ شَهَادَةً لَهَا بِالْأَمْنِ مِنَ الِارْتِدَادِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ دِلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، ثُمَّ صِرْنَا إِلَى نَفْسِ الْإِجْمَاعِ، فَنَقُولُ: نَازَعَ قَوْمٌ فِي تَصَوُّرِهِ وَإِمْكَانِهِ، ثُمَّ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، ثُمَّ فِي أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالصَّحَابَةِ، أَوْ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِهَا أَيْضًا، ثُمَّ فِي أَنَّ الْعِصْمَةَ لِهَيْئَةِ الْأُمَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، فَتُعْتَبَرُ
(3/141)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَامَّةُ أَوْ لَا، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ مِمَّا سَبَقَ فِي السُّكُوتِيِّ، وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَاهُ، فَقِيلَ: حَجَّةٌ وَإِجْمَاعٌ، وَقِيلَ: لَا حُجَّةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ، وَقِيلَ: حُجَّةٌ فَقَطْ، وَقِيلَ: إِجْمَاعٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ فُتْيَا لَا حُكْمًا.
ثُمَّ قَوْلُكُمْ: هُوَ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، مَا الْمُرَادُ بِهِ؟ إِنْ أَرَدْتُمُ الْقَطْعَ الْعَقْلِيَّ، وَهُوَ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، فَهُوَ مَعَ هَذَا الْخِلَافِ الْعَظِيمِ فِي مُقَدِّمَاتِهِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ، فَذَلِكَ إِنَّمَا يُوجِبُ تَعْصِيَةَ مُخَالِفِهِ وَمُنْكِرِ حُكْمِهِ.
أَمَّا الْحُكْمُ بِكُفْرِهِ مَعَ الْقَطْعِ بِجَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ فِي مُقَدِّمَاتِ هَذَا النِّزَاعِ، فَهُوَ دَفْعٌ لِلْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلْعَدْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِهِ مُطْلَقًا أَحْوَطُ لِلشَّرِيعَةِ، وَبِعَدَمِهِ مُطْلَقًا، أَوْ بِالتَّفْصِيلِ السَّابِقِ أَحْوَطُ لِلدِّمَاءِ.
وَأَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي التَّكْفِيرِ، أَمَّا قَتْلُهُ حَدًّا بِاجْتِهَادِ إِمَامٍ، أَوْ مُجْتَهِدٍ، أَوْ بِفِعْلٍ أَوْ بِتَرْكِ مَا يُوجِبُهُ كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ، أَوْ تَارِكِ الصَّلَاةِ تَهَاوُنًا لَا جُحُودًا، فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِهِ.
وَاعْلَمْ أَنِّي إِنَّمَا ذَكَرْتُ لَكَ هَذَا الْفَصْلَ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرُ أَحْكَامِهِ قَدْ سَبَقَتْ لِفَائِدَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: تَرْجِيحُ مَا اخْتَرْتُهُ مِنْ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ ظَنِّيًّا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنِّي جَعَلْتُهُ لَكَ دُسْتُورًا لِلْإِجْمَاعِ، تَطْرِيَةً لِذِهْنِ النَّاظِرِ بِهِ،
(3/142)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَذْكِيرًا، لِيُتَذَكَّرَ بِهِ آخِرًا مَا سَبَقَ مِنْهُ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ فِي آخِرِ كُلِّ بَابٍ، لِعَدَمِ الْمُقْتَضِي لِذِكْرِهِ، بِخِلَافِ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ عَرَضَ مَا اقْتَضَى ذِكْرَ ذَلِكَ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مُنْكِرِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بِالْجُمْلَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ: كَيْفَ تُكَفِّرُونَ مُنْكِرَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ، وَلَمْ تُكَفِّرُوا مُنْكِرَ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ، كَالنَّظَّامِ وَالشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ؟
وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّ مُنْكِرَ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ لَمْ يَسْتَقِرَّ عِنْدَهُ كَوْنُهُ حُجَّةً، فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ تَكْذِيبُ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ، بِخِلَافِ مُنْكِرِ حُكْمِهِ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ بِكَوْنِهِ حُجَّةً، فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ ذَلِكَ، فَأُخِذَ بِإِقْرَارِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَارْتِدَادُ الْأُمَّةِ جَائِزٌ عَقْلًا لَا سَمْعًا فِي الْأَصَحِّ» أَيِ: ارْتِدَادُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَفَرَةً، فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ «جَائِزٌ عَقْلًا» أَيْ: مُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، لِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ تَصَوُّرُهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ.
أَمَّا جَوَازُهُ مِنْ حَيْثُ السَّمْعِ، أَيْ: مِنْ حَيْثُ دِلَالَةِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَيْهِ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَالْأَصَحُّ كَمَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ، لِأَنَّهَا مَعْصُومَةٌ مِنَ الْخَطَأِ بِأَدِلَّةِ الْإِجْمَاعِ السَّابِقَةِ، وَالرِّدَّةُ أَعْظَمُ الْخَطَأِ، فَتَكُونُ مَعْصُومَةً مِنْهَا، فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهَا، وَثَمَّ أَحَادِيثُ أُخَرُ تُؤَكِّدُ ذَلِكَ.
مِنْهَا: مَا رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ، فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ، لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ
(3/143)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي الْحَدِيثَ.
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ: لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَلِأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ جِنْسِهَا تَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ الدِّينِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ ارْتِدَادِ الْأُمَّةِ جَمِيعِهَا فِي وَقْتٍ مَا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَاحْتَجَّ الْآخَرُونَ بِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ:
(3/144)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى لَكِنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى ارْتِدَادِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، بَلْ يَصْدُقُ مَضْمُونُهُ بِرِدَّةِ بَعْضِهَا، وَعِبَادَتِهِ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لِأَنَّ ارْتِدَادَ الْأُمَّةِ يَلْزَمُهُ قَطْعًا، وَإِلَّا لَوْ قَامَتِ السَّاعَةُ عَلَى مَنْ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ، وَلَوْ وَاحِدًا، فَلَا يَصْدُقُ الْحَدِيثُ إِذَنْ.
قُلْتُ: أَحْسَنُ مَا جُمِعَ بِهِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: أَنْ تُحْمَلَ الْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ عَلَى اسْتِمْرَارِ الدِّينِ إِلَى قُبَيْلِ السَّاعَةِ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، ثُمَّ تَرْتَدُّ الْأُمَّةُ، أَوْ تَنْقَرِضُ، وَيَخْلُفُهَا مَنْ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ، وَلَا يَعْرِفُهُ، فَتَقُومُ السَّاعَةُ عَلَيْهِ.
عَلَى أَنَّ انْقِرَاضَ الْأُمَّةِ لَا يَتَّجِهُ، لِأَنَّهَا آخِرُ الْأُمَمِ، وَعَلَيْهَا تَقُومُ السَّاعَةُ، لَكِنَّهَا تَرْتَدُّ لِكَثْرَةِ الْفِتَنِ، وَطُولِ الْعَهْدِ، كَمَا كَفَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ طُولِ عَهْدِهَا بِأَنْبِيَائِهَا وَكُتُبِهَا، وَارْتِدَادُهَا قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ ; لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ لِأَنَّ الزَّمَانَ الْيَسِيرَ يُغْتَفَرُ فِي الْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَاللَّهُ
(3/145)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ الْأُمَّةَ هَلْ يُتَصَوَّرُ اشْتِرَاكُهَا فِي الْجَهْلِ بِدَلِيلٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ قُدِّرَ عَمَلُهَا عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، جَازَ اشْتِرَاكُهَا فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ كَالْوَسِيلَةِ مَعَ الْمَقْصِدِ، وَإِنْ قُدِّرَ عَمَلُهَا عَلَى خِلَافِهِ، لَمْ يَجُزْ، لِعِصْمَتِهَا مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْخَطَأِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/146)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
اسْتِصْحَابُ الْحَالِ
وَحَقِيقَتُهُ: التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ إِمَّا إِثْبَاتٌ، وَالْعَقْلُ قَاصِرٌ عَنْهُ، أَوْ نَفْيٌ، فَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَيْهِ قَبْلَ الشَّرْعِ فَيُسْتَصْحَبُ، كَعَدَمِ وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ، وَصَلَاةٍ سَادِسَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالنَّاقِلِ، وَهُوَ تَمَسُّكٌ بِالْجَهْلِ، وَلَعَلَّهُ مَوْجُودٌ مَجْهُولٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: النَّاسُ إِمَّا:
عَامِّيٌّ لَا يُمْكِنُهُ الْبَحْثُ وَالِاجْتِهَادُ، فَتَمَسُّكُهُ بِمَا ذَكَرْتُمْ كَالْأَعْمَى يَطُوفُ فِي الْبَيْتِ عَلَى مَتَاعٍ.
أَوْ مُجْتَهِدٌ فَتَمَسُّكُهُ بَعْدَ جِدِّهِ وَبَحْثِهِ بِالْعِلْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ كَبَصِيرٍ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِ الْمَتَاعِ مِنْ بَيْتٍ لَا عِلَّةَ فِيهِ مَخْفِيَّةٌ لَهُ فَيَجْزِمُ بِعَدَمِهِ لَا سِيَّمَا وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ قَدْ مُهِّدَتْ وَأَدِلَّتُهُ قَدِ اشْتُهِرَتْ وَظَهَرَتْ، فَعِنْدَ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ مِنَ الْأَهْلِ يُعْلَمُ أَنْ لَا دَلِيلَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" اسْتِصْحَابُ الْحَالِ ":
هَذَا هُوَ الْأَصْلُ الرَّابِعُ مِنَ الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهُوَ اسْتِصْحَابُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْأُصُولِ أَوَّلَ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ: " وَحَقِيقَتُهُ " أَيْ: وَحَقِيقَةُ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ " التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍُ
(3/147)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ " أَيْ: لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلٌ يَنْقُلُ عَنْ حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ، لِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ تَارَةً يَكُونُ بِحُكْمِ دَلِيلِ الْعَقْلِ. كَاسْتِصْحَابِ حَالِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَإِنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى بَرَاءَتِهَا، وَعَدَمِ تَوَجُّهِ الْحُكْمِ إِلَى الْمُكَلَّفِ، كَقَوْلِنَا: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، أَيْ: دَلَّ الْعَقْلُ عَلَى انْتِفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّتِهِ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُثْبِتُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَتَارَةً يَكُونُ الِاسْتِصْحَابُ بِحُكْمِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ كَاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْعُمُومِ وَالْإِجْمَاعِ.
أَمَّا إِذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ الْمُسْتَصْحَبِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، كَالْبَيِّنَةِ الدَّالَّةِ عَلَى شُغْلِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ، وَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَتَرْكِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ: تَحْقِيقُ مَعْنَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ: هُوَ أَنَّ اعْتِقَادَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَاضِرِ يُوجِبُ ظَنَّ ثُبُوتِهِ فِي الْحَالِ أَوِ الِاسْتِقْبَالِ.
وَيُمْكِنُ تَلْخِيصُ هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: هُوَ ظَنُّ دَوَامِ الشَّيْءِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ وُجُودِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ - أَعْنِي هَذَا الظَّنَّ - حُجَّةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، مِنْهُمْ: مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُزَنِيُّ، وَالصَّيْرَفِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَّالِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، خِلَافًا لِجُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
(3/148)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولٍ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مُرَتَّبَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ:
فَنَقُولُ: اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي الْأَعْرَاضِ، وَهِيَ مَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ، بَلْ يَفْتَقِرُ فِي وُجُودِهِ إِلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ، كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا كَالْحَرَكَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ قِسْمَانِ: قَارُّ الذَّاتِ، كَالسَّوَادِ وَسَائِرِ الْأَلْوَانِ، فَهَذَا يُوجَدُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَيَسْتَمِرُّ، وَسَيَّالٌ لَيْسَ بِقَارِّ الذَّاتِ، كَالْحَرَكَاتِ الزَّمَانِيَّةِ، وَهِيَ حَرَكَاتُ الْفُلْكِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهُوَ الْحَقُّ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي بَقَاءِ الْمَوْجُودِ ; هَلْ هُوَ عَرَضٌ قَارٌّ، أَوْ سَيَّالٌ يُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ قَارٌّ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِبَقَاءِ الشَّيْءِ إِلَّا اسْتِمْرَارَ وُجُودِهِ، وَهِيَ صِفَةٌ ثَابِتَةٌ قَارَّةٌ، بِخِلَافِ الْحَرَكَةِ، فَإِنَّهَا سَيَّالَةٌ يُدْرَكُ سَيَلَانُهَا عَدَمًا أَوْ وُجُودًا، فَلَوْ كَانَ الْبَقَاءُ مِثْلَهَا، لِأُدْرِكَ كَمَا أُدْرِكَتْ، ثُمَّ بَنَوْا عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنَّ الْبَاقِيَ ; هَلْ يَفْتَقِرُ فِي بَقَائِهِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: الْبَقَاءُ عَرَضٌ قَارٌّ، قَالَ: لَا يَفْتَقِرُ كَمَا لَا يَفْتَقِرُ الْأَسْوَدُ فِي اسْوِدَادِهِ إِلَى مُسَوِّدٍ.
وَمَنْ قَالَ: هُوَ عَرَضٌ سَيَّالٌ، قَالَ: يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ عَدَمَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ يَتَعَقَّبُ وُجُودَهُ، وَبَقَاؤُهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوَاصُلِ أَجْزَائِهِ، وَتَتَابُعُ أَجْزَاءِ مَا هَذَا
(3/149)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَأْنُهُ بِدُونِ مُؤَثِّرٍ مُحَالٌ، ثُمَّ بَنَوْا عَلَى هَذَا اسْتِصْحَابَ الْحَالِ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْمَعْهُودِ السَّابِقِ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، لِأَنَّ الْبَاقِيَ إِنْ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى مُؤَثِّرٍ، كَانَ الِاسْتِصْحَابُ حُجَّةً ; وَإِنِ احْتَاجَ، لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لِجَوَازِ التَّغَيُّرِ لِعَدَمِ الْمُؤَثِّرِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ حُجَّةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُقَلَاءَ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا تَحَقَّقُوا وُجُودَ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمَهُ، وَلَهُ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِهِ، سَوَّغُوا تَرْتِيبَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ زَمَانِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، حَتَّى إِنَّ الْغَائِبَ يُرَاسِلُ أَهْلَهُ، وَيُرَاسِلُونَهُ، بِنَاءً عَلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِهِمْ، وَوُجُودِهِ فِي الْمَاضِي، وَيُنْفِذُ إِلَيْهِمُ الْأَمْوَالَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، لَمَا سَاغَ لَهُمْ ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ مِنْ لَوَازِمِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَبِعْثَةُ الرُّسُلِ حَقٌّ، فَلَازِمُهَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا.
أَمَّا أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ مِنْ لَوَازِمَ الْبِعْثَةِ، فَلِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزِ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ هِيَ اطِّرَادُ وُقُوعِ الشَّيْءِ دَائِمًا، أَوْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، فَالْأَوَّلُ كَدَوَرَانِ الشَّمْسِ وَالنُّجُومِ فِي أَفْلَاكِهَا، كَمَا قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إِبْرَاهِيمَ: 33] ، وَالثَّانِي كَطُلُوعِهَا مِنَ الْمَشْرِقِ، وَغُرُوبِهَا فِي الْمَغْرِبِ، وَكَوُقُوعِ الْمَطَرِ فِي الشِّتَاءِ، وَزِيَادَةِ نَيْلِ مِصْرَ فِي أَيَّامِهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ قَالَ قَائِلٌ: دَلِيلُ نُبُوَّتِي
(3/150)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنَّ الشَّمْسَ لَا تَطْلُعُ الْيَوْمَ مِنَ الْمَشْرِقِ، أَوْ أَنَّهَا لَا تَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ، بَلْ تَجُولُ فِي أَطْرَافِ الْفَلَكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ ; لَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِانْخِرَاقِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ عَلَى يَدَيْهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِصْحَابُ حُجَّةً، لَمَا كَانَ انْخِرَاقُ الْعَوَائِدِ عَلَى أَيْدِي الْأَنْبِيَاءِ حُجَّةً، لِجَوَازِ أَنْ تَتَغَيَّرَ أَحْكَامُ الْعَوَائِدِ وَأَحْوَالُهَا، فَلَا يَكُونُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ أَمْسِ خَارِقًا لَهَا الْيَوْمَ، فَلَا يَكُونُ الْأَصْلُ بَقَاءَ مَا كَانَ مِنْ كَوْنِهِ خَارِقًا عَلَى مَا كَانَ، لَكِنْ لَمَّا رَأَيْنَا انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ حُجَّةً لِلْأَنْبِيَاءِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ حُجَّةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ عَهِدْنَا فِي اطِّرَادِ الْعَادَةِ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَانَ، فَهِيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ وَنَجْزِمُ بِهَذَا جَزْمًا عَادِيًّا، فَإِذَا امْتَنَعَ طُلُوعُهَا مِنَ الْمَشْرِقِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، عَقِيبَ دَعْوَى الْمُدَّعِي لِلنُّبُوَّةِ، حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ مُعْجِزًا، خَارِقًا لِلْعَادَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ بَقَاءَ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا، لِجَوَازِ تَغَيُّرِ الْعَادَةِ كَمَا سَبَقَ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: " أَمَّا الْأَوَّلُ " ; يَعْنِي التَّمَسُّكَ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ، لِأَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْحَالِ هُوَ " التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ
(3/151)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْهُ نَاقِلٌ " ثُمَّ أَخَذْنَا فِي تَفْصِيلِ ذَلِكَ. وَبَيَانِهِ.
أَيْ: أَمَّا أَنَّ الْتَمَسُّكَ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ حُجَّةٌ " فَلِأَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ: إِمَّا إِثْبَاتٌ " أَوْ نَفْيٌ ".
أَمَّا الْإِثْبَاتُ " فَالْعَقْلُ قَاصِرٌ عَنْهُ " أَيِ: الْعَقْلُ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ هَادٍ وَمُرْشِدٌ، لَا مُشَرِّعٌ وَمُوجِبٌ.
وَأَمَّا النَّفْيُ، أَيْ: نُفْيُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ " فَالْعَقْلُ دَلَّ عَلَيْهِ " " فَيُسْتَصْحَبُ ".
أَمَّا أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ، فَلِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ، وَالْمَحْكُومَ بِهِ، وَالْمَحْكُومَ فِيهِ مِنْ لَوَازِمِ الْحُكْمِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا انْتِفَاءَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْعَالَمِ، وَنَعْلَمُ قَطْعًا انْتِفَاءَ الْعَالَمِ قَبْلَ وُجُودِهِ بِدُهُورٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ قَطْعًا. وَإِذَا ثَبَتَ لَنَا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي وَقْتٍ مَا، اسْتَصْحَبْنَا حُكْمَ ذَلِكَ الِانْتِفَاءِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلِيلِ الِاسْتِصْحَابِ.
وَمَعْنَى الِاسْتِصْحَابِ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمِهِ مُصَاحِبًا لِاعْتِقَادِنَا، أَوْ لِقُلُوبِنَا وَأَذْهَانِنَا.
مِثَالُ اسْتِصْحَابِ نَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ: " عَدَمُ وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ " وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ سِوَى رَمَضَانَ، وَعَدَمُ " صَلَاةٍ سَادِسَةٍ " مَكْتُوبَةٍ، فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ، لَكَانَ الْعَقْلُ دَلِيلًا عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِصْحَابِ الْمَذْكُورِ، وَأَمْثِلَةُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ كُلُّ حُكْمٍ نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى نَفْيِهِ، أَوْ لَمْ
(3/152)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَنُصَّ عَلَى إِثْبَاتِهِ وَلَا نَفْيِهِ.
قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالنَّاقِلِ " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا سُؤَالٌ عَلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِالِاسْتِصْحَابِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ إِنَّمَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهُ، إِذْ لَوْ وُجِدَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْهُ، لَمَا كَانَ حُجَّةً، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى التَّمَسُّكُ بِالِاسْتِصْحَابِ تَمَسُّكًا بِعَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهُ، إِذْ مَعْنَى قَوْلِنَا: الْأَصْلُ بَقَاءُ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى النَّفْيِ، أَنَّا لَا نَعْلَمُ وُجُودَ دَلِيلٍ نَاقِلٍ لَهُ عَنِ النَّفْيِ إِلَى الْإِثْبَاتِ، وَإِذَا تَلَخَّصَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ تَمَسُّكٌ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ، فَالتَّمَسُّكُ بِالْعَدَمِ " تَمَسُّكٌ بِالْجَهْلِ " بِالدَّلِيلِ، وَالْجَهْلُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَمَسَّكًا عَلَى شَيْءٍ، وَلَعَلَّ الدَّلِيلَ النَّاقِلَ عَنِ الِاسْتِصْحَابِ مَوْجُودٌ لَمْ تَعْلَمُوهُ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى النَّفْيِ.
قَوْلُهُ: " لِأَنَّا نَقُولُ " هَذَا جَوَابٌ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ " النَّاسَ: إِمَّا عَامِّيٌّ لَا يُمْكِنُهُ الْبَحْثُ وَالِاجْتِهَادُ " فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ " أَوْ مُجْتَهِدٌ " يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا، فَتَمَسُّكُهُ بِالِاسْتِصْحَابِ مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ ; هُوَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْجَهْلِ، فَهُوَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ " كَالْأَعْمَى يَطُوفُ فِي الْبَيْتِ عَلَى مَتَاعٍ " وَآلَةُ الْبَصَرِ لَا تُسَاعِدُهُ عَلَى إِدْرَاكِهِ.
أَمَّا الْمُجْتَهِدُ الَّذِي يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ عَلَى الدَّلِيلِ " فَتَمَسُّكُهُ بَعْدَ " الْجِدِّ
(3/153)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالِاجْتِهَادِ فِي طَلَبِهِ إِنَّمَا هُوَ " بِالْعِلْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ " لَا بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ، فَهُوَ " كَبَصِيرٍ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِ الْمَتَاعِ مِنْ بَيْتٍ لَا عِلَّةَ فِيهِ مُخْفِيَةٌ لَهُ " أَيْ: لِلْمَتَاعِ، أَيْ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ أَمْرٌ يَسْتُرُ الْمَتَاعَ، فَيُخْفِيهِ عَنْ طَالِبِهِ " فَيَجْزِمُ بِعَدَمِهِ " عِنْدَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ إِذَا بَالَغَ فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ، فَلَمْ يَجِدْهُ، جَزَمَ بِعَدَمِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجْزِمْ بِهِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ " لَا سِيَّمَا وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ قَدْ مُهِّدَتْ، وَأَدِلَّتُهُ قَدِ اشْتُهِرَتْ وَظَهَرَتْ " وَفِي الدَّوَاوِينِ قَدْ دُوِّنَتْ " فَعِنْدَ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ " فِي طَلَبِ الدَّلِيلِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلنَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ " يُعْلَمُ " أَنَّهُ " لَا دَلِيلَ " هُنَاكَ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِصْحَابُ مِنْهُ تَمَسُّكًا بِالْعِلْمِ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ، لَا بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ.
(3/154)
________________________________________
وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَاسْتِصْحَابِ الْعُمُومِ وَالنَّصِّ حَتَّى يَرِدَ مُخَصِّصٌ أَوْ نَاسِخٌ وَاسْتِصْحَابِ حُكْمٍ ثَابِتٍ كَالْمِلْكِ وَشَغْلِ الذِّمَّةِ بِالْإِتْلَافِ وَنَحْوِهِ.
أَمَّا اسْتِصْحَابُ حَالِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ كَالتَّمَسُّكِ فِي عَدَمِ بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ دُخُولِهِ فِيهَا فَيُسْتَصْحَبُ، فَالْأَكْثَرُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ شَاقِلَا.
لَنَا: الْإِجْمَاعُ إِنَّمَا حَصَلَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ لَا وُجُودِهِ، فَهُوَ إِذَنْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْخِلَافُ يُضَادُّ الْإِجْمَاعَ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ، كَالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ مَعَ السَّمْعِيِّ النَّاقِلِ، بِخِلَافِ الْعُمُومِ وَالنَّصِّ، وَدَلِيلِ الْعَقْلِ لَا يُنَافِيهَا الِاخْتِلَافُ فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهَا مَعَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَافِي الْحُكْمِ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ خِلَافًا لِقَوْمٍ، وَقِيلَ: فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَقَطْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَمَّا الثَّانِي» وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ نَاقِلٌ ; فَهُوَ كَافٍ «كَاسْتِصْحَابِ الْعُمُومِ وَالنَّصِّ حَتَّى يَرِدَ مُخَصِّصٌ أَوْ نَاسِخٌ» أَيْ: كَاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْعُمُومِ حَتَّى يَرِدَ مُخَصِّصٌ لَهُ، وَاسْتِصْحَابِ حُكْمِ النَّصِّ حَتَّى يَرِدَ لَهُ نَاسِخٌ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلْتُ فِي عِبَارَتِي اللَّفَّ وَالنَّشْرَ، وَكَذَلِكَ «اسْتِصْحَابُ» كُلِّ «حُكْمٍ ثَابِتٍ، كَالْمِلْكِ» حَتَّى يُوجَدَ مَا يُزِيلُهُ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ «وَشَغْلِ الذِّمَّةِ» حَتَّى يُوجَدَ مَا يُفْرِغُهَا بِأَدَاءِ الدَّيْنِ إِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِدَيْنٍ، أَوْ بِأَدَاءِ قِيمَةِ الْمُتْلَفِ إِنْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِإِتْلَافِ شَيْءٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاغِلِ.
تَنْبِيهٌ: كُلُّ مَا كَانَ أَصْلًا فِي الدِّلَالَةِ وَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، حَتَّى
(3/155)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَقُومَ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْهُ، فَاللَّفْظُ يُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ، وَعَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ، وَعَلَى الْإِفْرَادِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الِاشْتِرَاكِ، وَعَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِالدِّلَالَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْإِضْمَارِ، وَعَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ، وَعَلَى التَّأْصِيلِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الزِّيَادَةِ، وَعَلَى التَّرْتِيبِ الْوَاقِعِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَعَلَى التَّأْسِيسِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّأْكِيدِ، وَعَلَى الْإِحْكَامِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ النَّسْخِ، وَعَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ اللُّغَوِيِّ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ وَارِدًا مِنَ الشَّرْعِ، أَوْ بِالْعَكْسِ إِنْ كَانَ وَارِدًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَعَلَى الْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ اللُّغَوِيِّ، كُلُّ ذَلِكَ عَمَلًا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الرَّاجِحِ، وَالْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيَّنٌ، فَالِاسْتِصْحَابُ إِذَنْ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حُكْمِيٍّ، وَلَفْظِيٍّ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا اسْتِصْحَابُ حَالِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، كَالتَّمَسُّكِ فِي عَدَمِ بُطْلَانِ صَلَاةِ الْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ» أَيْ: بِأَنْ يُقَالَ: أَجْمَعْنَا «عَلَى صِحَّةِ دُخُولِهِ فِيهَا» أَيْ: فِي الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ «فَيُسْتَصْحَبُ» حَالُ تِلْكَ الصِّحَّةِ «فَالْأَكْثَرُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ شَاقِلَا» .
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: مَنَعَ الْغَزَّالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ مِنِ اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ. قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ، كَمَا نَقُولُ: أَجْمَعْنَا عَلَى حُصُولِ الطَّهَارَةِ مِنَ الْحَدَثِ قَبْلَ خُرُوجِ الْخَارِجِ
(3/156)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، فَيَسْتَصْحِبُهَا بَعْدَ خُرُوجِهِ.
قُلْتُ: وَكَذَا قَوْلُنَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا مَالِكٌ لِلصَّيْدِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ، فَيَسْتَصْحِبُ حُكْمَ الْمِلْكِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا مَالِكٌ لِمَا فِي يَدِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ، فَيَسْتَصْحِبُ الْمِلْكَ بَعْدَ الرِّدَّةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ الْمِعْمَارِ الْبَغْدَادِيُّ: قَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَالصَّيْرَفِيُّ: وَهُوَ دَلِيلٌ يَعْنِي اسْتِصْحَابَ حَالِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا:» أَيْ: عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَنَّ «الْإِجْمَاعَ» فِي صُورَةِ التَّيَمُّمِ مَثَلًا «إِنَّمَا حَصَلَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ» . أَمَّا حَالَ وُجُودِهِ «فَهُوَ» «مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْخِلَافُ يُضَادُّ الْإِجْمَاعَ» فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَا يَبْقَى الْإِجْمَاعُ مَعَ الْخِلَافِ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ مَثَلًا، كَمَا أَنَّ النَّفْيَ الْأَصْلِيَّ الدَّالَّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ لَا يَبْقَى مَعَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ النَّاقِلِ عَنْ حُكْمِ النَّافِي، لِكَوْنِهِ يُضَادُّهُ. وَهَذَا «بِخِلَافِ الْعُمُومِ وَالنَّصِّ، وَدَلِيلِ الْعَقْلِ» كَالْقِيَاسِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحُكْمِ «لَا يُنَافِيهَا» «فَيَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهَا» مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَلَا كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، فَإِنَّ الْخِلَافَ يُنَافِيهِ، فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ مَعَهُ.
احْتَجَّ الْخَصْمُ بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ قَبْلَ الْخِلَافِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ دَوَامُهُ لِمَا سَبَقَ، فَيَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ دَائِمَ الثُّبُوتِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(3/157)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ دَوَامُهُ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُنَافِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخِلَافَ الْحَادِثَ يُنَافِي الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَبْقَى الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَيْضًا ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَدِلَّةُ مُنْحَصِرَةٌ فِي النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي صُورَةِ التَّيَمُّمِ وَالطَّهَارَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْخَارِجِ مَثَلًا.
فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِصْحَابُ ضَرْبٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
قُلْنَا: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا يُنَافِيهِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
فَائِدَةٌ: الْقَاعِدَةُ الْعَقْلِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ: أَنَّ الْأَقْوَى لَا يُرْفَعُ بِالْأَضْعَفِ، فَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: إِنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ قَاطِعَةٌ، وَقَدْ رَفَعَهَا الشَّرْعُ بِالْقِيَاسِ فِي التَّكْلِيفَاتِ، وَبِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ كَرَجُلَيْنِ، وَرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَهَذِهِ أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ قَدْ رَفَعَتِ الْبَرَاءَةَ الْقَاطِعَةَ، فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا بَرَاءَةَ الْوَاحِدِ مِنَّا مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَةِ مِنْ وُلُوغٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمِنْ تَحْرِيمِ شُرْبِ النَّبِيذِ، ثُمَّ شَغَلْنَا ذِمَّتَهُ بِوُجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ صَلِّي فِيهِ، وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ. . . الْحَدِيثَ، وَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أُمِرْنَا أَنْ نَغْسِلَ الْأَنْجَاسَ سَبْعًا. وَشَغَلْنَاهَا بِتَحْرِيمِ النَّبِيذِ بِقِيَاسِهِ عَلَى الْخَمْرِ فَكَيْفَ هَذَا؟
(3/158)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْجَوَابُ: أَمَّا التَّكَالِيفُ الشَّرْعِيَّةُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ مِنْهَا، بَلِ الْأَصْلُ اشْتِغَالُهَا بِهَا، نَظَرًا إِلَى أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَمَّا اسْتَخْرَجَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمَرَهُمْ بِالسُّجُودِ، فَسَجَدُوا، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ أَنَّهُ إِذَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ بِالتَّوْحِيدِ، وَالتَّكَالِيفِ بِالْعِبَادَاتِ أَنْ يُطِيعُوا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 172] . فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ ; الذِّمَمُ مَشْغُولَةٌ بِالتَّوْحِيدِ وَأَحْكَامِهِ وَفُرُوعِهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِحَقِّ الْأَصْلِ فِيهَا.
وَإِنَّمَا انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا فِيمَا بَيْنَ يَوْمِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِ، وَيَوْمِ بُلُوغِهِ حَدَّ التَّكْلِيفِ، لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي عِلْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - كَمَا يَنْقَطِعُ فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ، بِالْجُنُونِ وَالْحَيْضِ، وَبِأَسْبَابِ الرُّخَصِ. وَحِينَئِذٍ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ لَيْسَ رَافِعًا لِلْبَرَاءَةِ الْقَاطِعَةِ مِنَ التَّكْلِيفِ، بَلْ مُؤَكِّدٌ وَمُجَدِّدٌ لِاشْتِغَالِهَا الْأَصْلِيِّ بِهِ، وَالضَّعِيفُ قَدْ يُؤَكِّدُ الْقَوِيَّ وَلَا يَرْفَعُهُ، وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: الْأَصْلُ عَدَمُ التَّكْلِيفِ ; إِنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى زَمَنِ وُجُودِ الْمُكَلَّفِ فِي هَذِهِ
(3/159)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَيَاةِ، وَهَذِهِ النَّشْأَةِ، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى أَوَّلِ أَزْمِنَةِ التَّكْلِيفِ، فَهُوَ يَوْمُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّظَرُ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ.
وَأَمَّا رَفْعُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، فَنَقُولُ: الْمَقْطُوعُ بِهِ فِي الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ عَدَمِ اشْتِغَالِهَا بِالْحَقِّ الْمُدَّعَى بِهِ.
أَمَّا دَوَامُ ذَلِكَ الْعَدَمِ إِلَى حِينِ الدَّعْوَى، فَلَا قَاطِعَ بِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا الْغَرِيمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ حَقِّ خَصْمِهِ، شَغَلَهَا بِأَنْ غَصَبَهُ، أَوِ اقْتَرَضَ مِنْهُ، أَوِ اشْتَرَى مِنْهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَالْمُدَّعِي يَدَّعِي تَجْدِيدَ شَغْلِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ فَرَاغِهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَدَّعِي اسْتِمْرَارَ فَرَاغِ ذِمَّتِهِ وَدَوَامَهُ، فَصَارَ اخْتِلَافُهُمَا فِي دَوَامِ فَرَاغِ الذِّمَّةِ وَعَدَمِهِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى فَرَاغِهَا الْأَصْلِيِّ، كَالِاخْتِلَافِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ. وَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ الْبَيِّنَةُ الشَّرْعِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ رَافِعَةً لِأَمْرٍ قَطْعِيٍّ، لِأَنَّ الْقَطْعِيَّ هُوَ ثُبُوتُ مُجَرَّدِ عَدَمِ شَغْلِ الذِّمَّةِ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تَرْفَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَرْفَعُ دَوَامَ ذَلِكَ الْعَدَمِ، وَهُوَ ظَنِّيٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَصَارَتِ الْبَيِّنَةُ كَالْمُرَجِّحِ لِقَوْلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ الْمُتَنَازِعَيْنِ، وَهُوَ الْمُدَّعِي.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا تَقْرِيرٌ مُتَّجِهٌ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا قَرَّرَهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا جُعِلَتْ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لِأَنَّ جَانِبَ الْمُدَّعِي ضَعِيفٌ، لِدَعْوَاهُ خِلَافَ الْأَصْلِ، وَهُوَ اشْتِغَالُ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فَرَاغُهَا، وَجَانِبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَوِيٌّ لِدَعْوَاهُ وَفْقَ الْأَصْلِ، وَهُوَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ
(3/160)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنَ الْحَقِّ، وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنَ الْيَمِينِ، فَجُعِلَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى فِي جَانِبِ الْأَضْعَفِ، وَالَّتِي هِيَ أَضْعَفُ فِي جَانِبِ الْأَقْوَى تَعْدِيلًا.
قُلْنَا: هَذَا لَا يُشْكِلُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ؛ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي كَوْنَ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُنْكِرُ رَاجِحًا، لَكِنَّ الرُّجْحَانَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَاطِعًا أَوْ غَيْرَ قَاطِعٍ، وَرُجْحَانُ جَانِبِ الْمُنْكِرِ غَيْرُ قَاطِعٍ؛ لِمَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ اخْتِلَافِهِمَا فِي دَوَامِ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ الْقَاطِعَةِ.
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: جَانِبُ الْمُنْكِرِ رَاجِحٌ لِحُصُولِ الْقَطْعِ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ بِالْجُمْلَةِ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ. فَلِهَذَا الرُّجْحَانِ ضَمَمْنَا إِلَيْهِ الْحُجَّةَ الضَّعِيفَةَ، وَهِيَ الْيَمِينُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الرُّجْحَانُ قَاطِعًا، حَتَّى يَكُونَ رَفْعُهُ بِالْبَيِّنَةِ الشَّرْعِيَّةِ رَفْعًا لِلْقَاطِعِ بِالظَّنِّيِّ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَنَافِي الْحُكْمِ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، خِلَافًا لِقَوْمٍ. وَقِيلَ: فِي الشَّرْعِيَّاتِ فَقَطْ» .
اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَدِلِّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ: مَا الْأَمْرُ كَذَا، أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَا، فَالْمَشْهُورُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ الَّذِي ادَّعَى نَفْيَهُ، وَلَا يَكْفِيهِ مُجَرَّدُ دَعْوَى النَّفْيِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ عَلَى النَّفْيِ، كَأَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِكَوْنِ دَعْوَاهُ مُوَافِقَةً لِلْأَصْلِ، وَهُوَ عَدَمُ الْأَشْيَاءِ وَانْتِفَاؤُهَا، فَمَنِ ادَّعَى وُجُودَهَا وَثُبُوتَهَا، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَلِهَذَا بَنَى بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟
إِنْ قُلْنَا: هُوَ حُجَّةٌ، فَلَا دَلِيلَ عَلَى النَّافِي
وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
(3/161)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَهَذَا التَّفْرِيعُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا رُجْحَانَ وُجُوبِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِنَا: إِنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ «فِي الشَّرْعِيَّاتِ» نَحْوُ: لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لِلصَّلَاةِ، وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ نَحْوُ: لَيْسَ الْعَالَمُ بِقَدِيمٍ.
(3/162)
________________________________________
لَنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} وَالدَّعْوَى نَفْيُهُ، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْ دَعْوَاهُ بِعِبَارَةٍ نَافِيَةٍ، كَقَوْلِ مُدَّعِي حُدُوثَ الْعَالَمِ: لَيْسَ بِقَدِيمٍ، وَقِدَمُهُ لَيْسَ بِمُحْدَثٍ، فَيَسْقُطُ الدَّلِيلُ عَنْهُمَا فَتَعُمُّ الْجَهَالَةُ وَيَقَعُ الْخَبْطُ وَيَضِيعُ الْحَقُّ، وَطَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى النَّفْيِ بَيَانُ لُزُومِ الْمُحَالِ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَنَحْوِهِ.
قَالُوا: النَّفْيُ أَصْلِيُّ الْوُجُودِ، فَاسْتُغْنِيَ عَنِ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَلْزَمُهُ دَلِيلٌ.
قُلْنَا: الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الدَّلِيلِ لَا يُسْقِطُهُ، وَتَعَذُّرُهُ مَمْنُوعٌ، وَانْتِفَاءُ الدَّلِيلِ عَنِ الْمَدِينِ مَمْنُوعٌ، إِذِ الْيَمِينُ دَلِيلٌ، وَإِنْ سُلِّمَ فَلِتَعَذُّرِهِ، إِذِ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ لِتَعَذُّرِهَا، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ يَدِهِ عَلَى مِلْكِهِ أَغْنَاهُ عَنِ الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِجْمَاعِيٌّ كَنَفْيِ صَلَاةِ الضُّحَى، أَوْ نَصِّيٌّ كَنَفْيِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، أَوْ قِيَاسِيٌّ كَإِلْحَاقِ الْخُضْرَاوَاتِ بِالرُّمَّانِ فِي نَفْيِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَعَلَى نَفْيِ الْعَقْلِيِّ مَا سَبَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا:» ، أَيْ: عَلَى أَنَّ نَافِيَ الْحُكْمِ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَلْزَمَ النَّافِيَ الدَّلِيلَ فِي مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ، فَلَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ، لَمَا أَلْزَمَهُ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَدْلٌ فِي مُنَاظَرَتِهِ، وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - حِكَايَةً عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى:
(3/163)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [الْبَقَرَةِ: 111] ، فَهَذِهِ دَعْوَى نَافِيَةٌ، فَأَجَابَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [الْبَقَرَةِ: 111] ، ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمُطَالَبَتِهِمْ بِدَلِيلِ دَعْوَاهُمُ النَّافِيَةِ، فَقَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْبَقَرَةِ: 111] ، أَيْ: أَقِيمُوا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، وَهُوَ إِلْزَامٌ بِالدَّلِيلِ عَلَى دَعْوَى النَّفْيِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَافِيَ الْحُكْمِ لَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّلِيلُ، لَضَاعَ الْحَقُّ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَتَعَطَّلَ، لَكِنَّ تَعَطُّلَ الْحَقِّ بَاطِلٌ، فَالْمُفْضِي إِلَيْهِ بَاطِلٌ، إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْهُ لَتَعَطَّلَ الْحَقُّ، «لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُمْكِنُهُ» أَنْ يُعَبِّرَ «عَنْ دَعْوَاهُ بِعِبَارَةٍ نَافِيَةٍ» فَيَقُولُ الْمُدَّعِي لِحُدُوثِ الْعَالَمِ: «لَيْسَ بِقَدِيمٍ» وَيَقُولُ الْمُدَّعِي لِقِدَمِهِ: «لَيْسَ بِمُحْدَثٍ» . وَحِينَئِذٍ «يَسْقُطُ الدَّلِيلُ عَنْهُمَا» لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَافٍ لِلْحُكْمِ، وَإِذَا سَقَطَ الدَّلِيلُ عَنْهُمَا ضَاعَ الْحَقُّ، فَلَمْ يُعْلَمْ فِي أَيِّ طَرَفٍ هُوَ، إِذْ لَا يَظْهَرُ الْحَقُّ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَحِينَئِذٍ «تَعُمُّ الْجَهَالَةُ، وَيَقَعُ الْخَبْطُ» فِي الْأَحْكَامِ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تَعَطُّلَ الْحَقِّ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ تَعَطَّلَ لَقَامَ الْبَاطِلُ، إِذْ هُمَا ضِدَّانِ، أَوْ نَقِيضَانِ، لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَقِيَامُ الْبَاطِلِ وَظُهُورُهُ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ سُقُوطَ الدَّلِيلِ عَنِ النَّافِي بَاطِلٌ.
(3/164)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَطَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى النَّفْيِ بَيَانُ لُزُومِ الْمُحَالِ مِنَ الْإِثْبَاتِ وَنَحْوِهِ» أَيْ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّافِيَ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ، فَطَرِيقُ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ بَيَانُ لُزُومِ الْمُحَالِ مِنْ إِثْبَاتِهِ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَ مِنْهُ الْمُحَالُ يَكُونُ مُحَالًا، فَإِذَا لَزِمَ الْمُحَالُ مِنَ النَّفْيِ كَانَ النَّفْيُ مُحَالًا، فَيَكُونُ الْإِثْبَاتُ حَقًّا، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا.
مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: الْعَالَمُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدِيِمًا لَلَزِمَ تَأْثِيرُ إِرَادَةِ الصَّانِعِ وَقُدْرَتِهِ فِيهِ، لَكِنَّ تَأْثِيرَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي الْقَدِيمِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ أَثَرًا، وَكُلُّ أَثَرٍ مُحْدَثٍ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَنْقَلِبَ الْقَدِيمُ مُحْدَثًا، وَهُوَ مُحَالٌ، فَهَذَا الْمُحَالُ قَدْ لَزِمَ مِنْ إِثْبَاتِ قِدَمِ الْعَالَمِ، فَيَكُونُ مُحَالًا، وَإِذَا اسْتَحَالَ الْقِدَمُ، تَعَيَّنَ الْحُدُوثُ، إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بِغَيْرِ هَذِهِ الطَّرِيقِ، عَلَى حَسَبِ مَا يَتَّفِقُ لِلْمُسْتَدِلِّ، وَيَسْنَحُ لِخَاطِرِهِ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا:» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: احْتَجَّ النَّافُونَ لِوُجُوبِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «النَّفْيَ أَصْلِيُّ الْوُجُودِ» يَعْنِي أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْأَصْلِ، إِذِ الْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَمَّا سِوَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَكُلُّ شَيْءٍ يُسْتَدَلُّ عَلَى نَفْيِهِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي جُمْلَةِ الْعَالَمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَالَمِ الْعَدَمُ وَالِانْتِفَاءُ، وَإِذَا كَانَ الْعَدَمُ وَالِانْتِفَاءُ ثَابِتًا بِحَقِّ الْأَصْلِ، اسْتُغْنِيَ عَنْ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّيْنُ» أَيْ: مَنِ ادُّعِيَ عَلَيْهِ دَيْنٌ «لَا
(3/165)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَلْزَمُهُ دَلِيلُ» بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ؛ لِثُبُوتِهَا بِحَقِّ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْبَيِّنَةُ الْمُدَّعِيَ؛ لِدَعْوَاهُ خِلَافَ الْأَصْلِ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بَعْدَ انْتِفَائِهِ، وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ مَرْجِعُهُمَا أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ اسْتِغْنَاءُ مَا ثَبَتَ بِحَقِّ الْأَصْلِ عَنِ الدَّلِيلِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» إِلَى آخِرِهِ، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ: أَنَّ «الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ الدَّلِيلِ لَا يُسْقِطُهُ» إِذَا قَامَ دَلِيلُ وُجُوبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِمَا سَبَقَ، «وَتَعَذُّرُهُ مَمْنُوعٌ» . أَيْ: إِنِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ الدَّلِيلَ مُتَعَذِّرٌ عَلَى النَّفْيِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، مَنَعْنَا تَعَذُّرَهُ مُطْلَقًا بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إِمْكَانِهِ بِبَيَانِ لُزُومِ الْمُحَالِ مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَأَمَّا «انْتِفَاءُ الدَّلِيلِ عَنِ» الْمَدْيُونِ، فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا، إِذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُنْكِرَ الدَّيْنِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَهُوَ الْيَمِينُ، وَهِيَ وَإِنْ قَصُرَتْ فِي الْقُوَّةِ عَنِ الْبَيِّنَةِ، لَا تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا دَلِيْلًا، إِذِ الْأَدِلَّةُ مِنْهَا الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ لَيْسَتْ دَلِيلًا، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّلِيلَ إِنَّمَا سَقَطَ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّا لَوْ كَلَّفْنَاهُ دَلِيلًا، لَكَانَ دَلِيلُهُ الْبَيِّنَةَ، كَمَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ إِنَّمَا تَصِحُّ شَهَادَتُهَا بِالْإِثْبَاتِ، فَلَوْ أَوْجَبْنَاهَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَكَانَتْ شَهَادُتُهَا لَهُ بِالنَّفْيِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُدَّعِي قِبَلَهُ، لَكِنَّ «الشَّهَادَةَ عَلَى النَّفْيِ بَاطِلَةٌ» ؛ لِجَوَازِ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِي حَالِ نَوْمِهَا، أَوْ غَفْلَتِهَا، أَوْ غَيْبَتِهَا وَضَبْطِهَا لِلزَّمَانِ، بِحَيْثُ تَحَقَّقَ أَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مُتَعَذِّرٌ، فَسَقَطَ الدَّلِيلُ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَاهُنَا لِتَعَذُّرِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الدَّلِيلِ فِي
(3/166)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَوْضِعٍ خَاصٍّ لِمَانِعٍ خَاصٍّ سُقُوطُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدٌ، كَمَا لَوِ ادَّعَى زَيْدٌ عَيْنًا فِي يَدِ عَمْرٍو، فَأَنْكَرَهُ عَمْرٌو، فَعَمْرٌو لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ يَدِهِ عَلَى مِلْكِهِ قَامَ مَقَامَ الدَّلِيلِ، فَأَغْنَاهُ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «وَالدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِجْمَاعِيٌّ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا بَيَانُ أَنْوَاعِ مَدَارِكِ نَفْيِ الْحُكْمِ، أَيْ: حَيْثُ قَدْ أَثْبَتْنَا أَنَّ نَافِيَ الْحُكْمَ يَلْزَمُهُ الدَّلِيلُ مُطْلَقًا، فَالْحُكْمُ إِمَّا شَرْعِيٌّ أَوْ عَقْلِيٌّ.
أَمَّا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، فَقَدْ يَكُونُ مَدْرَكُ نَفْيِهِ الْإِجْمَاعَ، «كَنَفْيِ» وُجُوبِ «صَلَاةِ الضُّحَى» ، فَإِنَّهَا بِالْإِجْمَاعِ لَا تَجِبُ، لَكِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَقَدْ يَكُونُ مَدْرَكُهُ النَّصَّ، «كَنَفْيِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ» وَالْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ وَلَيْسَ فِي الْكُسْعَةِ وَلَا فِي الْجَبْهَةِ صَدَقَةٌ وَالْكُسْعَةُ: الْحَمِيرُ، وَالْجَبْهَةُ:
(3/167)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْخَيْلُ، وَقَدْ يَكُونُ مَدْرَكُهُ الْقِيَاسَ، كَقَوْلِنَا: لَا زَكَاةَ فِي الْخُضْرَاوَاتِ، بِالْقِيَاسِ عَلَى الرُّمَّانِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا زَكَاةَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ، فَالدَّلِيلُ عَلَى نَفْيِهِ «مَا سَبَقَ» يَعْنِي مِنْ لُزُومِ الْمُحَالِ مِنْ إِثْبَاتِهِ، وَدَلِيلُ التَّلَازُمِ نَحْوُ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 22] ، لَكِنَّهُمَا مَا فَسَدَتَا، فَلَزِمَ أَنْ لَا إِلَهَ فِيهِمَا إِلَّا اللَّهُ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ، وَفَسَادُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَازِمٌ لِوُجُودِ إِلَهَيْنِ فَأَكْثَرَ، فَانْتِفَاءُ الْفَسَادِ فِيهِمَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ آلِهَةٍ غَيْرِ اللَّهِ فِيهِمَا، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/168)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهُ - شَرْعٌ لَنَا فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، اخْتَارَهُ التَّمِيمِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ، وَالثَّانِي: لَا، وَلِلشَّافِعِيَّةِ كَالْقَوْلَيْنِ.
الْمُثْبَتُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} الْآيَةَ، وَدِلَالَتُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ، {اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ: السِّنُّ بِالسِّنِّ إِلَّا مَا حُكِيَ فِيهِ عَنِ التَّوْرَاةِ، وَرَاجَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّوْرَاةَ فِي رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ بِـ {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} عَلَى قَضَاءِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا.
وَأُجِيبُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَاتِ: التَّوْحِيدُ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الشَّرَائِعِ، وَ «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» إِشَارَةٌ إِلَى عُمُومِ: {فَمَنِ اعْتَدَى} ، أَوِ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ، وَمُرَاجَعَتُهُ التَّوْرَاةَ تَحْقِيْقًا لِكَذِبِهِمْ وَإِنَّمَا حَكَمَ بِالْقُرْآنِ، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قِيَاسٌ أَوْ تَأْكِيدٌ لِدَلِيلِهِ بِهِ، أَوْ عَلِمَ عُمُومَهُ لَهُ، لَا حُكْمٌ بِشَرْعِ مُوسَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ ":
لَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْأُصُولِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَهِيَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ، أَخَذَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأُصُولِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ أَيْضًا: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَالِاسْتِحْسَانُ، وَالِاسْتِصْلَاحُ.
قَوْلُهُ: " أَحَدُهَا "، أَيْ: أَحَدُ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ: " شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَسْخُهُ - شَرْعٌ لَنَا ". أَيْ: شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا إِنْ وَرَدَ نَاسِخُهُ فِي شَرْعِنَا، فَلَيْسَ شَرْعًا
(3/169)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَنَا، وَإِنْ لَمْ يَرِدْ لَهُ نَاسِخٌ فِي شَرْعِنَا، فَهُوَ شَرْعٌ لَنَا " فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ " عَنْ أَحْمَدَ، وَ " اخْتَارَهُ التَّمِيمِيُّ " مِنْ أَصْحَابِنَا " وَالْحَنَفِيَّةُ ".
قَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْقَوْلُ " الثَّانِي " لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، " وَلِلشَّافِعِيَّةِ كَالْقَوْلَيْنِ ".
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَاخْتَارَهُ.
قَوْلُهُ: " الْمُثْبِتُ " أَيِ: احْتَجَّ الْمُثْبِتُ لِكَوْنِهِ شَرْعًا لَنَا بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [الْمَائِدَةِ: 44] " وَدَلَالَتُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ ":
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَعَلَهَا مُسْتَنَدًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي آخِرِهَا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [الْمَائِدَةِ: 44] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ: قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مُخَاطِبًا لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الْأَنْعَامِ: 90] يَعْنِي أَنْبِيَاءَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَمْرُهُ لَهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ يَقْتَضِي أَنَّ شَرْعَهُمْ شَرْعٌ لَهُ قَطْعًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النَّحْلِ: 123] ; أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ، وَهِيَ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، ثُمَّ أَمَرَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
(3/170)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الْأَنْعَامِ: 161] ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشُّورَى: 13] الْآيَةَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّرْعَيْنِ سَوَاءٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِتَرْجَمَةِ الْمَسْأَلَةِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ بِالْقِصَاصِ فِي السِّنِّ، " وَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ: السِّنُّ بِالسِّنِّ إِلَّا مَا حُكِيَ فِيهِ عَنِ التَّوْرَاةِ " بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: " {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ} إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [الْمَائِدَةِ: 45] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَلَمْ يَكُنْ شَرْعًا لَهُ، لَمَّا قَضَى بِهِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " رَاجَعَ التَّوْرَاةَ فِي رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ " مِنَ الْيَهُودِ، فَلَمَّا وَجَدَ فِيهَا أَنَّهُمَا يُرْجَمَانِ، رَجَمَهُمَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - " اسْتَدَلَّ " عَلَى وُجُوبِ " قَضَاءِ الْمَنْسِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِهَا " بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طَهَ: 14] ، وَإِنَّمَا الْخِطَابُ فِيهَا لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ لَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْزِلًا، فَنَامَ فِيهِ وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى فَاتَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، أَمَرَهُمْ، فَخَرَجُوا عَنِ الْوَادِي، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ
(3/171)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصُّبْحَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ.
فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ احْتَجَّ بِهَا مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا.
قَوْلُهُ: " وَأُجِيبَ "، أَيْ: أَجَابَ النَّافُونَ لِذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ السَّبْعَةِ بِأَنْ قَالُوا: " إِنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَاتِ " الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَوْجُهِ الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ إِنَّمَا هُوَ " التَّوْحِيدُ وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ " الْمَعْرُوفَةُ بِأُصُولِ الدِّينِ، وَمَا يَجُوزُ عَلَى الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ، " وَهِيَ " أَيِ: الْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ " مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الشَّرَائِعِ " كُلِّهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِنَا: اللَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ أَزَلِيٌّ بَاقٍ سَرْمَدِيٌّ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، خَالِقٌ لِلْعَالَمِ، مُرْسِلٌ لِلرُّسُلِ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، لَيْسَ بِجَائِرٍ وَلَا ظَالِمٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لَا أَنَّ شَرْعَ مِنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا فِي فُرُوعِ الدِّينِ، بِدَلِيلِ مَا سَيَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَدِلَّتِنَا عَلَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَلَيْسَ إِشَارَةً إِلَى حُكْمِ التَّوْرَاةِ، بَلْ إِمَّا إِلَى عُمُومِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 194] ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْعُدْوَانَ فِي السِّنِّ وَغَيْرِهَا، أَوْ إِلَى عُمُومِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [الْمَائِدَةِ: 45] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (وَالْجُرُوحُ) بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ كِتَابِنَا وَشَرْعِنَا، لَا مِنَ التَّوْرَاةِ وَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا.
(3/172)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا " مُرَاجَعَتُهُ التَّوْرَاةَ " فِي رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ فَلَيْسَ عَلَى جِهَةِ اسْتِفَادَةِ الْحُكْمِ مِنْهَا بَلْ تَحْقِيْقًا لِكَذِبِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُ رَآهُمْ سَوَّدُوا وُجُوهَهُمَا، وَطَافُوا بِهِمَا بَيْنَ النَّاسِ، فَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّانِي، فَاسْتَدْعَى بِالتَّوْرَاةِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا الْحُكْمَ بِالرَّجْمِ " تَحْقِيقًا لِكَذِبِهِمْ " عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَحْرِيفِهِمُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي مَوْضِعِ: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 93] ، " وَإِنَّمَا حَكَمَ بِالْقُرْآنِ " بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ ". وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا مِمَّا نُسِخَ خَطُّهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ.
قُلْتُ: لَكِنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ أَنَّ قِصَّةَ الْيَهُودِيَّيْنِ كَانَتْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الرَّجْمِ الْمَذْكُورَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طَهَ: 14] ، فَهُوَ إِمَّا " قِيَاسٌ " لِنَفْسِهِ عَلَى مُوسَى فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِذِكْرِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ: عِنْدَ ذِكْرِهِ، " أَوْ تَأْكِيدٌ " مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لِدَلِيلِهِ " عَلَى قَضَاءِ الصَّلَاةِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ خَطَابًا لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلِمَ عُمُومَ الْآيَةِ لَهُ، " لَا " أَنَّهُ " حَكَمَ بِشَرْعِ مُوسَى " عَلَيْهِ السَّلَامُ.
(3/173)
________________________________________
النَّافِي: لَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا لَمَا صَحَّ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} وَ «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» ، إِذْ يُفِيدَانِ اخْتِصَاصَ (كُلٍّ) بِشَرِيعَةٍ، وَلَلَزِمَهُ وَأُمَّتَهُ تَعَلُّمُ كُتُبِهِمْ، وَالْبَحْثُ عَنْهَا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ النَّصِّ فِي شَرْعِهِ، وَلَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْوَحْيِ فِي الظِّهَارِ وَاللِّعَانِ وَالْمَوَارِيثِ وَنَحْوِهَا، وَلَمَا غَضِبَ حِينَ رَأَى بِيَدِ عُمَرَ قِطْعَةً مِنَ التَّوْرَاةِ، وَلَكَانَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِهِ وَمُنَاقَضَةٌ لِقَوْلِهِ: «لَوْ كَانَ» مُوسَى حَيًّا لَاتَّبَعَنِي، وَلَمَا صَوَّبَ مُعَاذًا فِي انْتِقَالِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الِاجْتِهَادِ، لَا يُقَالُ: الْكِتَابُ تَنَاوَلَ التَّوْرَاةَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمْ يُعْهَدْ مِنْ مُعَاذٍ اشْتِغَالٌ بِهَا وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ فِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْقُرْآنِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلَيْنِ: بِأَنَّ اشْتِرَاكَ الشَّرِيعَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَنْفِي اخْتِصَاصَ كُلِّ نَبِيٍّ بِشَرِيعَةٍ اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ، وَعَنِ الْبَاقِي بِأَنَّهَا حُرِّفَتْ فَلَمْ تُنْقُلْ إِلَيْهِ مَوْثُوقًا بِهَا، وَالْكَلَامُ فِيمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِذَا تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِهَا فَلَا غَضَّ وَلَا تَبَعِيَّةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " النَّافِي "، أَيْ: النَّافِي لِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْعٍ لَنَا بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: " لَوْ كَانَ " شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا " شَرْعًا لَنَا، لَمَا صَحَّ " قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [الْمَائِدَةِ: 48] ، وَلَمَا صَحَّ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، " إِذْ يُفِيدَانِ "
(3/174)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْنِي: الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ " اخْتِصَاصَ كُلٍّ " مِنَ الرُّسُلِ " بِشَرِيعَةٍ "، لَكِنْ قَدْ صَحَّ مَضْمُونُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ، فَلَا يَكُونُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعًا لَنَا.
الثَّانِي: لَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا، لَلَزِمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَأُمَّتَهُ تَعَلُّمَ كُتُبِهِمْ "، أَيْ: كُتُبُ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، " وَالْبَحْثُ عَنْهَا، وَالرُّجُوعُ إِلَيْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ النَّصِّ فِي شَرْعِهِ " عَلَى حَادِثَةٍ مَا، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا.
الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا " لَمَا تَوَقَّفَ " النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " فِي الظِّهَارِ، وَاللِّعَانِ، وَالْمَوَارِيثِ وَنَحْوِهَا " مِنَ الْأَحْكَامِ " عَلَى الْوَحْيِ "، لَكِنْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى الْوَحْيِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ شَرْعَهُمْ لَيْسَ شَرْعًا لَنَا، وَإِلَّا لَبَادَرَ بِاسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ مِنْ كُتُبِهِمْ وَالسُّؤَالِ عَنْهُ فِيهَا لِأَنَّهَا مَنْ شَرْعِهِ كَالْقُرْآنِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى يَوْمًا بِيَدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قِطْعَةً مِنَ التَّوْرَاةِ، فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَا هَذَا؟ أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى! لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي، وَلَوْ كَانَ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا، " لَمَا غَضِبَ " مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَا يَغْضَبُ مِنَ النَّظَرِ فِي الْقُرْآنِ.
الْخَامِسُ: لَوْ كَانَ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا، " لَكَانَ " النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " تَبَعًا لِغَيْرِهِ " فِي الشَّرْعِ، وَفِي ذَلِكَ " غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِهِ وَمُنَاقَضَةٌ لِقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا
(3/175)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَاتَّبَعَنِي إِذْ يَكُونُ تَابِعًا لِمُوسَى مَتْبُوعًا لَهُ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِ فِي عَصْرِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ.
السَّادِسُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ لَهُ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَصَوَّبَ مُعَاذًا فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعًا لَنَا، لَمَّا صَوَّبَهُ، بَلْ كَانَ يَقُولُ لَهُ: إِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَسُنَّتِي شَيْئًا، فَاطْلُبِ الْحُكْمَ فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، ثُمَّ اجْتَهَدْ رَأْيَكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: " وَلَمَا صَوَّبَ مُعَاذًا فِي انْتِقَالِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الِاجْتِهَادِ ".
قَوْلُهُ: " لَا يُقَالُ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ، أَيْ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَحْكُمُ بِكِتَابِ اللَّهِ. عَامٌّ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا مَنْ كُتُبِ مَنْ قَبْلَنَا، وَلِذَلِكَ صَحَّ تَنَزُّلُهُ فِي مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ، وَاتَّجَهَ تَصْوِيبُهُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّا نَقُولُ: " لَمْ يُعْهَدْ مِنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشْتِغَالٌ " بِالتَّوْرَاةِ وَنَحْوِهَا حَتَّى يُحْمَلَ الْكِتَابُ فِي قَوْلِهِ: أَحْكُمُ بِكِتَابِ اللَّهِ، عَلَى مَا يَتَنَاوَلُهَا مَعَ الْقُرْآنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ " إِطْلَاقَ الْكِتَابِ " وَكِتَابُ اللَّهِ " فِي عُرْفِ الْإِسْلَامِ
(3/176)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَنْصَرِفُ إِلَى الْقُرْآنِ "، فَيُحْمَلُ الْكِتَابُ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَيْهِ. وَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، فَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَلَّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ هُوَ بِشَرْعٍ لَنَا. فَهَذِهِ سِتَّةُ أَوْجُهٍ تَدَلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَوْلُهُ: " وَأُجِيبَ "، أَيْ: أَجَابَ الْمُثْبِتُونَ عَنِ الْوُجُوهِ السِّتَّةِ بِمَا ذُكِرَ.
فَأُجِيبَ " عَنِ الْأَوَّلَيْنِ " ; وَهْمَا: لَوْ كَانَ شَرْعُهُمْ شَرْعًا لَنَا، لَمَا صَحَّ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} ، وَلَا قَوْلُهُ: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ " بِأَنَّ اشْتِرَاكَ الشَّرِيعَتَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ لَا يَنْفِي اخْتِصَاصَ كُلِّ نَبِيٍّ بِشَرِيعَةٍ اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ "، وَهُوَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَيْ: إِنَّ الشَّرِيعَتَيْنِ إِذَا اشْتَرَكَتَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَاخْتَلَفَتَا فِي بَعْضِهَا، صَحَّ أَنْ يَكُونَ شَرْعُ إِحْدَى الشَّرِيعَتَيْنِ شَرْعًا لِمَنْ بَعْدَهَا بِاعْتِبَارِ الْبَعْضِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَصَحَّ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنَ النَّبِيِّينَ شِرْعَةٌ وَمِنْهَاجٌ بِاعْتِبَارِ الْبَعْضِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَنَافٍ. وَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً} لَا يَنْفِي كَوْنَ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعًا لَنَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُفِيدُ اخْتِصَاصَهُ بِشَرِيعَةٍ لَا يَشُوبُهَا شَيْءٌ مِنْ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لِجَوَازِ أَنَّهُ بُعِثَ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ أَوْ بِبَعْضِهِ.
وَأُجِيبَ " عَنِ الْبَاقِي "، أَيْ: بَاقِي الْوُجُوهِ بِأَنَّ كُتُبَ مَنْ قَبْلَهُ " حُرِّفَتْ، فَلَمْ تُنْقَلْ إِلَيْهِ مَوْثُوقًا بِهَا "، فَلِذَلِكَ لَمْ يَطْلُبْ أَحْكَامَ الْوَقَائِعِ الْعَارِضَةِ لَهُ فِيهَا، وَلِذَلِكَ غَضِبَ مِنْ نَظَرِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِطْعَةٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَصَوَّبَ مُعَاذًا
(3/177)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي انْتِقَالِهِ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَرْكَ ذِكْرِ كُتُبِ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيمَا حُرِّفَ مِنْهَا، وَلَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ، إِنَّمَا " الْكَلَامُ فِيمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَحْكَامِهَا "، فَذَلِكَ الَّذِي هُوَ شَرْعٌ لَهُ لَا غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: " وَإِذَا تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِهَا "، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهِ الْخَامِسِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " لَوْ كَانَ شَرْعًا لَنَا، لَكَانَ " النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " تَبَعًا لِغَيْرِهِ "؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ بِتَحْرِيفِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ لَمْ يَنْتَظِمْهُ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا تَعَبَّدَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ وَبِمُقْتَضَى كُتُبِهِمْ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِهِ، وَلَا جَعْلُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُطِيعٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، لَا لِمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، فَهُوَ كَالْمَلَائِكَةِ لَمَّا أُمِرُوا بِالسُّجُودِ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ غَضٌّ عَلَيْهِمْ، وَلَا نَقْصٌ؛ لِأَنَّ سُجُودَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا كَانَ طَاعَةً لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ، لَا لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَبِالْجُمْلَةِ إِذَا كَانَتْ طَاعَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَمْ يَضُرُّهُ مَا كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْوَسَائِطِ وَالْأَسْبَابِ.
(3/178)
________________________________________
وَالْمَأْخَذُ الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّحْسِينُ الْعَقْلِيُّ، فَإِنَّ الْمُثْبِتَ يَقُولُ: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ حُسْنُهَا ذَاتِيٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فَهِيَ حَسَنَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا فَتَرْكُنَا لَهَا قَبِيحٌ، وَالنَّافِي يَقُولُ: حُسْنُهَا شَرْعِيٌّ إِضَافِيٌّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حَسَنًا فِي حَقِّهِمْ قَبِيحًا فِي حَقِّنَا، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا انْبَنَى الْخِلَافُ فِي جَوَازِ النَّسْخِ وَكَوْنِهِ رَفْعًا كَمَا سَبَقَ.
أَمَّا قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَقِيلَ: كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ لِشُمُولِ دَعْوَتِهِ لَهُ، وَقِيلَ: لَا؛ لِعَدَمِ وُصُولِهِ إِلَيْهِ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِزَمَنِ الْفَتْرَةِ، وَقِيلَ: التَّوَقُّفُ لِلتَّعَارُضِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَالْمَأْخَذُ الصَّحِيحُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ "، إِلَى آخِرِهِ. اعْلَمْ أَنَّا لَمَّا ذَكَرْنَا مَأْخَذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ كَمَا قَدْ رَأَيْتَ، لَمْ يَتَحَقَّقْ وَاحِدٌ مِنَ الْمَأْخَذَيْنِ، فَاحْتَجْنَا إِلَى أَنْ نَذْكُرَ لَهَا مَأْخَذًا وَجِيزًا صَحِيحًا ; وَهُوَ التَّحْسِينُ الْعَقْلِيُّ كَمَا سَبَقَ شَرْحُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ. نَقُولُ: " الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ حُسْنُهَا ذَاتِيٌّ "، أَيْ: لِذَوَاتِهَا، أَوْ لِأَوْصَافٍ قَامَتْ بِهَا، وَالْحُسْنُ الذَّاتِيُّ وَنَحْوُهُ " لَا يَخْتَلِفُ فِي شَرْعِنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، كَتَحْرِيمِ الْقَتْلِ، وَالزِّنَى، وَالْقَذْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتِ الْأَحْكَامُ حَسَنَةً حُسْنًا لَا
(3/179)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَتَغَيَّرُ، كَانَ تَرْكُنَا لَهَا قَبِيحًا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْحَسَنِ قَبِيحٌ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ الْقَبِيحِ حَسَنٌ.
" وَالنَّافِي " فِي الْمَسْأَلَةِ " يَقُولُ ": حُسْنُ الْأَحْكَامِ لَيْسَ ذَاتِيًّا، بَلْ هُوَ " شَرْعِيٌّ إِضَافِيٌّ "، أَيْ: هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ.
وَحِينَئِذٍ " يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ حَسَنًا فِي حَقِّهِمْ، قَبِيْحًا فِي حَقِّنَا "، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِهِ، وَنُهِينَا عَنْهُ، كَقَتْلِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي التَّوْبَةِ مِنَ الذَّنْبِ، كَانَ حَسَنًا فِي حَقِّ قَوْمِ مُوسَى بِقَوْلِهِ: {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 54] الْآيَةَ. وَهُوَ قَبِيحٌ فِي حَقِّنَا لِأَنَّا مَنْهِيُّونَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا التَّوْبَةُ عِنْدَنَا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ.
قَوْلُهُ: " وَعَلَى هَذَا أَيْضًا انْبَنَى الْخِلَافُ فِي جَوَازِ النَّسْخِ وَكَوْنِهِ رَفْعًا، كَمَا سَبَقَ " فِي بَابِ النَّسْخِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ.
أَمَّا جَوَازُ النَّسْخِ، فَلِأَنَّ الْمَانِعَ لَهُ يَقُولُ: إِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ حَسَنًا، كَانَ نَسْخُهُ قَبِيحًا، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا، فَابْتِدَاءُ شَرْعِهِ أَقْبَحُ، فَيَمْتَنِعُ النَّسْخُ.
وَالْمُجِيزُ لَهُ يَقُولُ: الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ تَابِعَانِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ الْآنَ بِشَيْءٍ، فَيَكُونُ حَسَنًا، وَأَنْ يَنْهَى عَنْهُ فِيمَا بَعْدُ، فَيَكُونُ قَبِيحًا.
وَأَمَّا الْخِلَافُ فِي كَيْفِيَّةِ النَّسْخِ، فَلِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، قَالَ: النَّسْخُ بَيَانُ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْحُسْنِ قَبِيحٌ، وَابْتِدَاءُ شَرْعِ الْقَبِيحِ أَقْبَحُ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ، قَالَ: النَّسْخُ رَفْعُ الْحُكْمِ، وَلَا قُبْحَ فِيمَا أَمَرَ
(3/180)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّرْعُ بِهِ، وَلَا حُسْنَ فِيمَا نَهَى عَنْهُ.
قَوْلُهُ: " أَمَّا قَبْلَ الْبَعْثَةِ "، إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا هُوَ فِيمَا بَعْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا بُدَّ، أَمَّا قَبْلَ بِعْثَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ:
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: " كَانَ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ " مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ " لِشُمُولِ دَعْوَتِهِ لَهُ "، أَيْ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ دَعَا إِلَى شَرْعِهِ كُلَّ الْمُكَلَّفِينَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ الدَّعْوَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ هَلْ كَانَ بِشَرْعِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ أَوْ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
قُلْتُ: وَمُقْتَضَى دَلِيلِهِمْ أَنْ يَتَعَيَّنَ شَرْعُ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ عَمَّتْ، وَنَسَخَتْ مَا قَبِلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَبِعُمُومِهَا تَنَاوَلَتِ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبِنَسْخِهَا لِمَا قَبِلَهَا مَنَعَتْ مِنَ اتِّبَاعِهِ إِيَّاهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ.
أَمَّا عُمُومُ دَعْوَتِهِ فَلِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [الْمُؤْمِنُونَ: 50] ، {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 91] ، {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مَرْيَمَ: 21] ، وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ، أَيْ: آيَةٌ عَلَى سَعَادَةِ السُّعَدَاءِ بِاتِّبَاعِهِ، وَعَلَى شَقَاوَةِ الْأَشْقِيَاءِ بِمُخَالَفَتِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عُمُومَ الدَّعْوَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مَرْيَمَ: 31] ، أَيْ:
(3/181)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَنِ اتَّبَعَنِي كُنْتُ مُبَارَكًا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ عُمُومَ الدَّعْوَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - سَمَّاهُ نَاصِرًا لَهُ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ نَاصِرًا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ، كَانَ عَامَّ الدَّعْوَةِ، إِلَّا أَنْ يَقُومَ عَلَى اخْتِصَاصِهَا دَلِيلٌ.
أَمَّا أَنَّهُ كَانَ نَاصِرًا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ، فَلِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} [الصَّفِّ: 14] وَالتَّقْدِيرُ: كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا كَانَ عِيسَى وَالْحَوَارِيُّونَ أَنْصَارَ اللَّهِ.
وَأَمَّا أَنَّ مَنْ كَانَ نَاصِرًا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، كَانَ عَامَّ الدَّعْوَةِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ، فَلِأَنَّ نُصْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِهِ وَدِينِهِ الْحَقِّ، وَالْمَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ لِلدَّعْوَةِ بِبَعْضِ الْبِلَادِ كَاخْتِصَاصِ دَعْوَةِ لُوطٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِقُرَى سَدُومَ، أَوْ بِبَعْضِ الْقَبَائِلِ، كَاخْتِصَاصِ دَعْوَةِ شُعَيْبٍ بِمَدْيَنَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، اخْتُصَّتِ الدَّعْوَةُ بِمُوجِبِ الدَّلِيلِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الْمَائِدَةِ: 116] الْآيَةَ، وَلَفْظُ النَّاسِ عَامٌّ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَى النَّاسِ عُمُومًا، فَغَلَا بَعْضُهُمْ، فَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الْأَحْقَافِ: 35] ، وَعِيسَى مِنْهُمْ، وَكَانَتْ دَعْوَةُ أُولِي الْعَزْمِ عَامَّةً، فَكَذَلِكَ عِيسَى.
أَمَّا قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ}
(3/182)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[آلِ عِمْرَانَ: 48 - 49] ، فَلَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَدِلَّةِ عُمُومِ دَعْوَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ إِلَى النَّاسِ مُرْسَلٌ إِلَى كُلِّ جُزْءٍ وَطَائِفَةٍ مِنْهُمْ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ.
وَأَمَّا أَنَّ شَرِيعَتَهُ نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا مِنَ الشَّرَائِعِ، فَلِأَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى نَسَخَتْ مَا قَبْلَهَا، وَشَرِيعَةُ عِيسَى نَسَخَتْ شَرِيعَةَ مُوسَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 50] ، يَعْنِي فِي شَرْعِ التَّوْرَاةِ، وَذَلِكَ هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي نَسْخِ الشَّرِيعَةِ نَسْخُ جَمِيعِهَا، بَلْ يَكْفِي فِي تَسْمِيَتِهَا مَنْسُوخَةً نَسْخُ بَعْضِ أَحْكَامِهَا، بِدَلِيلِ أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَسَخَتْ كُلَّ شَرِيعَةٍ قَبْلَهَا، مَعَ أَنَّهَا قَرَّرَتْ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، فَلَمْ تُنْسَخْ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْتُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ قَبْلَ بِعْثَتِهِ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُعَيِّنَ لِذَلِكَ شَرِيعَةَ عِيسَى، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ ; مِنْهُمْ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ " إِلَيْهِ بِطَرِيقٍ عِلْمِيٍّ " لِطُولِ الْمُدَّةِ، وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّقَلَةِ، " وَهُوَ الْمُرَادُ بِزَمَنِ الْفَتْرَةِ " وأَيْضًا لِئَلَّا يَلْحَقَهُ الْغَضُّ بِتَبَعِيَّةِ مَنْ قَبْلَهُ.
وَتَوَقَّفَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الدَّلِيلِ فِيهِ، وَهُمُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَالْغَزَالِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.
قُلْتُ: مِنَ الْمُتَّجِهِ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالْإِلْهَامِ، أَيْ: يُلْهِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَاتٍ
(3/183)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَيَخْلُقُ فِيهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِمَشْرُوعِيَّتِهَا لَهُ، وَبِمَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهَا. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي تَعَبُّدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/184)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الثَّانِي: قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ: حُجَّةٌ، يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَيُخَصُّ بِهِ الْعَامُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ وَجَدِيدِ الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقِيلَ: الْحُجَّةُ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقِيلَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لِلْحَدِيثَيْنِ الْمَشْهُورَيْنِ.
لَنَا عَلَى الْعُمُومِ: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ وَخُصَّ فِي الصَّحَابِيِّ بِدَلِيلٍ.
قَالُوا: غَيْرُ مَعْصُومٍ فَالْعَامُّ وَالْقِيَاسُ أَوْلَى.
قُلْنَا: كَذَا الْمُجْتَهِدُ وَيَتَرَجَّحُ الصَّحَابِيُّ بِحُضُورِ التَّنْزِيلِ وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ، وَقَوْلُهُ أَخَصُّ مِنَ الْعُمُومِ فَيُقَدَّمُ.
وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُنْكَرَ عَلَى الْقَائِلِ قَوْلُهُ.
لَنَا: الْقِيَاسُ عَلَى تَعَارُضِ دَلِيلَيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا خَطَأٌ قَطْعًا.
قَالُوا: اخْتِلَافُهُمْ تَسْوِيغٌ لِلْأَخْذِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَرَجَعَ عُمَرُ إِلَى قَوْلِ مُعَاذَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي تَرْكِ رَجْمِ الْمَرْأَةِ.
قُلْنَا: إِنَّمَا سَوَّغُوا الْأَخْذَ بِالْأَرْجَحِ، وَرُجُوعُ عُمَرَ لِظُهُورِ رُجْحَانِ قَوْلِ مُعَاذٍ عِنْدَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " الثَّانِي "، أَيِ: الْأَصْلُ الثَّانِي مِنَ الْأُصُولِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا " قَوْلُ صَحَابِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ " هُوَ " حُجَّةٌ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَيُخَصُّ بِهِ الْعَامُّ " عِنْدَ " مَالِكٍ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِأَبِي الْخَطَّابِ وَجَدِيدِ " قَوْلَيْ " الشَّافِعِيِّ وَعَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ " حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْكَرْخِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ - يَعْنِي قَوْلَ
(3/185)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصَّحَابِيِّ - فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَيَكُونُ حُجَّةً لَا لَذَاتِهِ، بَلْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُجَّةِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ، وَإِذَا لَمْ يُخَالِفْهُ، احْتُمِلَ أَنَّهُ عَنِ اجْتِهَادٍ، فَيَكُونُ كَاجْتِهَادِ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " الْحُجَّةُ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ "؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدِي [" وَقِيلَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ] وَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَانَ هُمَا الْحَدِيثَانِ الْمَشْهُورَانِ الْمُشَارُ إِلَيْهِمَا فِي " الْمُخْتَصَرِ ".
قَوْلُهُ: " لَنَا عَلَى الْعُمُومِ "، أَيْ: عَلَى عُمُومِ كَوْنِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْمَذْكُورِ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِالشَّيْخَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ وَهُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِهِمْ، وَدَلَالَةُ الْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُمَا عَلَى الِاخْتِصَاصِ دَلَالَةُ مَفْهُومٍ ضَعِيفٍ، ثُمَّ مَفْهُومُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَارَضٌ بِمَفْهُومِ الْآخَرِ.
قَوْلُهُ: " وَخُصَّ فِي الصَّحَابِيِّ بِدَلِيلٍ ". هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ.
وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ هُوَ خِطَابٌ لِعَوَامِّ عَصْرِهِ، وَإِذْنٌ لَهُمْ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ فِي الْفُتْيَا، لَا أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عَلَى
(3/186)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُجْتَهِدِينَ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابِيَّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مُقْتَضَى الْحَدِيثِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ عَلَى صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ، عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ، إِمَامًا كَانَ الصَّحَابِيُّ، أَوْ حَاكِمًا، أَوْ مُفْتِيًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الصَّحَابِيُّ مُرَادًا مِنَ الْحَدِيثِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَوَامُّ وَهُوَ مَحَلُّ وِفَاقٍ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي عُمُومَ الِاقْتِدَاءِ بِكُلِّ صَحَابِيٍّ، وَلِكُلِّ صَحَابِيٍّ، لَكِنَّ الصَّحَابِيَّ خُصَّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِدَلِيلٍ، فَبَقِيَ الْحَدِيثُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِ مِنْ مُجْتَهِدِي التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي خُصَّ بِهِ الصَّحَابِيُّ مِنْ عُمُومِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، إِمَّا الْإِجْمَاعُ، أَوْ قَرِينَةُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُقْتَدِيًا بِغَيْرِهِ؛ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَتْبُوعُ تَابِعًا، وَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّيْنِ إِنْ كَانَا مُقَلِّدَيْنِ، فَحُكْمُهُمَا التَّقْلِيدُ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُقَلِّدًا، فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَا مُجْتَهِدَيْنِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِأَنْ يُقَلِّدَ الْآخَرَ مِنَ الْعَكْسِ، فَيَسْتَقِلُّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِاجْتِهَادِهِ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُ صَاحِبِهِ حُجَّةً عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا: غَيْرُ مَعْصُومٍ "، أَيِ: احْتَجَّ الْخَصْمُ بِأَنَّ الصَّحَابِيَّ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنَ الْخَطَأِ، فَيَكُونُ " الْعَامُّ وَالْقِيَاسُ أَوْلَى " مِنْ قَوْلِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُخَصُّ بِهِ الْعَامُّ، وَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِكَوْنِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا: كَذَا الْمُجْتَهِدُ "، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ غَيْرُ
(3/187)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعْصُومٍ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْعَامِّيِّ تَقْلِيدُهُ بِاتِّفَاقٍ، وَمُجْتَهِدُو الْأُمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُجْتَهِدِي الصَّحَابَةِ كَالْعَامَّةِ مَعَ الْعُلَمَاءِ؛ لِاخْتِصَاصِهِمْ " بِحُضُورِ التَّنْزِيلِ، وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ "، فَيَتَرَجَّحُونَ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ. " وَقَوْلُهُ " أَيْ: وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ " أَخَصُّ مِنَ الْعُمُومِ " وَأَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ، " فَيُقَدَّمُ " عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَالْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَدَلِيلُ قُوَّةِ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَوَاقِعَ الْأَدِلَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَمَا خَالَفَ الْعَامَّ وَالْقِيَاسَ إِلَّا عَنْ حُجَّةٍ وَبَيِّنَةٍ.
قَوْلُهُ: " وَإِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ، لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ الْأَخْذُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ "، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: إِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى قَوْلَيْنِ فَأَكْثَرَ، لَمْ يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ غَيْرِهِمُ الْأَخْذُ بِأَحَدِ الْأَقْوَالِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَجَازَ ذَلِكَ " بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَ " بَعْضُ " الْمُتَكَلِّمِينَ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُنْكَرَ " ذَلِكَ الْقَوْلُ الْمَأْخُوذُ بِهِ عَلَى قَائِلِهِ.
" لَنَا " عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: " الْقِيَاسُ عَلَى تَعَارُضِ دَلِيلَيِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ " وَأَوْلَى، أَيْ: إِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَا يَزِيدُ فِي الْقُوَّةِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ تَعَارَضَ دَلِيلَانِ مِنْهُمَا، لَمْ يَجُزِ الْأَخْذُ بِأَحَدِهِمَا إِلَّا بِتَرْجِيحٍ وَنَظَرٍ، فَكَذَلِكَ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ أَوْلَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ " خَطَأٌ قَطْعًا "؛ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الصَّوَابِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي جِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَإِذَا كَانَ أَحَدُ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ خَطَأً، فَالطَّرِيقُ إِلَى تَمْيِيزِ الْخَطَأِ مِنَ الصَّوَابِ لَيْسَ إِلَّا الدَّلِيلُ.
قَوْلُهُ: " قَالُوا "، إِلَى آخِرِهِ. أَيِ: احْتَجَّ الْخَصْمُ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِأَحَدِ
(3/188)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقَوْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اخْتِلَافَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ " تَسْوِيغٌ لِلْأَخْذِ بِكُلِّ " وَاحِدٍ " مِنْهُمَا "، فَيَكُونُ الْأَخْذُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا جَائِزًا بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَجَعَ إِلَى قَوْلِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي تَرْكِ رَجْمِ الْمَرْأَةِ، يَعْنِي أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ امْرَأَةً حَامِلًا لِأَجْلِ الزِّنَى، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ بْنُ جَبَلٍ: إِنْ كَانَ لَكَ سَبِيلٌ عَلَيْهَا ; فَلَيْسَ لَكَ سَبِيلٌ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا، فَرَجَعَ عُمَرُ إِلَى قَوْلِهِ، وَأَخَّرَهَا حَتَّى وَضَعَتْ. فَرُجُوعُهُ إِلَى قَوْلِ مُعَاذٍ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِدُونِ أَنْ يَسْتَعْلِمَ رَأْيَ غَيْرِهِ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ.
أَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: فَإِنَّ الصَّحَابَةَ بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ " إِنَّمَا سَوَّغُوا الْأَخْذَ بِالْأَرْجَحِ " مِنْهُمَا، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي تَرْجِيحًا وَاجْتِهَادًا، لَا أَنَّهُمْ سَوَّغُوا الْأَخْذَ بِأَحَدِهِمَا تَشَهِّيًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ.
وَأَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي، فَبِأَنَّ " رُجُوعَ عُمَرَ " إِلَى قَوْلِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّمَا كَانَ " لِظُهُورِ " رُجْحَانِهِ عِنْدَهُ، لَا أَنَّهُ أَخَذَ بُقُولِهِ تَقْلِيدًا وَتَشَهِّيًا، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/189)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ. وَهُوَ: اعْتِقَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا، ثُمَّ قَدْ قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: إِنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَهُوَ هَوَسٌ، إِذْ مَا هَذَا شَأْنُهُ لَا يُمْكِنُ النَّظَرُ فِيهِ لِتُسْتَبَانَ صِحَّتُهُ مِنْ سَقَمِهِ.
وَقِيلَ: مَا اسْتَحْسَنَهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ، فَإِنْ أُرِيدَ مَعَ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَوِفَاقٌ، وَإِلَّا مُنِعَ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَامِّيِّ إِلَّا النَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَحَيْثُ لَا نَظَرَ فَلَا فَرْقَ، وَيَكُونُ حُكْمًا بِمُجَرَّدِ الْهَوَى وَاتِّبَاعًا لِلشَّهْوَةِ فِيهِ، وأَيْضًا مَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ عَقْلِيًّا ضَرُورِيًّا وَلَا نَظَرِيًّا، وَإِلَّا لَكَانَ مُشْتَرَكًا، وَلَا سَمْعِيًّا، إِذْ تَوَاتُرُهُ مَفْقُودٌ وَآحَادُهُ كَذَلِكَ، أَوْ لَا يُفِيدُ.
قَالُوا: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلُ إِلَيْكُمْ، مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا وَاسْتَحْسَنَتِ الْأُمَّةُ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ وَنَحْوِهِ.
قُلْنَا: أَحْسَنُ الْقَوْلِ وَالْمُنَزَّلُ مَا قَامَ دَلِيلُ رُجْحَانِهِ شَرْعًا، وَالْخَبَرُ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ لَا الِاسْتِحْسَانِ، وَإِنْ سُلِّمَ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ، وَسُومِحَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهَا لِعُمُومِ مَشَقَّةِ التَّقْدِيرِ فَيُعْطَى الْحَمَّامِيُّ عِوَضًا إِنْ رَضِيَهُ وَإِلَّا زِيدَ، وَهُوَ مُنْقَاسٌ، وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ فِيهِ: أَنَّهُ الْعُدُولُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ خَاصٍّ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ.
وَقَدْ قَرَّرَ مُحَقِّقُو الْحَنَفِيَّةِ الِاسْتِحْسَانَ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَاللَّطَافَةِ، ذَكَرْنَا الْمَقْصُودَ مِنْهُ غَيْرَ هَاهُنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الثَّالِثُ» ، يَعْنِي مِنَ الْأُصُولِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا «الِاسْتِحْسَانُ» ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحُسْنِ، «وَهُوَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا» ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: «اعْتِقَادُ الشَّيْءِ
(3/190)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَسَنًا» ، وَلَمْ نَقُلِ: الْعِلْمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ حَسَنًا؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعِلْمُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الِاعْتِقَادُ صَحِيحًا إِذَا طَابَقَ الْوَاقِعَ، وَقَدْ يَكُونُ فَاسِدًا إِذَا لَمْ يُطَابِقْ. وَحِينَئِذٍ قَدْ يَسْتَحْسِنُ الشَّخْصُ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَلَا يَكُونُ حَسَنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَقَدْ يُخَالِفُهُ غَيْرُهُ فِي اسْتِحْسَانِهِ.
وَقَدِ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ النَّاسِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَبَعْضُهُمْ عِبَادَةَ الْكَوَاكِبِ، وَبَعْضُهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهِيَ أُمُورٌ مُسْتَقْبَحَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَفِي مِثْلِ هَذَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ
أَيْ: قَدْ يَسْتَحْسِنُ بَعْضُهُمْ مَا لَا يَسْتَحْسِنُ غَيْرُهُ، فَلَوْ قُلْنَا: الْعِلْمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ حَسَنًا، لَخَرَجَ مِنْهُ مَا لَيْسَ حُسْنُهُ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِذَا قُلْنَا: «اعْتِقَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا» ، تَنَاوَلَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَدْ قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: إِنَّ مَا سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانِ بِأَنَّهُ «اعْتِقَادُ الشَّيْءِ حَسَنًا» هُوَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ.
أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَقَدْ «قِيلَ فِي تَعْرِيفِهِ: إِنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ» ، أَيْ: لَا يَقْدِرُ أَنْ يُفْصِحَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، أَيْ: تَعْرِيفُ الِاسْتِحْسَانِ بِهَذَا: «هَوَسٌ» ، أَوْ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُنْقَدِحِ هَوَسٌ، «لِأَنَّ مَا هَذَا شَأْنُهُ» ، أَيْ: لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ
(3/191)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْهُ «لَا يُمْكِنُ النَّظَرُ فِيهِ لِتُسْتَبَانَ» ، أَيْ: لِتُخْتَبَرَ «صِحَّتُهُ مِنْ سَقَمِهِ» .
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْهَوَسُ بِالتَّحْرِيكِ طَرَفٌ مِنَ الْجُنُونِ.
قُلْتُ: وَهُوَ فِي عُرْفِ النَّاسِ: الْكَلَامُ الْخَالِي عَنْ فَائِدَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ هَذَا التَّعْرِيفَ لِلِاسْتِحْسَانِ وَقَالَ: لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِمِثْلِ هَذَا إِذَا تَحَقَّقَ الْمُجْتَهِدُ كَوْنَهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَإِنْ نُوزِعَ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ، عَادَ النِّزَاعُ إِلَى اللَّفْظِ.
قُلْتُ: رَجَعَ الْأَمْرُ فِي هَذَا إِلَى أَنَّهُ عَمَلٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا نِزَاعَ فِي الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا قَالَ، لَكِنْ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ النُّفُوسَ يَصِيرُ لَهَا فِيمَا تُعَانِيهِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْحِرَفِ مَلَكَاتٌ قَارَّةٌ فِيهَا تُدْرِكُ بِهَا الْأَحْكَامَ الْعَارِضَةَ فِي تِلْكَ الْعُلُومِ وَالْحِرَفِ، وَلَوْ كُلِّفَتِ الْإِفْصَاحَ عَنْ حَقِيقَةِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ بِالْقَوْلِ، لَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا، وَقَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي جَوَابِ الْمَسَائِلِ الْإِسْكَنْدَرَانِيَّاتِ، وَيُسَمِّي ذَلِكَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ وَغَيْرُهُمْ: دُرْبَةٌ، وَأَهْلُ التَّصَوُّفِ: ذَوْقًا، وَأَهْلُ الْفَلْسَفَةِ وَنَحْوُهُمْ: مَلَكَةً.
وَمِثَالُ ذَلِكَ الدَّلَّالُونَ فِي الْأَسْوَاقِ قَدْ صَارَ لَهُمْ دُرْبَةً بِمَعْرِفَةِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ لِكَثْرَةِ دَوَرَانِهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ وَمُعَانَاتِهِمْ حَتَّى صَارُوا أَهْلَ خِبْرَةٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِمْ شَرْعًا
(3/192)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي قِيَمِ الْأَشْيَاءِ، فَيَرْكَبُ أَحَدُهُمُ الْفَرَسَ، فَيَسُوقُهُ، أَوْ يَرَاهُ رُؤْيَةً مُجَرَّدَةً أَوْ يَأْخُذُ الثَّوْبَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَعْيَانِ عَلَى حَسَبِ مَا هُوَ دَلَّالٌ فِيهِ، فَيَقُولُ: هَذَا يُسَاوِي كَذَا، أَوْ قِيمَتُهُ كَذَا، فَلَا يُخْطِئُ بِحَبَّةٍ زِيَادَةً وَلَا نَقْصًا، مَعَ أَنَّا لَوْ قُلْنَا لَهُ: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ قِيمَتَهُ كَذَا؟ لَمَا أَفْصَحَ بِحُجَّةٍ، بَلْ يَقُولُ: هَكَذَا أَعْرِفُ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ دُرْبَةٌ وَمَلَكَةٌ فِي اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ لِكَثْرَةِ نَظَرِهِ فِيهَا، حَتَّى تَلُوحَ لَهُ الْأَحْكَامُ سَابِقَةً عَلَى أَدِلَّتِهَا وَبِدُونِهَا، أَوْ تَلُوحُ لَهُ أَحْكَامُ الْأَدِلَّةِ فِي مِرْآةِ الذَّوْقِ وَالْمَلَكَةِ عَلَى وَجْهٍ تَقْصُرُ عَنْهَا الْعِبَارَةُ، كَمَا يَلُوحُ الْوَجْهُ فِي الْمِرْآةِ، وَلَوْ سُئِلَ أَكْثَرُ النَّاسِ عَنْ كَيْفِيَّةِ ظُهُورِهِ، لَمَا أَدْرَكَهُ، بَلْ قَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْخَوَاصِّ، فَإِذَا اتَّفَقَ ذَلِكَ لِلْمُجْتَهِدِ، وَحَصَلَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ أَوْ ظَنٌّ، جَازَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ هَذَا يَصِيرُ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ بِمَا يُشْبِهُ الْإِلْهَامَ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ إِنَّمَا بُنِيَتْ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَدِلَّةِ، فَتَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: مَا اسْتَحْسَنَهُ» . هَذَا قَوْلٌ آخَرٌ فِي تَعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانِ أَيْ: وَقِيلَ: الِاسْتِحْسَانُ: «مَا اسْتَحْسَنَهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ، فَإِنْ أُرِيدَ مَعَ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَوِفَاقٌ» ، أَيْ: فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ إِذِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ مُتَّبَعٌ، وَانْضِمَامُ الْعَقْلِ إِلَيْهِ لَا يَضُرُّ، بَلْ هُوَ مُؤَكِّدٌ، وَإِنْ لَمْ يُرَدْ ذَلِكَ، بَلْ أُرِيدَ مَا اسْتَحْسَنَهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ الْمُجَرَّدِ بِدُونِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِوَجْهَيْنِ:
(3/193)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ «لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَامِّيِّ إِلَّا النَّظَرَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَحَيْثُ لَا نَظَرَ» ، أَيْ: فَإِذَا لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى اسْتِحْسَانِهِ الْعَقْلِيِّ نَظَرٌ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، «فَلَا فَرْقَ» إِذَنْ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَامِّيِّ، «وَيَكُونُ» ذَلِكَ مِنَ الْمُجْتَهِدِ «حُكْمًا بِمُجَرَّدِ الْهَوَى، وَاتِبَاعًا لِلشَّهْوَةِ فِيهِ» ، أَيْ: فِي الْحُكْمِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ شَرْعًا؛ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مَرْيَمَ: 59] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا، أَوْ سَمْعِيًّا، أَيْ: مَعْلُومًا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، فَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَعْرِيفِ الِاسْتِحْسَانِ بَاطِلٌ، أَمَّا بُطْلَانُ كَوْنِهِ عَقْلِيًّا أَوْ سَمْعِيًّا، فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْلِيًّا لَكَانَ إِمَّا ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا، لَكِنَّهُ لَيْسَ ضَرُورِيًّا، لِأّنَّ الضَّرُورِيَّاتِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَلَا اشْتِرَاكَ فِيمَا ذَكَرُوهُ، وَلَيْسَ نَظَرِيًّا؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ لَيْسَ قَاطِعًا، وَإِلَّا لَكَانَ مُشْتَرَكًا، وَلَا مَظْنُونًا؛ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي النَّظَرِ، وَلَوْ كَانَ سَمْعِيًّا، لَكَانَ إِمَّا تَوَاتُرًا، وَهُوَ مَفْقُودٌ، أَوْ آحَادًا وَهُوَ كَذَلِكَ، أَيْ: مَفْقُودٌ أَيْضًا كَالتَّوَاتُرِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَوَاتُرٌ وَلَا آحَادٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِيهِ دَلِيلًا سَمْعِيًّا آحَادًا، لَكِنَّ الْآحَادَ لَا تُفِيدُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُفِيدُ ظَنًّا مَا، وَالِاسْتِحْسَانُ أَصْلٌ قَوِيٌّ، فَلَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَآحَادُهُ
(3/194)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَذَلِكَ أَوْ لَا يُفِيدُ» ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مَا ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ، وَالدَّلِيلُ مُنْحَصِرٌ فِي هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ، فَمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا، لَا يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَصْلًا، وَمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَصْلًا يَكُونُ بَاطِلًا.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» يَعْنِي الْحَنَفِيَّةَ هُمُ الْمُخَالِفُونَ فِي هَذَا. وَاحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزُّمَرِ: 18] .
الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزُّمَرِ: 55] .
الثَّالِثُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْأُمَّةَ اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ لِلْمَاءِ الْمَصْبُوبِ، وَلَا لِمُدَّةِ الْمُقَامِ فِيهِ، وَلَا لِلْأُجْرَةِ عَنْ ذَلِكَ، وَاسْتَحْسَنُوا شُرْبَ الْمَاءِ مِنْ أَيْدِي السَّقَّائِينَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ عِوَضٍ، فَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَاقِعٌ، فَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ قَطْعًا.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: أَحْسَنُ الْقَوْلِ» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّ أَحْسَنَ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُمَرِ: 18] وَأَحْسَنَ الْمُنَزَّلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [الزُمَرِ: 55] هُوَ «مَا قَامَ دَلِيلُ رُجْحَانِهِ شَرْعًا» لَا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ اسْتِحْسَانِ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي سِيَاقِ الْآيَتَيْنِ.
(3/195)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا الْأَوْلَى فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي} {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزُمَرِ: 17 - 18] الْآيَةَ، هِيَ فِي سِيَاقِ التَّوْحِيدِ، وَاجْتِنَابِ الشِّرْكِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، إِذْ لَوْ كَانَ التَّوْحِيدُ ضَرُورِيًّا لَمَا أَشْرَكَ أَحَدٌ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ ; فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الْأَعْرَافِ: 3] ، وَالِاسْتِدْلَالُ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ كَمَا سَبَقَ، لَا دَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ لَهُ دِلَالَةً عَلَى الِاسْتِحْسَانِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ «مَا قَامَ دَلِيلُ رُجْحَانِهِ شَرْعًا» ، أَيْ: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا مَعَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَقِيَامِ دَلِيلِ الرُّجْحَانِ شَرْعًا.
وَأَمَّا «مَسْأَلَةُ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهَا» ، أَيِ: اسْتِحْسَانُهُمْ دُخُولَ الْحَمَامِ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَسُومِحَ فِيهِ «لِعُمُومِ مَشَقَّةِ التَّقْدِيرِ» ، إِذْ يَشُقُّ جِدًّا أَنْ يُجْعَلَ فِي الْحَمَّامِ صَاعٌ يُقَّدَرُ بِهِ الْمَاءُ، وَبَنْكَامٌ يُقَدَّرُ بِهِ الزَّمَانُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ تَقْدِيرُ الزَّمَانِ وَالْمَاءِ، تَعَذَّرَ تَقْدِيرُ الْأُجْرَةِ وَالثَّمَنِ، فَوَقَعَ الِاصْطِلَاحُ عَلَى رَفْضِ ذَلِكَ لِتَعَذُّرِهِ، ثُمَّ «يُعْطَى الْحَمَّامِيُّ عِوَضًا» عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ رَضِيَهُ، فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَهُ، زِيدَ حَتَّى يَرْضَى، «وَهُوَ» ، أَيْ: هَذَا الْحُكْمُ «مُنْقَاسٌ» ،
(3/196)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ: مُتَّجِهٌ فِي الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ، أَوْ لَعَلَّهُ مِنْ بَابِ الْإِجْمَاعِ الدَّالِّ عَلَى النَّصِّ، أَوْ لَعَلَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَقَرَّ عَلَيْهِ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ. وَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ وَنَحْوُهُ تَصْلُحُ إِضَافَتُهُ إِلَى الْإِجْمَاعِ أَوِ النَّصِّ أَوِ الْقِيَاسِ، كَانَ إِضَافَتُهُ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ تَحَكُّمًا.
قَوْلُهُ: «وَأَجْوَدُ مَا قِيلَ فِيهِ» ، أَيْ: فِي الِاسْتِحْسَانِ: «أَنَّهُ الْعُدُولُ بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا لِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ خَاصٍّ» .
قُلْتُ: مِثَالُهُ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ: وَإِذَا اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلِّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ; لَمْ يُجْزِ اسْتِحْسَانًا، وَجَازَ قِيَاسًا، فَالْحُكْمُ فِي نَظَائِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ الْجَوَازُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لَكِنْ عَدَلَ بِهَا عَنْ نَظَائِرِهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ، فَمُنِعَتْ. وَحَاصِلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ الدَّلِيلِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ.
قَالَ ابْنُ الْمِعْمَارِ الْبَغْدَادِيُّ: وَمِثَالُ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَالَهُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ حَتَّى يُحْدِثَ.
وَقَالَ: يَجُوزُ شِرَاءُ أَرْضِ السَّوَادِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ يُشْتَرَى مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ، فَقَالَ: الْقِيَاسُ هَكَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الْمُصْحَفِ، وَيُؤْمَرُ بِشِرَائِهِ اسْتِحْسَانًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ» ، أَيِ: الْقَوْلُ بِالِاسْتِحْسَانِ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، كَذَلِكَ حُكِيَ فِي «الرَّوْضَةِ» عَنِ الْقَاضِي يَعْقُوبَ. قَالَ: وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ حُكْمًا إِلَى
(3/197)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُكْمٍ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَا مِمَّا لَا يُنْكَرُ، أَيْ: هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: قَالَ الْبَاجِيُّ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْقَوْلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَعَلَى هَذَا يَكُونُ حُجَّةً إِجْمَاعًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: هُوَ الْعُدُولُ عَمَّا حُكِمَ بِهِ فِي نَظَائِرِ مَسْأَلَةٍ إِلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ أَقْوَى مِنْهُ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي جَوَّدْنَاهُ فِي حَدِّهِ آنِفًا، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعُدُولُ عَنِ الْمَنْسُوخِ إِلَى النَّاسِخِ، وَعَنِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ الْمَذْكُورَ صَادِقٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الِاسْتِحْسَانُ هُوَ تَرْكُ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ غَيْرِ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ لِوَجْهٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: غَيْرِ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ، عَنْ تَرْكِ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ شُمُولَهُ لَفْظِيٌّ. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى الْأَوَّلِ، عَنْ تَرْكِ الْقِيَاسِ الْمَرْجُوحِ إِلَى الْقِيَاسِ الرَّاجِحِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ لَيْسَ طَارِئًا عَلَى الْآخَرِ بِحَقِّ الْأَصْلِ.
وَمَثَّلَهُ الْقَرَافِيُّ بِتَضْمِينِ مَالِكٍ الصُّنَّاعَ الْمُؤَثِّرِينَ فِي الْأَعْيَانِ بِصَنْعَتِهِمْ، وَتَضْمِينِ الْحَمَّالِينَ لِلطَّعَامِ وَالْإِدَامِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْحَمَّالِينَ. فَهَذَا تَرْكُ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ تَرْكُ عَدَمِ التَّضْمِينِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْإِجَارَةِ، وَهُوَ غَيْرُ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّضْمِينِ قَاعِدَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، لَا لَفْظِيَّةٌ، وَتُرِكَ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ لِوَجْهٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْفَرْقِ فِي صُورَةِ التَّضْمِينِ أَوْلَى مِنْ
(3/198)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اعْتِبَارِ الْجَامِعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صُورَةِ عَدَمِ التَّضْمِينِ. وَهَذَا الْفَرْقُ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى قَاعِدَةِ الْإِجَارَاتِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ وَهُوَ صُورَةُ التَّضْمِينِ كَالْمُسْتَثْنَى عَنْ ذَلِكَ لِمَعْنًى، وَالْمُسْتَثْنَى طَارِئٌ عَلَى الْأَصْلِ، بِخِلَافِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَصْلًا لِلْآخَرِ حَتَّى يَكُونَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ قَرَّرَ مُحَقِّقُو الْحَنَفِيَّةِ الِاسْتِحْسَانَ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَاللَّطَافَةِ، ذَكَرْنَا الْمَقْصُودَ مِنْهُ غَيْرَ هَاهُنَا» أَشَرْتُ بِهَذَا إِلَى مَا رَأَيْتُهُ فِي «شَرْحِ الْأَخْسِيكَثِيَّةِ» لِصَاحِبِ «الْوَافِي» مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مِنْ مُتَأَخِّرِي فُضَلَائِهِمُ الْمَشَارِقَةِ أَهْلِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ، وَذَكَرْتُ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ فِي تَلْخِيصِ «الْحَاصِلِ» ، وَلَيْسَ الْآنَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ شَيْءٌ، لَكِنْ أَذْكُرُ جُمْلَةً مِنْ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْبَزْدَوِيِّ، وَهُوَ أَصْلُ مَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ.
قَالَ: الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ، لَكِنْ سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ جَائِزٌ.
قَالَ: وَلِلِاسْتِحْسَانِ أَقْسَامٌ: مِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالْأَمْرِ مِثْلُ السَّلَمِ، وَالْإِجَارَةِ، وَبَقَاءِ الصَّوْمِ مَعَ فِعْلِ النَّاسِي، وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ الِاسْتِصْنَاعُ.
قُلْتُ: يَعْنِي الِاسْتِئْجَارَ عَلَى تَحْصِيلِ الصَّنَائِعِ. وَمِنْهَا مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ كَتَطْهِيرِ الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَالْأَوَانِي.
(3/199)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: يَعْنِي الْحُكْمَ بِتَطْهِيرِهَا إِذَا تَنَجَّسَتْ أَوْ نَفْسَ مُعَالَجَتِهَا لِتَطْهُرَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ.
قَالَ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
فَأَحَدُ نَوْعَيِ الْقِيَاسِ مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ، وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ، وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ وَأَثَرُهُ.
وَأَحَدُ نَوْعَيِ الِاسْتِحْسَانِ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا، وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ أَثَرُهُ، وَخَفِيَ فَسَادُهُ.
قَالَ: وَلَمَّا كَانَتِ الْعِلَّةُ عِنْدَنَا عِلَّةً بِأَثَرِهَا لَا بِظُهُورِهَا، سَمَّيْنَا مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ قِيَاسًا، وَمَا قَوِيَ أَثَرُهُ اسْتِحْسَانًا، أَيْ: قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا، وَقَدَّمْنَا الثَّانِيَ وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا - عَلَى الْأَوَّلِ - وَإِنْ كَانَ جَلِيًّا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ دُونَ الْجَلَاءِ وَالظُّهُورِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
أَحَدُهَا: الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ، وَالْعُقْبَى بَاطِنَةٌ، لَكِنَّ أَثَرَهَا وَهُوَ الدَّوَامُ وَالْخُلُودُ، وَصَفْوُ الْعَيْشِ أَقْوَى مِنْ أَثَرِ الدُّنْيَا، وَهُوَ ضِدُّ ذَلِكَ.
الثَّانِي: النَّفْسُ فِي الْبَدَنِ أَظْهَرُ فِي الْقَلْبِ، لَكِنَّ الْقَلْبَ أَقْوَى أَثَرًا لِدَوَرَانِ صَلَاحِ الْجَسَدِ وَفَسَادِهِ مَعَ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَفَسَادِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، كَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ.
الثَّالِثُ: الْبَصَرُ أَظْهَرُ مِنَ الْعَقْلِ، لَكِنَّ أَثَرَ الْعَقْلِ أَقْوَى؛ لِأَنَّ فَائِدَتَهُ أَعَمُّ، وَإِدْرَاكَهُ أَوْثَقُ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْغَلَطِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْمَعْقُولَاتِ.
فَلِذَلِكَ سَقَطَ الْقِيَاسُ إِذَا عَارَضَهُ الِاسْتِحْسَانُ؛ لِقُوَّةِ التَّأْثِيرِ وَعَدَمِ الْقِيَاسِ فِي التَّقْدِيرِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ سُؤْرَ سِبَاعِ الطَّيْرِ نَجِسٌ، كَسُؤْرِ سِبَاعِ
(3/200)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْبَهَائِمِ بِجَامِعِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ فِيهِمَا، وَالِاسْتِحْسَانُ يَقْتَضِي أَنَّهُ طَاهِرٌ فَرْقًا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ سِبَاعَ الْبَهَائِمِ إِنَّمَا نَجِسَ سُؤْرُهَا لِمُجَاوَرَتِهِ رُطُوبَةَ فَمِهَا وَلُعَابِهَا، بِخِلَافِ سِبَاعِ الطَّيْرِ، فَإِنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا، وَهُوَ عَظْمٌ يَابِسٌ طَاهِرٌ خَالٍ عَنْ مُجَاوَرَةِ نَجِسٍ. وَإِذَا كَانَ عَظْمُ الْمَيْتَةِ طَاهِرًا ; فَعَظْمُ الْحَيِّ أَوْلَى. فَهَذَا أَثَرٌ قَوِيٌّ بَاطِنٌ، فَسَقَطَ لَهُ حُكْمُ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ.
وَأَمَّا عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي اسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ، وَعَارَضَهُ اسْتِحْسَانٌ اسْتَتَرَ فَسَادُهُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ فِي مَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ: يَجُوزُ أَنْ يَرْكَعَ بَدَلًا مِنَ السُّجُودِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] ، فَدَلَّ عَلَى قِيَامِ الرُّكُوعِ مَقَامَ السُّجُودِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعُ خِلَافُهُ، فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ، كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ، فَهَذَا أَثَرٌ ظَاهِرٌ لِهَذَا الِاسْتِحْسَانِ، لَكِنَّ الْقِيَاسَ لَهُ أَثَرٌ بَاطِنٌ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَأَوْلَى.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ السُّجُودَ عِنْدَ التِّلَاوَةِ لَيْسَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّوَاضُعُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِنَ الرُّكُوعِ، بِخِلَافِ رُكُوعِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِهَا ; فَإِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مَقْصُودَتَانِ، فَلَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ، فَصَارَ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ مَعَ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ أَوْلَى مِنَ الْأَثَرِ الظَّاهِرِ مَعَ الْفَسَادِ الْخَفِيِّ.
هَذِهِ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ مِنْ كَلَامِهِ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ - كَمَا تَرَاهُ - جَيِّدٌ حَسَنٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ لَمْ يَفْهَمُوا مَقْصُودَهُمْ حَيْثُ رَدُّوا عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلِ بِالِاسْتِحْسَانِ، إِذْ قَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِهِ أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ وَأَظْهَرُهُمَا أَثَرًا.
قُلْتُ: وَهَكَذَا حَكَىَ ابْنُ الْمِعْمَارِ الْبَغْدَادِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالَ:
(3/201)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاسْتِحْسَانُ حُجَّةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً عِنْدَ أَحْمَدَ قَوْلَانِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ تَرْكُ قِيَاسٍ إِلَى قِيَاسٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ الْعُدُولُ عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ إِلَى دَلِيلٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ.
قُلْتُ: يَرْجِعُ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ أَخَصُّ مِنَ الْقِيَاسِ مِنْ وَجْهٍ، وَأَعَمُّ مِنْهُ مِنْ وَجْهٍ. أَمَّا أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ، فَمِنْ جِهَةِ رُجْحَانِ مَصْلَحَتِهِ، وَكَوْنِهَا أَشَدَّ مُنَاسَبَةً فِي النَّظَرِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْقِيَاسِ. وَأَمَّا أَنَّهُ أَعَمُّ ; فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ تَابِعٌ لِلْعِلَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَالِاسْتِحْسَانَ تَابِعٌ لِلدَّلِيلِ عَلَى الْعُمُومِ: نَصًّا، كَحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ، وَنَبِيذِ التَّمْرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، أَوْ إِجْمَاعًا، كَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَعَدَمِ تَقْدِيرِ أُجْرَةِ الْحَمَّامِ؛ لِإِطْبَاقِ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَاسْتِدْلَالًا، كَقَوْلِهِمِ: الْقِيَاسُ فِي مَنْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، فَأَنَا يَهُودِيٌّ. أَنْ لَا كَفَّارَةَ، لَكِنْ يَتَرَجَّحُ لُزُومُهَا لَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ إِنَّمَا كَانَ لِلتَّعَرُّضِ بِهَتْكِ الْحُرْمَةِ، وَالتَّبَرُّؤِ مِنَ الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ
(3/202)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَلِكَ، فَتَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ.
وَقَدْ بَانَ بِهَذَا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ: تَرْكُ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ إِلَى دَلِيلٍ أَقْوَى، أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِمْ: تَرْكُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ إِلَى الْآخَرِ. وَقَدْ سَبَقَ جُمْلَةٌ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِحْسَانِ عَنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/203)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الرَّابِعُ: الِاسْتِصْلَاحُ: وَهُوَ اتِّبَاعُ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ.
وَالْمَصْلَحَةُ: جَلْبُ نَفْعٍ أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ، ثُمَّ إِنْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا كَاقْتِبَاسِ الْحُكْمِ مِنْ مَعْقُولِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَقِيَاسٌ، أَوْ بِبُطْلَانِهَا كَتَعَيُّنِ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ رَمَضَانَ عَلَى الْمُوسِرِ كَالْمَلِكِ وَنَحْوِهِ، فَلَغْوٌ، إِذْ هُوَ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهَا بِبُطْلَانٍ وَلَا اعْتِبَارٍ مُعَيَّنٍ فَهِيَ:
إِمَّا تَحْسِينَيٌّ، كَصِيَانَةِ الْمَرْأَةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ عَقْدِ نِكَاحِهَا الْمُشْعِرِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِالْمُرُوءَةِ بِتَوَلِّي الْوَلِيِّ ذَلِكَ.
أَوْ حَاجِيٌّ، أَيْ: فِي رُتْبَةِ الْحَاجَةِ، كَتَسْلِيطِ الْوَلِيِّ عَلَى تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ لِحَاجَةِ تَقْيِيدِ الْكُفْءِ خِيفَةَ فَوَاتِهِ، وَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ هَذَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ. وَإِلَّا لَكَانَ وَضْعًا لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ. وَلَاسْتَوَى الْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ لِمَعْرِفَةِ كُلٍّ مَصْلَحَتَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«الرَّابِعُ» : أَيْ: مِنَ الْأُصُولِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا: «الِاسْتِصْلَاحُ» ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ صَلَحَ يَصْلُحُ، «وَهُوَ اتِّبَاعُ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ» ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوِ الْمُجْتَهِدَ يَطْلُبُ صَلَاحَ الْمُكَلَّفِينَ بِاتِّبَاعِ الْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمُرَاعَاتِهَا.
قَوْلُهُ: «وَالْمَصْلَحَةُ جَلْبُ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ» .
لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الِاسْتِصْلَاحَ اتِّبَاعُ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ، احْتِيجَ إِلَى بَيَانِ حَقِيقَةِ الْمَصْلَحَةِ، وَهِيَ كَمَا ذَكَرَ جَلْبُ نَفْعٍ، أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الْإِنْسَانِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، وَفِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ بِحُصُولِ الْخَيْرِ وَانْدِفَاعِ الشَّرِّ، وَإِنْ شِئْتَ، قُلْتَ: بِحُصُولِ الْمُلَائِمِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَافِي.
(3/204)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثَالُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمَّا كَانَ يُؤْذِيِهِ غَلَبَةُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، احْتَاجَ فِي الصَّيْفِ إِلَى رَقِيقِ اللِّبَاسِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْهَوَاءِ الْبَارِدِ بِالْجُلُوسِ فِي أَمَاكِنِهِ، وَتَبْرِيدِهَا بِالْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. لِيَحْصُلَ لَهُ الرَّوْحُ الْمُوَافِقُ، وَيَنْدَفِعُ عَنْهُ الْكَرْبُ الْمُنَافِي، وَفِي الشِّتَاءِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ إِنْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهَا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا بَيَانٌ لِأَنْوَاعِ الْمَصْلَحَةِ وَأَقْسَامِهَا، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هَذَا، وَهُوَ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ، «كَاقْتِبَاسِ الْحُكْمِ» ، أَيِ: اسْتِفَادَتُهُ وَتَحْصِيلُهُ «مِنْ مَعْقُولِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ» ، كَالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَهُوَ «قِيَاسٌ» ، كَاسْتِفَادَتِنَا تَحْرِيمَ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ مِنْ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ، وَاسْتِفَادَتِنَا تَحْرِيمَ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مَعَ أَنَّ النَّبِيذَ مَنْصُوصٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ مَعَ غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكَقَوْلِنَا: يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْءِ ذَاتِ الْمَحْرَمِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى وَطْئِهَا بِالزِّنَى، وَهُوَ مَحَلُ إِجْمَاعٍ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِبُطْلَانِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ، أَيْ: لَمْ يَعْتَبِرْهُ كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُوسِرَ كَالْمَلِكِ وَنَحْوِهِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي كَفَّارَةِ الْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ، وَلَا يُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْكَفَّارَةِ الزَّجْرُ عَنِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَزْجُرُهُ الْعِتْقُ وَالْإِطْعَامُ لِكَثْرَةِ مَالِهِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَ رِقَابًا فِي قَضَاءِ شَهْوَتِهِ، وَقَدْ لَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ صَوْمُ سَاعَةٍ، فَيَكُونُ
(3/205)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصَّوْمُ أَزْجَرَ لَهُ، فَيَتَعَيَّنُ.
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مُلْغًى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ لِأَنَّهُ تَغْيِيرٌ لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَوْ أَرَادَ الشَّرْعُ ذَلِكَ، لَبَيَّنَهُ أَوْ نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ أَوْ غَيْرِهِ، إِذْ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَإِيهَامُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ فِي الْأَحْكَامِ مَعَ افْتِرَاقِهِمْ فِيهَا لَا يَجُوزُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَصَالِحِ: مَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الشَّرْعُ «بِبُطْلَانٍ وَلَا اعْتِبَارٍ مُعَيَّنٍ» ، فَهُوَ، أَيْ: هَذَا الْقِسْمُ، عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: «التَّحْسِينِيُّ» الْوَاقِعُ مَوْقِعَ التَّحْسِينِ وَالتَّزَيِينِ، وَرِعَايَةِ حُسْنِ الْمَنَاهِجِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ فِي السِّيرَةِ بَيْنَ النَّاسِ، «كَصِيَانَةِ الْمَرْأَةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ عَقْدِ نِكَاحِهَا» بِإِقَامَةِ الْوَلِيِّ مُبَاشِرًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ بَاشَرَتْ عَقْدَ نِكَاحِهَا، لَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا مُشْعِرًا «بِمَا لَا يَلِيقُ بِالْمُرُوءَةِ» مِنْ غَلَبَةِ الْقِحَةِ، وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ، وَتَوَقَانِ نَفْسِهَا إِلَى الرِّجَالِ، فَمُنِعَتْ مِنْ ذَلِكَ حَمْلًا لِلْخَلْقِ عَلَى أَحْسَنِ الْمَنَاهِجِ وَأَجْمَلِ السِّيَرِ، وَقَدْ ضَرَبَ الْمَثَلَ فِي هَذَا الْبَابِ بِأُمِّ خَارِجَةَ، وَهِيَ امْرَأَةٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَكَحَتْ نَحْوَ سَبْعِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَتُطَلِّقُهُمْ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِيِهَا، فَيَقُولُ: خِطْبٌ، فَتَقُولُ هِيَ: نِكْحٌ، أَيْ: يَقُولُ لَهَا: أَنَا خَاطِبٌ لَكِ، فَتَقُولُ هِيَ: قَدْ أَنَكَحْتُكَ نَفْسِي، فَجَاءَهَا بَعْضَ الْأَيَّامِ رَجُلٌ خَاطِبٌ وَهِيَ عَلَى بَعِيرٍ فَخَطَبَهَا، فَأَنْكَحَتْهُ نَفْسَهَا، ثُمَّ أَعْجَلَتِ الْبَعِيرَ أَنْ يَبْرُكَ، فَوَثَبَتْ عَنْهُ وَهُوَ قَائِمٌ لِتَجْتَمِعَ بِزَوْجِهَا، فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا، فَقِيلَ: أَسْرَعُ مِنْ نِكَاحِ أُمِّ خَارِجَةَ، يُضْرَبُ مَثَلًا لِكُلِّ مَنْ يُبَالِغُ فِي الْعَجَلَةِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مِنَ الْمَصَالِحِ هُوَ «الْحَاجِيُّ، أَيْ» : الْوَاقِعُ
(3/206)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«فِي رُتْبَةِ الْحَاجَةِ» ، أَيْ: تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، «كَتَسْلِيطِ الْوَلِيِّ عَلَى تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ؛ لِحَاجَةِ تَقْيِيدِ الْكُفْءِ» خِشْيَةَ أَنْ يَفُوتَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَحْصُلُ بِحُصُولِهِ نَفْعٌ، وَيَلْحَقُ بِفَوَاتِهِ ضَرَرٌ ; وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا قَاطِعًا، وَنِسْبَةُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إِلَى هَذَا نِسْبَةُ كِتَابِ «الزِّينَةِ» مِنَ الطِّبِّ إِلَى بَاقِي كُتُبِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ هَذَيْنِ» ، يَعْنِي الضَّرْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَهُمَا التَحْسِينِيُّ وَالْحَاجِيُّ «مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ» يَشْهَدُ لَهُمَا بِالِاعْتِبَارِ، أَيْ: لَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ كُلَّمَا لَاحَ لَهُ مَصْلَحَةٌ تَحْسِينِيَّةٌ أَوْ حَاجِيَّةٌ اعْتَبَرَهَا، وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْأَحْكَامَ حَتَّى يَجِدَ لِاعْتِبَارِهَا شَاهِدًا مِنْ جِنْسِهَا، وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ لِلتَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ وُجُودُ أَصْلٍ يَشْهَدُ لَهَا، لَلَزِمَ مِنْهُ مَحْذُورَاتٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ «وَضْعًا لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ» ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ هُوَ مَا اسْتُفِيدَ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ: إِجْمَاعٌ، أَوْ نَصٌّ، أَوْ مَعْقُولُ نَصٍّ، وَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَا تَسْتَنِدُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَيَكُونُ رَأْيًّا مُجَرَدًا.
الثَّانِي: لَوْ جَازَ ذَلِكَ، «لَاسْتَوَى الْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ» ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْرِفُ مَصْلَحَةَ نَفْسِهِ الْوَاقِعَةَ مَوْقِعَ التَحْسِينِ أَوِ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَامِّيِّ مَعْرِفَةُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَاسْتِخْرَاجُ الْأَحْكَامِ مِنْهَا.
الثَّالِثُ: لَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَاسْتُغْنِيَ عَنْ بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَصَارَ النَّاسُ بَرَاهِمَةً
(3/207)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى الرُّسُلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ كَافٍ لَنَا فِي التَّأْدِيبِ وَمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، إِذْ مَا حَسَّنَهُ الْعَقْلُ، أَتَيْنَاهُ، وَمَا قَبَّحَهُ، اجْتَنَبْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَقْضِ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، فَعَلْنَا مِنْهُ الضَّرُورِيَّ، وَتَرَكْنَا الْبَاقِيَ احْتِيَاطًا، فَالتَّمَسُّكُ بِهَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ مِنَ الْمَصَالِحِ مِنْ غَيْرِ شَاهِدٍ لَهُمَا بِالِاعْتِبَارِ يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَنَحْوِهِ، فَيَكُونُ بَاطِلًا.
(3/208)
________________________________________
أَوْ ضَرُورِيٌّ: وَهُوَ مَا عُرِفَ الْتِفَاتُ الشَّرْعِ إِلَيْهِ كَحِفْظِ الدِّينِ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَالدَّاعِيَةِ، وَالْعَقْلِ بِحَدِّ السُّكْرِ، وَالنَّفْسِ بِالْقِصَاصِ، وَالنَّسَبِ وَالْعِرْضِ بِحَدِّ الزِّنَى وَالْقَذْفِ، وَالْمَالِ بِقَطْعِ السَّارِقِ.
قَالَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ حُجَّةٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ. وَسَمَّوْهَا: مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً، لَا قِيَاسًا؛ لِرُجُوعِ الْقِيَاسِ إِلَى أَصْلٍ مُعَيَّنٍ دُونَهَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَتْ حُجَّةً، إِذْ لَمْ تُعْلَمْ مُحَافَظَةُ الشَّرْعِ عَلَيْهَا ; وَلِذَلِكَ لَمْ يَشْرَعْ فِي زَوَاجِرِهَا أَبْلَغَ مِمَّا شَرَعَ، كَالْقَتْلِ فِي السَّرِقَةِ، فَإِثْبَاتُهَا حُجَّةً وَضْعٌ لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ كَقَوْلِ مَالِكٍ: يَجُوزُ قَتْلُ ثُلُثِ الْخَلْقِ لِاسْتِصْلَاحِ الثُّلُثَيْنِ، وَمُحَافَظَةُ الشَّرْعِ عَلَى مَصْلَحَتِهِمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: " الضَّرُورِيُّ "، أَيِ: الْوَاقِعُ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ، أَيْ: هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ سِيَاسَةِ الْعَالَمِ وَبَقَائِهِ وَانْتِظَامِ أَحْوَالِهِ، " وَهُوَ مَا عُرِفَ الْتِفَاتُ الشَّرْعِ إِلَيْهِ " وَالْعِنَايَةُ بِهِ كَالضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ، وَهِيَ " حِفْظُ الدِّينِ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَالدَّاعِيَةِ " إِلَى الرِّدَّةِ، وَعُقُوبَةِ الْمُبْتَدِعِ الدَّاعِي إِلَى الْبِدْعَةِ، وَحِفْظُ " الْعَقْلِ بِحَدِّ السُّكْرِ "، وَحِفْظُ النَّفْسِ بِالْقِصَاصِ "، وَحِفْظُ النَّسَبِ بِحَدِّ الزِّنَى الْمُفْضِي إِلَى تَضْيِيعِ الْأَنْسَابِ بِاخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ، وَحِفْظُ الْعِرْضِ بِحَدِّ الْقَذْفِ، وَحِفْظُ " الْمَالِ بِقَطْعِ السَّارِقِ ". وَقَدْ بَيَّنْتُ وَجْهَ ضَرُورِيَّةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي " الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى " مُسْتَقْصًى، فَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ الضَّرُورِيَّةُ.
(3/209)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" قَالَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: هِيَ حُجَّةٌ " لِأَنَّا عَلِمْنَا " أَنَّهَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ " لَا حَصْرَ لَهَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَالْأَمَارَاتِ، " وَسَمَّوْهَا: مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً "، وَلَمْ يُسَمُّوهَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَرْجِعُ " إِلَى أَصْلٍ مُعَيَّنٍ " دُونَ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى أَصْلٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ رَأَيْنَا الشَّارِعَ اعْتَبَرَهَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ الشَّرِيعَةِ، فَاعْتَبَرْنَاهَا حَيْثُ وُجِدَتْ؛ لِعِلْمِنَا أَنَّ جِنْسَهَا مَقْصُودٌ لَهُ.
" وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَيْسَتْ حُجَّةً ". هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ. قَالَ فِي " الرَّوْضَةِ ": وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا قُلْتُ: " قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا "، وَلَمْ أَقُلْ: قَالَ أَصْحَابُنَا؛ لِأَنِّي رَأَيْتُ مَنْ وَقَفْتُ عَلَى كَلَامِهِ مِنْهُمْ حَتَّى الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ فِي كُتُبِهِ إِذَا اسْتَغْرَقُوا فِي تَوْجِيهِ الْأَحْكَامِ، يَتَمَسَّكُونَ بِمُنَاسَبَاتٍ مَصْلَحِيَّةٍ، يَكَادُ الشَّخْصُ يَجْزِمُ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُرَادَةً لِلشَّارِعِ، وَالتَّمَسُّكُ بِهَا يُشْبِهُ التَّمَسُّكَ بِحِبَالِ الْقَمَرِ، فَلَمْ أُقْدِمْ عَلَى الْجَزْمِ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِعَدَمِ الْقَوْلِ بِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ قَالَ بِهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ تَقَوُّلًا عَلَيْهِمْ، وَالَّذِي قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّهَا لَيْسَتْ حُجَّةً احْتَجَّ بِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ مُحَافَظَةَ الشَّرْعِ عَلَيْهَا، " وَلِذَلِكَ لَمْ يَشْرَعْ فِي زَوَاجِرِهَا أَبْلَغَ مِمَّا شَرَعَ "، كَالْمُثْلَةِ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنَّهَا أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ عَنِ الْقَتْلِ، وَكَذَا الْقَتْلُ فِي السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ عَنْهُمَا، وَلَمْ يُشْرَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ حُجَّةً، لَحَافَظَ الشَّرْعُ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِأَبْلَغِ الطُّرُقِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ
(3/210)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِفِعْلِ ذَلِكَ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً، " فَإِثْبَاتُهَا حُجَّةً وَضْعٌ لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ "، كَمَا حُكِيَ أَنَّ مَالِكًا أَجَازَ " قَتْلَ ثُلُثِ الْخَلْقِ لِاسْتِصْلَاحِ الثُّلُثَيْنِ، وَمُحَافَظَةُ الشَّرْعِ عَلَى مَصْلَحَتِهِمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ ".
قُلْتُ: لَمْ أَجِدْ هَذَا مَنْقُولًا فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ مِنْ كُتُبِ الْمَالِكِيَّةِ، وَسَأَلْتُ عَنْهُ جَمَاعَةً مِنْ فُضَلَائِهِمْ، فَقَالُوا: لَا نَعْرِفُهُ.
قُلْتُ: مَعَ أَنَّهُ إِذَا دَعَتْ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ مُتَّجِهٌ جِدًّا، وَقَدْ حَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلَاءِ مِنْهُمُ الْحَوَارِيُّ وَالْبَزْدَوِيُّ فِي جَدَلَيْهِمَا.
قُلْتُ: الرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ اعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمَصَالِحُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى شَهَادَةِ الشَّرْعِ لَهَا بِالِاعْتِبَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَمَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِعَدَمِ اعْتِبَارِهِ، نَحْوُ الْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ لِئَلَّا يُعْصَرَ الْخَمْرُ، وَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الدُّورِ خَشْيَةَ الزِّنَى.
وَمَا لَمْ يَشْهَدْ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا إِلْغَائِهِ وَهِيَ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ، وَهِيَ عِنْدَ مَالِكٍ حُجَّةٌ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ أَوِ التَّتِمَّةِ، لَمْ تُعْتَبَرْ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ جَازَ أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْهَا اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً، وَحَكَى مِثَالَ ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً ; بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا بَعَثَ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، عَلِمْنَا
(3/211)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَلِكَ بِالِاسْتِقْرَاءِ، فَمَهْمَا وَجَدْنَا مَصْلَحَةً غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِلشَّرْعِ، فَنَعْتَبِرُهَا؛ لِأَنَّ الظَّنَّ مَنَاطُ الْعَمَلِ.
قُلْتُ: هَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ لَا يَتَّجِهُ الْقَدْحُ فِيهِ بِوَجْهٍ، وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ وَنَحْوِهِ، إِذْ هُوَ مَصْلَحَةٌ ; لِأَنَّا نَقُولُ: هَذِهِ مَصْلَحَةٌ نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَالْعَمَلُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ إِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادِيٌّ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَا الْمَصْلَحَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، لَكَانَ دَفْعًا لِلنَّصِّ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: يُنْقَلُ عَنْ مَذْهَبِنَا أَنَّ مِنْ خَوَاصِّهِ اعْتِبَارَ الْعَوَائِدِ، وَالْمَصْلَحَةَ الْمُرْسَلَةَ، وَسَدَّ الذَّرَائِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَمَّا الْعُرْفُ فَمُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَهَا وَجَدَهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ فِيهَا.
قُلْتُ أَنَا: هَذَا كَمَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ يَرْجِعُ فِي الْقَبْضِ وَالْإِحْرَازِ وَكُلِّ مَا لَمْ يَرِدْ مِنَ الشَّرْعِ تَحْدِيدٌ فِيهِ إِلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ.
قَالَ: وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ، فَغَيْرُنَا يُصَرِّحُ بِإِنْكَارِهَا، وَلَكِنَّهُمْ عِنْدَ التَّفْرِيعِ تَجِدُهُمْ يُعَلِّلُونَ بِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا يُطَالِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ الْفُرُوقِ وَالْجَوَامِعِ بِإِبْدَاءِ الشَّاهِدِ لَهَا بِالِاعْتِبَارِ، بَلْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ.
قَالَ: وَأَمَّا الذَّرَائِعُ، فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مُعْتَبَرٌ إِجْمَاعًا، كَحَفْرِ الْآبَارِ فِي طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلْقَاءِ السُّمِّ فِي أَطْعِمَتِهِمْ، وَسَبِّ الْأَصْنَامِ عِنْدَ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَسُبُّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -
(3/212)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عِنْدَ ذَلِكَ حِينَئِذٍ.
وَثَانِيهَا: مُلْغًى إِجْمَاعًا، كَزِرَاعَةِ الْعِنَبِ خَشْيَةَ عَصْرِهِ خَمْرًا، وَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الدُّورِ خَشْيَةَ الزِّنَى، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَثَالِثُهَا: مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَبُيُوعِ الْآجَالِ، اعْتَبَرْنَا نَحْنُ الذَّرِيعَةَ فِيهَا، وَخَالَفْنَا غَيْرُنَا، فَحَاصِلُ الْقَضِيَّةِ أَنَّا قُلْنَا بِسَدِّ الذَّرَائِعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِنَا، لَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِنَا.
وَقَالَ أَيْضًا: الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقِيسُونَ، وَيُفَرِّقُونَ بِالْمُنَاسَبَاتِ، وَلَا يَطْلُبُونَ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا يُعْنَى بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فِي جَمِيعِ الْمَذَاهِبِ إِلَّا ذَلِكَ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ الْعَمَلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَمِلُوا أُمُورًا لِمُطْلِقِ الْمَصْلَحَةِ، لَا لِتَقَدُّمِ شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ، نَحْوُ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا أَمْرٌ وَلَا نَظِيرٌ، وَوِلَايَةُ الْعَهْدِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا أَمْرٌ وَلَا نَظِيرٌ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الْخِلَافَةَ شُورَى، وَتَدْوِينُ الدَّوَاوِينِ، وَعَمَلُ السِّكَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَاتِّخَاذُ السِّجْنِ، فَعَلَ ذَلِكَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَدَمَ الْأَوْقَافَ الَّتِي بِإِزَاءِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّوْسِعَةُ فِيهِ عِنْدَ ضِيقِهِ، وَتَجْدِيدُ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فِي الْجُمْعَةِ ; فَعَلَ ذَلِكَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُلُّ ذَلِكَ لِمُطْلَقِ الْمَصْلَحَةِ.
(3/213)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَمِنْ مَذْهَبِنَا أَيْضًا سَدُّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا بِإِبْطَالِ الْحِيَلِ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَبِي الْخَطَّابِ وَمَنْ تَابَعَهُ عَقْدَ بَابٍ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ يَتَضَمَّنُ الْحِيلَةَ عَلَى تَخْلِيصِ الْحَالِفِ مِنْ يَمِينِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَجَعَلُوهُ مِنْ بَابِ الْحِيَلِ الْبَاطِلَةِ، وَهِيَ التَّوَصُّلُ إِلَى الْمُحَرَّمِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ، وَقَدْ صَنَّفَ شَيْخُنَا تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - كَتَابًا بَنَاهُ عَلَى بُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَأَدْرَجَ جَمِيعَ قَوَاعِدِ الْحِيَلِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَهَا بِأَدِلَّتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.
قُلْتُ: اعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْمَصْلَحَةَ إِلَى مُعْتَبَرَةٍ، وَمُلْغَاةٍ وَمُرْسَلَةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وَغَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ تَعَسَّفُوا وَتَكَلَّفُوا، وَالطَّرِيقُ إِلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْمَصَالِحِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَأَقْرَبُ، وَذَلِكَ بِأَنْ نَقُولَ: قَدْ ثَبَتَ مُرَاعَاةُ الشَّرْعِ لِلْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ بِالْجُمْلَةِ إِجْمَاعًا، وَحِينَئِذٍ نَقُولُ:
الْفِعْلُ إِنْ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً مُجَرَّدَةً، حَصَّلْنَاهَا، وَإِنْ تَضَمَّنَ مَفْسَدَةً مُجَرَّدَةً، نَفَيْنَاهَا، وَإِنْ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً مِنْ وَجْهٍ وَمَفْسَدَةً مِنْ وَجْهٍ، فَإِنِ اسْتَوَى فِي نَظَرِنَا تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ، وَدَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، تَوَقَّفْنَا عَلَى الْمُرَجِّحِ، أَوْ خَيَّرْنَا بَيْنَهُمَا كَمَا قِيلَ فِي مَنْ لَمْ يَجِدْ مِنَ السُّتْرَةِ إِلَّا مَا يَكْفِي أَحَدَ فَرْجَيْهِ فَقَطْ. هَلْ يَسْتُرُ الدُّبُرَ؛ لِأَنَّهُ مَكْشُوفًا أَفْحَشُ، أَوِ الْقُبُلَ؛ لِاسْتِقْبَالِهِ بِهِ الْقِبْلَةَ؟ أَوْ يَتَخَيَّرُ لِتَعَارُضِ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَالْمَفْسَدَتَيْنِ؟ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوِ ذَلِكَ، بَلْ تَرَجَّحَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، فَعَلْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ مُتَعَيِّنٌ شَرْعًا، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ يَتَخَرَّجُ كُلُّ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْصِيلِهِمُ الْمَصْلَحَةَ.
(3/214)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا كَالْقِيَاسِ، فَمَصْلَحَتُهُ ظَاهِرَةٌ مُجَرَّدَةٌ، أَوْ رَاجِحَةٌ، وَأَمَّا الْمُلْغَاةُ كَمَنْعِ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ، وَالشَّرِكَةِ فِي سُكْنَى الدُّورِ، فَلِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ وَالْمَفْسَدَةَ تَعَارَضَتَا فِيهِمَا، لَكِنَّ مَصْلَحَتَهُمَا ضَعِيفَةٌ وَمَفْسَدَتَهُمَا عَظِيمَةٌ، فَكَانَ نَفْيُهَا أَرْجَحَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ النَّفْعِ الْمُتَحَقِّقِ مِنْ زِرَاعَةِ الْعِنَبِ، وَالِارْتِفَاقِ الْمُتَحَقِّقِ بِالشَّرِكَةِ فِي السُّكْنَى لِأَجْلِ مَفْسَدَةٍ مَوْهُومَةٍ، وَهِيَ اعْتِصَارُ الْخَمْرِ، وَحُصُولُ الزِّنَى، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ مَظْنُونَةٌ، لَكِنَّهَا غَيْرُ قَاطِعَةٍ. وَالْمَصْلَحَةُ الَّتِي تُقَابِلُهَا قَاطِعَةٌ، فَكَانَ تَحْصِيلُهَا بِالْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الْمَظْنُونَةِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وأَيْضًا فَإِنَّ الْمَفْسَدَةَ الْمَذْكُورَةَ خَاصَّةٌ، وَالْمَصْلَحَةَ الَّتِي تُقَابِلُهَا عَامَّةٌ، وَالْتِزَامُ مَفْسَدَةٍ خَاصَّةٍ، أَيْ: قَلِيلَةٍ؛ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ عَامَّةٍ كَثِيرَةٍ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.
وَبَيَانُهُ: أَنَّ مَنَافِعَ الْعِنَبِ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ حُصْرُمًا عَلَى حَالِهِ، وَطَبِيخًا، وَعِنَبًا، وَعَصِيرًا، وَزَبِيبًا، فَهَذِهِ خَمْسُ مَنَافِعَ، وَلَعَلَّ فِيهِ غَيْرَهَا، وَالْمَمْنُوعُ مِنْ مَنَافِعِهِ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْخَمْرُ. وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي عَلَى لِسَانِ الشَّرْعِ: ابْنُ آدَمَ، لَكَ ثَمَرَةُ الْكَرْمِ حُصْرُمًا، وَعِنَبًا، وَعَصِيرًا، وَزَبِيبًا، فَهُنَّ أَرْبَعٌ لَكَ، فَاتْرُكْ لِيَ الْخَامِسَةَ: النَّصِيرُ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الْأَنْفَالِ: 41] ، فَتَحْصِيلُ هَذِهِ الْمَنَافِعِ الْمُبَاحَةِ بِزِرَاعَةِ الْعِنَبِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا لِمَفْسَدَةِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ مُحَرَّمَةٍ.
(3/215)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا تَعْيِينُ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ رَمَضَانَ عَلَى الْمُوسِرِ، فَلَيْسَ يَبْعُدُ إِذَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ وَضْعِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ تَرْكِ الِاسْتِفْصَالِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَهُوَ عَامٌّ ضَعِيفٌ فَيُخَصُّ بِهَذَا الِاجْتِهَادِ الْمَصْلَحِيِّ الْمُنَاسِبِ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ طَرِيقٌ مَهْيَعٌ. وَقَدْ فَرَّقَ الشَّرْعُ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَلْيَكُنْ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ.
وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الْوَاقِعَةُ مَوْقِعَ التَحْسِينِ أَوِ الْحَاجَةِ، كَمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ عَقْدَ النِّكَاحِ، وَتَسْلِيطِهِ عَلَى تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهِيَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لَا يُعَارِضُهَا مَفْسَدَةٌ، فَكَانَ تَحْصِيلُهَا مُتَعَيَّنًا.
وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الضَّرُورِيَّةُ كَحِفْظِ الدِّينِ، وَالْعَقْلِ، وَالنَّسَبِ، وَالْعِرْضِ، وَالْمَالِ، فَهِيَ وَإِنْ عَارَضَتْهَا مَفْسَدَةٌ، وَهِيَ إِتْلَافُ الْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ، وَيَدِ السَّارِقِ بِالْقَطْعِ، وَإِيلَامُ الشَّارِبِ وَالزَّانِي وَالْقَاذِفِ بِالضَّرْبِ، لَكِنَّ نَفْيَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، فَكَانَ تَحْصِيلُهَا مُتَعَيَّنًا، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمَسْجِدِ وَالْفَرَسِ الْحَبِيسِ إِذَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهُ الْمَقْصُودَةُ مِنْهُ، تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً، وَهِيَ اسْتِخْلَافُ مَنْفَعَةِ الْوَقْفِ الْمَقْصُودَةِ بِبَيْعِهِ، وَمَفْسَدَةً، وَهِيَ إِسْقَاطُ حَقِّ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِنْ عَيْنِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِيهَا، فَنَحْنُ رَجَّحْنَا تَحْصِيلَ الْمَصْلَحَةِ، وَغَيْرُنَا رَجَّحَ نَفْيَ الْمَفْسَدَةِ.
(3/216)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَعَلَى هَذَا تَتَخَرَّجُ الْأَحْكَامُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فِيهَا، أَوْ عِنْدَ تَجَرُّدِهَا، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى التَّصَرُّفِ فِيهَا بِتَقْسِيمٍ وَتَنْوِيعٍ لَا يَتَحَقَّقُ، وَيُوجِبُ الْخِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ، فَإِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا إِذَا تَحَقَّقَهَا الْعَاقِلُ، لَمْ يَسْتَطِعْ إِنْكَارَهَا لِاضْطِرَارِ عَقْلِهِ لَهُ إِلَى قَبُولِهَا، وَيَصِيرُ الْخِلَافُ وِفَاقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ نَجَزَ عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ الْقَوْلُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَوَاحِقِهَا، وَالْأُصُولِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا سِوَى الْقِيَاسِ، وَهَذَا حِينَ الشُّرُوعِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(3/217)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الْقِيَاسُ
لُغَةً: التَّقْدِيرُ، نَحْوُ: قِسْتُ الثَّوْبَ بِالذِّرَاعِ ; وَالْجِرَاحَةَ بِالْمِسْبَارِ ; أَقِيسُ وَأَقُوسُ قَيْسًا وَقَوْسًا وَقِيَاسًا فِيهِمَا.
وشَرْعًا: حَمَلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ فِي حُكْمٍ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ: إِثْبَاتُ مِثْلِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِمُقْتَضٍ مُشْتَرَكٍ.
وَقِيلَ: تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ مُشْتَرَكٍ، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ، وَقِيلَ غَيْرُ مَا ذُكِرَ.
وَقِيلَ: هُوَ الِاجْتِهَادُ، وَهُوَ خَطَأٌ لَفْظًا وَحُكْمًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْقِيَاسُ» ، أَيِ: الْقَوْلُ فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ «لُغَةً» ، أَيْ: فِي اللُّغَةِ «التَّقْدِيرُ، نَحْوُ: قِسْتُ الثَّوْبَ بِالذِّرَاعِ» ، أَيْ: قَدَّرْتُهُ بِهِ، «وَالْجِرَاحَةَ بِالْمِسْبَارِ» ، وَهُوَ مَا يُسْبَرُ بِهِ الْجُرْحُ، أَيْ: يُرَازُ بِهِ لِيُعْلَمَ عُمْقُهُ، وَهُوَ مَعَ الْجِرَاحِيَّةِ شِبْهُ الْمِيلِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قِسْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، أَيْ: قَدَّرْتُهُ عَلَى مِثَالِهِ، يُقَالُ: قِسْتُ «أَقِيسُ وَأَقُوسُ» ، فَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ، وَنَظَائِرُهُ فِي اللُّغَةِ كَثِيرَةٌ، وَالْمَصْدَرُ قَيْسًا وَقَوْسًا بِالْيَاءِ وَالْوَاوِ مِنْ بِنَاءٍ أَقِيسُ قِيَاسًا، وَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مَصْدَرِ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَأَقُوسُ «قَوْسًا» .
قَوْلُهُ: «وَقِيَاسًا فِيهِمَا» ، أَيْ: فِي اللُّغَتَيْنِ تَقُولُ: قِيَاسًا، فَتَقُولُ: أَقِيسُ قِيَاسًا، وَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مَصْدَرِ ذَوَاتِ الْيَاءِ، وَأَقُوسُ قِيَاسًا، وَقِيَاسُهُ: قِوَاسًا، لَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَ الْوَاوِ، انْقَلَبَتْ يَاءً، كَمَا قَالُوا: قَامَ قِيَامًا، وَصَامَ
(3/218)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صِيَامًا، وِصَالَ صِيَالًا، وَأَصْلُ جَمِيعِ ذَلِكَ الْوَاوُ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى التَّسْوِيَةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَهُوَ فِي الشَّرْعِ تَسْوِيَةٌ خَاصَّةٌ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَهُوَ كَتَخْصِيصِ لَفَظِ الدَّابَّةِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا، فَهُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ، مَجَازٌ لُغَوِيٌّ.
قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» ، أَيْ: وَالْقِيَاسُ شَرْعًا، أَيْ: فِي الشَّرْعِ وَاصْطِلَاحِ عُلَمَائِهِ ; قِيلَ: «حَمْلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ فِي حُكْمٍ ; بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا» ، كَحَمْلِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ بِجَامِعِ الْإِسْكَارِ، وَنَعْنِي بِالْحَمْلِ: الْإِلْحَاقَ وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَرُبَّمَا أَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ لَا يُعْرَفَانِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْقِيَاسِ، فَأَخْذُهُمَا فِي تَعْرِيفِهَا دَوْرٌ.
«وَقِيلَ» : الْقِيَاسُ: «إِثْبَاتُ مِثْلِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِمُقْتَضٍ مُشْتَرَكٍ» ، كَإِثْبَاتِ مِثْلِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي النَّبِيذِ، وَهُوَ غَيْرُ مُحَلِّ النَّصِّ عَلَى التَّحْرِيمِ، إِذْ مَحَلُّهُ الْخَمْرُ لِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ وَهُوَ الْمُقْتَضِي لِلتَّحْرِيمِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ.
«وَقِيلَ» : الْقِيَاسُ «تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ» كَتَعْدِيَةِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى النَّبِيذِ الَّذِي لَمْ يُنَصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ لِلْجَامِعِ الْمَذْكُورِ الْمُشْتَرَكِ، وَكَتَعْدِيَةِ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى الْأَرُزِّ الَّذِي لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لِعِلَّةِ حُصُولِ التَّفَاضُلِ وَالتَّغَابُنِ فِيهِمَا، وَهُوَ الْجَامِعُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا.
قَوْلُهُ: «وَمَعَانِيهَا» ، أَيْ: مَعَانِي هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ لِلْقِيَاسِ «مُتَقَارِبَةٌ» ، أَيْ:
(3/219)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنْ بَعْضٍ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَسَاوِيَةً حَقِيقَةً.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ» أَيْ: فِي تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ «غَيْرُ مَا ذُكِرَ» ، أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنَ التَّعْرِيفَاتِ.
فَمِنْهَا مَا يُعْزَى إِلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَاخْتَارَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ بَلَغَهُ، وَهُوَ أَنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا، أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا عَنْهُمَا.
وَقَدْ زَيَّفَ هَذَا عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا، غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُطْلَبُ بِهِ مَعْرِفَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ، إِذْ حُكْمُهُ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ بِهِ حُكْمُ الْفَرْعِ.
وَقِيلَ فِيهِ: حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ نَفْيِهِ بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ مِنْ صِفَةٍ أَوْ حُكْمٍ وُجُودًا وَانْتِفَاءً.
مِثَالُ الْوُجُودِ قَوْلُهُمْ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٍ، فَأَوْجَبَ الْقَوَدَ كَالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ.
وَمِثَالُ الِانْتِفَاءِ قَوْلُهُمْ فِيهِ. قَتْلٌ لَا يَخْلُو مِنْ شُبْهَةٍ، أَوْ قَتْلٌ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ الشُّبْهَةُ، فَلَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ قِيَاسًا عَلَى الْعَصَا الصَّغِيرَةِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ آخَرَ لِأَجْلِ اشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمُثْبِتِ.
فَقَوْلُهُ: إِثْبَاتُ، يُرَادُ بِهِ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالظَّنِّ وَالِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّا إِذَا أَثْبَتْنَا
(3/220)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُكْمًا بِالْقِيَاسِ، فَقَدْ يَعْلَمُ ثُبُوتَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ قَطْعًا، وَقَدْ يَظُنُّهُ ظَنًّا، وَقَدْ يَعْتَقِدُهُ اعْتِقَادًا، وَالْعِلْمُ وَالظَّنُّ وَالِاعْتِقَادُ مُشْتَرَكَةٌ فِي كَوْنِهَا إَثْبَاتًا.
وَقَوْلُنَا: مِثْلُ حُكْمٍ مَعْلُومٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ حُكْمِ الْأَصْلِ، إِذِ الْحُكْمُ وَصْفٌ لِمَحَلِّهِ، وَوَصْفُ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ لَيْسَ وَصْفًا لِلْآخَرِ، فَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ.
وَقَوْلُنَا: حُكْمُ مَعْلُومٍ لِمَعْلُومٍ لِيَتَنَاوَلَ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، وَلَمْ نَقُلْ: حُكْمُ شَيْءٍ لِشَيْءٍ؛ لِئَلَّا يَخْتَصَّ بِالْمَوْجُودِ عَلَى أَصْلِنَا فِي أَنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ جَارٍ فِي الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمُثْبَتِ وَالْمَنْفِي.
وَقَوْلُنَا: لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ ظَاهِرٌ، وَلَعَلَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى تَنَاوُلِهِ قِيَاسَ الشَّبَهِ وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُنَا: عِنْدَ الْمُثْبِتِ؛ لِيَشْمَلَ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَكُونُ مَنْصُوصَةً، وَقَدْ تَكُونُ مُسْتَنْبَطَةٌ، كَعِلَّةِ الرِّبَا الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ بِطَرِيقِ تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، وَهَلْ هِيَ الْكَيْلُ، أَوِ الطَّعْمُ، أَوِ الْوَزْنُ، أَوِ الِاقْتِيَاتُ؟ ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَمُرَادُ الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَلَوِ اقْتَصَرْنَا عَلَى قَوْلِنَا: لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، لَكَانَ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُرَادَةُ مِنَ الْحَدِيثِ هِيَ الْكَيْلَ، يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِغَيْرِهَا قِيَاسًا فَاسِدًا خَارِجًا عَنِ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ الْعِلَّةِ الْمُرَادَةِ لِلشَّارِعِ، فَإِذَا قُلْنَا: لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمُثْبِتِ، وَهُوَ الْقَائِسُ، كَانَ إِثْبَاتُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ لِلْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الَّذِي رَآهُ عِلَّةً قِيَاسًا شَرْعِيًّا دَاخِلًا فِي
(3/221)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحَدِّ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّا إِنْ قُلْنَا: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَظَاهِرٌ أَنَّهُ قِيَاسٌ شَرْعِيٌّ. وَإِنْ قُلْنَا: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ، فَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ أَقْيِسَةً شَرْعِيَّةً، إِذْ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى بِالصِّحَّةِ أَوِ الْبُطْلَانِ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ فِي «الْمُنْتَهَى» : الْقِيَاسُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ مُنْقَسِمٌ إِلَى قِيَاسِ الْعَكْسِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ نَقِيضِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ فِي غَيْرِهِ؛ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَإِلَى قِيَاسِ الطَّرْدِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ.
قُلْتُ: وَيَرِدُ عَلَى ظَاهِرِهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ، فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ لَا يَتَنَاوَلُهُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُسْتَنْبَطَةً.
قُلْتُ: وَمِنْ أَمْثِلَةِ قِيَاسِ الْعَكْسِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ عَدَّدَ لِأَصْحَابِهِ وُجُوهَ الصَّدَقَةِ: وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ أَوْ قَالَ: وَالرَّجُلُ يَأْتِي أَهْلَهُ صَدَقَةٌ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيُؤْجَرُ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ يَعْنِي: أَكَانَ يُعَاقَبُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَهْ، يَعْنِي كَمَا أَنَّهُ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ يَأْثَمُ، كَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي حَلَالٍ يُؤْجَرُ، فَقَدْ حَصَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقِيضَ حُكْمِ الْوَطْءِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ الْإِثْمُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْوَطْءُ الْحَرَامُ؛ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَهِيَ كَوْنُ هَذَا مُبَاحًا وَهَذَا حَرَامًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُشْبِهُ مَا سَبَقَ مِنْ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بَحْثٌ طَوِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ أَيْضًا فِي «جَدَلِهِ» : الَّذِي نَرَاهُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ
(3/222)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ مَعْلُومٍ.
وَقِيلَ: الْقِيَاسُ رَدُّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلٍ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا. وَقَدْ سَبَقَ نَحْوُهُ.
وَالْعِبَارَاتُ فِي تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ كَثِيرَةٌ، وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ اعْتِبَارُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ لِلْقِيَاسِ أَقْسَامًا بِاعْتِبَارَاتٍ:
أَحَدُهَا: إِمَّا جَلِيٌّ: وَهُوَ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَنْصُوصَةً، أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، أَوْ مَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي تَقْوِيمِ النَّصِيبِ.
وَإِمَّا خَفِيٌّ: وَهُوَ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةً، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ.
الثَّانِي: إِمَّا مُؤَثِّرٌ: وَهُوَ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِيهِ ثَابِتَةً بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ كَانَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِيهِ قَدْ أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ فِي جِنْسِهِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.
وَإِمَّا مُلَائِمٌ: وَهُوَ مَا أَثَّرَ جِنْسُ الْعِلَّةِ فِيهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْقِيَاسَ إِمَّا أَنْ يُصَرَّحَ فِيهِ بِالْعِلَّةِ أَوْ بِمَا يُلَازِمُهَا، أَوْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهَا فِيهِ، فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَالثَّانِي قِيَاسُ الدَّلَالَةِ، وَالثَّالِثُ الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى
(3/223)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَصْلِ، وَهُوَ مَا جُمِعَ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ، إِمَّا الْمُنَاسَبَةُ، أَوِ الشَّبَهُ، أَوِ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، أَوِ الطَّرْدُ أَوِ الْعَكْسُ، فَالْأَوَّلُ يُسَمَّى: قِيَاسَ الْإِخَالَةِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَتَخَيَّلُ لَهُ مُنَاسَبَةَ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ، فَيُعَلِّقُهُ بِهِ، وَالثَّانِي قِيَاسُ الشَّبَهِ، وَالثَّالِثُ قِيَاسُ السَّبْرِ، وَالرَّابِعُ قِيَاسُ الطَّرْدِ.
قُلْتُ: ذَكَرَ الْقِسْمَةَ بِهَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ الْآمِدِيُّ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا لَمْ يَسْبِقْ بَيَانُهُ مِنْهَا مَشْرُوحًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: هُوَ» ، يَعْنِي الْقِيَاسَ هُوَ: «الِاجْتِهَادُ، وَهُوَ» يَعْنِي هَذَا التَّعْرِيفَ «خَطَأٌ لَفْظًا وَحُكْمًا» ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ.
أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، فَلِأَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَالِاجْتِهَادُ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَنْبَأَ عَنْهُ، فَلَيْسَ هُوَ بِلَازِمٍ لَهُ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ، فَلِأَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِالنَّظَرِ فِي الْعُمُومَاتِ، وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهَا مِنْ طُرُقِ الْأَدِلَّةِ طَلَبًا لِلْحُكْمِ، فَإِنَّهُ اجْتِهَادٌ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ؛ وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يُنْبِئُ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ فِي النَّظَرِ، وَالْقِيَاسِ قَدْ يَكُونُ جَلِيًّا، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ.
قُلْتُ: فَرَجَعَ حَاصِلُ الْكَلَامِ إِلَى أَنَّ تَعْرِيفَ الْقِيَاسِ بِالِاجْتِهَادِ تَعْرِيفٌ بِالْأَعَمِّ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ، إِذْ كَلُّ قِيَاسٍ اجْتِهَادٌ، وَلَيْسَ كُلُّ اجْتِهَادٍ قِيَاسًا، فَكَانَ الْحَدُّ غَيْرَ جَامِعٍ لِخُرُوجِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ مِنْهُ، وَلَا مَانِعَ لِدُخُولِ
(3/224)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَا لَيْسَ بِقِيَاسٍ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ.
وَمِنَ التَّعْرِيفَاتِ الْفَاسِدَةِ لِلْقِيَاسِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ إِصَابَةُ الْحَقِّ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِنَحْوِ مَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، لَا يَكُونُ قِيَاسًا.
وَقَدْ يُطْلَقُ الْقِيَاسُ عَلَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَوْضُوعَتَيْنِ وَضْعًا خَاصًّا بِحَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهُمَا نَتِيجَةٌ.
وَيَرْسُمُهُ الْمَنْطِقِيُّونَ بِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَقْوَالٍ إِذَا سُلِّمَتْ، لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ، نَحْوُ: كُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ، وَكُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ، يَلْزَمُ عَنْهُ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ مُؤَلَّفٌ، فَهَذِهِ نَتِيجَةٌ لَازِمَةٌ عَنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، وَلَوْ أَضَفْنَا إِلَيْهِمَا مُقَدِّمَةً أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُنَا: كُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ ; لَزِمَ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ مُحْدَثٌ، فَهِيَ نَتِيجَةٌ لَازِمَةٌ عَنْ مُقَدِّمَاتٍ بِطْرِيقِ التَّرْكِيبِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَإِطْلَاقُ الْقِيَاسِ عَلَى هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ اسْمٌ إِضَافِيٌّ يَسْتَدْعِي أَمْرَيْنِ يُضَافُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ وَيُقَدَّرُ بِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي اللُّغَةِ أَنَّهُ تَقْدِيرُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ.
قُلْتُ: تَسْمِيَةُ الْمَنْطِقِيِّينَ لِهَذَا قَيَاسًا هُوَ اصْطِلَاحٌ بَيْنِهِمْ، وَالْأَمْرُ فِي الِاصْطِلَاحِيَّاتِ قَرِيبٌ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَرِيًّا عَنْ مَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالِاعْتِبَارِ، إِذْ هُوَ اعْتِبَارٌ لِلنَّتِيجَةِ بِالْمُقْدِّمَتَيْنِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، وَتَقْدِيرٌ لَهَا بِنَظَائِرِهَا مِنَ النَّتَائِجِ فِي طَرِيقِ لُزُومِهَا عَنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَغَايَةُ مَا ثَمَّ أَنَّ مَعْنَى التَّقْدِيرِ فِي هَذَا أَخْفَى مِنْهُ فِي غَيْرِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ قِيَاسًا لُغَةً أَوْ فِي مَعْنَاهُ.
(3/225)
________________________________________
وَأَرْكَانُهُ: أَصْلٌ، وَفَرْعٌ، وَعِلَّةٌ، وَحُكْمٌ.
فَالْأَصْلُ: قِيلَ: النَّصُّ، كَحَدِيثِ الرِّبَا، وَقِيلَ: مَحَلُّهُ كَالْأَعْيَانِ السِّتَّةِ.
وَالْفَرْعُ مَا عُدِّيَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْجَامِعِ.
وَالْعِلَّةُ وَالْحُكْمُ مَضَى ذِكْرُهُمَا، وَهِيَ فَرْعٌ فِي الْأَصْلِ لِاسْتِنْبَاطِهَا مِنَ الْحُكْمِ، أَصْلٌ فِي الْفَرْعِ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ بِهَا.
وَالِاجْتِهَادُ فِيهَا إِمَّا بَيَانُ وُجُودِ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُتَّفَقِ أَوِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْفَرْعِ، أَوْ بَيَانُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهِ، نَحْوُ: فِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَالضَّبُعِ مِثْلُهُمَا، وَالْبَقَرَةُ وَالْكَبْشُ مِثْلُهُمَا، فَوُجُوبُ الْمِثْلِ اتِّفَاقِيٌّ نَصِّيٌّ، وَكَوْنُ هَذَا مِثْلًا تَحْقِيقِيٌّ اجْتِهَادِيٌّ، وَمِثُلُهُ: اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاجِبٌ، وَهَذِهِ جِهَتُهَا، وَقَدْرُ الْكِفَايَةِ فِي النَّفَقَةِ وَاجِبٌ ; وَهَذَا قَدْرُهَا، وَنَحْوُ: الطَّوَافُ عِلَّةٌ لِطَهَارَةِ الْهِرَّةِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا قِيَاسٌ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ دُونَ الْقِيَاسِ، وَيُسَمَّيَانِ: تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَرْكَانُهُ» ، أَيْ: أَرْكَانُ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةٌ: «أَصْلٌ، وَفَرْعٌ، وَعِلَّةٌ، وَحُكْمٌ» .
اعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا بَحْثَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ هُوَ جُزْؤُهُ الدَّاخِلُ فِي حَقِيقَتِهِ، كَرُكْنِ الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ. وَقَدْ وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ وَالْعُرْفُ بَيْنَ عَامَّةِ النَّاسِ أَنَّ رُكْنَ الْبَيْتِ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي فِيهِ الزَّاوِيَةُ خَاصَّةً، وَهُوَ عُرْفٌ غَالِبٌ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الضِّلْعُ الَّذِي بَيْنَ الزَّاوِيَتَيْنِ، فَهَذَا رُكْنٌ كَبِيرٌ، ثُمَّ كَلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ رَكَنٌ لِلْبَيْتِ عَلَى
(3/226)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَسَبِهِ فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ.
وَاعْلَمْ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرُّكْنِ وَالشَّرْطِ يَتَوَقَّفُ وُجُودُ الْمَاهِيَّةِ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرُّكْنَ دَاخِلٌ فِي الْمَاهِيَّةِ كَالرُّكُوعِ لِلصَّلَاةِ وَسَائِرِ أَرْكَانِهَا، وَالشَّرْطُ خَارِجٌ عَنْهَا، كَالْوُضُوءِ لَهَا وَسَائِرِ شُرُوطِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الرُّكْنَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ الذِّهْنِيُّ وَالْخَارِجِيُّ جَمِيعًا، وَالشَّرْطُ إِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ الْخَارِجِيُّ فَقَطْ مَعَ تَحَقُّقِ الْوُجُودِ فِي الذِّهْنِ، فَيُمْكِنُنَا أَنْ نَتَصَوَّرَ صُورَةَ الصَّلَاةِ بِلَا وُضُوءٍ، وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَصَوَّرَهَا فِي أَذْهَانِنَا بِلَا رُكُوعٍ. وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا أَنَّنَا نَتَصَوَّرُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ بِدُونِ تَصَوُّرِ حَقِيقَةِ الْحَيَاةِ، لَكِنَّ قِيَامَ الْعِلْمِ بِمَحَلِّهِ فِي الْخَارِجِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّهَا شَرْطُهُ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي أَنَّهُ لِمَ كَانَتْ أَرْكَانُ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةً؟ وَلَهُ تَوْجِيهَاتٌ إِقْنَاعِيَّةٌ وَحَقِيقِيَّةٌ.
مِنْهَا: أَنَّ الْقِيَاسَ مَعْنًى مَعْقُولٌ، وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمَحْسُوسَةِ. وَقَدْ تُقُرِّرَ أَنَّ أَرْكَانَ الْمَحْسُوسَاتِ هِيَ الْعَنَاصِرُ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، فَكَذَلِكَ الْمَعْقُولَاتُ تَقْتَضِي بِحُكْمِ هَذَا أَنْ تَكُونَ أَرْكَانُهَا أَرْبَعَةً، فَإِنْ زَادَ شَيْءٌ مِنْهَا أَوْ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْأَصْلِ لِمُقْتَضىً خَاصٍّ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ مَدَارَ الْمُحْدَثَاتِ عَلَى عِلَلِهَا الْأَرْبَعِ: الْمَادِّيَّةُ، وَالصُّورِيَّةُ، وَالْفَاعِلِيَّةُ، وَالْغَائِيَّةُ، وَهِيَ أَرْكَانٌ لَهَا، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمَعْقُولَاتِ مُلْحَقَةٌ بِهَا كَمَا سَبَقَ آنِفًا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ رَاجِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الْمَنْطِقِيِّ
(3/227)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُؤَلَّفِ مِنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ ; مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ. وَقَوْلُنَا: الْأَرُزُّ مَكِيلٌ، فَيَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَالْبُرِّ، مُخْتَصَرٌ مِنْ قَوْلِنَا: الْأَرُزُّ مَكِيلٌ، وَكُلُّ مَكِيلٍ يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ. وَلَيْسَ فِي الْأَوَّلِ زِيَادَةً عَلَى الثَّانِي إِلَّا ذِكْرُ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ عَلَى جِهَةِ التَّنْظِيرِ بِهِ وَالتَّآنُسِ. وَلِهَذَا لَوْ قُلْنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ، وَالْأَرُزُّ مَكِيلٌ فَهُوَ رِبَوِيٌّ، لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ رَاجِعٌ إِلَى الْعَقْلِيِّ ; لَزِمَ فِيهِ مَا لَزِمَ فِي الْعَقْلِيِّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ.
وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَالنَّتِيجَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى سِتَّةِ أَجْزَاءٍ مَا بَيْنَ مَوْضُوعٍ وَمَحْمُولٍ، يَسْقُطُ مِنْهَا بِالتَّكْرَارِ جُزْءَانِ، وَهُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ هِيَ أَرْكَانُ الْمَقْصُودِ، وَهِيَ الَّتِي يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ فِي أَقْيِسَتِهِمْ.
مِثَالُهُ: أَنَّا نَقُولُ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، هَذَانِ جُزْءَانِ: مَوْضُوعٌ: وَهُوَ النَّبِيذُ، وَمَحْمُولٌ: وَهُوَ مُسْكِرٌ، وَهُمَا فِي عُرْفِ النُّحَاةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. ثُمَّ نَقُولُ: وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَهَذَانِ جُزْءَانِ، وَيَلْزَمُ عَنْ ذَلِكَ، النَّبِيذُ حَرَامٌ، وَهُمَا جُزْءَانِ آخَرَانِ ; صَارَتْ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ هَكَذَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَالنَّبِيذُ حَرَامٌ ; يَسْقُطُ مِنْهَا لَفْظُ مُسْكِرٍ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأَوْلَى مَوْضُوعٌ فِي الثَّانِيَةِ ; يَبْقَى هَكَذَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَهُوَ حَرَامٌ، وَهُمَا صُورَةُ قِيَاسِ الْفُقَهَاءِ.
فَقَدْ بَانَ بِهَذَا أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَقْلِيِّ فِي بِنَائِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ بِالْجُمْلَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْقِيَاسَ مَعْنًى إِضَافِيٌّ يَفْتَقِرُ فِي تَحْقِيقِهِ إِلَى مَقِيسٍ - وَهُوَ
(3/228)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُسَمَّى: فَرْعًا - وَإِلَى مَقِيسٍ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْمُسَمَّى: أَصْلًا - وَإِلَى مَقِيسٍ لَهُ - وَهُوَ الْمُسَمَّى: عِلَّةً - وَإِلَى مَقِيسٍ فِيهِ - وَهُوَ الْمُسَمَّى: حُكْمًا - فَلَمَّا تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ، وَافْتَقَرَ فِي تَحَقُّقِهِ إِلَيْهَا، لَا جَرَمَ كَانَتْ أَرْكَانًا لَهُ.
قَوْلُهُ: «فَالْأَصْلُ: قِيلَ» : هُوَ «النَّصُّ، كَحَدِيثِ الرِّبَا، وَقِيلَ: مَحَلُّهُ كَالْأَعْيَانِ السِّتَّةِ» .
لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةٌ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَقَائِقِهَا رُكْنًا رُكْنًا.
أَمَّا الْأَصْلُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ هُوَ النَّصُّ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ «كَحَدِيثِ الرِّبَا» ، أَوْ مَحَلُّ النَّصِّ «كَالْأَعْيَانِ السِّتَّةِ» الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الرِّبَا، وَهِيَ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَنَحْوُهُمَا، أَوِ الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ، فَمَعَنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءٍ: النَّصُّ وَمَحَلُّ النَّصِّ وَهُوَ الْعَيْنُ، أَوِ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ النَّصِّ، وَالْحُكْمُ الَّذِي ثَبَتَ بِالنَّصِّ فِي الْمَحَلِّ، فَاخْتُلِفَ فِي الْأَصْلِ، أَيُّ الثَّلَاثَةِ هُوَ؟ وَالثَّالِثُ وَهُوَ الْحُكْمُ لَمْ يُذْكَرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، لَكِنْ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ، وَكَذَلِكَ فِي قِيَاسِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ حَيْثُ قُلْنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، هَلِ الْأَصْلُ فِيهِ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّارِعِ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ، أَوْ مَحَلُّ هَذَا النَّصُّ وَهُوَ الْخَمْرُ، أَوْ حُكْمُ النَّصِّ الْمُتَعَلِّقِ بِالْخَمْرِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ، وَالنِّزَاعُ فِي هَذَا لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَالْقِيَاسُ يَتَوَقَّفُ عَلَى كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ:
(3/229)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النَّصُّ، وَحُكْمُهُ، وَمَحَلُّهُ، وَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْأَصْلِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَالنَّصُّ أَصْلٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِهِ، وَالْمَحَلُّ أَصْلٌ كَالْخَمْرِ وَالْأَعْيَانِ السِّتَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِيهِ، وَالْحُكْمُ أَصْلٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ مُسْتَفَادٌ مِنْهُ وَمُلْحَقٌ بِهِ، وَالْعِلَّةُ أَصْلٌ؛ لِأَنَّهَا مُصَحِّحَةٌ لِلْإِلْحَاقِ، فَأَرْكَانُ الْقِيَاسِ الْأَرْبَعَةِ أُصُولٌ لَهُ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ مَحَلُّ حُكْمِ النَّصِّ كَالْخَمْرِ وَالْبُرِّ، وَسُمِّيَ هَذَا مَحَلًّا لِلْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِهِ عَقْلًا تَعَلُّقَ الْحَالِّ بِمَحَلِّهِ حِسًّا.
وَحَدِيثُ الرِّبَا وَالْأَعْيَانِ السِّتَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» هُوَ مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مِثْلًا بِمَثَلٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرُ مَثَلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: «وَالْفَرْعُ مَا عُدِّيَ إِلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْجَامِعِ» .
قُلْتُ: وَذَلِكَ كَالنَّبِيذِ وَالْأَرُزِّ فِي قَوْلِنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَيَحْرُمُ كَالْخَمْرِ، وَالْأَرُزُّ مَكِيلٌ، فَيَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَالْبُرِّ، وَكَالْأَمَةِ فِي قَوْلِنَا: رَقِيقٌ، فَيَسْرِي فِيهِ الْعِتْقُ كَالْعَبْدِ، وَكَالْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ فِي قَوْلِنَا: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٍ، فَيَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ كَالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْفَرْعِ أَنَّهُ الْمَحَلُّ الَّذِي تَعَدَّى إِلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْوَصْفِ الْجَامِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ النَّصِّ.
وَقِيلَ: الْفَرْعُ هُوَ الْحُكْمُ الْمُنَازَعُ فِيهِ، وَهُوَ تَحْرِيمُ النَّبِيذِ، وَتَحْرِيمُ
(3/230)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّفَاضُلِ فِي الْأَرُزِّ، وَسِرَايَةُ الْعِتْقِ فِي الْأَمَةِ مَثَلًا، وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، فَالْفَرْعُ إِذَنْ هُوَ النَّبِيذُ مَثَلًا أَوْ تَحْرِيِمُهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
قَوْلُهُ: «وَالْعِلَّةُ وَالْحُكْمُ مَضَى ذِكْرُهُمَا» .
قُلْتُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ أَصْلٌ، وَفَرْعٌ، وَعِلَّةٌ، وَحُكْمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَا هِيَ، وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَيَانُ حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ، لَكِنْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا مُفَصَّلًا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي تَكْرَارِهِ، فَلْنَقْنَعْ بِالْإِحَالَةِ عَلَى مَا سَبَقَ فِيهِمَا، غَيْرَ أَنَّا نُشِيرُ إِلَيْهِمَا هَاهُنَا إِشَارَةً خَفِيفَةً؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ هَذَا الْمَوْضِعُ عَنْ بَيَانِهِمَا.
فَنَقُولُ: الْعِلَّةُ: هِيَ الْوَصْفُ أَوِ الْمَعْنَى الْجَامِعُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ صَحَّتْ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ، كَالْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ، وَتَبْدِيلِ الدِّينِ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ، حَيْثُ قُلْنَا فِي الْمُرْتَدَّةِ: بَدَّلَتْ دِينَهَا، فَتُقْتَلُ كَالْمُرْتَدِّ، وَسُمِّيَ هَذَا عِلَّةً؛ لِوُجُودِ الْحُكْمِ بِهِ حَيْثُ وُجِدَ، كَوُجُودِ السَّقَمِ بِالْعِلَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ حَيْثُ وُجِدَتْ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ: فَهُوَ قَضَاءُ الشَّرْعِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ خِطَابِهِ أَوْ إِخْبَارِهِ الْوَضْعِيِّ بِوُجُوبٍ، أَوْ نَدْبٍ، أَوْ كَرَاهَةٍ، أَوْ حَظْرٍ، أَوْ إِبَاحَةٍ، أَوْ صِحَّةٍ، أَوْ فَسَادٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ قَضَائِهِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ مُقْتَضَى خِطَابِ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ أَوِ الْوَضْعِ، وَهُنَاكَ لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ،
(3/231)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَارْجِعْ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَهِيَ» ، يَعْنِي الْعِلَّةَ «فَرْعٌ فِي الْأَصْلِ» ، «أَصْلٌ فِي الْفَرْعِ» . أَمَّا أَنَّهَا «فَرْعٌ فِي الْأَصْلِ» ، فَلِأَنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِهِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ، اسْتَنْبَطْنَا مِنْهُ أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيِمِهَا الْإِسْكَارُ الْمُفْسِدُ لِلْعُقُولِ؛ إِذْ لَا مُنَاسِبَ لِلتَّحْرِيمِ فِيهَا سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ لَمَّا نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِي الْأَعْيَانِ السِّتَّةِ، اسْتَخْرَجْنَا مِنْ تَحْرِيمِهِ أَنَّ عِلَّتَهُ الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ جَزْمٌ بِالْحُكْمِ وَهُوَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ وَتَحْرِيمُ الْحُكْمِ مَعَ الْغَضَبِ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْعِلَّةَ تَبْدِيلُ الدِّينِ وَاضْطِرَابُ رَأْيِ الْقَاضِي بِالْغَضَبِ، فَكَانَتِ الْعِلَّةُ فَرْعًا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِالْحُكْمِ جَزَمًا، وَأَشَارَ إِلَيْهَا إِشَارَةً، وَالِاهْتِمَامُ بِالْأُصُولِ أَوْلَى مِنَ الِاهْتِمَامِ بِالْفُرُوعِ، فَكَانَ الْمَجْزُومُ بِهِ أَصْلًا، وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فَرْعًا.
وَأَمَّا أَنَّ الْعِلَّةَ «أَصْلٌ فِي الْفَرْعِ» ; فَلِأَنَّهَا إِذَا تَحَقَّقَتْ فِيهِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهَا إِثْبَاتُ حُكْمِ الْأَصْلِ، كَالْإِسْكَارِ لَمَّا تَحَقَّقَ فِي النَّبِيذِ، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِثْبَاتُ التَّحْرِيمِ، فَالْعِلَّةُ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْمُسْتَخْرَجُ فَرْعٌ عَلَى الْمُسْتَخْرَجِ مِنْهُ، وَالْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ مَبْنِيٌّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَالْمَبْنِيُّ فَرْعٌ عَلَى الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ، وَالْمُتَرَتِّبُ فَرْعٌ عَلَى الْمُتَرَتَّبِ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَالِاجْتِهَادُ فِيهَا» ، أَيْ: فِي الْعِلَّةِ، «إِمَّا بِبَيَانِ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ
(3/232)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْكُلِّيَّةِ الْمُتَّفَقِ» عَلَيْهَا «أَوِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْفَرْعِ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنْوَاعِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَقْيِسَةِ، وَهُوَ إِمَّا بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، أَوْ تَنْقِيحِهِ، أَوْ تَخْرِيجِهِ، وَالْمَنَاطُ: مَا نِيطَ بِهِ الْحُكْمُ، أَيْ: عُلِّقَ بِهِ، وَهُوَ الْعِلَّةُ الَّتِي رُتِّبَ عَلَيْهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ، يُقَالُ: نُطْتُ الْحَبَلَ بِالْوَتَدِ، أَنُوطُهُ نَوْطًا: إِذَا عَلَّقْتُهُ، وَمِنْهُ ذَاتُ أَنْوَاطٍ: شَجَرَةٌ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَلِّقُونَ فِيهَا سِلَاحَهُمْ، وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي الْحَدِيثِ.
أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ، فَنَوْعَانِ وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: «وَهَذَا قِيَاسٌ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ» -:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ قَاعِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، أَوْ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْأَصْلُ، فَيَتَبَيَّنُ الْمُجْتَهِدُ وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: «إِمَّا بِبَيَانِ وُجُودِ مُقْتَضَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُتَّفَقِ، أَوِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْفَرْعِ» .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَعْرِفَ عِلَّةَ حُكْمٍ مَا فِي مَحَلِّهِ بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، فَيَتَبَيَّنُ الْمُجْتَهِدُ وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: «أَوْ بَيَانُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهِ» .
مِثَالُ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ: «فِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَالضَّبُعِ مَثَلُهُمَا» ، أَيْ: فِي حِمَارِ الْوَحْشِ إِذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ مِثْلُهُ، وَفِي الضَّبُعِ أَيْضًا يَقْتُلُهَا الْمُحْرِمُ مِثْلُهَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [الْمَائِدَةِ:
(3/233)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
95] ، «وَالْبَقَرَةُ وَالْكَبْشُ» كَذَلِكَ، أَيِ: الْبَقَرَةُ مِثْلُ حِمَارِ الْوَحْشِ، وَالْكَبْشُ مِثْلُ الضَّبُعِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَزَاءُ، «فَوُجُوبُ الْمِثْلِ اتِّفَاقِيٌّ نَصِّيٌّ» ، أَيْ: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ، «وَكَوْنُ هَذَا مِثْلًا» يَعْنِي كَوْنَ الْبَقَرَةِ مِثْلَ الْحِمَارِ، وَالْكَبْشِ مِثْلَ الضَّبُعِ «تَحْقِيقِيٌّ اجْتِهَادِيٌّ» أَيْ: ثَابِتٌ بِالِاجْتِهَادِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ؛ إِذْ لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَا إِجْمَاعَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَمْ يَنُصَّ عَلَى أَنَّ الْكَبْشَ مَثَلًا مِثْلُ الضَّبُعِ، إِنَّمَا نَصَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا مِثْلُهَا، وَفَوَّضَ تَعْيِينَ الْمِثْلِ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَتَحَقَقَ مِثْلِيَّتُهَا فِي الْكَبْشِ.
قَوْلُهُ: «وَمِثْلُهُ» ، أَيْ: وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يُقَالَ: «اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاجِبٌ، وَهَذِهِ جِهَتُهَا» ، فَوُجُوبُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا كَوْنُ هَذِهِ جِهَتُهَا فِي حَقِّ مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، فَيَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: «قَدْرُ الْكِفَايَةِ فِي» نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَنَحْوِهُمْ «وَاجِبٌ» ، وَكَذَلِكَ قَدْرُهَا كَالرِّطْلِ وَالرِّطْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَوُجُوبُ قَدْرِ الْكِفَايَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، أَمَّا كَوْنُ قَدْرِ الْكِفَايَةِ رِطْلًا أَوْ رِطْلَيْنِ، فَيُعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ، فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ كَوْنَ هَذَا مِثْلًا لَهُ، أَوْ هَذَا الْمِقْدَارِ قِيمَتَهُ، فَهُوَ اجْتِهَادِيُّ.
وَقَوْلُنَا: هَذَا الْفِعْلُ يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ الرَّادِعُ، لَكِنَّ كَوْنَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ وَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا رَادِعًا، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ عَلَى رَأْيِ مَنْ لَمْ يَتَقَيَّدْ فِي التَّعْزِيزِ بِخَبَرِ أَبِي بُرْدَةَ.
(3/234)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: نَصْبُ الْإِمَامِ وَالْوَالِي وَالْقَاضِي وَاجِبٌ، لَكِنَّ تَعْيِينَ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ لِذَلِكَ هُوَ إِلَى اجْتِهَادِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي ذَلِكَ، فَهَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ.
وَمِثَالُ النَّوْعِ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ: «الطَّوَافُ عِلَّةٌ لِطَهَارَةِ الْهِرَّةِ» بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ، وَالطَّوَّافُ «مَوْجُودٌ فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا» مِنْ صِغَارِ الْحَشَرَاتِ، وَفِي الْكَلْبِ أَيْضًا حَيْثُ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الطَّوَافُ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ بِطَهَارَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: الْحَيَاءُ عِلَّةُ الِاكْتِفَاءِ مِنَ الْبِكْرِ فِي تَزْوِيجِهَا بِالصُّمَاتِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيمَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِغَيْرِ نِكَاحٍ.
قَوْلُهُ: «وَهَذَا قِيَاسٌ دُونَ الَّذِي قَبْلَهُ» ، أَيْ: هَذَا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الَّذِي هُوَ بَيَانُ وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْفَرْعِ، هُوَ قِيَاسٌ دُونَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ بَيَانُ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَوِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْأَوَّلَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ لِعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ عَلَى جُزْئِيَّاتِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ فِيهَا، كَعَدَالَةِ الْأَشْخَاصِ وَتَقْدِيرِ كِفَايَةِ كُلِّ شَخْصٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُتَغَايِرَانِ، وَالثَّانِي قِيَاسٌ،
(3/235)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ.
قَوْلُهُ: «وَيُسَمَّيَانِ: تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ» ، يَعْنِي: النَّوْعَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ هُوَ إِثْبَاتُ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، أَوْ إِثْبَاتُ مَعْنًى مَعْلُومٍ فِي مَحَلٍّ خَفِيَ فِيهِ ثُبُوتُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّوْعَيْنِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي أَنَّ أَحَدَهُمَا قِيَاسٌ دُونَ الْآخَرِ، فَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ.
(3/236)
________________________________________
أَوْ بِإِضَافَةِ الْعِلِّيَّةِ إِلَى بَعْضِ الْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لِلْحُكْمِ عِنْدَ صُدُورِهِ مِنَ الشَّارِعِ وَإِلْغَاءِ مَا عَدَاهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، كَجَعْلِ عِلَّةِ وُجُوبِ كَفَّارَةِ رَمَضَانَ وِقَاعُ مُكَلَّفٍ أَعْرَابِيٍّ لَاطِمٍ فِي صَدْرِهِ فِي زَوْجَةٍ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ أَعْرَابِيًّا وَلَا لَاطِمًا، وَالزَّانِي، وَمَنْ وَطِئَ فِي رَمَضَانَ آخَرَ.
وَقَدْ يَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْأَوْصَافِ نَحْوُ: هَلِ الْعِلَّةُ خُصُوصُ الْجِمَاعِ أَوْ عُمُومُ الْإِفْسَادِ فَتَلْزَمُ الْآكِلَ وَالشَّارِبَ؟ وَيُسَمَّى: تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ، وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَالْمَنَاطُ قَدْ عُرِفَ مَا هُوَ لُغَةً وَاصْطِلَاحًا.
أَمَّا التَّنْقِيحُ، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: التَّخْلِيصُ، وَالتَّهْذِيبُ، يُقَالُ: نَقَّحْتُ الْعَظْمَ، إِذَا اسْتَخْرَجْتُ مُخَّهُ. وَأَمَّا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ فِي الِاصْطِلَاحِ، فَهُوَ إِلْغَاءُ بَعْضِ الْأَوْصَافِ الَّتِي أَضَافَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ إِلَيْهَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا لِلِاعْتِبَارِ فِي الْعِلَّةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : «أَوْ بِإِضَافَةِ الْعِلِّيَّةِ إِلَى بَعْضِ الْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لِلْحُكْمِ عِنْدَ صُدُورِهِ مِنَ الشَّارِعِ، وَإِلْغَاءِ مَا عَدَاهَا عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، كَجَعْلِ عِلَّةِ وُجُوبِ كَفَّارَةِ رَمَضَانَ وِقَاعُ مُكَلَّفٍ» ، أَيْ: وِقَاعُ إِنْسَانٍ مُكَلَّفٍ «أَعْرَابِيٍّ لَاطِمٍ فِي صَدْرِهِ فِي زَوْجَةٍ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ، فَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ أَعْرَابِيًّا، وَلَا لَاطِمًا، وَالزَّانِي، وَمَنْ وَطِئَ فِي رَمَضَانَ آخَرَ» .
وَمَعْنَى هَذَا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلَكْتُ
(3/237)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا. الْحَدِيثَ، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَعَوَامُّ الْفُقَهَاءِ يَذْكُرُونَ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ أَعْرَابِيًّا، وَأَنَّهُ جَاءَ يَلْطِمُ وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ، وَيَنْعِي نَفْسَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ جَاءَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ أَثَرٌ، فَلَعَلَّهُمْ أَخَذُوهَا مِنْ قَوْلِهِ: هَلَكْتُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَأَهْلَكْتُ، لَكِنْ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ يَعْنِي أَهْلَكْتُ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتٍ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَصْحَابُ سُفْيَانَ لَمْ يَرْوُوهَا عَنْهُ، إِنَّمَا ذَكَرُوا قَوْلَهُ: هَلَكْتُ، فَحَسْبُ.
قُلْتُ: وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ مِنْ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: أَتَى أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْتِفُ شَعْرَهُ، وَيَضْرِبُ نَحْرَهُ، وَيَقُولُ: هَلَكَ الْأَبْعَدُ، الْحَدِيثَ.
وَيُقَالُ: إِنَّ الرَّجُلَ: هُوَ سَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ الْبَيَاضِيُّ صَاحِبُ قِصَّةِ الظِّهَارِ، وَخَلِيقٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ أَنَّهُ كَانَ مُولَعًا بِالْجِمَاعِ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ بِالْكَفَّارَةِ فِي جَوَابِ قَوْلِهِ: وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ مَعَ مَجِيئِهِ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَرُبَّمَا خُيِّلَ لِلسَّامِعِ أَنَّ مَجْمُوعَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ الْوِقَاعِ فِي رَمَضَانَ هِيَ مَنَاطُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَعِلَّتُهُ، لَكِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا مَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لِكَوْنِهِ عِلَّةً وَلَا جُزْءَ عِلَّةٍ، فَاحْتِيجَ إِلَى إِلْغَائِهِ، وَتَنْقِيحُ الْعِلَّةِ وَتَخْلِيصُهَا بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، فَيُقَالُ
(3/238)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حِينَئِذٍ: كَوْنُ هَذَا الرَّجُلِ أَعْرِابِيًّا لَا أَثَرَ لَهُ، فَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ أَعْرَابِيًّا، كَالتُّرْكِيِّ وَالْعَجَمِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْنَافِ النَّاسِ، وَكَوْنُهُ لَاطِمًا وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ لَا أَثَرَ لَهُ، فَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ جَاءَ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَثَبَاتٍ، وَكَوْنُ الْوَطْءِ فِي زَوْجَةٍ لَا أَثَرَ لَهُ، فَيَلْحَقُ بِهِ الْوَطْءُ فِي ذَكَرٍ، أَوْ أُنْثَى، أَوْ أَمَةٍ، أَوْ أَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ بَهِيمَةٍ، فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، اعْتِبَارًا لِصُورَةِ الْوِقَاعِ، وَكَوْنُهُ ذَلِكَ الشَّهْرَ الْمُعَيَّنَ لَا أَثَرَ لَهُ، فَيَلْحَقُ بِهِ مَنْ وَطِئَ فِي رَمَضَانَ آخَرَ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَا أَثَرَ لَهَا لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا؛ إِذِ الْوَصْفُ الَّذِي تَظْهَرُ مُنَاسَبَتُهُ كَوْنُهُ وِقَاعَ مُكَلَّفٍ هُتِكَتْ بِهِ حُرْمَةُ عِبَادَةِ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ أَدَاءً، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ التَّعْيِينَاتِ وَالْأَوْصَافِ لَاغٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي تَقْلِيلِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ تَكْثِيرًا لِأَحْكَامِهَا لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَسُهُولَتِهِ لِقِلَّةِ أَوْصَافِهَا.
مِثَالُهُ: أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا عَيْنَ ذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ جُزْءًا لِعِلَّةِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، لَمَا وَجَبَتْ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَانَتْ تَكُونُ عِلَّةً قَاصِرَةً عَلَى مَحَلِّهَا، كَالنَّقْدِيَّةِ فِي النَّقْدَيْنِ، وَكَذَا إِذَا اعْتَبَرْنَا عَيْنَ ذَلِكَ الشَّهْرِ، أَوْ عَيْنَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، وَلَوِ اعْتَبَرْنَا وَصْفَ الْأَعْرَابِيَّةِ، أَوْ كَوْنَ الْمَوْطُوءَةِ زَوْجَةً، لَمَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا عَلَى أَعْرَابِيٍّ وَطِئَ أَمَةً أَوْ أَجْنَبِيَّةً، فَقَدْ بَانَ بِهَذَا أَنَّ فِي تَقْلِيلِ الْأَوْصَافِ تَكْثِيرَ الْأَحْكَامِ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ يَخْتَلِفُ فِي بَعْضِ الْأَوْصَافِ، نَحْوُ: هَلِ الْعِلَّةُ خُصُوصُ الْجِمَاعِ، أَوْ عُمُومُ الْإِفْسَادِ، فَتَلْزَمُ» يَعْنِي الْكَفَّارَةَ «الْآكِلَ وَالشَّارِبَ» ؟ .
(3/239)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اعْلَمْ أَنَّ أَوْصَافَ الْعِلَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا اتُّفِقَ عَلَى مُنَاسَبَتِهِ لِلْحُكْمِ كَوِقَاعِ الْمُكَلَّفِ هَاهُنَا.
الثَّانِي: مَا اتُّفِقَ عَلَى طَرْدِيَّتِهِ وَعَدَمِ مُنَاسَبَتهِ كَكَوْنِ الْوَاطِئِ أَعْرَابِيًّا لِزَوْجَةٍ فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ.
الثَّالِثُ: مَا اخْتُلِفَ فِي مُنَاسَبَتِهِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الطَّرْدِيِّ وَالْمُنَاسِبِ، أَوْ لِكَوْنِهِ مُنَاسِبًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، كَكَوْنِ الْفِعْلِ إَفْسَادًا لِلصَّوْمِ، وَهُوَ وَصْفٌ عَامٌّ، أَوْ جِمَاعًا وَهُوَ خَاصٌّ.
وَلِهَذَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَقَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَخَالَفَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، فَقَالُوا، لَا كَفَّارَةَ إِلَّا بِخُصُوصِ الْجِمَاعِ.
حُجَّةُ الْأَوَّلِينَ أَنَّ إِفْسَادَ الصَّوْمِ جِنَايَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ، فَنَاسَبَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ زَجْرًا وَرَدْعًا، وَالْجِمَاعُ آلَةٌ لِلْإِفْسَادِ وَسَبَبٌ لَهُ فَيَلْحَقُ بِهِ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ، كَمَا أَنَّ مَنَاطَ الْقِصَاصِ ; لَمَّا كَانَ هُوَ إِزْهَاقَ النَّفْسِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَالسَّيْفُ آلَةٌ لَهُ، لَمْ يَخْتَصَّ الْحُكْمُ بِهِ، بَلْ تَعَدَّى إِلَى السِّكِّينِ وَالْخِنْجَرِ وَالرُّمْحِ وَسَائِرِ الْمُحَدَّدَاتِ، وَإِلَى الْمُثْقَلِ كَالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا.
وَقَرَّرَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ ذَلِكَ بِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إِذَا وَجَبَتْ بِالْجِمَاعِ، كَانَ وُجُوبُهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُمَا مَادَّةُ الْجِمَاعِ وَسَبَبُهُ الْمُقَوِّي عَلَيْهِ، وَوَسِيلَتُهُ الْمُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهِ؛ إِذِ الْجَائِعُ لَا يَسْتَطِيعُهُ، وَالشَّبْعَانُ يَنْشَطُ لَهُ، فَكَانَ إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ وَحَسْمِ مَوَادِّ الْفَسَادِ.
(3/240)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُجَّةُ الْآخَرِينَ أَنَّ الْجِمَاعَ اخْتُصَّ بِمَا يُنَاسِبُ اخْتِصَاصَهُ بِالْكَفَّارَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّفْسَ لَا تَنْزَجِرُ عَنْهُ عِنْدَ هَيَجَانِ شَهْوَتِهِ بِمُجَرَّدِ الْوَازِعِ الدِّينِيِّ، فَاحْتِيجَ فِيهِ إِلَى زِيَادَةٍ فِي الْوَازِعِ، وَهِيَ الْكَفَّارَةُ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي ذَلِكَ. فَقَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ مُنَاسَبَةُ خُصُوصِ الْجِمَاعِ لِاخْتِصَاصِهِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، فَإِلْغَاءُ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ لَا يَجُوزُ.
قُلْتُ: وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا أَنَّ أَوْصَافَ الْعِلَلِ فِي الْقِيَاسِ الْمَعْقُولِ كَالْأَخْبَارِ فِي النَّصِّ الْمَنْقُولِ. ثُمَّ إِنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ خَبَرَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ ; قُدِّمَ الْخَاصُّ، فَكَذَلِكَ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَنَا وَصْفَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ ; وَجَبَ أَنْ يُقَدَّمَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ، وَهُوَ الْجِمَاعُ هَاهُنَا. وأَيْضًا فَإِنَّ اعْتِبَارَ خُصُوصِ الْجِمَاعِ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ؛ إِذِ الْأَصْلُ أَنَّ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ يَكُونُ بِمَجْمُوعِهِ عِلَّةً، فَإِلْغَاءُ بَعْضِ الْأَوْصَافِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ.
وَقَدْ يُعَارَضُ هَذَا بِأَنَّ اعْتِبَارَ خُصُوصِ الْجِمَاعِ تَكْثِيرٌ لِأَوْصَافِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَهِيَ مُتَجَاذَبَةٌ.
قَوْلُهُ: «وَيُسَمَّى: تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ» يَعْنِي هَذَا النَّوْعَ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَقَالَ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ» ، أَيْ: أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ اسْتَعْمَلُوا هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ، حَتَّى إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُنْكِرُ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ فِيهَا، وَسَمَّاهُ اسْتِدْلَالًا، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ عِنْدَهُ فِيهَا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ وَتَخْرِيِجُهُ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(3/241)
________________________________________
أَوْ بِتَعْلِيقِ حُكْمٍ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعِلَّتِهِ عَلَى وَصْفٍ بِالِاجْتِهَادِ، نَحْوُ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِإِسْكَارِهَا فَالنَّبِيذُ حَرَامٌ، وَالرِّبَا فِي الْبُرِّ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ فَالْأَرُزُّ مِثْلُهُ، وَيُسَمَّى: تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ الْقِيَاسِيُّ، وَأَجَازَ أَصْحَابُنَا التَّعَبُّدَ بِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا، وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ وَالنَّظَّامِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ، وَحُمِلَ عَلَى قِيَاسٍ خَالَفَ نَصًّا، وَقِيلَ: هُوَ فِي مَظِنَّةِ الْجَوَازِ، وَلَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِيهِ بِإِحَالَةٍ وَلَا إِيجَابٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ، وَهُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَالتَّخْرِيجُ: هُوَ الِاسْتِخْرَاجُ وَالِاسْتِنْبَاطُ، وَهُوَ إِضَافَةُ حُكْمٍ لَمْ يَتَعَرَّضِ الشَّرْعُ لِعِلَّتِهِ إِلَى وَصْفٍ مُنَاسِبٍ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» بِقَوْلِهِ: «أَوْ بِتَعْلِيقِ حُكْمٍ» ، أَيْ: وَالِاجْتِهَادُ فِي الْعِلَّةِ إِمَّا بِبَيَانِ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، أَوْ بِإِضَافَةِ الْعِلَّةِ إِلَى بَعْضِ الْأَوْصَافِ، «أَوْ بِتَعْلِيقِ حُكْمٍ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعِلَّتِهِ عَلَى وَصْفٍ بِالِاجْتِهَادِ، نَحْوُ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِإِسْكَارِهَا» ؛ لِأَنَّهُ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ لِتَحْرِيِمِهَا، «فَالنَّبِيذُ حَرَامٌ» لِوُجُودِ الْإِسْكَارِ فِيهِ، وَحُرِّمَ «الرِّبَا فِي الْبُرِّ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ» أَوْ مَطْعُومُ جِنْسٍ، «فَالْأَرُزُّ مِثْلُهُ» لِأَنَّهُ كَذَلِكَ، «وَيُسَمَّى: تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ» ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ اسْتِخْرَاجُ عِلَّةِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الْبُرِّ لِكَوْنِهِ قُوتًا، فَتَلْحَقُ بِهِ
(3/242)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَقْوَاتُ، أَوْ لِكَوْنِهِ نَبَاتَ الْأَرْضِ وَفَائِدَتَهَا فَتَلْحَقُ بِهِ الْخَضْرَاوَاتُ وَأَنْوَاعُ النَّبَاتِ.
وَتَحْرِيرُ الْكَلَامِ هَاهُنَا أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا الشَّارِعَ قَدْ نَصَّ عَلَى حُكْمٍ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِعِلَّتِهِ، قُلْنَا: هَذَا حُكْمٌ حَادِثٌ لَا بُدَّ لَهُ بِحَقِّ الْأَصْلِ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ، فَيَجْتَهِدُ الْمُجْتَهِدُ فِي اسْتِخْرَاجِ ذَلِكَ السَّبَبِ مِنْ مَحَلِّ الْحُكْمِ، فَإِذَا ظَفِرَ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ لَهُ، وَاجْتَهَدَ وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ سَبَبُ ذَلِكَ الْحُكْمِ.
قَالَ الْبَزْدَوِيُّ فِي «الْمُقْتَرَحِ» : مِثَالُهُ: تَعْلِيلُ حِرْمَانِ الْقَاتِلِ مِنَ الْمِيرَاثِ بِمُعَارَضَتِهِ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ مِنْ تَعْجِيلِ الْإِرْثِ حَتَّى يَقِيسَ عَلَيْهِ حِيَازَةَ الْمَبْتُوتَةِ لِمِيرَاثِهَا مُعَارَضَةً لِلْمُطَلِّقِ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ.
فَائِدَةٌ: هَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ: تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ، وَتَنْقِيحُهُ، وَتَخْرِيِجُهُ يَشْتَبِهُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ خُصُوصًا عَلَى الْمُبْتَدِئِ فِي النَّظَرِ، فَتَحْقِيقُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمْ مُهِمٌّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فُهِمَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ.
فَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ: بَيَانُ وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، أَوْ بَيَانُ وُجُودِ عِلَّةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، كَبَيَانِ وُجُودِ الطَّوَافِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الْهِرَّةِ فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا.
وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ: تَعْيِينُ وَصْفٍ لِلتَّعْلِيلِ مِنْ أَوْصَافٍ مَذْكُورَةٍ، كَتَعْيِينِ وِقَاعِ الْمُكَلَّفِ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ.
وَتَخْرِيجُ الْمَنَاطِ: هُوَ اسْتِخْرَاجُ الْعِلَّةِ مِنْ أَوْصَافٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ، كَاسْتِخْرَاجِ الْكَيْلِ مِنْ حَدِيثِ الرِّبَا دُونَ الطَّعْمِ وَالِاقْتِيَاتِ وَهِيَ أَوْصَافُ الْأَصْلِ. كَذَلِكَ حُكِيَ عَنِ الْحَسْكَفِيِّ فِي «جَدَلِهِ» .
(3/243)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا يَلْزَمُ فِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ تَعْدَادُ الْأَوْصَافِ، بَلْ قَدْ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ إِلَّا وَصْفٌ وَاحِدٌ هُوَ الْعِلَّةُ، فَتُسْتَخْرَجُ بِالِاجْتِهَادِ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: هُوَ اسْتِخْرَاجُ الْعِلَّةِ غَيْرِ الْمَذْكُورَةِ بِالِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ: هُوَ النَّظَرُ فِي وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا فِي نَفْسِهَا.
وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ: هُوَ النَّظَرُ فِي تَعْيِينِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، بِحَذْفِ مَا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهِ، كَمَا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ.
وَتَخْرِيجُ الْمَنَاطِ: هُوَ النَّظَرُ فِي إِثْبَاتِ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالرَّأْي وَالِاجْتِهَادِ، كَالنَّظَرِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
قَالَ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ الْحَوَارِيُّ فِي «لُبَابِ الْقِيَاسِ» : الْعِلَّةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلُّ مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَمَارَةً مُعَرِّفَةً لِثُبُوتِ الْحُكْمِ، ثُمَّ كَوْنُهُ مُعَرِّفًا فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ يُعْرَفُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَفِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَفِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ بِالِاجْتِهَادِ.
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ: أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ هُوَ إِلْغَاءُ الْفَارِقِ، نَحْوُ: لَا فَارِقَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي مَفْهُومِ الرِّقِّ وَتَشْطِيرِ الْحَدِّ، فَوَجَبَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِذَلِكَ فِي الْإِمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: لَا بَأْسَ بِتَسْمِيَةِ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ تَنْقِيحًا، إِذِ التَّنْقِيحُ هُوَ التَّخْلِيصُ وَالتَّصْفِيَةُ، وَبِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ يَصْفُو الْوَصْفُ، وَيَخْلُصُ لِلْعِلِّيَّةِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا قَوْلًا
(3/244)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثَانِيًا فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ، كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ، بَلْ يَكُونُ إِلْغَاءُ الْفَارِقِ ضَرْبًا مِنْ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ.
قُلْتُ: فَقَدْ ذَكَرْتُ لَكَ جُمْلَةً مِنْ كَلَامِ الْفُضَلَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ بِلَفْظِهِ تَارَةً، وَبِمَعْنَاهُ أُخْرَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ مُتَّحِدٌ أَوْ مُتَقَارِبٌ؛ لِتُقَابِلَ بَيْنَ كَلَامِهِمْ وَنَتَائِجِ قَرَائِحِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَيَتَلَخَّصُ لَكَ الْمَقْصُودُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي تَخْرِيجَ الْمَنَاطِ هُوَ «الِاجْتِهَادُ الْقِيَاسِيُّ» ، أَيِ: الْقِيَاسُ الَّذِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ، «وَأَجَازَ أَصْحَابُنَا التَّعَبُّدَ بِهِ عَقْلًا وشَرْعًا» ، أَيْ: دَلَّ دَلِيلُ الْعَقْلِ عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِهِ، «وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ وَالنَّظَّامِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ أَحْمَدُ» ، أَيْ: إِلَى مَذْهَبِ النَّظَّامِ فِي إِنْكَارِ الْقِيَاسِ، فَقَالَ: يَجْتَنِبُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ الْمُجْمَلَ وَالْقِيَاسَ، «وَحُمِلَ» يَعْنِي إِنْكَارَ أَحْمَدَ لَهُ «عَلَى قِيَاسٍ خَالَفَ نَصًّا» ، أَيْ: عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ مَعَ وُجُودِ النَّصِّ مُخَالِفًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ. كَذَلِكَ تَأَوَّلَهُ الْقَاضِي، وَهُوَ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ؛ لِمَا سَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ.
وَمِمَّنْ أَنْكَرَ جَوَازَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ عَقَلًا الشِّيعَةُ مَعَ النَّظَّامِ، وَيَحْيَى الْإِسْكَافِيُّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ مَنِ الْمُعْتَزِلَةِ. ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ.
قُلْتُ: لَعَلَّهُمْ هَؤُلَاءِ.
«وَقِيلَ: هُوَ» يَعْنِي الْقِيَاسَ «فِي مَظِنَّةِ الْجَوَازِ، وَلَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ فِيهِ بِإِحَالَةٍ وَلَا إِيجَابٍ» ، أَيْ: لَا يُوجِبُ الْعَقْلُ التَّعَبُّدَ بِهِ، وَلَا يُحِيلُهُ بَلْ يُجِيزُ الْأَمْرَيْنِ.
(3/245)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ «وَاجِبٌ شَرْعًا» عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ وَطَائِفَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
قُلْتُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ بَعْدَ حِكَايَةِ مَا حَكَاهُ مِنَ الْمَذَاهِبِ فِي الْقِيَاسِ: فَفِرَقُ الْمُبْطِلَةِ ثَلَاثَةٌ: الْمُحِيلُ لَهُ عَقْلًا، وَالْمُوجِبُ لَهُ عَقْلًا، وَالْحَاظِرُ لَهُ شَرْعًا.
قُلْتُ: النِّزَاعُ فِي التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ إِمَّا عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا، وَعَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ فِي جَوَازِهِ، أَوْ وُجُوبِهِ، أَوِ امْتِنَاعِهِ، أَوْ وُقُوعِهِ، فَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ قَدْ ذَهَبَ إِلَى أَكْثَرِهَا ذَاهِبُونَ، فَمِمَّنْ أَوْجَبَ وُرُودَ التَّعَبُّدِ بِهِ عَقْلًا: الْقَفَّالُ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَمِمَّنْ أَحَالَهُ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَأَجَازَهُ الْأَكْثَرُونَ عَقْلًا وَشَرْعًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ، فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَمَنَعَهُ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ وَالْقَاشَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيُّ.
وَاخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ لِوُقُوعِهِ، هَلْ هُوَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوِ السَّمْعِ؟ وَهَلْ دَلِيلُ السَّمْعِ قَطْعِيٌّ؟ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ، أَوْ ظَنِّيٌّ؟ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْآمِدِيِّ.
(3/246)
________________________________________
لَنَا: وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: الْقِيَاسُ يَتَضَمَّنُ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَقْلًا، فَالْقِيَاسُ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَالْوُجُوبُ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ.
أَمَّا الْأَوْلَى: فَلِأَنَّا إِذَا ظَنَنَّا أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ مُعَلَّلٌ بِكَذَا وَظَنَنَّا وُجُودَ الْعِلَّةِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، ظَنَنَّا أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ كَذَا، فَظَنَنَّا بِأَنَّنَا إِنِ اتَّبَعْنَاهُ سَلِمْنَا مِنَ الْعِقَابِ، وَإِنْ خَالَفْنَاهُ عُوقِبْنَا، فَفِي اتِّبَاعِهِ دَفْعُ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ} وَنَحْوِهِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} ، {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} وَنَحْوُهُ قِيَاسٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ فَفِي الظَّنِّيَّاتِ أَجْوَزُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «لَنَا:» ، يَعْنِي عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ عَقْلًا وَوُقُوعِهِ شَرْعًا، «وُجُوهٌ» :
قَوْلُهُ: الْوَجْهُ «الْأَوَّلُ» : أَنَّ «الْقِيَاسَ يَتَضَمَّنُ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ» ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْمَظْنُونِ «وَاجِبٌ عَقْلًا، فَالْقِيَاسُ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَالْوُجُوبُ يَسْتَلْزِمُ الْجَوَازَ» ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ أَخَصُّ مِنَ الْجَوَازِ، فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْأَعَمِّ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ وَوُجُوبِهِ عَقْلًا.
«أَمَّا الْأُولَى» : يَعْنِي أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى مِنْ مُقَدِّمَتَيْ هَذَا الدَّلِيلِ، وَهِيَ أَنَّ «الْقِيَاسَ يَتَضَمَّنُ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ» ، أَيْ: يُظَنُّ وُقُوعُهُ ; «فَلِأَنَّا إِذَا ظَنَنَّا أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ مُعَلَّلٌ بِكَذَا» ، أَيْ: بِوَصْفٍ مَا ; «وَظَنَنَّا وُجُودَ الْعِلَّةِ فِي
(3/247)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَحَلٍّ آخَرَ ; ظَنَنَّا» ، أَيْ: حَصَلَ لَنَا الظَّنُّ «بِأَنَّ الْحُكْمَ» فِي هَذَا الْمَحَلِّ كَالْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النَّصِّ.
مِثَالُهُ: إِذَا ظَنَنَّا أَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ مُعَلَّلٌ بِالْإِسْكَارِ، وَظَنَّنَا وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْخَمْرِ فِي التَّحْرِيمِ. وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لَنَا الظَّنُّ بِأَنَّا إِنِ اتَّبَعْنَا الظَّنَّ الْحَاصِلَ لَنَا مِنَ الْقِيَاسِ بِاجْتِنَابِ النَّبِيذِ مَثَلًا، «سَلِمْنَا مِنَ الْعِقَابِ، وَإِنْ خَالَفْنَاهُ» ، فَشَرِبْنَا النَّبِيذَ، «عُوقِبْنَا» ، فَتَحَقَّقَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ فِي اتِّبَاعِ الْقِيَاسِ «دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ» .
«وَأَمَّا الثَّانِيَةُ» : يَعْنِي الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ مُقَدِّمَتَيِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ أَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ الْمَظْنُونِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا.
أَمَّا عَقْلًا، فَلِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِقَرِينَةٍ، أَوْ بِخَبَرِ ثِقَةٍ أَنَّهُ إِنْ سَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ، أَكَلَهُ السَّبُعُ، أَوْ أَخَذَ اللُّصُوصُ مَالَهُ ; وَإِنْ لَمْ يَسْلُكْهُ أَوْ سَلَكَ غَيْرَهُ، سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ، فَالْعَقْلُ يَضْطَرُّهُ إِلَى اجْتِنَابِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ.
وَأَمَّا شَرْعًا ; «فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 131] ، وَنَحْوِهِ» مِنَ الْوَعِيدِ الشَّرْعِيِّ، وَاتِّقَاءُ النَّارِ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي مَقْطُوعِهَا وَمَظْنُونِهَا.
الْوَجْهُ «الثَّانِي: قَوْلُهُ» - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الرُّومِ: 28] الْآيَةَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الدَّلِيلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
(3/248)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَعَالَى، هُوَ «قِيَاسٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ» الْقَطْعِيَّةِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ، فَثُبُوتُ الْقِيَاسِ فِي السَّمْعِيَّاتِ الظَّنِّيَّةِ «أَجْوَزُ» ، أَيْ: أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ ظَاهِرَتَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ أَنْكَرُوا الشَّرِيعَةَ، وَمِمَّا أَنْكَرُوهُ مِنْهَا أُصُولٌ مُهِمَّةٌ كِبَارٌ، وَهِيَ وُجُودُ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدُهُ وَالْمَعَادُ، وَحَجَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ.
أَمَّا الَّذِينَ أَنْكَرُوا وُجُودَ الصَّانِعِ، وَهُمْ مُعَطِّلَةُ الْعَرَبِ وَغَيْرُهُمْ، فَاحْتَجَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِحُجَجٍ تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطَّوْرِ: 35 - 36] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ حُجَّتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ لِلصَّانِعِ مَوْجُودُونَ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونُوا قُدَمَاءَ لَا أَوَّلَ لَهُمْ، أَوْ مُحْدَثَيْنِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ يَعْتَرِفُونَ بِبُطْلَانِهِ، فَإِنَّهُمْ وُجِدُوا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُمْ مُحْدَثُونَ. وَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ: مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ أَوَجَدَهُمْ، أَوْ أَنَّهُمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ، أَوْ أَنَّ خَالِقًا غَيْرَهُمْ خَلَقَهُمْ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، إِذْ لَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ فِعْلٌ لَا فَاعِلَ لَهُ، وَلَا مُحْدَثٌ لَا مُحْدِثَ لَهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، إِذْ لَا يَصِحُّ وَلَا يُعْقَلُ فِي الشَّاهِدِ وَلَا فِي غَيْرِهِ أَنْ شَيْئًا يُوجِدُ نَفْسَهُ لِاسْتِلْزَامِ ذَلِكَ كَوْنَهُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّ خَالِقًا غَيْرَهُمْ خَلَقَهُمْ، وَهُوَ الصَّانِعُ الْقَدِيمُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِيِمًا، لَلَزِمَ الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ بِدَلِيلِهِ الْكَلَامِيِّ.
(3/249)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ لِلصَّانِعِ لَمْ يَخْلُقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَطْعًا، وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَا قَدِيمَتَيْنِ، أَوْ مُحْدَثَتَيْنِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِقِيَامِ سِمَاتِ الْحُدُوثِ بِهِمَا مِنَ الْحَرَكَاتِ، وَالسَّكَنَاتِ، وَالْأَلْوَانِ، وَالْأَكْوَانِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الْأَنْعَامِ: 76] . وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مُحْدَثَتَانِ ; فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا خُلِقَتَا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ، أَوْ خَلَقَتَا أَنْفُسَهُمَا، أَوْ خَلَقَهُمَا غَيْرُهُمَا، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ، فَتَعَيَّنَ الثَّالِثُ كَمَا مَرَّ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قِيلَ فِي حَقِّهِمْ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لُقْمَانَ: 25] ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مُثْبِتَةٌ لِلصَّانِعِ، لَكِنَّهُمْ يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ نَحْنُ فِي تَقْرِيرِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مُعَطِّلَةٌ، وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ كَانَتَا فِي الْعَرَبِ عَلَى مَا حَكَاهُ الشَّهْرُسْتَانِيُّ فِي «الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ» وَعَلَى هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ حُجَجٌ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ يَطُولُ اسْتِيفَاؤُهَا.
وَأَمَّا الَّذِينَ أَنْكَرُوا التَّوْحِيدَ ; فَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى الشَّرِيكَ، وَمِنْهُمْ مَنِ ادَّعَى الْوَلَدَ.
فَأَمَّا الَّذِينَ اعْتَقَدُوا الشَّرِيكَ، فَاحْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: دَلِيلُ التَّمَانُعِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الْأَنْبِيَاءِ: 22] . الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الْمُؤْمِنُونَ: 91] .
(3/250)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَهٌ غَيْرُهُ، لَقَضَتِ الْعَادَةُ فِي الشَّاهِدِ أَنْ يَقْتَتِلَا أَوْ يَخْتَلِفَا عَلَى عَادَاتِ الْمُلُوكِ إِذَا تَنَازَعُوا الْمُلْكَ، فَكَانَ يَفْسُدُ الْعَالَمُ بِاخْتِلَافِهِمَا.
الثَّانِي: لَوْ كَانَ ثَمَّ إِلَهٌ آخَرُ، لَكَانَ خَالِقًا لِبَعْضِ الْعَالَمِ، فَكَانَ كُلٌّ وَاحِدٌ مِنَ الْإِلَهَيْنِ يَنْحَازُ بِمَخْلُوقِهِ، ثُمَّ يَطْلُبُ أَحَدُهُمَا الْعُلُوَّ عَلَى الْآخَرِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَظْهَرُ لِلْأَبْصَارِ أَوِ الْبَصَائِرِ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ الدَّعْوَى.
وَثَمَّ وَجْهٌ ثَالِثٌ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الشَّاهِدِ، بَلْ مِنْ بَابِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّ إِلَهٌ آخَرُ، لَكَانَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ إِلَهًا. وَحِينَئِذٍ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَرَادَ تَسْكِينَ جِسْمٍ، وَالْآخِرَ تَحْرِيكَهُ، أَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إِعْدَامَهُ، وَالْآخَرُ إِيجَادَهُ، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ مُرَادُهُمَا جَمِيعًا، فَهُمَا عَاجِزَانِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِإِلَهٍ، وَإِنْ تَمَّ مُرَادُهُمَا جَمِيعًا، لَزِمَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ، وَإِنْ تَمَّ مُرَادُ أَحَدِهِمَا، فَهُوَ الْإِلَهُ، وَالْعَاجِزُ عَنْ تَمَامِ مُرَادِهِ لَيْسَ بِإِلَهٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى مُنْكِرِي التَّوْحِيدِ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
{قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 42] ; رَدًّا لِزَعْمِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَرِ: 3] ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ هَذَا الْوَجْهُ مُغَايِرًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
(3/251)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى مُعْتَقِدِي الشَّرِيكِ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ} كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [الرُّومِ: 28] . وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ مِنَ الْآيَةِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ مِنْ عَبِيدِكُمْ شُرَكَاءُ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَمْلَاكِكُمْ ; كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - شُرَكَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِمَا تَأْنَفُونَ مِنْهُ لِأَنْفُسِكُمْ. فَهَذِهِ أَدِلَّةُ نَفْيِ الشَّرِيكِ الَّتِي اخْتَرْنَا ذِكْرَهَا، وَفِي الْقُرْآنِ غَيْرُهَا.
وَأَمَّا الَّذِينَ ادَّعَوُا الْوَلَدَ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِآيَاتٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النَّحْلِ: 57 - 59] ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزُّخْرُفِ: 16 - 18] ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصَّافَّاتِ: 153 - 154] ، {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطَّوْرِ: 39] ، {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النَّجْمِ: 21 - 22] .
وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا: أَنَّكُمْ أَيُّهَا الْكُفَّارُ تَسْتَحْيُونَ مِنْ حُصُولِ الْبَنَاتِ لَكُمْ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا بُشِّرَ بِأَنَّهُ قَدْ وُلِدَ لَهُ بِنْتٌ ارْبَدَّ وَجْهُهُ، وَنَكَّسَ رَأْسَهُ، وَحَزِنَ، وَخَجِلَ، وَذَهَبَ فَوَأَدَهَا، أَيْ: دَفَنَهَا حَيَّةً لِئَلَّا يَلْحَقَهُ الْعَارُ بِبَقَائِهَا، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَا تَكْرَهُونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنَ الْمُسْتَقْبَحَاتِ الضَّرُورِيَّةِ فِي الشَّاهِدِ، إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
(3/252)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وأَيْضًا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ يَسْتَقْبِحُ أَنْ يُخَاصِمَ عَدُوَّهُ بِجَبَانٍ أَلْكَنَ عَرِيٍّ عَنِ الْبَيَانِ، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَ إِثْبَاتَ مَنْ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ لِلَّهِ تَعَالَى! وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} الْآيَةَ. وأَيْضًا فَإِنَّ اخْتِيَارَكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ذُكُورَ الْوَلَدِ، وَلِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - إِنَاثَهُمْ قِسْمَةٌ ضِيزَى، أَيْ: جَائِرَةٌ، وَالْقِسْمَةُ الْجَائِرَةُ قَبِيحَةٌ عَقْلًا وَشَاهِدًا، فَكَيْفَ تَرْضَوْنَهَا لِأَنْفُسِكُمْ! .
وَأَمَّا الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْمَعَادَ، فَاحْتَجَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَيْهِمْ بِطُرُقٍ مِنَ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ:
أَحَدُهُمَا: قِيَاسُ إِعَادَةِ الْخَلْقِ عَلَى ابْتِدَائِهِ بِجَامِعِ إِمْكَانِ ذَلِكَ، وَقُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي آيَاتٍ:
مِنْهَا: قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 77 - 79] . وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: 27] ، أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ تَتَفَاوَتُ الْمُمْكِنَاتُ عِنْدَهُمْ سُهُولَةً وَصُعُوبَةً. وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [النَّمْلِ: 64] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 104] ، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الْأَعْرَافِ: 29] وَمِنْهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى:
(3/253)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [الْقِيَامَةِ: 3 - 4] ، ثُمَّ بَرْهَنَ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى فِي آخِرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الْقِيَامَةِ: 40] .
وَوَجْهُ كَوْنِ الْإِعَادَةِ أَهْوَنَ مِنَ الْإِبْدَاءِ: هُوَ أَنَّ الْإِعَادَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِبْدَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُعَادَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ، وَالْإِبْدَاءُ لَيْسَ مَبْنِيًّا إِلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ الْبَاهِرَةِ لَا عَلَى سَبَبٍ سَابِقٍ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مُعْجِزَ مُوسَى أَعْظَمُ مِنْ مُعْجِزِ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَى لَهُمْ أَصْلٌ فِي الْحَيَاةِ سَابِقٌ، وَالْعَصَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: مِنْ طُرُقِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي إِثْبَاتِ الْمَعَادِ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} [يس: 81] ، يَعْنِي مِثْلَ الْكُفَّارِ، أَيْ: يُعِيدُهُمْ إِلَى مِثْلِ حَالِهِمُ الْأُولَى فِي الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: 33] . فَهَذَا قِيَاسٌ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِجَامِعِ عَظَمَةِ الْفِعْلَيْنِ فِي الْعُقُولِ أَوْ إِمْكَانِهِمَا فِي الْمَعْقُولِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ بَابِ قِيَاسِ التَّنْبِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ أَجْلَى وَأَظْهَرَ مِنْهُ فِي الْأَصْلِ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الْإِسْرَاءِ: 23] ، إِذْ كَانَ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ أَظْهَرَ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ، فَكَذَلِكَ الْإِعَادَةُ أَيْسَرُ مِنَ الْإِبْدَاءِ، وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى أَيْسَرُ مَنْ خَلْقِ
(3/254)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غَافِرِ: 57] ابْتِدَاءً كَانَ عَلَى خَلْقِهِمْ إِعَادَةً أَقْدَرُ، فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَا أَبْيَنَهُ وَأَظْهَرَهُ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ مِنْ طُرُقِ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فِي إِثْبَاتِ الْمَعَادِ: قِيَاسُ إِخْرَاجِ الْمَوْتَى مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً عَلَى إِخْرَاجِ الْحَبِّ الْمَيِّتِ مِنَ الْأَرْضِ حَيًّا، أَوْ نَقُولُ: قِيَاسُ إِعَادَةِ الْمَوْتَى بَعْدَ تَلَاشِيهِمْ وَاسْتِهْلَاكِهِمْ عَلَى إِعَادَةِ الْحَبِّ بَعْدَ تَلَاشِيهِ وَاسْتِهْلَاكِهِ، وَذَكَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ: مِنْهَا فِي الْأَعْرَافِ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الْأَعْرَافِ: 57] ، وَفِي سُورَةِ ق: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} إِلَى قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 3 - 11] ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْحَجِّ: 5 - 6] ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قِيَاسَ الْإِعَادَةِ عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ، وَعَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ. وَفِي سُورَةِ حم السَّجْدَةِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فُصِّلَتْ: 39] ، وَفِي الم السَّجْدَةِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} [السَّجْدَةِ: 27] ، فَقَرَّرَ الْأَصْلَ، ثُمَّ نَبَّهَ
(3/255)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى إِلْحَاقِ الْفَرْعِ بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السَّجْدَةِ: 28] ، يَعْنِي فَتْحَ الْمُؤْمِنِينَ وَنَصْرَهُمْ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْقِيَامَةِ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَعَادِ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الرُّومِ: 17 - 19] ، وَفِي آخِرِهَا: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [الرُّومِ: 48 - 50] ، وَفِي سُورَةِ فَاطِرٍ: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [فَاطِرِ: 9] .
وَقَدْ تَضْمَّنَ هَذَا الطَّرِيقُ نَوْعَيْنِ مِنَ الْقِيَاسِ:
أَحَدُهُمَا: قِيَاسٌ شَبَهِيٌّ، وَهُوَ قِيَاسُ إِحْيَاءِ الْأَبْدَانِ بِالْأَرْوَاحِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بِخُضْرَتِهَا وَزَهْرَتِهَا بَعْدَ يُبْسِهَا وَمُحُولِهَا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْخُضْرَةَ وَالنَّضَارَةَ لِلْأَرْضِ تُشْبِهُ الرُّوحَ لِلْجَسَدِ، وَهَذَا جَامِعٌ شَبَهِيٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَهُوَ مَجَازِيٌّ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ الْحَيَوَانِيَّةِ أَوْ فِي الذَّوَاتِ الْحَيَّةٍ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَرْضِ وَالْبَلَدِ نَحْوُ قَوْلِنَا: أَرْضٌ مَيِّتَةٌ وَبَلَدٌ مَيِّتٌ، مَجَازٌ لِمَا ذَكَرْنَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَهُوَ قِيَاسُ جَمْعِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهَا فِي الْأَرْضِ، وَإِحْيَائِهَا بِإِعَادَةِ الْأَرْوَاحِ فِيهَا عَلَى جَمْعِ أَجْزَاءِ الْحَبِّ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ فِي الْأَرْضِ، وَإِحْيَائِهِ بِإِعَادَةِ النَّبَاتِ فِيهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَبَّ إِذَا صَارَ فِي الْأَرْضِ لَا يَتَلَاشَى بِحَيْثُ يَصِيرُ عَدَمًا مَحْضًا،
(3/256)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَلْ ذَاتُهُ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّهَا اخْتَلَطَتْ بِأَجْزَاءِ الْأَرْضِ حَتَّى عَادَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ فِي الْعَادَةِ جَمْعُهُ عَلَى الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَفَنٌ وَفَسَادُ مِزَاجٍ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ وَحَرَارَةُ الْأَرْضِ الْعَارِضَةِ، تَهَيَّأَ لِلنَّبَاتِ وَالصَّلَاحِ بِقُدْرَةِ فَالِقِ الْإِصْبَاحِ.
أَمَّا الْأَجْسَامُ الْحَيَوَانِيَّةُ، فَاخْتُلِفَ فِيهَا بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، فَمَنْ نَفَاهُ زَعَمَ أَنَّ الْأَجْسَامَ تَتَلَاشَى، وَتَصِيرُ عَدَمًا مَحْضًا وَنَفْيًا صِرْفًا، وَمَنْ أَثْبَتَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ قَالَ: إِنَّ الْأَجْسَامَ تَنْحَلُّ إِلَى الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ، ثُمَّ عِنْدَ الْبَعْثِ تَلْتَئِمُ الْأَجْزَاءُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ تَعُودُ أَجْسَامًا كَمَا كَانَتْ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ، حَتَّى سَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا يَحْكِي عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنْ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ، أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالْمَعَادِ وَبَعْثِ الْأَجْسَادِ، وَإِلَّا فَلَا.
قُلْتُ: فَبِهَذَا يَتَحَقَّقُ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْجَسَدَ يَفْسُدُ مِزَاجُهُ، وَتَتَفَرَّقُ أَجْزَاؤُهُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَعُودُ حَيًّا حَيَاتَهُ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهَا، كَمَا أَنَّ الْحَبَّةَ فِي الْأَرْضِ يَفْسُدُ مِزَاجُهَا، وَتَتَفَرَّقُ أَجْزَاؤُهَا، ثُمَّ تَعُودُ حَيَّةً حَيَاتَهَا الَّتِي تَلِيقُ بِهَا، وَهِيَ مُسْتَعِدَّةٌ لَهَا.
وَبِالْجُمْلَةِ فَغَالِبُ مَا احْتَجَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أُمَمِهِمْ بِالْبَرَاهِينِ الْجَلِيَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي أُصُولِ الدِّيَانَاتِ الَّتِي الْخَطَأُ فِيهَا كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ الْقِيَاسُ فِي الْفُرُوعِ
(3/257)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الَّتِي الْمُخْطِئُ فِيهَا مَأْجُورٌ! .
وَمَنْ نَظَرَ فِيمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَقْيِسَةِ الْعَقْلِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ ; فَهُوَ إِمَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ.
(3/258)
________________________________________
الثَّالِثُ: الْقِيَاسُ اعْتِبَارٌ، وَالِاعْتِبَارُ مَأْمُورٌ بِهِ، فَالْقِيَاسُ مَأْمُورٌ بِهِ.
أَمَّا الْأُولَى، فَلُغَوِيَّةٌ كَمَا سَبَقَ.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: اعْتَبِرُوا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا فِي سِيَاقِهِ.
الرَّابِعُ: «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَالَ لَهُ: إِنْ قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ، لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَاللَّهُ أَكْرَمُ، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي الْوَقَائِعِ كَتَقْدِيمِهِمْ أَبَا بَكْرٍ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى قِيَاسًا عَلَى تَقْدِيمِهِ فِي الصُّغْرَى، وَقِيَاسِهِ الزَّكَاةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قِتَالِ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا، وَتَقْدِيِمِهِمْ عُمَرَ قِيَاسًا لِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهِ عَلَى عَقْدِهِمْ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ، وَإِجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ، لَا يُقَالُ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ آحَادٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا أَصْلٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هِيَ تَوَاتُرٌ مَعْنَوِيٌّ كَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ «الثَّالِثُ» مِنْ أَدِلَّةِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورَةِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» : أَنَّ «الْقِيَاسَ اعْتِبَارٌ، وَالِاعْتِبَارُ مَأْمُورٌ بِهِ، فَالْقِيَاسُ مَأْمُورٌ بِهِ» .
«أَمَّا» الْمُقَدِّمَةُ «الْأُولَى» ، وَهِيَ أَنَّ الْقِيَاسَ اعْتِبَارٌ فَهِيَ «لُغَوِيَّةٌ» ، أَيْ: طَرِيقُ مَعْرِفَتِهَا اللُّغَةُ «كَمَا سَبَقَ» فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ التَّقْدِيرُ وَالِاعْتِبَارُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعُبُورِ، وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ، وَمِنْهُ الْمِعْبَرُ؛ لِأَنَّهُ يُجَاوِزُ بِالنَّاسِ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيِ الْبَحْرِ إِلَى الْآخَرِ، وَعَابِرُ الْمَنَامِ؛ لِأَنَّهُ يَعْبُرُ حَالَ الْمَنَامِ إِلَى مَا يُشْبِهُهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ يُجَاوِزُ بِحُكْمِ الْمَنْصُوصِ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَعْبُرُ مِنْهُ إِلَيْهِ، فَكَانَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الِاشْتِقَاقِ.
(3/259)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وَأَمَّا» الْمُقَدِّمَةُ «الثَّانِيَةُ» وَهِيَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ مَأْمُورٌ بِهِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الْحَشْرِ: 2] ، أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ الَّذِي مِنْهُ الْقِيَاسُ وَاجِبًا.
قَوْلُهُ: «مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا فِي سِيَاقِهِ» . هَذَا دَفْعٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا} هُوَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي وَصْفِ الْكُفَّارِ، وَهُمْ قُرَيْظَةٌ وَالنَّضِيرُ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الْحَشْرِ: 2] ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ الْقَائِلِ: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ، فَقِيسُوا الْأَرُزِّ عَلَى الْبُرِّ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ.
وَوَجْهُ دَفْعِ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ: احْتِجَاجُنَا بِالْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا فِي سِيَاقِهِ مِنْ تَخْرِيبِ الدِّيَارِ، وَهَذَا جَوَابٌ دَافِعٌ لِلسُّؤَالِ الْمَذْكُورِ.
لَكِنَّ هُنَاكَ سُؤَالٌ آخَرُ يُفْسِدُ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاعْتِبَارِ فِي الْآيَةِ فِعْلٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَالْفِعْلُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ فِيهِ، فَالتَّقْدِيرُ: اعْتَبِرُوا اعْتِبَارًا مَا، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِفَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الِاعْتِبَارِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا لَوْ كَانَتْ عَامَّةً لِيَنْدَرِجَ فِيهَا مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَغَالِبُ الْأُصُولِيِّينَ خُصُوصًا الْمُتَأَخِّرِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ، وَعَلَيْهَا مِنَ الْإِشْكَالِ مَا قَدْ رَأَيْتَ.
الْوَجْهُ «الرَّابِعُ: قَوْلُهُ» - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ؟ ، أَرَأَيْتَ
(3/260)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ. . إِلَى آخِرِهِ.
تَقْرِيرُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بَعْدَهُ دَلَّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، فَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا جُنَاحَ أَوْ لَا بَأْسَ عَلَيْكَ، أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ أَكُنْتَ تُفْطِرُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَهْ. وَهَذَا قِيَاسٌ لِعَدَمِ الْإِفْطَارِ بِالْقُبْلَةِ عَلَى عَدَمِ الْإِفْطَارِ بِالْمَضْمَضَةِ بِجَامِعِ عَدَمِ حُصُولِ الْمُؤَثِّرِ فِي الصَّوْمِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْقُبْلَةِ الْمُؤَثِّرُ فِي الصَّوْمِ هُوَ خُرُوجُ الْخَارِجِ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، كَمَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْمَضْمَضَةِ هُوَ وُلُوجُ الْوَالِجِ، وَهُوَ الْمَاءُ، وَكِلَاهُمَا لَمْ يَحْصُلْ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا قَالَتِ الْمَرْأَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَيُجْزِئُهُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ.
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَاللَّهُ أَحَقُّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا قِيَاسٌ لِدَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ.
وَكَذَلِكَ يُرْوَى أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَكُونُ
(3/261)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى أَحَدِنَا الْأَيَّامُ مِنْ رَمَضَانَ، أَفَيُجْزِئُهُ أَنْ يَصُومَهَا مُتَفَرِّقَةً؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ عَلَى أَحَدِكُمْ دَيْنٌ، فَقَضَاهُ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَيْنِ، أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَاللَّهُ أَكْرَمُ يَعْنِي بِالْمُسَامَحَةِ وَالتَّخْفِيفِ، وَهَذَا قِيَاسٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّ فِي إِجْزَائِهِ مُتَفَرِّقًا.
«وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ» ، أَيْ: بِالْقِيَاسِ «فِي الْوَقَائِعِ كَتَقْدِيِمِهِمْ أَبَا بَكْرٍ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى قِيَاسًا عَلَى تَقْدِيِمِهِ فِي الصُّغْرَى» ، حَيْثُ قَدَّمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمِحْرَابِ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي مَرَضِهِ، فَقَالُوا: رَضِيَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا، أَفَلَا نَرْضَاكَ لِدُنْيَانَا؟ !
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَقْدِيِمَهُ فِي الْخِلَافَةِ كَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى تَقْدِيِمِهِ فِي الصَّلَاةِ، بَلْ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ
(3/262)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَعُمَرَ، وَقَوْلُهُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي قَالَتْ لَهُ: إِنْ جِئْتُ فَلَمْ أَجِدْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَائْتِي أَبَا بَكْرٍ، فَهَذَا نَصٌّ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى الْقِيَاسِ.
قُلْنَا: الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ، قِيلَ لَهُ: اسْتَخْلِفْ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَخْلِفْ. فَلَوْ كَانَ لِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَصْلٌ أَوْ ثُبُوتٌ، لَمَا خَفِيَتْ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْعَادَةِ مَعَ كَثْرَةِ مُلَازَمَتِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ. وَلَمَا اسْتَجَازَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسْتَخْلِفْ، مَعَ وُجُودِ النَّصِّ عَلَى زَعْمِكُمْ، وَلَوْ سَلَّمْنَا خَفَاءَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَكِنْ خَفَاؤُهُ عَنِ الصَّحَابَةِ مُمْتَنِعٌ عَادَةً، وَقَدْ كَانَتْ دَوَاعِيِهِمْ مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى اسْتِخْلَافِ عُمَرَ عَلَيْهِمْ، فَلَوْ ثَبَتَ النَّصُّ، لَعَرَفُوهُ، ثُمَّ لَصَارُوا إِلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْحَدِيثَيْنِ، لَكِنْ لَا دَلِيلَ فِيهِمَا عَلَى الْإِمَامَةِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ، فَلِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَمْرٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، فَهُوَ مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ لِلْإِمَامَةِ، وَقَدْ حَصَلَ الْوَفَاءُ بِمُطْلَقِ الْحَدِيثِ بِاقْتِدَائِهِمْ بِهِمَا فِي الْفَتَاوَى وَالْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ كَانَ الْمُرَادَ بِالْقُدْوَةِ، وَلَوْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ فِي الْإِمَامَةِ، لَصَرَّحَ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ إِيهَامًا وَتَلْبِيسًا وَتَعْرِيضًا لِلْأُمَّةِ بَعْدُ لِلْخِلَافِ وَالِاضْطِرَابِ وَفَسَادِ الِاعْتِقَادِ فِيمَنْ يَكُونُ الْخَلِيفَةُ.
(3/263)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي ; فَقَوْلُهُ: ائْتِي أَبَا بَكْرٍ فَلَيْسَ نَصًّا فِي الْخِلَافَةِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ نَصٌّ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ لَا إِنْشَاءُ تَوْلِيَةٍ، وَلَا أَمْرٌ بِهَا، وَقَدْ يُخْبِرُ الْإِنْسَانُ بِمَا لَا يَرْضَاهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كُشِفَ لَهُ بِوَحْيٍ أَوْ إِلْهَامٍ أَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِحُكْمِ الْمَقْدُورِ السَّابِقِ، وَلَمْ يُوصِ بِالتَّغْيِيرِ عَلَيْهِمَا بِذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ رِضَاهُ، كَمَا أَنَّهُ كُشِفَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ عَنْ قَتْلِ الْحُسَيْنِ وَمَوْتِ الْحَسَنِ مَسْمُومًا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى رِضَاهُ، وأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ وَدَلَّ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَا عَدَلَ عَنْهُ يَوْمَ السَّقِيفَةِ إِلَى الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ، نَحْوِ قَوْلِهِ: «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَجَّ بِهِ، بَلْ كَانَ صَدَعَهُمْ بِالنَّصِّ الْجَلِيِّ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا نَصَّ عَلَى إِمَامَتِهِ، فَمَا ثَبَتَ إِلَّا بِالْقِيَاسِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قِيَاسُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «الزَّكَاةَ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قِتَالِ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا» بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا عِبَادَتَيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ قَالَ: لَأَقْتُلُنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَكَذَلِكَ «تَقْدِيِمُهُمْ عُمَرَ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْإِمَامَةِ بِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ «قِيَاسًا لِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَيْهِ عَلَى عَقْدِهِمْ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قَضَايَا كَثِيرَةٍ» مَشْهُورَةٍ اسْتَعْمَلُوا فِيهَا
(3/264)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقِيَاسَ، «لَا يُقَالُ: هَذِهِ الْأَخْبَارُ آحَادٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا» مِثْلُ هَذَا الْأَصْلِ الْكَبِيرِ، «لِأَنَّا نَقُولُ: هِيَ» وَإِنْ كَانَتْ آحَادًا بِالنَّظَرِ إِلَى أَفْرَادِهَا، فَهِيَ بِالنَّظَرِ إِلَى مَجْمُوعِهَا «تَوَاتُرٌ مَعْنَوِيٌّ، كَسَخَاءِ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ» ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ فِي مِثْلِ هَذَا.
(3/265)
________________________________________
الْخَامِسُ: لَوْلَا الْقِيَاسُ لَخَلَتْ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ عَنْ حُكْمٍ لِكَثْرَتِهَا وَقِلَّةِ النُّصُوصِ، لَا يُقَالُ: يُمْكِنُ النَّصُّ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ الْكُلِّيَّةِ، وَتُسْتَخْرَجُ الْجُزْئِيَّةُ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ. نَحْوُ: كُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٌّ، ثُمَّ يُنْظَرُ: هَلْ هَذَا مَطْعُومٌ أَوْ لَا؟ لِأَنَّا نَقُولُ: مُجَرَّدُ الْجَوَازِ لَا يَكْفِي وَالْوُقُوعُ مُنْتَفٍ، إِذْ أَكْثَرُ الْحَوَادِثَ لَمْ يُنَصُّ عَلَى مُقَدِّمَاتِهَا، فَاقْتَضَى الْعَقْلُ طَرِيقًا لِتَعْمِيمِ الْحَوَادِثِ بِالْأَحْكَامِ، وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا.
السَّادِسُ: قَوْلُ مُعَاذٍ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَصُوِّبَ لَا يُقَالُ: رُوَاتُهُ مَجْهُولُونَ، ثُمَّ الْمُرَادُ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدٍ وَتُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ، وَالِاجْتِهَادُ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرْتُمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ «الْخَامِسُ: لَوْلَا الْقِيَاسُ، لَخَلَتْ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ عَنْ» أَحْكَامٍ؛ لِكَثْرَةِ الْحَوَادِثِ، «وَقِلَّةِ النُّصُوصِ» ، فَلَا يُوجَدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ نَصٌّ يَخُصُّهَا، وَيُبَيِّنُ حُكْمَهَا، فَاحْتِيجَ إِلَى إِلْحَاقِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِطَرِيقٍ ظَنِّيٍّ أَوْ قَطْعِيٍّ صِيَانَةً لِبَعْضِ الْوَقَائِعِ عَنِ التَّعْطِيلِ عَنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، «لَا يُقَالُ: يُمْكِنُ النَّصُّ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ الْكُلِّيَّةِ، وَتُسْتَخْرَجُ» مِنْهَا الْأَحْكَامُ «الْجُزْئِيَّةُ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ» كَمَا سَبَقَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْهُ، «نَحْوُ» قَوْلِنَا: «كُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٍّ، ثُمَّ يُنْظَرُ هَلْ هَذَا» الْأَرُزُّ وَالذُّرَةُ «مَطْعُومٌ» فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ، أَوْ لَا فَلَا، وَنَحْوُ: قَدْرُ الْكِفَايَةِ وَاجِبٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ هَلْ هَذَا الرِّطْلُ قَدْرُ الْكِفَايَةِ أَمْ لَا؟
(3/266)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«لِأَنَّا نَقُولُ» فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: «مُجَرَّدُ» جَوَازِ ذَلِكَ، أَعْنِي النَّصَّ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ «لَا يَكْفِي» فِي إِثْبَاتِهِ، وَوُقُوعُهُ مُنْتَفٍ، «إِذْ أَكْثَرُ الْحَوَادِثِ» وَالْوَقَائِعِ «لَمْ يُنَصَّ عَلَى مُقَدِّمَاتِهَا» ، وَالْجَوَازُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُقُوعَ، وَحِينَئِذٍ اقْتَضَى الْعَقْلُ وَحِكْمَةُ الشَّرْعِ وَضْعَ طَرِيقٍ «لِتَعْمِيمِ الْحَوَادِثِ بِالْأَحْكَامِ. وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا» مِنَ الْقِيَاسِ.
الْوَجْهُ «السَّادِسُ: قَوْلُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَصُوِّبَ» .
هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ وَهُوَ مَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ ابْنُ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي؟ قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَا نَعْرِفْهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذَكَرَ أَنَّهُ يَحْكُمُ بِالْقِيَاسِ، فَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ: أَخْبَرَ بِتَصْوِيبِهِ وَتَوْفِيقِهِ فِي ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُصَوِّبُ إِلَّا صَوَابًا، وَلَا يُقِرُّ إِلَّا عَلَى حَقٍّ.
قَوْلُهُ: «لَا يُقَالُ» ، هَذَا اعْتِرَاضٌ عَلَى الْحَدِيثِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ «رُوَاتَهُ مَجْهُولُونَ» ، وَهُمْ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ، أَوْ أُنَاسٍ مَنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَرِوَايَةُ الْمَجْهُولِ اخْتُلِفَ فِي الْعَمَلِ بِهَا فِي جُزْئِيَّاتِ الْفُرُوعِ،
(3/267)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَكَيْفَ يُعْمَلُ بِهَا فِي إِثْبَاتِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ وَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ؟
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِلَفْظِهِ، وَإِنَّمَا أَتَى بِلَفْظِ الِاجْتِهَادِ، فَقَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَ «الْمُرَادُ» بِهِ «تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ» كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
قَوْلُهُ: «لِأَنَّا نَقُولُ» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمْ:
أَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَلِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ «رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدٍ» ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غُنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ، فَزَالَتِ الْجَهَالَةُ عَنْهُ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهِ الْمَجْهُولِ، لَكِنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ مُرْسَلًا، لَكِنْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، فَلَا يَضُرُّهُ الْإِرْسَالُ.
وَأَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: فَنَقُولُ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ اجْتِهَادِهِ رَأْيَهُ عَلَى تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاجْتِهَادَ أَعَمُّ مِنْ تَنْقِيحِ الْمُنَاطِ، فَحَمْلُهُ عَلَيْهِ تَخْصِيصٌ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.
الثَّانِي: أَنَّ تَنْقِيحَ الْمَنَاطِ يَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ نَصٌّ يَتَنَقَّحُ الْمَنَاطُ فِيهِ كَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَمُعَاذٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْبَرَ أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا جَوَابٌ قَوِيٌّ مَتِينٌ، فَإِنْ سَاعَدَهُ ثُبُوتُ الْحَدِيثِ وَصِحَّتُهُ، نَهَضَ بِالدَّلَالَةِ وَإِلَّا فَلَا.
(3/268)
________________________________________
قَالُوا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} فَالْحَاجَةُ إِلَى الْقِيَاسِ رَدٌّ لَهُ، {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وَلَمْ يَقُلِ: الرَّأْيُ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ تَمْهِيدُ طُرُقِ الِاعْتِبَارِ، وَالْقِيَاسُ مِنْهَا؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَحْكَامِ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ، وَقَوْلُكُمْ: مَا لَيْسَ فِيهِ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ يُنَاقِضُ اسْتِدْلَالَكُمْ بِالْعُمُومِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ: اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا أَصْلًا. وَالْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ رَدٌّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، إِذْ عَنْهُمَا تَلَقَّيْنَا دَلِيلَهُ.
قَالُوا: بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مَعْلُومَةٌ فَكَيْفَ تُرْفَعُ بِالدَّلِيلِ الْمَظْنُونِ؟ قُلْنَا: لَازِمٌ فِي الْعُمُومِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالشَّهَادَةِ.
قَالُوا: شَأْنُ شَرْعِنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَعَكْسُهُ، نَحْوُ غَسْلِ بَوْلِ الْجَارِيَةِ دُونَ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْحَيْضِ، دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ، وَإِيجَابِ أَرْبَعَةٍ فِي الزِّنَى دُونَ الْقَتْلِ، وَنَحْوِهِ كَثِيرٌ ; وَمُعْتَمَدُ الْقِيَاسِ الِانْتِظَامُ.
قُلْنَا: لَا نَقِيسُ إِلَّا حَيْثُ يُفْهَمُ الْمَعْنَى، وَالْخِلَافُ فِي فَهْمِ الْمَعْنَى مَسْأَلَةٌ أُخْرَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} » هَذِهِ حُجَجُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ نَذْكُرُهَا، وَأَجْوِبَتَهَا:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ مُرَاغَمَةٌ لِلْقُرْآنِ وَرَدٌّ لَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَقُولُ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] ، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89] ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ فِي
(3/269)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْكِتَابِ كِفَايَةً وَغَنَاءً عَنِ الْقِيَاسِ، وَإِثْبَاتُ «الْحَاجَةِ إِلَى الْقِيَاسِ رَدٌّ» لِذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الْمَائِدَةِ: 49] ، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاءِ: 59] ، «وَلَمْ يَقُلْ» : احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالرَّأْيِ، وَلَا رُدُّوهُ إِلَى «الرَّأْيِ» .
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» : هَذَا جَوَابُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ «الْمُرَادَ» بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الْأَنْعَامِ: 38] ، وَ {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النَّحْلِ: 89] مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ «تَمْهِيدُ طُرُقِ الِاعْتِبَارِ» الْكُلِّيَّةِ، «وَالْقِيَاسُ» مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ دَلَّ عَلَى الْإِجْمَاعِ وَالسُّنَّةِ بِمَا سَبَقَ فِي الْإِجْمَاعِ، وَبِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الْحَشْرِ: 7] ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَسُنَّةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَلَّا عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ «لِلْإِجْمَاعِ» مِنَّا وَمِنَ الْخَصْمِ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَمْ يُصَرَّحْ فِيهِ «بِأَحْكَامِ جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ» عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الْبَيَانِ الْكُلِّيِّ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَمْهِيدِ طُرُقِ الِاعْتِبَارِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِلَّا فَأَيْنَ فِي الْكِتَابِ مَسْأَلَةُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَمَسْأَلَةُ الْعَوْلِ، وَمَسْأَلَةُ الْأَكْدَرِيَّةِ وَغَيْرُهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، وَأَيْنَ فِيهِ مَسْأَلَةُ الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُفَوَّضَةِ، وَنَحْوِهَا، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ
(3/270)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِلَّهِ تَعَالَى حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، ثُمَّ إِنَّكُمْ أَنْتُمْ قَدْ حَرَّمْتُمُ الْقِيَاسَ، وَلَا نَصَّ فِي الْكِتَابِ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجْتُمُوهُ مِنْ أَدِلَّةٍ كُلِّيَّةٍ عَامَّةٍ عَلَى زَعْمِكُمْ.
قَوْلُهُ: «وَقَوْلُكُمْ: مَا لَيْسَ فِيهِ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ يُنَاقِضُ اسْتِدْلَالَكُمْ بِالْعُمُومِ» هَذَا إِبْطَالٌ لِعُذْرٍ لَهُمْ يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ دَلِيلِنَا الْخَامِسِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَمْ نَذْكُرْ هَذَا الْعُذْرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» نَصًّا، لَكِنِّي نَبَّهْتُ عَلَيْهِ هَاهُنَا بِذِكْرِ جَوَابِهِ.
وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ أَنَّ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ: لَوْلَا الْقِيَاسُ، لَتَعَطَّلَتْ حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ عَنْ أَحْكَامٍ؛ لِعَدَمِ وَفَاءِ النُّصُوصِ الْقَلِيلَةِ بِالْحَوَادِثِ الْكَثِيرَةِ ; أَجَابُوا بِمَا سَبَقَ عِنْدَ تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَبِعُذْرٍ آخَرَ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هَاهُنَا، وَهُوَ أَنْ قَالُوا: لَا نُسَلِّمُ تَعَطُّلَ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ عَنِ الْأَحْكَامِ، بَلْ مَا لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَى حُكْمِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ أَيْ: لَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْأَحْكَامِ.
وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الِاعْتِذَارَ يُنَاقِضُ اسْتِدْلَالَكُمْ بِعُمُومِ قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى اسْتِدْلَالِكُمْ يُوجِبُ أَنْ لَا حَادِثَةَ إِلَّا وَلَهَا فِي الْكِتَابِ حُكْمٌ، فَقَوْلُكُمْ بَعْدَ هَذَا: «مَا لَيْسَ فِيهِ يَبْقَى عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ» إِثْبَاتٌ؛ لِأَنَّ مِنَ الْحَوَادِثِ مَا لَا حُكْمَ لَهُ فِي الْكِتَابِ، وَذَلِكَ عَيْنُ التَّنَاقُضِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ» ، يَعْنِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} : «اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا» عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ «أَصْلًا» ،
(3/271)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي اسْتِيعَابِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِجُزْئِيَّاتِ الْمَوْجُودَاتِ وَكُلِّيَّاتِهَا، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي اسْتِيعَابِ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى مَعَهُ عَنِ الْقِيَاسِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَا إِشْكَالَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْقُرْآنُ. قَالَ: وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيِهِ نِظَامُ الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، هُوَ خَاصٌّ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي فِيهَا مَنَافِعُ الْمُخَاطَبِينَ وَطَرِيقُ هِدَايَتِهِمْ. وَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، أَيْ: مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمِلَّةِ، كَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّخْوِيفِ مِنْ عَذَابِهِ. قَالَ: هَذَا حَصْرُ مَا اقْتَضَتْهُ عِبَارَةُ الْمُفَسِّرِينَ.
قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا قُلْنَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي جُزْئِيَّاتِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْأَقْيِسَةِ مَا لَا ضَرُورَةَ بِتَحَقُّقِ الْمِلَّةِ إِلَيْهِ، بَلْ يَحْصُلُ اتِّبَاعُ الْمِلَّةِ بِدُونِهَا بَلْ جَمِيعُ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ تَتَحَقَّقُ الْمِلَّةُ بِدُونِهَا، إِذْ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ مُخْلِصًا مَعَ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْمِلَّةِ اعْتِقَادًا، ثُمَّ لَمْ يَأْتِ بِفَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، كَانَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُسْلِمِينَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْخُصُوصُ.
قَوْلُهُمُ: الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ لَيْسَ حُكْمًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا رَدًّا إِلَى اللَّهِ
(3/272)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالرَّسُولِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ «الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ» حُكْمٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَ «رَدٌّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، إِذْ عَنْهُمَا تَلَقَّيْنَا دَلِيلَهُ» ، أَيْ: دَلِيلُ الْقِيَاسِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لَهُمْ: «قَالُوا: بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ» مِنَ التَّكَالِيفِ «مَعْلُومَةٌ» عَمَلًا بِمُوجِبِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَالْقِيَاسُ مَظْنُونٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ، «فَكَيْفَ تُرْفَعُ» الْبَرَاءَةُ الْمَعْلُومَةُ «بِالدَّلِيلِ الْمَظْنُونِ» ؟
وَالْجَوَابُ: إِنَّ هَذَا «لَازِمٌ» لَكُمْ «فِي الْعُمُومِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالشَّهَادَةِ» ، فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا إِنَّمَا تُفِيدُ الظَّنَّ، وَقَدْ رَفَعْنَا بِهَا الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ بِاتِّفَاقٍ. وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى جِهَةِ الْمُنَاقَضَةِ الْجَدَلِيَّةِ وَالْإِلْزَامِ. أَمَّا التَّحْقِيقُ فِي الْجَوَابِ، فَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ مَشْرُوطًا فِي التَّكَالِيفِ الْعَمَلِيَّةِ، بَلْ حُصُولُ الظَّنِّ فِيهِ كَافٍ ثُبُوتًا وَزَوَالًا عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي نَسْخِ التَّوَاتُرِ بِالْآحَادِ.
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ: الْكَافِي فِي الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ هُوَ الظَّنُّ، وَلَهُ رَفْعُ الْقِيَاسِ الْمَظْنُونِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمَظْنُونَةِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الظَّنِّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، فَوُجُودُهَا كَالْعَدَمِ. وَهَذَا كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ الطَّرْدُ دُونَ الْعَكْسِ، فَوُجُودُهُ كَالْعَدَمِ، لَكِنَّهُ تَرَجَّحَ بِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: «قَالُوا: شَأْنُ شَرْعِنَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَعَكْسُهُ» يَعْنِي الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُخْتَلَفَاتِ «نَحْوُ: غَسْلِ بَوْلِ الْجَارِيَةِ دُونَ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَالْغُسْلِ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْحَيْضِ دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ» مَعَ اسْتِوَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي كَوْنِهِ
(3/273)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَارِجًا مِنَ الْفَرَجِ نَجِسًا، وَإِنْ قُلْنَا بِطَهَارَةِ الْمَنِيِّ، قَوِيَ الْإِشْكَالُ، إِذْ يَجِبُ الْغُسْلُ بِخُرُوجِهِ مَعَ طَهَارَتِهِ دُونَ الْمَذْيِ وَالْبَوْلِ مَعَ نَجَاسَتِهِمَا، وَالْقِيَاسُ الْعَكْسُ، «وَإِيجَابُ أَرْبَعَةِ» شُهُودٍ «فِي الزِّنَى دُونَ الْقَتْلِ» مَعَ إِفْضَائِهِمَا إِلَى الْقَتْلِ فِيمَا إِذَا كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا، وَإِنْ كَانَ بِكْرًا قَوِيَ الْإِشْكَالُ، إِذْ لَا زُهُوقَ فِيهِ. وَمَعَ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُهُودٍ، وَالْقَتْلُ الَّذِي فِيهِ الزُّهُوقُ يُكْتَفَى فِيهِ بِشَاهِدَيْنِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ الْعَكْسَ احْتِيَاطًا لِلدِّمَاءِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، كَكَوْنِهِ فَرَّقَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ بَيْنَ قَضَاءِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَكِلَاهُمَا عِبَادَةٌ، وَأَبَاحَ النَّظَرَ إِلَى الْأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ، وَكِلْتَاهُمَا امْرَأَةٌ مَحَلٌّ لِلشَّهْوَةِ.
وَجَمَعَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ، فَأَوْجَبَ جَزَاءَ الصَّيْدِ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَفَرَّقَ فِي التَّطَيُّبِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَكُلُّهَا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْإِفْطَارِ وَالْيَمِينِ، وَهِيَ أَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ، ثُمَّ غَايَرَ بَيْنَ مَقَادِيرِ كَفَّارَتِهَا، وَأَوْجَبَ الْقَتْلَ عَلَى الزَّانِي وَالْقَاتِلِ وَتَارِكِ الصَّلَاةِ، وَالْكَافِرِ، وَجِنَايَاتُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَالَ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي التَّضْحِيَةِ بِالْعَنَاقِ: تُجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ. وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابِ: 50] ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ أَنَاسِيُّ مُكَلَّفُونَ.
«وَمُعْتَمَدُ الْقِيَاسِ: الِانْتِظَامُ» ، يَعْنِي: اتِّفَاقُ الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّفَاوُتُ وَاقِعًا فِي الشَّرْعِ لَمْ نَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ انْتِظَامِ مَعَانِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ حَتَّى يَلْحَقَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ.
(3/274)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: لَا نَقِيسُ إِلَّا حَيْثُ يُفْهَمُ الْمَعْنَى، وَالْخِلَافُ فِي فَهْمِ الْمَعْنَى مَسْأَلَةٌ أُخْرَى» . تَقْرِيرُ هَذَا أَنَّا لَا نُنْكِرُ وُقُوعَ مَا ذَكَرْتُمْ فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّا مَا ادَّعَيْنَا عُمُومَ وُقُوعِ الْقِيَاسِ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ، بَلْ حَيْثُ فَهِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ ثَبْتَ لِمَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي، أَلْحَقَنَا بِهِ مَا وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْفُرُوعِ، كَالنَّبِيذِ مَعَ الْخَمْرِ، وَالْأَرُزِّ مَعَ الْبُرِّ. وَلِهَذَا قُلْنَا: الْأَحْكَامُ إِمَّا غَيْرُ مُعَلَّلٍ كَالتَّعَبُدَاتِ، أَوْ مُعَلَّلٍ كَالْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ لِضَعْفِ عَقْلِهِ حِفْظًا لِمَالِهِ، أَوْ مَا يَتَرَدَّدُ فِي كَوْنِهِ مُعَلَّلًا أَوَّلًا، كَقَوْلِنَا: اسْتِعْمَالُ التُّرَابِ فِي غَسْلِ وُلُوغِ الْكَلْبِ هَلْ هُوَ تَعَبُّدٌ أَمْ مُعَلَّلٌ؟ وَخَرَجَ عَلَى ذَلِكَ الْخِلَافُ فِي قِيَامِ الْأُشْنَانِ وَالصَّابُونِ وَالْغَسْلَةِ الثَّامِنَةِ مَقَامَهُ ; إِنْ قُلْنَا: هُوَ تَعَبُّدٌ، لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، وَإِنْ قُلْنَا: مُعَلَّلٌ بِإِعَانَةِ الْمَاءِ عَلَى إِزَالَةِ أَثَرِ الْوُلُوغِ ; قَامَ ذَلِكَ مَقَامَهُ لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِزَالَةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ قُلْنَا: هُوَ تَعَبُّدٌ، كَفَى بِالتُّرَابِ مُسَمَّاهُ وَإِنْ لَمْ يَعُمَّ أَجْزَاءَ مَحَلِّ الْوُلُوغِ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مُعَلَّلٌ، اشْتُرِطَ تَعْمِيمُهُ بِهِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ، وَكَذَلِكَ غَسْلُ الْيَدِ عِنْدَ الْوُضُوءِ وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ إِنْ قِيلَ: هُوَ عِبَادَةٌ، وَجَبَتْ لَهُ النِّيَّةُ، وَإِنْ قِيلَ: نَظَافَةٌ، لَمْ يَجِبْ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ لَا نَقِيسُ إِلَّا حَيْثُ فَهِمْنَا الْمَعْنَى وَوُجِدَتْ شُرُوطُ الْقِيَاسِ، فَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْخَاصَّةِ مُعَلَّلَةً أَوْ غَيْرَ مُعَلَّلَةِ ; فَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى خَارِجَةٌ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ يَثْبُتُ فِيهَا مِنَ الْحُكْمِ بِالتَّعَبُّدِ أَوِ التَّعَلُّلِ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ عَنِ الْحُجَّةِ الْمَذْكُورَةِ إِجْمَالِيٌّ، وَالْجَوَابُ التَّفْصِيلِيُّ أَنَّ الصُّوَرَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا كُلُّهَا أَوْ جُلُّهَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ عَنْهُ إِمَّا بِمَنْعِ
(3/275)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمِ مِنْ فَرْقٍ أَوْ جَمْعٍ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ، أَوْ بِإِبْدَاءِ الْمُنَاسِبِ.
أَمَّا غَسْلُ بَوْلِ الْجَارِيَةِ دُونَ بَوْلِ الْغُلَامِ، فَقَدْ سَوَّى الْحَسَنُ بَيْنَهُمَا فِي النَّضْحِ، وَغَيْرُهُ فِي الْغَسْلِ، فَلَا نَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، فَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ آلَةَ بَوْلِ الْغُلَامِ بَارِزَةٌ عَنْ سَمْتِ بَدَنِهِ، وَالنَّاسُ أَمْيَلُ إِلَى حَمْلِهِ، فَيَكْثُرُ بَوْلُهُ عَلَى النَّاسِ، فَيَشُقُّ غَسْلُهُ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ فَإِنَّ بَوْلَهَا لَا يُجَاوِزُهَا إِلَى غَيْرِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ اعْتَبَرَ بَوْلَهُمَا، فَوَجَدَ بَوْلَ الْجَارِيَةِ أَثْقَلَ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِلْفَرْقِ، وَيُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّ مِزَاجَ الذَّكَرِ حَارٌّ، وَمِزَاجُ الْأُنْثَى بَارِدٌ، فَيَضْعُفُ الْهَضْمُ، فَتَبْقَى الْفَضْلَةُ كَثِيفَةً، ذَاتِ قِوَامٍ كَثِيفٍ، فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْأَجْسَامِ، كَانَ أَثَرُهَا مُحْتَاجًا إِلَى الْغَسْلِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فِي الْغُلَامِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا افْتَرَقَ مَنِيُّ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى نَاسَبَ افْتِرَاقَ بَوْلِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْبَوْلِ عَكْسُهُ فِي الْمَنِيِّ، إِذْ مَنِيُّ الذَّكَرِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَنِيُّ الْأُنْثَى رَقِيقٌ أَصْفَرُ، وَبَوْلُ الْأُنْثَى أَغْلَظُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ، وَهَذَا تَقْرِيرٌ شَبَهِيٌّ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحُكْمُ فَرْعِيٌّ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ تَصْلُحُ لِتَقْرِيرِهِ وَتَقْوَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا إِيجَابُ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ فِي الزِّنَى دُونَ الْقَتْلِ، فَقَدْ قَرَّرْتُهُ مَبْسُوطًا فِي «الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى» عَلَى وَجْهٍ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ فِي حَقِّ الْحَائِضِ بَيْنَ قَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ فَلِكَثْرَةِ الصَّلَاةِ
(3/276)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَكَرُّرِهَا، فَيَشُقُّ قَضَاؤُهَا دُونَ الصَّوْمِ، إِذْ هُوَ شَهْرٌ فِي السَّنَةِ، وَهَذَا مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِلْفَرْقِ وَكَوْنُهُمَا عِبَادَةً لَا يَقْتَضِي اسْتِوَاؤُهُمَا فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا إِبَاحَةُ النَّظَرِ إِلَى الْأَمَةِ دُونَ الْحُرَّةِ، فَهُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ مَمْنُوعٌ؛ إِذِ النَّظَرُ إِلَيْهِمَا بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ زَوْجًا أَوْ سَيِّدًا. وَأَمَّا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَيَجُوزُ مِنَ الْأَمَةِ إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهَا غَالِبًا فِي حَالِ الْمِهْنَةِ وَالْخِدْمَةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا، فَالتَّحَرُّزُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ يَشُقُّ، كَمَا قِيلَ فِي وَجْهِ الْحُرَّةِ وَكَفَّيْهَا لِذَلِكَ، وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِهَا لِحَاجَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا، وَإِلَى غَيْرِ وَجْهِهَا أَيْضًا لِحَاجَةِ الْعِلَاجِ؛ لِأَنَّ اجْتِنَابَ ذَلِكَ يُورِثُ مَشَقَّةً مُنْتَفِيَةً شَرْعًا، وَهُوَ الْفَرْقُ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ الشَّرْعِيِّ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَغَيْرِهَا، لَكِنْ مَا ذَكَرْنَاهُ مُنَاسِبٌ لِثُبُوتِ هَذَا الِاسْتِحْسَانِ.
وَأَمَّا قَتْلُ الصَّيْدِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ; فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ، فَلَا يُرَدُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَوَّى بَيْنِهِمَا فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ تَغْلِيبًا لِمَعْنَى إِتْلَافِ حَقِّ الْآدَمِيِّ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ إِقَامَةً لِرَسْمِ الْعَدْلِ كَمَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَقِّ الْآدَمِيِّ، فَمِنْ حَيْثُ إِنَّ قَتْلَهُ ارْتِكَابٌ لِمَا نَهَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْهُ هُوَ حَقُّ لَهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ جَزَاءَهُ مَصْرُوفٌ إِلَى الْآدَمِيِّ هُوَ حَقٌّ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْخَذُ فِي الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، ثُمَّ إِنَّ مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ فِيهِ، لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْفَرْقُ فِي التَّطَيُّبِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّطَيُّبِ وَالْحَلْقِ دُونَ قَتْلِ الصَّيْدِ غَلَبَ فِيهِ إِتْلَافُ حَقِّ الْآدَمِيِّ وَفِيهِمَا حَقُّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، عَلَى أَنَّ
(3/277)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَمِيعَ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ، وَالْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ مَعَ جَمِيعِهِمْ، فَلِلْمُجْتَهِدِ مِنْهُمْ أَنْ يَلْتَزِمَ الْفَرْقَ فِي الْجَمِيعِ، أَوِ التَّسْوِيَةَ فِي الْجَمِيعِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ السُّؤَالُ.
وَأَمَّا إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ بِأَسْبَابِهَا الْمَذْكُورَةِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنَعَ جَرَيَانَ الْقِيَاسِ فِيهَا لِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا وَمَقَادِيرِهَا، وَأَجَازَهُ فِي غَيْرِهَا. وَمَنْ أَجْرَى الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّمَا أَجْرَاهُ حَيْثُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَوُجِدَتْ شُرُوطُ الْقِيَاسِ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْإِجْمَالِيُّ الَّذِي سَبَقَ، مَعَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِمَّا جُبْرَانٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّارِعَ عَلِمَ أَنَّ كَفَّارَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يُكَافِئُهُ جَبْرًا أَوْ زَجْرًا، فَشَرَعَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَدْلٌ، وَهَذَا مِنَ الْعَدْلِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الزَّانِي وَالْقَاتِلِ وَنَحْوِهِ مَعَ اخْتِلَافِ جِنَايَاتِهِمْ، فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ مَفْسَدَةَ أَدْنَى هَذِهِ الْجِنَايَاتِ تُوجِبُ الْقَتْلَ، وَسَقَطَ الزَّائِدُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ فِيمَا فَوْقَهُ مِنَ الْجِنَايَاتِ تَفَضُّلًا أَوْ تَعَذُّرًا؛ إِذْ لَا عُقُوبَةَ وَرَاءَ الْقَتْلِ، مَعَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ اتِّحَادَ كَيْفِيَّةَ الْقَتْلِ فِيهِمْ، بَلِ الْقَاتِلُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِمُوجِبِ الْعَدْلِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَالزَّانِي إِنْ كَانَ بِكْرًا، فَلَا قَتْلَ عَلَيْهِ، بَلْ عَلَيْهِ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْجَلْدِ، فَزُهُوقُهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا، فَيُجْلَدُ، وَيُرْجَمُ حَتَّى يَمُوتَ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْأَلَمِ وَالتَّعْذِيبِ أَضْعَافُ مَا فِي الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَةِ الْقَتْلِ، وَجِنَايَةُ الْكَافِرِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ ; غَيْرَ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْكُفْرِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَفْضُلُ بِتَرْكِ
(3/278)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ وَالْمُثْلَةِ بِالرَّجْمِ وَنَحْوِهِ.
وَالْقَتْلُ بِالزِّنَى، إِمَّا حَقُّ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ بِهَتْكِ الْعِرْضِ، وَتَضْيِيعِ النَّسَبِ، أَوْ أَنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ لِذَلِكَ فَجُعِلَ كُفْئًا لِسَبَبِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ فَقَدْ بَيَّنْتُ وَجْهَهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْحَدِيثِ فِي «مُخْتَصَرِ» التِّرْمِذِيِّ، وَلَمْ أَنْشَطْ هَاهُنَا لِتَقْرِيرِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الْأَحْزَابِ: 50] ، فَإِنَّ فَضِيلَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى غَيْرِهِمْ مَعْلُومَةٌ بِالِاضْطِرَارِ، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِتَخْصِيصِهِمْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُكْرِمَهُمْ بِهِ، وَكَوْنُهُمْ جَمِيعًا أَنَاسِيَّ مُكَلَّفِينَ لَا يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَلَا يَمْنَعُ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ، لَلَزِمَ الْقَدْحُ فِي النُّبُوَّاتِ بِأَنْ يُقَالَ: كُلُّ النَّاسِ أَنَاسِيُّ فَكَيْفَ يَخْتَصُّ بِالْمُعْجِزِ النَّبِيُّ؟ . وَهَذِهِ شُبْهَةُ الْكُفَّارِ حَيْثُ قَالُوا: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [يس: 15] ، {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [الْقَمَرِ: 24] ، {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 34] .
فَإِنْ قِيلَ: الْمُعْجِزُ وَالنُّبُوَّةُ مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنْبِيَائِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، خُصُّوا بِهَا بِحُكْمِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ، فَإِنْ قُلْتُمْ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ الْمُخْتَصَّةِ بِمِحَالِّهَا دُونَ نَظَائِرِهَا كَذَلِكَ، صَحَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ بُطْلَانِ الْقِيَاسِ.
قُلْنَا: النُّبُوَّةُ مَوْهِبَةٌ لِغَيْرِ مَعْنًى أَوْ لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي
(3/279)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُسَلَّمٌ، وَبِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُنَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا وَهَبَ النُّبُوَّةَ لِأَهْلِهَا لِمَا اخْتَصُّوا بِهِ عَلَى بَاقِي الْعَالَمِ مِنْ زِيَادَةِ الْخَيْرِ، وَالصَّلَاحِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْعِبَادَةِ، وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ، وَاكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، [الْأَنْعَامِ: 124] وَسَائِرُ مَا مُدِحَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اخْتِصَاصَهُمْ بِالنُّبُوَّةِ لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ لَهُ، فَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ، خُصَّتْ بِأَحْكَامِهَا لِمَعْنًى مُنَاسِبٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لَكِنْ أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِذَا فَهِمْنَا الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ أَوِ الْمُؤَثِّرَ غَيْرَ الْمُنَاسِبِ، أَلْحَقْنَا بِهِ مَا فِي مَعْنَى مَحَلِّهِ، كَإِلْحَاقِ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ، فَهَلْ نَقُولُ: إِنَّ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ لِلِاخْتِصَاصِ بِالنُّبُوَّةِ فِي الْأَنْبِيَاءِ إِذَا وَجَدْتُمُوهُ فِي آحَادِ النَّاسِ تُلْحِقُونَهُ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ؟ إِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، فَلَا قَائِلَ بِهِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا، فَمَا الْفَرْقُ؟
قُلْنَا: إِنَّ الْقِيَاسَ مَدْرَكٌ ظَنِّيٌّ تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ، وَإِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ حُكْمٌ قَطْعِيٌّ، وَهُوَ أَصْلٌ لِقَوَاطِعِ الشَّرَائِعِ وَظَنِّيَّاتِهَا، فَلَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَمْرُ النُّبُوَّةِ ظَنِّيًّا، أَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مَدْرَكًا لِلنُّبُوَّةِ قَطْعِيًّا، لَأَثْبَتْنَاهَا بِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُعْجِزُ بِشُرُوطِهِ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ فِي شَخْصٍ مَا، عَدَّيْنَا حُكْمَ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَمَنْ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ عَلَى يَدِهِ فَقُلْنَا مَثَلًا: إِنَّمَا ثَبَتَ كَوْنُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَبِيًّا لِظُهُورِ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ عَلَى يَدِ عِيسَى
(3/280)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِمَا، لَمَّا كَانَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ قَاطِعًا ثَبَتَ بِمِثْلِهِ النُّبُوَّةُ الْقَاطِعَةُ.
وَمِمَّا يُورَدُ مِنْ نَظَائِرِ هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى الْقِيَاسِ أَنَّ الْعَجُوزَ الشَّوْهَاءَ الْقَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ تُحَصِّنَ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَحْرَارِ عَلَى الْبَدَلِ، وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْإِمَاءِ الْحِسَانِ لَا تُحَصِّنُ آدَمِيًّا وَاحِدًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ مِنَ الْقَيَّاسِينَ، فَيَسْقُطُ السُّؤَالُ، وَمَنِ الْتَزَمَهُ أَبْدَى فَرْقًا مُنَاسِبًا عِنْدَهُ، وَهُوَ نَقْصُ الرِّقِّ وَكَانَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ وَهُوَ تَكَلُّفٌ، إِذْ لَيْسَ مُؤَثِّرًا، وَالصَّوَابُ رَأْيُ مَالِكٍ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ بِهِ مَالِكٌ، لِجَازَ لِلْمُجْتَهِدِ الْتِزَامُهُ، إِذْ لَا نَصَّ فِي نَفْيِهِ وَلَا إِجْمَاعَ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: لِمَ قُطِعَ سَارِقُ الْقَلِيلِ دُونَ غَاصِبِ الْكَثِيرِ، وَهُوَ أَحْوَجُ إِلَى الرَّدْعِ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْغَصْبَ فِعْلٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يَخْلُو كُلُّ إِقْلِيمٍ عَنْ سُلْطَانٍ يَكُفُّ ظُلْمَ الظَّالِمِ، وَيُنْصِفُ الْمَظْلُومَ، إِمَّا تَقَرُّبًا إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالْعَدْلِ، أَوْ حِيَاطَةً لِلْمُلْكِ وَسِيَاسَةً لَهُ، وَذَلِكَ دَافِعٌ لِمَفْسَدَةِ الْغَصْبِ مَنْعًا أَوْ قَطْعًا، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهَا فِعْلٌ خَفِيٌّ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ، فَوَضَعَ لَهُ الشَّرْعُ زَاجِرَ الْقَطْعِ، إِذْ بَدَوْنِ ذَلِكَ لَا تَزُولُ الْمَفْسَدَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا وُجُوبُ الْغُسْلِ فِي خُرُوجِ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ، فَذَكَرَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ لَهُ مَعْنًى مُنَاسِبًا إِنْ تَحَقَّقَ، وَلَا أَسْتَطِيعُ الْآنَ تَحْقِيقَهُ.
(3/281)
________________________________________
قَالُوا: لَوْ أَرَادَ الشَّارِعُ تَعْمِيمَ الْمَحَالِّ بِالْأَحْكَامِ لَعَمَّهَا نَصًّا، نَحْوُ: الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَيَتْرُكُ التَّطْوِيلَ.
قُلْنَا: هَذَا تَحَكُّمٌ عَلَيْهِ كَقَوْلِ مَنْ حَرَّمَ الْمَلَاذَّ: وَفِعْلُهَا لَا يَضُرُّهُ، ثُمَّ لَعَلَّهُ أَبْقَى لِلْمُجْتَهِدِينَ مَا يُثَابُونَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ.
قَالُوا: كَيْفَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفَرْعِ بِغَيْرِ طَرِيقِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ.
قُلْنَا: مَنْ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ لَا يَرِدُ هَذَا عَلَيْهِ، وَمَنْ يُثْبِتُهُ بِالنَّصِّ يَقُولُ: الْقَصْدُ الْحُكْمُ، لَا تَعْيِينُ طَرِيقَهٍ، فَإِذَا ظَنَّ وُجُودَهُ اتَّبَعَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ.
قَالُوا: غَايَةُ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْإِلْحَاقَ، نَحْوُ: أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، لَا يَقْتَضِي عِتْقَ كُلِّ أَسْوَدَ مِنْ عَبِيدِهِ.
قُلْنَا: وَكَذَا لَوْ صَرَّحَ، فَقَالَ: قِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ، فَلَيْسَ بِوَارِدٍ، بِخِلَافِ قَوْلِ الشَّارِعِ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا فَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ مُسْكِرٍ، ثُمَّ بَيْنَ الشَّارِعِ وَغَيْرِهِ فَرْقٌ يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: «قَالُوا: لَوْ أَرَادَ الشَّارِعُ تَعْمِيمَ الْمَحَالِّ بِالْأَحْكَامِ، لَعَمَّهَا نَصًّا، نَحْوُ» قَوْلِهِ: «الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ» أَوْ فِي كُلِّ مَطْعُومٍ أَوْ مُقْتَاتٍ. «وَيَتْرُكُ التَّطْوِيلَ» بِأَنْ يَنُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي سِتَّةِ أَشْيَاءٍ بِدُونِ بَيَانِ عِلَّتِهِ فِيهَا، ثُمَّ يُوقِعُ النَّاسَ بَعْدَهُ فِي الِاخْتِلَافِ الطَّوِيلِ الْعَرِيضِ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الرِّبَا بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، فَلَمَّا لَمْ يَنُصُّ عَلَى تَحْرِيمِ تَعْمِيمِ الْمَحَالِّ بِأَحْكَامِهَا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَعْمِيمَهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ مِنْهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَأَحَالَ الْبَاقِيَ عَلَى تَحْقِيقِ
(3/282)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَنَاطِ، أَوْ عَلَى تَنْقِيحِهِ، أَوِ الْبَقَاءِ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ «هَذَا تَحَكُّمٌ» عَلَى الشَّارِعِ، وَتَحَجُّرٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَبِيهٌ بَقَوْلِ الْمُبَاحِيَّةِ الَّذِينَ قَالُوا: لَا فَائِدَةَ فِي تَحْرِيمِ الْمَلَاذِّ كَالزِّنَى وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِ، إِذْ «فِعْلُهَا لَا يَضُرُّهُ» ، وَهُوَ يَنْفَعُ النَّاسَ. وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِنَا أَنَّ فِي ذَلِكَ حِكْمَةَ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ، فَكَذَلِكَ عَدَمُ تَعْمِيمِهِ الْمَحَالَّ بِالْأَحْكَامِ تَنْصِيصًا لَهُ فِيهِ حِكْمَةٌ، فَلَعَلَّهُ أَبْقَى لِلْمُجْتَهِدِينَ مَجَالًا فِي الْأَحْكَامِ يُثَابُونَ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَوْ عَمَّ مَحَالَّ الْأَحْكَامِ بِهَا، لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَجَالٌ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَوْ قَالَ: كُلُّ مَكِيلٍ رِبَوِيٌّ، لَثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَرُزِّ بِالنَّصِّ، وَلَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ.
الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: «قَالُوا: كَيْفَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْفَرْعِ بِغَيْرِ طَرِيقِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ؟» وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَحُكْمُ الْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالْإِلْحَاقِ كَتَحْرِيمِ النَّبِيذِ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ، وَالطَّرِيقُ مُخْتَلِفٌ ; فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا! .
وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، هَلْ هُوَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ مِنَ النَّصِّ، أَوْ بِنَفْسِ النَّصِّ؟ فَمَنْ أَثْبَتَ «الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ بِالْعِلَّةِ» لَمْ يَرِدْ هَذَا السُّؤَالُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَثْبَتَ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْإِسْكَارِ مَثَلًا فِي الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ. وَمَنْ أَثْبَتَهُ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ، قَالَ: الْمَقْصُودُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا تَعْيِينُ طَرِيقِهٍ بِكَوْنِهِ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، أَوْ نَصًّا فِي الْأَصْلِ قِيَاسًا فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَسِيلَةٌ، وَالْحُكْمَ مَقْصِدٌ، وَمَعَ حُصُولِ الْمَقْصِدِ لَوْ قُدِّرَ عَدَمُ الْوَسَائِلِ، لَمْ يَضُرَّ
(3/283)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَضْلًا عَنِ اخْتِلَافِهَا. وَهَذَا كَمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ دَخَلَهَا.
الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: «قَالُوا: غَايَةُ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً، وَهُوَ» يَعْنِي النَّصَّ عَلَيْهَا «لَا يُوجِبُ الْإِلْحَاقَ» ، يَعْنِي إِلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، «نَحْوُ» قَوْلِ الْقَائِلِ: «أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، لَا يَقْتَضِي عِتْقَ كُلِّ أَسْوَدَ مِنْ عَبِيدِهِ» ، وَإِذَا لَمْ يَقْتَضِ النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ الْإِلْحَاقَ فَالْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ الَّتِي تُسْتَخْرَجُ الْعِلَّةُ مِنْهَا بِالِاسْتِنْبَاطِ وَعَلَيْهَا مَدَارُ أَكْثَرِ الْأَقْيِسَةِ أَوْلَى أَنْ لَا يَقْتَضِيَهُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ الْخَصْمَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْقِيَاسِ فِي الْعِتْقِ، لَمْ يَتَعَدَّ الْوَصْفَ، فَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، وَ «قِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ» ; لَمَا جَازَ عِتْقُ السُّودَانِ بِالْقِيَاسِ؛ لِمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ قَالَ: «حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا، فَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ مُسْكِرٍ» ; لَصَحَّ الْإِلْحَاقُ وَالتَّعْدِيَةُ، وَاتَّجَهَتِ التَّسْوِيَةُ عِنْدَ أَكْثَرِ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، وَهُمُ الْقَاشَانِيَّةُ وَالنَّهْرَوَانِيَّةُ، وَإِذْ بَيْنَ الْبَابَيْنِ هَذَا الْفَرْقُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ إِلْزَامُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، عَلَى أَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَعْتَقْتُ هَذَا الْعَبْدَ لِسَوَادِهِ، يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ، فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ كُلُّ أَسْوَدَ.
نَعَمِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْعِتْقِ مَعَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالسُّؤَالُ غَيْرُ وَارِدٍ، وَالْحُكْمُ مُلْتَزَمٌ فِي الْبَابَيْنِ، وَهَذَا هُوَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا تَأْكُلْ هَذِهِ الْحَشِيشَةَ لِأَنَّهَا سُمٌّ، أَوْ: لَا تَأْكُلِ الْإِهْلِيلَجَ؛ لِأَنَّهُ مُسْهِلٌ، أَوْ: لَا تُجَالِسُ فُلَانًا؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدِعٌ ; فُهِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّعْدِيَةُ، وَاجْتِنَابُ كُلِّ سُمٍّ وَمُسْهِلٍ وَمُبْتَدِعٌ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ طَرْدِ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ التَّعَبُّدُ، ثُمَّ إِنَّ الْخَصْمَ مُنَاقِضٌ لِنَفْسِهِ، إِذِ احْتِجَابُهُ هَاهُنَا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ قَاسَ بُطْلَانَ
(3/284)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى بُطْلَانِهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنْ صَحَّ احْتِجَاجُهُ بِالْقِيَاسِ هَاهُنَا، فَلِمَ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مُطْلَقًا؟ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ احْتِجَاجُهُ بِهِ، لَمْ يَقْدَحْ فِي احْتِجَاجِنَا بِالْقِيَاسِ، وَأَيْضًا إِذَا اعْتَقَدَ الْخَصْمُ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ فِي أَصْلٍ كَبِيرٍ وَهُوَ بُطْلَانُ الْقِيَاسِ، فَلِمَ لَا يَصِحُّ احْتِجَاجُنَا فِي الْفُرُوعِ الْيَسِيرَةِ الْخَطْبِ؟ .
قَوْلُهُ: «ثُمَّ بَيْنَ الشَّارِعِ وَغَيْرِهِ فَرْقٌ يُدْرَكُ بِالنَّظَرِ» : بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ مَنَاطُ ثُبُوتِهَا الظَّنُّ تَوْسِيعًا لِمَجَارِي التَّكْلِيفِ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ لَا تُنْقَلُ عَنْهُمْ إِلَّا بِطَرِيقٍ قَاطِعٍ ; إِمَّا احْتِيَاطًا لِحُقُوقِهِمْ لِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنَ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ الْمُوجِبِ لِتَضْيِيقِ الْأَمْرِ فِي حُقُوقِهِمْ، أَوْ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ فِي الْأَصْلِ مِلْكٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ، فَتُعُبِّدَ فِي زَوَالِهَا بِالطَّرِيقِ الْقَاطِعِ، وَأَثْبَتَ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ بِالطُّرُقِ الْمَظْنُونَةِ، وَلِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنْ يَفْعَلَ فِي مُلْكِهِ مَا يَشَاءُ.
وَمِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ شَيْءٌ، فَأَقَرَّ عَلَيْهِ، اسْتُفِيدَ مِنْ ذَلِكَ رِضَاهُ بِهِ بِشَرْطِهِ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِذَلِكَ، وَلَوْ أَنَّ شَخْصًا بَاعَ مَالَ إِنْسَانٍ بِحَضْرَتِهِ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ، فَسَكَتَ، وَلَمْ يُنْكِرْ، بَلْ أَظْهَرَ الِاسْتِبْشَارَ وَالْفَرَحَ ; لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالْإِيجَابِ، أَوْ يُعْلَمَ رِضَاهُ أَوْ يُوَكِّلَ فِيهِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الشَّرْعَ فِي حُقُوقِ الْمَخْلُوقِينَ ضَيَّقَ غَايَةَ التَّضْيِيقِ بِخِلَافِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَلْزَمُكُمْ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ، فَإِنَّ التَّرَاضِيَ فِي الْبَيْعِ شَرْطٌ بِالنَّصِّ، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ خَفِيٌّ، وَلَمْ تَعْتَبِرُوا لَهُ صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهَذَا حَقُّ آدَمِيٍّ قَدْ أَزَلْتُمُوهُ عَنْهُ بِغَيْرِ طَرِيقٍ
(3/285)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَاطِعٍ.
فَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ غَيْرُ قَاطِعٍ، بَلِ الْمُعَاطَاةُ تَقْتَرِنُ بِهَا قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى الرِّضَا قَطْعًا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَلَى تَوَالِي الْأَعْصَارِ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ.
(3/286)
________________________________________
قَالُوا: لَا قِيَاسَ فِي الْأُصُولِ، فَكَذَا فِي الْفُرُوعِ.
قُلْنَا: مَمْنُوعٌ بَلْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قِيَاسٌ بِحَسَبِ مَطْلُوبِهِ قَطْعًا فِي الْأَوَّلِ وَظَنًّا فِي الثَّانِي، ثُمَّ هُوَ قِيَاسٌ، فَإِنْ صَحَّ صَحَّ مُطْلَقُهُ، وَثَبَتَ الْقِيَاسُ، وَإِلَّا بَطَلَ مَا ذَكَرْتُمْ.
وَاعْلَمْ: أَنَّهُ قَدْ صَحَّ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِمَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حَمْلُ الذَّامَّةِ عَلَى حَالِ وُجُودِ النَّصِّ وَالْحَاثَّةِ عَلَى حَالِ عَدَمِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: «قَالُوا: لَا قِيَاسَ» ، أَيْ: الْقِيَاسُ مُمْتَنِعٌ «فِي الْأُصُولِ» ، فَلْيَكُنْ مُمْتَنِعًا «فِي الْفُرُوعِ» .
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا «مَمْنُوعٌ، بَلْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا» ، أَيْ: فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ «قِيَاسٌ بِحَسَبِ مَطْلُوبِهِ قَطْعًا فِي الْأَوَّلِ» يَعْنِي فِي الْأُصُولِ «وَظَنًّا فِي الثَّانِي» يَعْنِي فِي الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْأُصُولِ الْقَطْعُ وَفِي الْفُرُوعِ الظَّنُّ، فَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ فِي الْأُصُولِ قَطْعِيًّا، وَيَكْفِي أَنْ يَكُونَ فِي الْفُرُوعِ ظَنِّيًّا، ثُمَّ إِنَّ هَذَا قِيَاسٌ مِنْهُمْ لِامْتِنَاعِ الْقِيَاسِ فِي الْفُرُوعِ عَلَى امْتِنَاعِهِ فِي الْأُصُولِ عَلَى زَعْمِهِمْ، فَإِنْ صَحَّ اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقِيَاسِ هَاهُنَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ مُطْلَقُ الْقِيَاسِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُمْ هَاهُنَا، بَطَلَ مَا ذَكَرُوُهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِمَا» ، أَيِ: اسْتِعْمَالُ
(3/287)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ، «أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا» أَيْ: بَيْنَ قِسْمَيْ أَحَادِيثِ ذَمِّ الْقِيَاسِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ «حَمْلُ الذَّامَّةِ» ، أَيْ: هُوَ أَنْ تُحْمَلَ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَمِّ الْقِيَاسِ عَلَى مَا إِذَا كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ، وَتُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَثِّ عَلَيْهِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ، احْتِرَازًا مَنْ تَنَاقُضِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَيُشْبِهُ هَذَا مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مَنْ مَدْحِ الشَّاهِدِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ وَذَمِّهِ، فَحُمِلَ الذَّمُّ عَلَى مَا إِذَا كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ يَعْلَمُ بِهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ لَهُ بِهِ بَيِّنَةً، إِذْ فِي الْمُبَادَرَةِ بِالشَّهَادَةِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - نَوْعُ تَكَلُّفٍ وَفُضُولٍ، وَرُبَّمَا اتُّهِمَ الشَّاهِدُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، كَمَا حُكِيَ أَنَّ رَجُلَا حَضَرَ لِيَشْهَدَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِحَقٍّ، فَقَالَ لَهُ الْحَاكِمُ: أَتَشْهَدُ بِهَذَا الْحَقِّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَأَحْلِفُ، وَأُخَاصِمُ، قَالَ: فَمِنْ هَاهُنَا مَا تُقْبَلُ شَهَادَتُكَ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا هِيَ فِي كِتَابِ «أَدَبِ الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ» لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَهَا بِأَسَانِيدِهَا مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهِيَ وَافِيَةٌ بِالْمَقْصُودِ مِنْ إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَفَوْقِ الْمَقْصُودِ، وَلَمْ يَكُنِ الْكِتَابُ عِنْدِي الْآنَ حَتَّى أُثْبِتَهَا هَاهُنَا، وأَيْضًا آثَرَتُ الِاخْتِصَارَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ أَنَّ الرَّأْيَ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ، وَالرَّأْيُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: رَأْيٌ مَحْضٌ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ، فَذَلِكَ الْمَذْمُومُ الَّذِي لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَرَأْيٌ يَسْتَنِدُ إِلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ مِنَ النَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَالِاسْتِحْسَانِ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَوِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. وَلِهَذَا يُقَالُ: هَذَا رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ عَنْ كُلِّ
(3/288)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُكْمٍ صَارَ إِلَيْهِ أَحَدُهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَنَدُهُ فِيهِ الْقِيَاسَ أَوْ دَلِيلَ غَيْرِهِ، وَالْقِيَاسُ هُوَ مَا ذَكَرْنَا حَدَّهُ، وَهُوَ اعْتِبَارُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَخَصُّ مِنَ الرَّأْيِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ أَخَصُّ مِنَ الْقِيَاسِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ بِحَسَبِ الْإِضَافَةِ هُمْ كُلُّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي الْأَحْكَامِ بِالرَّأْيِ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَسْتَغْنِي فِي اجْتِهَادِهِ عَنْ نَظَرٍ وَرَأْيٍ، وَلَوْ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ وَتَنْقِيحِهِ الَّذِي لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ.
وَأَمَّا بِحَسَبِ الْعَلَمِيَّةِ، فَهُوَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ عَلَمٌ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ، أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَؤُلَاءِ أَهْلَ الرَّأْيِ، لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ إِلَى الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ ; إِمَّا لِعَدَمِ بُلُوغِهِمْ إِيَّاهُ، أَوْ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ، أَوْ لِكَوْنِهِ رِوَايَةَ غَيْرِ فَقِيهٍ، أَوْ قَدْ أَنْكَرَهُ رَاوِي الْأَصْلِ، أَوْ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، أَوْ لِكَوْنِهِ وَارِدًا فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَبِمُقْتَضَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ لَزِمَهُمْ تَرْكُ الْعَمَلِ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَّجَ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ فِي «جَامِعِهِ» نَحْوَ مِائَةٍ أَوْ خَمْسِمِائَةِ حَدِيثٍ صِحَاحٍ خَالَفَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي التَّشْنِيعِ عَلَيْهِ حَتَّى صَنَّفَ كِتَابًا فِي الْخِلَافِ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَكَثُرَ عَلَيْهِ الطَّعْنُ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ حَتَّى بَلَغُوا فِيهِ مَبْلَغًا وَلَا تَطِيبُ النَّفْسُ بِذِكْرِهِ، وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا عِصْمَتَهُ مِمَّا قَالُوهُ، وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا إِلَيْهِ نَسَبُوهُ.
(3/289)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّهُ قَطْعًا لَمْ يُخَالِفِ السُنَّةَ عِنَادًا، وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيمَا خَالَفَ مِنْهَا اجْتِهَادًا لِحُجَجٍ وَاضِحَةٍ، وَدَلَائِلَ صَالِحَةٍ لَائِحَةٍ، وَحُجَجُهُ بَيْنَ النَّاسِ مَوْجُودَةٌ، وَقَلَّ أَنْ يَنْتَصِفَ مِنْهَا مُخَالِفُوهُ، وَلَهُ بِتَقْدِيرِ الْخَطَأِ أَجْرٌ، وَبِتَقْدِيرِ الْإِصَابَةِ أَجْرَانِ، وَالطَّاعِنُونَ عَلَيْهِ إِمَّا حُسَّادٌ، أَوْ جَاهِلُونَ بِمَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ، وَآخِرُ مَا صَحَّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِحْسَانُ الْقَوْلِ فِيهِ، وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْوَرْدِ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ «أُصُولُ الدِّينِ» وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/290)
________________________________________
أَرْكَانُ الْقِيَاسِ مَا سَبَقَ.
فَشَرْطُ الْأَصْلِ ثُبُوتُهُ بِنَصٍّ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِيهِ ; أَوِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا وَلَوْ ثَبَتَ بِقِيَاسٍ، إِذْ مَا لَيْسَ مَنْصُوصًا وَلَا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّتِهِ، وَلَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ جَامِعٌ، فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى، إِذْ تَوْسِيطُ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ لِانْتِفَاءِ الْجَامِعِ بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَصْلِ أَصْلِهِ.
وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا لَعَلَّلَ الْخَصْمُ بِعِلَّةٍ تَتَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ، فَإِنْ سَاعَدَهُ الْمُسْتَدِلُّ فَلَا قِيَاسَ، وَإِلَّا مُنِعَ فِي الْأَصْلِ فَلَا قِيَاسَ، وَيُسَمَّى: الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ، نَحْوُ: الْعَبْدُ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ كَالْمُكَاتَبِ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: الْعَبْدُ يُعْلَمُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، إِذْ لَا يُعْلَمُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ: الْوَارِثُ أَوِ السَّيِّدُ، وَرُدَّ: بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُقَلِّدٌ لِإِمَامِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لَهُ، إِذْ لَا يَتَعَيَّنُ مَأْخَذُ حُكْمِهِ، وَلَوْ عَرَفَ فَلَا يَلْزَمُ مَنْ عَجْزِهِ عَنْ تَقْرِيرِهِ فَسَادُهُ، إِذْ إِمَامُهُ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَقَدِ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ لِنُدْرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «أَرْكَانُ الْقِيَاسِ مَا سَبَقَ» .
لِمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ صِحَّةُ الْقِيَاسِ وَكَوْنُهُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا ; وَجَبَ الْقَوْلُ فِي أَرْكَانِهِ، وَشُرُوطِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَأَرْكَانُهُ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِهِ، وَهِيَ الْأَصْلُ، وَالْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ، وَالْحُكْمُ. وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَى بَيَانِ حَقَائِقِهَا وَمَاهِيَّاتِهَا، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي بَيَانِ شَرَائِطِهَا وَمُصَحِّحَاتِهَا.
«فَشَرْطُ الْأَصْلِ» - يَعْنِي الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ - أُمُورٌ:
(3/291)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ ثَابِتًا «بِنَصٍّ، وَإِنِ اخْتَلَفَا» - يَعْنِي الْخَصْمَيْنِ - فِي الْأَصْلِ، «أَوِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا» عَلَى ثُبُوتِهِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ، فَإِنْ وَافَقَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ، ثَبَتَ الْأَصْلُ بِالنَّصِّ وَالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِقْ عَلَيْهِ، فَالنَّصُّ وَافٍ بِإِثْبَاتِهِ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمِ. وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ ثُبُوتُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفَرْعُ، وَيَلْحَقُ بِهِ، وَمَا لَا ثُبُوتَ لَهُ لَا يُتَصَوَّرُ بِنَاءُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُتَفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا لِيَكُونَ غَايَةً يَنْقَطِعُ عِنْدَهَا النِّزَاعُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَالْمُعْتَرِضُ كَمَا يُنَازِعُ فِي الْفَرْعِ يُنَازِعُ فِي الْأَصْلِ.
مِثَالُ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ قَوْلُنَا: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ تَالِفَةٌ، تَحَالَفَا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَبَايِعَانِ اخْتَلَفَا، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَالَفَا، كَمَا إِذَا كَانَتِ السِّلْعَةُ قَائِمَةً، وَالْحَنَفِيَّةُ يَمْنَعُونَ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ التَّحَالُفُ عِنْدَ قِيَامِ السِّلْعَةِ عَلَى رَأْيٍ لَهُمْ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا أَوْ تَرَادَّا، وَالتَّرَادُّ ظَاهِرٌ فِي بَقَاءِ الْعَيْنِ، عَلَى أَنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: إِذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي غَسْلِ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ: حَيَوَانٌ نَجِسٌ، فَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا قِيَاسًا عَلَى الْكَلْبِ، فَإِنْ مَنَعُوا الْحُكْمَ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ، دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ فِيهِ.
وَمِثَالُ مَا ثَبَتَ بِالِاتِّفَاقِ قِيَاسُ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْأَرُزِّ عَلَى الْبُرِّ، وَالْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ، وَهُوَ كَثِيرٌ.
قَوْلُهُ: «وَلَوْ ثَبَتَ بِقِيَاسٍ» ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَصْلُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، حَصَلَ
(3/292)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَقْصُودُ، وَلَوْ كَانَ ثُبُوتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ صَارَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، فَجَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ كَالْمَنْصُوصِ وَالْمُجْمَعِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْأَرُزِّ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ بِجَامِعِ الْكَيْلِ، فَيَحْرُمُ فِي الذُّرَةِ قِيَاسًا عَلَى الْأَرُزِّ، لَكِنَّ هَذَا يُفْضِي إِلَى الْعَبَثِ الْمَذْكُورِ، وَيُنَافِي قَوْلَنَا بَعْدُ: إِنَّ الْأَصْلَ لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ هُنَاكَ فِي تَحْقِيقِ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «إِذْ مَا لَيْسَ مَنْصُوصًا وَلَا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّتِهِ» . هَذَا تَوْجِيهٌ لِاشْتِرَاطِ كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ ثَابِتًا بِنَصٍّ أَوِ اتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ بِكَوْنِهِ أَصْلًا مَقِيسًا عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا مَقِيسًا عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا اخْتُصَّ بِكَوْنِهِ أَصْلًا لِثُبُوتِهِ فِي نَفْسِهِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَهُ هَذِهِ الْخَاصَّةُ ; لَمْ يَكُنْ بِالْأَصَالَةِ أَوْلَى مِنَ الْفَرْعِ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِقِيَاسِهِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَإِنْ شِئْتَ، قُلْتَ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقِيسَ الذُّرَةَ عَلَى الْأَرُزِّ الْمَقِيسِ عَلَى الْبُرِّ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْآخَرِ الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْبَرُّ هَاهُنَا وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ - وَهُوَ الذُّرَةُ - جَامِعٌ، فَقِيَاسُ مَحَلِّ النِّزَاعِ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الْآخَرِ الْبَعِيدِ وَهُوَ الْبُرُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَوْسِيطَ الْأَوَّلِ الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَهُوَ الْأَرُزُّ
(3/293)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«تَطْوِيلٌ بِلَا فَائِدَةٍ» ، إِذْ عِوَضُ مَا نَقُولُ: يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي الذُّرَةِ قِيَاسًا عَلَى الْأَرُزِّ، وَفِي الْأَرُزِّ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ، فَلْنَقُلْ: يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي الذُّرَةِ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ، إِذْ تَوْسِيطُ الْأَرُزِّ فِي الْبَيْنِ عَبَثٌ، «وَإِلَّا» ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَصْلِ الْآخَرِ الثَّانِي، وَبَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ جَامِعٌ، «لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ» ، كَمَا لَوْ قَاسَ الذُّرَةَ عَلَى الْأَرُزِّ، وَالْأَرُزَّ عَلَى الْحَدِيدِ، «لِانْتِفَاءِ الْجَامِعِ بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ» وَهُوَ الذُّرَةُ، «وَأَصْلٍ أَصَّلَهُ» وَهُوَ الْحَدِيدُ، الَّذِي جَعَلَهُ أَصْلًا لِلْأَرُزِّ، الَّذِي هُوَ أَصْلُ الذُّرَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْوُضُوءِ: عِبَادَةٌ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ، فَلَوْ مَنَعَ الْحُكْمَ فِي التَّيَمُّمِ، فَأَثْبَتَ الْحُكْمَ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ بِكَوْنِهِمَا عِبَادَةً، قُلْنَا: فَقِسِ الْوُضُوءَ عَلَى الصَّلَاةِ بِجَامِعِ الْعِبَادَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَوْسِيطِ التَّيَمُّمِ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنِهِمَا بِكَوْنِ التَّيَمُّمِ طَهَارَةً، لَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ طَهَارَةً، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مُنْتَفٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا بِيَسِيرٍ أَنَّ الْأَصْلَ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ، وَهَاهُنَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَهُمَا قَوْلَانِ لِأَصْحَابِنَا، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ هُوَ الْمَشْهُورُ لِإِفْضَاءِ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ إِلَى الْعَبَثِ الْمَذْكُورِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ لِلْقَوْلِ بِالْجَوَازِ فَائِدَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ ثَابِتًا بِقِيَاسٍ شَبَهِيٍّ، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ يَلْحَقُ بِهِ بِقِيَاسٍ جَلِيٍّ بِحَيْثُ يَكُونُ مَحَلُّ النِّزَاعِ بِأَصْلِهِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِالْأَصْلِ
(3/294)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْبَعِيدِ، كَمَا لَوْ جَعَلْنَا عِلَّةَ الْفِضَّةِ الْوَزْنَ وَالثَّمَنِيَّةَ جَمِيعًا، وَقِسْنَا عَلَيْهِ الْحَدِيدَ قِيَاسًا شَبَهِيًّا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوَزْنِ، ثُمَّ قِسْنَا الصُّفْرَ أَوِ الرَّصَاصَ وَنَحْوَهُ عَلَى الْحَدِيدِ، لَكِنَّ هَذَا أَيْضًا لَا جَدْوَى لَهُ، إِذِ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَأَصْلِهِ وَهُمَا الصُّفْرُ وَالْحَدِيدُ مُسْتَنِدٌ إِلَى قِيَاسٍ ضَعِيفٍ شَبَهِيٍّ، وَهُوَ قِيَاسُ الْحَدِيدِ عَلَى الْفِضَّةِ، فَلْنَسْتَرِحْ مِنْ هَذَا التَّكْلِيفِ، وَلْنَجْزِمْ بِبُطْلَانٍ كَوْنِ الْأَصْلِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ» ، أَيْ: عَلَى الْأَصْلِ «بَيْنَ الْأُمَّةِ» ، وَلَا يَكْفِي الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ، «وَإِلَّا لَعَلَّلَ الْخَصْمُ» ، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، جَازَ أَنْ يُعَلِّلَ الْخَصْمُ الْمُعْتَرِضُ الْأَصْلَ «بِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ، فَإِنْ سَاعَدَهُ الْمُسْتَدِلُّ» عَلَى ذَلِكَ، انْقَطَعَ الْقِيَاسُ، «فَلَا قِيَاسَ» لِعَدَمِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِذَلِكَ، بَلْ عَلَّلَ بِعِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْفَرْعِ، مَنَعَهُ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةَ الْأَصْلِ، وَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هَذِهِ الْعِلَّةُ الْمُتَعَدِّيَةُ إِلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، بَلْ هَذِهِ الَّتِي لَا تَتَعَدَّى إِلَيْهِ، فَيَنْقَطِعُ الْقِيَاسُ أَيْضًا، «وَيُسَمَّى الْقِيَاسَ الْمُرَكَّبَ» لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يُقَاسَ الْعَبْدُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِهِ قِصَاصًا،
(3/295)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَيُقَالُ: الْعَبْدُ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ كَالْمُكَاتَبِ، «فَيَقُولُ الْخَصْمُ» الْمُعْتَرِضُ: «الْعَبْدُ يُعْلَمُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ» وَهُوَ السَّيِّدُ «بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ» ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِلَّةَ امْتِنَاعِ الْقِصَاصِ فِي الْمُكَاتَبِ كَوْنُهُ مَنْقُوصًا بِالرِّقِّ، بَلْ كَوْنُهُ لَا يُعْلَمُ مَنْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِدَمِهِ هَلْ وَارِثُهُ أَوْ سَيِّدُهُ الَّذِي كَاتَبَهُ؟ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ صَارَ فِيهِ شَيْئًا بَيْنَ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَحْكَامِهِ، فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُؤَدِّيَ يُعْتَقُ، وَيَكُونُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ وَارِثَهُ كَسَائِرِ الْأَحْرَارِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ يَعُودُ رَقِيقًا، وَيَكُونُ مُسْتَحِقُّ دَمِهِ سَيِّدَهُ كَسَائِرِ الْعَبِيدِ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمُكَاتَبِ هِيَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِمُسْتَحِقِّ دَمِهِ كَمَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ، امْتَنَعَ قِيَاسُ الْعَبْدِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ دَمِهِ مَعْلُومٌ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ أَنَّ الْعِلَّةَ ذَلِكَ بَلْ هِيَ نَقْصُ الرِّقِّ، مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْمُكَاتَبِ، بَلْ هِيَ مَا ذَكَرَهُ، أَوْ مَنَعَ الْحُكْمَ فِيهِ، فَيَقُولُ: سَلَّمْتُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْمُكَاتَبِ نَقْصُ الرِّقِّ، لَكِنْ لَا أُسَلِّمُ امْتِنَاعَ الْقِصَاصِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ، فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ مَنْعِ الْعِلَّةِ فِي الْمُكَاتَبِ أَوْ مَنْعِ الْحُكْمِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَوْ قِيلَ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ: إِنْسَانٌ بَدَّلَ دِينَهُ، فَيُقْتَلُ كَالْمُرْتَدِّ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ تَبْدِيلُ الدِّينِ، وَإِنَّمَا هِيَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِتَنْقِيصِ عَدَدِهِمْ، وَإِعَانَةِ عَدُوِّهُمْ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا لَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْمَرْأَةِ، إِذْ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْإِعَانَةِ وَالنِّكَايَةِ، فَلَا
(3/296)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا بِالْمُرْتَدِّ، فَإِنَّ سَلَّمْتَ هَذِهِ الْعِلَّةَ، انْقَطَعَ الْإِلْحَاقُ، وَإِنْ لَمْ تُسَلِّمْهَا، فَمَا تُقْبَلُ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ أَوِ الْحُكْمِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا بَيْنَ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا يَسُوغُ لِلْخَصْمِ الْخُرُوجُ عَنْهَا وَالتَّعْلِيلُ بِغَيْرِهَا.
قُلْتُ: وَحَاصِلُ الْمَنْعِ الْمَذْكُورِ يَرْجِعُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِمَعْرِفَةِ الْمُسْتَحِقِّ وَعَدَمِهِ، وَبَيْنَ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ بِوُجُودِ النِّكَايَةِ وَعَدَمِهَا.
قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» ، إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَرُدَّ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْحُكْمِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمَحْذُورَ اللَّازِمَ مِنْ عَدَمِهِ لَا يَلْزَمُ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَصْلِ مَحْذُورٌ ; لَمْ يَكُنْ إِلَى اشْتِرَاطِهِ ضَرُورَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمَحْذُورَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ تَعْلِيلُ الْخَصْمِ بِعِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ إِلَى آخِرِ مَا قَرَّرْتُمُوهُ لَا يَلْزَمُ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ «مُقَلِّدٌ لِإِمَامِهِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لَهُ» أَيْ: لِإِمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ مَأْخَذُ إِمَامِهِ فِي الْحُكْمِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَذْهَبَهُ عَلَى الْجَهَالَةِ، «وَلَوْ عَرَفَ» مَأْخَذَ إِمَامِهِ، لَكِنْ «لَا يَلْزَمُ مِنْ عَجْزِهِ عَنْ تَقْرِيرِ» مَذْهَبِ إِمَامِهِ «فَسَادُهُ» ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ ذَلِكَ لِقُصُورِهِ عَنْ تَقْرِيرِهِ، و «إِمَامُهُ أَكْمَلُ مِنْهُ، وَقَدِ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ» ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، لَا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي الْأَصْلِ.
(3/297)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِثَالُهُ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ؛ لِكَوْنِ الْعِلَّةِ فِي الْمُرْتَدَّةِ لَيْسَتْ بِتَبْدِيلِ الدِّينِ، بَلْ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وُجِدَ فِيهَا نَصٌّ خَاصٌّ عِنْدَهُ مَنَعَ مِنْ قَتْلِهَا، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَالْعِلَّةُ فِي قَوْلِهِ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ فَلَيْسَ لِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَقُولَ لِلْحَنْبَلِيِّ أَوِ الشَّافِعِيِّ: إِنْ سَلَّمْتَ أَنَّ عِلَّةَ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ إِعَانَةُ الْعَدُوِّ وَإِلَّا مَنَعْتَ قَتْلَهُ، مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ مَذْهَبٌ لِإِمَامِهِ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْعَهُ عَلَى مَذْهَبِ إِمَامِهِ، فَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، أَيْ: أَنَّهُ مَنَعَ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لِإِمَامِهِ، أَمَّا لَوْ مَنَعَ عَلَى مَذْهَبِ إِمَامِهِ مَنْعًا صَحِيحًا، مِثْلُ أَنْ قِيلَ لَهُ: جِلْدُ الْمَيْتَةِ نَجِسٌ، فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ كَجِلْدِ الْكَلْبِ، فَمَنَعَ حُكْمَ الْأَصْلِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ إِمَامِهِ، وَإِنْ مَنَعَ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ إِمَامِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَصَدَّى لِتَقْرِيرِهِ، فَكَيْفَ يَعْدِلُ عَنْهُ، بَلْ يَكُونُ بِذَلِكَ مُنْقَطِعًا؛ لِأَنَّهُ مُنْتَقِلٌ، ثُمَّ لَوْ سَاغَ ذَلِكَ، لَمَا تَمَكَّنَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ إِفْحَامِ خَصْمِهِ غَالِبًا؛ لِأَنَّهُ مَتَى أَلْزَمَهُ حُكْمًا، مَنَعَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَوْ مَذْهَبِ غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَ فِيهِ، فَكَانَ يَنْعَكِسُ مَقْصُودُ الْمُنَاظَرَةِ؛ إِذْ هِيَ طَرِيقٌ وُضِعَتْ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ بِاخْتِصَارٍ، وَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ التَّطْوِيلَ وَالشَّغَبَ وَتَضْيِيعَ الْحَقِّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ «يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ» ، وَيَمْنَعُ التَّوَصُّلَ إِلَى إِظْهَارِهَا «لِنُدْرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ» مِنْ ذَلِكَ.
(3/298)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَهَاهُنَا وَجْهٌ آخَرُ فِي نَفْيِ الْمَحْذُورِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا نَازَعَ فِي الْعِلَّةِ، أَمْكَنَ الْمُسْتَدِلَّ أَنْ يُقَرِّرَهَا بِطَرِيقِهَا، وَيُثْبِتَ عِلَّتَهُ الْمُتَعَدِّيَةَ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يُحَقِّقَهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، وَبَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ إِذَا خَالَفَ فِيهِ الْخَصْمُ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجُوزُ.
(3/299)
________________________________________
وَقِيلَ: لَا يُقَاسُ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بِحَالٍ؛ لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّسَلْسُلِ بِالِانْتِقَالِ، وَرُدَّ: بِأَنَّهُ رُكْنٌ فَجَازَ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ كَبَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ.
وَأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ دَلِيلُ الْأَصْلِ الْفَرْعَ وَإِلَّا لَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْقِيَاسِ.
وَأَنْ يَكُونَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، إِذْ لَا تَعْدِيَةَ بِدُونِ الْمَعْقُولِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: لَا يُقَاسُ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بِحَالٍ، لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّسَلْسُلِ بِالِانْتِقَالِ» ، يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا قَاسَ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، مَنَعَهُ الْخَصْمُ، فَإِنْ أَثْبَتَهُ الْمُسْتَدِلُّ بِقِيَاسٍ آخَرَ، جَازَ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِيهِ أَيْضًا، فَيَمْنَعُهُ الْخَصْمُ، وَيُفْضِي إِلَى الِانْتِقَالِ مِنْ مَسْأَلَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَيَنْتَشِرُ الْكَلَامُ، وَيَتَسَلْسَلُ، وَإِنْ أَثْبَتَ الْأَصْلَ بِدَلِيلٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ، فَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَالْمُرْسَلِ وَالْمَفْهُومِ وَنَحْوِهِ فَيُفْضِي إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» ، أَيْ: وَرُدَّ هَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَصْلَ «رُكْنٌ» مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، «فَجَازَ إِثْبَاتُهُ» عِنْدَ النِّزَاعِ فِيهِ «بِالدَّلِيلِ كَبَقِيَّةِ» أَرْكَانِهِ مِنْ عِلَّةٍ وَحُكْمٍ وَغَيْرِهِمَا، وَالِانْتِقَالُ مِنْ مَسْأَلَةٍ إِلَى مَسْأَلَةٍ إِذَا عَادَ بِثُبُوتِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، لَمْ يُمْنَعْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُهُ، وَهُمَا سَاعِيَانِ فِيهِ بِتَقْرِيرِ مُقَدِّمَاتِهِ، فَهُمَا بِمَثَابَةِ مَنْ يَضْرِبُ اللَّبِنَ، وَيَعْمَلُ الطِّينَ لِيَبْنِيَ جِدَارًا، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ هَذَا الْقَاصِرُونَ الَّذِينَ قَلَّتْ مَوَادُّهُمْ، فَيَرْتَبِطُونَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يَخْرُجُونَ عَنْهُ، وَيُسَمُّونَهُ انْتِشَارًا فِي الْكَلَامِ وَتَفْرِيقًا لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ شُرُوطِ الْأَصْلِ.
(3/300)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلُ الْأَصْلِ مُتَنَاوِلًا لِلْفَرْعِ، إِذْ لَوْ تَنَاوَلَ دَلِيلُ الْأَصْلِ الْفَرْعَ، لَكَانَ ثَابِتًا بِالنَّصِّ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْقِيَاسِ.
مِثَالُهُ: لَوْ قَاسَ السَّفَرْجَلَ عَلَى الْبُرِّ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا بِجَامِعِ الطُّعْمِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْبُرِّ الطُّعْمُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ يَتَنَاوَلُ السَّفَرْجَلَ، فَقِيَاسُهُ عَلَى الْبُرِّ تَطْوِيلٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَاسَ الذِّمِّيَّ عَلَى الْمُعَاهَدِ فِي عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، فَإِنَّ هَذَا النَّصَّ يَتَنَاوَلُ الصُّورَتَيْنِ، فَهُوَ قِيَاسُ مَنْصُوصٍ عَلَى مَنْصُوصٍ، فَلَا يَصِحُّ كَقِيَاسِ الْبُرِّ عَلَى الشَّعِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ عَلَى الدَّنَانِيرِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: «أَنْ يَكُونَ» الْأَصْلُ «مَعْقُولَ الْمَعْنَى، إِذْ لَا تَعْدِيَةَ بِدُونِ الْمَعْقُولِيَّةِ» ، أَيْ: مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا لَا يُعْقَلُ، لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهُ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الصُّبْحُ إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَرْبَعًا كَالْعَصْرِ، أَوْ ثَلَاثًا كَالْمَغْرِبِ، لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الظُّهْرِ أَوِ الْمَغْرِبِ صَلَاةً لَيْسَ هُوَ الْمُقْتَضِي لِكَوْنِهَا أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا، بَلْ هَذَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ لَا نَعْقِلُهُ. هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» مِنْ شُرُوطِ الْأَصْلِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِي «الْمُنْتَهَى» أَنَّ شُرُوطَ حُكْمِ الْأَصْلِ تِسْعَةٌ:
(3/301)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْعِيًّا، لَكَانَ الْحُكْمُ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْفَرْعِ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، فَلَا يَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ حَاصِلًا. قَالَ النِّيلِيُّ فِي «شَرْحُ جَدَلِ الشَّرِيفِ» : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْأَصْلِ شَرْعِيًّا بِأَنْ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ لُغَوِيًّا، لَمَا أَفَادَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَلَا عَقْلِيًّا، وَلَا لُغَوِيًّا؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ، وَكَذَلِكَ الْحَقَائِقُ الْعَقْلِيَّةُ.
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ: شَرَابٌ مُشْتَدٌّ، فَأَوْجَبَ الْحَدَّ كَمَا أَوْجَبَ الْإِسْكَارَ، أَوْ كَمَا وَجَبَ تَسْمِيَتُهُ خَمْرًا، فَإِنَّ إِيجَابَهُ الْإِسْكَارَ أَمْرٌ مَعْقُولٌ، وَتَسْمِيَتُهُ خَمْرًا أَمْرٌ لُغَوِيٌّ، وَإِيجَابُ الْحَدِّ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِيمَا إِذَا قَاسَ النَّفْيَ عَلَى النَّفْيِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا فِي الْأَصْلِ، كَانَ الْحُكْمُ نَفْيًا أَصْلِيًّا، وَالنَّفْيُ الْأَصْلِيُّ لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ النَّفْيُ الطَّارِئُ الَّذِي هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.
قُلْتُ: مَعْنَى كَوْنِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ لَيْسَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْعِ، بَلْ هُوَ قَبْلُهُ، فَلَا يَكُونُ مِنْهُ، كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْإِبَاحَةِ: لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا لِثُبُوتِهَا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا حَيْثُ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ شَرْعِيًّا، إِذْ غَيْرُ الشَّرْعِيِّ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ نَتِيجَةُ الدَّلِيلِ، وَالنَّتِيجَةُ مِنْ جِنْسِ الْمُنْتَجِ، فَلَوْ قَالَ: الْعَالَمُ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ، فَالْخَمْرُ حَرَامٌ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْمُقَدِّمَتَيْنِ عَقْلِيَّتَانِ، وَالنَّتِيجَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.
(3/302)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ، لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، فَلَوْ نُسِخَ، لَبَطَلَ، فَيَمْتَنِعُ بِنَاءُ حُكْمِ الْفَرْعِ عَلَيْهِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مِمَّا يَقُولُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ لِتَكُونَ الْعِلَّةُ مُعْتَبَرَةً عَلَى أَصْلِهِ.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْدُولًا بِهِ سَنَنُ الْقِيَاسِ بِأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ لِتَعَذُّرِ التَّعْدِيَةِ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُجْمَلٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، وَذَكَرَ تَفْصِيلَهُ وَأَطَالَ فِيهِ.
قُلْتُ: وَذَلِكَ التَّطْوِيلُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِأَنْ يُقَالَ: مَا عُدِلَ بِهِ عَنْ سَنَنِ الْقِيَاسِ إِنْ لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ لِكَوْنِهِ مُنَاسِبًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، وَوُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ جَوَازُ الْقِيَاسِ، فَلَا مَانِعَ مِنْهُ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى تَعْلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَعَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ. وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الْأَوَّلَ عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالثَّانِيَ عَنْ قَوْمٍ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ الدَّلِيلُ الْعَامُّ عَلَى ذَلِكَ، لَا فِي كُلِّ أَصْلٍ بِخُصُوصِهِ.
الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ فَرْعًا لِأَصْلٍ آخَرَ. قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَالْكَرْخِيِّ، خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ.
قُلْتُ: هَذَا الشَّرْطُ ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ بِجَوَازِ إِثْبَاتِ
(3/303)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَصْلِ بِالْقِيَاسِ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَأَنَّ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ.
وَبَقِيَ مِمَّا ذَكَرُوهُ شَرْطَانِ آخَرَانِ:
الِاتِّفَاقُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ دَلِيلُهُ الْفَرْعَ. وَقَدْ ذُكِرَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَقَالَ - أَعْنِي الْآمِدِيَّ فِي «جَدَلِهِ» : شُرُوطُ الْأَصْلِ مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى حُكْمِهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى عِلَّتِهِ.
وَلِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ شُرُوطٌ سِتَّةٌ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَبَّدًا فِيهِ بِالْعِلْمِ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الْقِيَاسُ.
قُلْتُ: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ، ثُمَّ تَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ بِجَامِعٍ شَبَهِيٍّ، فَيَكُونُ حُصُولُهُ فِي الْفَرْعِ مَظْنُونًا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ، إِذْ قَدْ نَصُّوا عَلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ تَارَةً يَكُونُ مُسَاوِيًا وَتَارَةً يَكُونُ أَقْوَى، وَتَارَةً أَضْعَفَ. هَذَا إِنْ كَانَ الْقِيَاسُ شَبَهِيًّا، وَإِنْ كَانَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، فَنَحْنُ لَا نَقِيسُ إِلَّا إِذَا وُجِدَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَإِذَا وُجِدَتْ فِيهِ، أَثَّرَتْ مِثْلَ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَيَكُونُ مَقْطُوعًا أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُفِيدُ وُجُودَ الْمَدْلُولِ، فَدَلَالَةُ عِلَّةِ الْأَصْلِ إِذَا وُجِدَتْ فِي الْفَرْعِ، دَلَّتْ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ إِذَا كَانَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ قَطْعِيًّا فِيهِ، فَصَارَ كَقِيَاسِ الْعِلَّةِ.
وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: إِذَا كَانَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ قَطْعِيًّا
(3/304)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَوُجُودُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ قَطْعِيًّا، كَانَ الْقِيَاسُ قَطْعِيًّا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ.
قُلْتُ: وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ، جَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ بِالْقَطْعِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ شَرْطًا.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْدُولًا بِهِ عَنِ الْقِيَاسِ، إِذِ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَذَلِكَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا وَرَدَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَثْنًى عَنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ كَتَخْصِيصِ خُزَيْمَةَ بِكَمَالِهِ بِبَيِّنَةٍ عَنْ قَاعِدَةِ الشَّهَادَةِ، أَوْ كَانَ مُبْتَدَأً بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ كَالْمُقَدَّرَاتِ مِنَ الْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَنُصُبِ الزِّكْوَاتِ، وَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ مَعْقُولًا أَوْ غَيْرَ مَعْقُولٍ، كَاللِّعَانِ وَالْقَسَامَةِ وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهَذَانَ الضَّرْبَانِ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ، أَوْ لِعَدَمِ النَّظِيرِ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ أَوْ بَيْنَ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَاخْتَارَ فِي «الْمُنْتَهَى» أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِنْ كَانَ مُقَلِّدًا، لَمْ يُشْتَرَطِ الْإِجْمَاعُ، إِذْ لَيْسَ لَهُ مَنْعُ مَا ثَبَتَ مَذْهَبًا لِإِمَامِهِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا، اشْتُرِطَ الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَيْسَ مُرْتَبِطًا بِإِمَامٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ، جَازَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ فِي الْأَصْلِ، فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ، أَوْ بِتَعَيُّنِ عِلَّةٍ لَا تَتَعَدَّى إِلَى الْفَرْعِ كَمَا سَبَقَ فِي سُؤَالِ التَّرْكِيبِ. وَهَذَا اخْتِيَارٌ حَسَنٌ جِدًّا، لَكِنَّ وُقُوعَهُ بَعِيدٌ.
(3/305)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهِ شَرْعِيًّا.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَإِلَّا فَالْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْهُ تَكُونُ لَاغِيَةً.
قَالَ: وَقَدِ اشْتَرَطَ لَهُ قَوْمٌ شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ. الثَّانِي: قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَهُمَا فَاسِدَانِ. وَقَرَّرَ فِيهِ نَحْوَ مَا سَبَقَ فِي «الْمُنْتَهَى» وَأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا قِيَامَ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ الْإِجْمَالِيِّ الْعَامِّ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ حَقٌّ، وَإِلَّا فَلَا.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الشُّرُوطُ الرَّاجِعَةُ إِلَى عِلَّةِ الْأَصْلِ فَسِتَّةٌ أَيْضًا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا شَرْعِيًّا كَالْحُكْمِ.
الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، وَإِلَّا لَمْ يُمْكِنْ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْفَرْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ أَخْفَى مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيَةً لَهُ فِي الْخَفَاءِ.
قُلْتُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَصْلِ أَظْهَرَ مِنْهَا فِي الْفَرْعِ.
وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ: الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ يَقْتَضِي اسْتِوَاءَ حَالَتِهَا فِي الْمَحَلَّيْنِ.
الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ مُطَّرِدَةً بِحَيْثُ يُسَاوِيهَا الْحُكْمُ أَيْنَ وُجِدَتْ، وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا مَوْضِعُهُ عِنْدَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ مُتَّحِدَةً فِي الْأَصْلِ، أَيْ: لَا يَكُونُ مَعَهَا فِيهِ عِلَّةٌ
(3/306)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أُخْرَى، وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا مَوْضِعُهُ عِنْدَ ذِكْرِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ. وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ مَضْبُوطَةً بِحَيْثُ لَا تَتَخَلَّفُ عَنْهَا حِكْمَتُهَا الَّتِي هِيَ غَايَةُ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَمَقْصُودُهُ، وَإِلَّا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، كَمَنْ ضَبَطَ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ وَهِيَ الصِّيَانَةُ عَنِ التَّفْوِيتِ بِالْجُرْحِ فَقَطْ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى مَنْ جَرَحَ مَيِّتًا مَعَ تَيَقُّنِ عَدَمِ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ.
الشَّرْطُ السَّادِسُ: أَنَّ الْعِلَّةَ إِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً فَشَرْطُهَا أَنْ لَا تَعُودَ بِإِبْطَالِ مَا اسْتَنْبَطَتْ، كَمَا إِذَا اسْتُنْبِطَ مِنْ وُجُوبِ الشَّاةِ فِي الزَّكَاةِ دَفْعُ حَاجَاتِ الْفُقَرَاءِ، وَسَدُّ خَلَّاتِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَرْكَ النَّصِّ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ بِتَجْوِيزِ أَدَاءِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى تَرْكِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ، إِذِ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنَ النَّصِّ أَقْوَى مِنَ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ.
وَقَدْ ذَكَرْتُ لَكَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ عِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةً يَتَكَرَّرُ بَعْضُهَا قَصْدًا لِإِيضَاحِ الْمَذْكُورِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ، فَإِنَّهُ مُحَصِّلٌ لِذَلِكَ، وَذَكَرْتُ شُرُوطَ الْعِلَّةِ مَعَ شُرُوطِ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُهَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِيمَا بَعْدُ؛ لِأَنِّي ذَكَرْتُ مَعْنَى كَلَامِهِ عَلَى نَحْوِ تَرْتِيبِهِ، وَسَأُحِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ هَاهُنَا عِنْدَ شُرُوطِ الْعِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(3/307)
________________________________________
وَشَرْطُ حُكْمِ الْفَرْعِ مُسَاوَاتُهُ لِحُكْمِ الْأَصْلِ، كَقِيَاسِ الْبَيْعِ عَلَى النِّكَاحِ فِي الصِّحَّةِ ; وَالزِّنَى عَلَى الشُّرْبِ فِي التَّحْرِيمِ، وَإِلَّا لَزِمَ تَعَدُّدُ الْعِلَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ، أَوِ اتِّحَادُهَا مَعَ تَفَاوُتِ الْمَعْلُولِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَقْلًا، وَخِلَافُ الْأَصْلِ شُرِعًا، وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَالْعِلَّةُ تَقْتَضِي كَمَالَهُ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى فَاقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِمَزِيدِ فَائِدَةٍ، أَوْ ثُبُوتِ مَانِعٍ، وَأَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا لَا عَقْلِيًّا، أَوْ أُصُولِيًّا عِلْمِيًّا، إِذِ الْقَاطِعُ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ ; وَفِي اللُّغَوِيِّ خِلَافٌ سَبَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَشَرْطُ حُكْمِ الْفَرْعِ مُسَاوَاتُهُ لِحُكْمِ الْأَصْلِ " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا ذِكْرُ مَا يُشْتَرَطُ لِلرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ الْفَرْعُ، وَذَلِكَ شَرْطَانِ فِي " الْمُخْتَصَرِ ":
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ، " كَقِيَاسِ الْبَيْعِ عَلَى النِّكَاحِ فِي الصِّحَّةِ؟ ، كَقَوْلِنَا فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدٌ عَلَى غَائِبٍ، فَصَحَّ قِيَاسًا عَلَى النِّكَاحِ، وَكَقِيَاسِ " الزِّنَى عَلَى الشُّرْبِ فِي التَّحْرِيمِ "، وَكَقِيَاسِ الصَّوْمِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْوُجُوبِ.
قَوْلُهُ: " وَإِلَّا لَزِمَ تَعَدُّدُ الْعِلَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ "، أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْفَرْعِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ، لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَعَدُّدُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، وَأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ الْعِلَّةِ فِي الْآخَرِ، إِذْ لَوْ
(3/308)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اتَّحَدَتْ فِيهِمَا، لَمَا اخْتَلَفَ أَثَرُهَا، وَهُوَ الْحُكْمُ، لَكِنَّ تَعَدُّدَ الْعِلَّةِ خِلَافُ الْفَرْضِ، أَيْ: خِلَافُ التَّقْدِيرِ؛ إِذِ التَّقْدِيرُ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ بِعِلَّتِهِ. وَإِمَّا اتِّحَادُ الْعِلَّةِ " مَعَ تَفَاوُتِ الْمَعْلُولِ، وَهُوَ مُحَالٌ عَقَلًا، وَخِلَافُ الْأَصْلِ شُرِعًا " ; أَمَّا أَنَّهُ " مُحَالٌ عَقْلًا " ; فَلِأَنَّ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ إِذَا اتَّحَدَ مَحَلُّهَا، أَوْ تَعَدَّدَ وَاسْتَوَى فِي قَبُولِهِ لِأَثَرِهَا، لَا يُؤْثِّرُ أَثَرًا مُخْتَلِفًا، بَلْ مُتَسَاوِيًا، كَالْكَسْرِ مَعَ الِانْكِسَارِ، وَالتَّسْوِيدِ مَعَ الِاسْوِدَادِ، فَإِنَّا إِذَا فَرَضْنَا جِسْمَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ فِي قَبُولِ التَّسْوِيدِ، وَسَوَّدْنَاهُمَا تَسْوِيدًا مُتَسَاوِيًا، كَانَ اسْوِدَادُهُمَا مُتَسَاوِيًا، كَالثَّوْبَيْنِ يُصْبَغَانِ بِصِبْغٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ " خِلَافَ الْأَصْلِ شَرْعًا "، فَلِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ وُرُودُ الشَّرْعِ عَلَى وَفْقِ الْعَقْلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اتِّحَادَ الْعِلَّةِ مَعَ تَفَاوُتِ الْمَعْلُولِ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا، فَلَوْ قَدَّرْنَا وُقُوعَهُ شَرَعًا، لَكَانَ ذَلِكَ خِلَافَ الْأَصْلِ فِي الشَّرْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَصْلَ مُوَافَقَتُهُ لِلْعَقْلِ، وَمُخَالَفَتُهُ لَهُ فِي التَّعَبُّدَاتِ وَنَحْوِهَا خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ شَرْعًا، وَلَمْ نَقُلْ: إِنَّهُ مُحَالٌ شَرْعًا؛ لِأَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ وَضْعِيَّةٌ عَلَى جِهَةِ التَّعْرِيفِ لِلْحُكْمِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ مُعَرِّفًا لِحُكْمَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا حَقِيقَةٌ مُؤَثِّرةً يَسْتَحِيلُ فِيهَا ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: " وَلِأَنَّهُ إِنْ كَانَ دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى امْتِنَاعِ تَفَاوُتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ.
(3/309)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُمَا لَوْ تَفَاوَتَا، لَكَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ إِمَّا دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي تَحْصِيلِ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ، أَوْ أَعْلَى مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ دُونَهُ كَمَا إِذَا قِسْنَا النَّدْبَ عَلَى الْوُجُوبِ، فَعِلَّةُ الْأَصْلِ تَقْتَضِي كَمَالَ حُكْمِ الْفَرْعِ، وَلَمْ يَحْصُلْ؛ لِأَنَّ حِكْمَةَ الْوُجُوبِ وَمَصْلَحَتَهُ أَكْمَلُ مِنْ حِكْمَةِ النَّدْبِ، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْ عِلَّةِ الْأَصْلِ مُقْتَضَاهَا، فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ، " وَإِنْ كَانَ أَعْلَى " مِنْهُ، كَمَا إِذَا قِسْنَا الْوُجُوبَ عَلَى النَّدْبِ، " فَاقْتِصَارُ الشَّارِعِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ يَقْتَضِي " أَنَّهُ اخْتُصَّ بِمَزِيدِ فَائِدَةٍ أَوْجَبَتْ تَعْيِينَهُ وَالِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ، أَوْ بِثُبُوتِ مَانِعٍ مَنَعَ مِنْ مُجَاوَزَتِهِ اخْتُصَّ بِمَزِيدِ فَائِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَكِيمَ إِذَا عَنَّ لَهُ أَمْرَانِ، أَحَدُهُمَا أَرْجَحُ مِنَ الْآخَرِ، لَا يَعْدِلُ عَنِ الرَّاجِحِ إِلَى الْمَرْجُوحِ إِلَّا لِمَانِعٍ مِنَ الرَّاجِحِ، أَوْ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ فِي الْمَرْجُوحِ. وَأَيًّا مَا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ زِيَادَةِ حُكْمِ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ مُخَالَفَةُ مَا ثَبَتَ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ لِأَنَّ اقْتِصَارَهُ عَلَى النَّدْبِ فِي الْأَصْلِ إِنْ كَانَ لِمَزِيدِ فَائِدَةٍ، فَزِيَادَةُ الْوُجُوبِ فِي الْفَرْعِ مُفَوِّتٌ لِتِلْكَ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ تَثْقِيلٌ فِي التَّكَالِيفِ، وَإِنْ كَانَ لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنْ إِثْبَاتِ زِيَادَةِ الْوُجُوبِ فِي الْأَصْلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَنَا مِنْ إِثْبَاتِهَا فِي الْفَرْعِ مَا مَنَعَ الشَّارِعَ مِنْ إِثْبَاتِهَا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ مُتَلَقًّى عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَاجْتِهَادُ الْقَائِسِ فِي الْفَرْعِ تَابِعٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فِي الْأَصْلِ.
وَقَدْ يَكُونُ الْخِلَافُ بَيْنَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، كَمَا يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ: لَمَّا بَلَغَ بِرَأْسِ الْمَالِ أَقْصَى مَرَاتِبِ الْأَعْيَانِ
(3/310)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ الْحُلُولُ ; وَجَبَ أَنْ يَبْلُغَ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ أَقْصَى مَرَاتِبَ الدُّيُونِ، وَهُوَ التَّأْجِيلُ، فَإِنَّ هَذَا قِيَاسٌ لِإِثْبَاتِ الْأَجَلِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى نَفْيِهِ فِي الثَّمَنِ. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ: طَهَارَةٌ، فَيَسْتَوِي مَائِعُهَا وَجَامِدُهَا فِي النِّيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الِاسْتِنْجَاءِ، فَإِنَّهُ قِيَاسٌ لِإِثْبَاتِ النِّيَّةِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ عَلَى نَفْيِهَا فِي طَهَارَةِ الِاسْتِنْجَاءِ. وَفِي هَذَا خِلَافٌ، وَالْأَشْبَهُ صِحَّتُهُ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ قِيَاسِ الْإِثْبَاتِ عَلَى الْإِثْبَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَاسُوا التَّسْوِيَةَ فِي إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ عَلَى التَّسْوِيَةِ فِي الْأُخْرَى، وَالتَّسْوِيَةُ لَيْسَتْ نَفْيًا فِي إِحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ، وَلَا إِثْبَاتًا، بَلْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالنَّفْي وَالْإِثْبَاتِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَهَارَةَ الِاسْتِنْجَاءِ لَا تُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْحَجَرِ، فَقَدَ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ النِّيَّةِ، ثُمَّ اتَّفَقْنَا فِي طِهَارَةِ الْحَدَثِ بِالْجَامِدِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُشْتَرَطَ النِّيَّةُ فِيهَا بِالْمَاءِ، وَهُوَ الْوُضُوءُ، تَسْوِيَةً بَيْنَ مَائِعِهَا وَجَامِدِهَا.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُفَارِقَ حُكْمُ الْفَرْعِ حُكْمَ الْأَصْلِ، لَا فِي جِنْسِهِ، وَلَا فِي زِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنْ مَحَلٍّ إِلَى مَحَلٍّ، فَكَيْفَ يَخْتَلِفُ؟
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَإِذَا ثَبَتَ فِي الْفَرْعِ غَيْرُ حُكْمِ الْأَصْلِ ; لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْدِيَةً، بَلِ ابْتِدَاءَ حُكْمٍ.
الشَّرْطُ الثَّانِي لِحُكْمِ الْفَرْعِ بِأَنْ يَكُونَ حُكْمًا " شَرْعِيًّا " فَرْعِيًّا، " لَا عَقْلِيًّا "، وَلَا " أُصُولِيًّا عِلْمِيًّا "، أَيْ: يُطْلَبُ فِيهِ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَطْعِيٌّ، وَالْقِيَاسُ إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ، وَالْقَاطِعُ لَا يَثْبُتُ بِالظَّنِّيِّ.
قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ مَا فِي هَذَا وَأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يَكُونُ قَطْعِيًّا.
(3/311)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَفِي اللُّغَوِيِّ خِلَافٌ سَبَقَ " أَيْ: فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ لُغَوِيًّا كَقِيَاسِ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْرًا، وَاللَّائِطِ عَلَى الزَّانِي فِي كَوْنِهِ زَانِيًا، وَالنَّبَّاشِ عَلَى السَّارِقِ فِي كَوْنِهِ سَارِقًا، فَهَذَا قِيَاسٌ لُغَوِيٌّ، وَفِيهِ " خِلَافٌ سَبَقَ " فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فِي أَنَّ اللُّغَةَ تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَقَدْ ذُكِرَ لِحُكْمِ الْفَرْعِ شُرُوطٌ أُخَرُ:
مِنْهَا: أَنْ لَا يُمْكِنَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ، إِذْ يَكُونُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ حِينَئِذٍ مِنْ بَابِ فَسَادِ الْوَضْعِ، كَمَا يُقَالُ فِي عَدَمِ إِجْزَاءِ عِتْقِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ، فَلَا تُجْزِئُ فِيهِ الْكَافِرَةُ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: هَذَا عَلَى خِلَافِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِإِجْزَاءِ مُطْلَقِ الرَّقَبَةِ، وَفِي النَّصِّ كِفَايَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَرِدَ النَّصُّ بِحُكْمِ الْفَرْعِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ. ذَكَرَهُ أَبُو هَاشِمٍ، وَقَالَ: لَوْلَا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِمِيرَاثِ الْجَدِّ جُمْلَةً، لَمَا نَظَرَ الصَّحَابَةُ فِي تَوْرِيثِهِ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ، قَالَ غَيْرُهُ: وَكَذَلِكَ لَمَّا وَرَدَ الشَّرْعُ بِمَشْرُوعِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ، وَقَعَ النَّظَرُ فِي أَنَّ الْفَاسِقَ أَوِ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَتَيْنِ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَأَفْسَدَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الشَّرْطَ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَاسُوا قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ. عَلَى الظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حُكْمٌ جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا، وَإِنَّمَا حُكْمُ الْأَصْلِ يَتَعَدَّى الْعِلَّةَ كَيْفَ مَا كَانَ.
(3/312)
________________________________________
وَشَرْطُ الْفَرْعِ وُجُودُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ ظَنًّا إِذْ هُوَ كَالْقَاطِعِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ ; وَشَرَطَ قَوْمٌ تَقَدُّمَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ؛ إِذِ الْحُكْمُ يَحْدُثُ بِحُدُوثِ الْعِلَّةِ، فَلَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُ لَصَارَ الْمُتَقَدِّمُ مُتَأَخِّرًا.
وَالْحَقُّ اشْتِرَاطُهُ لِقِيَاسِ الْعِلَّةِ دُونَ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ لِجَوَازِ تَأَخُّرِ الدَّلِيلِ عَنِ الْمَدْلُولِ كَالْأَثَرِ عَنِ الْمُؤَثِّرِ ; بِخِلَافِ الْعِلَّةِ عَنِ الْمَعْلُولِ ; أَمَّا الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ عَلَامَةٌ وَمُعَرِّفٌ، وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً فَلَا عِبْرَةَ بِالْقَاصِرَةِ وَهِيَ مَا لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ كَالثَّمَنِيَّةِ فِي النَّقْدَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَشَرْطُ الْفَرْعِ وُجُودُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ ظَنًّا» إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ إِلَى هَاهُنَا هُوَ فِي الْأَصْلِ وَحُكْمِهِ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا هُوَ فِي الْفَرْعِ نَفْسِهِ عَلَى تَرْتِيبِ أَصْلِ «الْمُخْتَصَرِ» ، وَشَرْطُهُ «وُجُودُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِيهِ» ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فَرْعًا لَهُ؛ لِأَنَّ تَعَدِّيَ الْحُكْمِ إِلَيْهِ فَرْعُ تَعَدِّيَ الْعِلَّةِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ أَصْلٌ فِي الْفَرْعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ، بَلْ تَكْفِي فِيهِ غَلَبَةُ الظَّنِّ؛ لِأَنَّهُ كَالْقَطْعِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْقَطْعِ، فَإِنِ اتَّفَقَ لَنَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَمَا زَادَ عَنِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فِيهِ تَفَضُّلٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا، إِذْ حَصَلَ لَنَا الْيَقِينُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَصَارَ الظَّنُّ فِي الشَّرْعِيَّاتِ كَالْقَطْعِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْصُلُ
(3/313)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَقْصُودُهُ فِي بَابِهِ.
قَوْلُهُ: «وَشَرَطَ قَوْمٌ تَقَدُّمَ ثُبُوتِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا شَرْطٌ آخَرُ لِلْفَرْعِ اشْتَرَطَهُ قَوْمٌ، وَفِيهِ تَحْقِيقٌ يَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ أَنَّ شَرْطَ الْفَرْعِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ ثَابِتًا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ يَحْدُثُ بِحُدُوثِ عِلَّةِ الْأَصْلِ الْمُتَعَدِّيَةِ إِلَيْهِ، فَلَوْ تَأَخَّرَ حُكْمُ الْأَصْلِ عَنِ الْفَرْعِ، لَتَأَخَّرَتِ الْعِلَّةُ عَنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا مُلَازِمَةٌ لِلْأَصْلِ، وَلَوْ تَأَخَّرَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ عَنِ الْفَرْعِ، لَصَارَ الْمُتَقَدِّمُ فِي الثُّبُوتِ مُتَأَخِّرًا وَهُوَ مُحَالٌ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، فَلَوْ تَأَخَّرَ الْبَاعِثُ عَنْ حُكْمِ الْفَرْعِ، لَكَانَ ثُبُوتُهُ قَبْلَهُ إِمَّا بِغَيْرِ بَاعِثٍ، أَوْ بِبَاعِثٍ آخَرَ، وَيَلْزَمُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَلَوْ صَحَّ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، لَكِنْ إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّمْ بَعْضُ الْعِلَلِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ.
قَوْلُهُ: «وَالْحَقُّ اشْتِرَاطُهُ لِقِيَاسِ الْعِلَّةِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ ثُبُوتِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَرْعِ فِي قِيَاسِ الْعِلَّةِ «دُونَ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ» ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَنْ الْعِلَّةَ لَا يَجُوزُ تَأَخُّرُهَا عَنِ الْمَعْلُولِ، لِئَلَّا يَلْزَمَ وُجُودُهُ بِغَيْرِ عِلَّةٍ أَوْ بِعِلَّةٍ غَيْرِ الْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَالدَّلِيلُ يَجُوزُ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْمَدْلُولِ، كَالْعَالَمِ دَلِيلٌ عَلَى الصَّانِعِ الْقَدِيمِ، وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَكُلُّ أَثَرٍ كَالدُّخَانِ وَنَحْوِهِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ مُؤَثِّرِهِ كَالنَّارِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مِنْ
(3/314)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ مَمْنُوعٌ، بَلْ هِيَ مُعَرِّفٌ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُعَرِّفُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا أَوْ غَيْرَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ الْعِلَّةَ بَاعِثٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الشَّارِعِ، مُعَرِّفٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ، كَمَا قِيلَ: إِنِ الْعِلَّةَ الْبَدَنِيَّةَ عَرَضٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَرِيضِ، دَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الطَّبِيبِ، فَحِينَئِذٍ يَسْتَقِيمُ مَا قَالَ ; وَامْتِنَاعُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ مَمْنُوعٌ، لَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ لَا جَوَابَ عَنْهُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قِيَاسُ الْوُضُوءِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ عَلَى التَّيَمُّمِ مَعَ تَأَخُّرِ مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ عَنِ الْوُضُوءِ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، فَهِيَ عَلَامَةٌ وَمُعَرِّفٌ» .
هَذَا الْكَلَامُ فِي الْعِلَّةِ، وَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، وَهِيَ عَلَامَةٌ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ وَمُعَرِّفٌ لَهُ.
قَالَ الْبَزْدَوِيُّ فِي «الْمُقْتَرَحِ» : وَلِلْعِلَّةِ أَسَامٍ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَهِيَ السَّبَبُ، وَالْأَمَارَةُ، وَالدَّاعِي، وَالْمُسْتَدْعِي، وَالْبَاعِثُ، وَالْحَامِلُ، وَالْمَنَاطُ، وَالدَّلِيلُ، وَالْمُقْتَضِي، وَالْمُوجِبُ، وَالْمُؤَثِّرُ.
قُلْتُ: أَمَّا تَسْمِيَتُهَا سَبَبًا، فَلِأَنَّهَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَهُوَ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِهَا؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا الْمُثْبِتُ لَهَا الشَّارِعُ.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا أَمَارَةً فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْأَمَارَةَ - بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ - الْعَلَامَةُ، وَالْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَامَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارِ فَإِنَّهَا ... أَمَارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكِ فَسَلِّمِي
(3/315)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ: عَلَامَةُ تَسْلِيمِي.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا دَاعِيًا وَمُسْتَدْعِيًا، فَلِأَنَّهَا تَدْعُو الشَّارِعَ إِلَى وَضْعِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَتَسْتَدْعِي ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، وَكَذَلِكَ هِيَ الْبَاعِثُ لَهُ وَالْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَعْنَى كَوْنِهَا مَنَاطًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ يُنَاطُ بِهَا أَيْ: يُعَلَّقُ. وَمَعْنَى كَوْنِهَا دَلِيلًا ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهَا إِذَا وُجِدَتْ فِي مَحَلٍّ، دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا فِيهِ، كَالْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ، وَالْكَيْلِ فِي الْأَرُزِّ.
وَمَعْنَى كَوْنِهَا مُوجِبًا وَمُؤَثِّرًا هُوَ أَنَّهَا تُوجِبُ مَعْرِفَةَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَتُؤَثِّرُ فِي مَعْرِفَتِهِ؛ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُ، وَالْمُؤَثِّرَ إِنَّمَا هُوَ الشَّارِعُ.
وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمَارَةً فِي الْفَرْعِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ فِيهِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْأَمَارَةِ سِوَى تَعْرِيفِهَا لِلْحُكْمِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مُعَرَّفٌ بِالنَّصِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِلَّةِ مَعْنَى الْبَاعِثِ، خَلَتْ عَنْ فَائِدَةٍ.
الثَّانِي: أَنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَهِيَ فَرْعٌ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، فَلَوْ تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَتُهُ عَلَيْهَا، لَزِمَ الدَّوْرُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَاعِثِ وَالْأَمَارَةِ الْمَحْضَةِ: هُوَ أَنَّ الْبَاعِثَ يَكُونُ مُنَاسِبًا لِحُكْمِهِ، وَمُقْتَضِيًا لَهُ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ مِنِ اقْتِضَائِهِ إِيَّاهُ مَصْلَحَةٌ ; بِحَيْثُ يَصِحُّ فِي عُرْفِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا فُعِلَ كَذَا لِكَذَا، كَقَوْلِنَا: إِنَّمَا قُتِلَ الْمُرْتَدُّ لِتَبْدِيلِهِ الدِّينَ، أَوْ تَقْلِيلِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ إِعَانَةِ الْكَافِرِينَ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ لِإِفْسَادِهِ الْعَقْلَ، بِخِلَافِ الْأَمَارَةِ الْمَحْضَةِ كَزَوَالِ الشَّمْسِ
(3/316)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَطُلُوعِ الْهِلَالِ؛ إِذْ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: وَجَبَتِ الصَّلَاةُ لِأَنَّ الشَّمْسَ زَالَتْ، وَالصَّوْمُ لِأَنَّ الْهِلَالَ ظَهَرَ، وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فِي التَّخَاطُبِ الْعُرْفِيِّ، لَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ، لَا مِنْ حَيْثُ التَّعْلِيلُ، أَيْ: زَوَالُ الشَّمْسِ وَطُلُوعُ الْهِلَالِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، لَا عِلَّةٌ لَهُمَا، وَكَذَلِكَ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّعَبُّدَاتِ كَأَسْبَابِ الْحَدَثِ لِلْوُضُوءِ، هِيَ أَمَارَاتٌ، لَا بَوَاعِثُ لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ، وَرُبَّمَا جَاءَ فِي هَذَا كَلَامٌ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَمِنْ شَرْطِهَا» ، أَيْ: وَمِنْ شَرْطِ الْعِلَّةِ «أَنْ تَكُونَ مُتَعَدِّيَةً» يَعْنِي لِمَحَلِّ النَّصِّ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْإِسْكَارِ وَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالطُّعْمِ، «فَلَا عِبْرَةَ بِالْقَاصِرَةِ، وَهِيَ مَا لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ، كَالثَّمَنِيَّةِ فِي النَّقْدَيْنِ» ، أَيْ: كَوْنُهُمَا أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِهِمَا، قَاصِرٌ عَلَيْهِمَا «وَهُوَ» أَيْ: عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ «قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ» .
قَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالْكَرْخِيُّ، وَأَبُو عَبْدُ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ إِلَى إِبْطَالِهَا.
قُلْتُ: وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقَاصِرَةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ. أَمَّا المَنْصُوصَةُ أَوِ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا، فَاتَّفَقُوا عَلَى صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا حُكْمُ الْمَعْصُومِ وَاجْتِهَادُهُ.
(3/317)
________________________________________
الْأَوَّلُ: الْعِلَّةُ أَمَارَةٌ، وَالْقَاصِرَةُ لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ، تُرِكَ فِي الْمُتَعَدِّيَةِ لِفَائِدَتِهَا، فَفِي الْقَاصِرَةِ عَلَى الْأَصْلِ لِعَدَمِهَا.
الثَّانِي: التَّعْدِيَةُ فَرْعُ صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ، فَلَوْ عَلَّلْنَا الْعِلِّيَّةَ بِالتَّعْدِيَةِ لَزِمَ الدَّوْرُ؛ وَلِأَنَّ التَّعْدِيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْعَقْلِيَّةِ والمَنْصُوصَةِ فَفِي الْمُسْتَنْبَطَةِ أَوْلَى، وَكَوْنُهَا لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ مَمْنُوعٌ ; بَلْ هِيَ أَمَارَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهَا فِي مَحَلِّ النَّصِّ، أَوْ كَوْنِهِ مُعَلَّلًا لَا تَعَبُّدًا، وَعَدَمُ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ مَمْنُوعٌ؛ إِذْ مَبْنَى الشَّرْعِ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ أَدِلَّتِهِ ظَنِّيَّةٌ، وَعَدَمُ فَائِدَتِهَا مَمْنُوعَةٌ؛ إِذْ فَائِدَتُهَا مَعْرِفَةُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ، وَالنَّفْسُ إِلَى قَبُولِهِ أَمْيَلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» أَيِ: احْتَجَّ الْأَوَّلُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَهُوَ الْقَائِلُ بِإِبْطَالِهَا بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ «الْعِلَّةَ» الشَّرْعِيَّةَ «أَمَارَةٌ» أَيْ: عَلَامَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَالْعِلَّةُ «الْقَاصِرَةُ لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ» ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ، فَيَبْقَى التَّعْلِيلُ بِهَا عَرِّيًا عَنْ فَائِدَةٍ؛ إِذْ فَائِدَتُهَا إِمَّا إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا قُلْنَا، أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ لِقُصُورِهَا؛ إِذِ الثَّمَنِيَّةُ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِ النَّقْدَيْنِ لِتَتَعَدَّى إِلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْأَصْلَ» يَنْفِي «الْعَمَلَ بِالظَّنِّ، تُرِكَ» ذَلِكَ «فِي الْمُتَعَدِّيَةِ لِفَائِدَتِهَا» بِالتَّعَدِّي إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا «فَفِي الْقَاصِرَةِ» تَبْقَى «عَلَى الْأَصْلِ» فِي عَدَمِ الْعَمَلِ بِهَا. وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَاصِرَةَ لَا فَائِدَةَ فِيهَا لِعَدَمِ تَعَدِّيهَا، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَرِدُ
(3/318)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّرْعُ بِهِ، فَالْقَاصِرَةُ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِهَا، فَلَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً.
قَوْلُهُ: «الثَّانِي» أَيِ: احْتَجَّ الثَّانِي وَهُوَ الْقَائِلُ بِاعْتِبَارِهَا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَعْدِيَةَ الْعِلَّةِ فَرْعُ عِلِّيَّتِهَا، أَيْ: فَرْعُ كَوْنِهَا عِلَّةً؛ لِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ كَوْنُهَا عِلَّةً فِي الْأَصْلِ عُدِّيَتْ إِلَى الْفَرْعِ، فَلَوْ عَلَّلْتَ عِلِّيَّتَهَا بِتَعْدِيَتِهَا «لَزِمَ الدَّوْرُ» ؛ لِتَوقُّفِ كَوْنِهَا عِلَّةً عَلَى كَوْنِهَا مُتَعَدِّيَةً، وَكَوْنِهَا مُتَعَدِّيَةً عَلَى كَوْنِهَا عِلَّةً، لَكِنَّ الدَّوْرَ بَاطِلٌ، فَالْمُفْضِي إِلَيْهِ بَاطِلٌ، وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ عِلِّيَّتِهَا بِتَعْدِيَتِهَا، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا مَعَ كَوْنِهَا قَاصِرَةً، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «التَّعْدِيَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا لِلْعَقْلِيَّةِ» أَيْ: لِلْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ «والمَنْصُوصَةِ» مَعَ قُوَّتِهَا «فَفِي الْمُسْتَنْبَطَةِ أَوْلَى» أَنْ لَا يُشْتَرَطَ لِضَعْفِهَا.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّا لَا نُعَلِّلُ الْعِلِّيَّةَ بِالتَّعْدِيَةِ، بَلْ نَجْعَلُ التَّعْدِيَةَ فَائِدَةَ الْعِلِّيَّةِ لَا عِلَّةً لَهَا، فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ، فَلَا نَقُولُ: إِنَّمَا كَانَ الْوَصْفُ عِلَّةً لِتَعَدِّيِهِ، بَلْ نَقُولُ: فَائِدَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً تَعَدِّيهِ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَإِذَا انْتَفَتْ فَائِدَتُهُ، أَلْغَيْنَاهُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ، لَا لِعَدَمِ عِلَّتِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ انْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ، وَانْتِفَائِهِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي الْوُجُودِ، وَالْفَائِدَةُ غَايَةُ الْوُجُودِ، وَجِهَتُهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَلَا دَوْرَ.
وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّعْدِيَةِ لِلْعَقْلِيَّةِ والمَنْصُوصَةِ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ لِلْمُسْتَنْبَطَةِ؛ لِقِيَامِ الْفَرْقِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَقْلِيَّةَ مُوجِبَةٌ مُؤَثِّرَةٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ
(3/319)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَأْثِيرُهَا فِي مَحَلِّهَا لَا يَتَجَاوَزُهُ، بِخِلَافِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهَا أَمَارَةٌ مُعَرِّفَةٌ، وَالتَّعْرِيفُ لَا يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْمُعَرَّفِ، وَأَيْضًا فَالْقِيَاسُ بِالتَّعْدِيَةِ إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ. وَيَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّ قِيَاسَ الْعِلَّةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ يُفِيدُ الْقَطْعَ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَ ثُبُوتُهَا فِي الْأَصْلِ وَوُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ قَاطِعًا كَانَ الْقِيَاسُ قَاطِعًا، عَقْلِيَّةً كَانَتْ أَوْ شَرْعِيَّةً كَمَا سَبَقَ، بَلْ إِذَا كَانَ قَاطِعًا فِي الشَّرْعِيَّةِ، فَفِي الْعَقْلِيَّةِ أَوْلَى.
وَأَمَّا المَنْصُوصَةُ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ، فَثَبَتَتْ قُوَّتُهَا بِهِ، وَاسْتَغْنَتْ عَنْ قُوَّةِ التَّعَدِّي، بِخِلَافِ الْمُسْتَنْبَطَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الِاعْتِرَاضِ: أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِذَا لَمْ يُشْتَرَطِ التَّعْدِيَةُ فِي الْعَقْلِيَّةِ والمَنْصُوصَةِ، فَفِي غَيْرِهِمَا أَوْلَى، كَلَامٌ فَاسِدُ الْوَضْعِ، وَالَّذِي يَنْبَغِي الْعَكْسُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ اسْتِغْنَاءِ الْعَقْلِيَّةِ والمَنْصُوصَةِ عَنِ التَّعَدِّي لِقُوَّتِهِمَا وَافْتِقَارِ الْمُسْتَنْبَطَةِ إِلَيْهِ لِضَعْفِهَا.
قَوْلُهُ: «وَكَوْنُهَا لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ مَمْنُوعٌ» ، هَذَا جَوَابُ الْمُصَحِّحِينَ لِلْقَاصِرَةِ عَنْ دَلِيلِ الْمُبْطِلِينَ لَهَا. وَبَيَانُهُ أَنَّا نَقُولُ: قَوْلُكُمْ: «الْقَاصِرَةُ لَيْسَتْ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ» ، فَلَا تَكُونُ مُفِيدَةً «مَمْنُوعٌ، بَلْ هِيَ أَمَارَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِهَا فِي مَحَلِّ النَّصِّ» عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ ثَابِتٌ بِهَا، أَوْ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ «مُعَلَّلًا لَا تَعَبُّدًا» عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِهَا، فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا تَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ.
(3/320)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ عَدَمُ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ، فَمَمْنُوعٌ أَيْضًا فِي الشَّرْعِيَّاتِ، لِأَنَّ مَبْنَى الشَّرْعِ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَلِهَذَا كَانَتْ «أَكْثَرُ أَدِلَّتِهِ ظَنِّيَّةً» كَالْعُمُومِ، وَالظَّوَاهِرِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ، فَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ فِيهِ; لَكَانَ أَكْثَرُهُ وَاقِعًا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْفُنُونِ جَرَيَانُ جَمِيعِهَا أَوْ أَكْثَرِهَا عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يُمْتَنَعُ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ فِي الْمَطَالِبِ الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُمْ: الْقَاصِرَةُ عَدِيمَةُ الْفَائِدَةِ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ «فَائِدَتُهَا مَعْرِفَةُ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ» أَيْ: إِنَّهُ مُعَلَّلٌ لَا تَعَبُّدٌ، وَالنَّفْسُ إِلَى قَبُولِ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ أَمْيَلُ، وَإِلَيْهَا أَسْكَنُ، وَهِيَ بِتَصْدِيقِهَا أَجْدَرُ لِحُصُولِ الطُّمَأْنِينَةِ، إِذْ كُلُّ عَاقِلٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ فَرْقًا بَيْنَ قَبُولِهَا نَقْضَ الْوُضُوءِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ، وَبَيْنَ نَقْضِهِ بِمَسِّ الْفَرْجِ، لِأَنَّ فِيهِ مُخَيَّلًا مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَحَلَّ خُرُوجِ الْخَارِجِ النَّاقِضِ بِالنَّصِّ. وَلِهَذَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي مَسِّهِ أَنْ يَكُونَ بِشَهْوَةٍ لِيَصِيرَ مَظِنَّةً لِوُجُودِ الْخَارِجِ الْمُنَاسِبِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: نَحْنُ أَوَّلًا نُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ بِطَرِيقَةٍ مِنْ إِيمَاءٍ أَوْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ تَضَمُّنِ مَصْلَحَةٍ مُبْهَمَةٍ، ثُمَّ نَنْظُرُ فِي الْمَصْلَحَةِ; إِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنَ النَّصِّ، عَدَّيْنَا حُكْمَهَا، وَإِلَّا قَصَرْنَاهَا عَلَى مَحَلِّهَا، فَالتَّعْدِيَةُ فَرْعُ الصِّحَّةِ وَتَابِعَةٌ لَهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَابِعُ الشَّيْءِ وَفَرْعُهُ مُصَحِّحًا لَهُ؟ .
قُلْتُ: اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، هَلْ هُوَ بِالْعِلَّةِ أَوْ بِالنَّصِّ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِمِثْلِهِ فِي الْفَرْعِ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.
(3/321)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْخِلَافُ فِي اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ يَصِحُّ تَرْتِيبُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُثْبِتُ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ النَّصِّ عَنْ أَثَرِهَا بِالْعِلَّةِ، فَلَا تَعْرَى الْقَاصِرَةُ عَنْ فَائِدَةٍ، فَتُعْتَبَرُ، وَعَلَى رَأْيِ الْحَنَفِيَّةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ بِهِ، فَتَعْرَى الْقَاصِرَةُ عَنْ فَائِدَةٍ، لِأَنَّ أَثَرَهَا لَا يَظْهَرُ فِي مَحَلِّ النَّصِّ وَلَا فِي غَيْرِهِ، فَلَا تُعْتَبَرُ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ أَوْ بِالْعِلَّةِ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الشَّافِعِيَّةِ بِكَوْنِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِالْعِلَّةِ أَنَّهَا الْبَاعِثَةُ لِلشَّارِعِ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ، لَا أَنَّهَا مُعَرِّفَةٌ لَهُ، وَمُرَادَ الْحَنَفِيَّةِ بِكَوْنِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ أَنَّهُ الْمُعَرِّفُ لِلْحُكْمِ لَا الْعِلَّةِ، فَكُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَيْرُ مُنْكِرٍ لِقَوْلِ الْآخَرِ، بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ فِي الْمَعْنَى، فَثَبَتَ أَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ بَقِيَّةِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ حُكْمِ الْأَصْلِ.
(3/322)
________________________________________
وَاخْتُلِفَ فِي اطِّرَادِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ اسْتِمْرَارُ حُكْمِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّهَا، وَاشْتَرَطَهُ الْقَاضِي وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَلِمَالِكٍ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَأَبِي الْخَطَّابِ، فَتَبْقَى بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةً كَالْعُمُومِ.
وَقِيلَ: مَعَ الْمَانِعِ، إِحَالَةً لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: الْمَنْصُوصَةُ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ لِضَعْفِهَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
الْأَوَّلُ: تَخَلُّفُ حُكْمِهَا عَنْهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عِلِّيَّتِهَا.
الثَّانِي: عِلَلُ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ لَا مُؤَثِّرَاتٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَاخْتُلِفَ فِي اطِّرَادِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ اسْتِمْرَارُ حُكْمِهَا فِي جَمِيعِ مَحَالِّهَا» أَيْ: وُجُودُ حُكْمِهَا فِي كُلِّ مَحَلٍّ وُجِدَتْ فِيهِ، كَوُجُودِ التَّحْرِيمِ حَيْثُ وُجِدَ الْإِسْكَارُ، «فَاشْتَرَطَهُ الْقَاضِي» أَبُو يَعْلَى «وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ» أَيْ: لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ «وَلِمَالِكٍ وَالْحَنَفِيَّةِ وَأَبِي الْخَطَّابِ، فَتَبْقَى» أَيْ: فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ اطِّرَادِهَا تَبْقَى بَعْدَ تَخْصِيصِهَا «حُجَّةً كَالْعُمُومِ» .
«وَقِيلَ: مَعَ الْمَانِعِ» أَيْ: قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّمَا تَكُونُ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ مَعَ الْمَانِعِ فِي الْفَرْعِ، أَيْ: إِنْ وُجِدَ فِي الْفَرْعِ مَانِعٌ يَمْنَعُ تَعَدِّي الْأَصْلِ إِلَيْهِ، كَانَتْ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ «إِحَالَةً لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ» عَلَى الْمَانِعِ، لَا عَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْوَصْفِ لِلْعِلِّيَّةِ اسْتِصْحَابًا لِحَالِ دَلِيلِ الْعِلِّيَّةِ، كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ حَيْثُ لَمْ يُوجِبِ الْقَوَدَ عَلَى الْأَبِ لِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ، لَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْقَتْلِ الْمَذْكُورِ لِلْمُقْتَضِي.
(3/323)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وَقِيلَ: الْمَنْصُوصَةُ» أَيْ: وَقِيلَ: إِنَّمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ «الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ» وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ضَعْفُ الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَقُوَّةُ الْمَنْصُوصَةِ بِالنَّصِّ، فَلَا يُخْرِجُهَا التَّخْصِيصُ عَنِ الْعِلِّيَّةِ لِقُوَّتِهَا.
«وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ» : إِشَارَةٌ إِلَى تَفْصِيلٍ ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ غَيْرِ هَذَا، مِنْهُمُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ طَوِيلٌ لَمْ أَذْكُرْهُ لِطُولِهِ، وَالْمَشْهُورُ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَهُوَ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ.
ثَالِثُهَا: إِنْ وُجِدَ الْمَانِعُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، قَدَحَ فِي الْعِلِّيَّةِ، وَإِلَّا فَلَا.
وَرَابِعُهَا: إِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً، لَمْ يَقْدَحِ التَّخْصِيصُ فِي عِلِّيَّتِهَا، وَإِلَّا فَلَا.
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» أَيْ: احْتَجَّ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الَّذِي اشْتَرَطَ اطِّرَادَهَا بِأَنْ قَالَ: «تَخَلُّفُ حُكْمِهَا عَنْهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ عِلِّيَّتِهَا» أَيْ: عَلَى عَدَمِ كَوْنِهَا عِلَّةً لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ، وَانْتِفَاءَهُ مَعَ وُجُودِ عِلَّتِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَحَمْلُ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى خِلَافِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْوَصْفَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْعِلِّيَّةِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْعِلِّيَّةِ لَزِمَ وُجُودُ الْحُكْمِ مَعَهُ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا لَهَا لَمْ يَكُنْ عِلَّةً حَتَّى يَنْضَافَ إِلَى غَيْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ عِلَّةٌ. هَذَا خُلْفٌ.
«الثَّانِي» : أَيِ: احْتَجَّ الْقَائِلُ الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي أَجَازَ تَخْصِيصَهَا، وَتَخَلُّفَ حُكْمِهَا عَنْهَا فِي بَعْضِ صُوَرِهَا بِأَنْ قَالَ: «عِلَلُ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ لَا مُؤَثِّرَاتٌ»
(3/324)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِذَا كَانَتْ أَمَارَاتٍ لَمْ «يُشْتَرَطْ فِيهَا ذَلِكَ» لِأَنَّ الْأَمَارَةَ لَا يَجِبُ وُجُودُ حُكْمِهَا مَعَهَا أَبَدًا، بَلْ يَكْفِي وُجُودُهُ مَعَهَا فِي الْأَغْلَبِ الْأَكْثَرِ، كَالْغَيْثِ الرَّطْبِ أَمَارَةٌ عَلَى الْمَطَرِ; وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَوْنِ مَرْكُوبِ الْقَاضِي عَلَى بَابِ الْأَمِيرِ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.
قُلْتُ: قَدْ تَعَارَضَ هُنَا أَصْلَانِ، فَخَرَجَ الْخِلَافُ لِمُلَاحَظَتِهِمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى الْوَصْفِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِهِ الِاسْتِنْبَاطِيَّةِ مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ الْفَرْضُ ذَلِكَ، فَالْأَصْلُ فِيمَا كَانَ مُنَاسِبًا وَقَامَ دَلِيلُ عِلِّيَّتِهِ فِي صُورَةٍ مَا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ فِي صُورَةٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ، أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، فَلَا يُلْغَى لِأَجْلِهِ وَصْفٌ قَامَ دَلِيلُ عِلِّيَّتِهِ. وَهَذَا الْأَصْلُ مُعَارَضٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ. أَمَّا وُجُودُ الْمَانِعِ وَنَحْوِهِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ; فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَلَا تَعَارُضَ، فَلَمَّا تَعَارَضَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ، اتَّجَهَ الْمَذْهَبَانِ.
وَحُجَّةُ الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ - وَإِنْ كُنَّا قَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا وَإِلَى حُجَّةِ الرَّابِعِ أَيْضًا فِيمَا سَبَقَ -: هُوَ أَنَّ قِيَامَ الْمَانِعِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ صَالِحٌ لِإِحَالَةِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَلَا وَجْهَ لِلْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلِّيَّةِ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَقُمْ مَانِعٌ، فَإِنَّ إِحَالَةَ تَخَلُّفِهِ عَلَى عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ مُتَّجِهٌ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ.
(3/325)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثَالُهُ: أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ عِلَّةُ وُجُوبِ الْحَدِّ قَدْ تَخَلَّفَ فِي صُورَةِ الْإِكْرَاهِ، أَحَلْنَا تَخَلُّفَهُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَانِعٌ، أَمَّا لَوْ تَخَلَّفَ وُجُوبُ الْحَدِّ فِي الشُّرْبِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَانَعٌ غَيْرُ الْإِكْرَاهِ وَلَا انْتِفَاءُ شَرْطٍ، دَلَّ عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الشُّرْبِ لِإِيجَابِ الْجَلْدِ، إِذْ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُحَالَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ غَيْرَهُ.
وَحُجَّةُ الْمَذْهَبِ الرَّابِعِ أَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، تَعَيَّنَ الِانْقِيَادُ لِنَصِّ الشَّارِعِ وَالْإِجْمَاعِ الْمَعْصُومَيْنِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي ذَلِكَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي صُورَةٍ مَا، لِأَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ يُفِيدَانِ مِنْ ظَنِّ الصِّحَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُفِيدُ التَّخْصِيصُ مِنْ ظَنِّ الْبُطْلَانِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/326)
________________________________________
تَنْبِيهٌ: لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: مَا يُعْلَمُ اسْتِثْنَاؤُهُ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ كَإِيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِاخْتِصَاصِ كُلِّ امْرِئٍ بِضَمَانِ جِنَايَةِ نَفْسِهِ، وَإِيجَابِ صَاعِ تَمْرٍ فِي الْمُصَرَّاةِ، مَعَ أَنَّ تَمَاثُلَ الْأَجْزَاءِ عِلَّةُ إِيجَابِ الْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْمِثْلِيَّاتِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْقِيَاسُ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَظْنُونَةً كَوُرُودِ الْعَرَايَا عَلَى عِلَّةِ الرِّبَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَلَا يَنْقُضُ وَلَا يُخَصِّصُ الْعِلَّةَ، بَلْ عَلَى الْمُنَاظِرِ بَيَانُ وُرُودِهَا عَلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ أَيْضًا.
الثَّانِي: النَّقْضُ التَّقْدِيرِيُّ: كَقَوْلِهِ: رِقُّ الْأُمِّ عِلَّةُ رِقِّ الْوَلَدِ فَيَنْتَقِضُ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ بِأُمِّهِ، هُوَ حُرٌّ، وَأُمُّهُ أَمَةٌ، فَيُقَالُ: هُوَ رَقِيقٌ تَقْدِيرًا بِدَلِيلِ وُجُوبِ قِيمَتِهِ، فَفِي وُرُودِهِ نَقْضًا خِلَافٌ، الْأَشْبَهُ لَا، اعْتِبَارًا بِالتَّحْقِيقِ لَا بِالتَّقْدِيرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَنْبِيهٌ: لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ أَقْسَامٌ «إِلَى آخِرِهِ، لَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِتَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَكَانَ لِلتَّخَلُّفِ أَقْسَامٌ، بَعْضُهَا مُؤَثِّرٌ فِي الْعِلَّةِ، وَبَعْضُهَا غَيْرُ مُؤَثِّرٍ; ذَكَرَ أَقْسَامَ التَّخَلُّفِ لِيَتَمَيَّزَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
فَأَحَدُ أَقْسَامِ التَّخَلُّفِ» مَا يُعْلَمُ اسْتِثْنَاؤُهُ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ كَإِيجَابِ الدِّيَةِ «فِي قَتْلِ الْخَطَأِ» عَلَى الْعَاقِلَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِاخْتِصَاصِ كُلِّ امْرِئٍ بِضَمَانِ جِنَايَةِ نَفْسِهِ «; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الْإِسْرَاءِ: 15] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلِهِ لِأَبِي رِمْثَةَ عَنِ ابْنِهِ: أَمَا إِنَّهُ
(3/327)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ» إِيجَابُ صَاعِ تَمْرٍ فِي الْمُصَرَّاةِ «عِوَضًا عَنِ اللَّبَنِ الْمُحْتَلَبِ مِنْهَا» مَعَ أَنَّ تَمَاثُلَ الْأَجْزَاءِ عِلَّةُ إِيجَابِ الْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْمِثْلِيَّاتِ «فَكَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يُضْمَنَ لَبَنُ الْمُصَرَّاةِ بِمِثْلِهِ. وَلِهَذَا تَرَكَ الْحَنَفِيَّةُ الْعَمَلَ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَجَعَلُوهُ مِمَّا يُخَالِفُ الْأُصُولَ، فَهَذَا» لَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْقِيَاسُ «يَعْنِي: لَا تَبْطُلُ بِهِ عِلَّتُهُ، لِثُبُوتِهِ قَطْعًا بِنَصِّ الشَّارِعِ، وَمُنَاسَبَةِ الْعَقْلِ،» وَلَا يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ «فِي تَعَلُّلِهِ بِأَنْ يَقُولَ: كُلُّ امْرِئٍ مُخْتَصٌّ بِجِنَايَةِ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ دِيَةِ الْخَطَأِ، وَتَمَاثُلُ الْأَجْزَاءِ عِلَّةُ إِيجَابِ الْمِثْلِ فِي ضَمَانِ الْمِثْلِيَّاتِ إِلَّا فِي الْمُصَرَّاةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَوْ لَمْ يَحْتَرِزْ عَنْهُ لَوَرَدَ نَقْضًا. وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا.
» وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَظْنُونَةً كَوُرُودِ الْعَرَايَا عَلَى عِلَّةِ الرِّبَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ «وَكُلِّ مَذْهَبٍ ; فَإِنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا حُصُولُ التَّغَابُنِ بِالتَّفَاضُلِ فِي الْأَمْوَالِ بَيْنَ الْمُتَعَامِلِينَ، وَالتَّفَاضُلُ وَاقِعٌ فِي الْعَرَايَا، لِأَنَّهَا بَيْعُ رُطَبٍ بِتَمْرٍ، وَالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مَجْهُولٌ، وَهُوَ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَايَا قَدْ جَاءَتْ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى كُلِّ عِلَّةٍ وَقَوْلٍ، سَوَاءٌ عَلَّلَ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ أَوِ الطَّعْمِ أَوِ الْقُوتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لِاسْتِثْنَاءِ الشَّارِعِ لَهَا رُخْصَةً، فَهَذَا» لَا يَنْقُضُ «الْعِلَّةَ، وَلَا يُخَصِّصُهَا» بَلْ
(3/328)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى الْمُنَاظِرِ وَهُوَ الْمُسْتَدِلُّ «بَيَانُ» أَنَّهَا وَارِدَةٌ «عَلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ أَيْضًا» إِذْ لَا يَلْزَمُ الْخَصْمَ قَبُولُ قَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ: إِنَّ الْعَرَايَا مُسْتَثْنَاةٌ عَنْ عِلَّةِ الرِّبَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ، بِدُونِ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ دَعْوَى، وَالدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ إِلَّا بِحُجَّةٍ، فَتُرْوَى لَهُ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِي الْعَرَايَا وَبَيَانِ كَوْنِهَا رُخْصَةً.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلْعِبَادَةِ: عِبَادَةٌ مَفْرُوضَةٌ، فَتَفْتَقِرُ إِلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ، فَلَا يَنْتَقِضُ ذَلِكَ بِالْحَجِّ حَيْثُ جَازَ الْإِحْرَامُ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زِيدٌ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ نِيَّةٍ، لِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْعِبَادَاتِ; إِمَّا لِمُحَافَظَةِ الشَّرْعِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، أَوْ تَخْفِيفًا عَنِ الْمُكَلَّفِ لِئَلَّا يَلْغُوَ حِجُّهُ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَتِهِ، وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِنْشَاءِ سَفَرٍ آخَرَ لِفِعْلِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالتَّغَرُّبِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْفُقَهَاءِ: هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَثْنًى عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، أَوْ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ، أَوْ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ; لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ حَتَّى خَالَفَ الْقِيَاسَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عُدِلَ بِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ لِمَصْلَحَةٍ أَكْمَلَ وَأَخَصَّ مِنْ مَصَالِحِ نَظَائِرِهِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْسَانِ الشَّرْعِيِّ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ بَيْعِ الْمَعْدُومِ، وَجَازَ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ تَوْسِعَةً وَتَيْسِيرًا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ.
وَمِنْهُ: أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَضْمَنُ جِنَايَةَ نَفْسِهِ، وَخُولِفَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ رِفْقًا بِالْجَانِي، وَتَخْفِيفًا عَنْهُ؛ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ الْخَطَأِ مِنَ الْجُنَاةِ
وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْمُصَرَّاةِ; لَمَّا كَانَ اللَّبَنُ الْمُحْتَلَبُ مِنْهَا مَجْهُولًا، فَلَوْ وَجَبَ ضَمَانُهُ بِمِثْلِهِ، لَأَفْضَى إِلَى النِّزَاعِ لِجَهَالَةِ الْقَدْرِ الْمَضْمُونِ، فَقَطَعَ
(3/329)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّارِعُ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ بِإِيجَابِ صَاعِ تَمْرٍ بِاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّهُ مَضْبُوطٌ مَعْلُومٌ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ الْعَامِّ، لِأَنَّ الشَّخْصَ تَارَةً يَكُونُ آخِذًا لِلصَّاعِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ بَائِعًا لِلْمُصَرَّاةِ، وَتَارَةً مَأْخُوذًا مِنْهُ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُشْتَرِيًا لَهَا، فَمَا يَقَعُ مِنَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ قِيمَةِ التَّمْرِ وَقِيمَةِ اللَّبَنِ مُغْتَفَرٌ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْعَدْلِ الْعَامِّ. وَقَدْ حَقَّقْتُ هَذَا فِي «الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى» وَالْغَرَضُ أَنَّ كُلَّ خَارِجٍ عَنِ الْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِ فِي غَيْرِ التَّعَبُّدَاتِ، فَهُوَ لِمَصْلَحَةٍ أَكْمَلَ وَأَخَصَّ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَخَصُّ مِنَ الْقِيَاسِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ أَقْسَامِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا سَمَّيْتُهُ «النَّقْضَ التَّقْدِيرِيَّ» لِمُنَاسَبَتِهِ، وَذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ فِي إِثْبَاتِهِ، وَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ لَا لِلْخَلَلِ فِيهَا، بَلْ لِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى أَخَصَّ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: «رِقُّ الْأُمِّ عِلَّةُ رِقِّ الْوَلَدِ، فَيَنْتَقِضُ» عَلَيْهِ «بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ بِأُمِّهِ» وَهُوَ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَبَانَتْ أَمَةً، فَهَذَا الْوَلَدُ حُرٌّ، مَعَ أَنَّ أُمَّهُ أَمَةٌ، فَقَدْ تَخَلَّفَ حُكْمُ الْعِلَّةِ عَنْهَا، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: هَذَا الْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ حُرًّا حُكْمًا، فَهُوَ «رَقِيقٌ تَقْدِيرًا» أَيْ: فِي التَّقْدِيرِ، «بِدَلِيلِ وُجُوبِ قِيمَتِهِ» عَلَى أَبِيهِ لِسَيِّدِ أُمِّهِ، وَلَوْلَا أَنَّ الرِّقَّ فِيهِ حَاصِلٌ تَقْدِيرًا، لَمَا وَجَبَتْ قِيمَتُهُ، إِذِ الْحُرُّ لَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ.
قُلْتُ: وَمَعْنَى قَوْلِنَا: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى، هُوَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ تُنَازِعُهُ عِلَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا عِلَّةُ الرِّقِّ تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَالثَّانِيَةُ عِلَّةُ الْحُرِّيَّةِ تَبَعًا لِاعْتِقَادِ
(3/330)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبِيهِ حُرِّيَّتَهُ، فَثَبَتَ مُقْتَضَى هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ تَحْقِيقًا; تَحْصِيلًا لِلْحُرِّيَّةِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِهَا، لِأَنَّهَا الْأَصْلُ، وَثَبَتَ مُقْتَضَى عِلَّةِ الرِّقِّ تَقْدِيرًا، جَبْرًا لِمَا فَاتَ عَلَى السَّيِّدِ مِنْ إِتْلَافِ مَالِيَّةِ الْوَلَدِ عَلَيْهِ، إِذْ سَبَبُ إِتْلَافِهِ اعْتِقَادُ الْأَبِ حُرِّيَّتَهُ، فَضَمِنَ مَا أَتْلَفَ، «فَفِي وُرُودِهِ نَقْضًا» أَيْ: فِي وُرُودِ هَذَا النَّقْضِ التَّقْدِيرِيِّ عَلَى الْعِلَّةِ بِحَيْثُ يُبْطِلُهَا «خِلَافٌ، الْأَشْبَهُ لَا» يَرِدُ «اعْتِبَارًا بِالتَّحْقِيقِ لَا بِالتَّقْدِيرِ» .
هَكَذَا وَقَعَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَهُوَ سَهْوٌ، وَالصَّوَابُ الْعَكْسُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَشْبَهَ لَا يَرِدُ اعْتِبَارًا بِالتَّقْدِيرِ لَا بِالتَّحْقِيقِ، لِأَنَّ انْتِقَاضَ الْعِلَّةِ بِوَلَدِ الْمَغْرُورِ إِنَّمَا يَنْدَفِعُ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ رَقِيقًا، وَالرِّقُّ فِيهِ إِنَّمَا ثَبَتَ تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا، إِذْ هُوَ فِي التَّحْقِيقِ حُرٌّ، فَتَنْتَقِضُ الْعِلَّةُ. وَهَذَا الْخِلَافُ لَيْسَ فِي «الرَّوْضَةِ» وَلَا «الْمُسْتَصْفَى» إِنَّمَا فِيهِمْ عَدَمُ الِانْتِقَاضِ فَقَطْ، وَلَكِنْ أَنَا نَقَلْتُ الْخِلَافَ مِنْ غَيْرِهِمَا أَحْسَبُهُ الْحَاصِلَ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْأَشْبَهَ عَدَمُ الِانْتِقَاضِ، لِأَنَّ تَخَلُّفَ حُكْمِ الْعِلَّةِ عَنْهَا لَا لِعَدَمِ عِلِّيَّتِهَا بِدَلِيلِ اطِّرَادِهَا فِي بَقِيَّةِ الصُّوَرِ، بَلْ لِمُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ الْأُخْرَى لَهَا، فَأُحِيلَ التَّخَلُّفُ عَلَيْهَا، وَصَارَ كَمَا سَبَقَ مِنْ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ، وَإِنَّمَا خَرَجَ الْخِلَافُ هَاهُنَا وَاتَّجَهَ; لِأَنَّ مَعَنَا حَالَتَيْ تَحْقِيقٍ وَتَقْدِيرٍ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى حَالَةِ التَّحْقِيقِ، وَهِيَ الْحُكْمُ بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ تَكُونُ الْعِلَّةُ مُنْتَقِضَةً، وَبِالنَّظَرِ إِلَى حَالَةِ التَّقْدِيرِ، وَهُوَ كَوْنُهُ فِي مَعْنَى الرَّقِيقِ تَقْدِيرًا بِدَلِيلِ ضَمَانِهِ بِقِيمَتِهِ، تَسْلَمُ وَلَا تَنْتَقِضُ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/331)
________________________________________
الثَّالِثُ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لِفَوَاتِ مَحَلٍّ أَوْ شَرْطٍ لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ، نَحْوَ: الْبَيْعُ عِلَّةُ الْمِلْكِ، فَيَنْتَقِضُ بَيْعُ الْمَوْقُوفِ وَالْمَرْهُونِ، وَالسَّرِقَةُ عِلَّةُ الْقَطْعِ، فَتَنْتَقِضُ بِسَرِقَةِ الصَّبِيِّ أَوْ دُونَ النِّصَابِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلَا تَفْسَدُ الْعِلَّةُ، وَفِي تَكْلِيفِ الْمُعَلِّلِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِذِكْرِ مَا يُحَصِّلُهُ خِلَافٌ بَيْنِ الْجَدَلِيِّينَ يَسِيرُ الْخَطْبِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ نَاقِضٌ، وَفِي الْعِلَّةِ الْخِلَافُ السَّالِفُ، أَمَّا الْمَعْدُولُ عَنِ الْقِيَاسِ فَإِنْ فُهِمَتْ عِلَّتُهُ أُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَقِيَاسِ عَرِيَّةِ الْعِنَبِ عَلَى الرُّطَبِ، وَأَكْلِ بَقِيَّةِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ وَإِلَّا فَلَا، كَتَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ بِإِجْزَاءِ جَذَعَةِ الْمَعْزِ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ بِكَمَالِهِ بَيِّنَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَوْلِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، إِذْ شَرْطُ الْقِيَاسِ فَهْمُ الْمَعْنَى، وَحَيْثُ لَا فَهْمَ، فَلَا قِيَاسَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقِسْمُ «الثَّالِثُ» مِنْ أَقْسَامِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ تَخَلُّفُهُ لَا لِاسْتِثْنَاءٍ عَامٍّ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ، وَلَا لِمُعَارَضَةِ عِلَّةٍ أُخْرَى، وَ «لَا لِخَلَلٍ فِي رُكْنِ الْعِلَّةِ» بَلْ «لِفَوَاتِ مَحَلٍّ أَوْ شَرْطٍ» كَقَوْلِنَا: «الْبَيْعُ عِلَّةُ الْمِلْكِ» وَقَدْ وَقَعَ، فَلْيَثْبُتُ الْمُلْكُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ، «فَيَنْتَقِضُ بِبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَالْمَرْهُونِ» وَأُمِّ الْوَلَدِ، فَقَدْ حَصَلَ الْبَيْعُ فِيهِ، وَلَمْ يُفِدِ الْمُلْكَ. فَيُقَالُ: لَمْ يَتَخَلَّفْ إِفَادَةُ الْبَيْعِ الْمُلْكَ، لِكَوْنِهِ لَيْسَ عِلَّةً لِإِفَادَتِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا، وَكَقَوْلِنَا: «السَّرِقَةُ عِلَّةُ الْقَطْعِ» وَقَدْ وُجِدَتْ فِي النَّبَّاشِ فَيُقْطَعُ، «فَتَنْتَقِضُ بِسَرِقَةِ
(3/332)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصَّبِيِّ، أَوْ سَرِقَةِ» دُونِ النِّصَابِ، أَوْ «السَّرِقَةِ» مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ «فَإِنَّهَا لَمْ تُوجِبِ الْقَطْعَ.
فَيُقَالُ: لَيْسَ ذَلِكَ لِكَوْنِ السَّرِقَةِ لَيْسَتْ عِلَّةً، بَلْ لِفَوَاتِ أَهْلِيَّةِ الْقَطْعِ فِي الصَّبِيِّ، وَفَوَاتِ شَرْطِهِ فِي دُونِ النِّصَابِ وَمِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ شُرُوطِهَا وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، وَهَذَا مِنْهُ، وَهَلْ يُكَلَّفُ الْمُعَلِّلُ أَوِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ عِلِّيَّةِ الِاحْتِرَازِ مِنْ هَذَا» بِذِكْرِ مَا يُحَصِّلُهُ «كَقَوْلِهِ: بَيْعٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَصَادَفَ مَحَلَّهُ، أَوِ اسْتَجْمَعَ شُرُوطَهُ، فَأَفَادَ الْمُلْكَ، أَوِ الْمُكَلَّفُ سَرَقَ نِصِابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَوَجَبَ قَطْعُهُ.
هَذَا فِيهِ» خِلَافٌ بَيْنِ الْجَدَلِيِّينَ «يَعْنِي أَهْلَ صِنَاعَةِ الْجَدَلِ» يَسِيرُ الْخَطْبِ «أَيْ: الْخَطْبُ فِي هَذَا الْخِلَافِ، أَوْ فِي اشْتِرَاطِ هَذَا الِاحْتِرَازِ يَسِيرٌ، لِأَنَّ الْجَدَلَ طَرِيقَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ، وَسُلُوكُهَا تَابِعٌ لِاصْطِلَاحِ أَهْلِهَا، فَإِنْ كَانَ اصْطِلَاحُهُمْ ذَلِكَ كَلَّفَهُ الْمُعَلِّلُ، وَإِلَّا فَلَا، نَعَمِ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِلْكَلَامِ، وَأَوْلَى لِنَشْرِهِ وَتَبَدُّدِهِ، فَرُبَّمَا أَفْضَى إِلَى تَشْعِيبٍ مُنَافٍ لِلْغَرَضِ.
قَوْلُهُ:» وَمَا سِوَى ذَلِكَ «يَعْنِي تَخَلُّفَ حُكْمِ الْعِلَّةِ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ» نَاقِضٌ «لِلْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ يَقْتَضِي انْتِقَاضَهَا بِمُطْلَقِ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا، تُرِكَ
(3/333)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَلِكَ فِي الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَفِي غَيْرِهَا يَكُونُ نَاقِضًا عَمَلًا بِالْأَصْلِ.
وَقَوْلُهُ:» وَفِي الْعِلَّةِ الْخِلَافُ السَّالِفُ «أَيْ: وَإِذَا انْتَقَضَتْ بِمَا سِوَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَفِيهَا الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ، وَهِيَ الْمَذَاهِبُ الْأَرْبَعَةُ، هَلْ تَبْقَى حُجَّةً مُطْلَقًا أَوْ لَا؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ التَّخَلُّفُ لِمَانِعٍ، أَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً وَمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَقَدْ سَبَقَ هَذَا وَتَوْجِيهُهُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.
قَوْلُهُ:» أَمَّا الْمَعْدُولُ عَنِ الْقِيَاسِ، فَإِنْ فُهِمَتْ عِلَّتُهُ «إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: الْمَعْدُولُ عَنِ الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ مَعْنَاهُ، أَيْ: يُعْقَلُ الْمَعْنَى الَّذِي عُدِلَ عَنِ الْقِيَاسِ لِأَجْلِهِ، أَوْ لَا، فَإِنْ فَهَمْنَا عِلَّتَهُ، جَازَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ، كَقِيَاسِ عَرِيَّةِ الْعِنَبِ عَلَى» عَرِيَّةِ «الرُّطَبِ» فَنُجِيزُ بَيْعَ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ رُخْصَةً لِلنَّاسِ، وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ عَرِيَّةَ الرُّطَبِ لِهَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَتْ، وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، وَكَقِيَاسِ «أَكْلِ بَقِيَّةِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى» أَكْلِ «الْمَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ» بِجَامِعِ اسْتِبْقَاءِ النَّفْسِ بِذَلِكَ، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ الْمُكْرُهُ عَلَى أَكْلِهَا، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُضْطَّرِ إِلَى التَّغَذِّي بِهَا بِالْجَامِعِ.
وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ عِلَّتُهُ، أَيْ: عِلَّةُ الْمَعْدُولِ عَنِ الْقِيَاسِ، لَمْ نُلْحِقْ بِهِ غَيْرَهُ، لِأَنَّ مُعْتَمِدَ الْإِلْحَاقِ فَهْمُ الْمَعْنَى، «وَحَيْثُ لَا فَهْمَ، فَلَا قِيَاسَ» وَذَلِكَ «كَتَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإِجْزَاءِ جَذَعَةِ الْمَعْزِ» فِي الْأُضْحِيَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وَتَخْصِيصِ «خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِكَمَالِهِ بَيِّنَةً» أَيْ:
(3/334)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِإِقَامَةِ شَهَادَتِهِ مَقَامَ شَهَادَتَيْنِ.
أَمَّا حَدِيثُ أَبِي بُرْدَةَ، فَرَوَاهُ الشَّعْبِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَوْمِ نَحْرٍ، فَقَالَ: لَا يَذْبَحَنَّ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُصَلِّيَ. قَالَ: فَقَامَ خَالِيَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا يَوْمٌ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنِّي عَجَّلْتُ نُسُكِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَأَهْلَ دَارِي وَجِيرَانِي، قَالَ: فَأَعِدْ ذِبْحًا آخَرَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي عَنَاقُ لَبَنٍ، وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ أَفَأَذْبَحُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ، وَلَا تُجْزِئُ جَذَعَةٌ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ خُزَيْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا أَحَدٌ، فَلَمَّا ذَهَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَأْتِيَهُ بِالثَّمَنِ، سَاوَمَ الْأَعْرَابِيَّ رِجَالٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الْفَرَسِ، وَأَعْطَوْهُ أَكْثَرَ مِمَّا بَاعَهُ بِهِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ: إِنْ كُنْتَ تَشْتَرِي الْفَرَسَ، وَإِلَّا بِعْتُهُ مِنْ غَيْرِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَوَلَيِسَ قَدِ اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا، فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ بِعْتَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ تَشْهَدُ وَلَمْ تَحْضُرْنَا؟ فَقَالَ: شَهِدْتُ بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُصَدِّقُكَ فِي خَبَرِ السَّمَاءِ وَلَا نُصَدِّقُكَ بِأَخْبَارِ الْأَرْضِ! ، أَوْ كَلَامٌ هَذَا مَعْنَاهُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَتَهُ بِشَهَادَتَيْنِ.
وَهَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ مِمَّا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا، فَلَا يَلْحَقُ بِهَا غَيْرُ مَنْ خُصَّ بِهَا، وَكَذَا التَّفْرِيقُ «بَيْنَ بَوْلِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ» ; لَمَّا لَمْ يُعْقَلِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، لَمْ
(3/335)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُلْحَقْ بِهِمَا ذُكُورُ صِغَارِ الْبَهَائِمِ وَإِنَاثُهَا.
قُلْتُ: الْمَقْصُودُ هَاهُنَا أَنَّا حَيْثُ فَهِمْنَا الْمَعْنَى، أَلْحَقْنَا، وَحَيْثُ لَا فَلَا.
أَمَّا بَوْلُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، فَقَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَوْلُ.
وَأَمَّا تَكْمِيلُ خُزَيْمَةَ بَيِّنَةً، فَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَحْسَبُهُ الْخَطَابِيَّ فِي «مَعَالِمِ السُّنَنِ» أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُكْمِلْهُ بَيِّنَةً وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا حَكَمَ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعِلْمِهِ.
قُلْتُ: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّاوِيَ لَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمْضَى الْحُكْمَ مُقَارِنًا لِشَهَادَتِهِ عَلَى وَفْقِهَا، ظَنَّ أَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ شَاهِدَيْنِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/336)
________________________________________
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا عَدَمِيًّا، نَحْوَ: لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
لَنَا: الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَةٌ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ عَدَمِيًّا، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ جَعْلُ نَفْيِ شَيْءٍ أَمَارَةً عَلَى وُجُودِ آخَرَ.
قَالُوا: لَوْ جَازَ لَلَزِمَ الْمُجْتَهِدَ سَبْرُ الْأَعْدَامِ.
قُلْنَا: يَلْزَمُهُ سَبْرُ السُّلُوبِ، وَإِنْ سُلِّمَ فَلِعَدَمِ تَنَاهِيهَا، لَا لِعَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا عِلَّةً.
وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ خِلَافًا لِقَوْمٍ.
لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ جَعْلُ شَيْئَيْنِ أَمَارَةً عَلَى حُكْمٍ، كَاللَّمْسِ وَالْبَوْلِ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ، وَتَحْرِيمِ الرَّضِيعَةِ لِكَوْنِهِ عَمَّهَا وَخَالَهَا بِإِرْضَاعِ أُخْتِهِ وَزَوْجَةِ أَخِيهِ لَهَا.
قَالُوا: لَا يَجْتَمِعُ عَلَى أَثَرٍ مُؤَثِّرَانِ.
قُلْنَا: عَقْلًا لَا شَرْعًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا عَدَمِيًّا» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا ثُبُوتِيًّا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَمْرًا عَدَمِيًّا، أَيْ: هِيَ صِفَةٌ، أَوِ اسْمٌ، أَوْ حُكْمٌ، كَقَوْلِنَا: «لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ» فَلَا يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، «لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ» وَنَحْوَ ذَلِكَ، «خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ» حَيْثُ قَالُوا: لَا يَجُوزُ.
«لَنَا» عَلَى الْجَوَازِ: أَنَّ الْعِلَّةَ «الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَةٌ» أَيْ: عَلَامَةٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ، «فَجَازَ أَنْ تَكُونَ» أَمْرًا «عَدَمِيًّا، إِذْ لَا يُمْتَنَعُ» أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ جَعَلَ
(3/337)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَفْيَ أَمْرٍ عَلَامَةَ وُجُودِ أَمْرٍ آخَرَ، كَمَا جَعَلَ تَرْكَ الصَّلَاةِ عَلَامَةً عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ وَالضَّرْبِ، أَوِ الْحَبْسِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الْأَنْعَامِ: 121] ، فَجَعَلَ انْتِفَاءَ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَامَةً عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَهُوَ مُبَاحٌ لَكُمْ، فَهُوَ تَعْلِيقٌ لِلْإِبَاحَةِ عَلَى عَدَمِ الْمَضَرَّةِ، فَهَذِهِ أَمَارَاتٌ عَدَمِيَّةٌ عَلَى أَحْكَامٍ ثُبُوتِيَّةٍ.
قُلْتُ: فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ نَظَرٌ، لِأَنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ فِعْلٌ ثُبُوتِيٌّ، وَهُوَ امْتِنَاعُ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا.
«قَالُوا» يَعْنِي احْتَجَّ الْخَصْمُ بِأَنْ قَالَ: «لَوْ جَازَ» أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ أَمْرًا عَدَمِيًّا; «لَلَزِمَ الْمُجْتَهِدُ» إِثْبَاتَهَا بِالسَّبْرِ; «سَبْرِ الْأَعْدَامِ» جَمِيعِهَا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَمْرًا عَدَمِيًّا.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» أَيْ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّا نَلْتَزِمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ «يَلْزَمُهُ سَبْرُ السُّلُوبِ» أَيْ: سَبْرُ الْأُمُورِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي هِيَ فِي مَظَانِّ الْعِلَّةِ، نَحْوَ: لَيْسَ بِكَذَا وَلَا كَذَا، كَمَا سَبَقَ فِي الْمِثَالِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ.
أَمَّا جَمِيعُ الْأَعْدَامِ يَعْنِي كُلَّ أَمْرٍ مَعْدُومٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ سَبْرُهُ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا لَا تُعَلَّقُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الشَّرْعِ، نَحْوٌ مِمَّا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ.
قَوْلُهُ: «وَإِنْ سُلِّمَ» أَيْ: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ سَبْرُ الْأُمُورِ الْعَدَمِيَّةِ لَكِنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَتِهَا وَعَدَمِ تَنَاهِيهَا، لَا لِكَوْنِهَا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً.
(3/338)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ الْخَصْمُ وَجْهَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ الْمَعْنَى الْجَالِبُ لِلْمَصْلَحَةِ، أَوِ النَّافِي لِلْمَفْسَدَةِ، وَالْأَمْرُ الْعَدَمِيُّ لَا يَصِحُّ اشْتِمَالُهُ عَلَى ذَلِكَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ فَرْعُ التَّمْيِيزِ، أَيْ: لَا يَكُونُ عِلَّةً إِلَّا مَا كَانَ مُمَيَّزًا فِي نَفْسِهِ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ لَا تَمْيِيزَ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ عِلَّةً.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَعْنَى اشْتِمَالِ الْعِلَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ هُوَ نَفْيُ الِاقْتِرَانِ الْوُجُودِيِّ، أَيْ: إِذَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ، وُجِدَتِ الْحِكْمَةُ، وَهَذَا مُمْكِنٌ فِي التَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِ، أَوْ أَنَّ الْحِكْمَةَ تُقَارِنُهُ. أَمَّا إِنْ تَخَيَّلَ السَّائِلُ أَنَّ اشْتِمَالَ الْعِلَّةِ عَلَى الْحِكْمَةِ كَاشْتِمَالِ الظَّرْفِ عَلَى الْمَظْرُوفِ حَتَّى يَمْتَنِعَ ذَلِكَ; فَهَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْعَدَمَ الَّذِي يَقَعُ التَّعْلِيلُ بِهِ لَابُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَدَمَ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَيَكُونُ مُتَمَيِّزًا بِتَمَيُّزِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: عَدَمُ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ، وَعَدَمُ التَّنْجِيسِ عِلَّةُ التَّطْهِيرِ، وَعَدَمُ الرُّخْصَةِ عِلَّةُ الْتِزَامِ الْعَزِيمَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَتَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ» أَيْ: وَيَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَّتَيْنِ مَعًا «خِلَافًا لِقَوْمٍ» .
قَالَ الْآمِدِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَلٍ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِعِلَّةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ; هَلْ يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مَعًا؟ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ.
(3/339)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفَصَلَ الْغَزَالِيُّ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِي الْعِلَلِ الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْمُخْتَارُ مَنْعُهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا التَّفْصِيلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَهُوَ مُرَادُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ مِنْ إِطْلَاقِهِ بِدَلِيلِ سِيَاقِ كَلَامِهِ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ.
«لَنَا» أَيْ: عَلَى جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ فَأَكْثَرَ، أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ وَمُعَرِّفَاتٌ، وَحِينَئِذٍ «لَا يَمْتَنِعُ» أَنْ يَجْعَلَ الشَّارِعُ «شَيْئَيْنِ أَمَارَةً عَلَى حُكْمٍ، كَاللَّمْسِ وَالْبَوْلِ» عَلَامَةً «عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ، وَتَحْرِيمِ الرَّضِيعَةِ» عَلَى الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، «لِكَوْنِهِ عَمَّهَا وَخَالَهَا» بِأَنْ تُرْضِعَهَا أُخْتُهُ، فَيَكُونُ خَالَهَا، لِأَنَّهَا بِنْتُ أُخْتِهِ مِنَ الرَّضَاعِ، وَتُرْضِعُهَا زَوْجَةُ أَخِيهِ بِلَبَنِ أَخِيهِ، فَيَكُونُ عَمَّهَا، لِأَنَّهَا بِنْتُ أَخِيهِ مِنَ الرَّضَاعِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُ تَحْرِيمِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ بِالصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِدَادِ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ تَحْرِيمِهِ بِالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ، وَتَعْلِيلُ وُجُوبِ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ وَالْمُحَارَبَةِ، وَتَحْرِيمُ الِاسْتِجْمَارِ بِالرَّوْثِ النَّجِسِ لِنَجَاسَتِهِ، وَكَوْنِهِ طَعَامَ إِخْوَانِنَا مِنَ الْجِنِّ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ لَا مَانِعَ مِنْهُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَقَدْ وَقَعَ شَرْعًا، فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» يَعْنِي الْمَانِعِينَ لِذَلِكَ: لَوْ عُلِّلَ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ بِعِلَّتَيْنِ، لَاجْتَمَعَ عَلَى الْأَثَرِ الْوَاحِدِ مُؤَثِّرَانِ، لَكِنَّهُ «لَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْأَثَرِ» الْوَاحِدِ مُؤَثِّرَانِ، فَلَا يَجُوزُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْأَثَرِ مُؤَثِّرَانِ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُؤَثِّرَيْنِ اسْتَقَلَّ بِإِيجَادِ الْأَثَرِ، فَإِنْ أَثَّرَا فِيهِ مَعًا، لَزِمَ الِاسْتِغْنَاءُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِهِمَا. هَذَا خَلْفٌ، وَإِنْ أَثَّرَا فِيهِ مُتَعَاقِبَيْنِ، فَهُوَ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالْأَوَّلِ، وَالثَّانِي لَيْسَ بِمُؤْثِرٍ لِعَدَمِ الْقَابِلِ لِتَأْثِيرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِيجَادِ الْأَثَرِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءُ
(3/340)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُؤَثِّرِ، لَا الْمُؤَثِّرُ الْكَامِلُ، بَلْ هُمَا جَمِيعًا الْمُؤَثِّرُ فِي نَقْضِهِ. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَقَطْ، فَلَا عِلَّتَيْنِ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِمَّا عَلَى التَّعَاقُبِ فَكَذَلِكَ، أَوْ مَعًا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَنْتَقِضَ بِأَحَدِهِمَا مَعَ فَرْضِ انْتِقَاضِهِ بِهِمَا، وَهُوَ تَنَاقُضٌ مُحَالٌ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا: عَقْلًا لَا شَرْعًا» . هَذَا جَوَابُ مَا ذَكَرُوهُ.
وَتَقْرِيرُهُ: إِنَّمَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ مُؤَثِّرِينَ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ فِي الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ، «لِمَا ذَكَرْنَا» قَبْلُ مِنْ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ وَمُعَرِّفَاتٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ عَلَامَتَانِ وَعَلَامَاتٍ، وَمُعَرِّفَانِ وَمُعَرِّفَاتٍ، كَمَا يُعْرَفُ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ، وَكَمَا يُعْرَفُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ مَعْرِفَةَ الْمُؤَثِّرِ بِالْأَثَرِ، كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا مُؤَثِّرَاتٌ فِي مَعْلُولَاتِهَا، فَلَا يَجْتَمِعُ عَلَى الْمَعْلُولِ مِنْهَا عِلَّتَانِ، كَالتَّحَرُّكِ لَا يَكُونُ فِي الْجَوْهَرِ الْوَاحِدِ بِحَرَكَتَيْنِ، وَكَسْرِ الْإِنَاءِ لَا يَكُونُ بِكَسْرَيْنِ، وَاسْوِدَادِ الْجِسْمِ لَا يَكُونُ بِتَسْوِيدَيْنِ لِلتَّقْرِيرِ الْمَذْكُورِ.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُؤَثِّرَتَيْنِ أَعْنِي الثَّابِتَتَيْنِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ وَالْمُسْتَنْبِطَتَيْنِ، هُوَ أَنَّ الْمُسْتَنْبَطَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِالسَّبْرِ، فَإِذَا أُضِيفَ الْحُكْمُ
(3/341)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّرْعِيُّ إِلَى أَوْصَافٍ، وَجَبَ جَعْلُ جَمِيعِهَا عِلَّةً وَاحِدَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جُزْءُ عِلَّةٍ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهَا بِالْعِلِّيَّةِ حَتَّى يَنُصَّ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ، فَيَثْبُتَ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِي «جَدَلِهِ» فِي مَنْعِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ كَلَامًا طَوِيلًا، وَأَنَا أَذْكُرُهُ بِمَعْنَاهُ مُلَخِّصًا مِنْهُ مَا أَمْكَنَ مَعَ الْبَيَانِ:
وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ إِمَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، أَوْ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ.
فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِلْحُكْمِ الْوَاحِدِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعِثَانِ، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا إِنْ أُضِيفَ الْحُكْمُ إِلَيْهِمَا، فَهُمَا بَاعِثٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ أُضِيفَ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَالْآخَرُ لَيْسَ بِبَاعِثٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَ لِلْحُكْمِ الْوَاحِدِ بَاعِثَانِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَّفِقَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ يَخْتَلِفَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ يَتَّفِقَا مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَا مِنْ وَجْهٍ.
فَإِنِ اتَّفَقَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَلَا تَغَايُرَ، إِذِ التَّغَايُرُ بِدُونِ مُمَيِّزٍ مُحَالٌ، فَهُمَا بَاعِثٌ وَاحِدٌ.
وَإِنِ اخْتَلَفَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، اسْتَحَالَ اتِّفَاقُهُمَا فِي اقْتِضَاءِ حُكْمٍ وَاحِدٍ، إِذِ اخْتِلَافُ الْمُؤَثِّرِ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الْأَثَرِ.
وَإِنِ اتَّفَقَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَالتَّعْلِيلُ إِنْ وَقَعَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ مَا بِهِ الِاتِّفَاقُ فَالْعِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ وَقَعَ بِمَا بِهِ الِاخْتِلَافُ; أَوْ بِمَا بِهِ الِاتِّفَاقُ وَالِاخْتِلَافُ جَمِيعًا، امْتَنَعَ اقْتِضَاؤُهُمَا لِحُكْمٍ وَاحِدٍ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي
(3/342)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنْفُسِهِمَا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْعَلَامَةِ: فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْأَمَارَتَيْنِ، إِنْ عُرِفَ الْحُكْمُ بِهِمَا، فَهُمَا أَمَارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ عُرِفَ بِإِحْدَاهُمَا; فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأُخْرَى.
أَمَّا إِنِ اخْتَلَفَ مَحَالُّ الْحُكْمِ أَوْ جِهَاتُهُ; فَلَا مَانِعَ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لِتَعَدُّدِ مَحَالِّهِ وَجِهَاتِهِ.
قَالَ: وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ عَلَيَّ بِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ تَشْهَدُ بِخِلَافِهِ كَالْحَائِضِ الْمُعْتَدَّةِ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا، وَكَذَا الْوَالِدَةُ الْمُرْضِعَةُ يَحْرُمُ نِكَاحُهَا بِالْوِلَادَةِ وَالرِّضَاعِ، وَالْقَاتِلُ الْمُرْتَدُّ يَجِبُ قَتْلُهُ، وَالصِّغَرُ وَالْجُنُونُ يُثْبِتَانِ الْوِلَايَةَ، وَاللَّمْسُ وَالْبَوْلُ وَالتَّغْوِيطُ مَعًا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَالْحُكْمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ مُتَّحِدٌ، وَالْعِلَلُ مُتَعَدِّدَةٌ، إِذْ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَجْمُوعَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، لِاسْتِقْلَالِ الْبَعْضِ بِالْحُكْمِ إِذَا انْفَرَدَ، وَلَا إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، إِذْ هُوَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.
قَالَ: وَهُوَ مُنْدَفِعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ، وَهُوَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا امْتِنَاعَ التَّعْلِيلِ بِعِلَّتَيْنِ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَحَيْثُ يُتَخَيَّلُ جَوَازُهُ كَمَا فِي الصُّوَرِ الْمُسْتَرْوَحِ إِلَيْهَا، احْتُمِلَ تَعَدُّدُ الْحُكْمِ، وَاتِّحَادُ الْعِلَّةِ، أَوْ خُرُوجُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ عَنِ الِاعْتِبَارِ، وَنَظُنُّ خِلَافَ ذَلِكَ لِدِقَّةِ النَّظَرِ، وَلُطْفِ الْمَأْخَذِ، وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ لَا سَبِيلَ إِلَى مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الْمُتَيَقَّنِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ حَيْثُ التَّفْضِيلُ، وَهُوَ تَخْصِيصُ كُلِّ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ بِجَوَابٍ.
(3/343)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى; فَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ فِيهَا مَجَازٌ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ قُرْبَانُ الْآدَمِيِّ فِي وَطْءِ الْحَائِضِ، وَإِفْسَادُ الْعِبَادَةِ فِي وَطْءِ الْمُحْرِمَةِ، وَاخْتِلَاطُ النَّسَبِ فِي وَطْءِ الْمُعْتَدَّةِ، فَالْحُكْمُ مُتَعَدِّدٌ بِتَعَدُّدِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ; فَتَحْرِيمُ النِّكَاحِ اسْتَقَلَّتِ الْوِلَادَةُ دُونَ الرِّضَاعِ لِسَبْقِهَا عَلَيْهِ. وَحِينَئِذٍ لَا يُصَادِفُ مَحَلًّا يُحَرِّمُهُ، إِذْ تَحْرِيمُ الْمُحَرَّمِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.
وَأَمَّا الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ; فَقَتْلُ الْقَاتِلِ غَيْرُ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ، فَالْحُكْمُ مُتَعَدِّدٌ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفَانِ فِي الْأَحْكَامِ، فَيَسْقُطُ الْقَتْلُ قِصَاصًا بِالْعَفْوِ، دُونَ الْقَتْلِ بِالرِّدَّةِ، وَيَسْقُطُ الْقَتْلُ بِالرِّدَّةِ بِالتَّوْبَةِ دُونَ الْقَتْلِ قِصَاصًا، فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ بِالشَّخْصِيَّةِ لَعِلِّيَّتِهَا.
وَأَمَّا الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ; فَثُبُوتُ الْوِلَايَةِ مُضَافٌ إِلَى الصِّغَرِ لِسَبْقِهِ عَلَى الْجُنُونِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْوِلَادَةِ مَعَ الرِّضَاعِ، إِذْ لَا يُعْقَلُ الْجُنُونُ إِلَّا عِنْدَ التَّمْيِيزِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا بِشَرْطٍ فَاسِدٍ، أَوْ ثَمَنٍ مَجْهُولٍ، أُضِيفَ الْفَسَادُ إِلَى عَدَمِ الْمَحَلِّ لِسَبْقِهِ عَلَى الشَّرْطِ.
وَأَمَّا الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ; فَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: الْأَحْدَاثُ مُتَعَدِّدَةٌ، حَتَّى لَوْ نَوَى رَفْعَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لَمْ يَرْتَفِعْ مَا عَدَاهُ، وَلَوِ اغْتَسَلَتْ حَائِضٌ جُنُبٌ لِلْحَيْضِ، حَلَّ وَطْؤُهَا دُونَ غَيْرِهِ لِبَقَاءِ الْجَنَابَةِ، فَالْحُكْمُ إِذًا مُتَعَدِّدٌ بِتَعَدُّدِ الْعِلَلِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْحَدَثَ وَاحِدٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُقَالَ: الْعِلَّةُ هِيَ الْمَجْمُوعُ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ
(3/344)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عِنْدَ الِانْفِرَادِ، كَمَا فِي سَرِقَةِ مِائَةِ دِينَارٍ مَثَلًا مَعَ الْقَطْعِ، فَإِنَّ مَجْمُوعَهَا عِلَّةٌ لَهُ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ رُبْعِ دِينَارٍ مِنْهَا مُسْتَقِلًّا بِهِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَامًّا لِهَذَا الْجَوَابِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ.
قُلْتُ: فَقَدْ رَأَيْتُ تَجَاذُبَ الْأَدِلَّةِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَالْكَلَامُ إِلَى هَاهُنَا فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ، وَبِهِ تَمَّ الْكَلَامُ فِي شُرُوطِ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ الْأَرْبَعَةِ، وَرُبَّمَا وُجِدَ فِيهِ بَعْضُ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرَارِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ حِرْصًا عَلَى الْبَيَانِ.
(3/345)
________________________________________
ثُمَّ قَالَ النَّظَّامُ: الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ تُوجِبُ الْإِلْحَاقَ لَا قِيَاسًا بَلْ لَفْظًا وَعُمُومًا، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا، وَبَيْنَ: حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ، لُغَةً.
وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إِلَّا تَحْرِيمَهَا خَاصَّةً، فَلَوْلَا الْقِيَاسُ لَاقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ، كَأَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ، وَفَائِدَتُهُ زَوَالُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفَسَادُ الْقِيَاسِ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا، وَبِإِخْطَاءِ عِلَّتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِزِيَادَةِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ وَنَقْصِهَا، وَبِتَوَهُّمِ وَجُودِهَا فِي الْفَرْعِ وَلَيْسَتْ فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَالَ النَّظَّامُ» إِلَى آخِرِهِ. يَعْنِي أَنَّ النَّظَّامَ زَعَمَ أَنَّ «الْعِلَّةَ الْمَنْصُوصَةَ» أَيْ: الثَّابِتَةَ بِالنَّصِّ «تُوجِبُ» إِلْحَاقَ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَالْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ، أَيْ: الْإِلْحَاقُ مُسْتَفَادٌ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، لَا مِنَ الْقِيَاسِ، «إِذْ لَا فَرْقَ» فِي اللُّغَةِ «بَيْنَ» قَوْلِ الْقَائِلِ: «حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا، وَبَيْنَ» قَوْلِهِ: «حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ» فَهَذَا مَعْنَى الْعُمُومِ الْمَعْنَوِيِّ.
قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» أَيْ: وَرُدَّ عَلَى النَّظَّامِ قَوْلُهُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ اسْتِوَاءَ الصِّيغَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَلْ قَوْلُهُ: حَرَّمْتُ كُلَّ مُشْتَدٍّ يُفِيدُ الْعُمُومَ لَعِلِّيَّتِهِ، وَقَوْلُهُ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا، لَا يُفِيدُ إِلَّا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ خَاصَّةً، فَلَوْلَا الْإِلْحَاقُ الْقِيَاسِيُّ، لَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى تَحْرِيمِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ: «أَعْتَقْتُ غَانِمًا لِسَوَادِهِ» يَخْتَصُّ
(3/346)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعِتْقُ بِغَانِمٍ، وَالنَّصُّ عَلَى عِلَّةِ الْإِعْتَاقِ لَا يُوجِبُ عُمُومًا لَفْظِيًّا كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا.
قَوْلُهُ: «وَفَائِدَتُهُ زَوَالُ التَّحْرِيمِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ» . جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، تَقْدِيرُهُ: أَنَّ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ فِي قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِشِدَّتِهَا، وَنَحْوِهِ لَوْ لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ، بَلْ لَهُ فَائِدَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: زَوَالُ الْحُكْمِ عِنْدَ زَوَالِ الْعِلَّةِ، كَزَوَالِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ، إِذْ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَنْصِبَ شِدَّةَ الْخَمْرِ خَاصَّةً عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ، دُونَ سَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ تَعَبُّدًا، وَلِخَاصَّةٍ يَعْلَمُهَا فِيهَا، وَيَكُونُ فَائِدَةُ النَّصِّ عَلَى الْعِلَّةِ مَا ذَكَرْنَا.
الثَّانِيَةُ: نَحْوُ مَا سَبَقَ فِي فَائِدَةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ مِنْ سُرْعَةِ انْقِيَادِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى الِامْتِثَالِ لِظُهُورِ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَفَسَادُ الْقِيَاسِ» إِلَى آخِرِهِ لَمَّا بَيَّنَ شُرُوطَ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ وَمُصَحِّحَاتِهِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُفْسِدُهُ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: «أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا» فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيَكُونُ الْقَائِسُ قَدْ عَلَّلَ مَا لَيْسَ بِمُعَلَّلٍ، كَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلَّةَ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِلَحْمِ الْجَزُورِ هُوَ أَنَّهُ لِشِدَّةِ حَرَارَتِهِ وَدَسَمِهِ مُرْخٍ لِلْجَوْفِ وَالْأَمْعَاءِ وَمَخْرِجُ الْحَدَثِ، فَصَارَ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِخُرُوجِهِ، فَأُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ كَالنَّوْمِ، ثُمَّ أُلْحِقَ بِهِ كُلُّ طَعَامٍ مُرْخٍ لِلْجَوْفِ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ تَعَبُّدٌ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَقَضَ لَحْمُ الْجَزُورِ الْوُضُوءَ
(3/347)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعَ إِبَاحَتِهِ، فَاللُّحُومُ الْمُحَرَّمَةُ كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ نَاقِضَةً، فَجَعَلَ اسْتِفَادَةَ الْحُكْمِ فِي اللُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا، لِأَنَّ شَرْطَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ فَهْمُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، كَإِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ قِيَاسًا، وَالْحُكْمُ فِي لَحْمِ الْجَزُورِ لَا يَظْهَرُ لَهُ عِلَّةٌ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَبُّدٌ.
الثَّانِي: أَنْ يُخْطِئَ الْقَائِسُ عِلَّةَ الْحُكْمِ «عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى» فِي الْأَصْلِ، مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الطُّعْمُ، فَيُلْحِقَ بِهِ الْخَضْرَاوَاتِ وَسَائِرَ الْمَطْعُومَاتِ، وَتَكُونُ عِلَّتُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْكَيْلَ أَوِ الِاقْتِيَاتَ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ عِلَّةَ وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ فِي الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ الْبَكَارَةُ، فَيُلْحِقَ بِهَا الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ، أَوِ الصِّغَرَ، فَيُلْحِقَ بِهَا الصَّغِيرَةَ الثَّيِّبَ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ عِلَّةَ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ تَبْدِيلُ الدِّينِ، فَيُلْحِقَ بِهِ الْمَرْأَةَ، أَوْ إِعَانَةُ الْكُفَّارِ فَلَا يُلْحِقُهَا بِهِ، وَالْعِلَّةُ خِلَافُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَزِيدَ فِي أَوْصَافِ الْعِلَّةِ أَوْ يَنْقُصَ مِنْهَا، مِثْلَ أَنْ يُعَلِّلَ الْحَنْبَلِيُّ بِأَنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقَوَدَ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: نَقَصْتَ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ وَصْفًا، وَهُوَ الْآلَةُ الصَّالِحَةُ السَّارِيَةُ فِي الْبَدَنِ، يَعْنِي الْمُحَدَّدَ، فَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ الْمُثَقَّلِ بِهِ، أَوْ يُعَلِّلُ الْحَنَفِيُّ بِذَلِكَ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: زِدْتَ فِي أَوْصَافِ الْعِلَّةِ وَصْفًا لَيْسَ مِنْهَا، وَهُوَ صَلَاحِيَّةُ الْآلَةِ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ هِيَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ فَقَطْ، فَيَلْحَقُ بِهِ الْمُثَقَّلُ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي كَفَّارَةِ رَمَضَانَ: إِفْسَادٌ لِلصَّوْمِ، فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ،
(3/348)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَالَ الْحَنْبَلِيُّ: نَقَصْتَ وَصْفًا خَاصًّا مِنَ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ إِفْسَادٌ لِلصَّوْمِ الْوَاجِبِ بِالْجِمَاعِ، فَيَخْرُجُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ عَنْ كَوْنِهِ مُوجِبًا لَهَا.
الرَّابِعُ: أَنْ يَتَوَهَّمَ وُجُودَ الْعِلَّةِ «فِي الْفَرْعِ وَلَيْسَتْ فِيهِ» مِثْلَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْخِيَارَ وَنَحْوَهُ مَكِيلٌ، فَيُلْحِقَهُ بِالْبُرِّ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا، أَوْ بِالْعَكْسِ، مِثْلَ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْأُرْزَ مَوْزُونٌ، فَيُلْحِقَهُ بِالْخَضْرَاوَاتِ فِي عَدَمِ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِجَامِعِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ.
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ، فَلَا يَصِحُّ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْقِيَاسُ وَإِنْ أَصَابَ، كَمَا لَوْ أَصَابَ بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ وَالْحَدْسِ، أَوْ أَصَابَ الْقِبْلَةَ عِنْدَ اشْتِبَاهِهَا بِدُونِ اجْتِهَادٍ.
قُلْتُ: هَذَا مِمَّا يَمْنَعُ جَوَازَ الْقِيَاسِ، وَقَدْ يُفْضِي إِلَى إِفْسَادِهِ بِتَقْدِيرِ الْخَطَأِ فِي دَلِيلِ تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ فَسَادُ الْقِيَاسِ، لِجَوَازِ أَنْ يُصِيبَ، فَيَصِحُّ الْقِيَاسُ، وَرُبَّمَا اتَّجَهَ جَوَازُ الْقِيَاسِ حِينَئِذٍ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِيمَنْ أَصَابَ الْقِبْلَةَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ.
قَالَ: وَزَادَ آخَرُونَ احْتِمَالًا آخَرَ، وَهُوَ الْخَطَأُ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِ [لِأَنَّ صِحَّةَ الْقِيَاسِ] لَيْسَتْ مَظْنُونَةً حَتَّى يَتَطَرَّقَ إِلَيْهَا هَذَا الِاحْتِمَالُ، بَلْ هِيَ مَقْطُوعٌ بِهَا كَالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ.
قَالَ: وَهَذِهِ الْمَثَارَاتُ لِلْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ إِنَّمَا تَسْتَقِيمُ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، أَمَّا مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَلَا غَلَطَ فِي الْقِيَاسِ عَلَى رَأْيِهِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا الْخَطَأُ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/349)
________________________________________
تَنْبِيهٌ: إِلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ مَقْطُوعٌ بِهِ وَمَظْنُونٌ:
فَالْأَوَّلُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ، وَشَرْطُهُ مَا سَبَقَ، نَحْوَ: إِذَا قُبِلَ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ فَثَلَاثَةٌ أَوْلَى، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بِالْعَوْرَاءِ فَبِالْعَمْيَاءِ أَوْلَى، بِخِلَافِ إِذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ، وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ، فَالْكَافِرُ وَالْعَمْدُ أَوْلَى، فَإِنَّهُ مَظْنُونٌ لِإِمْكَانِ الْفَرْقِ بِمَا سَبَقَ.
الثَّانِي: أَنْ يَسْتَوِيَا كَسِرَايَةِ الْعِتْقِ فِي الْعَبْدِ، وَالْأَمَةُ مِثْلُهُ، وَمَوْتِ الْحَيَوَانِ فِي السَّمْنِ، وَالزَّيْتُ مِثْلُهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَنْ لَا أَثَرَ لِلْفَارِقِ، وَطَرِيقُ الْإِلْحَاقِ لَا فَارِقَ إِلَّا كَذَا، وَلَا أَثَرَ لَهُ، أَوْ يُبَيِّنُ الْجَامِعُ وُجُودَهُ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا، وَفِيمَا قَبْلَهُ خِلَافٌ، نَحْوَ: السُّكْرُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ، وَإِثْبَاتُ الْأَوْلَى بِالشَّرْعِ فَقَطْ، إِذْ هِيَ وَضْعِيَّةٌ، وَالثَّانِيَةُ بِالْعَقْلِ وَالْعُرْفِ وَالشَّرْعِ.
وَالْمَظْنُونُ مَا عَدَا ذَلِكَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَنْبِيهٌ: إِلْحَاقُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ " إِلَى آخِرِهِ، يَعْنِي الْقِيَاسَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: " مَقْطُوعٍ بِهِ وَمَظْنُونٍ " أَيْ: مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ، تَارَةً تَكُونُ قَطْعِيَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ ظَنِّيَّةً، " فَالْأَوَّلُ " وَهُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَيْضًا:
" أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ " وَهُوَ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَمَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، " وَشَرْطُهُ مَا سَبَقَ " فِي مَوْضِعِهِ، نَحْوَ " قَوْلِنَا: " إِذَا قُبِلَ شَهَادَةُ
(3/350)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اثْنَيْنِ " فَشَهَادَةُ " ثَلَاثَةٍ أَوْلَى " لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ فِيهِمْ وَزِيَادَةً، " وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بِالْعَوْرَاءِ، فَبِالْعَمْيَاءِ أَوْلَى " لِأَنَّ فِي الْعَمْيَاءِ الْعَوْرَاءَ أَوْ مَعْنَاهَا وَزِيَادَةً. وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَصِحَّ بِالْعَرْجَاءِ، فَمَقْطُوعَةُ الرِّجْلَيْنِ أَوْلَى، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَدَّوُا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَوُجُوبُ رَدِّ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَوْلَى، وَهُوَ كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آلِ عِمْرَانَ: 75] ، فَعَدَمُ رَدِّ الْقِنْطَارِ أَوْلَى، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ، اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ فَأَثْبَتَ نَقْضَ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ; فَبِسَائِرِ مُزِيلَاتِ الْعَقْلِ كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ وَالسُّكْرِ أَوْلَى. وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا قِيَاسًا، وَهُوَ " بِخِلَافِ " قَوْلِنَا ": " إِذَا رُدَّتْ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ " فَشَهَادَةُ الْكَافِرِ أَوْلَى بِالرَّدِّ، لِأَنَّ الْكُفْرَ فِسْقٌ وَزِيَادَةٌ، وَإِذَا " وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ فِي " قَتْلِ " الْخَطَأِ " فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى، لِأَنَّ فِيهِ مَا فِي الْخَطَأِ وَزِيَادَةَ الْعُدْوَانِ، وَإِذَا أُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنَ الْكِتَابِيِّ، فَمِنَ الْوَثَنِيِّ أَوْلَى، لِأَنَّ فِيهِ مَا فِي الْكِتَابِيِّ مِنَ الْكُفْرِ مَعَ زِيَادَةِ كُفْرٍ وَجَهْلٍ، فَإِنَّ هَذَا الْقَبِيلَ " مَظْنُونٌ لِإِمْكَانِ الْفَرْقِ " فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ بَيْنَ الْفَاسِقِ وَالْكَافِرِ فِي الشَّهَادَةِ، وَبَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي الْكَفَّارَةِ " بِمَا سَبَقَ " فِي فَحْوَى الْخِطَابِ، وَبَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْوَثَنِيِّ بِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ نَوْعُ احْتِرَامٍ وَتَخْفِيفٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَثَنِيُّ بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ فِي ذَلِكَ احْتِرَامًا لِكِتَابِهِ، وَهَذَا - أَعْنِي
(3/351)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْإِلْحَاقَ الْمَظْنُونَ - مُشَبَّهٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَمُتَعَلِّقٌ بِأَذْيَالِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ قَاطِعٌ، وَهَذَا ظَنِّيٌ كَمَا قَدْ رَأَيْتُ، وَبِالْجُمْلَةِ بَيْنَهُمَا جَامِعٌ، وَهُوَ مُبَادَرَةُ الذِّهْنِ إِلَى أَوْلَوِيَّةِ الْفَرْعِ بِالْحُكْمِ، وَفَارِقٌ; وَهُوَ إِمْكَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي هَذَا الضَّرْبِ الثَّانِي دُونَ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ.
الضَّرْبُ " الثَّانِي ": مِنَ الْإِلْحَاقِ الْمَقْطُوعِ بِهِ " أَنْ يَسْتَوِيَا " يَعْنِي الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمَا، وَمُنَاسَبَتِهِمَا لَهُ، كَقَوْلِنَا: سَرَى " الْعِتْقُ فِي الْعَبْدِ، وَالْأَمَةُ مِثْلُهُ " إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِلذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَنَحْوِهِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَتَصْرُّفِهِ، إِذْ هُمَا وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَإِنْ كَانَ لِلذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي الْفَرْقِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ.
وَكَذَلِكَ " مَوْتُ الْحَيَوَانِ فِي السَّمْنِ " الْمَائِعِ يُنَجِّسُهُ، " وَالزَّيْتُ مِثْلُهُ " إِذِ الْمُؤَثِّرُ هُوَ الْجَامِعُ، وَهُوَ الْمَيَعَانُ الْمُصَحِّحُ لِسَرَايَةِ النَّجَاسَةِ، وَلَا أَثَرَ لِلْفَارِقِ بِكَوْنِ هَذَا سَمْنًا وَهَذَا زَيْتًا، لِأَنَّهُ فَرْقٌ لَفْظِيٌّ غَيْرُ مُنَاسِبٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَيُّمَا رَجُلٍ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ، فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِمَتَاعِهِ، فَنَقُولُ: الْمَرْأَةُ فِي مَعْنَى الرَّجُلِ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النِّسَاءِ: 25] ، فَنَقُولُ: الْعَبِيدُ فِي مَعْنَى الْإِمَاءِ فِي تَنْصِيفِ الْحَدِّ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ، إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. فَنَقُولُ: الْأَمَةُ إِذَا بِيعَتْ وَلَهَا مَالٌ فِي مَعْنَى الْعَبْدِ.
(3/352)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهَذَا يُسَمَّى الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، أَيْ: إِنَّ الْفَرْعَ فِيهِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، " وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى أَنْ لَا أَثَرَ لِلْفَارِقِ " وَيُسَمَّى إِلْغَاءَ الْفَارِقِ.
" وَطَرِيقُ الْإِلْحَاقِ " فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ: " لَا فَارِقَ " بَيْنَ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ " إِلَّا كَذَا " وَهُوَ " لَا أَثَرَ لَهُ " فَيَجِبُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْحُكْمِ.
مِثَالُهُ: لَا فَارِقَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ وَتَنْصِيفِ الْحَدِّ إِلَّا الذُّكُورِيَّةُ، وَلَا أَثَرَ لَهَا لِمَا ذَكَرْنَا، فَيَجِبُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي ذَلِكَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ " يُبَيِّنَ الْجَامِعَ " الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مَا هُوَ، وَيُبَيِّنَ " وُجُودَهُ فِي الْفَرْعِ " فَيُثْبِتَ الْحُكْمَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ كَذَا، وَهِيَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْفَرْعِ، فَيَجِبُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْحُكْمِ.
مِثَالُهُ: الْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْإِسْكَارُ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النَّبِيذِ، فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي التَّحْرِيمِ. " وَهُوَ " يَعْنِي هَذَا الطَّرِيقَ الثَّانِيَ، وَهُوَ بَيَانُ الْجَامِعِ فِي الْأَصْلِ، وَوُجُودُهُ فِي الْفَرْعِ هُوَ " الْمُتَّفَقُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا، وَفِيمَا قَبْلَهُ " وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ إِلْغَاءُ الْفَارِقِ فِيهِ " خِلَافٌ " هَلْ يُسَمَّى قِيَاسًا أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ اعْتِبَارُ شَيْءٍ بِغَيْرِهِ، أَوِ الْجَمْعُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ فِي بَيَانِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَوُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ. أَمَّا إِلْغَاءُ الْفَارِقِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِيهِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، إِنَّمَا الْمَوْجُودُ فِيهِ إِلْغَاءُ الْفَارِقِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ فِيهِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي.
قَوْلُهُ: " نَحْوُ: السُّكْرُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا مِثَالُ بَيَانِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَوُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي فِي الْإِلْحَاقِ الْمُسَمَّى قِيَاسًا بِالِاتِّفَاقِ، كَقَوْلِنَا: " السُّكْرُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ " فِي الْخَمْرِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي النَّبِيذِ،
(3/353)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَيَثْبُتُ التَّحْرِيمُ فِيهِ، " وَإِثْبَاتُ " الْمُقَدِّمَةِ " الْأُولَى " وَهِيَ قَوْلُنَا هَاهُنَا: السُّكْرُ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ " بِالشَّرْعِ فَقَطْ " أَيْ: إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِطَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، لِأَنَّهَا " وَضْعِيَّةٌ " أَيْ: مِمَّا وَضَعَهُ الشَّرْعُ، وَمَا اخْتَصَّ الشَّرْعُ بِوَضْعِهِ عِلَّةً وَعِلْمًا عَلَى الْحُكْمِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ جِهَتِهِ، وَإِثْبَاتُ الْمُقَدِّمَةِ " الثَّانِيَةِ " وَهِيَ تَحْقِيقُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ " بِالْعَقْلِ وَالْعُرْفِ وَالشَّرْعِ " لِأَنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِهَا فِي الْفَرْعِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ أَوْضَاعِ الشَّرْعِ، إِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ مِنَ الْمُجْتَهِدِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا فِيهِ عَقْلِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا، أَيْ: مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ أَوِ الْعُرْفِ أَوِ الشَّرْعِ، وَيَتَعَلَّقُ بِأَذْيَالِ هَذَا الضَّرْبِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ وَهُوَ مَظْنُونٌ، كَقَوْلِنَا: إِذَا أَضَافَ الْعِتْقَ إِلَى عُضْوٍ مُعَيَّنٍ، سَرَى، فَإِذَا أَضَافَهُ إِلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ، يَسْرِي أَيْضًا، وَالْجَامِعُ أَنَّ هَذَا بَعْضٌ، وَهَذَا بَعْضٌ، فَهَذَا فِي مَحَلِّ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، إِذْ شُيُوعُ الْبَعْضِ وَتَعْيِينُهُ مَثَارٌ لِفَرْقٍ مُنْقَدِحٍ فِي نَظَرِ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ.
فَيَحْصُلُ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِلْحَاقَ الْمَقْطُوعَ بِهِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا الْفَرْعُ أَوْلَى فِيهِ بِالْحُكْمِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ، ثُمَّ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: مَا الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، كَالضَّرْبِ مَعَ التَّأْفِيفِ، وَهُوَ فَحْوَى الْخِطَابِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، كَشَهَادَةِ الْكَافِرِ مَعَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَالْأَوَّلُ أَقْوَى مِنَ الثَّانِي.
(3/354)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا الْفَرْعُ فِيهِ مُسَاوٍ لِلْأَصْلِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُكْمِ، وَهُوَ أَيْضًا عَلَى قِسْمَيْنِ: مَا لَا يَنْقَدِحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي السِّرَايَةِ. الثَّانِي: مَا يَنْقَدِحُ فِي الْفَرْقِ، كَالْجُزْءِ الْمُشَاعِ مَعَ الْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ.
قَوْلُهُ: " وَالْمَظْنُونُ مَا عَدَا ذَلِكَ " أَيْ: مَا عَدَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ فَهُوَ مَظْنُونٌ كَالْأَقْيِسَةِ الشَّبِهِيَّةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
فَحَصَلَ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيَانُ أَصْنَافِ الْإِلْحَاقِ الْقِيَاسِيِّ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/355)
________________________________________
وَتَرْجِعُ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ إِلَى نَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوِ اسْتِنْبَاطٍ، وَتَثْبُتُ الْعِلَّةُ بِكُلٍّ مِنْهَا:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِثْبَاتُهَا بِدَلِيلٍ نَقْلِيٍّ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:
صَرِيحٌ فِي التَّعْلِيلِ نَحْوَ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} ، {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا} ، لِيَعْلَمَ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ} ، {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا} ، إِلَّا لِنَعْلَمَ، {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ، «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ» ، {لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} ، {حَذَرَ الْمَوْتِ} .
فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَا لَا يَصْلُحُ عِلَّةً، نَحْوَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ فَيَقُولُ: لِأَنِّي أَرَدْتُ، فَهُوَ مَجَازٌ، أَمَّا نَحْوَ: " إِنَّهَا رِجْسٌ " " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ " فَصَرِيحٌ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، وَإِنْ لَحِقَتْهُ الْفَاءُ نَحْوَ: فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا فَهُوَ آكَدُ، وَإِيمَاءٌ عِنْدَ غَيْرِهِ ".
الثَّانِي: الْإِيمَاءُ وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: ذِكْرُ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ بِالْفَاءِ، نَحْوَ: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا} ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} ، «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ، «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» إِذِ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، فَتُفِيدُ تَعَقُّبَ الْحُكْمِ الْوَصْفَ، وَأَنَّهُ سَبَبُهُ، إِذِ السَّبَبُ: مَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ، وَلِهَذَا تُفْهَمُ السَّبَبِيَّةُ مَعَ عَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ، نَحْوَ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» ، وَكَذَلِكَ لَفَظُ الرَّاوِي نَحْوَ: سَهَا فَسَجَدَ، وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ. اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمُ الْمُنَاسَبَةَ، وَإِلَّا لَفُهِمَ مِنْ: صَلَّى فَأَكَلَ، سَبَبِيَّةُ الصَّلَاةِ لِلْأَكْلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَتَرْجِعُ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ " إِلَى آخِرِهِ. لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَصْنَافِ الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ الْقَطْعُ وَالظَّنُّ، وَكَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ فِي قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَالْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ فِيهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلِ ثُبُوتِهَا الشَّرْعِيِّ،
(3/356)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
احْتَجْنَا إِلَى بَيَانِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.
وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ تَرْجِعُ، أَيْ: تَنْحَصِرُ فِي النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، لِأَنَّ النَّصَّ يَعُمُّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ أَعَمُّ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، فَانْحَصَرَتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ الْمُعْتَبَرَةُ فِي ذَلِكَ، وَالْعِلَّةُ الْقِيَاسِيَّةُ يَصِحُّ إِثْبَاتُهَا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعِلَّةِ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادٍ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ، بَلِ الْمُرَادُ إِثْبَاتُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعِلَّةِ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ: إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي النَّصِّ مَا يُثْبِتُهَا، فَفِي الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَفِي الِاسْتِنْبَاطِ، فَمَجْمُوعُ الْأَدِلَّةِ فِي الْإِثْبَاتِ مُقَابِلٌ لِمَجْمُوعِ الْعِلَلِ، وَقَدْ بَانَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ.
" الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ": يَعْنِي مِنْ أَقْسَامِ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ:
الدَّلِيلُ النَّقْلِيُّ، وَهُوَ يَعُمُّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، " وَهُوَ " يَعْنِي إِثْبَاتَ الْعِلَّةِ أَوِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ فِي إِثْبَاتِهَا " ضَرْبَانِ ":
أَحَدُهُمَا: " صَرِيحٌ فِي التَّعْلِيلِ " أَيْ: فِي بَيَانِ كَوْنِ الْمَذْكُورِ عِلَّةً، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ أَوْ مَشْهُورًا فِيهِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ، " نَحْوَ " قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الْحَشْرِ: 7] ، أَيْ: إِنَّمَا جَعَلَ مَصْرِفَهُ هَذِهِ الْجِهَاتِ لِئَلَّا يَتَدَاوَلَهُ الْأَغْنِيَاءُ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ، فَيَفُوتُ نَفْعُهُ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَيْهِ، وَلَا يَقَعُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ مَوْقِعَ ضَرُورَةٍ، وَكَقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آلِ عِمْرَانَ: 153] ، أَيْ: شَغَلَ قُلُوبَكُمْ بِالْغَمِّ الْأَعْظَمِ، لِئَلَّا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَكَقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -:
(3/357)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [الْبَقَرَةِ: 143] ، أَيْ: لِيَمْتَحِنَهُمْ بِالِانْقِيَادِ لِلِانْتِقَالِ مِنْ قِبْلَةٍ إِلَى قِبْلَةٍ. وَكَذَا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [سَبَأٍ: 21] ، أَيْ: مَا سَلَّطْنَا إِبْلِيسَ عَلَى الْخَلْقِ بِالْإِغْوَاءِ إِلَّا امْتِحَانًا لَهُمْ بِالْإِيمَانِ، وَإِلَّا فَهُوَ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِضْلَالِهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بُعِثْتُ دَاعِيًا وَلَيْسَ إِلَيَّ مِنَ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ، وَخُلِقَ إِبْلِيسُ مُزَيِّنًا وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ شَيْءٌ أَوْ كَمَا قَالَ، وَكَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ [الْأَنْفَالِ: 12 - 13] ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الْحَشْرِ: 3 - 4] ، أَيْ: إِنَّمَا عَذَّبْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ لِسَبَبِ شِقَاقِهِمْ، أَوْ لِعِلَّةِ شِقَاقِهِمْ، وَكَذَا قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الْمَائِدَةِ: 31 - 32] ، الْمَشْهُورُ أَنَّ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ} مُتَعَلِّقٌ بِـ " كَتَبْنَا " أَيْ: كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصَ مِنْ أَجْلِ قَتْلِ ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ، يَعْنِي ذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ حِرَاسَةً لِلدِّمَاءِ، وَقِيلَ: هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنَدَامَةِ ابْنِ آدَمَ الْقَاتِلِ، أَيْ: أَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ قَتْلِهِ، أَوْ مِنْ أَجْلِ تَرْكِهِ لَمْ يُوَارِهِ حَتَّى نَبَّهَهُ الْغُرَابُ عَلَى مُوَارَاتِهِ، وَالتَّعْلِيلُ صَحِيحٌ
(3/358)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ. وَقَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: (إِلَّا لِنَعْلَمَ) قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [الْمَائِدَةِ: 95] ، أَيْ: أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ عُقُوبَةً عَلَى فِعْلِهِ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ، أَيْ: لِعِلَّةِ إِذَاقَتِهِ وَبَالَ أَمْرِهِ، وَمُقَابَلَتِهِ عَلَى فِعْلِهِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ يَعْنِي عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَوْقَ ثَلَاثٍ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ وَهُمْ قَوْمٌ وَرَدُوا عَرَبًا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَدَّخِرُوا لُحُومَ الْأَضَاحِي تَوْسِعَةً عَلَيْهِمْ. وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ. وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ} [الْإِسْرَاءِ: 100] ، وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [الْبَقَرَةِ: 19] ، أَيْ: خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ، وَحَذَرَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَفْعُولِ لَهُ، وَهُوَ عِلَّةُ الْفِعْلِ.
قَوْلُهُ: " فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَا لَا يَصْلُحُ عِلَّةً " إِلَى آخِرِهِ. مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْفِعْلَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ أَوِ اسْتِعْمَالِهَا إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ، فَإِنْ أُضِيفَ إِلَى مَا لَا يَصْلُحُ عِلَّةً، فَهُوَ مُجَازٌ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ عِلَّةً، مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لِلْفَاعِلِ: " لَمْ فَعَلْتَ؟ فَيَقُولُ: لِأَنِّي أَرَدْتُ " فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، فَهُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِرَادَةَ لَيْسَتْ عِلَّةً لِلْفِعْلِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمُوجِبَةَ
(3/359)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِوُجُودِهِ، أَوِ الْمُصَحِّحَةَ لَهُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ الْمُقْتَضِي الْخَارِجِيُّ لِلْفِعْلِ، أَيْ: الْمُقْتَضِي لَهُ مِنْ خَارِجٍ، وَالْإِرَادَةُ لَيْسَتْ مَعْنًى خَارِجًا عَنِ الْفَاعِلِ.
قَوْلُهُ: " أَمَّا نَحْوُ: إِنَّهَا رِجْسٌ " إِلَى آخِرِهِ. هَذَا ذِكْرُ أَمْثِلَةٍ اخْتُلِفَ فِيهَا، هَلْ هِيَ صَرِيحٌ فِي التَّعْلِيلِ أَوْ تَنْبِيهٌ؟
مِنْهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الرَّوْثَةِ لَمَّا جِيءَ بِهَا لِيَسْتَجْمِرَ بِهَا: إِنَّهَا رِجْسٌ وَقَوْلُهُ فِي الْهِرَّةِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ وَقَوْلُهُ: لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ. وَقَوْلُهُ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي مَاتَ: لَا تُقَرِّبُوهُ طَيِّبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. وَفِي الشُّهَدَاءِ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ
(3/360)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَشْخُبُ دَمًا، فَهَذَا كُلُّهُ " صَرِيحٌ " فِي التَّعْلِيلِ " عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ " خُصُوصًا فِيمَا لَحِقَتْهُ الْفَاءُ، نَحْوَ: فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، فَإِنَّهُ يَزْدَادُ بِهَا تَأَكُّدًا لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا سَبَبٌ لِلْحُكْمِ قَبْلَهَا، وَهُوَ " إِيمَاءٌ عِنْدَ غَيْرِ " أَبِي الْخَطَّابِ.
قُلْتُ: النِّزَاعُ فِي هَذَا لَفْظِيٌّ، لِأَنَّ أَبَا الْخَطَّابِ يَعْنِي بِكَوْنِهِ صَرِيحًا فِي التَّعْلِيلِ كَوْنَهُ تَبَادَرَ مِنْهُ إِلَى الذِّهْنِ بِلَا تَوَقُّفٍ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ، وَغَيْرَهُ يَعْنِي بِكَوْنِهِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ أَنَّ حَرْفَ إِنَّ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً لِلتَّعْلِيلِ فِي اللُّغَةِ. وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَى التَّحْقِيقِ، وَإِنَّمَا فُهِمَ التَّعْلِيلُ مِنْهُ فَهْمًا ظَاهِرًا مُتَبَادَرًا بِقَرِينَةِ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَصِيَانَةً لَهُ عَنِ الْإِلْغَاءِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ; لَوْ قُدِّرَ اسْتِقْلَالُهُ وَعَدَمُ تَعَلُّقِهِ بِمَا قَبْلَهُ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ، فَتَعَيَّنَ لِذَلِكَ ارْتِبَاطُهُ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا ارْتِبَاطُ الْعِلَّةِ بِمَعْلُولِهَا، وَالسَّبَبُ بِمُسَبِّبِهِ. فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَثْبُتُ كَوْنُهُ لِلتَّعْلِيلِ لَا بِوَضْعِ اللُّغَةِ.
" الثَّانِي ": أَيْ: الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِدَلِيلٍ نَقْلِيٍّ " الْإِيمَاءُ ": وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِشَارَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّصِّ أَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى الْعِلَّةِ بِوَصْفِهِ لَهَا، وَالْإِيمَاءَ يَدُلُّ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، كَدَلَالَةِ نَقْصِ الرُّطَبِ عَلَى التَّفَاضُلِ، أَوْ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ عَقْلًا، " وَهُوَ أَنْوَاعٌ ":
(3/361)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" أَحَدُهَا: ذِكْرُ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ بِالْفَاءِ، نَحْوَ " قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [الْبَقَرَةِ: 222] ، وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ. فَهَذِهِ كُلُّهَا أَحْكَامٌ ذُكِرَتْ عَقِيبَ أَوْصَافٍ كَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ عَقِيبَ الْمَحِيضِ، وَقَطْعِ السَّارِقِ عَقِيبَ السَّرِقَةِ، وَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ عَقِيبَ التَّبْدِيلِ، وَمُلْكِ الْأَرْضِ بَعْدَ الْإِحْيَاءِ، وَذَلِكَ يُفِيدُ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي قَبْلَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ وَسَبَبٌ لِثُبُوتِهِ، لِأَنَّ " الْفَاءَ " فِي اللُّغَةِ " لِلتَّعْقِيبِ " عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ، " فَتُفِيدُ تَعَقُّبَ الْحُكْمِ الْوَصْفَ " أَيْ: ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ، وَأَنَّهُ - يَعْنِي الْوَصْفَ - سَبَبُ الْحُكْمِ، لِأَنَّ " السَّبَبَ مَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ " كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي خِطَابِ الْوَضْعِ.
" وَلِهَذَا " أَيْ: وَلِكَوْنِ السَّبَبِ مَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ، أَوْ لِكَوْنِ مَا بَعْدَ الْفَاءِ مُسَبَّبًا لِمَا قَبْلَهَا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ، " تُفْهَمُ السَّبَبِيَّةُ مَعَ عَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ " أَيْ: يُفْهَمُ كَوْنُ الْوَصْفِ سَبَبًا لِمَا بَعْدَهُ مَعَ عَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ، مِنْ أَكَلَ لَحْمَ الْجَزُورِ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ، وَالسَّبَبِيَّةُ مَفْهُومَةٌ.
(3/362)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَكَذَلِكَ لَفْظُ الرَّاوِي " أَيْ: فِي كَوْنِ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِالْفَاءِ يُفِيدُ السَّبَبِيَّةَ، لِأَنَّهُ وَالشَّارِعُ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَاقْتِضَاءُ اللُّغَةِ وَاحِدٌ، فَلَا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ الرَّاوِي: سَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَجَدَ، وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ، فَرَتَّبَ السُّجُودَ عَلَى السَّهْوِ، وَالرَّجْمَ عَلَى الزِّنَى، وَكَذَا قَوْلُ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ. وَقَوْلُ الْآخَرِ: عُتِقَتْ بَرِيرَةُ تَحْتَ عَبْدٍ، فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: " اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِهِ " إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: حَكَمْنَا بِالسَّبَبِيَّةِ فِي لَفْظِ الرَّاوِي اعْتِمَادًا عَلَى فَهْمِهِ لَهَا مِنْ فِعْلِ الشَّارِعِ، " وَكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ " فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا تَقْتَضِيهِ أَلْفَاظُهَا، فَلَا يَرْوِي لَنَا صُورَةً إِلَّا وَهِيَ تُفِيدُ الْوَاقِعَ، وَعَلَى كَوْنِهِ أَمِينًا عَلَى الشَّرِيعَةِ، فَلَا يَرْوِي لَنَا مَا يُوقِعُ التَّدْلِيسَ فِيهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّبْسَ إِنَّمَا يَقَعُ مَعَ رِوَايَةِ جَاهِلٍ أَوْ خَائِنٍ، وَالرَّاوِي إِنْ كَانَ صَحَابِيًّا، فَالْجَهْلُ وَالْخِيَانَةُ مَنْفِيَّانِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ صَحَابِيٍّ، فَنَحْنُ لَا نَقْبَلُ إِلَّا رِوَايَةَ مَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ الصِّفَتَانِ، فَحَصَلَ الْأَمَانُ مِنَ اللَّبْسِ.
(3/363)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمُ الْمُنَاسَبَةَ " إِلَى آخِرِهِ. اعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ اخْتَلَفُوا: هَلْ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِفَادَةِ السَّبَبِيَّةِ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْفَاءِ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، كَمُنَاسَبَةِ الزِّنَا لِلرَّجْمِ وَنَحْوِهِ أَمْ لَا؟ وَالْكَلَامُ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ فِي ذَلِكَ عَامٌّ فِيمَا إِذَا كَانَ مُنَاسِبًا أَوْ غَيْرَ مُنَاسِبٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، إِذْ لَوْ لَمْ تُشْتَرَطْ مُنَاسَبَتُهُ، " لَفُهِمَ مِنْ " قَوْلِنَا: " صَلَّى " زِيدٌ " فَأَكَلَ " أَنَّ الصَّلَاةَ سَبَبٌ لِلْأَكْلِ، لَكِنَّهُ بَاطِلٌ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُنَاسَبَةُ شَرْطًا.
وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ وَلَا الْعُرْفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ قَالَ: أُكْرِمُ الْجُهَّالَ وَأَهِنُ الْعُلَمَاءَ ; نَفَرَ مِنْ كَلَامِهِ كُلُّ عَاقِلٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ سَبَبِيَّةَ الْعِلْمِ لِلْإِهَانَةِ وَالْجَهْلِ لِلْإِكْرَامِ، وَهُوَ مِمَّا تَأْبَاهُ الْعُقُولُ.
وَقَوْلُكُمْ: صَلَّى زَيْدٌ فَأَكَلَ، وَأَكَلَ مَاعِزٌ فَرُجِمَ، وَبَاعَ الْأَعْرَابِيُّ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَقَامَ النَّبِيُّ فَسَجَدَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ; حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا أَنْكَرْتُمُوهُ بِنَاءً عَلَى فَهْمِ سَبَبِيَّةِ مَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ، إِذْ لَوْ لَمْ تَفْهَمُوا السَّبَبِيَّةَ لَمَا أَنْكَرْتُمْ هَذَا الْكَلَامَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْهَمْ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: صَلَّى فَأَكَلَ، سَبَبِيَّةَ الصَّلَاةِ لِلْأَكْلِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ عَقْلًا، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْمُنَاسَبَةِ الْعَقْلِيَّةِ; إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي إِفَادَةِ الْكَلَامِ السَّبَبِيَّةَ لُغَةً، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، إِذْ لَوْ رُوِيَ لَنَا مِنْ وَجْهٍ
(3/364)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صَحِيحٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى فَأَكَلَ، أَوْ أَكَلَ فَسَجَدَ، وَمَا شِئْتُمْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لَحَكَمْنَا بِالسَّبَبِيَّةِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَمُتَابَعَتُهُ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ فِي الْوَاجِبَاتِ، وَمَنْدُوبَةٌ فِي الْمَنْدُوبَاتِ، وَنَجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْبَابِ التَّعَبُّدِيَّةِ، نَحْوَ: مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ، وَ: مَنْ أَنْزَلَ الْمَاءَ فَلْيَغْتَسِلْ. وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
(3/365)
________________________________________
الثَّانِي: تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ، نَحْوَ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أَيْ: لِتَقْوَاهُ وَتَوَكُّلِهِ لِتَعَقُّبِ الْجَزَاءِ الشَّرْطَ.
الثَّالِثُ: ذِكْرُ الْحُكْمِ جَوَابًا لِسُؤَالٍ يُفِيدُ أَنَّ السُّؤَالَ أَوْ مَضْمُونَهُ عِلَّتُهُ، كَقَوْلِهِ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً» فِي جَوَابِ سُؤَالِ الْأَعْرَابِيِّ، إِذْ هُوَ فِي مَعْنَى: حَيْثُ وَاقَعْتَ، فَأَعْتِقْ، وَإِلَّا لَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يُذْكَرَ مَعَ الْحُكْمِ مَا لَوْ لَمْ يُعَلَّلْ بِهِ، لَلَغَى، فَيُعَلَّلُ بِهِ صِيَانَةً لِكَلَامِ الشَّارِعِ عَنِ اللَّغْوِ، نَحْوَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حِينَ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَلَا إِذَنْ» فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ لَا اسْتِعْلَامِيٌّ لِظُهُورِهِ، وَكَعُدُولِهِ فِي الْجَوَابِ إِلَى نَظِيرِ مَحَلِّ السُّؤَالِ نَحْوَ:
أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ، «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ» .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَ «الثَّانِي» : أَيْ: النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ «تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِصِيغَةِ الْجَزَاءِ» أَيْ: بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابِ، «نَحْوَ» قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطَّلَاقِ: 2] ، أَيْ: لِأَجْلِ تَقْوَاهُ، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطَّلَاقِ: 3] ، أَيْ: لِأَجْلِ «تَوَكُّلِهِ، لِتَعَقُّبِ الْجَزَاءِ الشَّرْطَ» أَيْ: لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَكُونُ عَقِيبَ الشَّرْطِ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ بِمَا سَبَقَ أَنَّ السَّبَبَ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ، فَإِذَنِ الشَّرْطُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصِّيَغِ سَبَبُ الْجَزَاءِ، فَيَكُونُ الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ سَبَبًا وَعِلَّةً. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الشُّرُوطَ اللُّغَوِيَّةَ أَسْبَابٌ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الْأَحْزَابِ: 30] ، {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الْأَحْزَابِ: 31] ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ
(3/366)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ تَبِعَ جِنَازَةً، فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ قِيرَاطٌ، وَمَنِ اقْتَنَى كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ، وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا، فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً، فَهِيَ لَهُ وَقَدْ سَبَقَ وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ.
فَائِدَةٌ: اعْلَمْ أَنَّ فِي بَابِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَكُونُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ إِلَّا حُكْمًا وَمَا قَبْلَهَا سَبَبٌ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الشَّرْطِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ تَحْقِيقًا، نَحْوَ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا، فَاتَّقِ اللَّهَ، أَوْ تَقْدِيرًا، نَحْوَ: اتَّقِ اللَّهَ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا،
(3/367)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ لَازِمٌ، وَالْمَشْرُوطَ مَلْزُومٌ، وَالْمَلْزُومَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ اللَّازِمِ، وَثُبُوتَهُ فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِهِ، وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْمَحْسُوسِ، كَالْجِدَارِ وَالسَّقْفِ، فَإِنَّ السَّقْفَ إِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ وُجُودِ الْجِدَارِ، وَالْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَعْقِلُ بَعْدَ تَعَقُّلِ الْحَيَوَانِ اللَّازِمِ لَهُ.
أَمَّا مَا سَبَقَ، فَإِنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ قَدْ يَكُونُ حُكْمًا نَحْوَ: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا} [الْبَقَرَةِ: 222] ، وَقَدْ يَكُونُ عِلَّةً، نَحْوَ: لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، فَإِنَّ بَعْثَهُ مُلَبِّيًا هُوَ عِلَّةُ تَجْنِيبِهِ الطِّيبَ. وَهَذَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَرْجِعُ إِلَى بَابِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قَدْ يَتَضَمَّنَانِ الشَّرْطَ، فَيُجْزَمُ جَوَابُهُمَا، نَحْوَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} {يَرِثُنِي} [مَرْيَمَ: 5 - 6] ، أَيْ: هَبْ لِي، فَإِنَّكَ إِنْ تَهَبْ لِي وَلِيًّا يَرِثُنِي. وَقَوْلُكَ: لَا تَقْرَبِ الشَّرَّ، تَنْجُ، أَيْ: لَا تَقْرَبْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَقْرَبْهُ، تَنْجُ. وَتَدْخُلُ الْفَاءُ فِي جَوَابِهِمَا، كَقَوْلِهِ: لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ أَيْ: مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، فَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا. وَقَوْلُهُ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ أَيْ: مَنْ مَاتَ شَهِيدًا، فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ تَشْخُبُ أَوْدَاجُهُمْ، فَزَمِّلُوهُمْ، فَالظَّاهِرُ اسْتِوَاءُ الصِّيَغِ جَمِيعِهَا فِي تَأَخُّرِ الْحُكْمِ وَتَرَتُّبِهِ عَلَى الْوَصْفِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِمَّا مُسَبَّبٌ أَوْ مَشْرُوطٌ، وَهُوَ مُسَبِّبٌ أَيْضًا، وَكَّلَاهُمَا مُتَأَخِّرٌ. نَعَمْ بَعْضُ ذَلِكَ مُتَأَخِّرٌ تَحْقِيقًا، وَبَعْضُهُ تَقْدِيرًا كَمَا ذَكَرْنَا.
«الثَّالِثُ» : أَيْ: النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ: «ذِكْرُ الْحُكْمِ جَوَابًا لِسُؤَالٍ
(3/368)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُفِيدُ أَنَّ السُّؤَالَ» الْمَذْكُورَ «أَوْ مَضْمُونَهُ» هُوَ عِلَّةُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي جَوَابِ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً» لِأَنَّ ذَلِكَ «فِي مَعْنَى» قَوْلِهِ: «حَيْثُ وَاقَعْتَ» أَهْلَكَ، «فَأَعْتِقْ رَقَبَةً» ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ فِي تَقْدِيرِ الْإِعَادَةِ فِي الْجَوَابِ كَمَا لَوْ قِيلَ: جَاءَ الْعَدُوُّ فَقَالَ: ارْكَبُوا، أَوْ: فُلَانٌ وَاقِفٌ يَسْأَلُ، فَقَالَ: أَعْطُوهُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: حَيْثُ جَاءَ الْعَدُوُّ، فَارْكَبُوا، وَحَيْثُ جَاءَ فُلَانٌ يَسْأَلُ، فَأَعْطُوهُ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا لَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ» أَيْ: لَوْ لَمْ يُعَلَّلِ الْجَوَابُ بِالسُّؤَالِ، لَكَانَ الْجَوَابُ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِالسُّؤَالِ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ مُرْتَبِطٍ بِهِ، لَخَلَا السُّؤَالُ عَنْ جَوَابٍ. وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، لِأَنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا يَسْأَلُ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحُكْمُ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَمْ يُجِبْ عَنْ سُؤَالِهِ، وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَنَّ أَمْرَهُ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ ثَبَتَ تَعَبُّدًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، أَوْ أَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَا سَبَبَ يُحَالُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ إِلَّا سُؤَالُ السَّائِلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ، وَيُعَلَّلَ بِهِ.
«الرَّابِعُ» : أَيْ: النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ إِلَى الْعِلَّةِ «أَنْ يَذْكُرَ» الشَّارِعُ «مَعَ الْحُكْمِ» شَيْئًا «لَوْ لَمْ يُعَلَّلِ» الْحُكْمُ «بِهِ» لَكَانَ ذِكْرُهُ لَاغِيًا، فَيَجِبُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ مَعَهُ «صِيَانَةً لِكَلَامِ الشَّارِعِ عَنِ اللَّغْوِ» إِذِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ دَلَّ عَلَى عِصْمَتِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْأَلَ فِي الْوَاقِعَةِ عَنْ أَمْرٍ ظَاهِرٍ لَا يَخْفَى عَنْ عَاقِلٍ، ثُمَّ يَذْكُرُ
(3/369)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمَ عَقِيبَهُ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ عِلَّةُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ.
مِثَالُهُ: لَمَّا سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، قَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إِذَنْ فَهَذَا «اسْتِفْهَامٌ تَقْرِيرِيٌّ» أَيْ: عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيرِ، لِكَوْنِهِ يَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ، كَقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى} [طه: 17] ، لِيُقَرِّرَ عِنْدَهُ أَنَّهَا عَصَا لِئَلَّا يَتَرَدَّدَ عِنْدَ انْقِلَابِهَا حَيَّةً، أَوْ عَلَى جِهَةِ التَّأْنِيسِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعْلَامِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ إِذَا يَبِسَ لِزَوَالِ الرُّطُوبَةِ الْمُوجِبَةِ لِزِيَادَتِهِ وَثِقَلِهِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ لَا مَعْنًى لِذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ إِلَّا التَّعْلِيلَ بِهِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: «إِذَنْ» فَإِنَّهُ لِلتَّعْلِيلِ.
قُلْتُ: وَبَيَانُهُ أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: إِذِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا تَبِيعُوهُ، أَوْ فَلَا تَفْعَلُوا إِذَنْ.
الثَّالِثُ: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَا، إِذْ هِيَ لِلتَّعْقِيبِ وَالسَّبَبِ كَمَا سَبَقَ، كَأَنَّهُ جَعَلَ النَّقْصَ الْمُوجِبَ لِلتَّفَاضُلِ سَبَبَ الْمَنْعِ.
قَوْلُهُ: «وَكَعُدُولِهِ فِي الْجَوَابِ إِلَى نَظِيرِ مَحَلِّ السُّؤَالِ» كَقَوْلِهِ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا قَالَ لَهُ: إِنِّي قَبَّلْتُ وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ.، وَكَقَوْلِهِ لِلْخَثْعَمِيَّةِ لَمَّا سَأَلَتْهُ عَنِ الْحَجِّ عَنْ أَبِيهَا: أَرَأَيْتِ لَوْ
(3/370)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ.، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا وَالْمَعْدُولِ إِلَيْهَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَخَلَا السُّؤَالُ عَنْ جَوَابٍ، وَلَزِمَ مَا سَبَقَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: إِنَّ الْقُبْلَةَ لَا تَضُرُّ وَلَا تُفْسِدُ صَوْمَكَ، لِأَنَّهَا مُقَدِّمَةُ شَهْوَةِ الْفَرْجِ، كَمَا أَنَّ الْمَضْمَضَةَ مُقَدِّمَةُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ، وَكَمَا أَنَّ هَذِهِ لَا تُبْطِلُ الصَّوْمَ كَذَلِكَ تِلْكَ. وَكَأَنَّهُ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: الْحَجُّ دَيْنُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَيُجْزِّئُ قَضَاؤُهُ عَنِ الْوَالِدِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَالْجَامِعُ كَوْنُهُمَا دَيْنًا.
وَذَكَرَ النِّيلِيُّ فِي «شَرْحِ جَدَلِ الشَّرِيفِ» لِهَذَا النَّوْعِ ضَرْبًا ثَالِثًا، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، هَلْ مَعَكَ مَاءٌ أَتَوَضَّأُ بِهِ؟ قَالَ: إِنَّمَا مَعِي مَاءٌ نَبَذْتُ فِيهِ تَمَرَاتٍ لِتَجْذِبَ مُلُوحَتَهُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ، فَقَوْلُهُ: طَهُورٌ، لَا فَائِدَةَ لِذَكَرِهِ إِلَّا أَنَّهُ أَرَادَ جَوَازَ الْوُضُوءِ بِهِ، وَإِلَّا فَطَهَارَتُهُ مَعْلُومَةٌ بِدُونِ ذَلِكَ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَسْئِلَةً وَأَجْوِبَةً.
قُلْتُ: وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِمَّا ذَكَرْنَا، أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِهِ وَمَا يُشْبِهُهُ.
(3/371)
________________________________________
الْخَامِسُ: تَعْقِيبُ الْكَلَامِ أَوْ تَضْمِينُهُ مَا لَوْ لَمْ يُعَلَّلْ بِهِ، لَمْ يَنْتَظِمْ نَحْوَ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» إِذِ الْبَيْعُ وَالْقَضَاءُ لَا يَمْنَعَانِ مُطْلَقًا، فَلَا بُدَّ إِذَنْ مِنْ مَانَعٍ; وَلَيْسَ إِلَّا مَا فُهِمَ مِنْ سِيَاقِ النَّصِّ وَمَضْمُونِهِ.
السَّادِسُ: اقْتِرَانُ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ، نَحْوَ: أَكْرِمِ الْعُلَمَاءَ، وَأَهِنِ الْجُهَّالَ كَمَا سَبَقَ; ثُمَّ الْوَصْفُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مُعْتَبَرٌ فِي الْحُكْمِ، وَالْأَصْلُ كَوْنُهُ عِلَّةً بِنَفْسِهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَضْمُونَةٌ كَالدَّهْشَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الْغَضَبُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الْخَامِسُ ": أَيْ: النَّوْعُ الْخَامِسُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ " تَعْقِيبُ الْكَلَامِ أَوْ تَضْمِينُهُ " أَيْ: أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ الْكَلَامِ، أَوْ فِي سِيَاقِهِ، أَوْ فِي ضِمْنِهِ شَيْئًا " لَوْ لَمْ يُعَلَّلْ بِهِ " الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ، " لَمْ يَنْتَظِمْ " أَيْ: لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ مُنْتَظِمًا، " نَحْوَ " قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الْجُمْعَةِ: 9] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ، فَلَوْ لَمْ يُعَلَّلِ النَّهْيَ عَنِ الْبَيْعِ حِينَئِذٍ بِكَوْنِهِ مَانِعًا أَوْ شَاغِلًا عَنِ السَّعْيِ، لَكَانَ ذِكْرُهُ لَاغِيًا، وَكَذَا لَوْ لَمْ يُعَلَّلِ النَّهْيَ عَنِ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْغَضَبِ بِكَوْنِهِ يَتَضَمَّنُ اضْطِرَابَ الْمِزَاجِ الْمُوجِبِ لِاضْطِرَابِ الْفِكْرَةِ الْمُوجِبِ غَالِبًا لِلْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ، لَكَانَ ذِكْرُهُ لَاغِيًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْقَضَاءَ لَا مَنْعَ مِنْهُمَا
(3/372)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُطْلَقًا، " فَلَا بُدَّ إِذَنْ مِنْ مَانَعٍ، وَلَيْسَ إِلَّا مَا فُهِمَ مِنْ سِيَاقِ النَّصِّ وَمَضْمُونِهِ: مِنْ شَغْلِ الْبَيْعِ عَنِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ فَتَفُوتُ، وَاضْطِرَابُ الْفِكْرَةِ لِأَجْلِ الْغَضَبِ، فَيَقَعُ الْخَطَأُ، فَوَجَبَ إِضَافَةُ النَّهْيِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ، فَهُوَ مِنْ بَابِ اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ.
" السَّادِسُ ": أَيْ: النَّوْعُ السَّادِسُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ " اقْتِرَانُ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ، نَحْوَ " قَوْلِهِ: " أَكْرِمِ الْعُلَمَاءَ، وَأَهِنِ الْجُهَّالَ، كَمَا سَبَقَ " كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النُّورِ: 2] ، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] ، أَيْ: لِلزِّنَى وَالسَّرِقَةِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ; يُفْهَمُ مِنْهُ تَعْلِيلُ عَدَمِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا بِشَرَفِ الْإِسْلَامِ وَنَقْصِ الْكُفْرِ، لِأَنَّ الْمَعْلُومَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ تَرْتِيبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأُمُورِ الْمُنَاسِبَةِ، وَالشَّرْعُ لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ. " ثُمَّ " إِنَّ " الْوَصْفَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ " أَيْ: فِي كُلِّ مَوْضِعٍ رُتِّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ " مُعْتَبَرٌ فِي الْحُكْمِ " أَيْ: فِي تَعْرِيفِهِ لَهُ أَوْ فِي تَأْثِيرِهِ وَوُجُودِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ - أَعْنِي الْوَصْفَ - عِلَّةٌ بِنَفْسِهِ، كَالْإِحْيَاءِ الْمُقْتَضِي لِمِلْكِ الْمَوَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْعِلَّةَ مَا تَضَمَّنَهُ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ " كَالدَّهْشَةِ " الْمَانِعَةِ مِنَ الْفِكْرِ " الَّتِي تَضَمَّنَهَا " وَصْفُ " الْغَضَبِ " لَكِنَّ الْأَصْلَ كَوْنُ الْوَصْفِ " عِلَّةً بِنَفْسِهِ " حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَا تَضَمَّنَهُ، كَالدَّهْشَةِ، أَوْ لَزِمَ عَنْهُ، كَالتَّفَاضُلِ اللَّازِمِ عَنْ نَقْصِ الرُّطَبِ، أَوِ اشْتَمَلَ عَلَيْهِ، كَالشُّغْلِ عَنِ الْجُمُعَةِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ.
قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: نَذْكُرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيمَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي
(3/373)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْحُكْمِ بِذِكْرِ صِفَةٍ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ عِلَّةُ الْفَرْقِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْقَاتِلُ لَا يَرْثِ مَعَ إِثْبَاتِهِ الْإِرْثَ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَوْلَادِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ عِلَّةُ مَنْعِ الْإِرْثِ، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ، وَقَوْلُهُ: الْبِكْرُ إِذْنُهَا صُمَاتُهَا وَالثَّيِّبُ تُعْرِبُ عَنْ نَفْسِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَهُوَ أَيْضًا نَوْعُ إِيمَاءٍ، فَالْبَابَانِ مُشْتَرِكَانِ.
فَائِدَةٌ: أَنْوَاعُ الْإِيمَاءِ الْمَذْكُورَةِ تَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُصَرِّحَ فِيهِ بِالْحُكْمِ وَالْوَصْفِ جَمِيعًا أَوْ لَا، فَإِنْ صَرَّحَ فِيهِ بِهِمَا، فَهُوَ إِيمَاءٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِمَا; فَإِنْ صَرَّحَ بِالْحُكْمِ، وَالْوَصْفُ مُسْتَنْبَطٌ; فَلَيْسَ بِإِيمَاءٍ بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ صَرَّحَ بِالْوَصْفِ، وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ، فَهَذَا هَلْ يَكُونُ إِيمَاءً؟ فِيهِ خِلَافٌ.
مِثَالُ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ إِيمَاءً قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عُتِقَ عَلَيْهِ، فَقَدْ صَرَّحَ فِي
(3/374)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَوَّلِ بِالْإِحْيَاءِ وَهُوَ الْوَصْفُ، وَبِالْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَفِي الثَّانِي صَرَّحَ بِالْمِلْكِ وَهُوَ الْوَصْفُ، وَبِالْعِتْقِ وَهُوَ الْحُكْمُ.
وَمِثَالُ الْمُتَّفَقِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِيمَاءٍ مَا ذُكِرَ فِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، وَهُوَ مَا إِذَا حَرَّمَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ، فَاسْتَخْرَجْنَا مِنْهُ عِلَّةَ الْكَيْلِ أَوِ الطُّعْمِ أَوِ الْوَزْنِ. وَلَوْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، فَاسْتَخْرَجْنَا مِنْهُ وَصْفَ الْإِسْكَارِ، فَالْحُكْمُ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَالْوَصْفُ مُسْتَنْبَطٌ.
وَمِثَالُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [الْبَقَرَةِ: 275] ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ إِيمَاءً إِلَى الصِّحَّةِ، قَالَ: لِأَنَّهَا غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهَا فِيهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْحُكْمِ، وَاسْتَخْرَجْنَا الْعِلَّةَ قِيَاسًا لِأَحَدِهِمَا عَلَى عَكْسِهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إِيمَاءٌ، قَالَ: إِنَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - دَلَّ بِإِحْلَالِ الْبَيْعِ عَلَى الصِّحَّةِ، إِذْ لَوْلَا الصِّحَّةُ، لَمْ يَكُنْ لِلْإِحْلَالِ فَائِدَةٌ، كَمَا أَنَّهُ لَوْلَا إِفْسَادُ الرِّبَا، لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِهِ فَائِدَةٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/375)
________________________________________
الْقِسْمُ الثَّانِي: إِثْبَاتُهَا بِالْإِجْمَاعِ، كَالصِّغَرِ لِلْوِلَايَةِ، وَاشْتِغَالِ قَلْبِ الْقَاضِي عَنِ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ لِمَنْعِ الْحُكْمِ، وَتَلَفِ الْمَالِ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَّةِ لِلضَّمَانِ فِي الْغَصْبِ، فَيَلْحَقُ بِهِ السَّارِقُ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَامِعِ، وَكَذَلِكَ الْأُخُوَّةُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَثَّرَتْ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْإِرْثِ إِجْمَاعًا فَكَذَا فِي النِّكَاحِ، وَالصِّغَرُ أَثَّرَ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْبِكْرِ، فَكَذَا فِي الثَّيِّبِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ سَاقِطَةٌ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، وَفِي الْفَرْعِ، لِاطِّرَادِهَا فِي كُلِّ قِيَاسٍ، فَيَنْتَشِرُ الْكَلَامُ، فَيَبَانُ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ عَلَى الْمُعْتَرِضِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«الْقِسْمُ الثَّانِي» يَعْنِي مِنْ أَقْسَامِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ «إِثْبَاتُهَا بِالْإِجْمَاعِ» إِذْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى إِثْبَاتِهَا بِالنَّقْلِ صَرِيحِهِ وَإِيمَائِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي إِثْبَاتِهَا بِالْإِجْمَاعِ «كَالصِّغَرِ لِلْوِلَايَةِ» أَيْ: كَكَوْنِ الصِّغَرِ عِلَّةً لِلْوِلَايَةِ، أَيْ: لِوِلَايَةِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، وَعَلَى الصَّغِيرِ فِي الْمَالِ أَوْ فِي النِّكَاحِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ: صَغِيرَةٌ، فَتُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ وَالِابْنِ الصَّغِيرِ، وَيَدَّعِي أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الصِّغَرُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ فِي الْفَرْعِ، وَكَكَوْنِ «اشْتِغَالِ قَلْبِ الْقَاضِي عَنِ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ»
(3/376)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَجْلِ الْغَضَبِ عِلَّةً «لِمَنْعِ الْحُكْمِ» فَيَلْحَقُ بِهِ اشْتِغَالُهُ بِجُوعٍ، أَوْ عَطَشٍ، أَوْ خَوْفٍ، أَوْ أَلَمٍ بِالْقِيَاسِ، فَيُقَالُ: الْجُوعُ شَاغِلٌ لِلْقَلْبِ عَنِ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، فَمَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ كَالْغَضَبِ، وَهُوَ مَحَلُّ إِجْمَاعٍ، وَكَكَوْنِ «تَلَفِ الْمَالِ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَّةِ» عِلَّةً «لِلضَّمَانِ» عَلَى الْغَاصِبِ إِجْمَاعًا، «فَيَلْحَقُ بِهِ» تَلَفُ الْعَيْنِ فِي يَدِ «السَّارِقِ» وَإِنْ قَطَعَ بِهَا، لِأَنَّ يَدَهُ عَادِيَّةٌ، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ فِيهَا كَالْغَاصِبِ «لِاشْتِرَاكِهِمَا» أَعْنِي الْغَاصِبَ وَالسَّارِقَ «فِي» الْوَصْفِ «الْجَامِعِ» وَهُوَ التَّلَفُ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَّةِ، «وَكَذَلِكَ الْأُخُوَّةُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ أَثَّرَتْ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْإِرْثِ إِجْمَاعًا، فَكَذَا فِي النِّكَاحِ» أَيْ: لَمَّا كَانَ الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مُقَدَّمًا فِي الْإِرْثِ عَلَى الْأَخِ مِنَ الْأَبِ لِزِيَادَةِ الْأُخُوَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَإِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ عَنْ أَخِيهَا لِأَبِيهَا; وَأَخِيهَا لِأَبَوَيْهَا; كَانَ إِرْثُهَا لِأَخِيهَا لِأَبَوَيْهَا دُونَ أَخِيهَا لِأَبِيهَا. فَكَذَا إِذَا أَرَادَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَ يَكُونُ أَخُوهَا الْمُقَدَّمُ فِي حِيَازَةِ إِرْثِهَا هُوَ الْمُقَدَّمَ فِي وِلَايَةِ تَزْوِيجِهَا، لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي تَقْدِيمِهِ فِي الْإِرْثِ هُوَ امْتِزَاجُ الْأُخُوَّةِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، فَإِذَا سَلَّمَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ مَا ذُكِرَ، لَزِمَ صِحَّةُ الْقِيَاسِ، لَكِنَّ مَنْ يَرَى اسْتِوَاءَ الْأَخَوَيْنِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَيَقُولُ: إِنَّ الْإِرْثَ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ، وَوِلَايَةَ النِّكَاحِ مُسْتَحَقَّةٌ بِالْعُصُوبَةِ، وَهُمَا سِيَّانِ فِيهَا، وَلَا تَأْثِيرَ فِيهَا لِلْأُمُومَةِ، بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ، فَإِنَّ لَهَا فِيهَا تَأْثِيرًا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ بِهِ، وَكَذَلِكَ «الصِّغَرُ» ; لَمَّا «أَثَّرَ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْبِكْرِ» إِجْمَاعًا، وَجَبَ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي ثُبُوتِهَا عَلَى الثَّيِّبِ، وَقَدْ سَبَقَ.
(3/377)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْ أَمْثِلَةِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالْإِجْمَاعِ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي الْمَرِيضِ إِذَا أَقَرَّ لِغُرَمَاءَ الْمَرَضِ بِدَيْنٍ، وَكَانَ مَالُهُ مُسْتَغْرِقًا بِالدُّيُونِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ: إِنَّ إِقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ فَوَّتَ حَقَّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ، كَمَا لَوْ وَهَبَ مَالَهُ فِي حَالِ الْمَرَضِ، وَيَدَّعِي أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي بُطْلَانِ الْهِبَةِ هَاهُنَا هُوَ تَفْوِيتُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ. وَكَذَا لَوِ اتَّفَقَ الْخَصْمَانِ عَلَى أَنَّ مَسَّ الْإِنْسَانِ فَرْجَ نَفْسِهِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْمُؤَثِّرُ فِي النَّقْضِ هُوَ كَوْنُهُ مَسَّ فَرْجَ آدَمِيٍّ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيمَا إِذَا مَسَّ فَرْجَ الْغَيْرِ، وَالْأَمْثِلَةُ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ سَاقِطَةٌ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: إِذَا قَاسَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى عِلَّةٍ إِجْمَاعِيَّةٍ، فَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ وَلَا فِي الْفَرْعِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، كَتَأْثِيرِ الصِّغَرِ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ أَوْ نِكَاحِ الْبِكْرِ. وَأَمَّا الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِهَا فِي الْفَرْعِ، فَلِاطِّرَادِهَا، أَيْ: لِاطِّرَادِ الْمُطَالَبَةِ «فِي كُلِّ قِيَاسٍ» إِذِ الْقِيَاسُ هُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ بِالْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ، وَمَا مِنْ قِيَاسٍ إِلَّا وَيَتَّجِهُ عَلَيْهِ سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ، فَيُقَالُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصِّغَرَ - مَثَلًا - مُؤَثِّرٌ فِي إِجْبَارِ الصَّغِيرَةِ؟ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْتَحَ هَذَا الْبَابُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى انْتِشَارِ «الْكَلَامِ، فَيَبَانُ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ» أَيْ: تَأْثِيرُ الْوَصْفِ فِي
(3/378)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ «عَلَى الْمُعْتَرِضِ» فَيُقَالُ لَهُ مَثَلًا: أَنَا قَدْ بَيَّنْتُ أَنَّ الْعِلَّةَ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْأَصْلِ بِالِاتِّفَاقِ، وَبَيَّنْتُ وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ، فَتَمَّ لِيَ الْقِيَاسُ، فَأَنْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَا تُبَيِّنُ بِهِ عَدَمَ تَأْثِيرِهَا لِتَمَنُّعٍ قِيَاسِيٍّ، فَعَلَيْكَ بَيَانُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْمُعْتَرِضَ ذَلِكَ بِأَنْ يُثْبِتَهُ عَلَى مَثَارِ حِبَالِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا فِي صُورَةِ تَأْثِيرِ الْأُخُوَّةِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى تَأْثِيرِهَا فِي الْإِرْثِ: إِنَّ أُخُوَّةَ الْأُمِّ إِنَّمَا أَثَّرَتْ فِي التَّرْجِيحِ فِي بَابِ الْإِرْثِ، لِأَنَّهَا تُؤَثِّرُ فِيهِ مُسْتَقِلَّةً، إِذِ الْأَخُ مِنَ الْأُمِّ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ فِيهَا بِخِلَافِهِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِيهَا مُسْتَقِلًّا بِالْكُلِّيَّةِ، فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّ التَّرْجِيحَ إِذَا حَصَلَ بِمَا يَسْتَقِلُّ بِالتَّأْثِيرِ يَحْصُلُ بِمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِالتَّأْثِيرِ، فَإِنْ أَبْدَى مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ، لَزِمَ الْمُسْتَدِلُّ جَوَابَهُ، وَإِلَّا انْقَطَعَ. أَمَّا فَتْحُ بَابِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّأْثِيرِ ابْتِدَاءً، فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْفَرْعِ، لَمْ يُتَصَوَّرِ النِّزَاعُ بَعْدُ، فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا سَلَّمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَزْوِيجِ الِابْنِ الصَّغِيرِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ هِيَ الصِّغَرُ، وَأَنَّ الصِّغَرَ مَوْجُودٌ فِي الْبِنْتِ، لَمْ يُمْكِنْهُ النِّزَاعُ بَعْدُ.
قِيلَ: بَلْ يُتَصَوَّرُ النِّزَاعُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا آخَرَ مَضْمُومًا إِلَى مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً لَا يَنْفِي اعْتِبَارَ وَصْفٍ آخَرَ مَعَهُ قَطْعًا، بَلْ ظَاهِرًا، وَحِينَئِذٍ يُتَصَوَّرُ النِّزَاعُ، بِأَنْ يَقُولَ الشَّفَعَوِيُّ
(3/379)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَثَلًا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: كَوْنُ الِابْنِ زَوْجًا، لَهُ فِي جَوَازِ إِجْبَارِهِ مَصْلَحَةٌ، إِذْ فِي تَزْوِيجِهِ إِثْبَاتُ مِلْكٍ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ مِلْكُ بُضَعِ الزَّوْجَةِ، بِخِلَافِ الْبِنْتِ فَإِنَّ تَزْوِيجَهَا إِثْبَاتُ مِلْكٍ عَلَيْهَا، فَهِيَ عَكْسُ الِابْنِ فَافْتَرَقَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ فَارِقًا مَانِعًا فِي الْفَرْعِ بِأَنْ يَقُولَ: بِالثِّيُوبَةِ حَصَلَ لَهَا مَعْرِفَةٌ وَتَجْرِبَةٌ تُنَاسِبُ ثُبُوتَ الِاخْتِيَارِ، وَنَفْيَ الْإِجْبَارِ. وَنَحْوُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي مَسْأَلَةِ إِقْرَارِ الْمَرِيضِ، فَيُقَالُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي مَنْعِهِ مِنْ هِبَةِ مَالِهِ فِي الْمَرَضِ كَوْنُهُ تَفْوِيتًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، بَلْ إِنَّمَا بَطَلَتْ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَالِكِ، تَوْفِيرًا لِمَالِهِ عَلَى تَبْرِئَةِ ذِمَّتِهِ، أَوْ لِكَوْنِ تَشَوُّفِ الشَّرْعِ إِلَى تَصْحِيحِ الْهِبَةِ دُونَ تَشَوُّفِهِ إِلَى تَصْحِيحِ الْإِقْرَارِ، فَهِيَ أَضْعَفُ مِنْهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ الضَّعِيفِ بُطْلَانُ الْقَوِيِّ.
وُوجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ هُوَ أَنَّ الْهِبَةَ بِتَقْدِيرِ بُطْلَانِهَا لَا يَلْحَقُ الْمَوْهُوبَ لَهُ ضَرَرٌ كَالضَّرَرِ اللَّاحِقِ لِلْمُقِرِّ لَهُ بِبُطْلَانِ الْإِقْرَارِ، إِذِ الْمُقِرُّ لَهُ يَبْطُلُ لَهُ حَقٌّ ثَابِتٌ خَرَجَ عَنْهُ، فَلَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي ذَلِكَ، إِذْ ضَرَرُهُ بِبُطْلَانِ الْهِبَةِ إِنَّمَا هُوَ بِتَفْوِيتِ فَائِدَةٍ حَاصِلَةٍ لَهُ مِنْ خَارِجٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/380)
________________________________________
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: إِثْبَاتُهَا بِالِاسْتِنْبَاطِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: إِثْبَاتُهَا بِالْمُنَاسَبَةِ، وَهِيَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالْحُكْمِ وَصَفٌ مُنَاسِبٌ، وَهُوَ مَا تُتَوَقَّعُ الْمَصْلَحَةُ عَقِيبَهُ لِرَابِطٍ مَا عَقْلِيٍّ وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مَنْشَأً لِلْحِكْمَةِ، كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ، فَيُفِيدُ التَّعْلِيلُ بِهِ لِإِلْفِنَا مِنَ الشَّارِعِ رِعَايَةَ الْمَصَالِحِ، وَبِالْجُمْلَةِ مَتَى أَفْضَى الْحُكْمُ إِلَى مَصْلَحَةٍ عَلَّلَ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا; ثُمَّ إِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ بِالْحَيْضِ لِمَشَقَّةِ التَّكْرَارِ، وَلَا يَضُرُّ ظُهُورُ مُؤَثِّرٍ آخَرَ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ، فَيُعَلَّلُ بِالْكُلِّ كَالْحَيْضِ وَالرِّدَّةِ وَالْعِدَّةِ، يُعَلَّلُ مَنْعُ وَطْءِ الْمَرْأَةِ بِهَا، وَكَقِيَاسِ تَقْدِيمِ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ عَلَى تَقْدِيمِهِ فِي الْإِرْثِ، فَالْأُخُوَّةُ مُتَّحِدَةٌ نَوْعًا، وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ كَتَأْثِيرِ الْمَشَقَّةِ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ، كَالْمُسَافِرِ، فَهُوَ الْمُلَائِمُ، إِذْ جِنْسُ الْمَشَقَّةِ أَثَّرَ فِي عَيْنِ السُّقُوطِ; وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ كَتَأْثِيرِ جِنْسِ الْمَصَالِحِ فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ، فَهُوَ الْغَرِيبُ.
وَقِيلَ: هَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ; وَمَا سِوَاهُ مُؤَثِّرٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«الْقِسْمُ الثَّالِثُ» :
مِنْ أَقْسَامِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ: «إِثْبَاتُهَا بِالِاسْتِنْبَاطِ» ، إِذْ قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي إِثْبَاتِهَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، «وَهُوَ» - يَعْنِي إِثْبَاتَهَا بِالِاسْتِنْبَاطِ - «أَنْوَاعٌ:
(3/381)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهَا: إِثْبَاتُهَا بِالْمُنَاسَبَةِ، وَهِيَ - يَعْنِي الْمُنَاسَبَةَ - أَنْ يَقْتَرِنَ بِالْحُكْمِ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ» وَقَدْ سَبَقَ مِثَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ، «مَا تُتَوَقَّعُ الْمَصْلَحَةُ عَقِيبَهُ لِرَابِطٍ مَا عَقْلِيٍّ» .
قُلْتُ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِ الْمُنَاسِبِ، وَاسْتِقْصَاءِ الْقَوْلِ فِيهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، لِأَنَّ عَلَيْهِ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ، بَلْ مَدَارَ الْوُجُودِ، إِذْ لَا مَوْجُودَ إِلَّا وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْمُنَاسَبَةِ الْعَقْلِيَّةِ، لَكِنَّ أَنْوَاعَ الْمُنَاسَبَةِ تَتَفَاوَتُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالْخَفَاءِ وَالظُّهُورِ، فَمَا خَفِيَتْ عَنَّا مُنَاسَبَتُهُ، سُمِّيَ تَعَبُّدًا، وَمَا ظَهَرَتْ مُنَاسَبَتُهُ سُمِّيَ مُعَلَّلًا، فَقَوْلُنَا: الْمُنَاسِبُ مَا تُتَوَقَّعُ الْمَصْلَحَةُ عَقِيبَهُ، أَيْ: مَا إِذَا وُجِدَ أَوْ سُمِعَ، أَدْرَكَ الْعَقْلُ السَّلِيمُ كَوْنَ ذَلِكَ الْوَصْفِ سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَى مَصْلَحَةٍ مِنَ الْمَصَالِحِ لِرَابِطٍ مِنَ الرَّوَابِطِ الْعَقْلِيَّةِ بَيْنَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ وَذَلِكَ الْوَصْفِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِي: «لِرَابِطٍ مَا عَقْلِيٍّ» .
وَمِثَالُهُ: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ: الْمُسْكِرُ حَرَامٌ، أَدْرَكَ الْعَقْلُ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمُسْكِرِ مُفْضٍ إِلَى مَصْلَحَةٍ، وَهِيَ حِفْظُ الْعُقُولِ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَإِذَا قِيلَ: الْقِصَاصُ مَشْرُوعٌ، أَدْرَكَ الْعَقْلُ أَنَّ شَرْعِيَّةَ الْقِصَاصِ سَبَبٌ مُفْضٍ إِلَى مَصْلَحَةٍ، وَهِيَ حِفْظُ النُّفُوسِ، وَأَمْثِلَتُهُ كَثِيرَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْتُ: مَا تُتَوَقَّعُ الْمَصْلَحَةُ عَقِيبَهُ لِرَابِطٍ عَقْلِيٍّ أَخْذًا مِنَ النَّسَبِ الَّذِي هُوَ الْقَرَابَةُ، فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ هَاهُنَا مُسْتَعَارٌ وَمُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَنَاسِبَيْنِ فِي بَابِ النَّسَبِ كَالْأَخَوَيْنِ وَابْنَيِ الْعَمِّ وَنَحْوَ ذَلِكَ، إِنَّمَا كَانَا مُتَنَاسِبَيْنِ لِمَعْنًى رَابِطٍ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْقَرَابَةُ، فَكَذَلِكَ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ هَاهُنَا لَابُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ
(3/382)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَابِطٌ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ كَوْنُ الْوَصْفِ صَالِحًا لِلْإِفْضَاءِ إِلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عَقْلًا.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَقَدْ فَسَّرَ أَبُو زَيْدٍ الْمُنَاسِبَ بِمَا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، وَبَنَى عَلَى ذَلِكَ امْتِنَاعَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْعِلَّةِ بِهِ فِي مَقَامِ الْمُنَاظَرَةِ دُونَ النَّظَرِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقُولَ الْخَصْمُ: هَذَا لَا يَتَلَقَّاهُ عَقْلِي بِالْقَبُولِ، وَتَلَقِّي غَيْرِي لَهُ بِالْقَبُولِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَيَّ.
قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَلْزَمُ لِأَنَّا إِذَا نَظَرْنَا فِي أَدْنَى مَرَاتِبِ الْمُنَاسِبِ، وَجَدْنَا الْعُقُولَ تُبَادِرُ إِلَى تَلَقِّيهِ بِالْقَبُولِ، فَإِذَا قَالَ الْخَصْمُ: هَذَا لَا يَتَلَقَّاهُ عَقْلِي بِالْقَبُولِ، فَأَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لَازِمٌ; إِمَّا أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ فِي نَفْسِهِ، فَالْخَصْمُ مَعْذُورٌ فِي إِنْكَارِهِ، وَإِمَّا عِنَادٌ مِنَ الْخَصْمِ الْمُنْكِرِ; وَحِينَئِذٍ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ بَيَانُ مُنَاسَبَتِهِ بِبَيَانِ مُنَاسَبَةِ أَمْثَالِهِ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ الْخَصْمُ يُسَلِّمُ مُنَاسَبَةَ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي رُتْبَتِهِ، فَتَثْبُتُ مُنَاسَبَتُهُ، إِذْ حُكْمُ الْمِثْلَيْنِ وَاحِدٌ، أَوْ مُنَاسَبَةُ مَا هُوَ دُونَهُ، فَتَثْبُتُ مُنَاسَبَتُهُ هُوَ بِطْرِيقِ الْأَوْلَى.
مِثَالُهُ: لَوِ اسْتَدَلَّ عَلَى إِرْثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِأَنَّ تَوْرِيثَهَا مُنَاقَضَةٌ لِلْمَيِّتِ فِي قَصْدِهِ حِرْمَانَهَا، وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِتَلَقِّي الْعَقْلِ لَهُ بِالْقَبُولِ، فَإِذَا قَالَ الْخَصْمُ: لَيْسَ هَذَا مُنَاسِبًا، وَعَقْلِي لَا يَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: قَدْ سَلَّمْتُ مُنَاسَبَةَ مِثْلَ هَذَا الْوَصْفِ فِي حِرْمَانِ الْقَاتِلِ إِرْثَهُ مِنْ مَوْرُوثِهِ مُعَارَضَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، فَإِنْ سَلَّمْتَ الْمُنَاسَبَةَ هُنَا، لَزِمَكَ تَسْلِيمُهَا هُنَاكَ لِاسْتِوَائِهِمَا، وَإِنْ مَنَعْتَ الْمُنَاسَبَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ; فَقَدْ سَلَّمَ الْعُقَلَاءُ مُنَاسَبَةَ أَوْصَافٍ هِيَ مِثْلُ هَذَا الْوَصْفِ وَدُونَهُ فِي قَبُولِ الْعَقْلِ لَهُ، وَمِنَ الْمُمْتَنَعِ عَادَةً إِصَابَتُكَ وَخَطَؤُهُمْ، فَأَنْتَ إِذَنْ مُعَانِدٌ مُسَفْسِطٌ تَحْرُمُ الْمُنَاظَرَةُ مَعَكَ، فَهَذَا أَيْضًا طَرِيقٌ جَيِّدٌ مُنَاسِبٌ
(3/383)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي إِثْبَاتِ الْمُنَاسِبِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةَ أَصْنَافٌ; مِنْهَا الْبَدِيهِيَّاتُ وَالنَّظَرِيَّاتُ وَالْمَقْبُولَاتُ، وَالْمُنَاسِبُ مِنْ قَبِيلِ الْمَقْبُولَاتِ، وَهِيَ مَا تَلَقَّاهُ الْعَقْلُ بِجَوْهَرِهِ بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِهِ، فَالْعُقُولُ مِعْيَارٌ لَهُ لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ، كَمَا لَا تَخْتَلِفُ فِي إِدْرَاكِ الْبَدِيهِيَّاتِ مَعَ الْقَطْعِ، وَالنَّظَرِيَّاتِ بَعْدَ تَحْقِيقِ مُقَدِّمَاتِ النَّظَرِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: أَمَّا نَحْنُ; فَنَقُولُ: الْمُنَاسِبُ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ حُصُولُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ مِنْ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَكْمِيلِهَا، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَوْ تَقْلِيلِهَا دُنْيَا وَأُخْرَى عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ بِمَا لَوْ أَصَرَّ الْخَصْمُ عَلَى مَنْعِهِ بَعْدَهُ، يَكُونُ مُعَانِدًا.
قُلْتُ: هَذَا غَايَةُ مَا يُقَالُ فِي ضَبْطِ رَسْمِ الْمُنَاسِبِ، وَتَحْصِيلُ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ، كَشَرْعِ الْقِصَاصِ، وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَتَكْمِيلِهَا كَاشْتِرَاطِ الْمُكَافَأَةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْقِصَاصِ، وَتَحْرِيمِ يَسِيرِ الْخَمْرِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى كَثِيرِهِ، وَدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ كَإِيجَابِ الْقَوْدِ لِدَفْعِ مَفْسَدَةِ إِتْلَافِ النُّفُوسِ، وَتَقْلِيلِهَا كَإِيجَابِهِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، لِأَنَّ فِيهِ تَقْلِيلًا لِلْقَتْلِ، لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً إِلَى إِزْهَاقِ النُّفُوسِ، وَكَإِيجَابِهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُنَاسِبُ مَا تَضَمَّنَ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةٍ، فَالْأَوَّلُ يَعْنِي تَحْصِيلَ الْمَصْلَحَةِ كَالْغِنَى هُوَ عِلَّةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لِتَضَمُّنِهِ مَصْلَحَةَ الْفُقَرَاءِ وَرَبَّ الْمَالِ، وَالثَّانِي: - يَعْنِي دَرْءَ الْمَفْسَدَةِ - كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
(3/384)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ النِّيلِيُّ: الْمُنَاسِبُ مَا كَانَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ عَقِيبَهُ مُفْضِيًا إِلَى مَا يُوَافِقُ نَظَرَ الْعُقَلَاءِ فِي الْمَعَاشِ، أَوْ فِي الْمَعَادِ. أَمَّا الْمَعَاشُ; فَكَبَقَاءِ الْأَنْفُسِ، وَالزِّيَادَةِ فِي الْمَالِ، وَأَمَّا فِي الْمَعَادِ; فَكَتَحْصِيلِ الثَّوَابِ، أَوْ رَفْعِ الْعِقَابِ. ثُمَّ الْحُكْمُ تَارَةً يَكُونُ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ، وَتَارَةً تَكْمِيلًا لَهَا، وَتَارَةً مُدِيمًا لَهَا، وَذَكَرَ أَمْثِلَةً مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ لَهُ نَظَرٌ فِي الْأَحْكَامِ.
ثُمَّ الْمُنَاسِبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَاتِ، وَإِلَى مَا هُوَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَاتِ، وَإِلَى مَا هُوَ فِي مَحَلِّ التَّتِّمَاتِ وَالتَّكْمِيلَاتِ، وَهِيَ فِي مَرَاتِبِهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ فِي التَّقْدِيمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ يُقَدَّمُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَقْسَامِهِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَالْبَابَانِ وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ مَضْمُونُ الْمُنَاسِبِ، وَالْمُنَاسِبُ مُتَضَمِّنٌ لِلْمَصْلَحَةِ.
وَمِثَالُ اجْتِمَاعِ أَقْسَامِهِ الثَّلَاثَةِ فِي وَصْفٍ وَاحِدٍ أَنَّ نَفَقَةَ النَّفْسِ ضَرُورِيَّةٌ، وَنَفَقَةَ الزَّوْجَاتِ حَاجِيَّةٌ، وَنَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَتِمَّةٌ وَتَكْمِلَةٌ، وَلِهَذَا قَدَّمَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، وَتَأَكَّدَتْ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى نَفَقَةِ الْقَرِيبِ حَتَّى سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ بِمُضِيِّ الزَّمَنِ دُونَ نَفَقَتِهَا. وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ مَرَاتِبَ الْمُنَاسِبِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَسُرْعَةِ الْقَبُولِ وَعَدَمِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي مُنَاسَبَاتِ الْأَحْكَامِ لِعِلَلِهَا، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/385)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مُنْشِأً لِلْحِكْمَةِ، كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ» .
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ مِنْ دَقَائِقِ هَذَا الْبَابِ خُصُوصًا عَلَى نَشَأَةِ الطُّلَّابِ، فَيَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِكَشْفِهِ، وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ أَلْفَاظًا يَنْبَغِي الْكَشْفُ عَنْهَا، ثُمَّ ذِكْرُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا كَمَا يَنْبَغِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا الْأَلْفَاظُ الْمَذْكُورَةُ، فَهِيَ الْمُنَاسِبُ، وَالْمَنْشَأُ، وَالْحِكْمَةُ.
أَمَّا الْمُنَاسِبُ، فَقَدْ سَبَقَ الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ.
وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ فَهُوَ مَحَلُّ النَّشْءِ وَهُوَ الظُّهُورُ، يُقَالُ: نَشَأَ يَنْشَأُ نَشْأً وَنُشُوءًا: إِذَا بَدَا، وَظَهَرَ، وَنَشَأَ الشَّيْءُ: مَظْهَرُهُ وَمَبْدَؤُهُ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَظْهَرُ وَيَبْدُو مِنْهُ.
وَالْحِكْمَةُ غَايَةُ الْحِكَمِ الْمَطْلُوبَةِ بِشَرْعِهِ، كَحِفْظِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ بِشَرْعِ الْقَوْدِ وَالْقَطْعِ.
إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَيَكُونُ هَذَا الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ مَنْشَأً لِلْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الْحُكْمِ غَيْرَ مُشْتَرَطٍ خِلَافًا لِقَوْمٍ، بَلِ الْمُعْتَبَرُ ثُبُوتُ الْمَصْلَحَةِ عَقِيبَهُ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنْشَأً لَهَا أَوْ لَا، فَإِنَّ قَوْلَنَا: هَذَا الْوَصْفُ مُنَاسِبٌ يَصْدُقُ بِاعْتِبَارَاتٍ ثَلَاثٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَنْشَأً لِلْحِكْمَةِ، كَقَوْلِنَا: السَّفَرُ مَنْشَأُ الْمَشَقَّةِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّرَخُّصِ، وَالْقَتْلُ مَنْشَأُ الْمَفْسَدَةِ; وَهِيَ تَفْوِيتُ النَّفْسِ، وَالزِّنَى مَنْشَأُ
(3/386)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَفْسَدَةِ; وَهِيَ تَضْيِيعُ الْأَنْسَابِ وَإِلْحَاقُ الْعَارِ، فَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَنْشَأُ عَنْهَا الْحِكْمَةُ الَّتِي ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ لِأَجْلِهَا، وَأَصْلَحُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: إِيجَابُ الْقِصَاصِ مَنْشَأُ حِكْمَةِ الرَّدْعِ عَنِ الْقَتْلِ، وَإِيجَابُ الْحَدِّ مَنْشَأُ حِكْمَةِ الرَّدْعِ عَنِ الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةٍ وَدَرْءَ مَفْسَدَةٍ، وَهِيَ الْحِكْمَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ.
الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُعَرِّفًا لِلْحِكْمَةِ وَدَلِيلًا عَلَيْهَا، كَقَوْلِنَا: النِّكَاحُ أَوِ الْبَيْعُ الصَّادِرُ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ يُنَاسِبُ الصِّحَّةَ، أَيْ: يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ جَعْلَ الْبَيْعِ سَبَبًا لِلصِّحَّةِ.
قُلْتُ: التَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ مَثَلًا، وَالْحَاجَةُ اقْتَضَتْ جَعْلَ الْبَيْعِ سَبَبًا لِتَحْصِيلِ الِانْتِفَاعِ بِوَاسِطَةِ الصِّحَّةِ، فَالْحَاجَةُ مُنَاسِبَةٌ لِتَحْصِيلِ الِانْتِفَاعِ بِوَاسِطَةِ الْبَيْعِ.
الِاعْتِبَارُ الثَّالِثُ: أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَ الْوَصْفِ، وَلَمْ يَنْشَأْ عَنْهُ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، كَشُكْرِ النِّعْمَةِ الْمُنَاسِبِ لِلزِّيَادَةِ مِنْهَا، فَالشُّكْرُ هُوَ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ، وَزِيَادَةُ النِّعْمَةِ هِيَ الْحِكْمَةُ، وَوُجُوبُ الشُّكْرِ هُوَ الْحُكْمُ، لَكِنْ فِي كَوْنِ الشُّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ النِّعْمَةِ نَظَرٌ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ تَقْرِيبِيَّةٌ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَحْقِيقِيَّةً. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُنَا: الْغِنَى مُنَاسِبٌ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ، وَدَفْعًا لِضَرَرِ الْفَقْرِ عَنْهُمْ، فَالْغِنَى هُوَ الْوَصْفُ، وَإِيجَابُ الزَّكَاةِ هُوَ الْحُكْمُ، وَمُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ هِيَ الْحِكْمَةُ، وَكُلُّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ تَعْلِيلِيٍّ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ مُنَاسِبٍ يَقْتَضِيهِ، وَمِنْ حِكْمَةٍ هِيَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. وَاعْتَبِرْ هَذَا بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالِاسْتِئْنَاسِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ تَجِدُهُ صَحِيحًا وَإِنَّمَا قَيِّدْنَا الْحُكْمَ بِأَنَّهُ تَعْلِيلِيٌّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ التَّعَبُّدِيَّ
(3/387)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنِ اقْتَضَاهُ سَبَبٌ، وَتَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ حِكْمَةٌ، لَكِنَّ سَبَبَهُ تَارَةً يُنَاسِبُ، وَتَارَةً لَا يُنَاسِبُ كَأَكْلِ لَحْمِ الْجَزُورِ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ.
قَوْلُهُ: «فَيُفِيدُ التَّعْلِيلُ بِهِ» أَيْ: مَتَى كَانَ الْوَصْفُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ عَقِيبَهُ مَصْلَحَةٌ لِرَابِطِ عَقْلِيٍّ، فَهُوَ مُنَاسِبٌ، فَيُفِيدُنَا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ، أَيْ: إِنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّلٌ بِهِ، «لِإِلْفِنَا مِنَ الشَّارِعِ رِعَايَةَ» مَصَالِحِ الْعِبَادِ تَفَضُّلًا لَا وُجُوبًا، فَمَتَى رَأَيْنَا حُكْمًا ثَبَتَ عَقِيبَ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ، وَذَلِكَ الْحُكْمُ مُتَضَمِّنٌ مَصْلَحَةً; غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ ثَبَتَ لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي أَفْضَى إِلَيْهَا ذَلِكَ الْوَصْفُ.
«وَبِالْجُمْلَةِ مَتَى أَفْضَى الْحُكْمُ إِلَى مَصْلَحَةٍ عُلِّلَ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا» كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ الْمُفْضِي إِلَى صِيَانَةِ الدِّينِ، يُعَلَّلُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ تَبْدِيلُ الدِّينِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي دَرْؤُهَا مِنْ أَكْبَرِ الْمَصَالِحِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَاشِئَةً عَنْ ضَابِطِهَا، أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ كَمَشَقَّةِ السَّفَرِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي جَوَازِ التَّرَخُّصِ. وَالثَّانِي وَهُوَ الَّذِي لَا تَكُونُ الْحِكْمَةُ فِيهِ نَاشِئَةً عَنْ ضَابِطِهَا; إِمَّا أَنْ يَكُونَ الضَّابِطُ دَالًّا عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، أَوْ لَا. فَالْأَوَّلُ: كَالِانْتِفَاعِ الْمُعْتَبَرِ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّصَرُّفِ مِنَ الْأَهْلِ. وَالثَّانِي: كَزِيَادَةِ النِّعْمَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مِلْكِ النِّصَّابِ.
قُلْتُ: هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ بِأَبْسَطَ مِنْهُ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ غُمُوضٌ عَلَى بَعْضِ النَّاظِرِينَ، وَقَدْ سَبَقَ مَعْنَاهُ مُمَثَّلًا، وَضَابِطُ الْحِكْمَةِ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي رَتَّبَ
(3/388)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّارِعُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ، وَرَبَطَهُ بِهِ لِتَحْصِيلِهَا.
ثُمَّ الْحِكْمَةُ قَدْ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهَا لِانْضِبَاطِهَا فِي نَفْسِهَا، فَيُعْتَبَرُ حُصُولُهَا حَقِيقَةً، كَصِيَانَةِ النُّفُوسِ الْحَاصِلِ مِنْ إِيجَابِ الْقِصَاصِ، وَقَدْ لَا يُمْكِنُ فَيُعْتَبَرُ بِمَظِنَّتِهَا، كَرَبْطِ جَوَازِ التَّرَخُّصِ بِالسَّفَرِ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْمَشَقَّةِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّرَخُّصِ.
وَهَذَا الْمِثَالُ إِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِلْمُرَادِ، فَذَاكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا، فَالْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ مُحَصِّلَةٌ لَهُ عِنْدَ الْفَطِنِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ إِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَهُوَ الْمُؤَثِّرُ» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا بَيَانٌ لِأَقْسَامِ تَأْثِيرِ الْمُنَاسِبِ فِي الْحُكْمِ وَمَعْنَى تَأْثِيرِهِ، وَهُوَ اقْتِضَاؤُهُ بِحُكْمِ الْمُنَاسَبَةِ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَأَقْسَامُهُ عَلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» أَرْبَعَةٌ: لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُؤَثِّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، أَوْ يُؤَثِّرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَإِنْ شِئْتَ، قُلْتَ: إِمَّا أَنْ يُؤَثِّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، أَوْ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا قَدْ تَرَتَّبَ عَلَى وَصْفٍ مُنَاسِبٍ ثَبَتَتْ مُنَاسَبَتُهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ; أَلْحَقْنَا بِهِ إِثْبَاتَ عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى. هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «ثُمَّ إِنْ ظَهْرَ تَأْثِيرُ عَيْنُهُ فِي
(3/389)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ» فَهَذَا الْمُؤَثِّرُ أَيْ: ثَبَتَ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ كَمَا سَبَقَ. ثُمَّ إِنَّا نُورِدُ الْأَمْثِلَةَ عَلَى تَرْتِيبِ «الْمُخْتَصَرِ» وَنُبَيِّنُ مَقَاصِدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ مِنْ أَلْفَاظِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَهَذَا الْمَكَانُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقِيَاسِ تَحْقِيقًا وَتَصَوُّرًا، خُصُوصًا عَلَى الْمُبْتَدِئِ وَمَنْ ضَعُفَتْ أَنَسَتُهُ بِهِ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ قَوْلُنَا: سَقَطَتِ الصَّلَاةُ عَنِ الْحُرَّةِ الْحَائِضِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لِمَشَقَّةِ التَّكْرَارِ، لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَتَكَرَّرُ، فَلَوْ وَجَبَ قَضَاؤُهَا، لَشَقَّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، فَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ الْمَشَقَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي إِسْقَاطِ الصَّلَاةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَأَلْحَقْنَا الْأَمَةَ بِالْحُرَّةِ فِي ذَلِكَ، فَعَيْنُ الْوَصْفِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ أَثَّرَ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ سُقُوطُ الصَّلَاةِ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْمِثَالِ نَظَرٌ، لِأَنَّ دَلِيلَ الشَّرْعِ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ فِي خُصُوصِ الْحُرَّةِ حَتَّى يَكُونَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْأَمَةِ قِيَاسًا عَلَيْهَا، بَلْ وَرَدَ فِي الْحَائِضِ، وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، فَالْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْأَمَةِ بِمَا ثَبَتَ فِي الْحُرَّةِ، وَالدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَمْرَةَ قَالَتْ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ فَقَالَتْ: كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَقْضِي الصَّوْمَ، وَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ. وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ عُمُومِ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، ثُمَّ انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ.
(3/390)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَعَمْ، هَذَا الْمِثَالُ يَصِحُّ عَلَى جِهَةِ التَّقْدِيرِ، أَيْ: لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِذَلِكَ فِي خُصُوصِ الْحُرَّةِ، لَكَانَ إِلْحَاقُ الْأَمَةِ بِهَا فِيهِ مِنْ بَابِ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إِلْحَاقُ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، وَإِلْحَاقُ وِلَايَةِ النِّكَاحِ بِوِلَايَةِ الْمَالِ بِجَامِعِ الصِّغَرِ، فَالصِّغَرُ وَصْفٌ أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْوِلَايَةُ عَلَى الصَّغِيرِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ إِلَّا مَحَلُّ الْوِلَايَةِ وَهُوَ الْمَالُ وَالنِّكَاحُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: الطَّوَافُ مَوْجُودٌ فِي الْفَأْرَةِ وَنَحْوِهَا، فَتَكُونُ طَاهِرَةً كَالْهِرِّ، فَالطَّوَافُ وَصْفٌ أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يَضُرُّ ظُهُورُ مُؤَثِّرٍ آخَرَ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ فَيُعَلَّلَ بِالْكُلِّ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ لَا يَضُرُّ وُجُودُ وَصْفٍ آخَرَ مَعَهُ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ الثَّابِتُ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ فِيهِ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، بَلْ إِنْ وُجِدَ مَعَهُ مُؤَثِّرٌ آخَرَ، عُلِّلَ بِهِمَا الْأَصْلُ، وَأُلْحِقَ الْفَرْعُ بِهِ بِجَامِعِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ كَالْحَائِضِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُرْتَدَّةِ; يُعَلَّلُ امْتِنَاعُ وَطْئِهَا بِالْأَسْبَابِ الثَّلَاثَةِ: الْحَيْضِ وَالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ، فَلَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَقِيسَ الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ فِي ذَلِكَ بِأَحَدِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، صَحَّ، وَكَانَ مِنْ بَابِ الْمُنَاسِبِ الْمُؤَثِّرِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ النَّصُّ شَامِلًا لَهَا.
قَوْلُهُ: «وَكَقِيَاسِ تَقْدِيمِ الْأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ عَلَى تَقْدِيمِهِ فِي الْإِرْثِ» .
هَذَا مِثَالُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِنَا: الْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ
(3/391)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُقَدَّمٌ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ قِيَاسًا عَلَى تَقْدِيمِهِ فِي الْإِرْثِ، فَالْوَصْفُ الَّذِي هُوَ الْأُخُوَّةُ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُتَّحِدٌ بِالنَّوْعِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي هُوَ الْوِلَايَةُ وَالْإِرْثُ مُتَّحِدَانِ بِالْجِنْسِ لَا بِالنَّوْعِ، فَهَذَا وُصْفٌ أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَهُوَ جِنْسُ التَّقْدِيمِ، فَعَيْنُ الْأُخُوَّةِ أَثَّرَتْ فِي جِنْسِ التَّقْدِيمِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ هَذَا; وَهُوَ تَأْثِيرُ الْمَشَقَّةِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ وَالسُّقُوطَ مُتَّحِدَانِ بِالنَّوْعِ، أَيِ: الْمَشَقَّةَ فِي الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ مُتَّحِدَانِ بِالنَّوْعِ، وَسُقُوطَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمَا كَذَلِكَ، إِذْ هِيَ مَشَقَّةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَسُقُوطٌ وَسُقُوطٌ، بِخِلَافِ الْأُخُوَّةِ مَعَ الْوِلَايَةِ وَالْإِرْثِ، إِذْ نَقُولُ: هِيَ أُخُوَّةٌ وَأُخُوَّةٌ، فَيَتَّحِدَانِ بِالنَّوْعِ، وَلَا نَقُولُ: وِلَايَةٌ وَوِلَايَةٌ، وَلَا إِرْثٌ وَإِرْثٌ; حَتَّى يَتَّحِدَا فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ، بَلْ نَقُولُ: وِلَايَةُ نِكَاحٍ وَإِرْثٍ، فَيَخْتَلِفَانِ بِالنَّوْعِ، أَيْ: لَا يَجْمَعُهُمَا نَوْعٌ وَاحِدٌ، بَلْ إِنَّمَا يَجْمَعُهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ جِنْسُ التَّقْدِيمِ.
قَوْلُهُ: «وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا مِثَالُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ مَا أَثَّرَ جِنْسُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِنَا: سَقَطَتِ الصَّلَاةُ عَنِ الْحَائِضِ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ قِيَاسًا عَلَى الْمُسَافِرِ، فَقَدْ أَثَّرَ جِنْسُ الْمَشَقَّةِ فِي عَيْنِ السُّقُوطِ، إِذْ مَشَقَّةُ تَكْرَارِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ مُخَالِفَةٌ لِمَشَقَّةِ إِتْمَامِهَا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ فَبِالْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، أَمَّا مَاهِيَّةُ السُّقُوطِ فِي حَقِّهِمَا فَوَاحِدَةٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ
(3/392)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَقُولُ: هَذَا الْمِثَالُ هُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ; وَهُوَ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ نَوْعَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّأْثِيرِ وَاحِدٌ، وَكَذَا نَوْعُ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا مِنْ جِهَةِ سَبَبِهِمَا، إِذْ هَذِهِ مَشَقَّةُ تَكْرَارٍ، وَهَذِهِ مَشَقَّةُ إِتْمَامٍ، وَهَذَا سُقُوطُ أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَذَاكَ سُقُوطُ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا.
وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ: كَإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ عَنِ الْحَائِضِ لِلْمَشَقَّةِ، فَإِنَّ جِنْسَ الْمَشَقَّةِ أَثَّرَ فِي عَيْنِ هَذَا السُّقُوطِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِمُسَافِرٍ وَلَا غَيْرِهِ. وَهَذَا يُسَمَّى «الْمُلَائِمَ» أَيِ: الْمُوَافِقَ أَيْ: هُوَ مُوَافِقٌ لِتَصَرُّفِ الشَّرْعِ فِي تَأْثِيرِ جِنْسِ الْأَسْبَابِ فِي أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ اصْطِلَاحِيٌّ، وَإِلَّا فَسَائِرُ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ مُلَائِمَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، إِذْ هِيَ مُوَافِقَةٌ لِجِنْسِ مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ لِلْمَصَالِحِ الْمُنَاسِبَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ يَسِيرِ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ، وَالْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِإِفْضَاءِ ذَلِكَ بِالِاسْتِرْسَالِ فِيهِ إِلَى السُّكْرِ وَالْوَطْءِ الْمُحَرَّمَيْنِ مِنْ بَابِ حَسْمِ الْمَوَادِّ، فَجِنْسُ حَسْمِ الْمَوَادِّ أَثَّرَ فِي تَحْرِيمِ عَيْنِ شُرْبِ الْيَسِيرِ وَعَيْنِ الْخَلْوَةِ.
قَوْلُهُ: «وَإِنْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا مِثَالُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ، وَهُوَ مَا أَثَّرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، «كَتَأْثِيرِ جِنْسِ الْمَصَالِحِ فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ» أَيْ: إِلْحَاقُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِبَعْضٍ بِجَامِعِ الْمُنَاسَبَةِ الْمَصْلَحِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ.
وَمَثَّلَهُ الْقَرَافِيُّ بِإِلْحَاقِ شَارِبِ الْخَمْرِ بِالْقَاذِفِ فِي جَلْدِهِ ثَمَانِينَ، كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرَاهُ إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الْمُفْتَرِي. فَأَخَذَ مُطْلَقَ الْمُنَاسَبَةِ، وَمُطْلَقَ الْمَظِنَّةِ.
(3/393)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: فَمَظِنَّةُ جِنْسِ الِافْتِرَاءِ وَهُوَ الْوَصْفُ أَثَّرَتْ فِي جِنْسِ الْجَلْدِ أَوِ الْحَدِّ، وَهُوَ الْحُكْمُ. وَهَذَا يُسَمَّى الْمُنَاسِبَ «الْغَرِيبَ» لِقِلَّةِ الْتِفَاتِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ، فَبَقِيَ لِقِلَّةِ وُقُوعِهِ، كَالْغَرِيبِ بَيْنَ أَهْلِ الْبَلَدِ.
«وَقِيلَ: هَذَا هُوَ الْمُلَائِمُ» يَعْنِي قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: الْمُلَائِمُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، «وَمَا سِوَاهُ» مِنَ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ «مُؤَثِّرٌ» وَهِيَ تَأْثِيرُ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ، وَتَأْثِيرُ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ، وَتَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ.
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ أَنَّا بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ نَجِدُهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ يُرَاعِي جِنْسَ الْمَصَالِحِ فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ. وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ مُلَائِمًا لِتَصَرُّفِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ، فَهُوَ أَقْوَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْمَذْكُورِ كَمَا سَيَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا كَانَ الْأَضْعَفُ مُلَائِمًا، فَجَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ الْأَقْوَى مُؤَثِّرًا، وَإِنْ تَفَاوَتَ فِي قُوَّةِ التَّأْثِيرِ وَضَعْفِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا كَلَامٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(3/394)
________________________________________
وَلِلْجِنْسِيَّةِ مَرَاتِبٌ: فَأَعَمُّهَا فِي الْوَصْفِ: كَوْنُهُ وَصْفًا، ثُمَّ مَنَاطًا، ثُمَّ مَصْلَحَةً خَاصَّةً، وَفِي الْحُكْمِ: كَوْنُهُ حُكْمًا، ثُمَّ وَاجِبًا وَنَحْوَهُ، ثُمَّ عِبَادَةً، ثُمَّ صَلَاةً.
وَتَأْثِيرُ الْأَخَصِّ فِي الْأَخَصِّ أَقْوَى، وَتَأْثِيرُ الْأَعَمِّ فِي الْأَعَمِّ يُقَابِلُهُ، وَالْأَخَصُّ فِي الْأَعَمِّ، وَعَكْسُهُ وَاسِطَتَانِ.
وَقِيلَ: الْمُلَائِمُ: مَا ذُكِرَ فِي الْغَرِيبِ، وَالْغَرِيبُ: مَا لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ، وَلَا مُلَاءَمَتُهُ لِجِنْسِ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، نَحْوَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِكَوْنِهَا مُسْكِرًا، وَتَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مُعَارَضَةً لِلزَّوْجِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ كَالْقَاتِلِ، إِذْ لَمْ نَرَ الشَّرْعَ الْتَفَتَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ مُنَاسِبٍ، اقْتَرَنَ الْحُكْمُ بِهِ.
وَقَصَرَ قَوْمٌ الْقِيَاسَ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، لِاحْتِمَالِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ تَعَبُّدًا، أَوْ لِوَصْفٍ ثُمَّ لَمْ نَعْلَمْهُ، أَوْ لِهَذَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ، فَالتَّعْيِينُ بِهِ تَحَكُّمٌ.
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُتَّبِعَ الظَّنُّ وَهُوَ حَاصِلٌ بِاقْتِرَانِ الْمُنَاسِبِ، وَلَمْ تَشْتَرِطِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي أَقْيِسَتِهِمْ كَوْنُ الْعِلَّةِ مَنْصُوصَةً وَلَا إِجْمَاعِيَّةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَلِلْجِنْسِيَّةِ مَرَاتِبٌ " إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَصْفَ مُؤَثِّرٌ فِي الْحُكْمِ، وَالْحُكْمَ ثَابِتٌ بِالْوَصْفِ، وَمُسَمَّى الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ جِنْسٌ تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُ مَدْلُولِهِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، كَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ مَدْلُولِ الْجِسْمِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَجْنَاسِ كَمَا تَقَرَّرَ أَوَّلُ الْكِتَابِ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ تَارَةً بِالْجِنْسِ،
(3/395)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَتَارَةً بِالنَّوْعِ; احْتَجْنَا إِلَى بَيَانِ مَرَاتِبِ جِنْسِ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ وَمَعْرِفَةِ الْأَخَصِّ مِنْهَا مِنَ الْأَعَمِّ، لِيَتَحَقَّقَ لَنَا مَعْرِفَةُ أَنْوَاعِ تَأْثِيرِ الْأَوْصَافِ فِي الْأَحْكَامِ.
فَأَعَمُّ مَرَاتِبِ " الْوَصْفِ كَوْنُهُ وَصْفًا " لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ، أَوْ لَا يَكُونَ، إِذْ بِتَقْدِيرٍ أَنْ يَكُونَ طَرْدِيًّا غَيْرَ مُنَاسِبٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُنَاطَ بِهِ حُكْمٌ، فَكُلُّ مَنَاطٍ وَصْفٌ، وَلَيْسَ كُلُّ وَصْفٍ مَنَاطًا، " ثُمَّ " كَوْنُهُ " مَنَاطًا " لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً أَوْ لَا، فَكُلُّ مَصْلَحَةٍ مَنَاطٌ لِلْحُكْمِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنَاطٍ مَصْلَحَةً; لِجَوَازِ أَنْ يُنَاطَ الْحُكْمُ بِوَصْفٍ تَعَبُّدِيٍّ، لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ، وَكَلَامُنَا فِي الْمَصْلَحَةِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، أَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا يَخْلُو تَصَرُّفُ الشَّرْعِ عَنْ مَصْلَحَةٍ. " ثُمَّ " كَوْنُ الْوَصْفِ " مَصْلَحَةً " لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مَصْلَحَةً عَامَّةً، بِمَعْنَى أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِمُطْلَقِ النَّفْعِ، وَقَدْ تَكُونُ " خَاصَّةً " بِمَعْنَى كَوْنِهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ أَوِ التَّكْمِلَاتِ وَالتَّتِمَّاتِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الِاسْتِصْلَاحِ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ، فَأَعَمُّ مَرَاتِبِهِ " كَوْنُهُ حُكْمًا " لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا. " ثُمَّ " كَوْنُهُ " وَاجِبًا وَنَحْوَهُ " أَيْ: مِنَ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، وَهِيَ الْوَاجِبُ وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمُبَاحُ، وَمَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ كَمَا سَبَقَ، إِذِ الْوَاجِبُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً اصْطِلَاحِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا. " ثُمَّ " كَوْنُهُ " عِبَادَةً " لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، " ثُمَّ " كَوْنُهُ " صَلَاةً " إِذْ كَلُّ صَلَاةٍ عِبَادَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ عِبَادَةٍ صَلَاةً.
(3/396)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَعَمُّ أَجْنَاسِ الْحُكْمِ كَوْنُهُ حُكْمًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ طَلَبًا أَوْ تَخْيِيرًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ تَحْرِيمًا أَوْ إِيجَابًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ أَوْ إِيجَابَ الصَّلَاةِ، وَأَعَمُّ أَحْوَالِ الْوَصْفِ كَوْنُهُ وَصْفًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ مُنَاسِبًا، وَأَخَصُّ مِنَ الْمُنَاسِبِ كَوْنُهُ مُعْتَبَرًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ مَشَقَّةً أَوْ مَصْلَحَةً أَوْ مَفْسَدَةً خَاصَّةً، ثُمَّ أَخُصُّ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَاتِ أَوِ الْحَاجَاتِ أَوِ التَّتِمَّاتِ. قَالَ: فَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَظْهَرُ الْأَجْنَاسُ الْعَالِيَةُ وَالْمُتَوَسِّطَةُ، وَالْأَنْوَاعُ السَّافِلَةُ لِلْأَحْكَامِ وَالْأَوْصَافِ مِنَ الْمُنَاسِبِ وَغَيْرِهِ، فَالْإِسْكَارُ نَوْعٌ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَالْمَفْسَدَةُ جِنْسٌ لَهُ، وَالْأُخُوَّةُ نَوْعٌ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَالتَّقْدِيمُ فِي الْمِيرَاثِ نَوْعٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَهِيَ تَأْثِيرُ نَوْعٍ فِي نَوْعٍ.
قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي تَقْسِيمِ مَرَاتِبِ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ أَحْسَنُ مِمَّا فِي " الْمُخْتَصَرِ " وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ وَاحِدًا، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبًا.
قَوْلُهُ: " وَتَأْثِيرُ الْأَخَصِّ فِي الْأَخَصِّ " إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: لِمَا عُرِفَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ الْأَخَصَّ وَالْأَعَمَّ مِنَ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ; فَلْيَعْلَمْ أَنَّ تَأْثِيرَ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ يَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَتَأْثِيرُ " الْأَخَصِّ فِي الْأَخَصِّ أَقْوَى " أَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ، كَمَشَقَّةِ التَّكْرَارِ فِي سُقُوطِ الصَّلَاةِ، وَالصِّغَرِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، " وَتَأْثِيرُ الْأَعَمِّ فِي الْأَعَمِّ " يُقَابِلُ ذَلِكَ، فَهُوَ أَضْعَفُ أَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ، وَتَأْثِيرُ " الْأَخَصِّ فِي الْأَعَمِّ وَعَكْسُهُ " وَهُوَ تَأْثِيرُ الْأَعَمِّ فِي الْأَخَصِّ " وَاسِطَتَانِ " بَيْنَ ذَيْنِكَ الطَّرَفَيْنِ، إِذْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُوَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَخَصِّيَّةِ، وَضَعْفٌ مِنْ جِهَةِ الْأَعَمِّيَّةِ،
(3/397)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِخِلَافِ الطَّرَفَيْنِ، إِذِ الْأَوَّلُ تَمَحَّضَتْ فِيهِ الْأَخَصِّيَّةُ، فَتَمَحَّضَتْ لَهُ الْقُوَّةُ، وَالثَّانِي تَمَحَّضَتْ فِيهِ الْأَعَمِّيَّةُ، فَتَمَحَّضَ لَهُ الضَّعْفُ. وَأَشَرْتُ بِعِبَارَةِ " الْمُخْتَصَرِ " إِلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْمَكَانِ. فَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَا ظَهَرَ فِي الْعِبَادَةِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ فِي الْوَاجِبِ، وَمَا ظَهَرَ فِي الْوَاجِبِ أَخَصُّ مِمَّا ظَهَرَ فِي الْحُكْمِ.
قُلْتُ: لِأَنَّ التَّأْثِيرَ فِي الْأَخَصِّ أَقْوَى مِنْ تَحْصِيلِ ظَنِّ حُصُولِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ.
قَوْلُهُ: " وَقِيلَ: الْمُلَائِمُ مَا ذُكِرَ فِي الْغَرِيبِ " إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا قَوْلٌ آخَرُ فِي الْمُلَائِمِ، وَهُوَ أَنَّهُ " مَا ذُكِرَ فِي الْغَرِيبِ " وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الِالْتِفَاتَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ مِنَ الشَّارِعِ، فَيَكُونُ مُلَائِمًا لِتَصَرُّفِهِ.
أَمَّا " الْغَرِيبُ " ; فَهُوَ: " مَا لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ وَلَا مُلَاءَمَتُهُ لِجِنْسِ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، نَحْوَ " قَوْلِنَا: " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، لِكَوْنِهَا مُسْكِرًا " فَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ مُسْكِرٍ، بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَرِدَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ، وَلَا إِجْمَاعٌ، وَتَرِثُ الْمَبْتُوتَةُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مُعَارَضَةً لِلزَّوْجِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَالْقَاتِلِ " مَوْرُوثَهُ، لِأَنَّا " لَمْ نَرَ الشَّرْعَ الْتَفَتَ إِلَى " مِثْلِ " ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ " يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ، " بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ مُنَاسِبٍ " أَيْ: مُنَاسِبٌ مُجَرَّدٌ عَنِ الشَّهَادَةِ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ. " اقْتَرَنَ الْحُكْمُ بِهِ " وَمُجَرَّدُ الِاقْتِرَانِ لَا يَكْفِي فِي ثُبُوتِ الْعِلِّيَّةِ.
قُلْتُ: الَّذِي تَضَمَّنَهُ «الْمُخْتَصَرُ» وَأَصْلُهُ: أَنَّ الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: مُؤَثِّرٌ وَمُلَائِمٌ وَغَرِيبٌ. وَفِي جَمِيعِهَا خِلَافٌ.
(3/398)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا الْمُؤَثِّرُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ فِي جِنْسِهِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُؤَثِّرَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَمَا سِوَاهُ مُؤَثِّرٌ» .
وَأَمَّا الْمُلَائِمُ، فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَقِيلَ: الْمُلَائِمُ مَا ذُكِرَ فِي الْغَرِيبِ» .
وَأَمَّا الْغَرِيبُ، فَفِيهِ قَوْلَانِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُهُ، وَلَا مُلَاءَمَتُهُ لِجِنْسِ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ. وَذَكَرَ الْبَرَوِيُّ فِي «الْمُقْتَرَحِ» أَنَّ الْمُؤَثِّرَ مَا دَلَّ النَّصُّ أَوِ الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَالْمُلَائِمُ هُوَ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ.
وَقَالَ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ الْحَوَارِيُّ: الْعِلَلُ خَمْسٌ، وَذَكَرَ سِتًّا: الْمُؤَثِّرُ، وَالْمُلَائِمُ، وَالْغَرِيبُ، وَالشَّبَهُ، وَالْمُخَيَّلُ، وَالْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ، فَلَعَلَّهُ ذَكَرَهَا سَادِسَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَقُولُ بِهَا، كَمَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ
(3/399)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَا عُرِفَ كَوْنُهُ عِلَّةً بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ. قَالَ: وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِبُخَارَى وَمَرْوَ وَهُوَ مَا كَانَ مُنَاسِبًا. قَالَ: وَفِي اصْطِلَاحِنَا مَا عُرِفَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْعِلَّةِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَالْمُلَائِمُ مَا عُرِفَ تَأْثِيرُ نَوْعِهِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ، كَتَأْثِيرِ نَوْعِ الْجِنَايَةِ فِي نَوْعِ الْعُقُوبَةِ، وَالْغَرِيبُ مَا أَثَّرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ.
قُلْتُ: وَهَذَا كُلُّهُ اخْتِلَافٌ اصْطِلَاحِيٌّ بِدَلِيلِ مَا حَكَى الْحَوَارِيُّ مِنَ اخْتِلَافِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ الْمَرْوَزِيِّينَ وَبَيْنَهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْمُؤَثِّرِ، وَكَذَلِكَ أَمْثِلَةُ أَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ، وَرُبَّمَا كَانَ بَعْضُهَا مُطَابِقًا، وَرُبَّمَا كَانَ غَيْرَ مُطَابِقٍ.
وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ مَرَاتِبَ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَأَنَّ الْخُصُوصَ جِهَةُ قُوَّةٍ وَالْعُمُومَ ضَعْفٌ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. فَانْظُرْ فِي مَرَاتِبِ التَّأْثِيرِ الْوَاقِعَةِ لَكَ، فَإِنَّ أَقْوَاهَا مِنْ أَضْعَفِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ، وَسَمِّ أَنْوَاعَهَا مَا شِئْتَ، وَلَا تَرْتَبِطْ بِتَسْمِيَةِ غَيْرِكَ وَلَا تَمْثِيلِهِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا تَسْمِيَتَهُمْ تَعْرِيفًا لِاصْطِلَاحِهِمْ وَبَعْضِ أَمْثِلَتِهِمُ الَّتِي ضَرَبُوهَا لِأَنْوَاعِ التَّأْثِيرِ ثَابِتًا لِلنَّاظِرِ، وَالْأَمْرُ أَضْبَطُ مِنْ ذَلِكَ.
فَائِدَةٌ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُنَاسِبَ الْمَصْلَحِيَّ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهُ، أَوْ إِلْغَاؤُهُ، أَوْ لَا يُعْلَمَ مِنْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَالْمُنْقَسِمُ إِلَى الْمُؤَثِّرِ وَالْمُلَائِمِ وَالْغَرِيبِ، هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ الَّذِي عُلِمَ اعْتِبَارُهُ دُونَ الْآخَرِينَ إِلَّا الْمُنَاسِبَ الْمُرْسَلَ عِنْدَ مَالِكٍ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَبَعْضُهُمْ يَشْتَرِطُ مَعَ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ تَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ وَهُوَ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ فَقَطْ، أَوْ جِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ فَقَطْ; فَهُوَ مُنَاسِبٌ غَرِيبٌ.
(3/400)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُنَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ كَالْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ، فَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْقَتْلِ فِي عَيْنِ الْقِصَاصِ، وَتَأْثِيرُ جِنْسِ الْجِنَايَةِ فِي جِنْسِ الْعُقُوبَةِ، فَالْجِنَايَةُ جِنْسٌ لِلْقَتْلِ، وَالْعُقُوبَةُ جِنْسٌ لِلْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا فِي أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَنْقُلُ الْمِلْكَ: بِيْعٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ، وَصَادَفَ مَحَلَّهُ، فَنَقَلَ الْمِلْكَ قِيَاسًا عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَشْرِطْ، فَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ الْبَيْعِ الصَّادِرِ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ فِي نَقْلِ الْمِلْكِ، وَهُوَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْوَصْفِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْبَيْعِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ، ظَهَرَ فِي جِنْسِ نَقْلِ الْمِلْكِ، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ، فَالتَّصَرُّفُ جِنْسٌ لِلْبَيْعِ، وَحُصُولُ الْغَرَضِ جِنْسٌ لِلْمِلْكِ.
وَمِثَالُ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ بِاعْتِبَارِ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ تَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالْإِسْكَارِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَمْ يَرِدْ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَهَاهُنَا إِنَّمَا أَثَّرَ عَيْنُ وَصْفِ الْإِسْكَارِ فِي عَيْنِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَلَا شَاهِدَ لَهُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْإِسْكَارِ فِي جِنْسِ التَّحْرِيمِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ لِأَنَّ جِنْسَ السُّكْرِ أَوِ الْإِسْكَارِ الْمَفْسَدَةُ أَوْ سَبَبُهَا، وَجِنْسَ التَّحْرِيمِ الْحُكْمُ، وَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْمَفْسَدَةِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ كَثِيرًا جِدًّا كَمَا سَبَقَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا اعْتَبَرَهُ هَؤُلَاءِ لَازِمًا مِمَّا قُلْنَاهُ أَوَّلًا، أَعْنِي بِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرَ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ أَخَصُّ مِنْ تَأْثِيرِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، وَالْأَخَصُّ يَسْتَلْزِمُ الْأَعَمُّ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الَّذِي أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ هُوَ جِنْسَ الْوَصْفِ الْأَعْلَى أَثَّرَ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْأَعْلَى، فَهَاهُنَا تَأْثِيرُهُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرَ غَيْرِهِ لِلتَّعَذُّرِ، إِذْ لَيْسَ فَوْقَ الْجِنْسِ الْأَعْلَى مَا يَسْتَلْزِمُهُ.
(3/401)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَجَعَلَ الْآمِدِيُّ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ مَا كَانَ مُعْتَبَرًا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَالْمُلَائِمَ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَجِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَالْغَرِيبَ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
قُلْتُ: وَبِالْجُمْلَةِ مَتَى رَأَيْنَا الْوَصْفَ الْمُنَاسِبَ قَدْ أَثَّرَ نَوْعًا مِنَ التَّأْثِيرِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِأَجْلِهِ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ وَرَبْطِهِ بِهِ، بَلْ نَفْسُ ظُهُورِ تَأْثِيرِ الْمُنَاسِبِ نَوْعًا يُفِيدُ الظَّنَّ الْمَذْكُورَ، كَمَنْ رَأَيْنَاهُ قَابَلَ الْإِحْسَانَ بِالْإِحْسَانِ، وَالْإِسَاءَةَ بِالْإِسَاءَةِ فِي وَقْتٍ مَا، وَلَمْ يَعْهَدْ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الْمُكَافَأَةِ وَعَدَمِهَا، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَصَدَ الْمُكَافَأَةَ حَمْلًا لِتَصَرُّفِهُ عَلَى ظَاهِرِ الْحِكْمَةِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ يَقْتَضِي الْقَوْلَ بِالْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: «وَقَصَرَ قَوْمٌ الْقِيَاسَ عَلَى الْمُؤَثِّرِ» إِلَى آخِرِهِ.
يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِجَامِعِ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ فِي الْأَصْلِ ـ وَقَدْ عُلِمَ مَا الْمُؤَثِّرُ ـ وَشُبْهَتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَا لَوْ أَجَزْنَا الْقِيَاسَ بِجَامِعٍ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ كَالْمُلَائِمِ وَالْغَرِيبِ، لَلَزِمَ التَّحَكُّمُ وَالتَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّا مَثَلًا لَوْ قِسْنَا النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ بِالنَّبِيذِ لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ تَعَبُّدًا غَيْرَ مُعَلَّلٍ، كَتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْحُمْرِ الْأَهْلِيَّةِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُهَا لِوَصْفٍ آخَرَ مُنَاسِبٍ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْوَصْفِ الْمُعَيَّنِ وَهُوَ الْإِسْكَارُ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْمُقْتَضِي لِتَحْرِيمِهِ هَذِهِ الْأُمُورَ، كَانَ تَعْيِينُ بَعْضِهَا لِإِضَافَةِ التَّعْيِينِ إِلَيْهِ تَحَكُّمًا. وَأَمَّا بُطْلَانُ التَّحَكُّمِ، فَظَاهِرٌ. وَحِينَئِذٍ يَجِبُ قَصْرُ الْقِيَاسِ عَلَى الْجَامِعِ الْمُؤَثِّرِ، لِأَنَّ تَأْثِيرَهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ
(3/402)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، فَلَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الِاحْتِمَالَاتِ، فَالتَّحَكُّمُ فِيهِ مَأْمُونٌ.
قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَرُدَّ قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اقْتِرَانَ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْمُلَائِمِ وَالْغَرِيبِ يُفِيدُ الظَّنَّ بِأَنَّهُ سَبَبُهُ وَمُقْتَضِيهِ، وَالظَّنُّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَالْمُقَدِّمَتَانِ ظَاهِرَتَانِ، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِاعْتِبَارِهِمَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا عَلِمْنَا قَطْعًا مِنْ تَصَرُّفِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْأَقْيِسَةِ أَنَّهُمْ رَبَطُوا الْأَحْكَامَ بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا «كَوْنَ الْعِلَّةِ مَنْصُوصَةً وَلَا إِجْمَاعِيَّةً» وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُشْتَرِطًا، لَمَا تَرَكُوا اعْتِبَارَهُ، وَإِلَّا لَلَزِمَ الْقَدْحُ فِي الْعِصْمَةِ النَّبَوِيَّةِ، إِذْ كَانُوا هُمْ كُلَّ الْأُمَّةِ حِينَئِذٍ. فَلَوْ تَرَكُوا مَا هُوَ مُشْتَرَطٌ فِي الِاجْتِهَادِ، لَأَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ، وَلَزِمَ وُقُوعُ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ مُخَالِفًا لِمُخْبِرِهِ، وَهُوَ قَدْحٌ فِي الْعِصْمَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/403)
________________________________________
النَّوْعُ الثَّانِي السَّبْرُ: وَهُوَ إِبْطَالُ كُلِّ عِلَّةٍ عُلِّلَ بِهَا الْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ إِجْمَاعًا، إِلَّا وَاحِدَةً فَتُعَيَّنُ; نَحْوَ: عِلَّةُ الرِّبَا الْكَيْلُ أَوِ الطُّعْمُ أَوِ الْقُوتُ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ إِلَّا الْأُولَى، فَإِنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى تَعْلِيلِهِ، جَازَ ثُبُوتُهُ تَعَبُّدًا، فَلَا يُفِيدُ. وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبْرُهُ حَاصِرًا بِمُوَافَقَةِ خَصْمِهِ، أَوْ عَجْزِهِ عَنْ إِظْهَارِ وَصْفٍ زَائِدٍ فَيَجِبُ إِذًا عَلَى خَصْمِهِ تَسْلِيمُ الْحَصْرِ، أَوْ إِبْرَازُ مَا عِنْدَهُ لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَيُفْسِدُهُ بِبَيَانِ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَعَ حَذْفِهِ، أَوْ بِبَيَانِ طَرْدِيَّتِهِ، أَيْ: عَدَمُ الْتِفَاتِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ فِي مَعْهُودِ تَصَرُّفِهِ، وَلَا يَفْسُدُ الْوَصْفُ بِالنَّقْضِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ جُزْءَ عِلَّةٍ أَوْ شَرْطِهَا، فَلَا يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ صِحَّةُ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ بِدُونِهِ، وَلَا بِقَوْلِهِ: لَمْ أَعْثُرْ بَعْدَ الْبَحْثِ عَلَى مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ، فَيُلْغَى، إِذْ يُعَارِضُهُ الْخَصْمُ بِمِثْلِهِ فِي وَصْفِهِ، وَإِذَا اتَّفَقَ خَصْمَانِ عَلَى فَسَادِ عِلَّةِ مَنْ عَدَاهُمَا، فَإِفْسَادُ أَحَدِهِمَا عِلَّةَ الْآخَرِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ، إِذِ اتِّفَاقُهُمَا لَا يَقْتَضِي فَسَادَ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ فَسَادَ عِلَّةِ غَيْرِهِ مِنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ، فَيَسْتَوِيَانِ، فَطَرِيقُ التَّصْحِيحِ مَا سَبَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«النَّوْعُ الثَّانِي» : مِنْ أَنْوَاعِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِنْبَاطِ إِثْبَاتُهَا بِالسَّبْرِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُهُ لُغَةً، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الِاخْتِبَارِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ مَا يُخْتَبَرُ بِهِ طُولُ الْجُرْحِ وَعَرْضُهُ: مِسْبَارًا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي السَّبْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ: «إِبْطَالُ كُلِّ عِلَّةٍ عُلِّلَ بِهَا الْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ إِجْمَاعًا» أَيْ: بِالْإِجْمَاعِ، «إِلَّا وَاحِدَةً فَتَتَعَيَّنُ» . وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ
(3/404)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُسْتَدِلَّ بِالْقِيَاسِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ كَذَا لِيَلْحَقَ بِهِ الْفَرْعُ الْمَقِيسُ، وَأَرَادَ تَبْيِينَ الْعِلَّةِ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، ذَكَرَ كُلَّ عِلَّةٍ عُلِّلَ بِهَا حُكْمُ الْأَصْلِ، ثُمَّ يُبْطِلُ الْجَمِيعَ إِلَّا الْعِلَّةَ الَّتِي يَخْتَارُهَا، فَيَتَعَيَّنُ التَّعْلِيلُ بِهَا، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ بِوَاسِطَتِهَا، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: «عِلَّةُ الرِّبَا» فِي الْبُرِّ وَنَحْوِهِ إِمَّا «الْكَيْلُ أَوِ الطُّعْمُ أَوِ الْقُوتُ، وَالْكُلُّ» أَيْ: الْعِلَلُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ «إِلَّا الْأُولَى» مَثَلًا، وَهِيَ الْكَيْلُ إِنْ كَانَ حَنْبَلِيًّا أَوْ حَنَفِيًّا، أَوْ إِلَّا الطُّعْمُ إِنْ كَانَ شَافِعِيًّا، أَوْ إِلَّا الْقُوتُ إِنْ كَانَ مَالِكِيًّا، فَيَتَعَيَّنُ لِلتَّعْلِيلِ، وَيُلْحِقُ الْأُرْزَ وَالذَّرَّةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِالْبُرِّ بِجَامِعِ الْكَيْلِ، وَيُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى بُطْلَانِ مَا أَبْطَلَهُ، إِمَّا بِانْتِقَاضِهِ انْتِقَاضًا مُؤَثِّرًا، أَوْ بِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالِاتِّفَاقِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصِرِ» أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّبْرِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلًا، إِذْ لَوْ كَانَ تَعَبُّدًا، لَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَى تَعْلِيلِهِ - قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ - إِذْ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَلَفًا فِي تَعْلِيلِهِ، فَلِلْخَصْمِ الْتِزَامُهُ التَّعَبُّدَ فِيهِ، فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ.
قُلْتُ: وَهَذَا مَوْضِعُ تَفْصِيلٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ مُنَاظِرًا، أَوْ خَصْمُهُ مُنْتَمِيًا إِلَى مَذْهَبٍ ذِي مَذْهَبٍ ; كَفَاهُ مُوَافَقَةُ الْخَصْمِ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَلَمْ يُعْتَبَرِ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ مُجْتَهِدًا، اعْتُبِرَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَعْلِيلِهِ، إِذِ الْمُجْتَهِدُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، إِذْ بَدَوْنِهِ لَهُ أَنْ يَلْزَمَ التَّعَبُّدَ
(3/405)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الْأَصْلِ، وَيُفْسِدَ كُلَّ عِلَّةٍ عَلَّلَ بِهَا. أَمَّا إِذَا أَجْمَعَ عَلَى كَوْنِهِ مُعَلَّلًا، لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ نَاظِرًا لَا مُنَاظِرًا، اعْتُبِرَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّعْلِيلِ أَيْضًا، لِأَنَّ غَرَضَهُ لَيْسَ إِفْحَامَ خَصْمٍ، بَلِ اسْتِخْرَاجَ حُكْمٍ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّ الْعِلَّةَ هَذَا الْوَصْفُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِي تَعْلِيلِ الْحُكْمِ، وَفِي هَذَا شَيْءٌ لَا يَخْفَى.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَبْرُهُ حَاصِرًا لِجَمِيعِ الْعِلَلِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَاصِرًا; لَجَازَ أَنْ يَبْقَى وَصْفٌ هُوَ الْعِلَّةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ يَذْكُرْهُ، فَيَقَعُ الْخَطَأُ فِي الْقِيَاسِ، وَلَا يَصِحُّ السَّبْرُ. وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِقَوْلِهِ: «فَإِنْ لَمْ يُجْمِعْ عَلَى تَعْلِيلِهِ; جَازَ ثُبُوتُهُ تَعَبُّدًا» «وَكَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ سَبْرُهُ حَاصِرًا» .
وَاعْلَمْ أَنْ دَلَالَةَ السَّبْرِ قَاطِعَةٌ إِنْ كَانَ حَصْرُ الْأَقْسَامِ وَإِبْطَالُ مَا عَدَا الْوَاحِدَ مِنْهَا قَاطِعًا، وَإِنْ كَانَا ظَنِّيَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَنِّيَّةً.
قَوْلُهُ: «بِمُوَافَقَةِ خَصْمِهِ» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا بَيَانٌ لِطَرِيقِ ثُبُوتِ حَصْرِ السَّبْرِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُوَافَقَةُ الْخَصْمِ عَلَى انْحِصَارِ الْعِلَّةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، كَانْحِصَارِ عِلَّةِ الرِّبَا فِي الْكَيْلِ أَوِ الطُّعْمِ أَوِ الْقُوتِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ إِذَا سَلَّمَ انْحِصَارَ الْعِلَّةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ وَاسْتَتَمَّ لَهُ إِبْطَالُهَا إِلَّا وَاحِدَةً، حَصَلَ مَقْصُودُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَعْجِزَ الْخَصْمُ «عَنْ إِظْهَارِ وَصْفٍ زَائِدٍ» عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، لِأَنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ; فَقَدْ سَلِمَ الْحَصْرُ ضَرُورَةً، فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْخَصْمِ عَلَى الْحَصْرِ إِمَّا اخْتِيَارِيَّةٌ بِالتَّسْلِيمِ، أَوِ اضْطِرَارِيَّةٌ بِعَجْزِهِ عَنِ الزِّيَادَةِ.
قَوْلُهُ: «فَيَجِبُ إِذَنْ عَلَى خَصْمِهِ تَسْلِيمُ الْحَصْرِ، أَوْ إِبْرَازُ مَا عِنْدَهُ لِيَنْظُرَ
(3/406)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِيهِ» أَيْ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَبْرَ الْمُسْتَدِلِّ لِلْأَوْصَافِ حَاصِرٌ بِمُوَافَقَةِ الْخَصْمِ، أَوْ عَجْزِهِ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَجَبَ حِينَئِذٍ عَلَى الْخَصْمِ الْمُعْتَرِضِ إِمَّا «تَسْلِيمُ الْحَصْرِ» فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمُسْتَدِلِّ مِنْهُ، «أَوْ إِبْرَازُ مَا عِنْدَهُ» يَعْنِي إِظْهَارَ مَا عِنْدَ الْمُعْتَرِضِ مِنَ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ «لِيَنْظُرَ فِيهِ، فَيُفْسِدُهُ» وَلَا يَسْمَعُ قَوْلَ الْمُعْتَرِضِ: عِنْدِي وَصْفٌ زَائِدٌ، لَكِنِّي لَا أَذْكُرُهُ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إِمَّا صَادِقٌ، فَيَكُونُ كَاتِمًا لِعِلْمٍ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، فَيَفْسُقُ بِذَلِكَ، أَوْ كَاذِبٌ، فَلَا يُعَوَّلُ عَلَى قَوْلِهِ، وَيَلْزَمُهُ الْحَصْرُ.
قَوْلُهُ: «بِبَيَانِ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَعَ حَذْفِهِ، أَوْ بِبَيَانِ طَرْدِيَّتِهِ» إِلَى آخِرِهِ.
يَعْنِي إِذَا أَبْرَزَ الْخَصْمُ الْمُعْتَرِضُ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مِنَ الْأَوْصَافِ، لَزِمَ الْمُسْتَدِلُّ أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ، فَيُفْسِدُهُ، وَيُبَيِّنُ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ، وَلَهُ إِلَى ذَلِكَ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُبَيِّنَ بَقَاءَ الْحُكْمِ مَعَ حَذْفِهِ، أَيْ: عَدَمِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ أَوِ الشَّافِعِيُّ: يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ أَمَانٌ وُجِدَ مِنْ عَاقِلٍ مُسْلِمٍ غَيْرِ مُتَّهَمٍ، فَيَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الْحُرِّ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرَتْ هُوَ أَوْصَافُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ فَقَطْ، بَلْ هُنَاكَ وَصْفٌ آخَرُ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ، وَهُوَ مَفْقُودٌ فِي الْعَبْدِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ مُلْغًى بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِنَّ أَمَانَهُ يَصِحُّ بِاتِّفَاقٍ مَعَ عَدَمِ الْحُرِّيَّةِ، فَصَارَ وَصْفًا لَاغِيًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْعِلَّةِ.
(3/407)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي إِبْطَالِ الْوَصْفِ الزَّائِدِ: أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهُ وَصْفًا طَرْدِيًّا، أَيْ: لَمْ يَلْتَفِتِ «الشَّرْعُ إِلَيْهِ فِي مَعْهُودِ تَصَرُّفِهِ» أَيْ: فِيمَا عُهِدَ مِنْ تَصَرُّفِهِ، كَالطُّولِ وَالْقَصْرِ وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ.
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: يَسْرِي الْعِتْقُ فِي الْأَمَةِ قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ بِجَامِعِ الرِّقِّ، إِذْ لَا عِلَّةَ غَيْرُهُ عَمَلًا بِالسَّبْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: الذُّكُورِيَّةُ وَصْفٌ زَائِدٌ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَمُلَ عِتْقُهُ بِالسِّرَايَةِ، حَصَلَ مِنْهُ مَا لَا يَحْصُلُ مِنَ الْأَمَةِ مِنْ تَأَهُّلِهِ لِلْحُكْمِ وَالْإِمَامَةِ وَأَنْوَاعِ الْوِلَايَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ السِّرَايَةِ فِي الْأَكْمَلِ ثُبُوتُهُ فِي غَيْرِهِ.
فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْفَرْقِ مُنَاسِبٌ، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نَرَ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ الذُّكُورِيَّةَ وَالْأُنُوثِيَّةَ فِي بَابِ الْعِتْقِ، فَيَكُونُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ عَلَى خِلَافٍ مَعْهُودٍ تَصْرِفُهُ، فَيَكُونُ وَصْفًا طَرْدِيًّا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يَفْسُدُ الْوَصْفُ بِالنَّقْضِ» إِلَى آخِرِهِ. يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَا يَكْفِيهِ فِي إِفْسَادِ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْرَزَهُ الْمُعْتَرِضُ أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهُ مُنْتَقِضًا، بَلْ يُوجَدُ بِدُونِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ الْعِلَّةِ، أَوْ شَرْطًا لَهَا. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِوُجُودِ الْحُكْمِ لِوُجُودِهِ، «وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ» بِالْحُكْمِ «صِحَّةُ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ بِدُونِهِ» لِأَنَّهُ جُزْءٌ لَهَا وَشَرْطٌ، وَالْعِلَّةُ لَا تَصِحُّ بِدُونِ جُزْئِهَا أَوْ شَرْطِهَا.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ الْكَيْلُ، فَعَارَضَهُ الْمُعْتَرِضُ بِالطُّعْمِ، فَنَقَضَهُ الْمُسْتَدِلُّ بِالْمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يُطْعَمُ وَلَا رَبًّا فِيهِ، لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ فِي بُطْلَانِ كَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةً، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ عِلَّةِ الرِّبَا، بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَجْمُوعَ الْكَيْلِ وَالطُّعْمِ، أَوْ شَرْطًا فِيهَا فَتَكُونُ عِلَّةُ الرِّبَا الْكَيْلَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَكِيلُ مَطْعُومًا. وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ كَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً أَنْ يَكُونَ
(3/408)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْكَيْلُ عِلَّةً صَحِيحَةً، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الطُّعْمُ جُزْءَهَا أَوْ شَرْطَهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّقْضِ وَبَيْنَ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَعَ حَذْفِ الْوَصْفِ حَيْثُ كَانَ مُبْطِلًا لَهُ دُونَ النَّقْضِ: هُوَ أَنَّ بَقَاءَ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِ الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ وَلَا مُعْتَبَرٍ فِي الْحُكْمِ عِلَّةً وَلَا جُزْءَ عِلَّةٍ، وَلَا شَرْطًا، إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ فِيهِ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، لَمَا وُجِدَ بِدُونِهِ أَصْلًا، بِخِلَافِ وُجُودِ الْوَصْفِ بِدُونِ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي الْحُكْمِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَشْكَلُ، فَيُظَنُّ تَنَاقُضًا.
قَوْلُهُ: «وَلَا بِقَوْلِهِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَلَا يَفْسُدُ الْوَصْفُ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ بِقَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ: إِنِّي «لَمْ أَعْثُرْ بَعْدَ الْبَحْثِ عَلَى مُنَاسَبَةِ» عِلَّتِكَ أَيُّهَا الْمُسْتَدِلُّ، فَيَتَعَارَضُ الْكَلَامَانِ، وَيَقِفُ الْمُسْتَدِلُّ.
قَوْلُهُ: «وَإِذَا اتَّفَقَ خَصْمَانِ عَلَى فَسَادِ عِلَّةِ مَنْ عَدَاهُمَا، فَإِفْسَادُ أَحَدِهِمَا عِلَّةَ الْآخَرِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ» إِلَى آخِرِهِ.
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى ظُهُورِهِ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ إِذَا اتَّفَقَا عَلَى فَسَادِ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا فِي الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، ثُمَّ أَفْسَدَ أَحَدُهُمَا عِلَّةَ الْآخَرِ، مِثْلَ أَنِ اتَّفَقَ الْحَنْبَلِيُّ وَالشَّفْعَوِيُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الْكَيْلَ وَالطُّعْمَ عِلَّةٌ فَاسِدَةٌ، ثُمَّ نَقَضَ الشَّفَعَوِيُّ عِلَّةَ الْكَيْلِ بِالْمَاءِ، إِذْ هُوَ مَكِيلٌ وَلَا رِبًا فِيهِ، أَوْ نَقَضَ الْحَنْبَلِيُّ عِلَّةَ الطُّعْمِ بِالْمَاءِ أَيْضًا، إِذْ هُوَ مَطْعُومٌ وَلَا رِبًا فِيهِ عَلَى خِلَافٍ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مُصَحِّحًا لِعِلَّةِ النَّاقِضِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ: نَعَمْ، لِأَنَّ مَا عَدَا عِلَّتَيْهِمَا ثَبَتَ فَسَادُهُ بِاتِّفَاقِهِمَا، وَعِلَّةُ الْخَصْمِ ثَبَتَ فَسَادُهَا بِإِفْسَادِهَا، فَتَعَيَّنَتِ الْعِلَّةُ الْبَاقِيَةُ.
وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْبَاقِيَةِ، لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى
(3/409)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَسَادِ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا لَا يَقْتَضِي فَسَادَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ فِي اعْتِقَادِهِمَا، وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمَا، إِذْ غَيْرُهُمَا يَعْتَقِدُ فَسَادَ عِلَّتَهِمَا كَالْمَالِكِيِّ يَعْتَقِدُ فَسَادَ التَّعْلِيلِ بِالْكَيْلِ وَالطُّعْمِ، وَيَدَّعِي عِلَّةَ الْقُوتِ، فَيَتَعَارَضُ اعْتِقَادُهُمَا وَاعْتِقَادُهُ، وَكَذَلِكَ «كَلٌّ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ فَسَادَ عِلَّةِ غَيْرِهِ مِنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ» أَيْ: يَعْتَقِدُ فَسَادَ مَا سِوَى عِلَّتِهِ، فَيَتَعَارَضُ اعْتِقَادُهُمَا، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.
قُلْتُ: الْقَوْلَانِ يُمْكِنُ تَنْزِيلُهُمَا عَلَى حَالَيْنِ، وَيَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى فَسَادِ عِلَّةِ غَيْرِهِمَا، وَإِفْسَادِ أَحَدِهِمَا عِلَّةَ الْآخَرِ ; يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِلَّةِ مُنَاظِرِهِ جَدَلًا، لَا نَظَرًا وَاجْتِهَادًا، أَيْ: يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِهِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى إِفْحَامِ خَصْمِهِ وَقَطْعِهِ فِي مَقَامِ النَّظَرِ.
أَمَّا بِالْإِضَافَةِ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ شَرْعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَا، لِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ يَثْبُتُ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ مَا لَا يَثْبُتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَبِالْعَكْسِ، كَحُكْمِ الْحَاكِمِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا، وَلَا يُحِيلُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ بَاطِنًا، وَطَلَاقُ الْمُتَأَوِّلِ تَأْوِيلًا يَبْعُدُ عَنِ الظَّاهِرِ يُدِينُ فِيهِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَائِدَةٌ: اصْطَلَحَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى قَوْلِهِمْ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، يَبْدَءُونَ بِالسَّبْرِ، وَالسَّبْرُ: الِاخْتِبَارُ، وَالتَّقْسِيمُ: جَعْلُ الشَّيْءِ أَقْسَامًا.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ: التَّقْسِيمُ وَالسَّبْرُ، لِأَنَّا نُقَسِّمُ أَوَّلًا، فَنَقُولُ: الْعِلَّةُ إِمَّا كَذَا، أَوْ كَذَا، ثُمَّ نَسْبُرُ، أَيْ: نَخْتَبِرُ تِلْكَ الْأَوْصَافَ أَيُّهَا يَصْلُحُ عِلَّةً، لَكِنْ لَمَّا كَانَ التَّقْسِيمُ وَسِيلَةَ السَّبْرِ الَّذِي هُوَ الِاخْتِبَارُ أُخِّرَ عَنْهُ تَأْخِيرَ الْوَسَائِلِ،
(3/410)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقُدِّمَ السَّبْرُ تَقْدِيمَ الْمَقَاصِدِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ.
قُلْتُ: وَلَوْ حَمَلْنَا قَوْلَهُمْ: السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ عَلَى مَعْنَى سَبْرِ الْعِلَّةِ بِتَقْسِيمِ الْأَوْصَافِ، لَعَادَ إِلَى مَا قَالَهُ، إِذْ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ التَّقْسِيمَ سَبَبٌ لِلسَّبْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا إِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ السَّبْرَ مُفِيدٌ لِمَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ بِنَاءً عَلَى مُقَدِّمَاتٍ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ التَّعْلِيلُ، فَمَهْمَا أَمْكَنَ جَعْلُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا، لَا يُجْعَلُ تَعَبُّدًا.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي وَصْفِ الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا، فَمَتَى أَمْكَنَ إِضَافَتُهُ إِلَى الْمُنَاسِبِ، لَا يُضَافُ إِلَى غَيْرِهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا الْوَصْفَ الْبَاقِيَ بَعْدَ السَّبْرِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ عِلَّةً بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَالْأُولَى وَالثَّانِيَةُ ظَاهِرَتَانِ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ إِلَّا هَذَا الْوَصْفَ، فَدَلِيلُهَا مَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ لَهُ دُرْبَةٌ بِمُمَارَسَةِ الْأَحْكَامِ، وَاسْتِخْرَاجِ أَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا، إِذَا اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مِنْ غَيْرِهِ، أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِمَعْرِفَتِهِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ، إِذِ الْأَوْصَافُ الَّتِي تُنَاطُ بِهَا الْأَحْكَامُ إِمَّا عَقْلِيَّةٌ: كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرِّضَى وَالْعَمْدِيَّةِ، أَوْ مَحْسُوسَةٌ: كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالْغَصْبِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، أَوْ شَرْعِيَّةٌ: كَالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَإِدْرَاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَدَارِكِهِ - وَهِيَ الْعُقَلُ وَالْحِسُّ وَالشَّرْعُ - سَبْرٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ طَرِيقٌ مُوَصِّلٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/411)
________________________________________
النَّوْعُ الثَّالِثُ الدَّوَرَانُ: وَهُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْوَصْفِ، وَعَدَمَهُ بِعَدَمِهِ وَخَالَفَ قَوْمٌ.
لَنَا: يُوجِبُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ فَيُتَّبَعُ
قَالُوا: الْوُجُودُ لِلْوُجُودِ طَرْدٌ مَحْضٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَالْعَكْسُ لَا يُعْتَبَرُ هُنَا، ثُمَّ الْمَدَارُ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا لِلْعِلَّةِ، أَوْ جُزْءًا فَتَعْيِينُهُ لِلْعَلِيَّةِ تَحْكُّمٌ.
قُلْنَا: عَدَمُ تَأْثِيرِهِمَا مُنْفَرِدَيْنِ لَا يَمْنَعُ تَأْثِيرَهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ، ثُمَّ الْعَكْسُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ، وَلَكِنْ مَا أَفَادَهُ مِنَ الظَّنِّ مُتَّبَعٌ، وَاحْتِمَالُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا يَنْفِي إِفَادَةَ الظَّنِّ، وَهُوَ مَنَاطُ التَّمَسُّكِ، وَصَحَّحَ الْقَاضِي، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّمَسُّكَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ الْمُفِيدَةِ لِلطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، نَحْوَ: مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ، صَحَّ ظِهَارُهُ، وَمَنَعَ ذَلِكَ آخَرُونَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«النَّوْعُ الثَّالِثُ» : يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالِاسْتِنْبَاطِ; إِثْبَاتُهَا بِالدَّوَرَانِ.
وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ دَارَ يَدُورُ دَوْرًا وَدَوَرَانًا، إِذَا تَحَرَّكَ حَرَكَةً دَوْرِيَّةً، وَهِيَ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَى مَبْدَئِهَا، كَحَرَكَةِ الْفَلَكِ وَالدُّولَابِ وَالرَّحَا وَنَحْوِهَا.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي الدَّوَرَانَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: «وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْوَصْفِ» الْمُدَّعَى عِلَّةً «وَعَدَمُهُ بِعَدَمِهِ» .
قَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ اقْتِرَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ ثُبُوتِ الْوَصْفِ وَعَدَمِهِ مَعَ عَدَمِهِ، قَالَ: وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً.
قُلْتُ: وَبَعْضُهُمْ يُعَبِّرُ عَنِ الدَّوَرَانِ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، مِنْهُمُ الْآمِدِيُّ قَالَ:
(3/412)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدُلُّ عَلَيْهَا قَطْعًا، كَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ظَنًّا، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَبْنَاءِ زَمَانِنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
قُلْتُ: فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا: «وَخَالَفَ قَوْمٌ» أَيْ: فِي كَوْنِ الدَّوَرَانِ مُفِيدًا لِلْعِلِّيَّةِ خِلَافٌ.
مِثَالُ ذَلِكَ الْخَمْرُ; حِينَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا حَرَامٌ، فَهَذَا اقْتِرَانُ وُجُودِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْوَصْفِ، وَلَمَّا كَانَتْ عَصِيرًا، وَبَعْدَ أَنْ صَارَتْ خَلًّا بِالِاسْتِحَالَةِ، لَيْسَتْ مُسْكِرَةً، فَلَيْسَتْ حَرَامًا، فَهَذَا اقْتِرَانُ الْعَدَمِ بِالْعَدَمِ.
وَقَدْ يَكُونُ الدَّوَرَانُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا ذُكِرَ فِي الْخَمْرِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي صُورَتَيْنِ، كَقَوْلِهِمْ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي حُلِيِّ الِاسْتِعْمَالِ الْمُبَاحِ: الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلزَّكَاةِ فِي كُلٍّ مِنَ النَّقْدَيْنِ كَوْنُهُ أَحَدَ الْحَجَرَيْنِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ دَارٌ مَعَ كَوْنِهِ أَحَدَ الْحَجَرَيْنِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ، لَكِنَّ الدَّوَرَانَ فِي صُورَةٍ أَقْوَى مِنْهُ فِي صُورَتَيْنِ عَلَى مَا هُوَ مُدْرَكٌ ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا ظَاهِرًا.
قَوْلُهُ: «لَنَا» أَيْ: عَلَى أَنَّ الدَّوَرَانَ يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ هُوَ أَنَّهُ «يُوجِبُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ» فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ، أَمَّا أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً، فَلِدَلِيلِ الْعُرْفِ وَالشَّرْعِ; أَمَّا دَلِيلُ الْعُرْفِ، فَإِنَّ مَنْ نَادَيْنَاهُ بِاسْمٍ، فَغَضِبَ، ثُمَّ سَكَتْنَا عَنْهُ، فَزَالَ غَضَبُهُ، ثُمَّ نَادَيْنَاهُ فَغَضِبَ، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ; حَصَلَ لَنَا الْعِلْمُ فَضْلًا عَنِ الظَّنِّ بِأَنَّ عِلَّةَ غَضَبِهِ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا شَأْنُ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْأَصْلُ حَمْلُ الشَّرْعِيَّاتِ عَلَيْهَا مَا لَمْ يَقُمْ فَارِقٌ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، فَإِنَّ الْكَسْرَ مَثَلًا يُوجَدُ
(3/413)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِانْكِسَارُ بِوُجُودِهِ، وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهِ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ عَلِمَ الْأَطِبَّاءُ مَا عَلِمُوهُ مِنْ قُوَى الْأَدْوِيَةِ وَأَفْعَالِهَا، كَالْأَدْوِيَةِ الْمُسَهِّلَةِ وَالْقَابِضَةِ وَغَيْرِهَا، حَيْثُ دَارَتْ آثَارُهَا مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا. وَكَذَلِكَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ نُورِ الشَّمْسِ لَمَّا رَأَوْهُ يَكْمُلُ بِمُقَابَلَتِهَا، وَيَنْقُصُ بِمُقَارَبَتِهَا لِغَلَبَتِهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَدْسِ الْمُحْتَمَلِ; إِلَّا أَنَّ مُسْتَنَدَهُ الدَّوَرَانُ، وَمُسْتَنَدُ كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَمَّا دَلِيلُ الشَّرْعِ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعَثَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةَ عَامِلًا، فَلَمَّا عَادَ مِنْ عَمَلِهِ، جَاءَ بِمَالٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي، فَخَطَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا بَالُ الرَّجُلِ نَبْعَثُهُ فِي عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا لِي، أَلَا جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ، فَيَنْظُرَ هَلْ يُهْدَى لَهُ.
وَهَذَا عَيْنُ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّوَرَانِ، أَيْ: إِنَّا إِذَا اسْتَعْمَلْنَاكَ، أُهْدِيَ لَكَ، وَإِذَا لَمْ نَسْتَعْمِلْكَ لَمْ يُهْدَ لَكَ، فَعِلَّةُ الْهَدِيَّةِ لَكَ اسْتِعْمَالُنَا إِيَّاكَ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ يُوجِبُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ. وَأَمَّا أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ ظَنُّ الْعِلِّيَّةِ، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، فَلِأَنَّ الظَّنَّ مُتَّبَعٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ بِمَا عُرِفَ فِي الدَّلِيلِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ مِنْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» يَعْنِي الْمَانِعِينَ لِلِاحْتِجَاجِ بِالدَّوَرَانِ; احْتَجُّوا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاحْتِجَاجَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِوُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ، أَوْ بِانْتِفَائِهِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَهُوَ الْعَكْسُ، فَإِنْ كَانَ بِالْأَوَّلِ، فَهُوَ «طَرْدٌ مَحْضٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ» كَمَا تَقَرَّرَ، وَإِنْ كَانَ بِالثَّانِي كَانْتِفَاءِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْإِسْكَارِ، فَالْعَكْسُ
(3/414)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا يُعْتَبَرُ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَنْبَغِي الِاعْتِمَادُ عَلَى الدَّوَرَانِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْمَدَارَ» هُوَ مَا يَدُورُ مَعَهُ الْحُكْمُ وُجُودًا وَعَدَمًا قَدْ يَكُونُ عِلَّةَ الْإِسْكَارِ، وَ «قَدْ يَكُونُ لَازِمًا لِلْعِلَّةِ» كَالْحُمْرَةِ وَالْمَيَعَانِ وَالْقَذْفِ بِالزَّبَدِ، وَقَدْ يَكُونُ «جُزْءًا» لِلْعِلَّةِ كَالْعَمْدِيَّةِ أَوِ الْعُدْوَانِيَّةِ فِي عِلَّةِ الْقِصَاصِ، وَإِذَا كَانَ مَدَارُ الْحُكْمِ مُحْتَمِلًا لِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَتَعْيِينُهُ لِكَوْنِهِ عِلَّةً تَحَكُّمٌ، وَتَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّيْءُ قَدْ يَدُورُ مَعَ مَا لَيْسَ عِلَّةً، كَحَرَكَةِ الْأَفْلَاكِ مَعَ الْكَوَاكِبِ، وَلَيْسَتْ عِلَّةً لَهَا، وَالْجَوْهَرُ وَالْعَرَضُ كُلٌّ مِنْهُمَا دَائِرٌ مَعَ الْآخَرِ، وَلَيْسَتْ عِلَّةً لَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِالدَّوَرَانِ، فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» أَيْ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمْ; أَمَّا عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «عَدَمَ» تَأْثِيرِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ «مُنْفَرِدَيْنِ» أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمَا حَالَ انْفِرَادِهِ «لَا يَمْنَعُ تَأْثِيرَهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ» لِأَنَّ التَّرْكِيبَ يُفِيدُ مَا لَا يُفِيدُهُ الْإِفْرَادُ. وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ جَوَابٌ بِمَنْعِ الْحَصْرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إِمَّا بِالْوُجُودِ عِنْدَ الْوُجُودِ أَوْ بِالْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ تَقْسِيمٌ غَيْرُ حَاصِرٍ، فَقَوْلُنَا: لَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ بِالِاحْتِجَاجِ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَأْثِيرِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَكْسَ عَنِ الْعِلَّةِ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ حَيْثُ قَالَ: لَا تَكُونُ الْعِلَّةُ عِلَّةً حَتَّى يُقْبِلَ الْحُكْمُ بِإِقْبَالِهَا، وَيُدْبِرَ بِإِدْبَارِهَا، فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ أَنَّ الْعَكْسَ لَا يُعْتَبَرُ. وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ إِلْغَاءُ الدَّوَرَانِ.
وَبِتَقْدِيمِ التَّسْلِيمِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ - نَقُولُ: «الْعَكْسُ» فِي الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْعِلَّةِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُفِيدُ بِانْضِمَامِهِ إِلَى
(3/415)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطَّرْدِ ظَنًّا بِأَنَّ الْوَصْفَ عِلَّةٌ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُ مَا أَفَادَهُ مِنَ الظَّنِّ عَمَلًا بِالدَّلِيلِ الْعَامِّ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ يَحْصُلُ التَّرْجِيحُ وَالتَّكْمِيلُ بِمَا لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِالِاعْتِبَارِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ احْتِمَالُ دَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَ جُزْءِ عِلَّتِهِ أَوْ شَرْطِهَا، فَبِأَنْ نَقُولَ: «احْتِمَالُ» ذَلِكَ «لَا يَنْفِي إِفَادَةَ الظَّنِّ» بِأَنَّ مَدَارَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ عَلَى مَا سَبَقَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْعُرْفِ وَالشَّرْعِ، وَإِفَادَةُ الظَّنِّ بِذَلِكَ هِيَ «مَنَاطُ التَّمَسُّكِ» فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا كَانَ احْتِمَالُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَا يَنْفِي حُصُولَهَا، لَمْ يَضُرَّنَا، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَهَاهُنَا طَرِيقَةٌ فِي إِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ، لَكِنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِمِثْلِهَا، وَصُورَتُهَا أَنْ يُقَالَ: بَعْضُ الدَّوَرَانَاتِ حُجَّةٌ قَطْعًا كَدَوَرَانِ قَطْعِ الرَّأْسِ مَعَ الْمَوْتِ فِي جَارِي الْعَادَةِ، فَلْتَكُنْ جَمِيعُ الدَّوَرَانَاتِ حُجَّةً قَطْعًا تَسْوِيَةً وَعَدْلًا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَإِحْسَانًا إِلَى الْمُكَلَّفِينَ بِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ وَبِتَوْفِيرِ خَوَاطِرِهِمْ عَلَى النَّظَرِ فِي مَدَارِ فُرُوقِ الْأَحْكَامِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النَّحْلِ: 90] ، وَعُورِضَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَعْضَ الدَّوَرَانَاتِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا كَمَا سَبَقَ، فَلْيَكُنْ جَمِيعُهَا كَذَلِكَ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا لَوْ كَانَ حُجَّةً، لَوَرَدَ نَقْضًا عَلَى مَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْهَا، وَالنَّقْضُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ شَبَهِيَّةٌ خَيَالِيَةٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا عَلَى جِهَةِ تَدْرِيبِ النَّاظِرِ بِتَرْكِيبِ الْحُجَجِ، إِذْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ مِنْ أَحْسَنِهَا صُورَةً وَوَصْفًا.
قَوْلُهُ: «وَصَحَّحَ الْقَاضِي وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ التَّمَسُّكَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ الْمُفِيدَةِ
(3/416)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِلطَّرْدِ وَالْعَكْسِ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: اخْتُلِفَ فِي التَّمَسُّكِ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ الْمُفِيدَةِ لِلطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، كَقَوْلِنَا فِي تَصْحِيحِ ظِهَارِ الذِّمِّيِّ: «مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ، صَحَّ ظِهَارُهُ» كَالْمُسْلِمِ، وَفِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْخَيْلِ: مَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي ذُكُورَتِهِ مُنْفَرِدَةً لَا تَجِبُ فِي ذُكُورِهِ وَإِنَاثِهِ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ بِالِاطِّرَادِ وَالِانْعِكَاسِ، فَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَجَبَتْ فِي ذُكُورِهَا مُنْفَرِدَةً، فَوَجَبَتْ فِي ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا، وَالْحُمُرُ وَالْبِغَالُ لَمْ تَجِبْ فِي ذُكُورِهَا فَلَمْ تَجِبْ فِي ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي الْخَيْلِ.
فَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ صِحَّةَ طَلَاقِ الذِّمِّيِّ شَاهِدٌ لِصِحَّةِ ظِهَارِهِ، وَعَدَمَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي ذُكُورِ الْخَيْلِ شَاهِدٌ لِعَدَمِهَا فِي ذُكُورِهَا وَإِنَاثِهَا، فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِشَبَهِهِ بِالدَّوَرَانِ وَتَحْصِيلِهِ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِجَامِعِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ.
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ لَيْسَ نَصًّا فِي الْعِلِّيَّةِ وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا مُؤَثِّرًا وَلَا مُلَائِمًا، وَلَا مُنَاسِبًا غَرِيبًا وَلَا مُرْسَلًا، إِنَّمَا هُوَ مُخَيَّلٌ تَخْيِيلًا شَبَهِيًّا أَنَّ الْفَرْعَ الْمَشْهُودَ لَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى عِلَّةِ الْأَصْلِ الشَّاهِدِ، وَالظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنَ التَّخَيُّلِ إِنْ حَصَلَ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَلَا يُنَاطُ بِهِ حُكْمٌ، وَلَا يَكُونُ مُعَوَّلًا عَلَيْهِ.
قُلْتُ: التَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النُّظَّارِ وَالْمُجْتَهِدِينَ قُوَّةً وَضَعْفًا، وَبِاخْتِلَافِ الْأُصُولِ الشَّاهِدَةِ كَثْرَةً وَقِلَّةً، فَمَتَى كَانَ هَذَا الطَّرِيقُ مُفِيدًا مِنَ الظَّنِّ مَا يُسَاوِي مَا يُفِيدُهُ دَلِيلٌ آخَرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِيهِ، كَخَبَرِ الْوَاحِدِ أَوِ الْعُمُومِ أَوِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَنَحْوِهِ; صَحَّ التَّمَسُّكُ بِهِ، إِذْ قَدْ يَتَّفِقُ نَاظِرٌ فَاضِلٌ مُرْتَاضٌ، فَتَظْهَرُ لَهُ أُصُولٌ كَثِيرَةٌ شَاهِدَةٌ لِلْفَرْعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ
(3/417)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَتَّى يَكَادُ يَجْزِمُ أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْفَرْعِ حُكْمُ تِلْكَ الْأُصُولِ، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى مَا ظَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ مُنَاظِرًا، أَمْكَنَهُ إِبْرَازُ تِلْكَ الشَّوَاهِدِ لِخَصْمِهِ، وَقَرَّبَ مَا ادَّعَاهُ إِلَى ذِهْنِهِ بِالْمُقَدِّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمَقْبُولَةِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الظَّنُّ بِذَلِكَ، فَيَسْلَمَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/418)
________________________________________
خَاتِمَةٌ
اطِّرَادُ الْعِلَّةِ لَا يُفِيدُ صِحَّتَهَا، إِذْ سَلَامَتُهَا عَنِ النَّقْضِ لَا يَنْفِي بُطْلَانَهَا بِمُفْسِدٍ آخَرَ; وَلِأَنَّ صِحَّتَهَا بِدَلِيلِ الصِّحَّةِ لَا بِانْتِفَاءِ الْمُفْسِدِ، كَثُبُوتِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ الْمُقْتَضِي، لَا بِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ، وَالْعَدَالَةُ بِحُصُولِ الْمُعَدِّلِ، لَا بِانْتِفَاءِ الْجَارِحِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِهَا فَتَصِحُّ، مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا فَتَفْسَدُ.
وَإِذَا لَزِمَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَصْفِ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ، أَوْ رَاجِحَةٌ، أَلْغَاهَا قَوْمٌ إِذِ الْمُنَاسِبُ مَا تَلَقَّتْهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ بِالْقَبُولِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَحْصِيلِ دِينَارٍ مَعَ خَسَارَةِ مِثْلِهِ، أَوْ مِثْلَيْهِ، وَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ، إِذِ الْمَصْلَحَةُ مِنْ مُتَضَمِّنَاتِ الْوَصْفِ، وَالْمَفْسَدَةُ مِنْ لَوَازِمِهِ، فَيُعْتَبَرَانِ، لِاخْتِلَافِ الْجِهَةِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، إِذْ يَنْتَظِمُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ: لِي مَصْلَحَةٌ فِي كَذَا، لَكِنْ يَصُدُّنِي عَنْهُ مَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ كَذَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فَأَثْبَتَ النَّفْعَ مَعَ تَضَمُّنِهِ لِلْإِثْمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " خَاتِمَةٌ: اطِّرَادُ الْعِلَّةِ لَا يُفِيدُ صِحَّتَهَا " إِلَى آخِرِهِ.
لِمَا بَيْنَ الطُّرُقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ; أَخَذَ يُبَيِّنُ الطُّرُقَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي لَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا.
فَمِنْهَا: اطِّرَادُهَا لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا، إِذْ مَعْنَى اطِّرَادِهَا سَلَامَتُهَا عَنِ النَّقْضِ، وَهُوَ بَعْضُ مُفْسِدَاتِهَا، " وَسَلَامَتُهَا عَنْ " مُفْسِدٍ وَاحِدٍ " لَا يَنْفِي بُطْلَانَهَا
(3/419)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِمُفْسِدٍ آخَرَ " كَكَوْنِهَا قَاصِرَةً أَوْ عَدَمِيَّةً، أَوْ طَرْدِيَّةً غَيْرَ مُنَاسِبَةٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى التَّعْلِيلَ بِذَلِكَ، وَمَا مِثَالُ مَنْ يَقُولُ: هَذِهِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةٌ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُنْتَقِضَةً، إِلَّا مِثَالُ مَنْ يَقُولُ: هَذَا الْعَبْدُ صَحِيحٌ سَلِيمٌ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْمَى، إِذْ جَازَ أَنْ تَنْتَفِيَ سَلَامَتُهُ بِبَرَصٍ أَوْ عَرَجٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ حُكْمٌ، وَالْأَحْكَامُ إِنَّمَا تَثْبُتُ " صِحَّتُهَا بِدَلِيلِ الصِّحَّةِ لَا بِانْتِفَاءِ الْمُفْسِدِ " وَ " بِوُجُودِ الْمُقْتَضِي، لَا بِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ " وَعَدَالَةُ الشَّاهِدِ وَالرَّاوِي إِنَّمَا تَثْبُتُ " بِحُصُولِ الْمُعَدِّلِ لَا بِانْتِفَاءِ الْجَارِحِ " فَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ إِنَّمَا تَصِحُّ بِوُجُودِ مُصَحِّحِهَا، لَا بِانْتِفَاءِ مُفْسِدِهَا.
" وَقَوْلُ الْقَائِلِ ": هَذِهِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةٌ، إِذْ " لَا دَلِيلَ عَلَى فَسَادِهَا " " مُعَارَضٌ " بِقَوْلِ الْخَصْمِ: هِيَ فَاسِدَةٌ، إِذْ " لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا ".
وَمِنَ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ فِي إِثْبَاتِهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى صِحَّتِهَا بِاقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِهَا، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ، إِذِ الْحُكْمُ يَقْتَرِنُ بِمَا يُلَازِمُ الْعِلَّةَ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ، كَاقْتِرَانِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِلَوْنِهَا وَطَعْمِهَا وَرِيحِهَا، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ الْإِسْكَارُ.
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ مِنَ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثُ طُرُقٍ:
أَحَدُهَا: سَلَامَةُ الْعِلَّةِ عَنْ عِلَّةٍ تُفْسِدُهَا وَتَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا.
الثَّانِي: اطِّرَادُهَا وَجَرَيَانُهَا فِي حُكْمِهَا.
الثَّالِثُ: اطِّرَادُهَا وَانْعِكَاسُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّوَرَانَ لَا يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ، وَالطَّرِيقَانِ الْأَوَّلَانِ مُسْتَفَادَانِ مِنْ " الْمُخْتَصَرِ ".
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَمَمْنُوعٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ إِفَادَةِ الدَّوَرَانِ الْعِلِّيَّةِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: " وَإِذَا لَزِمَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْوَصْفِ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ " إِلَى
(3/420)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
آخِرِهِ.
أَيْ: إِذَا كَانَ الْوَصْفُ الْمَصْلَحِيُّ الْمُنَاسِبُ يَسْتَلْزِمُ، أَوْ يَتَضَمَّنُ مَفْسَدَةً مُسَاوِيَةً لِمَصْلَحَتِهِ، أَوْ رَاجِحَةً عَلَيْهَا، اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَلْ تُلْغَى مَصْلَحَتُهُ، وَتَخْتَلُّ مُنَاسَبَتُهُ أَمْ لَا؟ " فَأَلْغَاهَا قَوْمٌ " مِنْهُمْ الْآمِدِيُّ فِي " الْمُنْتَهَى " وَأَبْقَاهَا آخَرُونَ.
حُجَّةُ مَنْ أَلْغَاهَا: أَنَّ " الْمُنَاسِبَ مَا تَلَقَّتْهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ بِالْقَبُولِ " وَمَا عَارَضَ مَصْلَحَتَهُ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ " لَيْسَ كَذَلِكَ " فَلَا يَكُونُ مُنَاسِبًا، " إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَحْصِيلِ دِينَارٍ " عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ " خَسَارَةُ " دِينَارٍ أَوْ دِينَارَيْنِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ لِتَكَافُؤِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَالثَّانِي الْتِزَامٌ لِلْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ.
وَحُجَّةُ مَنْ أَبْقَاهَا: أَنَّ " الْمَصْلَحَةَ مِنْ مُتَضَمَّنَاتِ الْوَصْفِ، وَالْمَفْسَدَةَ مِنْ لَوَازِمِهِ " أَيْ: قَدْ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً وَلَزِمَتْهُ مَفْسَدَةٌ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا لِاخْتِلَافِ جِهَتِهِمَا، " كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ " تُعْتَبَرُ طَاعَةً مِنْ وَجْهٍ; مَعْصِيَةً مَنْ وَجْهٍ عَلَى مَا سَبَقَ، " إِذْ يَنْتَظِمُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ: لِي مَصْلَحَةٌ فِي كَذَا، لَكِنْ يَصُدُّنِي عَنْهُ مَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ كَذَا " كَمَا يَقُولُ التَّاجِرُ: لِي مَصْلَحَةٌ فِي رُكُوبِ الْبَرِّ، أَوِ الْبَحْرِ لِلتِّجَارَةِ، وَتَحْصِيلِ الرِّبْحِ، لَكِنْ يَصُدُّنِي عَنْهُ مَا فِيهِ مِنَ الْمُخَاطَرَةِ بِالْمَالِ، وَقَدْ يَقُولُ الشَّخْصُ: لِي فِي التَّزَوُّجِ مَصْلَحَةُ الْإِعْفَافِ، لَكِنَّ فِيهِ مَفْسَدَةَ إِلْزَامِ الْمُؤْنَةِ، وَيَقُولُ الْمُسَافِرُ: لِي فِي الْفِطْرِ مَصْلَحَةُ التَّرَخُّصِ وَالتَّخْفِيفِ، لَكِنَّ فِيهِ مَفْسَدَةُ فَوَاتِ الْأَجْرِ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَمُعَارَضَةُ ضِدِّ الشَّيْءِ لَهُ لَا يُبْطِلُ حَقِيقَتَهُ، فَكَذَلِكَ الْمَفْسَدَةُ إِذَا
(3/421)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَارَضَتِ الْمَصْلَحَةَ، لَا تُبْطِلُ حَقِيقَتَهَا.
نَعَمْ قَدْ يَخْفَى أَثَرُهَا، وَيُمْنَعُ اعْتِبَارُهَا، بِالْعَرْضِ إِذَا سَاوَتْهَا، أَوْ تَرَجَّحَتْ عَلَيْهَا، كَمَا قَرَّرْنَا فِي بَابِ الِاسْتِصْلَاحِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَعْتَبِرُ الْمَصْلَحَةَ مَعَ الْمَفْسَدَةِ الْأَطِبَّاءُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْغِذَاءُ الْفُلَانِيُّ نَافِعٌ مِنْ جِهَةِ كَذَا; مُضِرٌّ مِنْ جِهَةِ كَذَا، وَيُصْلِحُهُ كَذَا، " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى " فِي شَأْنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [الْبَقَرَةِ: 219] ، " فَأَثْبَتَ النَّفْعَ " وَهُوَ مَصْلَحَةٌ، " مَعَ تَضَمُّنِهِ لِلْإِثْمِ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَنَفْعُ الْخَمْرِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، كَمَا قَالَ الْحَرِيرِيُّ:
فَإِنَّ الْمُدَامَ تُقَوِّي الْعِظَامَ ... وَتَشْفِي السَّقَامَ وَتَنْفَيِ التَّرَحْ
وَالْأَطِبَّاءُ كَثِيرًا مَا يَضَعُونَهَا فِي أَنْوَاعِ الْمُدَاوَاةِ وَالْمُعَالَجَاتِ، وَرَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي التَّدَاوِي بِهَا.
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ، وَهُوَ الْقِمَارُ; فَنَفْعُهُ تَكْثِيرُ الْمَالِ، إِذْ هُوَ تِجَارَةٌ مُحَرَّمَةٌ كَالرِّبَا، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُوَسِّعُونَ بِمَا يَسْتَفِيدُونَ مِنْهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَيَذُمُّونَ مَنْ لَا يَحْضُرُهُ، وَيُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَيُسَمُّونَهُ الْبَرَمَ، أَيْ: الْبَخِيلَ.
وَأَمَّا مَفْسَدَتُهُمَا الَّتِي تَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْإِثْمُ، فَإِفْسَادُ الْعَقْلِ فِي الْخَمْرِ، وَالتَّغَابُنُ بِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ فِي الْمَيْسِرِ، وَالنِّزَاعُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا هُوَ فِي اخْتِلَالِ
(3/422)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُنَاسِبِ الْمَصْلَحِيِّ لِمُعَارَضَتِهِ مِثْلَهُ أَوْ أَرْجَحَ مِنْهُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ. أَمَّا الْعَمَلُ بِهِ، فَمَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ اخْتِلَالَ الْمُنَاسَبَةِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ، تَصَرَّفَ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مُرَاعَاةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بِالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا، وَالْوَاجِبُ هَاهُنَا امْتِنَاعُ الْعَمَلِ لِمَا سَبَقَ مِنْ لُزُومِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجَّحٍ، أَوِ الْتِزَامُ الْمَفْسَدَةِ الرَّاجِحَةِ، فَيَسْتَوِي الْفَرِيقَانِ فِي تَرْكِ الْعَمَلِ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ يَتْرُكُهُ لِاخْتِلَالِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ، وَالْآخَرَ يَتْرُكُهُ لِمُعَارَضَةِ الْمُقَاوِمِ أَوِ الرَّاجِحِ، فَتَرْكُ الْعَمَلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنَّ طَرِيقَهُ مُخْتَلِفٌ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/423)
________________________________________
وَقِيَاسُ الشَّبَهِ: قِيلَ: إِلْحَاقُ الْفَرْعِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ بِمَا هُوَ أَشْبَهُ مِنْهُمَا، كَالْعَبْدِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْبَهِيمَةِ، وَالْمَذْيِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ.
وَقِيلَ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى حِكْمَةٍ مَا مِنْ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، إِذِ الْوَصْفُ إِمَّا مُنَاسِبٌ مُعْتَبَرٌ كَشِدَّةِ الْخَمْرِ، أَوْ لَا، كَلَوْنِهَا وَطَعْمِهَا، أَوْ مَا ظُنَّ مَظِنَّةً لِلْمَصْلَحَةِ وَاعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، كَإِلْحَاقِ مَسْحِ الرَّأْسِ بِمَسْحِ الْخُفِّ فِي نَفْيِ التَّكْرَارِ، لِكَوْنِهِ مَمْسُوحًا تَارَةً، وَبِبَاقِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي إِثْبَاتِهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي الطَّهَارَةِ أُخْرَى.
فَالْأَوَّلُ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ، وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُ كُلِّ وَصْفٍ ظَهَرَ كَوْنُهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ.
وَالثَّانِي: طَرْدِيٌّ بَاطِلٌ.
وَالثَّالِثُ: الشَّبَهُ، وَفِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ قَوْلَانِ لِأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَالْأَظْهَرُ: نَعَمْ لِإِثَارَتِهِ الظَّنَّ، خِلَافًا لِلْقَاضِي.
وَالِاعْتِبَارُ بِالشَّبَهِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً خِلَافًا لِابْنِ عَلِيَّةَ.
وَقِيلَ: بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَنَاطٌ لِلْحُكْمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَقِيَاسُ الشَّبَهِ» إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْأُصُولِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِثْلِ وَالشَّبَهِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَالْمُشَابَهَةِ، وَإِنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ مَا سَاوَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَشِبْهَ الشَّيْءِ وَشَبِيهَهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مِنَ الْأَوْصَافِ.
وَحِينَئِذٍ تَتَفَاوَتُ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمَا قُوَّةً وَضَعْفًا بِحَسَبِ تَفَاوُتِ الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَهُمَا كَثْرَةً وَقِلَّةً، فَإِذَا اشْتَرَكَا فِي عَشَرَةِ أَوْصَافٍ، كَانَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَهُمَا كَثْرَةً أَقْوَى مِمَّا إِذَا اشْتَرَكَا فِي تِسْعَةٍ فَمَا دُونَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَهَذَا
(3/424)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُوَ الْأَمْرُ الْمُتَعَارَفُ، فَإِنْ أُطْلِقَ لَفْظُ الشَّبِيهِ عَلَى الْمِثْلِ، أَوْ لَفْظُ الْمِثْلِ عَلَى الشَّبِيهِ، فَهُوَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنَ الْأَوْصَافِ.
قَوْلُهُ: «قِيلَ: إِلْحَاقُ الْفَرْعِ» أَيْ: اخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِ قِيَاسِ الشَّبَهِ، فَقِيلَ: هُوَ «إِلْحَاقُ الْفَرْعِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ بِمَا هُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْهُمَا» أَيْ: مِنْ ذَيْنِكَ الْأَصْلَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي يَعْقُوبَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ تَرَدُّدُ الْعَبْدِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْبَهِيمَةِ، فِي التَّمْلِيكِ، فَمَنْ قَالَ: يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ; قَالَ: هُوَ إِنْسَانٌ يُثَابُ وَيُعَاقَبُ وَيَنْكِحُ وَيُطَلِّقُ، وَيُكَلَّفُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَيَفْهَمُ وَيَعْقِلُ، وَهُوَ ذُو نَفْسٍ نَاطِقَةٍ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ. وَمَنْ قَالَ: لَا يَمْلِكُ ; قَالَ: هُوَ حَيَوَانٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَرَهْنُهُ وَهِبَتُهُ وَإِجَارَتُهُ وَإِرْثُهُ أَشْبَهَ الدَّابَّةَ.
وَعَلَى هَذَا خَرَجَ الْخِلَافُ فِي ضَمَانِهِ إِذَا تَلِفَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنْ جَاوَزَتْ دِيَةَ الْحُرِّ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاعِ فِي ذَلِكَ، وَبِمَا دُونَ دِيَةِ الْحُرِّ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ تَشْبِيهًا لَهُ بِهِ، وَتَقَاعُدًا بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الْحُرِّ.
وَكَذَا الْمَذْيُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ، فَمَنْ حَكَمَ بِنَجَاسَتِهِ، قَالَ: هُوَ خَارِجٌ مِنَ الْفَرْجِ لَا يُخْلَقْ مِنْهُ الْوَلَدُ، وَلَا يَجِبُ بِهِ الْغُسْلُ، أَشْبَهَ الْبَوْلَ، وَمَنْ حَكَمَ بِطَهَارَتِهِ، قَالَ: هُوَ خَارِجٌ تُحَلِّلُهُ الشَّهْوَةُ، وَيَخْرُجُ أَمَامَهَا، فَأَشْبَهَ الْمَنِيَّ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي طَهَارَةِ الْمَذْيِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْمَنِيِّ، أَوْ رُطُوبَةٌ تُرْخِيهَا الْمَثَانَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَفَقَّدْتَ مَوَاقِعَ الْخِلَافِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَجَدْتَهَا نَازِعَةً إِلَى الشَّبَهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، فَإِنَّ غَالِبَ مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَجِدُهَا وَاسِطَةً بَيْنَ طَرَفَيْنِ تَنْزِعُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضَرْبٍ مِنَ الشَّبَهِ فَيَجْذِبُهَاَ أَقْوَى الشَّبَهَيْنِ إِلَيْهِ، فَإِنْ
(3/425)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَعَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ، فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، بَلْ فِي أَيِّ الطَّرَفَيْنِ أَشْبَهُ بِهَا حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْتُ جُمْلَةً مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي «الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى» وَ «تَلْخِيصِ الْحَاصِلِ» .
وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ فَسَّرَ قِيَاسَ الشَّبَهِ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَنَاطَانِ لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْمَلُ مِنَ الْآخَرِ، وَهَذَا نَحْوٌ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا عُرِفَ الْمَنَاطُ فِيهِ قَطْعًا; غَيْرَ أَنَّهُ يَفْتَقِدُ فِي آحَادِ الصُّوَرِ إِلَى تَحْقِيقِهِ. ذَكَرَ هَذَيْنِ الْآمِدِيُّ; قَالَ: وَفَسَّرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ - يَعْنِي الشَّبَهَ - الْوَصْفُ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ لِذَاتِهِ، وَيَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ لِذَاتِهِ، كَقَوْلِنَا، الْخَلُّ مَائِعٌ لَا تَنْبَنِي الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ، فَلَا تَزَالُ بِهِ النَّجَاسَةُ كَالدُّهْنِ، فَقَوْلُنَا: لَا تَنْبَنِي الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ لَيْسَ مُنَاسِبًا فِي ذَاتِهِ، لَكِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُنَاسِبِ، إِذِ الْعَادَةُ أَنَّ الْقَنْطَرَةَ لَا تُبْنَى عَلَى الْأَشْيَاءِ الْقَلِيلَةِ، بَلْ عَلَى الْكَثِيرَةِ، كَالْأَنْهَارِ وَنَحْوِهَا، وَالْقِلَّةُ مُنَاسِبَةٌ لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّهَارَةِ بِمَا اتَّصَفَ بِهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ الْعَامَّ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَسْبَابُهُ عَامَّةَ الْوُجُودِ، إِذْ تَكْلِيفُ الْكُلِّ مَا لَا يَجِدُهُ إِلَّا الْبَعْضُ بَعِيدٌ عَنِ الْقَوَاعِدِ وَالْحِكْمَةِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِهَذَا إِذَا قَلَّ الْمَاءُ، وَاحْتِيجَ إِلَيْهِ، سَقَطَ حُكْمُهُ فِي اعْتِبَارِ الطَّهَارَةِ، وَعُدِلَ عَنْهُ إِلَى التَّيَمُّمِ.
قَالَ الْقَاضِي: فَالْوَصْفُ إِمَّا مُنَاسِبٌ بِذَاتِهِ، أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُنَاسِبُ
(3/426)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُعْتَبَرُ، وَالثَّانِي، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمُنَاسِبِ، أَوْ لَا، فَالْأَوَّلُ الشَّبَهُ، وَالثَّانِي الطَّرْدُ.
قُلْتُ: هَذَا التَّقْسِيمُ يُشْبِهُ وَمُتَّجِهٌ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، لَكِنَّ تَمْثِيلَهُ لِمَا يَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ بِقَوْلِهِ: مَائِعٌ لَا يُبْنَى عَلَى جِنْسِهِ الْقَنَاطِرُ فِيهِ وَمَا وُجِدَ بِهِ مُنَاسَبَتُهُ بِمَحَلٍّ بَعِيدٍ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ طَرْدٌ مَحْضٌ لَا مُنَاسِبٌ، وَلَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُنَاسِبِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: مَائِعٌ لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ أَوْ لَا يُصَادُ مِنْهُ السَّمَكُ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْوَصْفِ الَّذِي يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ غَيْرِ ظُهُورٍ لِوُجُودِهَا وَلَا عَدَمِهَا.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى اللَّفْظِ; غَيْرَ أَنَّ الْأَشْبَهَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ هَذَا الْأَخِيرُ.
قُلْتُ: وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» فَهَذِهِ تَعْرِيفَاتٌ ذُكِرَتْ لِلشَّبَهِ، ذَكَرْنَاهَا تَكْمِلَةً لِلْفَائِدَةِ، ثُمَّ عُدْنَا إِلَى مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: الْجَمْعُ» هَذَا تَعْرِيفٌ آخَرُ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ، وَهُوَ: «الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى حِكْمَةٍ مَا» . وَقَالَ فِي «الرَّوْضَةِ» : عَلَى حِكْمَةِ الْحُكْمِ «مِنْ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ» وَهَذَا نَحْوٌ مِمَّا اخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ، يَعْنِي الَّتِي اقْتَرَنَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهَا «إِمَّا مُنَاسِبٌ مُعْتَبَرٌ» أَيْ: تَعَلُّمُ مُنَاسَبَتِهِ لِلْحُكْمِ، وَاعْتِبَارُ الشَّرْعِ لَهُ، لِأَجْلِ مُنَاسَبَتِهِ قَطْعًا، كَمُنَاسَبَةِ شِدَّةِ الْخَمْرِ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ، وَالْقَطْعِ لِلسَّرِقَةِ، وَالزِّنَا لِلْحَدِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ لِأَحْكَامِهَا،
(3/427)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، أَوْ لَيْسَ مُنَاسِبًا وَلَا مُعْتَبَرًا، كَلَوْنِ الْخَمْرِ وَطَعْمِهَا، إِذْ لَا يُنَاسِبَانِ تَحْرِيمَهَا، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنَّمَا قُتِلَ الْقَاتِلُ، وَحُدَّ السَّارِقُ وَالزَّانِي وَالْقَاذِفُ; وَوَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ، لِكَوْنِهِ أَسْوَدَ، أَوْ أَبْيَضَ، أَوْ طَوِيلًا، أَوْ قَصِيرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا طَرْدٌ مَحْضٌ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُعَلِّقِ الْحُكْمَ عَلَيْهِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ تَصَرُّفَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ تَصَرُّفِ الْعُقَلَاءِ، وَهَذَا خَارِجٌ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ تَصَرُّفًا لَهُ، وَأَيْضًا لِإِلْفِنَا مِنْهُ فِي مَوَارِدِ تَصَرُّفِهِ وَمَصَادِرِهَا عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْوَصْفِ، فَهَذَانَ الطَّرَفَانِ مَعْلُومَا الْحُكْمِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ; وَهُوَ «مَا ظَنَّ» أَنَّهُ «مَظِنَّةٌ لِلْمَصْلَحَةِ» أَيْ: يُوهِمُ اشْتِمَالَهُ عَلَى مَصْلَحَةِ الْحُكْمِ، وَظَنَنَّا أَنَّهُ مَظِنَّتُهَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِذَلِكَ، وَرَأَيْنَا الشَّارِعَ قَدِ اعْتَبَرَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَهَذَا هُوَ الشَّبَهِيُّ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَرَدُّدِهِ بِالشَّبَهِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَهُمَا الْمُنَاسِبُ وَالطَّرْدِيُّ ; لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّا لَمْ نَقْطَعْ بِانْتِفَاءِ مُنَاسَبَتِهِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، بَلْ ظَنَنَّا ذَلِكَ فِيهِ أَشْبَهَ الْمُنَاسِبَ الْمَقْطُوعَ بِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّا لَمْ نَقْطَعْ بِمُنَاسَبَتِهِ وَاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ أَشْبَهَ الطَّرْدِيَّ الْمَقْطُوعَ بِخُلُوِّهِ عَنِ الْمُنَاسَبَةِ الْمَصْلَحِيَّةِ.
وَذَلِكَ كَمَا أَلْحَقْنَا نَحْنُ وَالْحَنَفِيَّةُ «مَسْحَ الرَّأْسِ بِمَسْحِ الْخُفِّ فِي نَفْيِ» تَكْرَارِ الْمَسْحِ «لِكَوْنِهِ مَمْسُوحًا» فَقُلْنَا: مَمْسُوحٌ فِي الطَّهَارَةِ، فَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُهُ، كَمَسْحِ الْخُفِّ، وَأَلْحَقَهُ الشَّافِعِيُّ «بِبَاقِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فِي» إِثْبَاتِ التَّكْرَارِ «لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِي الطَّهَارَةِ» فَقَالَ: مَسْحُ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي طَهَارَةِ الْوُضُوءِ، فَسَنَّ تَكْرَارَهُ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيَاسَيْنِ جَامِعٌ وَفَارِقٌ، إِذِ الْأَوَّلُ قِيَاسُ مَمْسُوحٍ عَلَى
(3/428)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَمْسُوحٍ، فَالْمَسْحُ جَامِعٌ، وَلَكِنَّهُ قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى بَدَلٍ، فَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ، إِذْ مَسْحُ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي الْوُضُوءِ، وَمَسْحُ الْخُفِّ بَدَلٌ فِيهِ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَالثَّانِي قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى أَصْلٍ، فَهَذَا هُوَ الْجَامِعُ، لَكِنَّهُ قِيَاسُ مَمْسُوحٍ عَلَى مَغْسُولٍ، فَهَذَا هُوَ الْفَارِقُ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: قَوْلُنَا فِي الْوُضُوءِ: طَهَارَةٌ، أَوْ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ، أَوْ طَهَارَةٌ مُوجِبُهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ مُوجِبِهَا، فَاشْتُرِطَتْ لَهَا النِّيَّةُ كَالتَّيَمُّمِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ: طَهَارَتَانِ، فَكَيْفَ يَفْتَرِقَانِ؟ ، وَهُوَ كَقَوْلِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ.
قُلْتُ هَذَا أَجْوَدُ مَا قَرَّرَ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَلِمَا قَرَّرَهُ الْغَزَالِيُّ بِمَعْنَاهُ قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُرِدِ الْأُصُولِيُّونَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ هَذَا، فَلَسْتُ أَدْرِي مَا الَّذِي أَرَادُوهُ، وَبِمَ فَصَلُوهُ عَنِ الطَّرْدِ الْمَحْضِ، وَعَنِ الْمُنَاسِبِ؟ !
قُلْتُ: حَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَفِعًا عَنِ الطَّرْدِيِّ، وَإِلَّا لَمْ يُعْتَبَرْ بِاتِّفَاقٍ، وَمُنْحَطًّا عَنِ الْمُنَاسِبِ، وَإِلَّا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عِنْدَ مَنِ اعْتَبَرَ الْمُنَاسَبَةَ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ أَقْيِسَةَ الْفُقَهَاءِ الْقَائِلِينَ بِالشَّبَهِ، رَأَى أَقْيِسَتَهُمْ تَارَةً يَتَخَيَّلُ فِيهَا الِاشْتِمَالَ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ الْمَصْلَحِيَّةِ، وَتَارَةً لَا يَتَخَيَّلُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «فَالْأَوَّلُ قِيَاسُ الْعِلَّةِ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: فَالْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِ الْوَصْفِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الْمُنَاسِبُ، وَالطَّرْدِيُّ، وَالشَّبَهِيُّ.
فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْع بِالْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ هُوَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِي الْفَرْعِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ، كَثُبُوتِ التَّحْرِيمِ فِي النَّبِيذِ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَإِثْبَاتُ الْقِصَاصِ فِي الْمُثَقَّلِ بِعِلَّةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ
(3/429)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْعُدْوَانِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا فِي الْمُحَدَّدِ، «وَكَذَلِكَ اتِّبَاعُ كُلِّ وَصْفٍ ظَهَرَ كَوْنُهُ مَنَاطًا لِلْحُكْمِ» بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، لِأَنَّا لَا نَعْنِي بِقِيَاسِ الْعِلَّةِ إِلَّا اتِّبَاعَ مَنَاطِ الْحُكْمِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِهِ.
«وَالثَّانِي: طَرْدِيٌّ» وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفٍ يُعْلَمُ خُلُوُّهُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَدَمُ الْتِفَاتِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ كَمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَائِعٌ لَا يُبْنَى عَلَى جِنْسِهِ الْقَنَاطِرُ، أَوْ لَا يُصَادُ مِنْهُ السَّمَكُ، أَوْ لَا تَجْرِي عَلَيْهِ السُّفُنُ، أَوْ لَا يَنْبُتُ فِيهِ الْقَصَبُ، أَوْ لَا يَعُومُ فِيهِ الْجَوَامِيسُ، أَوْ لَا يُزْرَعُ عَلَيْهِ الزُّرُوعُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ يُقَالُ: أَعْرَابِيٌّ أَوْ إِنْسَانٌ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قِيَاسًا عَلَى الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ.
«وَالثَّالِثُ: الشَّبَهُ» أَيْ: قِيَاسُ الشَّبَهِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِوَصْفِ شَبَهِيٍّ، وَهُوَ مَا نَزَلَ عَنِ الْمُنَاسِبِ وَارْتَفَعَ عَنِ الطَّرْدِيِّ، أَوْ مَا تَوَهَّمَ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَلَمْ يَقْطَعْ بِهَا فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَالْخِلَافُ فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ قِيَاسٍ فَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى شَبَهٍ وَاطِّرَادٍ، إِذِ الْوَصْفُ فِي قِيَاسِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ يُشْبِهُ الْوَصْفَ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ، وَالْمِثْلِيَّةُ أَخَصُّ مِنَ الْمُشَابَهَةِ، وَالْأَعَمُّ لَازِمٌ لِلْأَخَصِّ، كَوَصْفِ الْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ هُوَ مُسَاوٍ لِوَصْفِ الْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ فِي مَاهِيَّةِ الْإِسْكَارِ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الشَّبَهِ الْوَصْفُ فِيهِ مُطَّرِدٌ، إِذْ بِدُونِ الِاطِّرَادِ لَا يَكُونُ شَبَهًا مُعْتَبَرًا، وَإِذَا كَانَ كُلُّ قِيَاسٍ مُشْتَمِلًا عَلَى الشَّبَهِ وَالِاطِّرَادِ، فَلِمَ خُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ عَلَيْهِ، كَقِيَاسِ الْعِلَّةِ وَالطَّرْدِ وَالشَّبَهِ؟ .
فَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا أُضِيفَ إِلَى أَخَصِّ صِفَاتِهِ وَأَقْوَاهَا، لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ أَخَصُّ صِفَاتِ الْمُنَاسِبِ الْمُؤَثِّرِ، وَالطَّرْدَ أَخَصُّ صِفَاتِ الطَّرْدِيِّ، وَالشَّبَهَ أَخَصُّ
(3/430)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صِفَاتِ الشَّبَهِيِّ، وَهَذَا كَمَا يُقَسَّمُ الْجِسْمُ إِلَى نَبَاتِيٍّ وَحَيَوَانِيٍّ وَإِنْسَانِيٍّ إِضَافَةً لِكُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا إِلَى أَخَصِّ أَوْصَافِهِ، وَهِيَ النَّبَاتِيَّةُ فِي النَّبَاتِ، وَالْحَيَوَانِيَّةُ فِي الْحَيَوَانِ، وَالْإِنْسَانِيَّةُ فِي الْإِنْسَانِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: أَنْوَاعُ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةٌ: الْمُؤَثِّرُ، ثُمَّ الْمُنَاسِبُ، ثُمَّ الشَّبَهُ، ثُمَّ الطَّرْدُ، فَأَدْنَاهَا الطَّرْدِيُّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْكِرَهُ كُلُّ قَائِلٍ بِالْقِيَاسِ، وَأَعْلَاهَا الْمُؤَثِّرِ وَهُوَ الَّذِي فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُقِرَّ بِهِ كُلُّ مُنْكِرٍ لِلْقِيَاسِ. قَالَ: وَيُعْرَفُ كَوْنُ الْمُؤَثِّرِ مُؤَثِّرًا بِنَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ سَبْرٍ حَاصِرٍ.
قَوْلُهُ: «وَفِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ» أَيْ: بِقِيَاسِ الشَّبَهِ «قَوْلَانِ لِأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَالْأَظْهَرُ» - يَعْنِي مِنَ الْقَوْلَيْنِ - «نَعَمْ» أَيْ: يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ «لِإِثَارَتِهِ الظَّنَّ خِلَافًا لِلْقَاضِي» أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ.
حُجَّةُ مَنْ صَحَّحَ التَّمَسُّكَ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُثِيرُ ظَنًّا غَالِبًا بِثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَكُلُّ مَا أَثَارَ ظَنًّا غَالِبًا، فَهُوَ مُتَّبَعٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، فَالْقِيَاسُ الشَّبَهِيُّ مُتَّبَعٌ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَلَا نَعْنِي بِصِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ إِلَّا هَذَا.
بَيَانُ الْأُولَى; وَهِيَ إِثَارَتُهُ الظَّنَّ هُوَ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا ثَبَتَ فِي مَحَلٍّ مُشْتَمِلٍ عَلَى أَوْصَافٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، ثُمَّ إِذَا رَأَيْنَا مَحَلًّا آخَرَ قَدْ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْأَوْصَافُ أَوْ أَكْثَرُ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا أَنَّ هَذَا الْمَحَلُّ كَذَلِكَ الْمَحَلُّ فِي اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَحِينَئِذٍ
(3/431)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَغْلُبُ عَلَى ظَنِّنَا اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْحُكْمِ.
بَيَانُ الثَّانِيَةِ; وَهِيَ أَنَّ مَا أَثَارَ الظَّنَّ مُتَّبَعٌ، بِالْقِيَاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَحْوِهِمَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّعَبُّدَ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَهُوَ مُعَلَّلٌ بِالْمَصْلَحَةِ، لَكِنَّ الْمَصْلَحَةَ لَا مَنْصُوصَ عَلَيْهَا، وَلَا ظَاهِرَةَ الْمُنَاسَبَةِ، فَتَعَيَّنَ اشْتِمَالُ أَوْصَافِ الْمَحَلِّ عَلَيْهَا، فَإِذَا شَارَكَ مَحَلَّ الْأَصْلِ مَحَلٌّ آخَرُ فِي تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَجَبَ إِلْحَاقُهُ بِهِ فِي الْحُكْمِ، لِغَلَبَةِ الظَّنِّ تَسَاوِيهِمَا فِيهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ.
قَالَ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ الْحَوَارِيُّ فِي تَقْرِيرِ هَذَا: إِنَّ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كُلِّ حُكْمٍ يُثْبِتُهُ سِرًّا وَحِكْمَةً، فَهَذَا الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَلَا يُعْرَفُ غَيْرُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَفِي مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ أَوْصَافٌ يُعْرَفُ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَخْلُو عَنِ الْمَصْلَحَةِ قَطْعًا، وَيُوهِمُ اشْتِمَالُ الْبَعْضِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمَا يُوهِمُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ; كَانَ هَذَا قِيَاسًا شَبَهِيًّا.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: حَرَّمَ الشَّارِعُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَهُ لِكَوْنِهِ مَكِيلًا، أَوْ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَّمَهُ لِمَصْلَحَةٍ لَا نَعْلَمُ عَيْنَهَا، لَكِنَّ الْأَشْبَهَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي ضِمْنِ الطُّعْمِ، لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ الْمَصَالِحِ الْكَثِيرَةِ، لِكَوْنِهَا قِوَامَ الْعَالَمِ الْمُعِينَةَ عَلَى الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ الْكَيْلِ، إِذْ لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ.
قُلْتُ: هَذَا الْمِثَالُ صَحِيحٌ، لَكِنَّ تَعْلِيلَ التَّحْرِيمِ بِالطُّعْمِ الْمُتَضَمِّنِ لِمَصْلَحَةِ قِوَامِ الْعَالَمِ فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ مَا كَانَ قِوَامًا لِلْعَالَمِ هُوَ مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ
(3/432)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَا يُنَاسِبُ التَّحْرِيمَ لِأَجْلِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ حَرَّمَ التَّفَاضُلَ تَحْصِيلًا لِلتَّنَاصُفِ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَدَفْعًا لِلتَّغَابُنِ فِيهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا مَنَاسِبًا، وَالتَّعْلِيلُ بِالْكَيْلِ أَنْسَبُ، لِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا نَفْيُ التَّغَابُنِ فِي الْأَمْوَالِ، وَأَكْلِهَا بِالْبَاطِلِ، فَإِضَافَتُهُ إِلَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّفَاضُلُ وَهُوَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ أَوْلَى.
قَالَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّبَهِ وَالْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْمَصْلَحَةُ بِخِلَافِ الشَّبَهِ، فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ مُطْلَقَةٌ; يَعْنِي مُبْهَمَةً.
قُلْتُ: وَحَاصِلُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ يُؤَثِّرُ فِي عَيْنِ الْمَصْلَحَةِ، وَالشَّبَهَ يُؤَثِّرُ فِي جِنْسِهَا، فَبَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ نَحْوُ مَا بَيْنَ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ وَالْمُلَائِمِ وَالْغَرِيبِ.
حُجَّةُ الْقَاضِي فِي مَنْعِ التَّمَسُّكِ بِالشَّبَهِ وَهُوَ الْقَاضِي الْمَالِكِيُّ - أَحْسَبُهُ عَبْدَ الْوَهَّابِ - ; وَهُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ يَنْفِي الْعَمَلَ بِالظَّنِّ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النَّجْمِ: 28] ; خَالَفْنَاهُ فِي قِيَاسِ الْمُنَاسَبَةِ لِلدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَالِاتِّفَاقِ، فَفِي قِيَاسِ الشَّبَهِ يَبْقَى عَلَى مُوجِبِ الدَّلِيلِ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إِنَّمَا اجْتَمَعَتْ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ لَا عَلَى الشَّبَهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ حُجَّةً.
وَأُجِيبُ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: الْمُعَارَضَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الْحَشْرِ: 2] ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ نَوْعٌ مِنَ الِاعْتِبَارِ.
(3/433)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَقِيَاسُ الشَّبَهِ يُفِيدُ الظَّاهِرَ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ عَمَلًا بِالنَّصِّ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ مُنْدَرِجٌ فِي عُمُومِ قَوْلِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَقَدْ صَوَّبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا.
الرَّابِعُ: مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ دَلَالَةِ قِيَاسِ إِخْرَاجِ الْمَوْتَى مِنَ الْأَرْضِ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَبِّ مِنْهَا عَلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ عِنْدَ ذِكْرِ أَدِلَّةِ أَصْلِ الْقِيَاسِ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْقَاضِيَ خَالَفَ مَذْهَبَهُ حَيْثُ احْتَجَّ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ كَثِيرًا فِي «الْمُجَرَّدِ» وَ «التَّعْلِيقَةِ الْكُبْرَى» وَغَيْرِهِمَا.
قَوْلُهُ: «وَالِاعْتِبَارُ بِالشَّبَهِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةَ خِلَافًا لِابْنِ عُلَيَّةَ، وَقِيلَ: بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَنَاطٌ لِلْحُكْمِ» .
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ «الرَّوْضَةِ» وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ إِذَا صَحَّ التَّمَسُّكُ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ، فَهَلِ الْمُعْتَبَرُ بِالشَّبَهِ الْحُكْمِيِّ، أَوْ بِالشَّبَهِ الْحَقِيقِيِّ، أَوْ بِمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ مِنْهُمَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
مِثَالُ الشَّبَهِ الْحُكْمِيِّ: شَبَهُ الْعَبْدِ بِالْبَهِيمَةِ فِي كَوْنِهِمَا مَمْلُوكَيْنِ، وَالْمِلْكُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ.
وَمِثَالُ الشَّبَهِ الْحَقِيقِيِّ: شَبَهُهُ بِالْحُرِّ فِي كَوْنِهِمَا آدَمِيَّيْنِ وَهُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَوْجَبَ ابْنُ عُلَيَّةَ الْجِلْسَةَ الْأُولَى قِيَاسًا عَلَى الثَّانِيَةِ فِي الْوُجُوبِ، وَهَذَا شَبَهٌ صُورِيٌّ لَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.
مِثَالُ الثَّالِثِ: أَنَّا نَنْظُرُ فِي الْبِنْتِ الْمَخْلُوقَةِ مِنَ الزِّنَى، فَهِيَ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ ابْنَتُهُ، لِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ مَائِهِ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، لِكَوْنِهَا لَا
(3/434)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا، وَلَا يَتَوَلَّاهَا فِي نِكَاحٍ وَلَا مَالٍ، وَيُحَدُّ بِقَذْفِهَا، وَيُقْتَلُ بِهَا، وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهَا، فَنَحْنُ أَلْحَقْنَاهَا بِبِنْتِهِ مِنَ النِّكَاحِ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِهَا عَلَيْهِ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ كَوْنُهَا مِنْ مَائِهِ، وَالشَّافِعِيُّ أَلْحَقَهَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ فِي إِبَاحَتِهَا لَهُ نَظَرًا إِلَى الْمَعْنَى الْحُكْمِيِّ، وَهُوَ انْتِفَاءُ آثَارِ الْوَلَدِ بَيْنَهُمَا شَرْعًا فَقَدْ صَارَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى اعْتِبَارِ الْوَصْفِ الَّذِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الظَّنَّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ أَبَدًا لِلشَّبَهِ حُكْمًا، وَلَا لِلشَّبَهِ حَقِيقَةً، بَلْ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَارَةً، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَاسَ الشَّبَهِ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاظِرُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ دُونَ الْمُنَاظِرِ لِخَصْمِهِ، لِأَنَّ الْخَصْمَ لَوْ مَنَعَ حُصُولَ الظَّنِّ مِنَ الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ، لَاحْتَاجَ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى بَيَانِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ، وَلَا طَرِيقَ لَهُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ. وَحِينَئِذٍ يَبْقَى قِيَاسُ الشَّبَهِ وَاسِطَةً لَاغِيَةً لَا أَثَرَ لَهَا.
(3/435)
________________________________________
وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، إِذِ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ يُفِيدُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْعِلَّةِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْحُكْمِ نَحْوَ: جَازَ تَزْوِيجُهَا سَاكِتَةً، فَجَازَ سَاخِطَةً كَالصَّغِيرَةِ، إِذْ جَوَازُ تَزْوِيجِهَا سَاكِتَةً دَلِيلُ عَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَاهَا، وَإِلَّا لَاعْتُبِرَ نُطْقُهَا الدَّالُّ عَلَيْهِ، فَيَجُوزُ وَإِنْ سَخِطَتْ لِعَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَاهَا. وَنَحْوَ: لَا يُجْبَرُ الْعَبْدُ عَلَى إِبْقَاءِ النِّكَاحِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى ابْتِدَائِهِ كَالْحُرِّ، فَعَدَمُ إِجْبَارِهِ عَلَى إِبْقَائِهِ دَلِيلُ خُلُوصِ حَقِّهِ فِي النِّكَاحِ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَى خَالِصِ حَقِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ» هُوَ «الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ» إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ حَيْثُ التَّأْثِيرُ وَالْمُنَاسَبَةُ وَعَدَمُهَا يَنْقَسِمُ إِلَى الْمُنَاسِبِ، وَالشَّبَهِيِّ، وَالطَّرْدِيِّ، كَمَا سَبَقَ، وَمِنْ حَيْثُ التَّصْرِيحُ بِالْعِلَّةِ وَعَدَمُهُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَقِيَاسِ الدَّلَالَةِ، وَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، كَمَا سَبَقَ تَقْسِيمُهُ.
فَقِيَاسُ الْعِلَّةِ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ، وَالْفَرْعِ بِعِلَّتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّبِيذِ وَالْخَمْرِ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ.
وَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ هُوَ مَا ذُكِرَ.
وَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ: هُوَ مَا لَا فَارِقَ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَارِقٌ لَا أَثَرَ لَهُ.
فَقِيَاسُ الدَّلَالَةِ هُوَ «الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ» لِأَنَّ «اشْتِرَاكَهُمَا فِيهِ» - يَعْنِي اشْتِرَاكَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي دَلِيلِ الْعِلَّةِ - «يُفِيدُ
(3/436)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْعِلَّةِ» لِأَنَّ الْمَدْلُولَ لَازِمُ الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلَ مَلْزُومٌ لَهُ، وَالِاشْتِرَاكَ فِي الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي اللَّازِمِ، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْإِنْسَانِيَّةِ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْحَيَوَانِيَّةِ، وَإِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعِلَّةِ، اشْتَرَكَا فِي الْحُكْمِ عَمَلًا بِالْقِيَاسِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُنَا فِي جَوَازِ إِجْبَارِ الْبِكْرِ: «جَازَ تَزْوِيجُهَا سَاكِتَةً، فَجَازَ» تَزْوِيجُهَا «سَاخِطَةً كَالصَّغِيرَةِ» لِأَنَّ «جَوَازَ تَزْوِيجِهَا سَاكِتَةٌ» يَدُلُّ «عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَاهَا» إِذْ لَوِ اعْتُبِرَ رِضَاهَا، «لَاعْتُبِرَ نُطْقُهَا الدَّالُّ عَلَيْهِ» لَكِنَّ نُطْقَهَا لَمْ يُعْتَبَرْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رِضَاهَا لَا يُعْتَبَرُ، وَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهَا، جَازَ تَزْوِيجُهَا «وَإِنْ سَخِطَتْ» إِذْ مَنْ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي أَمْرٍ; لَا فَرْقَ بَيْنَ وُقُوعِ ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى وَفْقِ اخْتِيَارِهِ أَوْ خِلَافِهِ، كَالْمَرْأَةِ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهَا فِي الطَّلَاقِ، جَازَ عَدَمُهُ فِي حَقِّهَا بِاسْتِمْرَارِهَا عَلَى النِّكَاحِ، وَوُجُودُهُ يَقْطَعُ نِكَاحَهَا بِهِ، فَقَدْ جَمَعَ فِي هَذَا الْقِيَاسِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ بِدَلِيلِ عَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَاهُمَا، وَهُوَ تَزْوِيجُهُمَا سَاكِتَتَيْنِ، فَهُوَ قِيَاسُ دَلَالَةٍ لِذَلِكَ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُنَا: «لَا يُجْبَرُ الْعَبْدُ عَلَى» النِّكَاحِ، لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إِبْقَائِهِ، يَعْنِي اسْتِدَامَتَهُ، «فَلَا يُجْبَرُ عَلَى ابْتِدَائِهِ كَالْحُرِّ، فَعَدَمُ إِجْبَارِهِ عَلَى» اسْتَدَامَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى خُلُوصِ حَقِّهِ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ الْحَقُّ فِي النِّكَاحِ خَالِصًا لِلْعَبْدِ، لَمْ «يُجْبَرْ عَلَى خَالِصِ حَقِّهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ» أَيْ: فِي اسْتَدَامَتِهِ وَابْتِدَائِهِ، كَمَا أَنَّ الْحُرَّ لَمَّا كَانَ النِّكَاحُ حَقًّا خَالِصًا لَهُ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةً وَلَا ابْتِدَاءً.
وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الِاسْتِدْلَالُ بِالْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّزْوِيجِ مَعَ السُّكُوتِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الرِّضَى فِي حَقِّ الْبِكْرِ، وَبِعَدَمِ الْإِجْبَارِ
(3/437)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى الْإِبْقَاءِ عَلَى عَدَمِ الْإِجْبَارِ عَلَى الِابْتِدَاءِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَكَقَوْلِنَا فِي الْوِتْرِ: يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَيَكُونُ نَفْلًا، أَوْ فَلَا يَجِبُ، كَصَلَاةِ الضُّحَى، فَجَوَازُ الْأَدَاءِ عَلَى الرَّاحِلَةِ حُكْمُ النَّفْلِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ عِلَّتِهِ فِي الْوِتْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ أَثَرُ الْعِلَّةِ وَمَلْزُومُهَا، فَدَلَّ عَلَيْهَا دَلَالَةَ الْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ، وَالْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: الِاسْتِدْلَالُ بِأَحَدِ أَثَرَيِ الْمُؤَثِّرِ عَلَى الْآخَرِ، وَيُقَالُ: بِإِحْدَى نَتِيجَتَيْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْأُخْرَى، وَهُوَ مَعْنَى الْأَوَّلِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: قَوْلُنَا: الْقَطْعُ وَالْغُرْمُ يَجْتَمِعَانِ عَلَى السَّارِقِ، أَيْ: إِذَا سَرَقَ عَيْنًا فَفَاتَتْ فِي يَدِهِ، قُطِعَ بِهَا، وَغَرِمَ قِيمَتَهَا، لِأَنَّهَا عَيْنٌ يَجِبُ رَدُّهَا مَعَ بَقَائِهَا، فَوَجَبَ ضَمَانُهَا مَعَ فَوَاتِهَا، كَالْمَغْصُوبِ، لِأَنَّ وُجُوبَ رَدِّهَا مَعَ بَقَائِهَا دَلَّ عَلَى وُجُودِ عِلَّةِ وُجُوبِ الرَّدِّ، إِذِ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ، وَالضَّمَانُ عِنْدَ التَّلَفِ رَدٌّ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَتِلْكَ الْعِلَّةُ تُنَاسِبُهُ، وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُهَا فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَغْصُوبُ، وَالْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِقَامَةُ الْعَدْلِ بِرَدِّ الْحَقِّ، أَوْ بَدَلِهِ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُنَا فِي الْمُكْرَهِ: يَأْثَمُ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ الْقَتْلُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ كَالْمُكْرِهِ - بِكَسْرِ الرَّاءِ - عِنْدَ مَنْ يُوجِبُ الْقِصَاصَ عَلَيْهِمَا وَهُوَ الشَّافِعِيُّ، فَالْإِثْمُ وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ أَثَرَانِ لِلْقَتْلِ، ثُمَّ إِنَّ وُجُودَ الْإِثْمِ يَدُلُّ عَلَى عِلَّةِ التَّأْثِيمِ، وَعِلَّةُ التَّأْثِيمِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَثِمَ بِالْقَتْلِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ حِفْظَ الْمَحَلِّ مِنَ الْقَتْلِ بِالتَّأْثِيمِ، وَإِيجَابِ الْقِصَاصِ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُهُ فِي الْأَصْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ صُوَرِ الْقَتْلِ.
(3/438)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ قِيَاسَ الدَّلَالَةِ تَارَةً يَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِأَثَرِ الْعِلَّةِ الْمُفْرَدِ عَلَيْهَا بِلَا وَاسِطَةٍ، وَتَارَةً بِأَحَدِ أَثَرَيْهَا عَلَيْهَا بِوَاسِطَةِ الْأَثَرِ الْآخَرِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، فَهُوَ مَا سَاوَى الْأَصْلَ فِيهِ الْفَرْعُ مِنْ غَيْرِ فَارِقٍ، أَوْ مَعَ فَارِقٍ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: قِيَاسُ الْمَاءِ الَّذِي صُبَّ فِيهِ الْبَوْلُ مِنْ إِنَاءٍ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي بَالَ فِيهِ شَخْصٌ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: قِيَاسُ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي سِرَايَةِ الْعِتْقِ، وَإِلْغَاءِ فَارِقِ الذُّكُورِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمِثَالُ الْأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى إِلْغَاءِ الْفَارِقِ أَيْضًا لَا إِلَى انْتِفَائِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، إِذْ صَبُّ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ فِي الْفَرْعِ كَيْفِيَّةٌ يُفَارِقُ بِهَا الْأَصْلَ، لَكِنَّهَا مُلْغَاةٌ، فَكَيْفَ جَعَلْتُمُوهَا قِسْمَيْنِ؟
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْفَارِقَ فِي صُورَةِ الْعِتْقِ بِالذُّكُورِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تُقَرَّرَ مُنَاسَبَتُهُ عَلَى مَا سَبَقَ، بِخِلَافِ الْفَارِقِ فِي صُورَةِ الْبَوْلِ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَرَّرَ لَهُ مُنَاسَبَةٌ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ يَنْقَسِمُ إِلَى قَطْعِيٍّ - كَمَا ذَكَرْنَا -، وَإِلَى ظَنِّيٍّ، كَقِيَاسِ إِضَافَةِ الطَّلَاقِ إِلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ عَلَى إِضَافَتِهِ إِلَى جُزْءٍ شَائِعٍ، كَقِيَاسِ قَوْلِهِ: يَدُكِ طَالِقٌ، عَلَى قَوْلِهِ: نِصْفُكِ أَوْ ثُلْثُكِ أَوْ رُبُعُكِ طَالِقٌ، لِأَنَّ هَذَا جُزْءٌ وَهَذَا جُزْءٌ، إِذِ الْفَرْقُ فِي هَذَا يَحْتَمِلُ التَّأْثِيرَ بِأَنَّ الْجُزْءَ الشَّائِعَ جُعِلَ مَحَلًّا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلطَّلَاقِ، بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ، بِخِلَافِ الْفَرْقِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ تَأْثِيرَهُ لَا يَظْهَرُ.
(3/439)
________________________________________
تَنْبِيهٌ:
حَيْثُ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا عَارِضًا، كَالشِّدَّةِ فِي الْخَمْرِ، وَلَازِمًا ; كَالنَّقْدِيَّةِ وَالصِّغَرِ، وَفِعْلًا; كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ، وَحُكْمًا شَرْعِيًّا نَحْوَ: تَحْرُمُ الْخَمْرُ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا; كَالْمَيْتَةِ، وَمُفْرَدًا وَمُرَكَّبًا وَمُنَاسِبًا وَغَيْرَ مُنَاسِبٍ وَوُجُودِيًّا وَعَدَمِيًّا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ حُكْمِهَا، كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِعِلَّةِ رِقِّ الْوَلَدِ.
وَلَا تَنْحَصِرُ أَجْزَاؤُهَا فِي سَبْعَةِ أَوْصَافٍ، خِلَافًا لِقَوْمٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «تَنْبِيهٌ: حَيْثُ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَةٌ» إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا ذِكْرُ أَحْكَامِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا يَجُوزُ فِيهَا وَمَا لَا يَجُوزُ، وَقَوْلُهُ: «حَيْثُ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ» : لَمَّا كَانَتِ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ «أَمَارَةً» جَازَ فِيهَا مَا ذُكِرَ مِنَ الْأُمُورِ، لِأَنَّهَا مَعْرِفَةٌ لِلْحُكْمِ، لَا مُوجِبَةٌ لَهُ، وَالْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ فِيهَا لَا تُنَافِي كَوْنَهَا مَعْرِفَةً، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّارِعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ عَلَمًا عَلَى الْحُكْمِ.
فَمِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ: «أَنْ تَكُونَ» الْعِلَّةُ «وَصْفًا عَارِضًا، كَالشِّدَّةِ فِي الْخَمْرِ» هِيَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، وَهِيَ وَصْفٌ عَارِضٌ، لِأَنَّهُ عَرَضَ لِلْعَصِيرِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ.
(3/440)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ وَصْفًا «لَازِمًا كَالنَّقْدِيَّةِ» فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، أَيْ: كَوْنُهُمَا نَقْدًا، أَيْ: عِوَضًا يُنْقَدُ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ بِالْأَصَالَةِ، وَلَا جَرَمَ مَنْ صَحَّحَ التَّعْلِيلَ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ عَلَّلَ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ بِالنَّقْدِيَّةِ.
وَأَمَّا الصِّغَرُ، فَقَدْ عَلَّلَ بِهِ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ فِي الْمَالِ، وَالْإِجْبَارِ فِي النِّكَاحِ، وَجَعَلَهُ فِي «الرَّوْضَةِ» مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ اللَّازِمِ كَالنَّقْدِيَّةِ، وَهُوَ مَحَلُّ تَرَدُّدٍ، إِذِ الصِّغَرُ كَالْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْعَارِضِ وَاللَّازِمِ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَصْلٌ فِي الصَّغِيرِ لَمْ يَعْرِضْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَشْبَهَ النَّقْدِيَّةَ فِي اللُّزُومِ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَزُولُ بِالْكِبَرِ أَشْبَهَ الشِّدَّةَ الْمُسْكِرَةَ فِي الْعُرُوضِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالْأَوْصَافِ الْعُرْفِيَّةِ كَالشَّرَفِ الْمُنَاسِبِ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ، وَتَحْرِيمِ الْإِهَانَةِ وَالْخِسَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِأَضْدَادِ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ «فِعْلًا، كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ» عُلِّلَ بِهِمَا الْقِصَاصُ وَالْقَطْعُ.
وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ «حُكْمًا شَرْعِيًّا، نَحْوَ» قَوْلِنَا: «تَحْرُمُ الْخَمْرُ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهَا كَالْمَيْتَةِ» فَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا التَّحْرِيمُ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عُلِّلَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ فَسَادُ الْبَيْعِ، وَخَالَفَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ.
لَنَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّارِعُ بَعْضَ أَحْكَامِهِ مُعَرِّفَاتٍ لِبَعْضٍ، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ مُعَرِّفَاتٌ.
احْتَجُّوا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَأْنَ الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا، فَلَوْ جُعِلَ عِلَّةً، لَأَفْضَى إِلَى
(3/441)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَلْبِ الْحَقَائِقِ بِجَعْلِ الْعِلَّةِ مَعْلُولًا وَالْمَعْلُولِ عِلَّةً.
الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَيْنِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الْحُكْمِيَّةِ، فَجَعْلُ أَحَدِهِمَا عِلَّةً دُونَ الْآخَرِ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِمَا نَقُولُ، إِذِ الْحُكْمُ مَعْلُولٌ لِعِلَّتِهِ، وَعِلَّةٌ لِمَعْلُولِهِ، فَيَكُونُ عِلَّةً وَمَعْلُولًا بِالْإِضَافَةِ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُنَاسِبًا لِتَعْرِيفِ حُكْمٍ آخَرَ، وَذَلِكَ الْآخَرُ مُنَاسِبٌ لِتَعْرِيفِ حُكْمٍ آخَرَ، كَقَوْلِنَا فِي الْخَمْرِ: نَجِسٌ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، كَالْمَيْتَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، كَالْحُرِّ، فَالنَّجَاسَةُ أَثَّرَتْ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ، وَعَدَمُ جَوَازِ الْبَيْعِ عَرَّفَ عَدَمَ جَوَازِ الرَّهْنِ.
وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: بِمَنْعِ كَوْنِهِ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ بَلِ الْمُرَجِّحُ الْمُنَاسَبَةُ، وَالنَّجَاسَةُ مُنَاسِبَةٌ لِلتَّحْرِيمِ فِي قَوْلِنَا: نَجِسٌ فَيُحَرَّمُ، وَلَوْ عَكَسْنَا فَقُلْنَا: حَرَامٌ فَيُنَجَّسُ; لَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يُنَاسِبْ، إِذِ الْحَرِيرُ وَالذَّهَبُ يَحْرُمُ لَبْسُهُمَا، وَلَيْسَا نَجِسَيْنِ.
وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفًا «مُفْرَدًا» كَقَوْلِنَا فِي اللِّوَاطِ: زِنًا، فَأَوْجَبَ الْحَدَّ كَوَطْءِ الْمَرْأَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَنْ تَكُونَ وَصْفًا «مُرَكَّبًا» كَقَوْلِنَا: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ كَالْمُثَقَّلِ، فَالْعِلَّةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ، وَخَالَفَ قَوْمٌ فِي جَوَازِهِ.
لَنَا: أَنَّ الْمَصْلَحَةَ قَدْ تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّرْكِيبِ، فَيَتَعَيَّنُ اعْتِبَارُهُ، كَمَا تَتَوَقَّفُ مُنَاسَبَةُ الْقَوَدِ فِي الْقَتْلِ عَلَى كَوْنِهِ عَمْدًا عُدْوَانًا، وَمُنَاسَبَةُ الْحَدِّ فِي الزِّنَا عَلَى
(3/442)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَوْنِهِ عَالَمًا مُخْتَارًا، وَاحْتَجَّ الْخَصْمُ بِمَا لَا حَاصِلَ لَهُ وَهُوَ شَبِيهُ السَّفْسَطَةِ، فَلَمْ نَرَ الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهِ.
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفًا «مُنَاسِبًا» كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ، وَالرِّدَّةِ وَالسُّكْرِ لِأَحْكَامِهَا، «وَغَيْرُ مُنَاسِبٍ» كَالرِّدَّةِ وَأَكَلِ لَحْمِ الْجَزُورِ وَمَسِّ الْفَرْجِ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ.
وَمِنْهَا: أَنْ تَكُونَ وَصْفًا «وُجُودِيًّا» كَمَا ذَكَرَ، وَكَقَوْلِنَا: جَازَ بَيْعُهُ، فَجَازَ رَهْنُهُ، «وَعَدَمِيًّا» كَقَوْلِنَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَفِي الْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمُ الْجُمْعَةُ، فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ، وَفِي الْعَبْدِ لَا يَلِي أَمْرَ وَلَدِهِ فَلَا يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْعِلَّةَ «يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ حُكْمِهَا، كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ، لِعِلَّةِ رِقِّ الْوَلَدِ» فَإِنَّ رِقَّ الْوَلَدِ وَصْفٌ قَائِمٌ بِهِ، أَوْ مَعْنًى إِضَافِيٌّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ، وَتَحْرِيمَ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالنِّكَاحِ، أَوْ مَعْنًى مُضَافٌ إِلَيْهِ، فَبِالْجُمْلَةِ رِقُّ الْوَلَدِ لَيْسَ فِي مَحَلِّ تَحْرِيمِ النِّكَاحِ.
وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ عَلَى أَحْكَامِهِ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَوْصَافُ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ أَمَارَاتٍ عَلَى الْأَحْكَامِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِ ذَلِكَ مَحَالٌّ، وَلَا مَنَعَ مِنْهُ سَمْعٌ، وَقَدْ سَاعَدَ ذَلِكَ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَمِمَّا لَمْ يُذْكَرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَلَا أَصْلِهِ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ بِمَحَلِّهِ، كَتَعْلِيلِ
(3/443)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِكَوْنِهِ خَمْرًا، وَتَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ بِكَوْنِهِ بُرًّا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَخَرَّجَهُ الْإِمَامُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمَحَلِّ، كَالنَّقْدِيَّةِ الْقَاصِرَةِ عَلَى النَّقْدِ، وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ، وَالْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ أَعَمُّ مِنَ الْمَحَلِّ، لِأَنَّ الْمَحَلَّ مَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ، كَالْخَمْرِ وَالْبُرِّ، وَالْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ قَدْ تَكُونُ وَصْفًا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَحَلُّ النَّصِ لَمْ يُوضَعْ لَهُ اللَّفْظُ كَالنَّقْدِيَّةِ، فَكُلُّ مَحَلٍّ عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ عِلَّةٍ قَاصِرَةٍ مَحَلًّا.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالِاسْمِ. ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَلَمْ يُفْصِحْ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّعْلِيلِ بِالْمَحَلِّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ الِاسْمَ بِمَجْرَدِهِ طَرْدِيٌّ مَحْضٌ وَالشَّرَائِعُ شَأْنُهَا رِعَايَةُ الْمَصَالِحِ.
قُلْتُ: فَتَحْقِيقُ الْفَرْقِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّعْلِيلَ بِالِاسْمِ الْجَامِدِ الَّذِي لَا يُنْبِئُ عَنْ صِفَةٍ مُنَاسِبَةٍ تَصْلُحُ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ الدَّالِّ عَلَى التَّخْمِيرِ الْمُنَاسِبِ لِلتَّحْرِيمِ، وَهَذَا يُشْكِلُ بِالْبُرِّ، فَإِنَّهُ قَدْ جَازَ التَّعْلِيلُ بِهِ وَهُوَ جَامِدٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّعْلِيلَ بِالتَّسْمِيَةِ، نَحْوَ: حَرُمَتِ الْخَمْرُ لِتَسْمِيَتِهَا خَمْرًا، وَالتَّفَاضُلُ فِي الْبُرِّ لِتَسْمِيَتِهِ بُرًّا وَنَحْوَ ذَلِكَ، إِذِ التَّسْمِيَةُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، بِخِلَافِ الْمَعْنَى الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْمَحَلِّ بِإِشَارَتِهِ إِلَيْهِ، أَوْ تَنْبِيهِهِ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا الْتَفَتَ الْكَلَامُ هُنَا إِلَى الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، فَمَنْ قَالَ: هُمَا وَاحِدٌ، أَوْ مُتَغَايِرَانِ، وَالْمُرَادُ الْمُسَمَّى الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الِاسْمِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْعِلَلِ،
(3/444)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا، أَوْ مُنَاسِبًا، عُلِّلَ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَمَنْ أَرَادَ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ اللَّفْظُ، لَمْ يُعَلِّلْ بِهِ قَطْعًا.
وَإِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنْضَبِطًا، فَالتَّعْلِيلُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنْضَبِطًا، فَهَلْ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِحِكْمَتِهِ وَهِيَ الَّتِي لِأَجْلِهَا صَارَ الْوَصْفُ عِلَّةً، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: هِيَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ التَّعْلِيلِ ; وَهِيَ جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ، أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ، كَحِفْظِ الْمَالِ وَالْعَقْلِ وَالنَّسَبِ، الَّذِي جَعَلَ وَصْفَ السُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا عِلَّةً لِوُجُوبِ الْحَدِّ لِتَحْصِيلِهِ؟ فِيهِ خِلَافٌ.
حُجَّةُ مَنْ أَجَازَهُ هُوَ أَنَّ الْوَصْفَ وَسِيلَةٌ وَالْحِكْمَةَ مَقْصَدٌ، وَإِذَا جَازَ التَّعْلِيلُ بِالْوَسِيلَةِ، فَبِالْمَقْصَدِ نَفْسِهِ أَوْلَى.
حُجَّةُ مَنْ مَنَعَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَوْ جَازَ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ، لَامْتَنَعَ بِالْوَصْفِ، إِذِ الْأَصْلُ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَالْحِكْمَةُ لَيْسَتْ مُتَعَذِّرَةً، لَكِنْ قَدْ جَازَ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ مَعَ وُجُودِ الْحِكْمَةِ وَإِمْكَانِ اعْتِبَارِهَا اتِّفَاقًا، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَجُوزَ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ جَازَ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ، لَزِمَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْ عِلَّتِهِ، وَهُوَ نَقْضٌ لَهَا، وَخِلَافُ الْأَصْلِ، وَهُوَ بَاطِلٌ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ بِمِثَالَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَصْفَ الرِّضَاعِ سَبَبُ تَحْرِيمِ النِّكَاحِ، وَحِكْمَتُهُ صَيْرُورَةُ جُزْءِ الْمُرْضِعَةِ - وَهُوَ لَبَنُهَا - جُزْءًا لِلرَّضِيعِ أَشْبَهَ مِنْهُ الَّذِي صَارَ جُزْءًا لِوَلَدِهَا الْحَقِيقِيِّ، فَحَرُمَ عَلَيْهَا الرَّضِيعُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَهَذَا سِرُّ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
(3/445)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرَّضَاعُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ثُمَّ إِنَّ صَبِيًّا أَجْنَبِيًّا لَوْ أَكَلَ قِطْعَةً مِنْ لَحْمِ امْرَأَةٍ حَتَّى صَارَتْ جُزْءًا لَهُ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الرَّضَاعِ مَوْجُودَةٌ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: أَنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الزِّنَا حِفْظُ الْأَنْسَابِ مِنَ الِاخْتِلَاطِ وَالضَّيَاعِ، فَلَوْ عَلَّلْنَا التَّحْرِيمَ وَوُجُوبَ الْحَدِّ بِهَا، لَزِمَ أَنَّ مَنْ فَرَّ بِصِبْيَانٍ صِغَارٍ عَنْ آبَائِهِمْ، وَغَيَّبَهُمْ عَنْهُمْ حَتَّى صَارُوا رِجَالًا، وَلَمْ يَعْرِفْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاشْتَبَهَتْ أَنْسَابُهُمْ، لَزِمَهُ الْحَدُّ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
قُلْتُ: الْمَسْأَلَةُ مَحَلُّ نَظَرٍ، وَالْأَشْبَهُ جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ. وَالْجَوَابُ عَنْ حُجَّةِ الْمَانِعِينَ يَسْتَدْعِي طُولًا وَهُوَ ظَاهِرٌ لِلْفَطِنِ.
قَوْلُهُ: «وَلَا تَنْحَصِرُ» أَيْ: حَيْثُ تَقَرَّرَ أَنَّ الْعِلَّةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُرَكَّبَةً مِنْ أَوْصَافٍ، فَلَا تَنْحَصِرُ «أَجْزَاؤُهَا فِي» خَمْسَةِ أَوْ «سَبْعَةِ أَوْصَافٍ، خِلَافًا لِقَوْمٍ» مِنَ الْأُصُولِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: تَنْحَصِرُ فِي ذَلِكَ، وَلَعَلَّ حُجَّتَهُمُ الْقِيَاسُ عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الذَّاتِيَّةِ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَحْصُرُهَا فِي سَبْعٍ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالْحَيَاةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ عَلَى خِلَافٍ بَيْنِهِمْ فِي ذَلِكَ.
(3/446)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَنَا: أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الشَّرْعِيَّةَ كَمَا تَحْصُلُ بِالْوَصْفِ الْوَاحِدِ، وَتَقِفُ عَلَيْهِ، فَقَدْ تَقِفُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْصَافٍ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ، وَقِيَاسُهَا عَلَى صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ انْحِصَارَ صِفَاتِهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي عَدَدٍ مَعْلُومٍ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ.
قُلْنَا: الْتِزَامُ عَدَمِ التَّنَاهِي فِيهَا كَذَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ وَاجِبَةٌ، وَأَوْصَافَ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مُمْكِنَةٌ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ لِكَثْرَةِ الْفُرُوقِ الْمُؤَثِّرَةِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَوْصَافَ عِلَّةِ الشَّرْعِ تُوجِبُ حُكْمًا حَادِثًا فِي مَحَالِّهَا، بِخِلَافِ صِفَاتِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِتَنَزُّهِ ذَاتِهِ عَنْ لُحُوقِ الْحَوَادِثِ لَهَا عَلَى مَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
(3/447)
________________________________________
وَيَجْرِي الْقِيَاسُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
لَنَا: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا فِي السَّكْرَانِ: إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَيُحَدُّ حَدَّ الْمُفْتَرِي; وَهُوَ قِيَاسٌ سَبَبِيٌّ، وَلِأَنَّ مَنْعَ الْقِيَاسِ إِنْ كَانَ مَعَ فَهْمِ الْمَعْنَى، فَتَحَكُّمٌ وَتَشَهٍّ، وَإِلَّا فَوِفَاقٌ، وَلِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ، وَهُوَ مُتَّبَعٌ شَرْعًا.
قَالُوا: الْكَفَّارَاتُ وَالْحُدُودُ شَرْعًا لِلزَّجْرِ وَتَكْفِيرِ الْمَأْثَمِ، وَالْقَدْرُ الْحَاصِلُ بِهِ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَالْقِيَاسُ شُبْهَةٌ لِظَنِّيَّتِهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّا لَا نَقِيسُ إِلَّا حَيْثُ يَحْصُلُ الظَّنُّ فَيَتْبَعُ.
وَعَنِ الثَّانِي: بِالنَّقْضِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالشَّهَادَةِ وَالظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَيَجْرِي الْقِيَاسُ» أَيْ: يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ «فِي الْأَسْبَابِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ» .
قُلْتُ: هَذِهِ تُرْسَمُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مَسْأَلَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: إِجْرَاءُ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَصُورَتُهُ: إِثْبَاتُ كَوْنِ اللِّوَاطِ سَبَبًا لِلْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى الزِّنَا.
قُلْتُ: وَكَذَا الْكَلَامُ فِي النَّبَّاشِ وَالنَّبِيذِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى الْقِيَاسِ» إِلَى آخِرِهِ.
(3/448)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذِهِ حُجَّةُ مَنْ أَجَازَ الْقِيَاسَ فِي الْأَسْبَابِ، وَهِيَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْقِيَاسِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ بَعْضِهَا وَبَعْضٍ، وَلَا تَفْصِيلَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عُمُومَ جَوَازِهِ فِيهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: «أَنَّهُمْ قَالُوا فِي السَّكْرَانِ» : إِنَّهُ «إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى» فَيَجِبُ عَلَيْهِ «حَدُّ الْمُفْتَرِي، وَهُوَ قِيَاسٌ سَبَبِيٌّ» أَيْ: قِيَاسٌ فِي الْأَسْبَابِ، لِأَنَّ الْقَذْفَ سَبَبُ حَدِّ الْقَاذِفِ ثَمَانِينَ، وَقَدْ قَاسُوا عَلَيْهِ السُّكْرَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِذَلِكَ، وَالَّذِي أَنْشَأَ هَذَا الْقِيَاسَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَضْرَةِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا وَافَقُوا عَلَيْهِ وَصَارُوا إِلَيْهِ، نُسِبَ إِلَيْهِمْ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ «مَنْعَ الْقِيَاسِ» فِي الْأَسْبَابِ وَغَيْرِهَا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ فَهْمِ الْمَعْنَى الْجَامِعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ مِنَ الْخَصْمِ، حَيْثُ أَجَازَ الْقِيَاسَ لِأَجْلِ فَهْمِ الْجَامِعِ فِي غَيْرِ الْأَسْبَابِ، وَمَنْعِهِ فِيهَا، إِذْ لَيْسَ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ وِفَاقٌ مِنَّا وَمِنْهُمْ، لِأَنَّنَا حَيْثُ لَا نَفْهَمُ الْمَعْنَى الْجَامِعَ الْمُصَحِّحَ لِلْقِيَاسِ لَا نَقِيسُ.
الْوَاجِهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَسْبَابِ وَنَحْوِهَا بِشَرْطِهِ الْمَذْكُورِ «مُفِيدٌ لِلظَّنِّ» وَالظَّنُّ «مُتَّبَعٌ شَرْعًا» فَهَذَا الْقِيَاسُ مُتَّبَعٌ شَرْعًا، فَيَكُونُ حُجَّةً، وَنَظْمُ هَذَا الدَّلِيلِ وَمُقَدِّمَاتُهُ ظَاهِرَةٌ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ الْمَانِعِينَ، وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
(3/449)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَالْحَدَّ «شُرِعَا لِلزَّجْرِ وَتَكْفِيرِ الْمَأْثَمِ» الْحَاصِلِ بِالْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْحَدِّ، كَالْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَنَحْوِهَا، «وَالْقَدْرُ» الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّكْفِيرُ «غَيْرُ مَعْلُومٍ» حَتَّى يَلْحَقَ بِهِ غَيْرُهُ بِالْقِيَاسِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ قِيَاسًا عَلَى أَمْرٍ مَجْهُولٍ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ وَالْحُدُودَ شُرِعَتْ لِحُكْمٍ، لَكِنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، لِأَنَّهَا مَقَادِيرُ مِنَ الْحَاجَاتِ، وَإِنَّمَا الْمُنْضَبِطُ الْأَوْصَافُ، وَلِهَذَا تَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبِهِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ حِكْمَتُهُ، كَقَطْعِ السَّارِقِ، وَإِنْ لَمْ يَتْلَفِ الْمَالُ بِأَنْ أُخِذَ مِنَ السَّارِقِ، وَحَدِّ الزَّانِي وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِطِ النَّسَبُ بِأَنْ كَانَتْ عَقِيمًا، أَوْ حَاضَتْ، فَلَمْ يَظْهَرْ حَمْلٌ، وَإِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ، لَمْ يَجُزِ الْجَمْعُ بِهَا، لِأَنَّ الْجَمْعَ بِغَيْرِ الْمُنْضَبِطِ جَهَالَةٌ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ» عَمَلًا بِالنَّصِّ، «وَالْقِيَاسُ شُبْهَةُ لِظَنِّيَّتِهِ» أَيْ: لِكَوْنِهِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ مَعَهُ.
قَوْلُهُ: «وَأُجِيبُ عَنِ الْأَوَّلِ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ.
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ، «فَبِأَنَّا لَا نَقِيسُ إِلَّا حَيْثُ يَحْصُلُ» لَنَا «الظَّنُّ» بِالْقِيَاسِ، وَإِذَا حَصَلَ الظَّنُّ بِهِ، كَانَ مُتَّبِعًا لِمَا سَبَقَ غَيْرَ مَرَّةٍ، فَسَوَاءٌ انْضَبَطَتِ الْحِكْمَةُ أَوْ لَمْ تَنْضَبِطْ، وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ أَنَّ الْقِيَاسَ مَعَ عَدَمِ انْضِبَاطِ الْحِكْمَةِ خَطَأٌ، لَكِنَّا مَعَ حُصُولِ ظَنِّ الصَّوَابِ لَنَا نَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الِاجْتِهَادِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
(3/450)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي، فَبِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ «بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالشَّهَادَةِ، وَالظَّوَاهِرِ وَالْعُمُومَاتِ» فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ، وَقَدْ ثَبَتَ بِهِ الْحَدُّ. وَقِيَاسُ قَوْلِكُمْ، إِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، فَيَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ.
هَذَا آخِرُ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» مِنْ أَدِلَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ مُنْتَظِمَةٌ لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَاقْتَضَاهُ تَرْتِيبُهُ وَلَفْظُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ فِي الشَّرْحِ: جَرَيَانُ الْقِيَاسِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ، وَالْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ، كَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ، وَعَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَالرَّكَعَاتِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَنَحْوِهَا، وَحَدِّ الزَّانِي وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ، هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْقَصَّارِ وَالْبَاجِيِّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَكْثَرِ النَّاسِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.
لَنَا: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَمِنْ أَنَّا إِذَا فَهِمْنَا مَنَاطَ الْحُكْمِ، وَأَفَادَنَا الْقِيَاسُ الظَّنَّ، قِسْنَا، وَإِلَّا فَلَا.
احْتَجَّ الْخَصْمُ بِنَحْوِ مَا سَبَقَ بِأَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ لَا يُعْقَلُ مَعْنَى اخْتِصَاصِهَا بِمَا اخْتَصَّتْ بِهِ دُونَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ أَدْنَى، كَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي عِشْرِينَ
(3/451)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثْقَالًا دُونَ تِسْعَةَ عَشَرَ أَوْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ، وَإِيجَابِ مِائَةٍ فِي الْحَدِّ دُونَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ سَوْطًا أَوْ مِائَةً وَسَوْطٍ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ دُونَ يَوْمَيْنِ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَصِيَامِ سِتِّينَ يَوْمًا فِي الظِّهَارِ وَنَحْوِهِ دُونَ أَحَدٍ وَسِتِّينَ، أَوْ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتُ لَا يُعْقَلُ تَعَذُّرُ الْقِيَاسِ فِيهَا، إِذِ الْقِيَاسُ فَرْعُ تَعَقُّلِ الْمَعْنَى، وَإِذَا انْتَفَى الْأَصْلُ، انْتَفَى الْفَرْعُ.
وَالْجَوَابُ بِمَا سَبَقَ مَنْ أَنَّا حَيْثُ لَا نَفْهَمُ الْمَعْنَى، لَا نَقِيسُ.
قُلْتُ: فَكَأَنَّ النِّزَاعَ صَارَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ جَوَازُ فَهْمِ الْمَعْنَى فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ: يَجُوزُ فَهْمُهُ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا، فَيَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا إِذَا تَحَقَّقَ مَنَاطُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْهَمَ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ لِتَعَذُّرِ تَحَقُّقِ مَنَاطِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ.
وَحِينَئِذٍ الْأَشْبَهُ مَا قُلْنَاهُ، إِذْ جَوَازُ فَهْمِ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحَالٌّ، وَلَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ، فَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ مَحَلَّ الْخِلَافِ، وَإِلَّا عَادَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ فِي التَّعَبُّدِ، وَجَوَازِهِ حَيْثُ عُقِلَ الْمَعْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قُلْتُ: قَدْ حَصَلَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَدَاخُلٌ بِمُوجِبِ الِاخْتِصَارِ، وَقَدْ فَصَّلْتُهُ فِي الشَّرْحِ كَمَا رَأَيْتَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/452)
________________________________________
وَالنَّفْيُ ضَرْبَانِ: أَصْلِيٌّ: فَيَجْرِي فِيهِ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِانْتِفَاءِ حُكْمِ شَيْءٍ عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْ مِثْلِهِ، فَيُؤَكَّدُ بِهِ الِاسْتِصْحَابُ، لَا قِيَاسُ الْعِلَّةِ، إِذِ لَا عِلَّةَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ.
وَطَارِئٌ: كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسَانِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَالْإِثْبَاتِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَالنَّفْيُ ضَرْبَانِ: أَصْلِيٌّ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: النَّفْيُ إِمَّا أَصْلِيٌّ أَوْ طَارِئٌ، فَالْأَصْلِيُّ مَا لَمْ يَتَقَدَّمْهُ ثُبُوتٌ، كَنَفْيِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، وَنَفْيِ صَوْمِ شَهْرٍ غَيْرِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا «يَجْرِي فِيهِ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ» دُونَ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ مُمْكِنٌ مَوْجُودٌ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَلِهَذَا أَمْكَنَ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ قَبْلَ الشَّرْعِ، لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِهِ وَأَحْكَامِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وَجُودُهَا قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ هَاهُنَا «هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِانْتِفَاءِ» الْحُكْمِ فِي «شَيْءٍ عَلَى انْتِفَائِهِ عَنْ مِثْلِهِ» أَوْ بِعَدَمِ انْتِفَاءِ خَوَاصِّ الشَّيْءِ عَلَى عَدَمِهِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا لَمْ يَجَبِ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ لِأَنَّ فِيهِ مَفْسَدَةً خَالِصَةً أَوْ رَاجِحَةً، وَهَذَا الْفِعْلُ الْآخَرُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ.
مِثَالُهُ: إِنَّمَا لَمْ تَجِبْ صَلَاةٌ سَادِسَةٌ وَحَجٌّ ثَانٍ فِي الْعُمْرِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، وَوُجُوبِ صَوْمِ شَهْرٍ ثَانٍ، أَوْ وُجُوبِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ
(3/453)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شَوَّالٍ فِيهِ مِثْلُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ، فَهَذَا قِيَاسٌ لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي الِانْتِفَاءِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِجَامِعِ مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ.
مِثَالُ الثَّانِي، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِانْتِفَاءِ الْخَوَاصِّ أَنْ يُقَالَ: تَرْتِيبُ الْوَعِيدِ مِنْ خَوَاصِّ الْوُجُوبِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي صَلَاةِ الْوَتْرِ وَالضُّحَى، وَصَوْمِ أَيَّامِ الْبِيضِ، فَلَا تَكُونُ وَاجِبَةً.
وَقَوْلُنَا: «فَيُؤَكَّدُ بِهِ الِاسْتِصْحَابُ» أَيْ: إِنَّ هَذَا الِانْتِفَاءَ مُسْتَغْنٍ بِاسْتِصْحَابِ دَلِيلِ الْعَقْلِ النَّافِي عَنْ دَلِيلٍ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ إِنَّمَا وَقَعَ مُؤَكِّدًا لِاسْتِصْحَابِ حَالِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى لَوْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ السَّادِسَةِ، لَكَانَ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ مُسْتَقِلًّا بِنَفْيِ وُجُوبِهَا.
أَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا، لِمَا سَبَقَ، وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ لِمَا يَتَجَدَّدُ بَعْدَ عَدَمِهِ، وَهَذَا النَّفْيُ ثَابِتٌ بِالْأَصَالَةِ، فَلَا عِلَّةَ لَهُ إِلَّا إِرَادَةَ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ عَدَمَ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ النَّفْيُ; بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِيجَادَهُ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ تُعَلَّلَ بِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ.
وَأَمَّا النَّفْيُ الطَّارِئُ، أَيِ: الْحَادِثُ الْمُتَجَدِّدُ بَعْدَ عَدَمِهِ، «كَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ الدَّيْنِ» بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِيهَا، «فَيَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسَانِ» : قِيَاسُ الدَّلَالَةِ، وَقِيَاسُ الْعِلَّةِ، «لِأَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ» فَهُوَ «كَالْإِثْبَاتِ» الشَّرْعِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفْيَ الطَّارِئَ بِالشَّرْعِ لَهُ خَوَاصٌّ يَسْتَدِلُّ بِانْتِفَائِهَا عَلَى انْتِفَائِهِ، وَآثَارٌ يَسْتَدِلُّ بِوُجُودِهَا عَلَى وُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ لَهُ عِلَلٌ وَأَسْبَابٌ يُعَلَّلُ بِهَا، وَيَلْحَقُ بِهِ مَا شَارَكَهُ فِيهَا.
(3/454)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثَالُ الْأَوَّلِ - وَهُوَ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ فِي النَّفْيِ الطَّارِئِ - أَنْ يَقُولَ: مِنْ خَوَاصِّ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ الدَّيْنِ أَنْ لَا يُطَالَبَ بِهِ بَعْدَ أَدَائِهِ، وَلَا يَرْتَفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ، وَلَا يُحْبَسَ بِهِ، وَلَا يُحَالَ بِهِ عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَكُلُّ هَذِهِ الْخَوَاصِّ مَوْجُودَةٌ، فَدَلَّ عَلَى وُجُودِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، كَمَا نَقُولُ: مِنْ خَوَاصِّ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ جَوَازُ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَالتَّصَدُّقِ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ. وَقَدِ انْتَفَتْ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَاصِبِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِ لَهَا، وَثَبَتَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَدَلَّ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ لَهَا.
وَمِثَالُ الثَّانِي - وَهُوَ قِيَاسُ الْعِلَّةِ فِي النَّفْيِ الطَّارِئِ - أَنْ يُقَالَ: عِلَّةُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ دَيْنِ الْآدَمِيِّ هُوَ أَدَاؤُهُ، وَالْعِبَادَاتُ هِيَ دَيْنٌ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، فَلْيَكُنْ أَدَاؤُهَا عِلَّةَ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقِيَاسِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ عَلَى مَلِيءٍ عِلَّةٌ لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ مِنْهُ، فَلْتَكُنِ الْإِحَالَةُ بِدَيْنِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عِلَّةً لِبَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا حَتَّى تَجُوزَ اسْتِنَابَةُ الْمُكَلَّفِ غَيْرَهُ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ الْوَاجِبَةِ عَنْهُ، كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْفَرْضِ وَنَحْوِهِ; لَكَانَ هَذَا قِيَاسًا صَحِيحًا فِي الْجُمْلَةِ. وَقَدْ ظَهَرَتْ صِحَّتُهُ فِي جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي دَفْعِ الزَّكَاةِ، وَفُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، وَصَوْمِ النَّذْرِ عَنِ الْأَمْوَاتِ، وَحَجِّ التَّطَوُّعِ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْقُرَبِ. وَإِنْ أَدَّى
(3/455)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ إِلَى طَرْدِ الْقِيَاسِ فِي بَقِيَّةِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَأْتِيَ بِدَلِيلٍ أَوْ شُبْهَةٍ يُعْذَرُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ، كَانَ لَهُ طَرْدُهُ، لَكِنَّ الْمَشْهُورَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ فُرُوضَ الْأَعْيَانِ لَا تُقْبَلُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهَا، وَلَا الْحَوَالَةُ بِهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ خُوطِبَ بِفِعْلِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِفَسَادِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْسِهِ، بَلْ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ إِنَّمَا تَنْقُلُ الْحَقَّ، وَتَبْرَأُ بِهَا ذِمَّةُ الْمُحِيلِ بِشَرْطِ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ رَضِيَ بِنَقْلِ حَقِّهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ الْمَعْلُومُ عَدَمَ رِضَاهُ لِتُوَجِّهِ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ بِأَدَاءِ مَا خُوطِبَ بِهِ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَشْتَرِطُ رِضَى صَاحِبِ الْحَقِّ فِي الْحَوَالَةِ، فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ لِقِيَامِ الْفَارِقِ، وَهُوَ أَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَدَاؤُهُ، لَا تَعْبُّدُ عَيْنِ الْمُؤَدِّي لَهُ بِهِ، فَيَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ أَمْرَانِ: أَدَاؤُهُ وَتَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِهِ عَيْنًا، وَهُوَ أَعَمُّ الْأَمْرَيْنِ. فَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ أَدَاؤُهُ بِنَائِبٍ، وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْ فَرْضِ الْكِفَايَةِ تَعَبُّدُ الْأَعْيَانِ بِهِ، قَامَ الْبَعْضُ فِيهِ مَقَامَ الْبَعْضِ، فَهَذَا مَقْصُودُ الْكَلَامِ عَلَى لَفْظِ «الْمُخْتَصَرِ» .
وَأَشَارَ الْقَرَافِيُّ فِي «مُخْتَصَرِهِ» إِلَى أَنَّ فِي دُخُولِ الْقِيَاسِ فِي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ أَقْوَالًا ثَالِثُهَا الْمَذْكُورُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَهُوَ دُخُولُ قِيَاسِ الِاسْتِدْلَالِ فِيهِ دُونَ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الْمُسْتَصْفَى» وَ «الرَّوْضَةَ» وَقَدْ ذَكَرْتُ تَوْجِيهَهُ.
(3/456)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا حُجَّةُ الْجَوَازِ مُطْلَقًا، فَقَدْ سَبَقَتْ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِانْتِفَاءِ خَوَاصِّ ذَلِكَ الْفِعْلِ عَلَى انْتِفَائِهِ فِي قِيَاسِ الِاسْتِدْلَالِ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ لِتَضَمُّنِهِ مَفْسَدَةَ كَذَا. وَهَذَا الْفِعْلُ يَتَضَمَّنُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ قِيَاسُ الْعِلَّةِ.
وَحُجَّةُ الْمَنْعِ مُطْلَقًا قَدْ أُشِيرَ إِلَيْهَا أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ النَّفْيَ الْأَصْلِيَّ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ بِذَاتِهِ، فَيَسْتَحِيلُ إِثْبَاتُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ اسْتِدْلَالٍ أَوْ عِلَّةٍ، لِأَنَّهُ إِثْبَاتُ الثَّابِتِ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، لَا مُثْبِتٌ لَهُ.
وَأَمَّا الْعِلَّةُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ فَهْمُنَا بِالْقِيَاسِ إِلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ، فَنُعَدِّيهَا إِلَى مَا سَاوَى النَّفْيَ الَّذِي اسْتُفِيدَتْ مِنْهُ، كَقَوْلِنَا: إِنَّمَا لَمْ يُبَحِ السُّمُّ، لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالْأَبْدَانِ، مُفَوِّتٌ لِحُقُوقِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْهَا، ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى كُلِّ مُضِرٍّ بِالْبَدَنِ، مُفَوِّتٍ لِلْعِبَادَةِ مِنْهُ، كَقَتْلِ النَّفْسِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ مُفِيدٌ لَوْ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِمُقْتَضَاهُ، لَصَحَّ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهِ، وَقَدِ اسْتَرْسَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَطَلْتُ فِيهَا طَلَبًا لِلْكَشْفِ عَنْهَا، إِذْ تَصَوُّرُهَا وَتَرْكِيبُ أَمْثِلَتِهَا مِنَ الْمُشْكِلَاتِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ خُصُوصًا الْمُبْتَدِئُ فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/457)
________________________________________
الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ
قِيلَ: اثْنَا عَشَرَ:
الْأَوَّلُ: الِاسْتِفْسَارُ، وَيَتَوَجَّهُ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَعَلَى الْمُعْتَرِضِ إِثْبَاتُهُ بِبَيَانِ احْتِمَالِ اللَّفْظِ مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا، لَا بَيَانِ التَّسَاوِي لِغَيْرِهِ.
وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ التَّعَدُّدِ أَوْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا بِأَمْرٍ مَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ، قِيلَ: اثْنَا عَشَرَ» .
الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَسْئِلَةَ جَمْعُ سُؤَالٍ، وَهُوَ قِيَاسٌ فِيمَا كَانَ عَلَى فُعَالٍ - بِضَمِّ الْفَاءِ - يُجْمَعُ عَلَى: أَفَعِلَةٍ، نَحْوَ: غُلَامٌ وَغُرَابٌ وَحُوَارٌ - لِوَلَدِ النَّاقَةِ - إِلَّا مَا عَسَاهُ يَشِذُّ عَنْ ذَلِكَ، وَالسُّؤَالُ أَصْلُهُ: الطَّلَبُ.
فَمِنْهُ سُؤَالُ الْفَقِيرِ الْغَنِيَّ، وَالْعَبْدِ لِلرَّبِّ، وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ مَا يُصْلِحُهُ مِنْ مَالٍ أَوْ عَفْوٍ.
وَمِنْهُ سُؤَالُ الِاسْتِفْهَامِ، نَحْوَ: زَيْدٌ يَسْأَلُ عَنْ حَالِ عَمْرٍو، أَيْ: يَطْلُبُ مِنْهُ مَعْرِفَةَ كَيْفِيَّةِ حَالِهِ، وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ طَلَبُ مَعْرِفَةِ حَالِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ.
وَمِنْهُ سُؤَالُ الِاسْتِفَادَةِ، كَسُؤَالِ الْمُتَعَلِّمِ لِلْمُعَلِّمِ كَيْفَ يَكُونُ، وَسُؤَالُ الْعِنَادِ وَالتَّعْجِيزِ، كَسُؤَالِ الْمُعْتَرِضِ لِلْمُسْتَدِلِّ: لِمَ قُلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ وَهُوَ طَلَبُ الْفَائِدَةِ أَوِ الدَّلِيلِ، وَالْمُرَادُ بِالسُّؤَالِ هَاهُنَا أَحَدُ هَذَيْنِ، لِأَنَّ الْأَسْئِلَةَ الْوَارِدَةَ
(3/458)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى الْقِيَاسِ قَدْ تَكُونُ مِنْ مُسْتَفِيدٍ يَقْصِدُ مَعْرِفَةَ الْحُكْمِ خَالِصًا مِمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ. وَقَدْ تَكُونُ مِنْ مُعَانِدٍ يَقْصِدُ قَطْعَ خَصْمِهِ وَرَدِّهِ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مَعْنَى وُرُودِ السُّؤَالِ وَالنَّقْضِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَحَلِّهِ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: إِنَّمَا قُلْتُ: «قِيلَ: اثْنَا عَشَرَ» لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُتَابَعَةٌ لِلْأَصْلِ، فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ هَكَذَا قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يَتَوَجَّهُ عَلَى الْقِيَاسِ اثْنَا عَشَرَ سُؤَالًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنِّي قَدْ ذَكَرْتُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْكَلَامِ فِي الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ لَيْسَتْ فِي «الْمُسْتَصْفَى» بَلِ الْغَزَالِيُّ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهَا، وَزَعَمَ أَنَّهَا كَالْعِلَاوَةِ عَلَى أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَنَّ مَوْضِعَ ذِكْرِهَا عِلْمُ الْجَدَلِ.
قُلْتُ: وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ فِيهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ، مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إِحَالَةً لَهَا عَلَى فَنِّهَا الْخَاصِّ بِهَا، كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا، لِأَنَّهَا مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَصُولِ الْفِقْهِ وَمُكَمِّلُ الشَّيْءِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، أَكْثَرَ قَوْمٌ مِنْ ذِكْرِ الْمَنْطِقِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الْكَلَامِيَّةِ، لِأَنَّهَا مِنْ مَوَادِّهِ وَمُكَمِّلَاتِهِ.
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» يَعْنِي مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ «الِاسْتِفْسَارُ» وَهُوَ طَلَبُ تَفْسِيرِ اللَّفْظِ، وَبَيَانُ الْمُرَادِ بِهِ، «وَيَتَوَجَّهُ» - يَعْنِي الِاسْتِفْسَارَ - «عَلَى الْإِجْمَالِ» أَيْ: يَرِدُ عَلَيْهِ، وَيَسُوغُ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يُطَالِبَ بِتَفْسِيرِ لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ إِذَا كَانَ مُجْمَلًا.
(3/459)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ سَبَقَ تَعْرِيفُ الْمُجْمَلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجْمَلَ لَا يُفِيدُ مَعْنًى مُعَيَّنًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَعْتَرِضَ الْمُعْتَرِضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعَانِيهِ، أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا، أَوْ لَا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّطْوِيلِ، وَانْتِشَارِ الْكَلَامِ، وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ عِلْمِ النَّظَرِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَقْرَاءِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: إِنْ عَنَيْتَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ الْحَيْضُ، فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ عَنَيْتَ بِالْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ الْأَطْهَارُ، فَمَمْنُوعٌ، لِأَنَّ هَذَا تَطْوِيلٌ لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ، بَلِ الْأَقْرَبُ أَنْ يَقُولَ: مَا عَنَيْتَ بِالْأَقْرَاءِ؟ فَإِذَا قَالَ: الْحَيْضُ، أَوِ الْأَطْهَارُ، أَجَابَ بِحَسَبِ ذَلِكَ مِنْ تَسْلِيمٍ أَوْ مَنْعٍ.
وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجَّحٍ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ، وَيُرِيدُ بِهِ الْحَيْضَ أَوِ الْأَطْهَارَ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا، وَلِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَدْ يَقْصِدُ تَغْلِيطَ الْمُعْتَرِضِ، لِيُجِيبَ عَنْ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِفْسَارٍ، فَيَقُولُ هُوَ: أَخْطَأْتُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَيُرِيدُ الْمَعْنَى الْآخَرَ.
كَمَا حُكِيَ عَنِ الْيَهُودِ، أَنَّهُمْ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الرُّوحِ، وَهُوَ لَفْظٌ
(3/460)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقُرْآنِ، وَجِبْرِيلَ، وَعِيسَى، وَمَلَكٍ يُقَالُ لَهُ: الرُّوحُ، وَرُوحُ الْإِنْسَانِ الَّذِي فِي بَدَنِهِ، لِيُغَلِّطُوهُ بِذَلِكَ، يَعْنِي: إِنْ قَالَ لَهُمْ: الرُّوحُ مَلَكٌ، قَالُوا: بَلْ هُوَ رُوحُ الْإِنْسَانِ، أَوْ قَالَ: رُوحُ الْإِنْسَانِ، قَالُوا: بَلْ هُوَ مَلَكٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ مُسَمَّيَاتِ الرُّوحِ، فَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مَكْرَهُمْ، فَأَجَابَهُمْ مُجْمَلًا كَسُؤَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الْإِسْرَاءِ: 85] ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّيَاتِ الْخَمْسَةِ وَغَيْرِهَا، كَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ «الْإِفْصَاحِ» فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، قَالَ: وَهَذَا هُوَ سَبَبُ الْإِجْمَالِ فِي مُسَمَّى الرُّوحِ، لَا كَوْنَ حَقِيقَتِهَا غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لِلْبَشَرِ، إِذْ قَدْ دَلَّتْ قَوَاطِعُ الشَّرْعِ عَلَى جِسْمِيَّتِهَا، وَاسْتَقْصَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ.
وَقَدْ يُجْمِلُ الْمُسْتَدِلُّ لَفْظَهُ احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ، وَاسْتِبْقَاءً لَهَا فِي مَيْدَانِ النَّظَرِ مَجَالًا، بِحَيْثُ إِنْ تَوَجَّهَ سُؤَالُ الْمُعْتَرِضِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيِ اللَّفْظِ، تَخَلَّصَ مِنْهُ بِتَفْسِيرِ كَلَامِهِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ.
وَمِثَالُهُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سُؤَالِ الْيَهُودِ عَنِ الرُّوحِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُغَالِطِينَ، لَا مُحْتَاطِينَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَوْ كَانَ بِالْأَقْرَاءِ، لَلَزِمَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، إِذْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَوَامِلَ، يَعْنِي بِالْقُرُوءِ الْأَطْهَارَ، وَكَمَالُهَا قَدْ يَتَخَلَّفُ فِيهَا إِذَا طَلَّقَهَا فِي أَثْنَاءِ طُهْرٍ، فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ قَرْءًا، فَلَا يَحْصُلُ اعْتِدَادُهَا بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ:
(3/461)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنَا أَرَدْتُ بِالْأَقْرَاءِ الْحَيْضَ، وَالْكَمَالُ لَازِمٌ فِيهَا، إِذْ بَعْضُ الْحَيْضَةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ قَرْءًا، فَيَكُونُ قَدْ أَعَدَّ الْإِجْمَالَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ; لِلْحَاجَةِ إِلَى التَّفْصِيلِ فِي آخِرِهِ، فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ لِلْإِجْمَالِ، تَوَجَّهَ سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ، لِيَكُونَ الْمُعْتَرِضُ مُتَكَلِّمًا عَلَى بَصِيرَةٍ، آمِنًا مِنَ الْمُغَالَطَةِ وَالْمُخَاتَلَةِ.
قَوْلُهُ: «وَعَلَى الْمُعْتَرِضِ إِثْبَاتُهُ» . إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَعَلَى الْمُعْتَرِضِ إِثْبَاتُ الْإِجْمَالِ فِي لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ، إِذْ لَا يَكْفِي فِي ثُبُوتِهِ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَتْحٌ لِبَابِ الْعِنَادِ، إِذْ كُلُّ مُعْتَرِضٍ لَا يَعْجِزُ أَنْ يَقُولَ لِلْمُسْتَدِلِّ: لَفْظُكَ مُجْمَلٌ، فَبَيِّنْهُ، فَيَلْزَمُ الْمُسْتَدِلُّ بِذَلِكَ مَا لَا يَلْزَمُهُ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ عَلَى الْمُعْتَرِضِ إِثْبَاتُ الْإِجْمَالِ فِي لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ، فَطَرِيقُهُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ «مَعْنَيَيْنِ فَصَاعِدًا» احْتِمَالًا مُطْلَقًا، وَلَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ تُسَاوِي الِاحْتِمَالَاتِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَعْسُرُ عَلَيْهِ، فَتَسْقُطُ فَائِدَةُ الِاعْتِرَاضِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
مِنْهَا: أَنْ يَقُولَ فِي جَمَاعَةٍ اشْتَرَوْا عَيْنًا، فَظَهَرَتْ مَعِيبَةً: لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِالرَّدِّ، لِأَنَّهُ بَانٍ بِالْمَبِيعِ مَا بَانَ بِهِ جَوَازَ الِانْفِرَادِ بِالرَّدِّ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَا تَعْنِي بِقَوْلِكَ: بَانَ؟ فَإِنَّهَا مُجْمَلَةٌ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: ظَهَرَ، وَبِمَعْنَى: خَفِيَ، يُقَالُ: بَانَ لِي الشَّيْءُ، أَيْ: ظَهَرَ، وَبَانَ فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ، أَيْ: غَابَ، وَزَالَ، وَخَفِيَ، وَمِنْهُ: الْبَيْنُ، وَالْفِرَاقُ، وَغُرَابُ الْبَيْنِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَقُولَ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَارٍ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ أَشْبَهَ غَيْرَ الْمُكْرَهِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَا
(3/462)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَعْنِي بِالْمُخْتَارِ؟ فَإِنَّ لَفْظَهُ مُجْمَلٌ، لِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى ضِدِّ الْمُكْرَهِ، وَهُوَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا بِحَسَبِ مَيْلِهِ إِلَيْهِ، وَشَهْوَتِهِ لَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بِقُدْرَتِهِ، مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ لَهُ مِنْهُ فِي بَدَنِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ، وَهُوَ الْمُكْرَهُ، فَالْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ يُقَالُ لَهُ: مُخْتَارٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ ضِدَّ الِاخْتِيَارِ: الِاضْطِرَارُ، لَكِنَّ الِاضْطِرَارَ تَارَةً يَكُونُ خَارِجِيًّا، كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، وَتَارَةً غَيْرَ خَارِجِيٍّ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهَا بِعَارِضٍ بَدَنِيٍّ، لَا خَارِجِيٍّ، وَالِاخْتِيَارُ أَيْضًا يَنْقَسِمُ إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ تُرِيدُ بِالْمُخْتَارِ؟
وَمِنْهَا: أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ، لِأَنَّهُ بِيعٌ صَادَفَ مَحَلَّهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُعْتَرِضُ: مَا تَعْنِي بِالْبَيْعِ، اللُّغَوِيِّ، أَوِ الشَّرْعِيِّ؟ وَكَذَلِكَ كُلُّ لَفْظٍ لَهُ مُسَمًّى لُغَوِيٍّ وَشَرْعِيٍّ، نَحْوَ: الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَالْوُضُوءِ، نَحْوَ: تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَيُقَالُ: مَا تَعْنِي بِالْوُضُوءِ; الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ أَوِ الشَّرْعِيُّ؟
قَوْلُهُ: «وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ التَّعَدُّدِ، أَوْ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا بِأَمْرٍ مَا» . أَيْ: وَجَوَابُ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ، أَوْ جَوَابُ الْمُسْتَدِلِّ، أَوِ الْمُعْتَرِضِ عَنْ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْعُ تَعَدُّدِ احْتِمَالَاتِ اللَّفْظِ إِنْ أَمْكَنَ; بِأَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا مَحْمَلٌ وَاحِدٌ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، أَوْ بِأَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ جَوَازِ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ، نَفْيًا لِلْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، فَمَنِ ادَّعَى إِطْلَاقَهُ عَلَيْهِ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
(3/463)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ رُجْحَانَ اللَّفْظِ فِي أَحَدِ الْمُجْمَلَيْنِ، بِأَمْرٍ مَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُرَجَّحَةِ، إِمَّا بِالنَّقْلِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَوْ بِاشْتِهَارِهِ فِي عُرْفِهِمْ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَفْظُ الْمُخْتَارِ ظَاهِرٌ فِيمَنْ لَا حَامِلَ لَهُ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ خَارِجٍ. وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُجْمَلًا، وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ صِدْقَ اللَّفْظِ عَلَى الْمُجْمَلَيْنِ بِالتَّوَاطُؤِ، وَالْمُرَادُ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا، نَفْيًا لِلْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، كَفَاهُ أَيْضًا، وَمَتَى أَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ بِأَحَدِ الْأَجْوِبَةِ الْمَذْكُورَةِ، انْقَطَعَ الْمُعْتَرِضُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى هَذَا السُّؤَالِ، وَلَهُ إِيرَادُ غَيْرِهِ، وَإِنْ عَجِزَ عَنِ الْجَوَابِ، لَزِمَهُ تَفْسِيرُ مُرَادِهِ بِلَفْظِهِ، بِأَنْ يَقُولَ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ: أَرَدْتُ بِقَوْلِي: بَانَ بِالْمَبِيعِ مَا بَانَ بِهِ جَوَازُ الرَّدِّ; ظَهَرَ بِهِ مَا انْتَفَى بِهِ جَوَازُ الرَّدِّ، فَبَانَ الْأُولَى بِمَعْنَى: ظَهَرَ، وَبَانَ الثَّانِيَةِ بِمَعْنَى: انْتَفَى.
وَفِي الْمِثَالِ الثَّانِي: أَرَدْتُ بِالْمُخْتَارِ: مَنْ وَقَعَ الْفِعْلُ بِكَسْبِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَا مَانِعَ لَهُ فِي بَدَنِهِ، وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ مِنَ الْخَارِجِ.
وَفِي الْمِثَالِ الثَّالِثِ: أَرَدْتُ الْبَيْعَ أَوِ الصَّوْمَ أَوِ الْوُضُوءَ الشَّرْعِيَّ، لِأَنَّهُ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا سَبَقَ.
تَنْبِيهٌ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَالَ فِي لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ; إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الِاصْطِلَاحُ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ، فَالْأَوَّلُ أَنْ يَذْكُرَ فِي الْفَنِّ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَلْفَاظًا لَيْسَتْ مِنَ اصْطِلَاحِ أَهْلِهِ، مِثْلَ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْقِيَاسِ الْفِقْهِيِّ بِلَفْظِ الدَّوْرِ وَالتَّسَلْسُلِ وَالْبَسِيطِ وَالْهَيُولَى وَالْمَادَّةِ وَالْمَبْدَأِ وَالْغَايَةِ وَنَحْوِهِ مِنْ
(3/464)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اصْطِلَاحَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ، فَيَقُولُ مَثَلًا فِي شُهُودِ الْقَتْلِ إِذَا رَجَعُوا: لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ تَجَرَّدَ مَبْدَؤُهُ عَنْ غَايَةٍ مَقْصُودَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَبْدَأِ وَالْغَايَةِ بِاصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ; أَشْبَهَ مِنْهُمَا بِاصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ خِصْمِهِ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ، إِذْ لَا غَرَابَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ الْإِشْكَالُ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ -، فَهُوَ إِمَّا مِنْ حَيْثُ التَّرَدُّدُ كَالْمُجْمِلَاتِ، وَقَدْ مَرَّ مِثَالُهَا، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْغَرَابَةُ، بِذَكَرِ وَحْشِيِّ الْأَلْفَاظِ، كَقَوْلِهِ: لَا يَحِلُّ أَكْلُ الرِّئْبَالِ أَوِ السِّيدِ، أَوِ السَّبَنْتَى - يَعْنِي الْأَسَدَ - وَالذِّئْبِ وَالنَّمِرِ، لِأَنَّهُ ذُو نَابٍ، أَوْ يَجُوزُ أَكْلُ الدَّغْفَلِ - وَهُوَ وَلَدُ الْفِيلِ - أَوِ الْهِجْرِسِ - وَهُوَ وَلَدُ الثَّعْلَبِ - فَيُقَالُ لَهُ: مَا تَعْنِي بِذَلِكَ؟ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَةِ الْغَامِضَةِ، إِلَّا عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ بِغَرِيبِ اللُّغَةِ، فَصَارَ كَالْمُجْمَلِ التَّرَدُّدِيِّ، بِجَامِعِ عَدَمِ فَهْمِ الْمُرَادِ. وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ: إِذَا أَكَلَ مِنْ صَيْدِهِ، لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، لِأَنَّهُ صَيْدُ جَارِحَةٍ لَمْ تُرَضْ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْمُعَلَّمِ: فَإِنَّ قَوْلَهُ: تُرَضْ، مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّيَاضَةِ، وَقَدْ يَسْتَغْرِبُهُ بَعْضُ النَّاسِ، فَلَهُ الِاسْتِفْسَارُ عَنْهُ.
وَشَرْطُ تَوَجُّهِ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِي مَظِنَّةِ الْغُمُوضِ كَمَا ذَكَرْنَا.
أَمَّا إِنْ كَانَ ظَاهِرًا مَشْهُورًا، مُسْتَطْرِقًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، بِحَيْثُ لَا يَغْمُضُ مِثْلُهُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ، كَقَوْلِهِ: فُقِدَ الشَّرْطُ، وَوُجِدَ الْمَانِعُ أَوِ السَّبَبُ، أَوْ هُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ الطَّهُورِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَهُ، فَيُقَالُ: مَا تَعْنِي بِهَذَا اللَّفْظِ؟ فَإِنِّي لَا أَفْهَمُ مَعْنَاهُ، كَانَ مُعَانِدًا خَارِجًا عَنِ الْإِنْصَافِ، أَوْ جَاهِلًا فَدْمًا، لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ
(3/465)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُؤَهَّلَ لِلْكَلَامِ مَعَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ رَشِيدُ الدِّينِ الْحَوَارِيُّ: حَقُّ الْمُسْتَفْسِرِ أَنْ يَقُولَ: أَيُّ شَيْءٍ تَعْنِي بِهَذَا الْكَلَامِ، لِأَنَّهُ طَلَبَ الْمُرَادَ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَا يَقُولُ مَثَلًا: مَا الْقَتْلُ، لِأَنَّ هَذَا صِيغَةُ اسْتِفْهَامٍ، وَالْمُسْتَدِلُّ إِنَّمَا تَصَدَّى لِلْإِفْحَامِ، لَا لِلتَّعْلِيمِ وَالْإِفْهَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/466)
________________________________________
الثَّانِي: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ نَصًّا، كَحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لَمْ يَقِيسُوا إِلَّا مَعَ عَدَمِ النَّصِّ.
وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ النَّصِّ، وَاسْتِحْقَاقِ تَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، لِضَعْفِهِ، أَوْ عُمُومِهِ، أَوِ اقْتِضَاءِ مَذْهَبٍ لَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «الثَّانِي: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ مُخَالَفَةُ الْقِيَاسِ نَصًّا» أَيْ: يَكُونُ الْقِيَاسُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَسُمِّيَ هَذَا فَسَادَ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ; اعْتِبَارٌ لَهُ مَعَ دَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ اعْتِبَارٌ فَاسِدٌ وَظُلْمٌ؛ لِأَنَّهُ وَضْعٌ لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
مِثَالُ مَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ: قَوْلُنَا: يُشْتَرَطُ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ لِرَمَضَانَ، لِأَنَّهُ صَوْمٌ مَفْرُوضٌ، فَلَا يَصِحُّ تَبْيِيتُهُ مِنَ النَّهَارِ كَالْقَضَاءِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} . . . . . . {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الْأَحْزَابِ: 35] ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ صَامَ يَحْصُلُ لَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلصِّحَّةِ، وَهَذَا قَدْ صَامَ، فَيَكُونُ صَوْمُهُ صَحِيحًا.
وَمِثَالُ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ قَوْلُنَا: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ، لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَشْتَمِلُ عَلَى الْغَرَرِ، فَلَا يَصِحُّ، كَالسَّلَمِ فِي الْمُخْتَلَطَاتِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ
(3/467)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاعْتِبَارِ، لِمُخَالَفَةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ.
وَمِثَالُ مَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، لِأَنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، فَحَرُمَ غَسْلُهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ، وَهُوَ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَالْقَضِيَّةُ فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ.
قَوْلُهُ: «كَحَدِيثِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِقِيَاسٍ يُخَالِفُ النَّصَّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حَدِيثِهِ الْمَشْهُورِ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرَهُ، أَخَّرَ الْقِيَاسَ عَنِ النَّصِّ، وَصَوَّبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رُتْبَةَ الْقِيَاسِ بَعْدَ النَّصِّ، فَتَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى كَثْرَةِ اجْتِهَادَاتِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَاسُوا، «إِلَّا مَعَ عَدَمِ النَّصِّ» وَكَانُوا يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النُّصُوصِ، فَإِذَا وَجَدُوهَا، لَمْ يَعْدِلُوا عَنْهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ.
(3/468)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَثَمَّ وَجْهٌ ثَالِثٌ لَمْ يُذْكَرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» هَاهُنَا، لَكِنَّهُ ذُكِرَ قَبْلُ، وَهُوَ أَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ.
قَوْلُهُ: «وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ النَّصِّ» إِلَى آخِرِهِ، أَيْ: وَجَوَابُ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ، أَوْ جَوَابُ الْمُعْتَرِضِ الْمُورِدِ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْعُ النَّصِّ الَّذِي ادَّعَى أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى خِلَافِهِ; إِمَّا مَنْعَ دَلَالَةٍ، أَوْ مَنْعَ صِحَّةٍ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ الصَّوْمِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ بِدُونِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ، لِأَنَّهَا مُطْلَقَةٌ، وَقَيَّدْنَاهَا بِحَدِيثِ: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الصَّائِمَ يُثَابُ، وَأَنَا أَقُولُ بِهِ، لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. وَالنِّزَاعُ فِيهِ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهَا دَلَّتْ عَلَى ثَوَابِ الصَّائِمِ، وَأَنَا لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْمُمْسِكَ بِدُونِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ صَائِمٌ.
وَمِثَالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ السَّلَمِ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ التَّرْخِيصِ فِي السَّلَمِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اللَّامَ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحَيَوَانَ، وَإِنْ صَحَّ السَّلَمُ فِي غَيْرِهِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ غَسْلِ الزَّوْجَةِ، فَبِأَنْ نَمْنَعَ صِحَّةَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَإِنْ سَلَّمَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ اشْتُهِرَ، وَإِنْ سَلَّمَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ،
(3/469)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنَّ سَلَّمَ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ; أَنَّ فَاطِمَةَ كَانَتْ زَوْجَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالْمَوْتُ لَمْ يَقْطَعِ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا، بِإِخْبَارِ الصَّادِقِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا، فَإِنَّ الْمَوْتَ يَقْطَعُ نِكَاحَهُمَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي جَوَابِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ: أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْقِيَاسِ يَسْتَحِقُّ التَّقْدِيمَ عَلَى النَّصِّ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ، إِمَّا «لِضَعْفِهِ» أَيْ: لِكَوْنِ النَّصِّ ضَعِيفًا، فَيَكُونُ الْقِيَاسُ أَوْلَى مِنْهُ، أَوْ لِكَوْنِ النَّصِّ عَامًّا، فَيَكُونُ الْقِيَاسُ مُخَصِّصًا لَهُ، جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ لِكَوْنِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْقِيَاسِ عَلَى ذَلِكَ النَّصِّ، كَكَوْنِهِ حَنَفِيًّا يَرَى تَقْدِيمَ الْقِيَاسِ عَلَى الْخَبَرِ إِذَا خَالَفَ الْأُصُولَ، أَوْ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، أَوْ مَالِكِيًّا يَرَى تَقْدِيمَ الْقِيَاسِ عَلَى الْخَبَرِ إِذَا خَالَفَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: لِلْمُسْتَدِلِّ الِاعْتِرَاضُ عَلَى النَّصِّ الَّذِي يُبْدِيهِ الْمُعْتَرِضُ بِجَمِيعِ مَا يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَى النُّصُوصِ، سَنَدًا وَمَتْنًا.
تَنْبِيهٌ: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ فَسَادُ الْوَضْعِ الْمَذْكُورِ بَعْدُ، بِخِلَافِ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ; فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْقِيَاسِ، بَلْ يَرِدُ عَلَى النُّصُوصِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِأَنَّ الْإِجْمَالَ وَالْغَرَابَةَ تَقَعُ فِيهَا، كَمَا تَقَعُ فِي أَلْفَاظِ الْقِيَاسِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: فَسَادُ الِاعْتِبَارِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حَاصِلُهُ رَاجِعًا إِلَى النِّزَاعِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِجِنْسِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ، كَمَا لَوِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِالْقِيَاسِ عَلَى
(3/470)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الظَّاهِرِيِّ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: مَا ذَكَرْتَهُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، أَيْ: إِنَّكَ اعْتَبَرْتَ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا.
قُلْتُ: هَذَا لَيْسَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، بَلْ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لِأَنَّ الظَّاهِرِيَّ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ أَنَّ جِنْسَ الْقِيَاسِ دَلِيلٌ، أَمَّا الْحَنَفِيُّ إِذَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ بِالْقِيَاسِ، فَأَوْرَدَ فَسَادَ الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّهُ لَا يُنَازِعُ فِي كَوْنِ جِنْسِ الْقِيَاسِ دَلِيلًا، إِنَّمَا يُنَازِعُ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا فِي هَذَا الْحُكْمِ الْخَاصِّ، وَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ سُؤَالَ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلِّيًّا، كَإِنْكَارِ الظَّاهِرِيِّ وَنَحْوِهِ الِاسْتِدْلَالَ بِالْقِيَاسِ، أَوْ جُزْئِيًّا. ثُمَّ هُوَ إِمَّا عَامٌّ، أَيْ: يَرِدُ فِي عُمُومِ الْأَحْكَامِ، كَمَا إِذَا اسْتَدَلَّ بِالْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ، أَوِ الْإِجْمَاعِ، كَمَا سَبَقَتْ أَمْثِلَتُهُ، أَوْ خَاصًّا، أَيْ: لَا يَرِدُ إِلَّا فِي أَحْكَامٍ خَاصَّةٍ، كَمَا إِذَا اسْتَدَلَّ عَلَى الْحَنَفِيِّ بِالْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْأَسْبَابِ وَالْمُقَدَّرَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا أَضْبَطُ أَقْسَامِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ.
وَإِذَا تَوَجَّهَ سُؤَالُ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ; انْقَطَعَ مُطْلَقًا، لِتَجَرُّدِ دَعْوَاهُ عَنْ دَلِيلٍ، بِخِلَافِ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ مُطْلُقًا، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَقَامِهِ الْخَاصِّ.
وَالْفَرْقُ: أَنَّ النِّزَاعَ هُنَا لَفْظِيٌّ لَا يَقْدَحُ فِي الْحُكْمِ، بِخِلَافِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ، فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي عُمْدَةِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ.
(3/471)
________________________________________
الثَّالِثُ: فَسَادُ الْوَضْعِ، وَهُوَ اقْتِضَاءُ الْعِلَّةِ نَقِيضَ مَا عُلِّقَ بِهَا، نَحْوُ: لَفْظُ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ كَالْإِجَارَةِ، فَيُقَالُ: انْعِقَادُ غَيْرِ النِّكَاحِ بِهِ يَقْتَضِي انْعِقَادُهُ بِهِ لِتَأْثِيرِهِ فِي غَيْرِهِ.
وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ الِاقْتِضَاءِ الْمَذْكُورِ، أَوْ بِأَنَّ اقْتِضَاءَهَا لَمَّا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ أَرْجَحُ. فَإِنَّ ذِكْرَ الْخَصْمِ شَاهِدًا لِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرَهُ، فَهُوَ مُعَارَضَةٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ: «الثَّالِثُ: فَسَادُ الْوَضْعِ، وَهُوَ اقْتِضَاءُ الْعِلَّةِ نَقِيضَ مَا عُلِّقَ بِهَا» وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا فَسَادَ الْوَضْعِ، لِأَنَّ وَضْعَ الشَّيْءِ: جَعْلُهُ فِي مَحَلٍّ عَلَى هَيْئَةٍ أَوْ كَيْفِيَّةٍ مَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ أَوْ تِلْكَ الْهَيْئَةُ لَا تُنَاسِبُهُ كَانَ وَضْعُهُ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ، وَمَا كَانَ عَلَى خِلَافِ الْحِكْمَةِ يَكُونُ فَاسِدًا، فَنَقُولُ هَاهُنَا: إِنَّ الْعِلَّةَ إِذَا اقْتَضَتْ نَقِيضَ الْحُكْمِ الْمُدَّعَى أَوْ خِلَافَهُ، كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْحِكْمَةِ، إِذْ مِنْ شَأْنِ الْعِلَّةِ أَنَّ تُنَاسِبَ مَعْلُولَهَا، لَا أَنَّهَا تُخَالِفُهُ، فَكَانَ ذَلِكَ فَاسِدَ الْوَضْعِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ، وَالْبَزْدَوِيُّ فِي «جَدْلَيْهِمَا» لِفَسَادِ الْوَضْعِ أَنْوَاعًا:
مِنْهَا: وُقُوعُ الْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، كَقَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ فِي إِبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ: لِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ، فَأُبِيحَ، كَمَا لَوْ تَرَكَهَا نَاسِيًا، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِوُقُوعِهِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَالظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ أَعْظَمُ.
الثَّانِي: وُقُوعُهُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ، كَاسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْحَنَفِيِّ
(3/472)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ، وَحُكْمُ الْأَصْلِ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
الثَّالِثُ: دَعْوَى الْمُعْتَرِضِ إِشْعَارَ الْوَصْفِ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ، كَمَا تُذْكَرُ أَمْثِلَتُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ. وَذَكَرَ النِّيلِيُّ أَنَّ وُقُوعَ الْقِيَاسِ فِي مُصَادَمَةِ النَّصِّ قَدْ يُسَمَّى فَسَادَ الْوَضْعِ أَيْضًا. وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ الْعُرْفَ خَصَّ اعْتِبَارَ الْعِلَّةِ فِي ضِدِّ مُقْتَضَاهَا بِفَسَادِ الْوَضْعِ، وَاعْتِبَارَهَا فِي خِلَافِ مُقْتَضَاهَا بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ، وَسَيَأْتِي أَمْثِلَةُ الضِّدِّ وَالْخِلَافِ فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قُلْتُ: الْمَشْهُورُ فِي فَسَادِ الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ اصْطِلَاحِيٌّ لَا يَضُرُّ، وَإِطْلَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ لَا يُنَافِي اللُّغَةَ، بَلْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ فِيهَا.
مِثَالُ مَا عُلِّقَ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ ضِدَّ مَا تَقْتَضِيهِ: قَوْلُنَا فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ: لَفْظُ «يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ» كَلَفْظِ «الْإِجَارَةِ» . فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ «انْعِقَادَ غَيْرِ النِّكَاحِ» بِلَفْظِ الْهِبَةِ «يَقْتَضِي» وَيُنَاسِبُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ، لَكِنَّ تَأْثِيرَهُ فِي انْعِقَادِ غَيْرِ النِّكَاحِ بِهِ - وَهُوَ الْهِبَةُ - دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ حَظًّا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي انْعِقَادِ الْعُقُودِ، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ فَلْيَنْعَقِدْ بِهِ، كَالْهِبَةِ، وَيَلْتَزِمُ عَلَيْهِ الْإِجَارَةُ، أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْهِبَةِ وَالنِّكَاحِ إِنْ أَمْكَنَ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الْحَنَفِيِّ: قَتْلُ الْعَمْدِ كَبِيرَةٌ، فَلَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، قِيَاسًا عَلَى الزِّنَا وَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ كَبِيرَةً يَقْتَضِي
(3/473)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّغْلِيظَ عَلَيْهِ، لَا التَّخْفِيفَ عَنْهُ، وَفِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ تَغْلِيظٌ، وَفِي إِسْقَاطِهَا تَخْفِيفٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الشَّفْعَوِيِّ فِي تَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ: مَسْحٌ، فَيُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ، كَالْمَسْحِ فِي الِاسْتِجْمَارِ، فَيُقَالُ: هَذَا فَاسِدُ الْوَضْعِ، لِأَنَّ كَوْنَهُ مَسْحًا مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَمُنَاسِبٌ لَهُ، وَالتَّكْرَارُ مُنَافٍ لَهُ.
وَمِثَالُ مَا عُلِّقَ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ وَلَيْسَ بِضِدٍّ، قَوْلُنَا: فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الْجِرَاحَاتِ جِنَايَةٌ عَلَى آدَمِيٍّ، فَيُضْرَبُ بَدَلَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ كَالنَّفْسِ، فَيُقَالُ: هَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ، إِذْ جِنَايَةُ الشَّخْصِ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ضَمَانِهَا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، عَمَلًا بِمُوجَبِ النَّصِّ وَالْعُرْفِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي أَنَّ الْعَبْدَ تَتَقَدَّرُ قِيمَتُهُ، لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ، فَتَقَدَّرَتْ قِيمَتُهُ كَالْحُرِّ، فَيُقَالُ: هَذَا عَلَى خِلَافِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، لِأَنَّهَا لَا تُشِيرُ إِلَى تَقْدِيرٍ.
قُلْتُ: هَكَذَا ذَكَرَ النِّيلِيُّ فِي أَمْثِلَةِ اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ ضِدَّ حُكْمِهَا وَخِلَافِهِ، وَلَعَلَّ فِيهِ نَظَرًا، فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْقِيمَةِ وَعَدَمَهُ، وَاخْتِصَاصَ الْجِنَايَةِ بِالْجَانِي وَعَدَمَهُ، نَحْوٌ مِنَ اقْتِضَاءِ الْكَبِيرَةِ الْكَفَّارَةَ وَعَدَمِهَا، وَانْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَعَدَمِهِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَالْخِلَافَيْنِ، وَالْمِثْلَيْنِ، وَالنَّقِيضَيْنِ، وَبِعَرْضِ هَذَا عَلَى ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ.
قَوْلُهُ: «وَجَوَابُهُ بِمَنْعِ الِاقْتِضَاءِ الْمَذْكُورِ، أَوْ بِأَنَّ اقْتِضَاءَهَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ
(3/474)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرْجَحُ» . أَيْ: وَجَوَابُ فَسَادِ الْوَضْعِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا بِأَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَدِلُّ كَوْنَ عِلَّتِهِ تَقْتَضِي نَقِيضَ مَا عُلِّقَ بِهَا، أَوْ بِأَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ، لَكِنْ يُبَيِّنَ أَنَّ اقْتِضَاءَهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ، هُوَ أَرْجَحُ مِنَ الْمَعْنَى الْآخَرِ، فَيُقَدَّمُ لِرُجْحَانِهِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ انْعِقَادَ الْهِبَةِ بِلَفْظِهَا، أَوْ كَوْنِ لَفْظِ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ.
قَوْلُكُمْ: انْعِقَادُ غَيْرِ النِّكَاحِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُودِ.
قُلْنَا: إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْثِيرِهِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْهِبَةُ، أَمَّا غَيْرُهُ، فَلَا لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَأْثِيرَ اللَّفْظِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضُوعِهِ، لِإِشْعَارِهِ بِخَوَاصِّهِ، وَدَلَالَتِهِ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الْوَضْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةُ لَهَا خَوَاصٌّ لَا يُشْعِرُ بِهَا لَفْظُ الْهِبَةِ، فَيَضْعُفُ عَنْ إِفَادَتِهَا، وَالتَّأْثِيرِ فِي انْعِقَادِهَا بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ تَجَوُّزٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّجَوُّزِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ قُوَّةَ اللَّفْظِ وَسُلْطَانَهُ، وَظُهُورَ دَلَالَتِهِ، لَمَّا كَانَتْ فِي مَوْضُوعِهِ، كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِهِ تَفْرِيقًا لِقُوَّتِهِ، وَكَالتَّغْرِيبِ لَهُ عَنْ مَوْطِنِهِ، فَيَضْعُفُ بِذَلِكَ عَنِ التَّأْثِيرِ.
سَلَّمْنَا أَنَّ انْعِقَادَ غَيْرِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ يَقْتَضِي انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ، لَكِنِ اقْتِضَاؤُهُ لِعَدَمِ انْعِقَادِهِ أَقْوَى مِنَ اقْتِضَائِهِ لِانْعِقَادِهِ، لِأَنَّ انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ; يَقْتَضِي أَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا، أَوْ مَجَازٌ فِي النِّكَاحِ عَنِ الْهِبَةِ،
(3/475)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالِاشْتِرَاكُ وَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ يَقْتَضِي نَفْيَهُمَا، وَتَخْصِيصُ كُلِّ عَقْدٍ بِلَفْظٍ هُوَ وَفْقُ الْأَصْلِ، وَمَا وَافَقَ الْأَصْلَ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّا خَالَفَهُ.
وَعَلَى هَذَا النَّمَطِ يَكُونُ الْجَوَابُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمِثَالِ، فَنَقُولُ فِي مَسْأَلَةِ كَفَّارَةِ الْعَمْدِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ تَقْتَضِي التَّغْلِيظَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إِنْ أَمْكَنَهُ بِأَنَّ لِلشَّرْعِ أَنْ يُقَابِلَ الْكَبِيرَةَ بِيَسِيرِ الْعُقُوبَةِ، وَالصَّغِيرَةَ بِعَظِيمِ الْعُقُوبَةِ، كَمَا لَهُ أَنْ يَرْحَمَ الْعَاصِيَ، وَيُعَذِّبَ الطَّائِعَ، وَيُغْنِيَ الطَّالِحَ، وَيُفْقِرَ الصَّالِحَ. وَإِنَّمَا انْقَسَمَتِ الْأَفْعَالُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهَا عَلَى مَفَاسِدَ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ. أَمَّا أَنَّهَا تَقْتَضِي عُقُوبَاتٍ بِحَسَبِهَا صِغَرًا وَكِبَرًا فَلَا. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُتَّجِهًا كَمَا تَرَاهُ، غَيْرَ أَنَّ الْمَأْلُوفَ مِنَ الشَّرْعِ يَرُدُّهُ، حَيْثُ جَعَلَ الْعُقُوبَاتِ تَابِعَةً لِصِغَرِ الْأَفْعَالِ وَكِبَرِهَا.
سَلَّمْنَا أَنَّ كَوْنَهَا كَبِيرَةً يَقْتَضِي التَّغْلِيظَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِسْقَاطَ الْكَفَّارَةِ تَخْفِيفٌ، بَلْ هُوَ تَغْلِيظٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْكَبِيرَةِ قَدْرًا مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَتَعْجِيلُ الْكَفَّارَةِ يُخَفِّفُ عَنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَكَانَ تَأْخِيرُهُ بِكَمَالِهِ عَلَيْهِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ أَغْلَظَ فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ. وَهَذَا كَمَا قُلْنَا: إِنَّ الْمُؤْمِنَ تُكَفَّرُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا، لِيَلْقَى اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، بِخِلَافِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ، وَيُعَجَّلُ لَهُمْ مَعْرُوفُهُمْ فِي الدُّنْيَا، لِيُلَاقُوا عَذَابَ الْآخِرَةِ كَامِلًا، لَمْ يُخَفَّفْ مِنْهُ شَيْءٌ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ.
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَحْثٌ قَدِ اسْتَقْصَيْتُهُ فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» لَمْ يَتَّسِعْ هَذَا الْمَكَانُ لِذَكَرِهِ، وَلَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ إِنَّمَا نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ
(3/476)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فِي الصِّنَاعَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ فِي الْمِثَالَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَهُوَ عَنْ قَوْلِ الْمُعْتَرِضِ: إِنَّ جِنَايَةَ الْآدَمِيِّ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ ضَمَانِهَا بِهِ، وَإِنَّ وَصْفَ الْآدَمِيِّ لَا يُشِيرُ إِلَى تَقْدِيرِ قِيمَتِهِ; فَبِنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجِنَايَةَ تَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الضَّمَانِ بِفَاعِلِهَا، إِذْ لِلشَّرْعِ أَنْ يَجْعَلَ فِعْلَ زَيْدٍ أَمَارَةً عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِعَمْرٍو، كَمَا جَازَ أَنْ يُجْعَلَ عَمَلُ زَيْدٍ فِي نِيَابَةِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْقَابِلَةِ لِلنِّيَابَةِ، وَإِهْدَاءِ ثَوَابِ الْقُرْبِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ الْمَالِيَّةِ، عَلَمًا وَأَمَارَةً عَلَى نَفْعِ عَمْرٍو، وَبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ.
قُلْتُ: لَكِنَّ هَذَا خِلَافُ مَنْصُوصِ الشَّرْعِ وَمَأْلُوفِهِ، سَلَّمْنَا مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، لَكِنَّ عِنْدَنَا مُنَاسِبٌ رَاجِحٌ، وَهُوَ حَمْلُ الْعَاقِلَةِ عَنْ صَاحِبِهِمْ، تَخْفِيفًا عَنْهُ، وَرِفْقًا بِهِ، لِانْقِهَارِهِ بِكَثْرَةِ الْغَرَامَاتِ، لِكَثْرَةِ الْجِنَايَاتِ خَطَأً، وَصَارَ ذَلِكَ عَدْلًا عَامًّا مِنَ الشَّرْعِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ تَارَةً يَكُونُ حَامِلًا، وَتَارَةً يَكُونُ مَحْمُولًا عَنْهُ، وَهَذِهِ مَصْلَحَةٌ أَعَمُّ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا، وَكَذَلِكَ نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَصْفَ الْآدَمِيِّ لَا يُشِيرُ إِلَى تَقْدِيرِ قِيمَتِهِ، بَلْ هُوَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْآدَمِيَّةَ وَصْفٌ شَرِيفٌ، وَشَرَفُهُ يَقْتَضِي صِيَانَتَهُ عَنِ الْإِهْدَارِ، وَالصِّيَانَةُ تَقْتَضِي تَقْدِيرَ بَدَلِ نَفْسِهِ، لِئَلَّا يَدْخُلَهُ الْغَرَرُ وَالْجَهَالَةُ، وَإِذَا كَانَتِ الْأَغْرَاضُ مِنَ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ تُضْبَطُ أَبْدَالُهَا بِأَمْثَالِهَا وَقِيمَتِهَا، لِيَرْجِعَ إِلَيْهَا عِنْدَ حَاجَةِ التَّضْمِينِ، احْتِيَاطًا لَهَا مِنْ دُخُولِ الْغَرَرِ فِيهَا، فَالْإِنْسَانُ الَّذِي
(3/477)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هُوَ أَشْرَفُ مِنْهَا أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ لَهُ.
سَلَّمْنَا عَدَمَ إِشْعَارِ الْوَصْفِ بِتَقْدِيرِ الْقِيمَةِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُشْعِرْ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَحْكُمَ بِالتَّقْدِيرِ، بَلْ لَنَا ذَلِكَ، إِلْحَاقًا لَهُ بِالْأُصُولِ الشَّاهِدَةِ لَهُ بِذَلِكَ كَالْحُرِّ، وَقَدْ قَدَّرَ الشَّرْعُ بَدَلَهُ، فَيَلْحَقُ الْعَبْدُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُفَوِّضُ بُضْعَهَا، فَيُعْقَدُ عَلَيْهَا بِلَا مَهْرٍ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْهُ مُقَدَّرًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا، خُصُوصًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ حَيْثُ جَعَلُوا الْمَهْرَ حَقًّا لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ثَابِتًا لِشَرَفِ الْمَحَلِّ، لِئَلَّا يُسْتَبَاحَ بِلَا عِوَضٍ، وَمَصْرِفُهُ الْمَرْأَةُ، كَالزَّكَاةِ حُقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَصْرِفُهُ الْفُقَرَاءُ، وَإِذَا شَهِدَتِ الْأُصُولُ لِلْحُكْمِ بِالِاعْتِبَارِ; لَمْ يَضُرَّ فَقْدُ الْمُنَاسَبَةِ، بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ وَضْعِيَّةٌ لَا تَلْزَمُهَا الْمُنَاسَبَةُ، بِخِلَافِ الْعَقْلِيَّاتِ وَالْعُرْفِيَّاتِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ ذَكَرَ الْخَصْمُ شَاهِدًا لِاعْتِبَارِ مَا ذَكَرَهُ، فَهُوَ مُعَارَضَةٌ» . يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا عَلَّلَ بِوَصْفٍ، فَادَّعَى الْمُعْتَرِضُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ الْمُدَّعَى، وَذَكَرَ لَهُ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ فِي اقْتِضَاءِ النَّقِيضِ; كَانَ ذَلِكَ مُعَارَضَةً مِنْهُ لِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، وَانْتِقَالًا مِنْ سُؤَالِ فَسَادِ الْوَضْعِ إِلَى إِيرَادِ الْمُعَارَضَةِ، وَهُوَ انْقِطَاعٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنِ انْقِطَاعًا، فَهُوَ مُسْتَقْبَحٌ، لِكَوْنِهِ نَشْرًا لِلْكَلَامِ، وَانْتِقَالًا مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: لَفْظُ الْهِبَةِ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا الْوَصْفُ يَقْتَضِي نَقِيضَ الْحُكْمِ، إِذِ انْعِقَادُ غَيْرِ
(3/478)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النِّكَاحِ بِهِ يَقْتَضِي انْعِقَادَهُ بِهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ حَيْثُ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ الْبَيْعِ، وَهُوَ السَّلَمُ وَالْإِجَارَةُ، فَإِنَّ هَذَا صَارَ خُرُوجًا عَنْ خُصُوصِيَّةِ فَسَادِ الْوَضْعِ إِلَى طَرِيقِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ، حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْمُسْتَدِلِّ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْتَ، لَكِنْ عِنْدِي مَا يُعَارِضُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، وَهُوَ لَفْظُ الْبَيْعِ، قَدِ انْعَقَدَ بِهِ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ الْهِبَةُ وَغَيْرُهَا.
وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ، إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: مَسْحٌ، فَيُسَنُّ تَكْرَارُهُ كَمَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: وَصْفُكَ يَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِكَ، إِذِ الْمَسْحُ مُشْعِرٌ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلتَّكْرَارِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّثْقِيلِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ مَسْحُ الْخُفِّ، يُكْرَهُ تَكْرَارُهُ، لَمَّا كَانَ مَسْحُ الْخُفِّ مُشْعِرًا بِالتَّخْفِيفِ، فَيُقَالُ لِلْمُعْتَرِضِ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ: أَنْتَ مُنْقَطِعٌ بِانْتِقَالِكَ عَنْ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ إِلَى الْمُعَارَضَةِ، فَإِنْ سَامَحَهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِذَلِكَ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ بِمَا يُجِيبُ بِهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ.
فَيَقُولُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّلَمَ وَالْإِجَارَةَ يَنْعَقِدَانِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، حَتَّى يَجُوزَ مِثْلُهُ فِي لَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ النِّكَاحِ، سَلَّمْنَاهُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّلَمَ وَالْإِجَارَةَ مُغَايِرَانِ لِلْبَيْعِ، بَلْ هُمَا نَوْعَانِ لَهُ، إِذِ الْبَيْعُ يَنْقَسِمُ إِلَى بَيْعِ مَنْفَعَةٍ وَهِيَ الْإِجَارَةُ، وَإِلَى بَيْعِ عَيْنٍ مَوْجُودَةٍ، أَوْ مَوْصُوفَةٍ، وَهُوَ غَالِبُ أَنْوَاعِهِ، أَوْ مَعْدُومَةٍ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ السَّلَمُ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مُغَايِرٌ لِلْهِبَةِ، مُخْتَصٌّ
(3/479)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْهَا بِخَوَاصٍّ لَا يُشْعِرُ بِهَا لَفْظُهَا كَمَا سَبَقَ.
وَفِي الْمِثَالِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ يُكَرَهُ تَكْرَارُهُ كَمَا فِي مُبْدَلِهِ، وَهُوَ غَسْلُ الرِّجْلِ. سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّ الْفَرْقَ أَنَّ مَسْحَ الْخُفِّ إِنَّمَا يُكْرَهُ تَكْرَارُهُ، لِكَوْنِهِ مَسْحًا عَلَى الْخُفِّ، لَا لِكَوْنِهِ مَسْحًا مُطْلَقًا، لِأَنَّ تَكْرَارَهُ يَضُرُّ بِالْخُفِّ، وَيُتْلِفُ مَالِيَّتَهُ، وَفِي ذَلِكَ إِضَاعَةُ مَالٍ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَأَيْضًا لَيْسَ هُوَ أَصْلًا فِي الطَّهَارَةِ حَتَّى يَلْحَقَ بِنَظَائِرِهِ، مِمَّا هُوَ أَصْلٌ فِيهَا بِخِلَافِ مَسْحِ الرَّأْسِ، فَإِنَّهُ لَا مَالِيَّةَ فِيهِ تُتْلَفُ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ، فَقَرُبَ إِلْحَاقُهُ بِنَظَائِرِهِ فِي التَّكْرَارِ، كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
فَحَاصِلُ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا فِي الْجَوَابِ: إِمَّا مَنْعُ حُكْمِ الْمُعَارَضَةِ، أَوِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حُكْمِ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ، عَلَى أَنَّ فِي قِيَاسِ تَكْرَارِ مَسْحِ الرَّأْسِ عَلَى تَكْرَارِ مَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ نَظَرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قِيَاسُ أَمْرٍ تَعَبُّدِيٍّ عَلَى أَمْرٍ مَعْقُولٍ، وَشَرْطُ الْقِيَاسِ وُجُودُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَلَيْسَ مَعْنَى التَّطْهِيرِ مَوْجُودًا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، كَوُجُودِهِ فِي مَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّأْسَ يَجِبُ مَسْحُهُ مَعَ الْقَطْعِ بِطَهَارَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إِلَّا مُسَمَّى الطَّهَارَةِ، وَهُوَ شَبَهٌ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا نَحْنُ ذَكَرْنَا مِثَالًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ضَعْفِ الْقِيَاسِ لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/480)
________________________________________
الرَّابِعُ: الْمَنْعُ، وَهُوَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِطُرُقِهِ؛ وَمَنْعُ وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً فِي الْأَصْلِ فَيُثْبِتُهُ حِسًّا أَوْ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا بِدَلِيلِهِ، أَوْ وُجُودِ أَثَرٍ، أَوْ لَازِمٍ لَهُ، وَمَنْعُ عِلِّيَّتِهِ، وَمَنْعُ وَجُودِهَا فِي الْفَرْعِ، فَيُثْبِتُهُمَا بِطُرُقِهِمَا كَمَا سَبَقَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «الرَّابِعُ: الْمَنْعُ» .
قَوْلُهُ: «وَهُوَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ» لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ جِنْسِ الْمَنْعِ فِي مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ. وَشَرَعَ فِي ذِكْرِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ:
أَوَّلُهَا: «مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ» .
الثَّانِي: «مَنْعُ وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً» أَيْ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الَّذِي ادَّعَى الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ.
الثَّالِثُ: مَنْعُ كَوْنِهِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ.
الرَّابِعُ: مَنْعُ وَجُودِهِ فِي الْفَرْعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْمَنْعُ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَمَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِيهِ، وَمَنْعُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، وَمَنْعُ وَجُودِهِ فِي الْفَرْعِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا قُلْنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، إِمَّا جَهْلًا بِالْحُكْمِ، أَوْ عِنَادًا، فَهَذَا مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِي الْخَمْرِ؛ لَكَانَ هَذَا مَنْعَ
(3/481)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً فِي الْأَصْلِ. وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ، لَكَانَ هَذَا مَنْعَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ، وَلَوْ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ؛ لَكَانَ هَذَا مَنْعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، فَفِي الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ مُنُوعٍ، وَفِي الْفَرْعِ مَنْعٌ وَاحِدٌ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى الْأَصَحِّ» أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِمَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ فِيهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: يَنْقَطِعُ، لِأَنَّا لَوْ مَكَّنَّاهُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِثْبَاتِهِ بِالدَّلِيلِ، لَانْتَشَرَ الْكَلَامُ، وَانْتَقَلَ إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى.
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ حَنْبَلِيٌّ فِي جِلْدِ الْمَيْتَةِ: إِنَّهُ نَجِسٌ، فَلَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، كَجِلْدِ الْكَلْبِ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ حُكْمَ الْأَصْلِ؛ وَهُوَ أَنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ بَلْ يَطْهُرُ عِنْدِي، فَشَرَعَ الْمُسْتَدِلُّ يَقُولُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ جِلْدَ الْكَلْبِ لَا يَطْهُرُ: أَنَّهُ حَيَوَانٌ نَجِسُ الْعَيْنِ، فَلَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، كَجِلْدِ الْخِنْزِيرِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يَتَسَلْسَلُ الْمَنْعُ، مِثْلُ أَنْ يَمْنَعَ الْمُعْتَرِضُ الْحُكْمَ فِي جِلْدِ الْخِنْزِيرِ، أَوِ الْوَصْفَ فِي جِلْدِ الْكَلْبِ، فَيَخْرُجُ قَانُونُ النَّظَرِ عَنْ وَضْعِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ بِذَلِكَ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ الْمَنْعُ جَلِيًّا فِي مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، مَشْهُورًا، يَعْلَمُهُ غَالِبُ الْفُقَهَاءِ، انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الْآحَادُ وَالْخَوَاصُّ،
(3/482)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَمْ يَنْقَطِعْ.
وَالْفَرْقُ: أَنَّ خَفَاءَ الْمَنْعِ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ، فَيُمَكَّنُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، وَلَا يُحْكَمُ بِانْقِطَاعِهِ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ الْجَلِيِّ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ كَالْمُفَرِّطِ إِذَا قَاسَ عَلَى أَصْلٍ مَمْنُوعٍ، حَيْثُ عَرَّضَ الْكَلَامَ لِلتَّسَلْسُلِ وَالِانْتِشَارِ.
وَقَدْ مَثَّلَ الْمَنْعَ الْجَلِيَّ بِقَوْلِهِ: لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، قِيَاسًا عَلَى الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الْخَصْمِ، وَهُوَ جَلِيٌّ مِنْ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ الْمُسْلِمَ بِالذِّمِّيِّ.
وَكَقَوْلِنَا: يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعُ نَقْصٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضَاءِ عَلَى الْحَاضِرِ، كَمَا يُقْضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ نَقْصٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ مَنْعًا جَلِيًّا مَشْهُورًا.
وَمُثِّلَ الْمَنْعُ الْخَفِيُّ بِقَوْلِنَا فِي تَعْيِينِ النِّيَّةِ لِرَمَضَانَ: صَوْمٌ وَاجِبٌ، فَيَجِبُ تَعْيِينُ النِّيَّةِ لَهُ كَالْقَضَاءِ، وَقَوْلِنَا فِي الْوُضُوءِ: عِبَادَةٌ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، كَالتَّيَمُّمِ، فَإِنَّ الْمَنْعَ فِي ذَلِكَ خَفِيٌّ، إِذْ مَنْعُ احْتِيَاجِ الْقَضَاءِ إِلَى النِّيَّةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ زُفَرَ، وَأَمَّا افْتِقَارُ التَّيَمُّمِ إِلَى النِّيَّةِ، فَلَا أَعْلَمُ عِنْدَهُمْ فِيهِ خِلَافًا.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ خَفَاءَ الْمَنْعِ وَظُهُورَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَدِلِّ فِي عِلْمِهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَقْوَالِ النَّاسِ، وَظُهُورِ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِأَمَارَاتِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِكَ، فَهُوَ جَلِيٌّ فِي حَقِّكَ، لَكِنْ عَلَى هَذَا إِشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا ادَّعَى خَفَاءَ ذَلِكَ عَنْهُ، فَقَدِ ادَّعَى مُمْكِنًا، وَالْأَصْلُ عَلَى وَفْقِهِ، وَهُوَ عَدَمُ عِلْمِهِ، فَلَوْ حُكِمَ بِانْقِطَاعِهِ بِذَلِكَ لَأَفْضَى إِلَى تَكْذِيبِهِ، فَالْأَشْبَهُ عَلَى هَذَا أَنْ يُرْجَعَ إِلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ. إِنْ قَالَ: عَلِمْتُ الْمَنْعَ، انْقَطَعَ، وَإِلَّا فَلَا. وَيَلْزَمُهُ
(3/483)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصِّدْقُ فِي ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
أَمَّا ضَبْطُ خَفَاءِ الْمَنْعِ وَظُهُورِهِ بِمَا يَعْلَمُهُ غَالِبُ الْفُقَهَاءِ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَكِنَّهُ مُتَفَاوِتٌ جِدًّا، إِذْ غَالِبُ الْفُقَهَاءِ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَذْهَبِ خَصْمِهِمْ، كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَذَاهِبِهِمْ، وَقَدْ يَبْلُغُ الْفَقِيهُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، وَيَخْفَى عَنْهُ غَالِبُ مَذْهَبِ غَيْرِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فِي هَذَا الْقَوْلِ التَّفْصِيلِيِّ نَظَرٌ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ إِلَى عُرْفِ أَهْلِ بَلَدِ الْمُنَاظَرَةِ، إِنْ كَانُوا يَعُدُّونَ مَنْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ انْقِطَاعًا، انْقَطَعَ؛ وَإِلَّا فَلَا، إِذْ لِلْجَدَلِ مَرَاسِمُ وَحُدُودٌ مُصْطَلَحٌ عَلَيْهَا، فَيَنْبَغِي الْوُقُوفُ مَعَهَا.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَدِلِّ مَدْرَكٌ، يَعْنِي طَرِيقًا إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ غَيْرَ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ جَازَ، وَلَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا بِالْمَنْعِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْرَكٌ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ خَفِيًّا لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِلَّا انْقَطَعَ. وَهَذَا تَفْصِيلٌ جَيِّدٌ ذَكَرَهُ فِي «الْجَدَلِ» .
وَاخْتَارَ فِي «الْمُنْتَهَى» : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ، وَالَّذِي صُحِّحَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
وَوَجْهُهُ: أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، فَإِذَا امْتَنَعَ كَانَ لَهُ إِثْبَاتُهُ بِالدَّلِيلِ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَرْكَانِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ فِي ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ: أَثْبَتَ يَدَهُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ، فَضَمِنَ، قِيَاسًا عَلَى الْغَاصِبِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ عِنْدَ فَوَاتِ الْمَغْصُوبِ، بَلْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ، إِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَعُودَ الْعَبْدُ، أَوْ تُوجَدَ الضَّالَّةُ،
(3/484)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقِيمَةَ، وَيَمْلِكُ الْغَاصِبُ الْعَيْنَ، بِحَيْثُ إِذَا عَادَتْ كَانَتْ لَهُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ: أَنَّ الْغَصْبَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيَكُونُ حَرَامًا، فَيَجِبُ تَرْكُهُ بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ عَلَى مَالِكِهِ، وَمَا وَجَبَ رَدُّهُ مَعَ بَقَائِهِ، وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ عِنْدَ فَوَاتِهِ، لِأَنَّهَا بَدَلُهُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَعَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَ لَكِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْفَرْعَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَجَابَ عَنْ تَمَلُّكِ الْغَاصِبِ الْعَيْنَ بِالْقِيمَةِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَهُوَ نَصٌّ، فَلَا يُسْمَعُ الِاجْتِهَادُ مَعَهُ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: يَجِبُ غَسْلُ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ سَبْعًا، قِيَاسًا عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ الْحُكْمَ فِي الْكَلْبِ، وَإِنَّمَا يُغْسَلُ عِنْدِي ثَلَاثًا، أَوْ يُكَاثِرُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: الدَّلِيلُ عَلَى غَسْلِ نَجَاسَةِ الْكَلْبِ سَبْعًا: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ. . . الْحَدِيثَ.
(3/485)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِطُرُقِهِ» ، أَيْ: إِذَا مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ حُكْمَ الْأَصْلِ لَا يَنْقَطِعُ الْمُسْتَدِلُّ، وَلَهُ إِثْبَاتُهُ بِطُرُقِهِ مِنْ نَصِّ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ وُجُودِ الْمُدَّعَى عِلَّةً فِي الْأَصْلِ» . هَذَا هُوَ الْمَنْعُ الثَّانِي، وَقَدْ سَبَقَ مِثَالُهُ.
قَوْلُهُ: «فَيُثْبِتُهُ» أَيْ: إِذَا مَنَعَ الْمُعْتَرِضُ وُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ، فَيُثْبِتُهُ الْمُسْتَدِلُّ «حِسًّا، أَوْ عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا» أَيْ: يُثْبِتُهُ بِالْحِسِّ، كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ، فَإِنَّهَا أُمُورٌ مَحْسُوسَةٌ، أَوْ بِالْعَقْلِ؛ كَالْعُدْوَانِيَّةِ، أَيْ: كَوْنِ الْقَتْلِ عُدْوَانًا. وَالشِّدَّةُ مُطْرِبَةٌ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ عُدْوَانٌ، وَأَنَّ هَذَا الشَّرَابَ مُسْكِرٌ، فَإِنَّ كَوْنَ الْقَتْلِ عُدْوَانًا وَالشَّرَابِ مُسْكِرًا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ بِدَوَرَانِ زَوَالِ الْعَقْلِ مَعَ شُرْبِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، أَوْ بِالشَّرْعِ، كَالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، وَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، فِي قَوْلِنَا: طَاهِرٌ، فَجَازَ بَيْعُهُ، أَوْ نَجِسٌ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: «بِدَلِيلِهِ، أَوْ وُجُودِ أَثَرٍ، أَوْ لَازِمٍ لَهُ» ، أَيْ: يُثْبِتُ الْوَصْفَ إِذَا مَنَعَهُ بِدَلِيلِهِ مِنْ حِسٍّ، أَوْ عَقْلٍ، أَوْ شَرْعٍ، كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِهِ بِوُجُودِ لَازِمٍ لَهُ، أَوْ أَثَرٍ مِنْ آثَارِهِ.
وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: بِوُجُودِ أَثَرٍ أَوْ أَمْرٍ مُلَازِمٍ لَهُ، أَوْ بِوُجُودِ مَلْزُومِهِ، لِأَنَّ
(3/486)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وُجُودَ اللَّازِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْمَلْزُومِ، بِخِلَافِ الْأَثَرِ، فَإِنَّهُ مَلْزُومٌ لِلْمُؤَثِّرِ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى لَازِمِهِ، وَالْأَمْرُ الْمُلَازِمُ لِلشَّيْءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمُلَازَمَةِ وُجُودِ النَّهَارِ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ، وَطُلُوعِ الشَّمْسِ لِوُجُودِ النَّهَارِ.
وَهَكَذَا عِبَارَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ: وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِإِثْبَاتِ أَثَرٍ، أَوْ أَمْرٍ يُلَازِمُهُ، وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ عِبَارَةِ «الْمُخْتَصَرِ» لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ كَدَلَالَةِ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ عَلَى كَوْنِهِ عَمْدًا، لِأَنَّ الْعَمْدَ مِنْ لَوَازِمِ التَّحْرِيمِ، وَدَلَالَةِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَتْلِ، لِأَنَّهَا مِنْ آثَارِهِ، وَدَلَالَةِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ لَازِمٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ، وَكَلُحُوقِ النَّسَبِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ، لِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ مِنْ آثَارِ الْوَطْءِ الَّذِي لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَكَدَلَالَةِ فَسَادِ الْعَقْلِ عَلَى إِسْكَارِ الشَّرَابِ، وَجَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَعَدَمِ جَوَازِ الِاسْتِصْحَابِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَمَنْعُ عِلِّيَتِهِ، وَمَنْعُ وَجُودِهَا فِي الْفَرْعِ» . هَذَانِ الْمَنْعَانِ الْآخَرَانِ، أَيْ: وَمِنَ الْمُنُوعِ مَنْعُ عِلَّةِ الْوَصْفِ، أَيْ: مَنْعُ كَوْنِهِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، وَمَنْعُ وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ كَمَا سَبَقَ مِثَالُهُ، فَيُثْبِتُهُمَا الْمُسْتَدِلُّ بِطَرِيقِهِمَا «كَمَا سَبَقَ» إِشَارَةً إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدِلَّةِ إِثْبَاتِ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً، وَهِيَ النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالِاسْتِنْبَاطُ بِالْمُنَاسَبَةِ، وَالسَّبْرُ، وَالدَّوَرَانُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ دَلِيلِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ مِنْ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ، وَهُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ وَنَحْوِهِ.
(3/487)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَحُرِّمَ كَالْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةٌ، وَلَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ. لَكَانَ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةُ التَّحْرِيمِ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ، لِإِفْضَائِهِ إِلَى مَصْلَحَةِ صِيَانَةِ الْعُقُولِ عَنِ الْفَسَادِ، وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ إِمَّا لِلَوْنِهِ، أَوْ مَيَعَانِهِ، أَوْ إِزْبَادِهِ، أَوْ كَوْنِهِ مِنَ الْعِنَبِ، أَوْ لِإِسْكَارِهِ، وَالْأَوْصَافُ كُلُّهَا طَرْدِيَّةٌ إِلَّا الْإِسْكَارَ، فَكَانَ هُوَ الْعِلَّةَ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ، بِدَلِيلِ الْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ، فَإِنَّ الشَّارِبَ لَهُ يَجِدُ النَّشَاطَ، وَغُرُوبَ الْعَقْلِ، وَدَبِيبَ الْأَعْضَاءِ، وَكَذَلِكَ يَرَى زَوَالَ الْعَقْلِ يَدُورُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَذَلِكَ دَلِيلُ كَوْنِهِ مُسْكِرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/488)
________________________________________
الْخَامِسُ: التَّقْسِيمُ: وَمَحَلُّهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّهُ مَنْعٌ، وَهُوَ تَسْلِيمٌ، وَهُوَ مَقْبُولٌ بَعْدَ الْمَنْعِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَهُوَ حَصْرُ الْمُعْتَرِضِ مَدَارِكَ مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً وَإِلْغَاءُ جَمِيعِهَا، وَشَرْطُهُ صِحَّةُ انْقِسَامِ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى مَمْنُوعٍ وَمُسَلَّمٍ، وَإِلَّا كَانَ مُكَابَرَةً، وَحَصْرُهُ لِجَمِيعِ الْأَقْسَامِ، وَإِلَّا جَازَ أَنْ يَنْهَضَ الْخَارِجُ عَنْهَا بِغَرَضِ الْمُسْتَدِلِّ وَمُطَابَقَتِهِ لِمَا ذَكَرَهُ، فَلَوْ زَادَ عَلَيْهِ؛ لَكَانَ مُنَاظِرًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُسْتَدِلِّ.
وَطَرِيقُ صِيَانَةِ التَّقْسِيمِ أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ لِلْمُسْتَدِلِّ: إِنْ عَنَيْتَ بِمَا ذَكَرْتَ كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ مُسَلَّمٌ، وَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ، وَإِنْ عَنَيْتَ غَيْرَهُ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ مَمْنُوعٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «الْخَامِسُ: التَّقْسِيمُ» ، وَقَدْ ذُكِرَ مَعْنَاهُ بَعْدُ.
قَوْلُهُ: «وَمَحَلُّهُ» ، أَيْ: وَمَحَلُّ سُؤَالِ التَّقْسِيمِ، وَمَوْضِعُهُ مِنَ الْأَسْئِلَةِ «قَبْلَ» سُؤَالِ «الْمُطَالَبَةِ» ، وَهُوَ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً كَمَا سَبَقَ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: مَحَلُّهُ قَبْلَ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ؛ «لِأَنَّهُ» - يَعْنِي سُؤَالَ التَّقْسِيمِ - «مَنْعٌ» لِوُجُودِ الْعِلَّةِ كَمَا ذُكِرَ بَعْدُ «وَهُوَ» - يَعْنِي الْمُطَالَبَةَ - «تَسْلِيمٌ» ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُعْتَرِضِ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي ذَكَرْتَهُ، هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ الَّذِي ادَّعَيْتَهُ؟ يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ. وَإِذَا كَانَ التَّقْسِيمُ مَنْعًا لِلْعِلَّةِ، وَالْمُطَالَبَةُ تَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَهَا، فَالتَّسْلِيمُ «مَقْبُولٌ بَعْدَ الْمَنْعِ، بِخِلَافِ
(3/489)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَكْسِ» وَهُوَ الْمَنْعُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، لِأَنَّهُ إِنْكَارٌ لِمَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: الْأُرْزُ مَكِيلٌ، فَحَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَالْبُرِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِيهِ: إِمَّا الْكَيْلُ، أَوِ الطَّعْمُ، أَوِ الْقُوتُ، وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ يَصْلُحُ عِلَّةً، وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِدَلِيلِهِ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَالَ: سَلَّمْتُ أَنَّ الْبُرَّ مُشْتَمِلٌ عَلَى عِلَّةِ الرِّبَا، لَكِنْ لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْكَيْلَ هُوَ الْعِلَّةُ؟ لَصَحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ بَعْدَ مَنْعٍ، وَرُجُوعٌ عَنِ النِّزَاعِ فِي وُجُودِ الْوَصْفِ.
وَلَوْ قَالَ أَوَّلًا: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ؟ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: الْعِلَّةُ إِمَّا الْكَيْلُ، أَوِ الطَّعْمُ، أَوِ الْقُوتُ، وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ عِلَّةٌ؛ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ سُؤَالَهُ عَنْ دَلِيلِ عِلِّيَّةِ الْكَيْلِ تَسْلِيمٌ لِوُجُودِهِ، وَلِصَلَاحِيَتِهِ لِلْعِلَّةِ، وَإِنْكَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ صَلَاحِيَتَهُ لِلتَّعْلِيلِ إِنْكَارٌ لِمَا سَلَّمَهُ.
قُلْتُ: وَفِي تَحَقُّقِ هَذَا نَظَرٌ، إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ التَّقْسِيمِ وَالْمُطَالَبَةِ، حَتَّى يَكُونَ إِيرَادُ التَّقْسِيمِ بَعْدَهَا إِنْكَارًا بَعْدَ اعْتِرَافٍ، إِذْ حَاصِلُ التَّقْسِيمِ هُوَ إِنْكَارُ وُجُودِ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَ الْمُعْتَرِضِ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرْتَهُ عِلَّةٌ؟
مِثَالُهُ: لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: الْأُرْزُ مَكِيلٌ، فَحَرُمَ فِيهِ الرِّبَا كَالْبُرِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْبُرِّ؛ كَانَ هَذَا إِنْكَارًا
(3/490)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِعِلِّيَّةِ الْكَيْلِ. ثُمَّ لَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: الْعِلَّةُ فِي الْبُرِّ إِمَّا الْكَيْلُ، أَوِ الْقُوتُ، أَوِ الطَّعْمُ، وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ صَالِحٌ لِلْعِلَّةِ، لَكَانَ ذَلِكَ كَلَامًا صَحِيحًا مُوَافِقًا لِمَا قَبْلَهُ، إِذْ كِلَاهُمَا يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ عِلِّيَّةِ الْكَيْلِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَتَّجِهُ التَّنَافِي بَيْنَ التَّقْسِيمِ وَالْمُطَالَبَةِ، لَوْ كَانَ مَعْنَى التَّقْسِيمِ إِنْكَارَ نَفْسِ الْوَصْفِ، وَالْمُطَالَبَةُ طَلَبَ الدَّلِيلِ عَلَى عِلِّيَّتِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةُ الرِّبَا؟ ثُمَّ قَالَ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْبُرَّ مَكِيلٌ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ وُجُودَ الْكَيْلِ بَعْدَ طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَى عِلِّيَّتِهِ إِنْكَارٌ لَهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُودِهِ. أَمَّا إِنْكَارُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ بَعْدَ طَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِذْ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا إِنْكَارٌ لَهَا، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْإِنْكَارِ الْحَاصِلِ مِنَ التَّقْسِيمِ.
نَعَمْ قَدْ قِيلَ: إِنَّ ذِكْرَ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ التَّقْسِيمِ تَكْرَارٌ لِأَنَّ حَاصِلَهَا مَنْعُ الْعِلِّيَّةِ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنَ التَّقْسِيمِ كَمَا عُرِفَ. فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِي كَوْنِ التَّقْسِيمِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ إِنْكَارًا بَعْدَ اعْتِرَافٍ - كَمَا ذَكَرَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَأَصَّلَهُ - نَظَرًا قَدْ أَوْضَحْتُهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» - يَعْنِي التَّقْسِيمَ - «حَصْرُ الْمُعْتَرِضِ مَدَارِكَ مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً، وَإِلْغَاءُ جَمِيعِهَا» .
الْمَدَارِكُ: جَمْعُ مَدْرَكٍ - بِفَتْحِ الْمِيمِ - وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى إِدْرَاكِ الشَّيْءِ.
وَمَعْنَى الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا: أَنَّ التَّقْسِيمَ هُوَ أَنْ يَحْصِرَ الْمُعْتَرِضُ
(3/491)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطُّرُقَ الَّتِي يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْوَصْفِ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً، ثُمَّ يُلْغِي جَمِيعَ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ لَهُ ذَلِكَ، بَطَلَ التَّعْلِيلُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِلَّا فَلَهُ تَصْحِيحُ مَا ادَّعَاهُ؛ بِالْقَدْحِ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، وَكَأَنَّ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ انْحِرَافًا عَنِ الْمَقْصُودِ عَنْ عِبَارَةِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْصِرَ الْمُعْتَرِضُ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ يُبَيِّنُ إِلْغَاءَهَا وَعَدَمَ صَلَاحِيَّتِهَا لِلتَّعْلِيلِ، كَقَوْلِهِ: عِلَّةُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ إِمَّا الْكَيْلُ، أَوِ الطَّعْمُ، أَوِ الْقُوتُ، وَلَا وَاحِدَ مِنْهَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا عِلَّةَ لَهُ، فَيَنْقَطِعُ الْإِلْحَاقُ كَمَا سَبَقَ، أَوْ أَنَّ الْعِلَّةَ وَصْفٌ غَيْرُ ذَلِكَ، فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُسْتَدِلُّ إِبْدَاؤُهُ، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا سَلَّمْنَاهُ، وَإِلَّا أَلْغَيْنَاهُ كَغَيْرِهِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: التَّقْسِيمُ تَرْدِيدُ اللَّفْظِ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ، وَاخْتِصَاصُ كُلِّ احْتِمَالٍ بِاعْتِرَاضٍ مُخَالِفٍ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى الْآخَرِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ اللَّفْظُ فِي أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ أَظْهَرَ مِنْهُ فِي الْآخَرِ، وَجَبَ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَلَوِ اشْتَرَكَ الِاحْتِمَالَانِ فِي اعْتِرَاضٍ وَاحِدٍ، لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى.
قُلْتُ: وَهَذَا أَوْلَى بِتَفْسِيرِ التَّقْسِيمِ الْمُرَادِ هَهُنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الَّذِي أَرَادَهُ فِي «الرَّوْضَةِ» لَكِنَّهُ لَمْ يُفْصِحْ بِهِ غَايَةَ الْإِفْصَاحِ، فَوَهِمْتُ فِيهِ عِنْدَ الِاخْتِصَارِ، وَذَهَبْتُ فِيهِ إِلَى التَّقْسِيمِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّقْسِيمَ فِي الْقِيَاسِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِنَ النَّاظِرِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْعِلَّةِ بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ، كَمَا ذَكَرْنَا مِثَالَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالثَّانِي: تَقْسِيمٌ مِنَ الْمُعْتَرِضِ الْمُنَاظِرِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَهَذَا هُوَ
(3/492)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُرَادُ هَهُنَا، وَسَيَأْتِي لَهُ أَمْثِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَشَرْطُهُ: صِحَّةُ انْقِسَامِ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى مَمْنُوعٍ وَمُسَلَّمٍ، وَإِلَّا كَانَ مُكَابَرَةَ، وَحَصْرَهُ لِجَمِيعِ الْأَقْسَامِ، وَإِلَّا جَازَ أَنْ يَنْهَضَ الْخَارِجُ عَنْهَا بِغَرَضِ الْمُسْتَدِلِّ، وَمُطَابَقَتِهِ لِمَا ذَكَرَهُ» .
أَيْ: وَشَرْطُ التَّقْسِيمِ، أَيْ: يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مِمَّا يَصِحُّ انْقِسَامُهُ إِلَى مَا يَجُوزُ مَنْعُهُ وَتَسْلِيمُهُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: احْتِمَالًا مُتَسَاوِيًا، لَكِنْ يَكْفِي الْمُعْتَرِضَ بَيَانُ مُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ التَّسَاوِي لِتَعَذُّرِهِ، أَوْ لِصُعُوبَتِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي نَذْرِ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ: إِنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ، فَلَا يَنْعَقِدُ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هُوَ مَعْصِيَةٌ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّ الصَّوْمَ لِعَيْنِهِ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي.
الْمَثَّالُ الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ فِي الصَّبِيِّ إِذَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ: إِنَّهَا وَظِيفَةٌ صَحَّتْ مِنَ الصَّبِيِّ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَتُهَا، كَالْبَالِغِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: صَحَّتْ مِنْهُ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِهَا، فَكَيْفَ تَكُونُ فَرْضًا مَعَ عَدَمِ الْخِطَابِ بِهَا، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِ الْإِعَادَةِ، لِأَنَّ النَّفْلَ لَا يُجَزِئُ عَنِ الْفَرْضِ، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْبَالِغِ، فَإِنَّهَا صَحَّتْ
(3/493)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَرْضًا، فَلِذَلِكَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ غَيْرُ مَحْضَةٍ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ سُقُوطُهَا عَنْ مَالِهِ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ جِهَةٍ؛ وَمُؤْنَةٌ مَالِيَّةٌ مِنْ جِهَةٍ، فَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ نُوجِبُهَا فِي مَالِهِ، كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْأَقَارِبِ، وَالْمُخَاطَبُ بِإِخْرَاجِهَا الْوَلِيُّ.
قَوْلُهُ: «وَإِلَّا كَانَ مُكَابَرَةً» . أَيْ: إِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَصِحُّ انْقِسَامُهُ إِلَى مَمْنُوعٍ وَمُسَلَّمٍ؛ كَانَ التَّقْسِيمُ مُكَابَرَةً وَشَغَبًا وَلَعِبًا، كَمَا لَوْ قَالَ: شَرَابٌ مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ مَثَلًا: مُسْكِرٌ شَرْعِيٌّ، أَوْ لُغَوِيٌّ، أَوْ عَقْلِيٌّ؟ أَوْ يَقُولُ: مُسْكِرٌ ذَوْقِيٌّ، أَوْ حَقِيقِيٌّ؟ وَكَمَا لَوْ قَالَ: مَكِيلٌ، فَحَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَالْبُرِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَكِيلٌ لُغَوِيٌّ، أَوْ شَرْعِيٌّ؟ فَإِنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ تَقْسِيمٌ لَا مَعْنًى لَهُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، فَيَكُونُ عِنَادًا، أَوْ لَعِبًا، أَوْ جَهْلًا، فَلَا يُسْمَعُ.
الْأَمْرُ الثَّانِي مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ التَّقْسِيمِ: أَنْ يَكُونَ حَاصِرًا لِجَمِيعِ الْأَقْسَامِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا لَفْظُ الْمُسْتَدِلِّ، كَمَا ذَكَرَ مِنِ انْحِصَارِ الْمَعْصِيَةِ فِي كَوْنِهَا لِعَيْنِهَا أَوْ لِغَيْرِهَا، وَانْحِصَارِ الصَّلَاةِ فِي كَوْنِهَا فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِرًا، لَمْ يَصِحَّ التَّقْسِيمُ، لِجَوَازِ أَنْ يَنْهَضَ الْقِسْمُ الْبَاقِي الْخَارِجُ عَنِ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُعْتَرِضُ بِفَرْضِ الْمُسْتَدِلِّ. وَحِينَئِذٍ يَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْعَدَدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِهَذَا الْعَدَدِ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلْ يَكُونُ أَكْثَرَ، وَهُوَ مُرَادِي.
(3/494)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: فِعْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ، فَكَانَ مُجْزِئًا، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ؟ فَيَقُولُ: لَا هَذَا وَلَا هَذَا، بَلْ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ أَوِ الْوُجُوبِ، إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ: لْوَتْرُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، لِأَنَّهُ إِمَّا فَرْضٌ أَوْ نَفْلٌ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: لَا فَرْضٌ وَلَا نَفْلٌ، بَلْ وَاجِبٌ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَقُولَ فِي الْحُرَّةِ الْبَالِغَةِ: تَلِي عَقْدَ النِّكَاحِ، لِأَنَّهَا عَاقِلَةٌ، فَصَحَّ مِنْهَا التَّصَرُّفُ لِلْمَصْلَحَةِ كَالرَّجُلِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا تَعْنِي بِالْعَقْلِ؛ التَّجْرِبَةُ، أَوْ كَمَالُ الرَّأْيِ وَحُسْنُ السِّيرَةِ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، فَيَقُولُ: لَا هَذَا، وَلَا هَذَا، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ قُوَّةٌ غَرِيزِيَّةٌ، يَتَأَتَّى بِهَا دَرْكُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ.
الْأَمْرُ الثَّالِثُ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ التَّقْسِيمِ: «مُطَابَقَتُهُ لِمَا ذَكَرَهُ» الْمُسْتَدِلُّ، أَيْ: إِنَّ الْمُعْتَرِضَ لَا يُورِدُ فِي التَّقْسِيمِ زِيَادَةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ فِي دَلِيلِهِ، فَإِنْ زَادَ فِي التَّقْسِيمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُنَاظِرًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُسْتَدِلِّ، حَيْثُ ذَكَرَ مَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الْمُعْتَرِضِ هَدْمُ مَا يَبْنِيهِ، لَا بِنَاءَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقَصَاصَ، قِيَاسًا عَلَى الْحُرِّ بِالْحُرِّ، فَيُقَالُ لَهُ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ فِي رَقِيقٍ أَوْ غَيْرِ رَقِيقٍ؟ وَكَذَا إِذَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ إِجْبَارِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ: إِنَّهَا عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ، فَلَا تُجْبَرُ عَلَى نِكَاحِ الرَّجُلِ، فَيُقَالُ: عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ، وَهِيَ بِكْرٌ أَوْ
(3/495)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَيْسَتْ بِبَكْرٍ؟ فَهَذَا تَقْسِيمٌ مَرْدُودٌ، لِأَنَّ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلرَّقِيقِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ، وَلَا لِلْبِكْرِ فِي الْمِثَالِ الثَّانِي، وُجُودًا وَلَا عَدَمًا، فَذِكْرُ الْمُعْتَرِضِ لَهُ تَقْوِيلًا لِلْمُسْتَدِلِّ مَا لَمْ يَقُلْ، أَوْ إِعْرَاضًا عَنْ مُنَاظَرَتِهِ إِلَى مُنَاظَرَةِ الْمُعْتَرِضِ نَفْسَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ جَهْلًا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْمُنَاظَرَةِ. وَأَيًّا مَا كَانَ يَبْطُلُ التَّقْسِيمُ.
وَإِذَا تَوَجَّهَ سُؤَالُ التَّقْسِيمِ، فَلِلْمُسْتَدِلِّ فِي دَفْعِهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُبَيِّنَ فَسَادَهُ، بِانْتِفَاءِ شُرُوطِهِ أَوْ بَعْضِهَا، فَيَقُولُ مَثَلًا: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظِي يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْتَ مِنَ التَّقْسِيمِ، أَوْ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ تَقْسِيمَكَ حَاصِرٌ، بَلْ هُنَاكَ قِسْمٌ آخَرُ مُرَادِي، أَوْ أَنَّكَ زِدْتَ فِي تَقْسِيمِكَ عَلَى مَا ذَكَرْتُ، فَأَنْتَ تُنَاظِرُ نَفْسَكَ، وَلَا يَلْزَمُنِي جَوَابُكَ.
الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ ظُهُورَهُ فِي بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ: التَّقْسِيمِ بِالْوَضْعِ، أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ لُغَةً أَوْ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا، أَوْ بِقَرِينَةٍ، وَإِذَا بَانَ ظُهُورُهُ فِي بَعْضِ الِاحْتِمَالَاتِ، وَجَبَ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَسَقَطَ التَّقْسِيمُ.
مِثَالُ الظَّاهِرِ بِالْوَضْعِ: لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ فِي مَسْأَلَةِ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهِ مَعْصِيَةً لِعَيْنِهِ، وَكَوْنُهُ لِغَيْرِهِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَلَا يَصِحُّ التَّقْسِيمُ إِلَيْهِ.
وَمِثَالُ الظَّاهِرِ بِالْعُرْفِ شَرْعًا: مَا يُذْكَرُ مِنَ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، كَالْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ، فَلَا يَصِحُّ التَّقْسِيمُ إِلَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا قَسَّمَ الْمُعْتَرِضُ إِلَيْهِ اللَّفْظَ مُتَّحِدٌ، وَلَكِنَّهُ وَهِمَ فِي اعْتِقَادِ التَّعَدُّدِ، أَوْ أَنَّ الْأَقْسَامَ كُلَّهَا مُرَادَةٌ لَهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَهُ دَلَّ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ.
(3/496)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمْثِلَةُ هَذَا تَظْهَرُ فِي مَحَلِّ النَّظَرِ بِمَا يَسْتَشْعِرُهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَيُحْتَمَلُ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ.
قَوْلُهُ: «وَطَرِيقُ صِيَانَةِ التَّقْسِيمِ: أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ لِلْمُسْتَدِلِّ: إِنْ عَنَيْتَ بِمَا ذَكَرْتَ كَذَا وَكَذَا، فَهُوَ مُحْتَمَلٌ مُسَلَّمٌ، وَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ، وَإِنْ عَنَيْتَ غَيْرَهُ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ مَمْنُوعٌ» .
أَيْ أَنَّ التَّقْسِيمَ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ يَعْرِضُ لَهُ الْفَسَادُ، لِجَوَازِ فَوَاتِ بَعْضِ الْأَقْسَامِ، فَيَبْطُلُ، فَالطَّرِيقُ إِلَى صِيَانَتِهِ وَحِفْظِهِ عَنْ ذَلِكَ، أَنْ يَجْعَلَ الْمُعْتَرِضُ تَقْسِيمَهُ دَائِرًا بَيْنَ قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَعُمُّ مَا سِوَى الْقِسْمِ الْآخَرِ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَقْسَامِ، فَيَقُولُ: إِنْ أَرَدْتَ بِقَوْلِكَ كَذَا، فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَإِنْ أَرَدْتَ غَيْرَهُ، فَمَمْنُوعٌ، لِأَنَّ لَفْظَ: غَيْرُهُ، يَتَنَاوَلُ مَا عَدَا الْقِسْمَ الْمُصَرَّحَ بِهِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْعَدَدُ إِمَّا مُسَاوٍ أَوْ غَيْرُ مُسَاوٍ فَيَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْمُسَاوِي وَالْأَقَلَّ وَالْأَكْثَرَ، فَتَنْحَصِرُ الْأَقْسَامُ، وَيَقُولُ: مَا تَعْنِي بِقَوْلِكَ: مَأْمُورٌ بِهِ، أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ غَيْرُهُ؟ ، وَصِحَّةُ صَلَاةِ الصَّبِيِّ فَرْضًا أَوْ غَيْرَهُ؟ وَتُرِيدُ بِالْعَقْلِ: التَّجْرِبَةَ، أَوْ غَيْرَهَا؟ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «فَهُوَ مُحْتَمَلٌ مُسَلَّمٌ» ، أَيْ: إِنْ أَرَدْتَ كَذَا، فَمُحْتَمَلٌ تَنْزِيلُ لَفْظِكَ عَلَيْهِ، وَمُسَلَّمٌ صَلَاحِيَتُهُ لِلْعِلِّيَّةِ، «وَالْمُطَالَبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ» ، أَيْ: أَنَا أُطَالِبُكَ بِالدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ صَلَاحِيَتِهِ لِلْعِلِّيَّةِ كَوْنُهُ عِلَّةً، وَإِنْ أَرَدْتَ غَيْرَ ذَلِكَ، «فَهُوَ مُمْتَنِعٌ مَمْنُوعٌ» ، أَيْ: يَمْتَنِعُ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ لَفْظِكَ عَلَيْهِ، وَمَمْنُوعٌ صَلَاحِيَتُهُ لِلْعِلِّيَّةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/497)
________________________________________
السَّادِسُ: الْمُطَالَبَةُ: وَهِيَ طَلَبُ دَلِيلِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ، وَيَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ الْحُكْمِ، وَوُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَهُوَ ثَالِثُ الْمُنُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
السَّابِعُ: النَّقْضُ: وَهُوَ إِبْدَاءُ الْعِلَّةِ بِدُونِ الْحُكْمِ، وَفِي بُطْلَانِ الْعِلَّةِ بِهِ خِلَافٌ، وَيَجِبُ احْتِرَازُ الْمُسْتَدِلِّ فِي دَلِيلِهِ عَنْ صُورَةِ النَّقْضِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَدَفْعُهُ إِمَّا بِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ أَوِ الْحُكْمِ فِي صُورَتِهِ، وَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ قَوْلُهُ: لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ فِيهَا، إِذْ دَلِيلُهُ صَحِيحٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَشْكُوكٍ فِيهِ، وَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ وَغَصْبٌ، أَوْ بِبَيَانٍ مَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءِ شَرْطٍ تَخَلَّفَ لِأَجْلِهِ الْحُكْمُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، وَيُسْمَعُ مِنَ الْمُعْتَرِضِ نَقْضُ أَصْلِ خَصْمِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْعُذْرُ عَنْهُ، لَا أَصْلَ نَفْسِهِ، نَحْوَ: هَذَا الْوَصْفُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِي، فَكَيْفَ يَلْزَمُنِي؟ إِذْ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ كَمَحَلِّ النِّزَاعِ، أَوْ بِبَيَانِ وُرُودِ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ كَالْعَرَايَا عَلَى الْمَذَاهِبِ، وَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: دَلِيلُ عِلِّيَّةِ وَصْفِكَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، غَيْرُ مَسْمُوعٍ، إِذْ هُوَ نَقْضٌ لِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، لَا لِنَفْسِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ انْتِقَالٌ، وَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ فِي رَدِّهِ أَدْنَى دَلِيلٍ يَلِيقُ بِأَصْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «السَّادِسُ» : سُؤَالُ «الْمُطَالَبَةِ» وَهِيَ طَلَبُ دَلِيلِ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ، أَيْ أَنْ يَطْلُبَ الْمُعْتَرِضُ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي جَعَلَهُ جَامِعًا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عِلَّةً، كَقَوْلِهِ فِيمَا إِذَا قَالَ: مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، أَوْ مَكِيلٌ، فَحَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ كَالْبُرِّ: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الْإِسْكَارَ عِلَّةُ
(3/498)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّحْرِيمِ، وَإِنَّ الْكَيْلَ عِلَّةُ الرِّبَا؟ وَلِمَ قُلْتَ: إِنَّ تَبْدِيلَ الدِّينِ عِلَّةُ الْقَتْلِ فِيمَا إِذَا قَالَ: إِنْسَانٌ بَدَّلَ دِينَهُ فَقُتِلَ كَالرَّجُلِ؟
قَوْلُهُ: «وَيَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ الْحُكْمِ، وَوُجُودَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ» . أَيْ: سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ هَذِهِ الْأُمُورِ لِلْمُسْتَدِلِّ.
أَمَّا تَضَمُّنُهُ تَسْلِيمَ الْحُكْمِ، كَتَسْلِيمِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالرِّبَا، وَوُجُوبِ الْقَتْلِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ فَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْعِلَّةَ فَرْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، لِاسْتِنْبَاطِهَا مِنْهُ، وَالْحُكْمَ أَصْلٌ لَهَا، فَمُنَازَعَةُ الْمُعْتَرِضِ فِي الْفَرْعِ - الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ - يُشْعِرُ بِتَسْلِيمِ الْأَصْلِ - الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ - إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ تَسْلِيمًا لَهُ، لَكَانَ مَنْعُهُ أَوْلَى وَأَجْدَى عَلَى الْمُعْتَرِضِ.
وَأَمَّا تَضَمُّنُهُ تَسْلِيمَ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، فَلِأَنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ عِلِّيَتِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عِلَّةً، وَذَلِكَ فَرْعٌ عَلَى تَحَقُّقِ الْوَصْفِ فِي نَفْسِهِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، لَكَانَ مَنْعُهُ وُجُودَ الْوَصْفِ أَوْلَى بِهِ، وَأَجْدَى عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي سُؤَالِ الْمَنْعِ أَنَّ أَقْسَامَهُ أَرْبَعَةٌ، وَتَرْتِيبُهَا فِي الِاصْطِلَاحِ هَكَذَا: مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ فِيهِ، ثُمَّ مَنْعُ كَوْنِهِ عِلَّةً، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ.
وَصُورَةُ إِيرَادِهَا فِي قَوْلِنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ؛ أَنْ يُقَالَ: لَا
(3/499)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نُسَلِّمُ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِيهِ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ عِلَّةً، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِسْكَارِ فِي النَّبِيذِ، فَقَوْلُهُ: لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ عِلَّةً هُوَ سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ، «وَهُوَ ثَالِثُ الْمُنُوعِ» ، وَالْعَادَةُ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَبْتَدِئُ بِالْمُنُوعِ أَوَّلَ أَوَّلَ، فَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى مَنْعٍ إِلَّا وَقَدْ سَلَّمَ الَّذِي قَبْلَهُ، انْقِطَاعًا أَوْ تَنَزُّلًا. وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ قَبْلَ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ مَنْعَيْنِ، فَيَتَضَمَّنُ إِيرَادُهُ تَسْلِيمَهُمَا، وَبَعْدَهُ مَنْعُ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ فَرْعٌ عَلَيْهِ، فَيَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَهُ أَيْضًا كَمَا تَقَرَّرَ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي سُؤَالَ الْمُطَالَبَةِ «ثَالِثُ الْمُنُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ» يَعْنِي أَقْسَامَ الْمَنْعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا، وَفِي مَوْضِعِهَا فِي السُّؤَالِ الرَّابِعِ، وَالْإِشَارَةُ بِكَوْنِهِ ثَالِثَ الْمُنُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ هَهُنَا بِالْجَوَابِ هُنَاكَ، وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى عِلِّيَّتِهِ بِمَا سَبَقَ، مِنْ نَصٍّ، أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوِ اسْتِنْبَاطٍ. وَقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ مِنْ قَبُولِ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِمَا لَا حَاصِلَ لَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى قَبُولِهِ: أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِمَّا لَا يَعْتَقِدُ عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ الَّذِي يَذْكُرُهُ فَيَحْرُمْ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ، وَلَا يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ عِلِّيَّتَهُ، فَإِمَّا تَحَكُّمًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يُقْبَلُ، أَوْ بِدَلِيلٍ، فَيَجِبُ إِبْدَاؤُهُ لِتَحْصُلَ بِهِ الْفَائِدَةُ، وَيَلْزَمُ الِانْقِيَادُ، وَكَالنَّبِيِّ، لَا يُسْمَعُ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةِ، حَتَّى يُبَرْهِنَ عَلَيْهَا بِالْمُعْجِزَةِ.
السُّؤَالُ " السَّابِعُ: النَّقْضُ ".
اعْلَمْ أَنَّ اسْتِعْمَالَ النَّقْضِ فِي الْمَعَانِي كَالْعِلَّةِ وَالْوُضُوءِ وَالرَّأْيِ وَنَحْوِهَا
(3/500)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَجَازٌ، وَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ فِي الْبِنَاءِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمَعَانِي بِعَلَاقَةِ الْإِبْطَالِ، وَتَغْيِيرِ الْوَضْعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبِنَاءِ وَالْمَعْنَى الْمَنْقُوضَيْنِ.
قَوْلُهُ: " وَهُوَ إِبْدَاءُ الْعِلَّةِ بِدُونِ الْحُكْمِ "، وَقِيلَ: تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَمَّا عُلِّلَ بِهِ مِنَ الْوَصْفِ، وَقِيلَ: إِبْدَاءُ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ، مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وِفَاقًا، وَمَعَانِيهَا مُتَقَارِبَةٌ.
وَمِثَالُهُ: أَنْ يُقَالَ فِي مَسْأَلَةِ النَّبَّاشِ: سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ، كَسَارِقِ مَالِ الْحَيِّ، فَيُقَالُ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْوَالِدِ يَسْرِقُ مَالَ وَلَدِهِ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ يَسْرِقُ مَالَ مَدْيُونِهِ، فَإِنَّ الْوَصْفَ مَوْجُودٌ فِيهِمَا، وَلَا يُقْطَعَانِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقَصَاصَ، فَقِيلَ: يَنْتَقِضُ بِقَتْلِ الْأَبِ وَلَدَهُ، وَالسَّيِّدِ عَبْدَهُ، وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ، فَإِنَّ الْوَصْفَ مَوْجُودٌ، وَالْقِصَاصَ مُنْتَفٍ.
قَوْلُهُ: " وَفِي بُطْلَانِ الْعِلَّةِ بِهِ " أَيْ: بِالنَّقْضِ، " خِلَافٌ " سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَرَجَّحْنَا هُنَاكَ عَدَمَ الْبُطْلَانِ عَلَى مَا مَرَّ.
قَوْلُهُ: " وَيَجِبُ احْتِرَازُ الْمُسْتَدِلِّ فِي دَلِيلِهِ عَنْ صُورَةِ النَّقْضِ عَلَى الْأَصَحِّ ".
مِثَالُهُ فِي الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ؛ أَنْ يَقُولَ: سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ، وَلَيْسَ أَبًا وَلَا مَدْيُونًا لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، فَلَزِمَهُ الْقَطْعُ، وَيَقُولُ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، خَالٍ عَنْ مَانِعِ الْإِيلَادِ، وَالْمِلْكِ، وَالتَّفَاوُتِ فِي الدِّينِ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، وَلَا نِزَاعَ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا الِاحْتِرَازِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي وُجُوبِهِ، فَمَنْ لَمْ يُوجِبْهُ يَقُولُ: إِنَّ النَّقْضَ سُؤَالٌ خَارِجٌ عَنِ الْقِيَاسِ، فَلَا يَجِبُ إِدْخَالُهُ فِي
(3/501)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صُلْبِ الْقِيَاسِ، بَلْ إِذَا أَوْرَدَهُ الْمُعْتَرِضُ، لَزِمَ جَوَابُهُ بِمَا يَدْفَعُهُ كَسَائِرِ الْأَسْئِلَةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا لِلْمُعْتَرِضِ عَلَى مَوْضِعِ النَّقْضِ، وَفِي ذَلِكَ نَشْرُ الْكَلَامِ وَتَبَدُّدُهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ، وَمَنْ أَوْجَبَهُ، قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الشَّغْبِ، وَانْتِشَارَ الْكَلَامِ، وَسَدًّا لِبَابِهِ، فَكَانَ وَاجِبًا، لِمَا فِيهِ مِنْ صِيَانَةِ الْكَلَامِ عَنِ التَّبْدِيلِ، وَلِلْقَوْلَيْنِ اتِّجَاهٌ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: سُؤَالُ النَّقْضِ، وَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنِ الْقِيَاسِ، إِلَّا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ وَالْمُصَحِّحَ لَهُ خَلَلٌ فِي طَلَبِ الْقِيَاسِ، فَوَجَبَ الِاعْتِنَاءُ بِسَدِّهِ، كَسُجُودِ السَّهْوِ مَعَ الصَّلَاةِ.
وَقَوْلُهُمْ: فِيهِ تَنْبِيهٌ لِلْمُعْتَرِضِ عَلَى مَوْضِعِ النَّقْضِ.
قُلْنَا: فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا يَقْدَحُ فِي وُجُوبِ الِاحْتِرَازِ، لِأَنَّ الْمُنَاظَرَةَ الْمَشْرُوعَةَ مَقَامُ عَدْلٍ وَإِنْصَافٍ، يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ لَهُ وَعَلَيْهِ، مُتَوَخِّيًا لِلْحَقِّ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْتُمْ مَانِعًا مِنْ الِاحْتِرَازِ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمُنَاظَرَةِ غَلَبَةَ الْخَصْمِ بِالْمُخَادَعَةِ، وَتَخْيِيلِ مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النَّحْلِ: 125] ،
(3/502)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الْعَنْكَبُوتِ: 46] ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاحْتِرَازِ عَنْ صُورَةِ النَّقْضِ أَحْسَنُ، لِمَا فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْكَلَامِ، وَصِيَانَتِهِ عَنِ النَّقْضِ وَالنَّشْرِ، فَكَانَ وَاجِبًا، عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ بِهِ.
قَوْلُهُ: " وَدَفْعُهُ: إِمَّا بِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ، أَوِ الْحُكْمِ فِي صُورَتِهِ ".
أَيْ: وَدَفْعُ سُؤَالِ النَّقْضِ بِالْجَوَابِ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، لِأَنَّ النَّقْضَ إِنَّمَا تَحَقَّقَ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ، وَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا، فَإِذَا مُنِعَ وُجُودُ الْعِلَّةِ، لَمْ يَتَحَقَّقِ النَّقْضُ، ثُمَّ تَقُولُ: إِنَّمَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِي عَكْسًا، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَائِهَا.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، كَمَا فِي الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَنْتَقِضُ بِقَتْلِ الْمُعَاهَدِ، فَإِنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، وَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ، فَيَقُولُ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ عُدْوَانٌ، فَيَنْدَفِعُ النَّقْضُ بِذَلِكَ إِنْ ثَبَتَ لَهُ.
وَهَلْ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: لَا، لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَصِيرُ مُسْتَدِلًّا، وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا، فَتَنْقَلِبُ قَاعِدَةُ النَّظَرِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْمُعَاهَدِ عُدْوَانٌ: إِنَّهُ قَتْلٌ مُخْفِرٌ لِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَا كَانَ مُخْفِرًا لِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ عُدْوَانٌ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخْفِرٌ لِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَيُفْضِي إِلَى مَا ذَكَرْنَا.
الثَّانِي: لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ بِهِ يَتَحَقَّقُ سُؤَالُهُ، وَيَتِمُّ مَقْصُودُهُ، أَشْبَهَ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا
(3/503)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَنَعَ حُكْمَ الْأَصْلِ، لَهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ.
الثَّالِثُ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْآمِدِيِّ - إِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمُعْتَرِضِ الِاعْتِرَاضُ بِغَيْرِ النَّقْضِ، جَازَ لَهُ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ فِي صُورَتِهِ، تَحْصِيلًا لِفَائِدَةِ النَّظَرِ، وَإِنْ أَمْكَنَ الِاعْتِرَاضُ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْقَاعِدَةِ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي فِي جَوَابِ النَّقْضِ مَنْعُ الْحُكْمِ فِي صُورَتِهِ.
مِثَالُهُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَقُولَ: لَا أُسَلِّمُ الْحُكْمَ فِي الْمُعَاهِدِ، فَإِنَّ عِنْدِي يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمُعَاهَدِ، وَهُوَ عَدَمُ الْقِصَاصِ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ إِلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: " وَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ قَوْلُهُ: لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ فِيهَا، إِذْ دَلِيلُهُ صَحِيحٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَشْكُوكٍ فِيهِ "، أَيْ: إِذَا نَقَضَ الْمُعْتَرِضُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ عِلَّتَهُ بِصُورَةٍ، فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُجِيبَ عَنِ النَّقْضِ بِالتَّصْرِيحِ بِمَنْعِ الْحُكْمِ، كَقَوْلِهِ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْمُعَاهَدِ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَفَاهُ ذَلِكَ فِي دَفْعِهِ، لِأَنَّ دَلِيلَهُ عَلَى الْعِلَّةِ صَحِيحٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قَتْلُ عَمْدٍ عَدْوَانٌ، فَلَا يَبْطُلُ بِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الرِّوَايَةَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهَا عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ، فَلَا يَرِدُ النَّقْضُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِهَا، فَيَرِدُ، وَإِذَا احْتُمِلَ وُرُودُهُ وَعَدَمُ وُرُودِهِ، وَعِلَّةُ الْقِيَاسِ صَحِيحَةٌ بِإِحْدَى الطُّرُقِ الْمُصَحَّحَةِ لِلْعِلَّةِ، فَلَا يَبْطُلُ بِأَمْرٍ مُتَرَدَّدٍ فِيهِ.
قَوْلُهُ: " وَلَيْسَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ "، أَيْ: عَلَى ثُبُوتِ الْعِلَّةِ
(3/504)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوِ الْحُكْمِ، إِذَا مَنَعَهُمَا الْمُسْتَدِلُّ " فِي صُورَةِ النَّقْضِ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ " عَنْ مَحَلِّ النَّظَرِ، " وَغَصْبٌ " لِمَنْصِبِ الْمُسْتَدِلِّ، حَيْثُ يَنْقَلِبُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا وَقَدْ سَبَقَ هَذَا، وَبَيَّنَّا الْخِلَافَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلَّةِ دُونَ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: " أَوْ بِبَيَانٍ مَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءِ شَرْطٍ تَخَلَّفَ لِأَجْلِهِ الْحُكْمُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ ".
هَذَا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فِي الْجَوَابِ عَنِ النَّقْضِ، وَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وُجُودَ مَانِعٍ، أَوِ انْتِفَاءَ شَرْطٍ يُحِيلُ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، كَمَا إِذَا أَوْرَدَ الْمُعْتَرِضُ قَتْلَ الْوَالِدِ وَلَدَهُ، عَلَى عِلَّةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: تَخَلَّفَ الْحُكْمُ لِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ، وَإِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: سَرَقَ نِصَابًا كَامِلًا وَلَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ فَقُطِعَ، فَأَوْرَدَ الْمُعْتَرِضُ السَّرِقَةَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فِيهَا لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ، وَهُوَ الْحِرْزُ، وَكَمَا إِذَا قَالَ: نِصَابٌ كَامِلٌ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْمَضْرُوبِ، فَأَوْرَدَ الْمُعْتَرِضُ مَالَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَدْيُونِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: مَالُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَاتَ فِيهِ شَرْطُ التَّكْلِيفِ، تَغْلِيبًا لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيِّ، وَمَالُ الْمَدْيُونِ وُجِدَ فِيهِ مَانِعُ الدَّيْنِ، فَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ.
قَوْلُهُ: وَيُسْمَعُ مِنَ الْمُعْتَرِضِ نَقْضُ أَصْلِ خَصْمِهِ، فَيَلْزَمُهُ الْعُذْرُ عَنْهُ، لَا أَصْلَ نَفْسِهِ، نَحْوَ: هَذَا الْوَصْفُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِي، فَكَيْفَ يَلْزَمُنِي؟ ، إِذْ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَمَحَلِّ النِّزَاعِ ".
يَعْنِي أَنَّ النَّقْضَ مِنَ الْمُعْتَرِضِ، إِمَّا أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى أَصْلِ خَصْمِهِ الْمُسْتَدِلِّ، أَوْ إِلَى أَصْلِ نَفْسِهِ - يَعْنِي الْمُعْتَرِضَ - فَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مُتَوَجِّهًا إِلَى أَصْلِ
(3/505)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُسْتَدِلِّ، لَزِمَهُ الْجَوَابُ وَالِاعْتِذَارُ عَنْهُ، كَمَا سَبَقَتْ أَمْثِلَتُهُ، لِاخْتِصَاصِ النَّقْضِ بِمَذْهَبِهِ، فَبِدُونِ الْجَوَابِ عَنْهُ تَبَيَّنَ فَسَادُهُ، كَمَا إِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ: إِنَّهُ قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَيُوجِبُ الْقِصَاصَ، قِيَاسًا عَلَى الْمُسْلِمِ بِالْمُسْلِمِ، فَيَقُولُ الْحَنْبَلِيُّ: هَذَا يَنْتَقِضُ عَلَى أَصْلِكَ بِمَا إِذَا قَتَلَهُ بِالْمُثَقَّلِ، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ مَوْجُودَةٌ، وَالْقِصَاصُ مُنْتَفٍ عِنْدَكَ، فَلَهُ أَنْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ بِأَدْنَى عُذْرٍ يَلِيقُ بِمَذْهَبِهِ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِيهِ، لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَأْخَذِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ ذَلِكَ قَتْلًا، وَلَيْسَ عَمْدًا، أَوْ مَا شَاءَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَإِنْ كَانَ النَّقْضُ مُتَوَجِّهًا مِنَ الْمُعْتَرِضِ إِلَى أَصْلِ نَفْسِهِ، لَمْ يَقْدَحْ فِي عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْعُذْرُ عَنْهُ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا قَالَ الْحَنْبَلِيُّ: لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ كَافِرٌ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ قِيَاسًا عَلَى الْحَرْبِيِّ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا الْوَصْفُ لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِي، إِذْ هُوَ بَاطِلٌ بِالْمُعَاهَدِ، فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَيُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ عِنْدِي. وَكَذَا لَوْ قَالَ حَنْبَلِيٌّ: يُقْطَعُ النَّبَّاشُ، لِأَنَّهُ سَارِقٌ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا بَاطِلٌ عَلَى أَصْلِي بِسَارِقِ الْأَشْيَاءِ الرَّطْبَةِ، فَإِنَّهُ سَارِقٌ، وَلَا يَجِبُ قَطْعُهُ عِنْدِي، وَإِذَا كَانَ وَصْفُكَ أَيُّهَا الْمُسْتَدِلُّ غَيْرَ مُطَّرِدٍ عِنْدِي، فَكَيْفَ يَلْزَمُنِي؟ فَهَذَا لَا يُسْمَعُ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ - وَهُوَ الْوَصْفُ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، وَهُوَ الْكُفْرُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَالسَّرِقَةُ فِي مَسْأَلَةِ النَّبَّاشِ - حُجَّةٌ عَلَى الْمُعْتَرِضِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، كَمَا أَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: الْعِلَّةُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ عِنْدِي كَوْنُهُ سَارِقًا، فَأَنَا أَقُولُ بِوُجُوبِ الْقَطْعِ فِي الصُّورَتَيْنِ: صُورَةِ النِّزَاعِ، وَهُوَ قَطْعُ النَّبَّاشِ، وَصُورَةِ النَّقْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْأَشْيَاءِ الرَّطْبَةِ، فَالْوَصْفُ الَّذِي
(3/506)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَكَرْتَهُ حُجَّةٌ عَلَيْكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ قَادِحٌ فِي نَفْسِ الْعِلَّةِ، فَأَبْدِهِ.
أَمَّا كَوْنُهَا لَا تَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِكَ، فَلَا يَلْزَمُنِي، إِذْ هَذَا حَمْلٌ لِي عَلَى مَذْهَبِكَ بِالْقُوَّةِ.
قَوْلُهُ: " أَوْ بِبَيَانِ وُرُودِ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، كَالْعَرَايَا عَلَى الْمَذَاهِبِ ".
هَذَا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فِي الْجَوَابِ عَنِ النَّقْضِ، وَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ، أَنَّ صُورَةَ النَّقْضِ وَارِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ خَصْمِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: مَكِيلٌ، فَحَرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، فَأَوْرَدَ الْمُعْتَرِضُ الْعَرَايَا، إِذْ هِيَ مَكِيلٌ، وَقَدْ جَازَ فِيهِ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمْرِ الْمَبِيعِ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: هَذَا وَارِدٌ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ جَمِيعًا، فَلَيْسَ بُطْلَانُ مَذْهَبِي بِهِ أَوْلَى مِنْ بُطْلَانِ مَذْهَبِكَ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ وَلَيْسَ فِي " الْمُخْتَصَرِ "، بَلْ ذَكَرَهُ النِّيلِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: هَذِهِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةٌ، فَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ بِالنَّصِّ، فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا نَقْضٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [الْمَائِدَةِ: 38] إِذَا عَلَّلَ بِالسَّرِقَةِ فِي مَسْأَلَةِ النَّبَّاشِ وَغَيْرِهِ، فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضَ النُّقُوضِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَذَلِكَ عِلَّةُ الْعَرَايَا مَنْصُوصَةٌ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا النَّقْضُ بِالْعَرَايَا.
قَوْلُهُ: " وَقَوْلُ الْمُعْتَرِضِ: دَلِيلُ عِلِّيَّةِ وَصْفِكَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، غَيْرُ مَسْمُوعٍ، إِذْ هُوَ نَقْضٌ لِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، لَا لِنَفْسِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ انْتِقَالٌ " يَعْنِي إِذَا نَقَضَ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةَ الْمُسْتَدِلِّ بِصُورَةٍ، فَأَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ ذَلِكَ بِأَحَدِ الْأَجْوِبَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، إِمَّا بِمَنْعِ الْعِلَّةِ، أَوِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، أَوْ يُورِدُ النَّقْضَ
(3/507)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَّ عَلَى أَنَّ وَصْفَكَ الَّذِي عَلَّلْتَ بِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعَ عِلَّةٌ؛ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، فَيَلْزَمُكَ الْإِقْرَارُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهَا، عَمَلًا بِوُجُودِ الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لَهُ، لَكِنَّكَ لَمْ تَقُلْ بِهِ، فَيَلْزَمُكَ النَّقْضُ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ: قَتْلُ عَمْدٍ عُدْوَانٌ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ، كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ، فَيَقُولُ الْحَنْبَلِيُّ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ قَتْلَ الذِّمِّيِّ عُدْوَانٌ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَتْلَ الذِّمِّيِّ عُدْوَانٌ أَنَّهُ مَعْصُومٌ بِعَهْدِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَعْصُومًا بِعِصْمَةِ الْإِسْلَامِ، فَقَتْلُهُ عُدْوَانٌ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: دَلِيلُ الْعُدْوَانِيَّةِ فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ مَوْجُودٌ فِي قَتْلِ الْمُعَاهَدِ، فَلْيَكُنْ عُدْوَانًا يَجِبُ بِهِ الْقَصَاصٌ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَهَذَا نَقْضٌ لِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، لَا لِنَفْسِ الْعِلَّةِ، فَلَا يُسْمَعُ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ.
وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْكَلَامَ أَوَّلًا كَانَ فِي نَقْضِ وُجُوبِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِعَدَمِ وُجُوبِ قَتْلِهِ بِالْمُعَاهَدِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلَّةِ، وَهُوَ نَقْضٌ لِلْحُكْمِ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي نَقْضِ كَوْنِ إِخْفَارِ ذِمَّةِ الْإِسْلَامِ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ عُدْوَانًا عَلَيْهِ بِكَوْنِ الْإِخْفَارِ الْمَذْكُورِ بِقَتْلِ الْمُعَاهَدِ لَيْسَ عُدْوَانًا عَلَيْهِ، وَهُوَ نَقْضٌ لِدَلِيلِ الْعِلَّةِ كَمَا ذُكِرَ، فَقَدَ انْتَقَلَ مِنَ النَّقْضِ لِعِلَّةِ الْحُكْمِ إِلَى النَّقْضِ لِدَلِيلِ عِلَّةِ الْحُكْمِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَا إِذَا انْتَقَلَ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: يَلْزَمُكَ أَنْ تَعْتَرِفَ بِالْعُدْوَانِيَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ لِوُجُودِ دَلِيلِهَا الَّذِي اعْتَمَدْتَ عَلَيْهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ.
(3/508)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ فِي رَدِّهِ أَدْنَى دَلِيلٍ يَلِيقُ بِأَصْلِهِ ".
أَيْ: وَيَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ فِي رَدِّ هَذَا النَّقْضِ عَلَى دَلِيلٍ يَلِيقُ بِأَصْلِهِ، أَيْ: يُوَافِقُهُ وَيُطَابِقُهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا لَمْ أَحْكُمْ بِالْعُدْوَانِيَّةِ فِي صُورَةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْحَرْبِيِّ لِمُعَارِضٍ لِي فِي مَذْهَبِي، وَهُوَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ الْمُعَاهَدَ مُؤَقَّتُ الْعَهْدِ، فَالْمُقْتَضِي لِانْتِفَاءِ الْقِصَاصِ فِيهِ قَوِيٌّ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ، وَالْمُقْتَضِي لِإِثْبَاتِهِ ضَعِيفٌ، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ، فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ لِقَتْلِ الْمُسَلِمِ بِهِ قَوِيٌّ لِتَأَبُّدِ عَهْدِهِ وَذِمَّتِهِ، فَصَارَ كَالْمُسْلِمِ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْذَارِ.
(3/509)
________________________________________
وَالْكَسْرُ: وَهُوَ إِبْدَاءُ الْحِكْمَةِ بِدُونِ الْحُكْمِ، غَيْرُ لَازِمٍ، إِذِ الْحِكَمُ لَا تَنْضَبِطُ بِالرَّأْيِ، فَرُدَّ ضَبْطُهَا إِلَى تَقْدِيرِ الشَّارِعِ، وَفِي انْدِفَاعِ النَّقْضِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ بِذِكْرِ وَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَعْدَمُ فِي الْأَصْلِ لِعَدَمِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ فِي الِاسْتِجْمَارِ: حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْجَارِ، يَسْتَوِي فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْأَبْكَارُ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْعَدَدُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ، خِلَافُ، الظَّاهِرِ، لَا لِأَنَّ الطَّرْدِيَّ لَا يُؤَثِّرُ مُفْرَدًا، فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ، كَالْفَاسِقِ فِي الشَّهَادَةِ، وَيَنْدَفِعُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ بِذِكْرِ شَرْطٍ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ، نَحْوَ: حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ كَالْمُسْلِمِينَ، إِذِ الْعَمْدُ أَحَدُ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ حُكْمًا؛ وَإِنْ تَأَخَّرَ لَفْظًا، وَالْعِبْرَةُ بِالْأَحْكَامِ لَا الْأَلْفَاظِ، وَقِيلَ: لَا، إِذْ قَوْلُهُ فِي الْعَمْدِ، اعْتِرَافٌ بِتَخَلُّفِ حُكْمِ عِلَّتِهِ عَنْهَا فِي الْخَطَأِ، وَهُوَ نَقْضٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَالْكَسْرُ: وَهُوَ إِبْدَاءُ الْحِكْمَةِ بِدُونِ الْحُكْمِ غَيْرُ لَازِمٍ» .
هَذَا كَلَامٌ يَتَضَمَّنُ تَعْرِيفَ الْكَسْرِ وَحُكْمَهُ.
أَمَّا تَعْرِيفُهُ، فَهُوَ إِبْدَاءُ الْحِكْمَةِ بِدُونِ الْحُكْمِ، وَالْحِكْمَةُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهَا: مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الضَّابِطُ الْوَصْفِيُّ كَالْمَشَقَّةِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا السَّفَرُ الْمُبَاحُ، وَالْعُقُوبَةُ الرَّادِعَةُ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقِصَاصُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَهُوَ - يَعْنِي الْكَسْرَ - نَقْضٌ عَلَى الْعِلَّةِ دُونَ ضَابِطِهَا.
(3/510)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: الضَّابِطُ: هُوَ مَا رَتَّبَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ، لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ حُصُولِ الْحِكْمَةِ، كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ الَّذِي رَتَّبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ حِفْظِ النُّفُوسَ، وَكَإِيلَاجِ الْفَرْجِ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ رَتَّبَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، لِكَوْنِهِ مَظِنَّةَ حِفْظِ الْأَنْسَابِ وَأَشْبَاهِ هَذَا.
مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي الْعَاصِي بِسَفَرِهِ: يَتَرَخَّصُ، لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ، فَيَتَرَخَّصُ كَالْمُسَافِرِ سَفَرًا مُبَاحًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: لِمَ قُلْتَ: إِنَّهُ يَتَرَخَّصُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَجِدُ مَشَقَّةً فِي سَفَرِهِ، فَنَاسَبَ التَّرَخُّصَ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ بِالِاعْتِبَارِ، فَيَقُولُ الْحَنْبَلِيُّ: هَذَا يَنْكَسِرُ بِالْمُكَارِي وَالْفَيِّجِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ دَأْبُهُ السَّفَرُ؛ يَجِدُ الْمَشَقَّةَ وَلَا يَتَرَخَّصُ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الْحَاضِرُ؛ يَجِدُ الْمَشَقَّةَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ قَصْرُ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْنَا فِي قَطْعِ الْيَدِ بِالْيَدِ: إِنَّ الْقَطْعَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ، لِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جِنَايَةٌ، وَالْجِنَايَةُ تُنَاسِبُ الْعُقُوبَةَ، فَيُقَالُ: هَذَا يَنْكَسِرُ بِالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ، وَسَائِرُ الْجِنَايَاتِ هِيَ جِنَايَاتٌ، وَلَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِتَعْرِيفِ الْكَسْرِ وَتَمْثِيلِهِ.
وَأَمَّا حُكْمُهُ، فَهُوَ أَنَّهُ «غَيْرُ لَازِمٍ» ، أَيْ: غَيْرُ وَارِدٍ نَقْضًا عَلَى الْعِلَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ.
قَوْلُهُ: «إِذِ الْحِكَمُ لَا تَنْضَبِطُ بِالرَّأْيِ، فَرُدَّ ضَبْطُهَا إِلَى تَقْدِيرِ الشَّارِعِ» .
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكَسْرَ لَا يَرُدُّ نَقْضًا. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْحِكَمَ لَيْسَتْ مَضْبُوطَةً فِي نَفْسِهَا، وَمَا لَيْسَ مَضْبُوطًا فِي نَفْسِهِ، وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى تَقْدِيرِ الشَّارِعِ وَضَبْطِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْحِكَمَ لَيْسَتْ مَضْبُوطَةً فِي أَنْفُسِهَا، لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ
(3/511)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جَلْبِ مَصَالِحَ، وَدَرْءِ مَفَاسِدَ، وَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ تَخْتَلِفُ وَتَتَفَاوَتُ كَثِيرًا بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَا تَتَمَيَّزُ بِأَنْفُسِهَا، وَمَا لَا يَتَمَيَّزُ لَا يَنْضَبِطُ، لِأَنَّ التَّمْيِيزَ مِنْ لَوَازِمِ الِانْضِبَاطِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَإِنَّمَا تَتَمَيَّزُ وَتَتَنَوَّعُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَوْصَافِ الضَّابِطَةِ لَهَا مِنَ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُنَا: مَشَقَّةُ السَّفَرِ، وَمَشَقَّةُ الْمَرَضِ، وَمَشَقَّةُ الْحَمْلِ، وَجِنَايَةُ السَّرِقَةِ، وَجِنَايَةُ الْغَصْبِ، وَجِنَايَةُ الْقَتْلِ. وَالْقَطْعُ، فَأَنْوَاعُ الْمَشَقَّةِ وَالْجِنَايَةِ إِنَّمَا تَمَيَّزَتْ بِتَمَيُّزِ الْأَفْعَالِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهَا، أَمَّا هِيَ لِذَاتِهَا؛ فَلَا تَمَيُّزَ فِيهَا لِنَوْعٍ مِنْ نَوْعٍ.
إِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا غَيْرُ مُنْضَبِطَةٍ فِي نَفْسِهَا، لَمْ يَجُزْ رَبْطُ الْأَحْكَامِ بِهَا لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ لِلْمُكَلَّفِينَ بِرَبْطِ مَصَالِحِهِمْ بِأُمُورٍ خَفِيَّةٍ غَيْرِ مَضْبُوطَةٍ، فَتَخْتَلِفُ عَلَيْهِمُ الْأَحْكَامُ، وَتَضْطَرِبُ الْأَحْوَالُ.
الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ وَضَعَ قَانُونًا كُلِّيًّا مُؤَبَّدًا، فَلَوْ عُلِّقَ بِالْحِكَمِ، لَكَثُرَ اخْتِلَافُهُ وَاضْطِرَابُهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ شَأْنَ الْقَوَانِينِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ مَا لَا يَنْضَبِطُ بِنَفْسِهِ يَجِبُ رَدُّهُ إِلَى تَقْدِيرِ الشَّارِعِ وَضَبْطِهِ، فَلِأَنَّ مَا لَا يَنْضَبِطُ بِنَفْسِهِ يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ، وَمَا وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ، وَجَبَ رَدُّهُ إِلَى الشَّرْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاءِ: 59] .
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ لَمْ يَقَعْ بِالْحِكْمَةِ لِخَفَائِهَا وَاضْطِرَابِهَا، بَلْ
(3/512)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالضَّابِطِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا، وَلَا مَعْنًى لِإِبْطَالِ مَا لَمْ يُعَلَّلْ بِهِ. قَالَ: فَيَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ إِلَى بَيَانِ اسْتِوَاءِ الْحِكْمَةِ فِي الْقِيَاسِ. وَصُورَةُ النَّقْضِ كَاسْتِوَاءِ الْجِنَايَةِ الْحَاصِلَةِ بِالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ، وَالْجِنَايَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْقَطْعِ، وَكَذَلِكَ اسْتِوَاءُ مَشَقَّةِ الْمُسَافِرِ، وَمَشَقَّةِ الْمُكَارِي، وَالْفَيِّجِ وَالْمَرِيضِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْمَشَقَّةِ وَالْجِنَايَةُ فِي نَفْسِهَا.
وَتَلْخِيصُ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ سُؤَالِ الْكَسْرِ، لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّتِهِ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ الْمُعَلَّلُ بِهَا مَوْجُودَةً بِكَمَالِهَا فِي صُورَةِ الْكَسْرِ، وَلَا أُسَلِّمُ ذَلِكَ، لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ وُجُودُ الْمَظِنَّةِ، وَلَمْ تُوجَدْ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ سُؤَالَ الْكَسْرِ لَازِمٌ مُفْسِدٌ لِلْعِلَّةِ، احْتِجَاجًا مِنْهُمْ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ الْحِكْمَةُ دُونَ ضَابِطِهَا، فَإِذَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا، ظَهَرَ إِلْغَاءُ مَا ثَبَتَ لِأَجْلِهِ الْحُكْمُ، فَبَطَلَتْ كَضَابِطِ الْحُكْمِ إِذَا بَطَلَ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحِكَمِ الْحِكْمَةُ الْمُطْلَقَةُ أَوِ الْمُنْضَبِطَةُ بِنَفْسِهَا أَوْ بِضَابِطِهَا، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ انْضِبَاطَ الْحِكْمَةِ بِنَفْسِهَا مُتَعَذِّرٌ، فَتَعَيَّنَ الْمَصِيرُ إِلَى ضَبْطِهَا بِضَابِطِهَا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ فِي السَّلَامَةِ وَالنَّقْضِ ذَلِكَ الضَّابِطَ الَّذِي تَحَقَّقَ بِهِ اعْتِبَارُ الْحِكْمَةِ.
قُلْتُ: قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ دُونَ الضَّابِطِ،
(3/513)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَالْخِلَافُ هُنَا يَقْرُبُ تَخْرِيجُهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ اعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ بِضَابِطِهَا: أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْمُبِيحَةَ لِلتَّرَخُّصِ لَمَّا كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ فِي الضَّعْفِ وَالْقُوَّةِ، وَاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فِي الْفَقْرِ وَالْجِدَةِ، ضُبِطَتْ بِالسَّفَرِ الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّهُ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَخْتَلِفُ، فَاسْتَوَى فِي مَنَاطِ التَّرَخُّصِ الْمَلِكُ وَالْمَمْلُوكُ، وَالْغَنِيُّ وَالصُّعْلُوكُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ زَوَالَ الْعَقْلِ بِشُرْبِ الْمُسْكِرِ لَمَّا كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْزِجَةِ وَالطِّبَاعِ، فَبَعْضُ النَّاسِ يَزُولُ عَقْلُهُ بِتَنَاوُلِ الْجُرْعَةِ وَالْجُرْعَتَيْنِ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَزُولُ بِالزِّقِّ وَالزِّقَّيْنِ؛ جُعِلَ ضَابِطُ التَّحْرِيمِ مُطْلَقَ الْخَمْرِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، فَاسْتَوَى فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهِ شَارِبُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي الْوَطْءِ لَمَّا كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءِ سُرْعَةً وَبُطْأً؛ حَتَّى إِنَّ مَنِ اشْتَدَّتْ غُلْمَتُهُ رُبَّمَا أَنْزَلَ قَبْلَ أَنْ يُولِجَ، وَمَنْ ضَعُفَتْ هِمَّتُهُ لِمَرَضٍ، أَوْ تَقَدُّمِ وَطْءٍ، أَوْ ضَعْفِ جِبِلَّةٍ، رُبَّمَا أَوْلَجَ وَلَمْ يُنْزِلْ؛ جَعَلَ الشَّرْعُ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ ضَابِطًا لِأَحْكَامِ الْإِنْزَالِ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ، وَحَدٍّ، وَبُطْلَانِ عِبَادَةٍ، وَتَحْلِيلِ زَوْجَةٍ، وَخُرُوجٍ مِنْ فِئَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّ هَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ مَظَانُّ هَذِهِ الْحِكَمِ، فَتُرَتَّبُ عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: «وَفِي انْدِفَاعِ النَّقْضِ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ بِذِكْرِ وَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يُعْدَمُ فِي الْأَصْلِ لِعَدَمِهِ - نَحْوَ قَوْلِهِمْ فِي الِاسْتِجْمَارِ: حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْجَارِ، يَسْتَوِي فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْأَبْكَارُ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ الْعَدَدُ كَرَمْيِ الْجِمَارِ، خِلَافُ الظَّاهِرِ: لَا، لِأَنَّ الطَّرْدِيَّ لَا يُؤَثِّرُ مُفْرَدًا، فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ، كَالْفَاسِقِ فِي
(3/514)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الشَّهَادَةِ» .
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، فَالْمُبْتَدَأُ قَوْلُهُ: «خِلَافُ» ، وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: «وَفِي انْدِفَاعِ النَّقْضِ» ، إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ كَقَوْلِهِمْ: فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، وَفِي الدَّارِ رَجُلٌ، وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ.
وَمَعْنَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ؛ أَنَّ الْمُعَلِّلَ إِذَا احْتَرَزَ عَنِ النَّقْضِ بِذِكْرِ وَصْفٍ فِي الْعِلَّةِ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ فِي الْحُكْمِ وُجُودًا وَعَدَمًا، بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى وُجُودِهِ، وَلَا يُعْدَمُ بِعَدَمِهِ، فَهَلْ يَنْدَفِعُ النَّقْضُ عَنْ عِلَّتِهِ بِذَلِكَ؟ فِيهِ خِلَافٌ.
وَمِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ قَوْلَنَا: «الِاسْتِجْمَارُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْجَارِ» وَصْفٌ شَبَهِيٌّ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُمْ: «يَسْتَوِي فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْأَبْكَارُ» ؛ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ وَلَا عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا أُتِيَ بِهِ دَفْعًا لِنَقْضِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِحَدِّ الرَّجْمِ، فَإِنَّهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْجَارِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ فِي الِاسْتِجْمَارِ، لَوَرَدَ عَلَيْهِ حَدُّ الرَّجْمِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالْأَحْجَارِ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ الْعَدَدُ، فَلَمَّا قِيلَ: يَسْتَوِي فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْأَبْكَارُ، خَرَجَ حَدُّ الرَّجْمِ، وَزَالَ النَّقْضُ بِهِ، لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ حُكْمًا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْجَارِ، لَكِنَّهُ فَارَقَ الِاسْتِجْمَارَ بِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْأَبْكَارُ، فَالثَّيِّبُ إِذَا زَنَى يُرْجَمُ، وَالْبِكْرُ لَا يُرْجَمُ، بَلْ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ، بِخِلَافِ الِاسْتِجْمَارِ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ، لِأَنَّهُ إِزَالَةُ نَجَاسَةٍ، وَهُمَا مُخَاطَبَانِ بِهَا.
فَمَنْ قَالَ: يَنْدَفِعُ النَّقْضُ عَنِ الْعِلَّةِ بِذَلِكَ، قَالَ: لِأَنَّ الْعِلَّةَ يُشْتَرَطُ اطِّرَادُهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ الْمُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ مُطَّرِدًا، ضَمَمْنَا إِلَيْهِ وَصْفًا غَيْرَ مُؤَثِّرٍ لِيَتَحَقَّقَ اطِّرَادُهَا، وَتَكُونُ فَائِدَةُ الْمُؤَثِّرِ الْعِلِّيَّةُ، وَفَائِدَةُ غَيْرِ الْمُؤَثِّرِ دَفْعُ النَّقْضِ.
(3/515)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَنْ قَالَ: لَا يَنْدَفِعُ النَّقْضُ بِذَلِكَ - وَهُوَ الصَّحِيحُ - قَالَ: إِنَّ الْوَصْفَ الطَّرْدِيَّ غَيْرَ الْمُؤَثِّرِ وَلَا الْمُنَاسِبِ لَا يُعْتَبَرُ إِذَا كَانَ مُفْرَدًا، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ، «كَالْفَاسِقِ فِي الشَّهَادَةِ» لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَحْدَهُ فِيمَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ؛ كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَعَ غَيْرِهِ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ شَهَادَةُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَكُلُّ مَا لَا يُعْتَبَرُ مُفْرَدًا، لَا يُعْتَبَرُ مَعَ غَيْرِهِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكِيبَهُ مَعَ غَيْرِهِ أَوْجَبَ لَهُ حُكْمَ الِاعْتِبَارِ، كَالْمَاءِ النَّجِسِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَاءٍ طَهُورٍ كَثِيرٍ، أَزَالَ حُكْمَ نَجَاسَتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَحَاصِلُ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ النَّقْضَ هَلْ يَنْدَفِعُ بِذِكْرِ وَصْفٍ طَرْدِيٍّ فِي الْعِلَّةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ لَا، لِأَنَّ الطَّرْدِيَّ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِقْلَالِ فِي الْعِلَّةِ الْمُفْرَدَةِ، فَلَا يَصْلُحُ لِلْإِعَانَةِ فِي الْعِلَّةِ الْمُرَكَّبَةِ.
قَوْلُهُ: «وَيَنْدَفِعُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ بِذِكْرِ شَرْطٍ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: إِذَا احْتَرَزَ عَنْ نَقْضِ الْعِلَّةِ بِذِكْرِ شَرْطٍ فِي الْحُكْمِ بِأَنْ قَيَّدَهُ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ؛ هَلْ يَنْدَفِعُ النَّقْضُ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْمُعَلِّلُ: «حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ كَالْمُسْلِمِينَ» ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّقْضَ لَا يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ، قَالَ: لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ قَبْلَ الْحُكْمِ، فَيَجِبُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ حَيْثُ
(3/516)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثَبَتَتْ، فَتَقْيِيدُ الْحُكْمِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا، إِذْ لَوْ صَحَّتْ، لَمَا احْتَاجَ إِلَى الِاحْتِرَازِ بِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ.
مِثَالُهُ هَهُنَا: أَنَّ الْعِلَّةَ تَقْتَضِي أَنَّهُ حَيْثُ وُجِدَ حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ أَنْ يَجْرِيَ بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ حَتَّى فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ، فَلَمَّا انْتَقَضَتِ الْعِلَّةُ بِذَلِكَ، كَانَ احْتِرَازُهُ فِي الْحُكْمِ بِذِكْرِ الْعَمْدِ لَاحِقًا لَهَا بَعْدَ فَسَادِهَا، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَصْحِيحِهَا، كَمَا إِذَا وَلَغَ كَلْبٌ فِي قُلَّتَيْ مَاءٍ إِلَّا رِطْلَيْنِ، ثُمَّ وُضِعَ فِيهِ رِطْلُ مَاءٍ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِي زَوَالِ نَجَاسَتِهِ بِالْوُلُوغِ السَّابِقِ.
وَمَنْ زَعَمَ انْدِفَاعَ النَّقْضِ بِذَلِكَ قَالَ: الشَّرْطُ الَّذِي قُيِّدَ بِهِ الْحُكْمُ هُوَ «أَحَدُ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ حُكْمًا، وَإِنْ تَأَخَّرَ» فِي اللَّفْظِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْمِثَالِ: حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرُ عَمْدًا، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ كَالْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِي الْمَعْنَى هَذَا الْمِثَالَ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَقِّ الْأَصْلِ إِنَّمَا هِيَ بِالْأَحْكَامِ لَا بِالْأَلْفَاظِ. وَهَذَا أَصَحُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ.
وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْخَصْمُ إِلَّا عَنْ مَسْأَلَةِ الْقُلَّتَيْنِ الَّتِي اسْتَشْهَدُوا بِهَا، فَالْجَوَابُ عَنْهَا بِالْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْمَاءَ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَ أَجْزَائِهِ الْمُنْفَصِلِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَإِذَا حَصَلَ فِيمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ مِنْهُ نَجَاسَةٌ، اسْتَقَرَّ لَهُ حُكْمُ التَّنْجِيسِ، فَلُحُوقُ تَكْمِلَةِ
(3/517)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقُلَّتَيْنِ لَهُ لَا يَرْفَعُ عَنْهُ التَّنْجِيسَ الْمُسْتَقِرَّ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ أَجْزَاءَ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَلَا يَسْتَقِرُّ لِبَعْضِهَا حُكْمٌ حَتَّى تَكْمُلَ، فَلِهَذَا قُلْنَا: إِنَّ النَّقْضَ لَمْ يَسْتَقِرَّ لِأَوْصَافِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ بَلْ لَا يَلْحَقُهَا أَصْلًا قَبْلَ وُرُودِ الْوَصْفِ الَّذِي قُيِّدَ بِهِ الْحُكْمُ، فَكَانَ وُرُودُهُ مَانِعًا لِوُرُودِ النَّقْضِ، لَا رَافِعًا لَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْمَاءِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ، وَصَارَ ذَلِكَ كَسَائِرِ التَّوَابِعِ اللَّفْظِيَّةِ، كَخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَنَحْوِهِ، وَالْحَالِ وَالتَّمْيِيزِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ، لَا يَسْتَقِرُّ حُكْمُ الْجُمْلَةِ بِدُونِهَا، حَتَّى لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعِشْرُونَ دِينَارًا، وَثَلَاثُونَ قِنْطَارًا دَيْنًا إِلَّا وَاحِدًا مِنْ كُلِّ عَدَدٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لَصَحَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ حَتَّى يَتِمَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَشْبَهَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/518)
________________________________________
الثَّامِنُ: الْقَلْبُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى عِلَّتِهِ بِعَيْنِهَا، ثُمَّ الْمُعْتَرِضُ تَارَةً يُصَحِّحُ مَذْهَبَهُ، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ: الِاعْتِكَافُ لُبْثٌ مَحْضٌ، فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لُبْثٌ مَحْضٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ الصَّوْمُ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَتَارَةً يُبْطِلُ مَذْهَبَ خَصْمِهِ، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ: الرَّأْسُ مَمْسُوحٌ، فَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُ بِالْمَسْحِ كَالْخُفِّ؛ فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: مَمْسُوحٌ، فَلَا يُقَدَّرُ بِالرُّبُعِ كَالْخُفِّ، وَكَقَوْلِهِ: بَيْعُ الْغَائِبِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَنْعَقِدُ مَعَ جَهْلِ الْمُعَوَّضِ كَالنِّكَاحِ، فَيَقُولُ خَصْمُهُ: فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ، فَيَبْطُلُ مَذْهَبُ الْمُسْتَدِلِّ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِتَعْلِيقِهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْقَلْبُ مُعَارَضَةٌ خَاصَّةٌ فَجَوَابُهُ جَوَابُهَا إِلَّا بِمَنْعِ وَصْفِ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ فِي اسْتِدْلَالِهِ فَكَيْفَ يَمْنَعُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «الثَّامِنُ: الْقَلْبُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى عِلَّتِهِ بِعَيْنِهَا» .
مَعْنَى الْقَلْبِ: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَقْلِبُ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ، وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ وَقَدْ ذَكَرْتُ أَمْثِلَتَهُ بَعْدُ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَفْصِيلٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْمُعْتَرِضُ تَارَةً يُصَحِّحُ مَذْهَبَهُ» إِلَى آخِرِهِ.
أَيْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ تَارَةً يَكُونُ مَقْصُودُهُ بِقَلْبِ الدَّلِيلِ تَصْحِيحَ مَذْهَبِ نَفْسِهِ، وَإِبْطَالَ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، وَتَارَةً يَتَعَرَّضُ فِيهِ لِبُطْلَانِ مَذْهَبِ خَصْمِهِ دُونَ تَصْحِيحِ مَذْهَبِ نَفْسِهِ.
(3/519)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثَالُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَصَدَ تَصْحِيحَ مَذْهَبِ نَفْسِهِ وَإِبْطَالَ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ: مَا إِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لِلِاعْتِكَافِ، لِأَنَّهُ «لُبْثٌ مَحْضٌ، فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ» فَإِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْإِحْرَامُ وَالنِّيَّةُ، فَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ لَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِهِ قُرْبَةً حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّوْمُ بِالْإِجْمَاعِ، إِذْ لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ مُقَارَنَةَ غَيْرِ الصَّوْمِ لِلِاعْتِكَافِ، فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدَّمَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِالِاعْتِكَافِ غَيْرُهُ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ هُوَ الصَّوْمُ، وَمَدْرَكُ الْأُولَى هَذَا الْقِيَاسُ، وَمَدْرَكُ الثَّانِيَةِ الْإِجْمَاعُ الْمَذْكُورُ، «فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ» الشَّافِعِيُّ أَوِ الْحَنْبَلِيُّ فِي قَلْبِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ: الِاعْتِكَافُ «لُبْثٌ مَحْضٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ الصَّوْمُ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً» ، أَيْ: لَا يُشْتَرَطُ لَهُ، «كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ» ، فَإِنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الصَّوْمُ، فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِلِاعْتِكَافِ عَمَلًا بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ كَوْنُ الْوُقُوفِ وَالِاعْتِكَافِ لُبْثًا مَحْضًا، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ يُنَاسِبُ دَعْوَاهُ وَعَدَمَهَا، لَمْ يَكُنْ بِإِثْبَاتِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِثْبَاتِ الْآخَرِ، فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، فَهَهُنَا الْمُعْتَرِضُ قَصَدَ بِقَلْبِ الدَّلِيلِ تَصْحِيحَ مَذْهَبِهِ، وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لِلِاعْتِكَافِ وَإِبْطَالَ مَذْهَبِ خَصْمِهِ.
وَمِثَالُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا إِذَا قَصَدَ إِبْطَالَ مَذْهَبِ خَصْمِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ
(3/520)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ نَفْسِهِ: قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي عَدَمِ وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ: «مَمْسُوحٌ فَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُهُ بِالْمَسْحِ كَالْخُفِّ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ» : هَذَا يَنْقَلِبُ عَلَيْكَ بِأَنْ يُقَالَ: «مَمْسُوحٌ فَلَا يُقَدَّرُ بِالرُّبُعِ كَالْخُفِّ» ، فَإِنَّ أَحْمَدَ وَمَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُوجِبَانِ اسْتِيعَابَ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ. وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْحَنَفِيُّ فِي قِيَاسِهِ، فَتَعَرَّضَ الْخَصْمُ لِذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ بِقَوْلِهِ: فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالرُّبُعِ، لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَسْحِ رُبُعِ الرَّأْسِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صِحَّةُ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ إِجْزَاءُ مَا يُسَمَّى مَسْحًا وَلَوْ عَلَى شَعْرَةٍ أَوْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْقَالِبَ إِذْ قَصَدَ بُطْلَانَ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، فَتَارَةً يُبْطِلُهُ بِطَرِيقِ التَّصْرِيحِ كَمَا قِيلَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَتَارَةً يُبْطِلُهُ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، وَذَلِكَ كَالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ بَعْدُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي «بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَنْعَقِدُ مَعَ جَهْلِ» الْعِوَضِ، أَوْ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُعَوَّضِ «كَالنِّكَاحِ» ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ جَهْلِ الزَّوْجِ بِصُورَةِ الزَّوْجَةِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَرَهَا، فَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: هَذَا الدَّلِيلُ يَنْقَلِبُ بِأَنْ يُقَالَ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ، فَإِنَّ الزَّوْجَ إِذَا رَأَى الزَّوْجَةَ لَمْ تُعْجِبْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ لَهُ خِيَارٌ إِذَا رَأَى الْمَبِيعَ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ بِمُقْتَضَى الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ، وَالْخَصْمُ لَمْ يُصَرِّحْ هَهُنَا بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، لَكِنَّهُ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ
(3/521)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِبُطْلَانِ لَازِمِهِ عِنْدَ الْخَصْمِ وَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُجِيزُ بِيعَ الْغَائِبِ بِشَرْطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إِذَا رَآهُ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا الشَّرْطُ بِمُوجِبِ قِيَاسِهِ عَلَى النِّكَاحِ، بَطَلَ مَشْرُوطُهُ وَهُوَ صِحَّةُ الْبَيْعِ، فَهُوَ إِبْطَالٌ لَهُ بِالْمُلَازَمَةِ لَا بِالتَّصْرِيحِ.
قَوْلُهُ: «فَيَبْطُلُ مَذْهَبُ الْمُسْتَدِلِّ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِتَعْلِيقِهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ» .
أَيْ: إِذَا تَوَجَّهَ سُؤَالُ الْقَلْبِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، بَطَلَ مَذْهَبُهُ، إِذْ لَيْسَ تَعْلِيقُهُ عَلَى الْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِ مَذْهَبِ خَصْمِهِ عَلَيْهَا، إِذْ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ قَبْلُ.
قَوْلُهُ: «وَالْقَلْبُ مُعَارَضَةٌ خَاصَّةٌ، فَجَوَابُهُ جَوَابُهَا إِلَّا بِمَنْعِ وَصْفِ الْحُكْمِ، لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ فِي اسْتِدْلَالِهِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُهُ» ؟
يَعْنِي أَنَّ قَلْبَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ، فَهُوَ مُعَارَضَةٌ خَاصَّةٌ، لِأَنَّ النَّوْعَ أَخَصُّ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُعَارَضَةٌ خَاصَّةٌ، لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ هِيَ إِبْدَاءُ مَعْنًى فِي الْأَصْلِ أَوِ الْفَرْعِ، أَوْ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ يَقْتَضِي خِلَافَ مَا ادَّعَاهُ الْمُسْتَدِلُّ مِنَ الْحُكْمِ، وَهَذَا الْوَصْفُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِبْدَاءُ مُنَاسَبَةِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ بِخِلَافِ حُكْمِهِ، فَحَقِيقَةُ الْمُعَارَضَةِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ، لَكِنَّهُ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْهَا، وَاخْتَصَّ عَلَيْهَا بِخَصَائِصَ:
مِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَصْلٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ الْوَصْفِ، فَكُلُّ قَلْبٍ مُعَارَضَةٌ وَلَيْسَ كُلُّ
(3/522)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُعَارَضَةٍ قَلْبًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ، فَجَوَابُهُ جَوَابُ الْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا بَعْدُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْخُفَّ لَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبُعِ، فَيَمْنَعُ حُكْمَ الْأَصْلِ فِي قَلْبِ الْمُعْتَرِضِ، إِلَّا مَنْعَ الْوَصْفِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمُعَارَضَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْقَلْبِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ وَالْوُقُوفَ لُبْثٌ مَحْضٌ، أَوْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ وَالْخُفِّ مَسْحٌ، أَوْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَيْعَ أَوِ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَارَضَةِ وَالْقَلْبِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ فِي الْمُعَارَضَةِ لَمْ يُعَلِّلْ بِوَصْفِ الْمُعْتَرِضِ، وَلَا الْتَزَمَهُ، وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي قِيَاسِهِ، فَجَازَ لَهُ مَنْعُهُ بِخِلَافِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ الْتَزَمَ فِي قِيَاسِهِ صِحَّةَ مَا عَلَّلَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ وَهُوَ اللُّبْثُ وَالْمَسْحُ، وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ، فَلَيْسَ لَهُ فِي جَوَابِ الْقَلْبِ مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ هَدْمٌ لِمَا بَنَى، وَرُجُوعٌ عَمَّا الْتَزَمَهُ وَاعْتَرَفَ بِصِحَّتِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ. هَذَا آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ فِي سُؤَالِ الْقَلْبِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ سُؤَالَ الْقَلْبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُصَحِّحًا لِمَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، كَمَا فِي مِثَالِ الِاعْتِكَافِ، أَوْ مُبْطِلًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، إِمَّا نَصًّا كَمَا فِي مِثَالِ مَسْحِ الرَّأْسِ، أَوِ التِزَامًا كَمَا فِي مِثَالِ بَيْعِ الْغَائِبِ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَقْسَامَهُ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ. وَتَلْخِيصُ مَا ذَكَرَهُ فِيهَا: أَنَّ قَلْبَ الدَّلِيلِ هُوَ أَنْ يُبَيِّنَ الْقَالِبُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ، أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَهُ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ: قَلَّ مَا يَتَّفِقُ لَهُ مِثَالٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فِي غَيْرِ النُّصُوصِ، أَيْ: لَا يَتَّفِقُ لَهُ مِثَالٌ فِي الْأَقْيِسَةِ.
وَمَثَّلَهُ مِنَ النُّصُوصِ بِاسْتِدْلَالِ الْحَنَفِيِّ فِي تَوْرِيثِ الْخَالِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
(3/523)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السَّلَامُ: الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَأَثْبَتَ إِرْثَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ غَيْرَهُ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَيْكَ لَا لَكَ، إِذْ مَعْنَاهُ نَفِيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، أَيِ: الْخَالُ لَا يَرِثُ، كَمَا يُقَالُ: الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ، وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ، أَيْ: لَيْسَ الْجُوعُ زَادًا، وَلَا الصَّبْرُ حِيلَةً.
وَالثَّانِي، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ وَلَهُ: إِمَّا أَنْ يَتَعَرَّضَ الْقَالِبُ فِيهِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِ نَفْسِهِ كَمَسْأَلَةِ الِاعْتِكَافِ، أَوْ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ صَرِيحًا، كَمَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ، أَوِ التِزَامًا كَمَسْأَلَةِ بَيْعِ الْخِيَارِ.
قَالَ: وَيَلْحَقُ بِهَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْقَلْبِ: قَلْبُ التَّسْوِيَةِ، كَمَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي الْخَلِّ: مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ، فَتَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ كَالْمَاءِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنَ التَّسْوِيَةِ فِي الْخَلِّ بَيْنَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخُبْثِ أَنَّهُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا فِيهِ.
قُلْتُ: وَيُمْكِنُ تَقْسِيمُ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ مُسْتَفَادٍ مِمَّا قَالَهُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ: أَنَّ الْقَلْبَ إِمَّا قَلْبُ تَسْوِيَةٍ كَمَسْأَلَةِ الْخَلِّ، أَوْ قَلْبُ مُخَالَفَةٍ. ثُمَّ هُوَ إِمَّا أَنْ يُصَحِّحَ مَذْهَبَ الْمُعْتَرِضِ كَمَسْأَلَةِ الِاعْتِكَافِ، أَوْ يُبْطِلَ مَذْهَبَ الْمُسْتَدِلِّ صَرِيحًا، كَمَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ، أَوْ إِلْزَامًا، كَمَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ.
(3/524)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ النِّيلِيُّ وَغَيْرُهُ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْقَلْبِ وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا لَهُ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضَاتِ وَلَا يَتَّجِهُ فِي قَبُولِهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، كَمِثَالِ الِاعْتِكَافِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَبَيْعِ الْغَائِبِ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ: هَلْ هُوَ اعْتِرَاضٌ أَوْ مُعَارَضَةٌ؟ فَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الِاعْتِرَاضِ، لِأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى ضَعْفٍ فِي الْعِلَّةِ، حَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى نَقِيضِ الْحُكْمِ فَصَارَ ذَلِكَ ضَرْبًا مِنْ فَسَادِ الْوَضْعِ. وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ، لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُعَارِضُ دَلَالَةَ الْمُسْتَدِلِّ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى. فَحَقِيقَةُ الْمُعَارَضَةِ مَوْجُودَةٌ فِيهِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَذَكَرَ النِّيلِيُّ لِهَذَا الْخِلَافِ فَوَائِدَ، مِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ قِيلَ: هُوَ مُعَارَضَةٌ، جَازَتِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مُقْتَضَاهُ التَّأْبِيدُ، فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ، كَالنِّكَاحِ، وَإِنْ قِيلَ: هُوَ اعْتِرَاضٌ؛ لَمْ يَجُزْ مِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ.
قُلْتُ: الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ وَالِاعْتِرَاضِ: أَنَّ الْمُعَارَضَةَ، كَدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِدَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ، بِخِلَافِ الِاعْتِرَاضِ، فَإِنَّهُ مَنْعٌ لِلدَّلِيلِ، فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، إِذْ يَكُونُ كَالْكَذِبِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ حَيْثُ يُقَوِّلُهُ مَا لَمْ يَقُلْ.
(3/525)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ قِيلَ: إِنَّ الْقَلْبَ مُعَارَضَةٌ؛ جَازَ قَلْبُهُ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ كَمَا يُعَارِضُ الْمُعَارَضَةَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ، وَلَا نِيَابَةٍ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا عَلَى الشِّرَاءِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: أَنَا أَقْلِبُ هَذَا الدَّلِيلَ، فَأَقُولُ: تَصَرُّفٌ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِلَا وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ، فَلَا يَقَعُ لِمَنْ أَضَافَهُ إِلَيْهِ كَالشِّرَاءِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ لَمْ يَصِحَّ لِمَنْ أُضِيفَ إِلَيْهِ وَهُوَ الْمُشْتَرِي لَهُ، بَلْ يَصِحُّ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ الْفُضُولِيُّ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ اعْتِرَاضٌ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَنْعٌ، وَالْمَنْعُ لَا يَمْنَعُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُعَارَضَةً، جَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّهُ كَالْجُزْءِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ اعْتِرَاضًا، لَمْ يَجُزْ وَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمَنْعَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُعَارَضَةِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ مُعَارَضَةً قَبِلَ فِيهِ الْمُرَجِّحَ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ اعْتِرَاضٌ، مَنَعَ ذَلِكَ. قَالَ: وَمِثَالُهُ ظَاهِرٌ فِي سَائِرِ الِاعْتِرَاضَاتِ.
قُلْتُ: أَصْلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، كَالدَّلِيلِ الْمُبْتَدَأِ، وَالْمَنْعُ لَا يَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/526)
________________________________________
التَّاسِعُ: الْمُعَارَضَةُ، وَهِيَ إِمَّا فِي الْأَصْلِ بِبَيَانِ وُجُودِ مُقْتَضٍ لِلْحُكْمِ فِيهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُقْتَضِيًّا، بَلْ يُحْتَمَلُ ثُبُوتُهُ لَهُ، أَوْ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، أَوْ لَهُمَا، وَهُوَ أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَاتِ، إِذِ الْمَأْلُوفُ مِنْ تَصَرُّفِ الشَّارِعِ مُرَاعَاةُ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، كَمَنْ أَعْطَى فَقِيرًا قَرِيبًا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ إِعْطَاؤُهُ لِلسَّبَبَيْنِ؛ وَيَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ حَذْفُ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ فِي دَلِيلِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ أَهْمَلَهُ، وَرَدَ مُعَارَضَةً، وَيَكْفِي الْمُعْتَرِضَ فِي تَقْرِيرِهَا بَيَانُ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ فِي دَفْعِهَا إِلَّا بَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ، إِمَّا بِثُبُوتِ عِلِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بِنَصٍّ أَوْ إِيمَاءٍ، وَنَحْوِهِ مِنَ الطُّرُقِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ بِبَيَانِ إِلْغَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ كَإِلْغَاءِ الذُّكُورِيَّةِ فِي جِنْسِ أَحْكَامِ الْعِتْقِ، أَوْ بِأَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ ثَبَتَ بِدُونِ مَا ذَكَرَهُ، فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «التَّاسِعُ: الْمُعَارَضَةُ» .
اعْلَمْ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ: عَرَضَ لَهُ يَعْرِضُ: إِذَا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ عَارَضَهُ فِي طَرِيقِهِ لِيَمْنَعَهُ النُّفُوذَ فِيهِ، فَكَأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ الْمُسْتَدِلِّ، أَوْ يُوقِفُ حُجَّتَهُ بَيْنَ يَدَيْ دَلِيلِهِ، لِيَمْنَعَهُ مِنَ النُّفُوذِ فِي إِثْبَاتِ الدَّعْوَى.
قَوْلُهُ: «وَهِيَ إِمَّا فِي الْأَصْلِ» . يَعْنِي أَنَّ الْمُعَارَضَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ.
قَوْلُهُ: «بِبَيَانِ وُجُودِ مُقْتَضٍ لِلْحُكْمِ فِيهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مُقْتَضِيًا» ، إِلَى آخِرِهِ.
(3/527)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ: الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ مَعْنَاهَا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي قَاسَ عَلَيْهِ الْمُسْتَدِلُّ مُقْتَضِيًا آخَرَ لِلْحُكْمِ غَيْرَ مَا ذَكَرَهُ، يَعْنِي الْمُسْتَدِلَّ. وَحِينَئِذٍ لَا يَتَعَيَّنُ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، لِأَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا، أَيْ: عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ، بَلْ يَحْتَمِلُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ، أَيْ: أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ هُوَ الْوَصْفَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلَّتُهُ الْوَصْفَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، أَيِ الَّذِي بَيَّنَهُ فِي الْأَصْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلِّيَةُ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا، الَّذِي عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ، وَالَّذِي بَيَّنَهُ الْمُعْتَرِضُ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» ، أَيْ: هَذَا الِاحْتِمَالُ الثَّالِثُ «أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَاتِ» ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا، «إِذِ الْمَأْلُوفُ» ، أَيْ: لِأَنَّ الْمَأْلُوفَ، أَيْ: الَّذِي أَلِفْنَاهُ مِنَ الشَّرْعِ بِاسْتِقْرَاءِ مَوَارِدِ تَصَرُّفِهِ وَمَصَادِرِهَا «مُرَاعَاةُ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا» ، وَإِذَا كَانَ الْوَصْفَانِ جَمِيعًا مُنَاسِبَيْنَ، بِحَيْثُ تُتَوَقَّعُ الْمَصْلَحَةُ عَقِيبَهُمَا كَمَا ذُكِرَ فِي تَعْرِيفِ الْمُنَاسِبِ، فَالظَّاهِرُ مِنَ الشَّرْعِ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَتِهِمَا، إِذْ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْلُوفُ مِنْ تَصَرُّفِ الْعُقَلَاءِ، وَالشَّرْعُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ، وَذَلِكَ «كَمَنْ أَعْطَى» قَرِيبًا لَهُ فَقِيرًا احْتَمَلَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِقَرَابَتِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِفَقْرِهِ، وَاحْتَمَلَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ لِفَقْرِهِ وَقَرَابَتِهِ جَمِيعًا جَمْعًا بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ. وَهَذَا أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَاتِ لِمُنَاسَبَتِهِمَا جَمِيعًا لِلْعَطَاءِ، وَكَوْنِ الْمُكَلَّفِ الْعَاقِلِ لَا يُخِلُّ بِبَعْضِ الْمَصَالِحِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَى أَقْرَبَ قَرَابَتِهِ، تَعَارَضَتْ فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ الثَّلَاثَةُ، أَعْنِي هَلْ أَعْطَاهُ لِمُطْلَقِ الْقَرَابَةِ أَوْ لِخُصُوصِيَّةِ الْأَقْرَبِيَّةِ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ؟ وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ يُعْطِي أَجْنَدَ
(3/528)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جُنْدِهِ، وَأَشْجَعَهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ أَثَرًا فِي حِمَايَةِ الْمَلِكِ تَتَعَارَضُ فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ، هَلْ أَعْطَاهُ لِمُطْلَقِ الْجُنْدِيَّةِ وَالْكَفَاءَةِ؟ أَوْ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ؟ أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ؟ وَهُوَ أَظْهَرُ، لِمَا ذَكَرْنَا.
وَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ، كَانَ التَّعْلِيلُ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، بَلْ تَعْلِيلًا بِالْمَرْجُوحِ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ تَقَادِيرَ، وَيَبْطُلُ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ مِنْهَا، وَوُقُوعُ اثْنَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ أَرْجَحُ وَأَظْهَرُ مِنْ وُقُوعِ وَاحِدٍ مِنْهَا.
وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا لَوْ عَلَّلَ الْحَنْبَلِيُّ قَتْلَ الْمُرْتَدَّةِ بِقَوْلِهِ: بَدَّلَتْ دِينَهَا، فَتُقْتَلُ كَالرَّجُلِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: لَا يَتَعَيَّنُ تَبْدِيلُ الدِّينِ مُقْتَضِيًا لِلْقَتْلِ، بَلْ هُنَاكَ مَعْنًى آخَرُ فِي الرَّجُلِ يَقْتَضِيهِ لَيْسَ فِي الْمَرْأَةِ وَهُوَ جِنَايَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِتَنْقِيصِ عَدَدِهِمْ، وَتَكْثِيرِ عَدُوِّهِمْ وَتَقْوِيَتِهِ، إِذْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالنِّكَايَةِ. وَحِينَئِذٍ جَازَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ تَبْدِيلُ الدِّينِ، أَوِ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوِ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا. وَحِينَئِذٍ لَا يَتَعَيَّنُ التَّبْدِيلُ عِلَّةً لِلْقَتْلِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ عَلَّلَ الْحَنْبَلِيُّ صِحَّةَ أَمَانِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ: مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ، فَعَارَضَهُ الْحَنَفِيُّ بِأَنْ يَقُولَ: فِي الْحُرِّ مَعْنًى لَيْسَ فِي الْعَبْدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِمَصْلَحَةِ الْأَمَانِ وَهُوَ مُنَاسِبٌ لَهَا، وَهُوَ أَنَّ الْحُرَّ مُتَفَرِّغُ الْبَالِ لِلنَّظَرِ فِي مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالِاحْتِيَاطِ لَهُمْ فِي الْأَمَانِ أَوْ عَدَمِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَبْدُ، فَإِنَّهُ فِي مَظِنَّةِ اشْتِغَالِ الْبَالِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ قَيْدِ الرِّقِّ،
(3/529)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالِاهْتِمَامِ بِقَضَاءِ وَظَائِفِهِ، فَتَتَقَاعَدُ مَصْلَحَةُ أَمَانِهِ عَنْ مَصْلَحَةِ أَمَانِ الْحُرِّ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ مُعْتَبَرًا فِي الْحُرِّ لَا يَصِحُّ إِلْحَاقُ الْعَبْدِ بِهِ، لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ مَا فِيهِ مِنَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ بِالْمَصْلَحَةِ.
قَوْلُهُ: «وَيَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ حَذْفُ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْهُ فِي دَلِيلِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَإِنْ أَهْمَلَهُ، وَرَدَ مُعَارَضَةً» .
يَعْنِي أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ؛ هَلْ يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي دَلِيلِهِ بِحَذْفِهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْجَدَلِيِّينَ سَبَقَ تَوْجِيهُهُمَا فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُؤَالِ النَّقْضِ، فَإِنْ أَهْمَلَ الْمُسْتَدِلُّ ذَلِكَ - أَعْنِي الِاحْتِرَازَ - عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، «وَرَدَ» عَلَيْهِ «مُعَارَضَةً» ، أَيْ: كَانَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِهِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، وَيَلْزَمُهُ جَوَابُهُ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي رَفْعِ الْيَدِ فِي الرُّكُوعِ: رُكْنٌ غَيْرُ الْإِحْرَامِ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الْيَدِ، كَالسُّجُودِ، فَإِنْ لَمْ يَحْتَرِزْ عَنِ الْإِحْرَامِ وَإِلَّا عَارَضَهُ بِهِ الْخَصْمُ بِأَنْ يَقُولَ: رُكْنٌ، فَشُرِعَ فِيهِ الرَّفْعُ كَالْإِحْرَامِ.
قُلْتُ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ هَذَا الِاحْتِرَازَ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ مَا يَحْتَرِزُ عَنْهُ الْمُسْتَدِلُّ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لَمْ يَكُنْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ ضَرُورَةٌ، وَإِنْ كَانَ وَارِدًا لَمْ يَنْفَعْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِالذِّكْرِ الْمُجَرَّدِ، إِذْ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَغَيْرِهِ حَتَّى تَسْتَثْنِيَهُ، إِذِ الْإِحْرَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ أَرْكَانٌ، فَإِذَا قِسْتَ عَلَى السُّجُودِ، قِسْتُ أَنَا عَلَى الْإِحْرَامِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ مُنَاسَبَةَ احْتِرَازِهِ، وَاطِّرَادِ عِلَّتِهِ مَعَهُ، فَيَكُونُ احْتِرَازًا صَحِيحًا.
قَوْلُهُ: «وَيَكْفِي الْمُعْتَرِضَ فِي تَقْرِيرِهَا بَيَانُ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ،
(3/530)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَا يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ فِي دَفْعِهَا إِلَّا بَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ» .
أَيْ: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَكْفِيهِ فِي تَقْرِيرِ الْمُعَارَضَةِ بَيَانُ مُطْلَقِ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ، أَعْنِي ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِمَا عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ، أَوْ لِمَا أَبْدَاهُ هُوَ، أَوْ لِمَجْمُوعِ الْوَصْفَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَتِ الِاحْتِمَالَاتُ مُتَسَاوِيَةً، أَوْ بَعْضُهَا رَاجِحًا، وَبَعْضُهَا مَرْجُوحًا.
وَأَمَّا الْمُسْتَدِلُّ، فَلَا يَكْفِيهِ فِي دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي عُلِّلَ بِهِ مُسْتَقِلٌّ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ وَلَا غَيْرِهِ. وَالْفَرْقُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُعْتَرِضِ وَالْمُسْتَدِلِّ: هُوَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُدَّعٍ لِاسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَالْمُعْتَرِضُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، وَالْمُنْكِرُ يَكْفِيهِ مُطْلَقُ الْإِنْكَارِ، وَالْمُدَّعِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيِّنَةٍ وَحُجَّةٍ يُثْبِتُ بِمِثْلِهَا دَعْوَاهُ.
وَحُجَّةُ الْمُسْتَدِلِّ هَهُنَا لَيْسَ إِلَّا بَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِالْحُكْمِ، كَاسْتِقْلَالِ تَبْدِيلِ الدِّينِ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، وَاسْتِقْلَالِ الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ بِصِحَّةِ الْأَمَانِ، وَالْمُعْتَرِضُ بِمُجَرَّدِ بَيَانِهِ احْتِمَالًا آخَرَ يَصْلُحُ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ عِلَّةً أَوْ جُزْءَ عِلَّةِ قَدْ وَفَى بِمَا عَلَيْهِ مِنْ إِنْكَارِ دَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ، فَلِذَلِكَ كَفَاهُ بَيَانُ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ كَيْفَ كَانَ، وَلَمْ يَكْفِ الْمُسْتَدِلَّ «إِلَّا بَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ» .
قَوْلُهُ: «إِمَّا بِثُبُوتِ عِلِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ بِنَصٍّ أَوْ إِيمَاءٍ وَنَحْوِهِ مِنَ الطُّرُقِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ بِبَيَانِ إِلْغَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ،
(3/531)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَإِلْغَاءِ الذُّكُورِيَّةِ فِي جِنْسِ أَحْكَامِ الْعِتْقِ، أَوْ بِأَنَّ مِثْلَ الْحُكْمِ ثَبَتَ بِدُونِ مَا ذَكَرَهُ، فَيَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ» .
هَذَا بَيَانُ الطُّرُقِ الَّتِي يُبَيِّنُ بِهَا الْمُسْتَدِلُّ اسْتِقْلَالَ مَا عَلَّلَ بِهِ الْحُكْمَ، وَبِهِ يَحْصُلُ جَوَابُ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ.
وَثَمَّ طَرِيقٌ آخَرُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَنَظْمُ عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ تَقْدِيرًا هَكَذَا: وَلَا يَكْفِي الْمُسْتَدِلَّ فِي دَفْعِ الْمُعَارَضَةِ إِلَّا بَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِالْحُكْمِ، وَبَيَانُ اسْتِقْلَالِ مَا ذَكَرَهُ بِالْحُكْمِ يَحْصُلُ بِطُرُقٍ:
أَحَدُهَا: إِثْبَاتُ عِلِّيَّةِ مَا ذَكَرَهُ، أَيْ: إِثْبَاتُ كَوْنِهِ عِلَّةً بِالنَّصِّ، أَوْ إِيمَاءِ النَّصِّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، ثُمَّ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ، كَالْإِجْمَاعِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ، كَالْمُنَاسَبَةِ، وَالسَّبْرِ، وَالدَّوَرَانِ.
مِثَالُ النَّصِّ: أَنْ يَقُولَ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدَّةِ: قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ بَدَّلَ دِينَهَ فَاقْتُلُوهُ ظَاهِرٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِي أَنَّ تَبْدِيلَ الدِّينِ عِلَّةٌ لِلْقَتْلِ مُسْتَقِلَّةٌ بِهِ قَاعِدَتُهَا إِلَى الْمُرْتَدَّةِ، وَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ.
مِثَالُ الْإِيمَاءِ: أَنْ يَقُولَ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ أَنَّهُ نَصٌّ فِي التَّعْلِيلِ بِالتَّبْدِيلِ: الْقَتْلُ حُكْمٌ اقْتَرَنَ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ وَهُوَ تَبْدِيلُ
(3/532)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدِّينِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةَ فِيهِ، كَالْقَطْعِ مَعَ السَّرِقَةِ، وَالْجَلَدِ مَعَ الزِّنَى.
وَبِالْجُمْلَةِ: طُرُقُ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ قَدْ سَبَقَتْ، فَمَنْ عَرَفَهَا هُنَاكَ اسْتَعْمَلَهَا هُنَا.
الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ لَاغٍ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، كَالذُّكُورِيَّةِ فِي الْعِتْقِ؛ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْأَمَةِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا: رَقِيقٌ أَوْ مَمْلُوكٌ، فَسَرَى عِتْقُ الْمُوسِرِ فِيهِ قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: فِي الْعَبْدِ مَعْنًى خَاصٌّ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ السَّرَايَةِ أَوْ جُزْءَهَا وَهُوَ الذُّكُورِيَّةُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَرَى الْعِتْقُ فِيهِ، وَكَمُلَتْ حُرِّيَّتُهُ صَلَحَ مِنَ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ لِمَا لَا تَصْلُحُ لَهُ الْأَمَةُ. فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: مَا ذَكَرْتَهُ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْمُنَاسَبَةِ إِلَّا أَنَّ الذُّكُورِيَّةَ وَالْأُنُوثِيَّةَ وَصْفٌ مُلْغًى فِي بَابِ الْعِتْقِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ لَمْ نَرَهُ الْتَفَتَ إِلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، فَهُوَ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ.
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ وَصْفُ الرِّقِّ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ هُوَ الْمُسْتَقِلُّ بِحُكْمِ السِّرَايَةِ فِي الْعَبْدِ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَمَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي النَّبِيذِ: مُسْكِرٌ فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: فِي الْخَمْرِ وَصْفٌ زَائِدٌ يَصْلُحُ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ، أَوْ جُزْءَ عِلَّةٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُعْتَصَرًا مِنَ الْعِنَبِ، فَيَكُونُ تَأْثِيرُهُ فِي فَسَادِ الْعَقْلِ أَشَدَّ، فَيَخْتَصُّ لِذَلِكَ بِالتَّحْرِيمِ بِخِلَافِ النَّبِيذِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: مُجَرَّدُ الْإِسْكَارِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّصُّ حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَدَارَ التَّحْرِيمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا. فَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ مَاءِ
(3/533)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعِنَبِ، فَهُوَ وَإِنْ دَارَ التَّحْرِيمُ مَعَهُ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ اعْتِبَارٌ لِلْمَادَّةِ، وَلَيْسَ مَعْهُودًا مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارُ الْمَوَادِّ مَعَ تَأْثِيرِ الْأَوْصَافِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي خُصُوصِيَّةِ الْمُحَدَّدِ، دَارَ مَعَ الْقَتْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْقِصَاصِ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ «مِثْلَ الْحُكْمِ» الْمُتَنَازَعِ فِيهِ «ثَبَتَ بِدُونِ مَا ذَكَرَهُ» الْمُعْتَرِضُ، فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ أَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْحُكْمِ، فَيَسْتَقِلُّ بِهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ.
مِثَالُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ أَمَانِ الْعَبْدِ: إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: مُسْلِمُ مُكَلَّفٌ فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ، فَعَارَضَهُ الْخَصْمُ فِي الْحُرِّ بِوَصْفِ الْحُرِّيَّةِ كَمَا سَبَقَ، يَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: قَدْ صَحَّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهَا، فَيَكُونُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ وَصْفِ الْإِسْلَامِ وَالتَّكْلِيفِ مُسْتَقِلًّا بِالصِّحَّةِ.
(3/534)
________________________________________
فَإِنْ بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي أَصْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُدَّعَى ثُبُوتُهُ بِدُونِ مَا ذَكْرُهُ مُنَاسِبًا آخَرَ، لَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ حَذْفُهُ، وَلَا يَكْفِيهِ إِلْغَاءُ كُلٍّ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ بِالْأَصْلِ الْآخَرِ، لِجَوَازِ ثُبُوتِ حُكْمِ كُلِّ أَصْلٍ بِعِلَّةٍ تَخُصُّهُ، إِذِ الْعَكْسُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الشَّرْعِيَّاتِ. وَإِنِ ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ اسْتِقْلَالَ مَا ذَكَرَهُ مُنَاسِبًا، كَفَى الْمُسْتَدِلَّ فِي جَوَابِهِ بَيَانُ رُجْحَانِ مَا ذَكَرَهُ هُوَ بِدَلِيلٍ، أَوْ تَسْلِيمٍ، وَأَمَّا فِي الْفَرْعِ بِذِكْرِ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ، إِمَّا بِالْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ آكَدَ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ كَمَا سَبَقَ، وَإِمَّا بِإِبْدَاءِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ مَانِعٍ لِلْحُكْمِ فِيهِ، أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ، فَإِنْ مَنَعَ الْحُكْمَ، احْتَاجَ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهِ مَانِعًا إِلَى مِثْلِ طَرِيقِ الْمُسْتَدِلِّ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ مِنَ الْعِلَّةِ وَالْأَصْلِ؛ وَإِلَى مِثْلِ عِلَّتِهِ فِي الْقُوَّةِ، وَإِنْ مَنَعَ السَّبَبِيَّةَ، فَإِنْ بَقِيَ احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ مَعَهُ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ لَمْ يَضُرَّ الْمُسْتَدِلَّ، لِإِلْفِنَا مِنَ الشَّرْعِ اكْتِفَاءَهُ بِالْمَظِنَّةِ وَمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الْحِكْمَةِ، فَيَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ إِلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ بِالِاعْتِبَارِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَصْلٍ؛ إِذْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ تَابِعٌ لِلْحِكْمَةِ، وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهَا، وَفِي الْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ يَنْقَلِبُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا عَلَى إِثْبَاتِ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا عَلَيْهَا بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «فَإِنْ بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي أَصْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُدَّعَى ثُبُوتُهُ بِدُونِ مَا ذَكَرَهُ مُنَاسِبًا آخَرَ لَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ حَذْفُهُ» .
قُلْتُ: هَذَا مِنْ تَوَابِعِ هَذَا الْجَوَابِ الْأَخِيرِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا بَيَّنَ فِي أَصْلِ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ وَصْفًا زَائِدًا عَلَى الْفَرْعِ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، فَأَلْغَاهُ
(3/535)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُسْتَدِلُّ بِبَيَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي أَصْلٍ آخَرَ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ، فَبَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ فِي هَذَا الْوَصْفِ الثَّانِي وَصْفًا آخَرَ مُنَاسِبًا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِ، لَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ إِبْطَالُ هَذَا الْوَصْفِ بِحَذْفِهِ، أَوْ مَنْعِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِبْطَالِ، لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُبْطِلْهُ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ لِلتَّعْلِيلِ، وَتَمْثِيلُهُ بِمَسْأَلَةِ الْأَمَانِ أَيْضًا إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: مُسْلِمٌ مُكَلَّفٌ، فَصَحَّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ، فَعَارَضَهُ الْخَصْمُ بِوَصْفِ الْحُرِّيَّةِ، فَأَلْغَاهُ الْمُسْتَدِلُّ بِالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ حَيْثُ صَحَّ أَمَانُهُ بِدُونِ الْحُرِّيَّةِ، فَقَدْ صَارَ الْمَأْذُونُ لَهُ كَأَصْلٍ بِأَنْ قَاسَ عَلَيْهِ الْمُسْتَدِلُّ، فَإِذَا بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ فِي الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ وَصْفًا آخَرَ مُنَاسِبًا لِصِحَّةِ الْأَمَانِ، مَفْقُودًا فِي غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَذَلِكَ الْمُنَاسِبُ هُوَ الْإِذْنُ.
وَوَجْهُ مُنَاسَبَتِهِ أَنَّ السَّيِّدَ أَقَامَهُ مَقَامَهُ فِي الْقِتَالِ وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ مِنْهُ الْكِفَايَةَ فِي ذَلِكَ وَرَصَانَةَ الرَّأْيِ، وَإِلَّا كَانَ السَّيِّدُ فَاسِقًا بِتَفْوِيضِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ إِلَى مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهَا، وَالْفِسْقُ خِلَافُ ظَاهِرِ حَالِ الْمُسْلِمِ.
وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْإِذْنُ دَلِيلًا عَلَى صَلَاحِيَةِ هَذَا الْمَأْذُونِ لَهُ لِإِعْطَاءِ الْأَمَانِ، فَالْحُرِّيَّةُ وَإِنِ انْتَفَتْ حَقِيقَتُهَا، فَقَدْ خَلَفَهَا صِفَةٌ تُحَصِّلُ مَقْصُودُهَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهَا، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْمُسْتَدِلَّ إِبْطَالُ هَذَا الْمُنَاسِبِ، وَإِلَّا كَانَ مُعَارَضًا بِوَصْفِ الْإِذْنِ كَمَا عُورِضَ بِوَصْفِ الْحُرِّيَّةِ. وَسَبِيلُهُ فِي إِلْغَائِهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَثَلًا صِحَّةَ الْأَمَانِ مِنَ الْعَبْدِ فِي صُورَةٍ بِدُونِ الْإِذْنِ، وَلِلْمُعْتَرِضِ إِبْدَاءُ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ فِي تِلْكَ
(3/536)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصُّورَةِ، وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ إِلْغَاؤُهُ، وَهَلُمَّ جَرًّا فِي إِبْدَاءِ الْمُنَاسِبِ مِنَ الْمُعْتَرِضِ وَإِلْغَائِهِ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ حَتَّى يَنْقَطِعَ الْإِلْغَاءُ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ، أَوْ إِبْدَاءُ الْوَصْفِ مِنَ الْمُعْتَرِضِ.
قُلْتُ: حَاصِلُ مَا ذُكِرَ مِنْ إِلْغَاءِ الْمُسْتَدِلِّ: وَصْفُ الْمُعْتَرِضِ فِي الْأَصْلِ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَاسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ عَلَى أَصْلٍ، كَقِيَاسِ أَمَانِ الْعَبْدِ عَلَى أَمَانِ الْحُرِّ، ثُمَّ عَلَى أَمَانِ الْمَأْذُونِ لَهُ، وَذَلِكَ انْتِقَالٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ بِطَرِيقِ التَّصْحِيحِ لَهُ بِدَفْعِ مَا يُبْطِلُ تَعَلُّقَهُ بِهِ لَمْ يَضُرُّهُ وَلَمْ يَكُنْ مُنَتَقِلًا.
أَمَّا الْمُعْتَرِضُ، فَإِنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَنَّ وَصْفَ الْحُرِّيَّةِ فِي أَمَانِ الْحُرِّ مُؤَثِّرٌ، وَوَصْفُ الْإِذْنِ فِي أَمَانِ الْمَأْذُونِ لَهُ أَيْضًا مُؤَثِّرٌ، فَقَدِ اعْتَرَفَ بِأَنَّ مَا أَبْدَاهُ أَوَّلًا مِنْ وَصْفِ الْحُرِّيَّةِ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالتَّكْلِيفِ لَيْسَ مُتَعَيِّنًا لِلْعِلِّيَّةِ، بَلْ هُوَ وَصْفُ الْإِذْنِ. وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي يُعَارِضُ بِهَا الْمُسْتَدِلُّ فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ. أَعْنِي أَنَّ الْوَصْفَ الْمَضْمُومَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَالتَّكْلِيفِ لَيْسَ هُوَ الْحُرِّيَّةَ عَيْنًا، بَلْ هُوَ الْحُرِّيَّةَ أَوِ الْإِذْنَ فِي الْقِتَالِ أَوْ غَيْرَهُمَا كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ إِنْ قَالَ بِصِحَّةِ الْأَمَانِ مَعَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا بِإِبْدَاءِ الْمُنَاسِبِ فِي مَحَلِّ الْإِلْغَاءِ.
فَلَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ لِلْمُعْتَرِضِ: أَنْتَ عَلَّلْتَ صِحَّةَ أَمَانِ الْحُرِّ بِوَصْفِ الْحُرِّيَّةِ لِكَمَالِ نَظَرِ الْحُرِّ بِتَفَرُّغِهِ، فَتَكْمُلُ مَصْلَحَةُ أَمَانِهِ، ثُمَّ جَعَلْتَ الْإِذْنَ فِي صُورَةِ الْمَأْذُونِ لَهُ خَلَفًا عَنِ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ لَا يُسَاوِيهَا فِي الْمَصْلَحَةِ لِتَحَقُّقِ الرِّقِّ فِي الْمَأْذُونِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَيَتَحَقَّقُ شَغْلُ الْخَاطِرِ، وَعَدَمُ فَرَاغِ الْبَالِ، فَلَيْسَ لَكَ أَنْ تُعَارِضَنِي بِهِ فِي صُورَةِ الْمَأْذُونِ لَهُ عَنِ الْحُرِّيَّةِ - لَكَانَ هَذَا كَلَامًا
(3/537)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صَحِيحًا، لِأَنَّهُ عَلَّلَ بِوَصْفٍ وَلَمْ يُظْهِرْهُ بِكَمَالِهِ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يَكْفِيهِ إِلْغَاءُ كُلٍّ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ بِالْأَصْلِ الْآخَرِ لِجَوَازِ ثُبُوتِ حُكْمِ كُلِّ أَصْلٍ بِعِلَّةٍ تَخُصُّهُ، إِذِ الْعَكْسُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الشَّرْعِيَّاتِ» .
اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْجَدَلِيِّينَ زَعَمَ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا أَبْدَى فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ مُنَاسِبًا آخَرَ غَيْرَ مَا عَرَّضَ بِهِ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ، كَفَى فِي جَوَابِهِ «إِلْغَاءُ كُلٍّ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ» اللَّذَيْنِ أَبْدَاهُمَا الْمُعْتَرِضُ «بِالْأَصْلِ الْآخَرِ» . مِثْلَ أَنْ يُلْغِيَ الْحُرِّيَّةَ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ بِمَسْأَلَةِ الْمَأْذُونِ، حَيْثُ اكْتَفَى الْمُعْتَرِضُ فِيهِ بِالْإِذْنِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ. وَيُلْغِي الْإِذْنَ بِأَمَانِ الْحُرِّ حَيْثُ صَحَّ وَلَمْ يُتَصَوَّرْ فِيهِ وُجُودُ الْإِذْنِ، وَإِذَا أَلْغَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ، سَقَطَتِ الْمُعَارَضَةُ مِنَ الْأَصْلَيْنِ وَبَقِيَ قِيَاسُ الْمُسْتَدِلِّ سَالِمًا عَنْ مُعَارِضٍ، فَتَبَيَّنَ هَهُنَا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ فِي الْأُصُولِ، فَيَثْبُتُ حُكْمُ كُلِّ أَصْلٍ بِعِلَّةٍ غَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ الْآخَرِ، كَأَمَانِ الْحُرِّ بِعِلَّةِ الْحُرِّيَّةِ، وَأَمَانِ الْمَأْذُونِ بِعِلَّةِ الْإِذْنِ، لِأَنَّ «الْعَكْسَ» - يَعْنِي عَكْسَ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ - «غَيْرُ لَازِمٍ» كَمَا سَبَقَ، فَلَا يَجِبُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ، لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ فِي الْأَصْلِ الْآخَرِ. مَثَلًا لَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ صِحَّةِ الْأَمَانِ مِنَ الْمَأْذُونِ لِانْتِفَاءِ الْحُرِّيَّةِ، وَلَا انْتِفَاءُ صِحَّةِ أَمَانِ الْحُرِّ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْإِذْنِ، بَلْ جَازَ أَنْ تَثْبُتَ الصِّحَّةُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ فِيهِ. وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِإِلْغَاءِ كُلٍّ مِنَ الْمُنَاسِبَيْنِ بِالْآخَرِ وَجْهٌ.
قَوْلُهُ: «وَإِنِ ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ اسْتِقْلَالَ مَا ذَكَرَهُ مُنَاسِبًا كَفَى الْمُسْتَدِلَّ فِي جَوَابِهِ بَيَانُ رُجْحَانِ مَا ذَكَرَهُ هُوَ بِدَلِيلٍ أَوْ تَسْلِيمٍ» .
(3/538)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْنِي: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا عَارَضَ الْمُسْتَدِلَّ بِوَصْفٍ فِي الْأَصْلِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ اسْتِقْلَالَهُ بِالْحُكْمِ، بَلْ بِانْضِمَامِهِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ، كَالْحُرِّيَّةِ مَعَ الْإِسْلَامِ وَالتَّكْلِيفِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ؛ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَإِنِ ادَّعَى اسْتِقْلَالَهُ بِالْحُكْمِ كَوَصْفِ الرُّجُولِيَّةِ فِي الْمُرْتَدِّ، وَالطَّعْمِ مَعَ الْكَيْلِ فِي الرِّبَا؛ «كَفَى الْمُسْتَدِلَّ» فِي جَوَابِ الْمُعْتَرِضِ «بَيَانُ رُجْحَانِ مَا ذَكَرَهُ» أَعْنِي الْمُسْتَدِلَّ «بِدَلِيلٍ» يَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِهِ أَوْ بِتَسْلِيمٍ مِنَ الْمُعْتَرِضِ، وَلَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ عَدَمِ مُنَاسَبَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ رُجْحَانِ مَا ذَكَرَهُ هُوَ وَأَوْلَوِيَّتُهُ، وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ تَعْلِيلَ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ بِتَبْدِيلِ الدِّينِ أَرْجَحُ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِوَصْفِ الرُّجُولِيَّةِ، وَأَنَّ تَعْلِيلَ تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ بِالْكَيْلِ أَوِ الطَّعْمِ مَثَلًا، أَرْجَحُ مِنْ تَعْلِيلِهِ بِغَيْرِهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ بِطُرُقِهِ سَهْلٌ يَسِيرٌ.
قَوْلُهُ: «وَأَمَّا فِي الْفَرْعِ» . هَذَا أَحَدُ قِسْمَيِ الْمُعَارَضَةِ، وَهِيَ إِمَّا فِي الْأَصْلِ، وَإِمَّا فِي الْفَرْعِ.
قَوْلُهُ: «بِذِكْرِ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ، إِمَّا بِالْمُعَارَضَةِ بِدَلِيلٍ آكَدَ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ كَمَا سَبَقَ» .
أَيِ: الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ تَكُونُ بِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ دَلِيلٍ آكَدَ مِنْ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قِيَاسُهُ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ أَوِ الْإِجْمَاعَ. وَهَذَا هُوَ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ: رُكْنٌ مِنْ
(3/539)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَالسُّجُودِ، فَيَقُولُ لَهُ الْخَصْمَ: هَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: عِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالرَّفْعِ مِنْهُ» ، فَيَكُونُ قِيَاسُكَ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ. أَوْ يَقُولُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ، فَيَكُونُ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَقِيَاسُكَ عَلَى خِلَافِهِ، فَيَكُونُ فَاسِدَ الِاعْتِبَارِ.
قَوْلُهُ: «وَإِمَّا بِإِبْدَاءِ وَصْفٍ فِي الْفَرْعِ مَانِعٍ لِلْحُكْمِ فِيهِ أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ» .
هَذَا هُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي الَّذِي تَكُونُ بِهِ الْمُعَارَضَةُ، وَهُوَ أَنْ يُبْدِيَ الْمُعْتَرِضُ فِي فَرْعِ قِيَاسِ الْمُسْتَدِلِّ وَصْفًا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ، أَوْ يَمْنَعُ سَبَبِيَّةَ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ، أَيْ: يَمْنَعُ كَوْنَ وَصْفِهِ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ.
وَحَاصِلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُبَيِّنُ مَا يَمْنَعُ عِلَّةَ الْمُسْتَدِلِّ، أَوْ ثُبُوتَ الْحُكْمِ وَفَرْعِهِ.
مِثَالُ مَنْعِ الْحُكْمِ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ: رُكْنٌ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الْيَدِ كَالسُّجُودِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: رُكْنٌ، فَيُشْرَعُ فِيهِ رَفْعُ الْيَدِ كَالْإِحْرَامِ، فَقَدْ مَنَعَ الْحُكْمَ وَهُوَ عَدَمُ مَشْرُوعِيَّةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ، وَقَاسَهُ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْقَلْبِ، وَهُوَ نَوْعُ مُعَارَضَةٍ كَمَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ.
(3/540)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَثَالُ مَنْعِ السَّبَبِيَّةِ: أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْمُرْتَدَّةِ: بَدَّلَتْ دِينَهَا، فَتُقْتَلُ كَالرَّجُلِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: أُنْثَى، فَلَا تُقْتَلُ بِكُفْرِهَا، كَالْكَافِرَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ تَبْدِيلَ الدِّينِ لَيْسَ سَبَبًا لِقَتْلِ الْمَرْأَةِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمُتْلَفِ: مَالٌ مَمْلُوكٌ لِمَعْصُومٍ، فَيُضْمَنُ بِكَمَالِ قِيمَتِهِ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْأَلْفِ كَالْبَهِيمَةِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: إِنْسَانٌ مَعْصُومٌ، فَلَا يَزِيدُ بَدَلُهُ عَلَى الْأَلْفِ كَالْحُرِّ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ الْعِلَّةُ فِي ضَمَانِهِ كَوْنَهُ مَالًا بَلْ كَوْنَهُ إِنْسَانًا مَعْصُومًا، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ الْمُتَرَدِّدِ بَيْنَ أَصْلَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْعَ السَّبَبِيَّةِ أَعَمُّ مِنْ مَنْعِ الْحُكْمِ، لِأَنَّ مَنْعَ سَبَبِيَّةِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ قَدْ يَلْزَمُهُ مَنْعُ الْحُكْمِ بِأَنْ لَا يَكُونَ صَالِحًا لِإِثْبَاتِهِ إِلَّا هُوَ، وَلَا وَصْفَ الْمُعْتَرِضِ الَّذِي يُبْدِيهِ، وَقَدْ لَا يَلْزَمُهُ مَنْعُ الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْمُعْتَرِضِ صَالِحًا لِإِثْبَاتِهِ خَالَفَ الْوَصْفَ الْمُسْتَدِلَّ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ مَنَعَ الْحُكْمَ، احْتَاجَ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِهِ مَانِعًا إِلَى مِثْلِ طَرِيقِ الْمُسْتَدِلِّ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِهِ» فِي عِلَّتِهِ وَأَصْلِهِ وَقُوَّةِ عِلَّتِهِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مِثَالِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ حَيْثُ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ: رُكْنٌ فَلَا يَرْفَعُ فِيهِ الْيَدَيْنِ كَالسُّجُودِ، فَالسُّجُودُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ رُكْنٌ، وَالْعِلَّةُ وَصْفٌ شَبَهِيٌّ، وَهُوَ كَوْنُ الرُّكُوعِ رُكْنًا كَالسُّجُودِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: رُكْنٌ فَيَرْفَعُ فِيهِ الْيَدَيْنِ كَالْإِحْرَامِ، فَالْإِحْرَامُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ رُكْنٌ، وَالْعِلَّةُ أَيْضًا وَصْفٌ شَبَهِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَارِضَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَاوِمًا لِلْمُعَارَضِ - بِفَتْحِ الرَّاءِ - وَلَا يُقَاوِمُهُ إِلَّا إِذَا سَاوَاهُ فِي
(3/541)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْصَافِهِ الْخَاصَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَإِنْ مَنَعَ السَّبَبِيَّةَ، فَإِنْ بَقِيَ احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ مَعَهُ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ لَمْ يَضُرَّ الْمُسْتَدِلَّ لِإِلْفِنَا مِنَ الشَّرْعِ اكْتِفَاءَهُ بِالْمَظِنَّةِ وَمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الْحِكْمَةِ، فَيَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ إِلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ بِالِاعْتِبَارِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ، لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَصْلٍ، إِذْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ تَابِعٌ لِلْحِكْمَةِ وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهَا» .
يَعْنِي أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ، أَوْ يَمْنَعَ سَبَبِيَّةَ الْوَصْفِ الَّذِي عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ. وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَنْ يَبْقَى احْتِمَالُ حِكْمَةِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ مَعَ مَا أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ أَوْ لَا يَبْقَى، «فَإِنْ بَقِيَ احْتِمَالُ الْحِكْمَةِ» «وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ» ، أَيْ: وَلَوْ كَانَ احْتِمَالًا بَعِيدًا، لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ الْمُسْتَدِلَّ، لِأَنَّ احْتِمَالَ حِكْمَةِ وَصْفِهِ بَاقٍ، وَالْوَصْفُ مَظِنَّةٌ لَهُ، وَقَدْ أَلِفْنَا مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهُ يَكْتَفِي فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِوُجُودِ مَظِنَّتِهِ، وَمُجَرَّدِ وُجُودِ احْتِمَالِ حِكْمَتِهِ، وَهَذَا حَاصِلٌ، وَحِينَئِذٍ يَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ إِلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لِلْوَصْفِ الَّذِي أَبْدَاهُ بِالِاعْتِبَارِ حَتَّى يَقْوَى عَلَى إِبْطَالِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْسُوسِ: شَخْصٌ جَاءَ يُكَابِرُ شَخْصًا عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ دَارِهِ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ، وَبَقِيَ عِيَالُهُ وَرَحْلُهُ فِيهَا، فَيَحْتَاجُ الْمُكَابِرُ لَهُ إِلَى قَطْعِ عَلَائِقِهِ عَنْهَا بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ هُوَ مِنْهَا. أَوْ إِنْسَانٌ نَازَعَ شَخْصًا رَاكِبًا بَهِيمَةً عَلَى أَخْذِهَا مِنْهُ، فَأَنْزَلَهُ عَنْهَا، وَبَقِيَ خُرْجُهُ عَلَيْهَا، أَوْ مِقْوَدُهَا فِي يَدِهِ، فَيَحْتَاجُ الْمُنَازِعُ إِلَى إِلْقَاءِ خُرْجِهِ عَنْهَا، أَوْ فَكِّ مِقْوَدِهَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوِيَا بِالنِّسْبَةِ
(3/542)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَيْهَا، وَإِلَّا فَمَا دَامَ لِرَاكِبِهَا بِهَا عَلَقَةٌ كَانَ أَحَقَّ بِهَا، فَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ إِذَا عُورِضَ، وَبَقِيَتْ حِكْمَتُهُ، كَانَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُعْتَرِضُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ وَصْفِهِ، فَيَسْتَوِيَانِ حِينَئِذٍ فِي الِاعْتِبَارِ أَوِ السُّقُوطِ.
وَمِثَالُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ فِي النَّبِيذِ: مُسْكِرٌ فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِتَحْرِيمِهِ أَوْ: غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَلَا يَحْرُمُ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ، فَيُقَالُ لَهُ: الْحِكْمَةُ فِي الْإِسْكَارِ بَاقِيَةٌ عَلَى مَا لَا يَخْفَى، وَالْمُسْكِرُ مَظِنَّةٌ لَهَا، وَذَلِكَ كَافٍ فِي ثُبُوتِ التَّحْرِيمِ عَمَلًا بِوُجُودِ الْمَظِنَّةِ حَتَّى تَأْتِيَ أَنْتَ أَيُّهَا الْمُعْتَرِضُ بِشَاهِدٍ عَلَى اعْتِبَارِ وَصْفِكَ وَهُوَ أَنَّ مَا لَيْسَ مَقْطُوعًا بِتَحْرِيمِهِ، أَوْ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ لَا يَكُونُ حَرَامًا. وَإِنْ لَمْ تَبْقَ حِكْمَةُ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ مَعَ مَا أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ، لَمْ يَحْتَجْ - يَعْنِي الْمُعْتَرِضَ - إِلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ بِالِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ تَابِعٌ لِبَقَاءِ الْحِكْمَةِ، لِأَنَّهَا الْمَقْصُودُ بِهِ، وَهُوَ وَسِيلَةٌ إِلَيْهَا، وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاؤُهَا، وَمَعَ انْتِفَاءِ الْمَقْصُودِ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْوَسِيلَةِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَسْأَلَةُ ضَمَانِ الْعَبْدِ وَنَظَائِرُهَا مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ، فَإِنَّ الْأَشْبَاهَ قَدْ تَتَعَادَلُ، فَلَا تَبْقَى حِكْمَةُ شُبَهِ الْمُسْتَدِلِّ، كَمَا إِذَا قَالَ: مَالٌ لِمَعْصُومٍ، فَيُضْمَنُ بِكَمَالِ قِيمَتِهِ كَالْبَهِيمَةِ، فَالْحِكْمَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، وَهُوَ تَحْصِيلُ الْعَدْلِ بِجَبْرِ مَا فَاتَ مِنْ مَالِ الْمَالِكِ بِقِيمَةِ الْفَائِتِ، فَإِذَا قَالَ الْمُعْتَرِضُ: إِنْسَانٌ مَعْصُومٌ، فَلَا يَزِيدُ بَدَلُهُ عَلَى الْأَلْفِ كَالْحُرِّ؛ كَانَتْ هَذِهِ حِكْمَةً مُقَاوِمَةً، أَوْ مُقَارِبَةً لِلْأُولَى
(3/543)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ بَدَلَ الْإِنْسَانِ الْمَعْصُومِ أَلْفًا، فَالزَّائِدُ عَلَيْهِ افْتِئَاتٌ عَلَيْهِ، فَطَعَنَ فِي حِكْمَتِهِ، وَهَذَا إِنْسَانٌ مَعْصُومٌ، فَلَا يَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ هَهُنَا إِلَى أَصْلٍ يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ بِالِاعْتِبَارِ لِمُقَاوَمَتِهِ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ بِنَفْسِهِ، لَكِنْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُرَجِّحَ وَصْفَهُ عَلَى وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ بِأَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتَهُ مُتَّجِهٌ، لَكِنْ مَا ذَكَرْتُهُ أَنَا أَرْجَحُ، لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي بَابِ الضَّمَانِ وَالْإِتْلَافِ أَشْبَهُ بِالْبَهِيمَةِ مِنْهُ بِالْحُرِّ، لِأَنَّ شِبْهَ الْمَالِيَّةِ فِيهِ أَمْكَنُ مِنْ شِبْهِ الْحُرِّيَّةِ لِثُبُوتِ أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ فِيهِ مِنْ وُرُودِ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ وَنَحْوِهَا عَلَيْهِ، وَأَحْكَامُ الْأَحْرَارِ لَا يَتَثَبَّتُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَّا قَلِيلٌ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، فَكَانَ بِالْمَالِ أَشْبَهَ، فَأُلْحِقَ بِهِ فِي الضَّمَانِ بِقِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ.
قَوْلُهُ: «وَفِي الْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ يَنْقَلِبُ الْمُعْتَرِضُ مُسْتَدِلًّا عَلَى إِثْبَاتِ الْمُعَارَضَةِ، وَالْمُسْتَدِلُّ مُعْتَرِضًا عَلَيْهَا بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ» .
قُلْتُ: وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ هِيَ الْمُقَابَلَةُ عَلَى جِهَةٍ، وَالْمُمَانِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَانِعٌ لِمَقْصُودِ خَصْمِهِ، مُثْبِتٌ لِمَقْصُودِهِ هُوَ، فَإِذًا لِلْمُعَارَضَةِ جِهَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: جِهَةُ مَنْعِ مَقْصُودِ الْمُسْتَدِلِّ فَيَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ فِيهَا إِلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْمَنْعِ بِالدَّلِيلِ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَدِلَّ الْحَنْبَلِيُّ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ: بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ، فَتَشْرَبُ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: مَا ذَكَرْتَ مِنَ
(3/544)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدَّلِيلِ وَإِنْ دَلَّ؛ غَيْرَ أَنَّ عِنْدِي مَانِعًا يُعَارِضُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْهِرَّةُ سَبُعٌ، فَعَمِلْتُ بِحَدِيثِ الْإِصْغَاءِ فِي الطَّهَارَةِ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الْكَرَاهَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا.
الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ لِلْمُعَارَضَةِ: إِثْبَاتُ مَطْلُوبِ الْمُعْتَرِضِ كَمَا ذُكِرَ مِنْ إِثْبَاتِ كَرَاهِيَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ، فَهُوَ مِنَ الْجِهَةِ الْأُولَى مَانِعٌ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ مُسْتَدِلٌّ، فَبِالضَّرُورَةِ يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى أَنْ يَنْقَلِبَ مُعْتَرِضًا عَلَى اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَرِضِ، لِيَسْلَمَ لَهُ دَلِيلُهُ، فَيَعْتَرِضُ عَلَيْهِ بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى النَّصِّ، أَوِ الْقِيَاسِ مِمَّا سَبَقَ، فَيَقُولُ هَهُنَا: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ. سَلَّمْنَاهُ؛ لَكِنَّ السَّبُعِيَّةَ فِيهِ لَيْسَتْ حَقِيقَةً، بَلْ مَجَازًا شَبَهِيًّا صُورِيًّا، كَمَا يُقَالُ لِلطَّوِيلِ:
(3/545)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَخْلَةٌ، لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الطُّولِ، وَلِلْمُعْتَدِلِ وَلِلْقَدِّ: رُمْحٌ لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي الِاعْتِدَالِ وَالِاهْتِزَازِ. سَلَّمْنَاهُ؛ لَكِنْ حَدِيثُنَا أَصَحُّ وَأَثْبَتُ، فَيُرَجَّحُ، وَالْمَرْجُوحُ مَعَ الرَّاجِحِ عَدَمٌ فِي الْحُكْمِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ عَلَى النَّصِّ.
وَإِنْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ قِيَاسًا؛ اعْتَرَضَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِأَسْئِلَةِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورَةِ لِلِاسْتِفْسَارِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْمَنْعِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَسْئِلَةِ عَلَى مَا شُرِحَ فِيهَا.
وَأَصْلُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُعَارَضَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَدِلِّ كَالدَّلِيلِ الِابْتِدَائِيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعْتَرِضِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُسْتَدِلًّا مُعْتَرِضًا مِنْ جِهَتَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ مُنْكِرٌ مِنْ جِهَتَيْنِ.
وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّهَا بِنَاءٌ مِنَ الْمُعْتَرِضِ، إِذْ هِيَ تَقْرِيرُ دَلِيلٍ فِي حُكْمِ الْمُسْتَأْنَفِ، وَوَظِيفَةُ الْمُعْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا لِمَا يَذْكُرُهُ الْمُسْتَدِلُّ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ خِلَافُ وَظِيفَتِهِ، كَمَا لَوْ غَصَبَ الْمُسْتَدِلُّ مَنْصِبَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا سُؤَالٌ مَقْبُولٌ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِنَاءً فَهِيَ بِنَاءٌ بِالْعَرْضِ، وَهِيَ بِالذَّاتِ هَدْمٌ لِمَا بَنَاهُ الْمُسْتَدِلُّ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، فَأَشْبَهَتِ الْمَنْعَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/546)
________________________________________
الْعَاشِرُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ، وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الدَّلِيلُ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، إِمَّا لِطَرْدِيَّتِهِ نَحْوَ: صَلَاةٌ لَا تُقْصَرُ، فَلَا يُقَدَّمُ أَذَانُهَا عَلَى الْوَقْتِ، كَالْمَغْرِبِ، إِذْ بَاقِي الصَّلَوَاتِ تُقْصَرُ، فَلَا يُقَدَّمُ أَذَانُهَا عَلَى الْوَقْتِ، أَوْ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِهِ، نَحْوَ: مَبِيعٌ لَمْ يَرَهُ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، فَإِنَّ بَيْعَ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ رُؤِيَ، نَعَمْ إِنْ أَشَارَ بِذِكْرِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ إِلَى خُلُوِّ الْفَرْعِ مِنَ الْمَانِعِ، أَوِ اشْتِمَالِهِ عَلَى شَرْطِ الْحُكْمِ دَفْعًا لِلنَّقْضِ، جَازَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَإِنْ أَشَارَ الْوَصْفُ إِلَى اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ بِبَعْضِ صُوَرِ الْحُكْمِ، جَازَ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْفُتْيَا عَامَّةً، وَإِنْ عَمَّتْ، لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ وَفَاءِ الدَّلِيلِ الْخَاصِّ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْعَامِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «الْعَاشِرُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ» .
اعْلَمْ أَنَّ التَّأْثِيرَ هُوَ إِفَادَةُ الْوَصْفِ أَثَرَهُ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْهُ، فَهُوَ عَدَمُ التَّأْثِيرِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الدَّلِيلُ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، إِمَّا لِطَرْدِيَّتِهِ» ، «أَوْ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِهِ» .
يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ: هُوَ ذِكْرُ وَصْفٍ، أَوْ أَكْثَرَ تَسْتَغْنِي عَنْهُ الْعِلَّةُ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ، إِمَّا لِكَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ طَرْدِيًّا لَا يُنَاسِبُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ، أَوْ لِكَوْنِ الْحُكْمِ ثَبَتَ بِدُونِهِ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ مَا عُدِمَ تَأْثِيرُهُ لِكَوْنِهِ طَرْدِيًّا: قَوْلُ الْقَائِلِ فِي أَنَّ الْفَجْرَ لَا يُقَدَّمُ أَذَانُهَا عَلَى الْوَقْتِ: «صَلَاةٌ لَا تُقْصَرُ، فَلَا يُقَدَّمُ أَذَانُهَا عَلَى الْوَقْتِ، كَالْمَغْرِبِ» ، وَذَلِكَ، لِأَنَّ «بَاقِيَ الصَّلَوَاتِ تُقْصَرُ» ، وَلَا يُقَدَّمُ أَذَانُهَا عَلَى وَقْتِهَا،
(3/547)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَبَقِيَ قَوْلُهُ: لَا تُقْصَرُ؛ وَصْفًا طَرْدِيًّا، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِتَقْدِيمِ الْأَذَانِ عَلَى الْوَقْتِ، وَلَا عَدَمِهِ.
وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا: أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ اقْتَضَى تَعْلِيلَ عَدَمِ تَقْدِيمِ الْأَذَانِ بِعَدَمِ الْقَصْرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يُقَدَّمُ الْأَذَانُ عَلَى الْفَجْرِ، لِأَنَّهَا لَا تُقْصَرُ، وَاطَّرَدَ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَنْعَكِسْ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، إِذْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَا يُقْصَرُ مِنَ الصَّلَوَاتِ يَجُوزُ تَقْدِيمُ أَذَانِهِ عَلَى وَقْتِهِ مِنْ حَيْثُ انْعِكَاسِ الْعِلَّةِ، لَكِنِ الْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، لَكِنْ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى عَكْسِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ، وَإِذَا أُلْغِيَ قَوْلُهُ: لَا تُقْصَرُ؛ لَمْ يَبْقَ لِاخْتِصَاصِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ - وَهُوَ الْمَغْرِبُ - وَجْهٌ، إِذْ كُلُّ الصَّلَوَاتِ لَا يُقَدَّمُ أَذَانُهَا.
وَمِثَالُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الدَّلِيلُ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِدُونِهِ: قَوْلُهُ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: «مَبِيعٌ لَمْ يَرَهُ» الْعَاقِدُ، «فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ» ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ هَهُنَا عَدِيمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ بَيْعُ الطَّيْرِ، لِأَنَّ «بَيْعَ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ مَمْنُوعٌ» ، أَيْ: لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا. وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ هَهُنَا مِنْ جِهَةِ الْعَكْسِ كَمَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ تَعْلِيلَ عَدَمِ صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَرْئِيٍّ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَرْئِيٍّ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَقَدْ بَطَلَ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ.
وَذَكَرَ النِّيلِيُّ هَذَا الْمِثَالَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَقَالَ: مَبِيعٌ لَمْ يَرَهُ فَلَا يَصِحُّ، كَمَا إِذَا بَاعَ مَيْتَةً لَمْ يَرَهَا، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّظْمِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ فِي بَيْعِ الْمَيْتَةِ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ، إِذْ نَجَاسَتُهَا تَسْتَقِلُّ بِالْبُطْلَانِ كَمَا أَنَّ الْغَرَرَ فِي
(3/548)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ يَسْتَقِلُّ بِالْبُطْلَانِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: قَوْلُ الْمُسْتَدِلِّ: مَسَّ ذَكَرَهُ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ، كَمَا لَوْ مَسَّ وَبَالَ، فَإِنَّ مَسَّ الذَّكَرِ مَعَ الْبَوْلِ عَدِيمُ التَّأْثِيرِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ إِجْمَاعًا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوَّلَ يُسَمَّى عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ، لِأَنَّ الْوَصْفَ طَرْدِيٌّ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ، كَقَوْلِهِ: صَلَاةٌ لَا تُقْصَرُ، وَالثَّانِي يُسَمَّى عَدَمَ التَّأْثِيرِ، كَعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِي بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ لِاسْتِغْنَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي ثُبُوتِهِ عَنْهُ.
وَقَدْ يَكُونُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ لِعَدَمِ اطِّرَادِ الْوَصْفِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ النِّزَاعِ، وَيُسَمَّى عَدَمَ التَّأْثِيرِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعَ، وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ يَرْجِعُ إِلَى سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ بِالْعِلَّةِ، وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ يَرْجِعُ إِلَى سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ، لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُلْغِي مِنَ الْعِلَّةِ وَصْفًا، ثُمَّ يُعَارِضُ الْمُسْتَدِلَّ بِمَا بَقِيَ. وَالثَّالِثُ يَرْجِعُ إِلَى مَنْعِ الْفَرْضِ فِي الدَّلِيلِ وَتَحْقِيقِهِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ.
قَوْلُهُ: «نَعَمْ إِنْ أَشَارَ - يَعْنِي الْمُسْتَدِلَّ - بِذِكْرِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ إِلَى خُلُوِّ الْفَرْعِ مِنَ الْمَانِعِ، أَوِ اشْتِمَالِهِ عَلَى شَرْطِ الْحُكْمِ دَفْعًا لِلنَّقْضِ، جَازَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ» .
مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ فِي الدَّلِيلِ إِنَّمَا يَكُونُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ إِذَا لَمْ يُفِدْ فَائِدَةً أَصْلًا، أَمَّا إِذَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ، دَفَعَ النَّقْضَ بِأَنْ يُشِيرَ إِلَى أَنَّ الْفَرْعَ خَالٍ مِمَّا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ، أَوْ إِلَى اشْتِمَالِ الْفَرْعِ عَلَى شَرْطِ الْحُكْمِ، فَلَا يَكُونُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ: صَوْمٌ مَفْرُوضٌ، فَافْتَقَرَ
(3/549)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَى التَّبْيِيتِ قِيَاسًا عَلَى الْقَضَاءِ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مَفْرُوضًا يَتَحَقَّقُ بِهِ شَرْطُ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ صَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنَّهُ خَالٍ مِمَّا يَمْنَعُ ثُبُوتَ التَّبْيِيتِ فِيهِ، وَيَنْدَفِعُ بِهِ النَّقْضُ بِالنَّفْلِ، إِذْ لَوْ قَالَ: صَوْمٌ، فَافْتَقَرَ إِلَى التَّبْيِيتِ، لَانْتَقَضَ بِالنَّفْلِ، لِأَنَّهُ صَوْمٌ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّبْيِيتِ، مَعَ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الصَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَبْيِيتِ النِّيَّةِ طَرْدِيٌّ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ لَهُ.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ، بَلْ وَجْهُ الْمُنَاسِبِ أَنَّ النِّيَّةَ تُمَيِّزُ الْعِبَادَةَ مِنَ الْعِبَادَةِ، وَالْفَرْضَ مِمَّا يَشْتَدُّ اهْتِمَامُ الشَّرْعِ بِهِ، فَنَاسَبَ اعْتِبَارَ التَّبْيِيتِ، لِتَمْيِيزِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ عَنِ الْعِبَادَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهَا، بِخِلَافِ النَّفْلِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ الِاهْتِمَامَ بِهِ دُونَ الِاهْتِمَامِ بِالْفَرْضِ.
قَوْلُهُ: «وَإِنْ أَشَارَ الْوَصْفُ إِلَى اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ بِبَعْضِ صُوَرِ الْحُكْمِ، جَازَ إِنْ لَمْ تَكُنِ الْفُتْيَا عَامَّةً، وَإِنْ عَمَّتْ لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ وَفَاءِ الدَّلِيلِ الْخَاصِّ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْعَامِّ» .
يَعْنِي أَنَّ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ إِذَا أَشَارَ إِلَى اخْتِصَاصِ الْحُكْمِ بِبَعْضِ صُوَرِهِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ فُتْيَاهُ - يَعْنِي جَوَابَهُ - عَامًّا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ عَامًّا لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْخَاصَّ لَا يَفِي بِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْعَامِّ.
مِثَالُهُ: مَا إِذَا قِيلَ لِلْمَالِكِيِّ: هَلْ يَجُوزُ أَنْ تُزَوِّجَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ عَامَّةَ النَّاسِ أَكْفَاءٌ لَهَا، فَلَا يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى لُحُوقِ النَّقْصِ وَالْعَارِ بِهَا غَالِبًا، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا وَلَيُّهَا، فَإِنَّ الْعِلَّةَ هَهُنَا تُشِيرُ إِلَى اخْتِصَاصِ جَوَازِ ذَلِكَ بِالدَّنِيَّةِ مِنَ النِّسَاءِ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، لِأَنَّ جَوَابَهُ بِجَوَازِ تَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا خَرَجَ عَامًّا، فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الدَّنِيَّةِ وَالشَّرِيفَةِ، وَتَعْلِيلُهُ خَاصٌّ
(3/550)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالدَّنِيَّةِ، وَالْجَوَابُ الْعَامُّ لَا يَحْصُلُ بِالتَّعْلِيلِ الْخَاصِّ.
وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْفُتْيَا عَامَّةً، كَمَا لَوْ قَالَ: يَجُوزُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ النِّسَاءِ، أَوْ يَجُوزُ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَّلَ بِالتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ؛ جَازَ ذَلِكَ وَأَفَادَ جَوَازَ فَرْضِ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ صُوَرِ السُّؤَالِ وَهُوَ جَوَازُ تَزْوِيجِ الدَّنِيَّةِ نَفْسَهَا دُونَ الشَّرِيفَةِ فَرْقًا بَيْنَهُمَا، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: «وَإِنْ أَشَارَ الْوَصْفُ» ؛ هَلِ اللَّامُ فِيهِ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ لِلْعَهْدِ؟ إِنْ قُلْنَا: لِلِاسْتِغْرَاقِ، كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا، وَكَانَ حَاصِلُهَا أَنَّ التَّعْلِيلَ الْخَاصَّ بِبَعْضِ صُوَرِ الْحُكْمِ لَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ جَوَابُ الْمُعَلِّلِ عَامًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا، جَازَ وَأَفَادَ جَوَازَ فَرْضِ الدَّلِيلِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ الْفَرْضِ فِيهِ كَمَا قُرِّرَ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْخِلَافِ، وَإِنْ قُلْنَا: اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ، كَانَ الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ هُوَ الْمَعْهُودَ السَّابِقَ وَهُوَ الْعَدِيمُ التَّأْثِيرِ، وَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ الْوَصْفَ الْعَدِيمَ التَّأْثِيرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ دَافِعًا لِلنَّقْضِ كَمَا سَبَقَ لَكِنَّهُ أَفَادَ فَرْضَ الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، جَازَ ذِكْرُهُ أَيْضًا.
وَمَثَّلَهُ النِّيلِيُّ بِمَا إِذَا قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي الْمُرْتَدِّينَ: طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَلَا يَضْمَنُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِتْلَافِ، كَالْحَرْبِيِّ إِذَا أَتْلَفَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَوْلُهُ: فِي دَارِ الْحَرْبِ، لَا أَثَرَ لَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْحُكْمِ، وَلَا مَانِعِهِ وَشَرْطِهِ، إِذِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يَضْمَنُ مَالَ الْمُسْلِمِ، سَوَاءٌ أَتْلَفَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا أَفَادَ قَوْلُهُ: فِي دَارِ الْحَرْبِ، تَخْصِيصَ الدَّلِيلِ، وَفَرْضُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ فَرْضِ الدَّلِيلِ.
(3/551)
________________________________________
الْحَادِي عَشَرَ: تَرْكِيبُ الْقِيَاسِ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ الْمَذْكُورِ قَبْلُ، نَحْوَ قَوْلِهِ فِي الْبَالِغَةِ: أُنْثَى، فَلَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا، كَابْنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ، إِذِ الْخَصْمُ يَمْنَعُ تَزْوِيجَهَا نَفْسَهَا لِصِغَرِهَا لَا لِأُنُوثَتِهَا، فَفِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ خِلَافٌ.
الْإِثْبَاتُ، إِذْ أَصْلُهُ النِّزَاعُ فِي الْأَصْلِ فَيُثْبِتُهُ، وَيُبْطِلُ مَأْخَذَ الْخَصْمِ فِيهِ، وَقَدْ ثَبَتَ مُدَّعَاهُ.
وَالنَّفْيُ، لِأَنَّهُ فِرَارٌ عَنْ فِقْهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى مِقْدَارِ سِنِّ الْبُلُوغِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السُّؤَالُ «الْحَادِي عَشَرَ: تَرْكِيبُ الْقِيَاسِ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ» ، يَعْنِي مَذْهَبَ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ، «وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ الْمَذْكُورُ قَبْلُ» ، يَعْنِي عِنْدَ ذِكْرِ شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَأَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَمَثَّلْنَاهُ بِقَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ: الْعَبْدُ مَنْقُوصٌ بِالرِّقِّ، فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ كَالْمُكَاتَبِ.
وَمِثَالُهُ هَهُنَا: أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْمَرْأَةِ الْبَالِغَةِ: «أُنْثَى، فَلَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا» بِغَيْرِ وَلِيٍّ «كَابْنَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ» سَنَةً.
قَوْلُهُ: «إِذِ الْخَصْمُ» ، إِلَى آخِرِهِ، هَذَا كَالتَّفْسِيرِ وَالشَّرْحِ، لِكَوْنِ الْقِيَاسِ مُرَكَّبًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَصْمَ - وَهُوَ الْحَنَفِيُّ - «يَمْنَعُ تَزْوِيجَهَا» ، أَيْ: تَزْوِيجَ بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً «لِصِغَرِهَا، لَا لِأُنُوثَتِهَا» ، أَيْ: لِكَوْنِهَا صَغِيرَةً لَا لِكَوْنِهَا أُنْثَى فَاخْتَلَفَتِ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا اتَّفَقَ صِحَّةُ هَذَا الْقِيَاسِ لِاجْتِمَاعِ عِلَّةِ
(3/552)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْخَصْمَيْنِ فِيهِ، فَتَرَكَّبَ مِنْهُمَا.
وَتَحْقِيقُ التَّرْكِيبِ هَهُنَا: هُوَ أَنْ يَتَّفِقَ الْخَصْمَانِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَيَخْتَلِفَانِ فِي عِلَّتِهِ، فَإِذَا أَلْحَقَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ الْأَصْلِ فَرْعًا بِغَيْرِ عِلَّةِ صَاحِبِهِ، فَالْقِيَاسُ مُنْتَظِمٌ، لَكِنْ بِنَاءً عَلَى تَرْكِيبِ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ عِلَّتَيْنِ.
مِثَالُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ: أَنَّ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَعْتَقِدَانِ أَنَّ بِنْتَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا لِأُنُوثَتِهَا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا لِصِغَرِهَا، إِذِ الْجَارِيَةُ إِنَّمَا تَبْلُغُ عِنْدَهُ لِتِسْعَ عَشْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لِثَمَانِي عَشْرَةَ كَالْغُلَامِ، فَالْعِلَّتَانِ مَوْجُودَةٌ فِيهَا، وَالْحُكْمُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ. فَإِذَا قَالَ الْحَنْبَلِيُّ فِي الْبَالِغَةِ: أُنْثَى فَلَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا كَبِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ انْتَظَمَ الْقِيَاسُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَرْكِيبِ حُكْمِ الْأَصْلِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ، وَاسْتِنَادِهِ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهُمَا إِلَى عِلَّتِهِ. وَلِهَذَا جَازَ لِأَحَدِهِمَا مَنْعُ صِحَّةِ الْقِيَاسِ لِاخْتِلَافِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ هَهُنَا لِلْمُسْتَدِلِّ: أَنْتَ عَلَّلْتَ الْمَنْعَ فِي الْبَالِغَةِ بِالْأُنُوثَةِ، وَالْمَنْعُ فِي بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ عِنْدِي مُعَلَّلٌ بِالصِّغَرِ، فَمَا اتَّفَقَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِلْحَاقُ.
قَوْلُهُ: «فَفِي صِحَّةِ التَّمَسُّكِ بِهِ خِلَافٌ» ، هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟
قَوْلُهُ: «الْإِثْبَاتُ» ؛ بَدَلٌ مِنْ «خِلَافٌ» ، وَ «النَّفْيُ» بَعْدَهُ عَطْفٌ عَلَيْهِ. أَيْ: فِي ذَلِكَ خِلَافٌ: الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ، أَيْ: أَثْبَتَ صِحَّةَ التَّمَسُّكِ بِهِ قَوْمٌ، وَنَفَاهُ آخَرُونَ.
حُجَّةُ الْإِثْبَاتِ: أَنَّ حَاصِلَ سُؤَالِ التَّرْكِيبِ يَرْجِعُ إِلَى النِّزَاعِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي عِلَّتِهِ، كَالنِّزَاعِ فِي حُكْمِهِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَجُوزُ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَإِذَا مَنَعَهُ الْمُعْتَرِضُ، أَثْبَتَهُ الْمُسْتَدِلُّ بِطَرِيقِهِ، وَصَحَّ قِيَاسُهُ، فَهَهُنَا كَذَلِكَ يُثْبِتُ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ هِيَ الْأُنُوثَةُ، وَيُحَقِّقُهَا فِي الْفَرْعِ، وَهِيَ الْبَالِغَةُ، وَيُبْطِلُ مَأْخَذَ الْخَصْمِ وَهُوَ تَعْلِيلُهُ فِي بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ
(3/553)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالصِّغَرِ. وَقَدْ ثَبَتَ مُدَّعَاهُ، وَصَحَّ قِيَاسُهُ، وَهُوَ أَنَّ الْبَالِغَةَ أُنْثَى، فَلَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا كَبِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ.
حُجَّةُ النَّفْيِ: «أَنَّهُ فِرَارٌ عَنْ فِقْهِ الْمَسْأَلَةِ» الْمُنَازَعِ فِيهَا «إِلَى» النِّزَاعِ فِي «مِقْدَارِ سِنِّ الْبُلُوغِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى» فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْخَصْمَيْنِ جَمِيعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى أَنَّ الْبَالِغَةَ تَسْتَقِلُّ بِتَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا، وَقِيَاسُهُ عَلَى بِنْتِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً أَفْضَى إِلَى النِّزَاعِ فِي أَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ فِيهَا الْأُنُوثَةُ، أَوِ الصِّغَرُ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهَا بَالِغَةٌ أَوْ صَغِيرَةٌ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ خَمْسَ عَشْرَةَ هِيَ سِنُّ الْبُلُوغِ أَمْ لَا؟ وَهَذَا انْتِقَالٌ عَنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ بِوَاسِطَتَيْنِ فَلَا يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ «وَالْأَوَّلُ أَوْلَى» أَيْ: صِحَّةُ التَّمَسُّكِ بِهَذَا الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ لِمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا. وَإِذَا ثَبَتَ صِحَّةُ التَّمَسُّكِ بِهِ، صَحَّ سُؤَالُ التَّرْكِيبِ عَلَيْهِ، وَلَزِمَ الْمُسْتَدِلَّ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِبْطَالِ مَأْخَذِهِ فِي الْأَصْلِ، وَتَحْقِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَرْعِ بِعِلَّتِهِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِبُطْلَانِ التَّمَسُّكِ بِالْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ لَا يُتَصَوَّرُ سُؤَالُ التَّرْكِيبِ، لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَلَى قِيَاسٍ بَاطِلٍ، وَفَرْعُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/554)
________________________________________
الثَّانِي عَشَرَ: الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ، وَهُوَ: تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ مَنْعِ الْمَدْلُولِ، أَوْ تَسْلِيمُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَعَ دَعْوَى بَقَاءِ الْخِلَافِ، وَهُوَ آخِرُ الْأَسْئِلَةِ، وَيَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ بِفَسَادِهِ، وَالْمُسْتَدِلُّ بِتَوْجِيهِهِ، إِذْ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ النِّزَاعُ فِيهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«الثَّانِي عَشَرَ: الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ» . بِفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ: الْقَوْلُ بِمَا أَوْجَبَهُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ، أَمَّا الْمُوجِبُ بِكَسْرِهَا، فَهُوَ الدَّلِيلُ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» - يَعْنِي الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ - «تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ مَنْعِ الْمَدْلُولِ، أَوْ تَسْلِيمُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَعَ دَعْوَى بَقَاءِ الْخِلَافِ» .
هَذَا عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ فِي تَعْرِيفِهِ، أَيْ: بِأَيِّ هَذَيْنِ التَّعْرِيفَيْنِ عُرِّفَ حَصَلَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ مِنْهُ، لَكِنَّ التَّعْرِيفَ الثَّانِيَ أَحَقُّ، لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْخَصْمِ إِنَّمَا هُوَ لِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَمُوجِبِهِ، لَا لِنَفْسِ الدَّلِيلِ، إِذِ الدَّلِيلُ لَيْسَ مُرَادًا لِذَاتِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا إِذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ أَتَى حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ: يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَدُّ، لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ، فَكَانَ جَائِزًا، فَيَقُولُ الْحَنْبَلِيُّ أَوِ الْحَنَفِيُّ: أَنَا قَائِلٌ بِمُوجِبِ دَلِيلِكَ، وَأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ جَائِزٌ، وَإِنَّمَا أُنَازِعُ فِي جَوَازِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ، وَلَيْسَ فِي دَلِيلِكَ مَا يَقْتَضِي جَوَازَهُ، فَهَذَا قَدْ سَلَّمَ لِلْمُسْتَدِلِّ مُقْتَضَى دَلِيلِهِ وَهُوَ جَوَازُ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، وَادَّعَى بَقَاءَ الْخِلَافِ فِي شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ هَتْكُ حُرْمَةِ الْحَرَمِ.
(3/555)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَهُوَ» - يَعْنِي الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ - «آخِرُ الْأَسْئِلَةِ» الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُهَا، «وَيَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ بِفَسَادِهِ وَالْمُسْتَدِلُّ بِتَوْجِيهِهِ» . أَيْ: إِذَا فَسَدَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ، انْقَطَعَ الْمُعْتَرِضُ، إِذْ بِفَسَادِهِ يَثْبُتُ دَلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ سَالِمًا عَنْ مُعَارِضٍ، وَإِذَا صَحَّ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ وَتَوَجَّهَ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ صَحِيحًا، انْقَطَعَ لِأَنَّ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ دَلِيلَهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَحَلَّ النِّزَاعِ، كَمَا لَوِ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ فِيهَا بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ؛ قِيلَ لَهُ: سَلَّمْنَا دَلَالَتَهَا عَلَى التَّوْحِيدِ لَكِنْ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَتَبْقَى دَعْوَاهُ خَالِيَةً عَنْ دَلِيلٍ، فَتَبْطُلُ، فَيَنْقَطِعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الْبَقَرَةُ: 111] .
قَوْلُهُ: «إِذْ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ النِّزَاعُ فِيهِمَا» .
هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمُوجَبِ آخِرُ الْأَسْئِلَةِ، وَأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَنْقَطِعُ بِفَسَادِهِ، وَأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَنْقَطِعُ بِتَوْجِيهِهِ، لِأَنَّ فِي الْقَوْلِ بِمُوجَبِ الدَّلِيلِ تَسْلِيمُ عِلَّتِهِ وَحُكْمِهِ، وَبَعْدَ تَسْلِيمِ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ لَا يَجُوزُ النِّزَاعُ فِيهِمَا، فَيَكُونُ آخِرَ الْأَسْئِلَةِ. ثُمَّ إِنِ اسْتَقَرَّ، انْقَطَعَ الْمُسْتَدِلُّ، وَإِنْ أَجَابَ عَنْهُ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ بَعْدُ، انْقَطَعَ الْمُعْتَرِضُ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(3/556)
________________________________________
وَمَوْرِدُهُ: إِمَّا النَّفْيُ، نَحْوَ قَوْلِهِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ: إِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، كَالتَّفَاوُتِ فِي الْقَتْلِ، فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: سَلَّمْتُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمَانِعِ ثُبُوتُ الْقِصَاصِ، بَلْ مِنْ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ أَيْضًا، فَأَنَا أُنَازِعُ فِيهِ.
وَجَوَابُهُ بِبَيَانِ لُزُومِ حُكْمِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مِمَّا ذَكَرَهُ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ بِأَنَّ النِّزَاعَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ بِإِقْرَارٍ، أَوِ اشْتِهَارٍ، وَنَحْوِهِ. وَإِمَّا الْإِثْبَاتُ، نَحْوَ: الْخَيْلُ حَيَوَانٌ يُسَابَقُ عَلَيْهِ، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْإِبِلِ، فَيَقُولُ: نَعَمْ زَكَاةُ الْقِيمَةِ.
وَجَوَابُهُ، بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي زَكَاةِ الْعَيْنِ، وَقَدْ عَرَّفْنَا الزَّكَاةَ بِاللَّامِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَفِي لُزُومِ الْمُعْتَرِضِ إِبْدَاءُ مُسْتَنَدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ خِلَافُ الْإِثْبَاتِ، لِئَلَّا يَأْتِيَ بِهِ نَكَدًا وَعِنَادًا؛ وَالنَّفْيُ، إِذْ بِمُجَرَّدِهِ يَبِينُ عَدَمُ لُزُومِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ مِمَّا ذَكَرَهُ، وَالْأُولَى أَوْلَى، وَيَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ بِإِيرَادِهِ عَلَى وَجْهٍ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ، إِذْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فَهُوَ كَالتَّسْلِيمِ، نَحْوَ: الْخَلُّ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، فَلَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ كَالْمَرَقِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: أَقُولُ بِهِ، إِذِ الْخَلُّ النَّجِسُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ الْخَلُّ الطَّاهِرُ، إِذِ النَّجِسُ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ إِزَالَتِهِ، فَهُوَ كَالنَّقْضِ الْعَامِّ، كَالْعَرَايَا عَلَى عِلَّةِ الرِّبَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَمَوْرِدُهُ إِمَّا النَّفْيُ "، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَمَوْرِدُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ: الْمَحَلُّ الَّذِي يَرِدُ فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ مِنَ الدَّعَاوَى، " إِمَّا النَّفْيُ "، أَوِ " الْإِثْبَاتُ " أَيْ: دَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ الَّتِي يَرِدُ عَلَيْهَا الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ
(3/557)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَافِيَةً، نَحْوَ: " لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ " أَوْ مُثْبِتَةً، نَحْوَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ.
وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ إِمَّا أَنْ يَرِدَ مِنَ الْمُعْتَرِضِ دَفْعًا عَنْ مَذْهَبِهِ، أَوْ إِبْطَالًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ بِاسْتِيفَاءِ الْخِلَافِ مَعَ تَسْلِيمِ مُقْتَضَى دَلِيلِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُرَتَّبَ عَلَى دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِبْطَالَ مَدْرَكِ الْخَصْمِ، أَوْ إِثْبَاتَ مَذْهَبِهِ هُوَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ يَكُونُ مِنَ الْمُعْتَرِضِ دَفْعًا عَنْ مَأْخَذِهِ، لِئَلَّا يَفْسَدَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، كَانَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ مِنَ الْمُعْتَرِضِ إِبْطَالًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ وَالْمُعْتَرِضَ كَالْمُتَحَارِبَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْصِدُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ وَتَعْطِيلَ صَاحِبِهِ، وَهَذَا التَّقْسِيمُ لِمَوْرِدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ هُوَ الصَّحِيحُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
أَمَّا تَقْسِيمِي أَنَا لَهُ إِلَى نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَلِأَنِّي ظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَقْصُودُ التَّقْسِيمِ، وَرَأَيْتُ الْمِثَالَ عَلَى وَفْقِهِ فِي أَصْلِ الْمُخْتَصَرِ. أَعْنِي أَنَّهُ مُنْقَسِمٌ إِلَى نَفْيٍ كَمَا فِي مِثَالِ الْقِصَاصِ، وَإِلَى إِثْبَاتٍ كَمَا فِي مِثَالِ الزَّكَاةِ، فَقَوِيَ الظَّنُّ بِذَلِكَ، وَلَمْ أَكُنْ عِنْدَ الِاخْتِصَارِ تَأَمَّلْتُهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: وَهُوَ وُرُودُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ عَلَى إِبْطَالِ مَأْخَذِ الْمُعْتَرِضِ، فَيَدْفَعُ بِهِ الْمُعْتَرِضُ عَنْ مَذْهَبِهِ: أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ " بِالْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ ": " التَّفَاوُتُ فِي الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، كَالتَّفَاوُتِ فِي الْقَتْلِ "، فَإِنَّهُ لَوْ ذَبَحَهُ، أَوْ ضَرَبَ عُنُقَهُ أَوْ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الْقَتْلِ، لَمْ يَمْنَعِ الْقِصَاصَ، فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ فِي الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاص مُحَدَّدَةً كَانَتْ أَوْ مُثَقَّلَةً. وَهَذَا تَعَرُّضٌ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ بِإِبْطَالِ مَأْخَذِ الْخَصْمِ، إِذِ الْحَنَفِيُّ يَرَى أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْآلَةِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، لِأَنَّ الْمُثَقَّلَ لَمَّا
(3/558)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَقَاصَرَ تَأْثِيرُهُ عَنِ الْمُحَدَّدِ أَوْرَثَ ذَلِكَ شُبْهَةً، وَالْقِصَاصُ حَدٌّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، " فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ " دِفَاعًا عَنْ مَذْهَبِهِ: " سَلَّمْتُ " أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ؛ " لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمَانِعِ " لِلْقِصَاصِ ثُبُوتُهُ، " بَلْ " إِنَّمَا يَلْزَمُ ثُبُوتُهُ " مِنْ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ " وَهُوَ السَّبَبُ الصَّالِحُ لِإِثْبَاتِهِ وَالنِّزَاعِ فِيهِ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدِي بِالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ، أَوِ السِّكِّينِ أَوْ نَحْوِهَا مِنَ الْآلَاتِ مَعَ تَفَاوُتِهَا، لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ صَالِحَةً لِلْإِزْهَاقِ بِالسَّرَيَانِ فِي الْبَدَنِ بِخِلَافِ الْمُثَقَّلِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْقِسْمِ: أَنْ يَقُولَ الشَّفْعَوِيُّ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِيلَادِ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ: إِنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَهْرِ، لِأَنَّهَا بِوُجُوبِ الْقِيمَةِ عَلَى الْأَبِ صَارَتْ مِلْكًا لَهُ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَهْرُ مِلْكِهِ. فَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: أُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَهْرِ، لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي وُجُوبِ الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الْمَهْرِ، إِذِ الْحُكْمُ ثَبَتَ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي، لَا لِانْتِفَاءِ الْمَانِعِ.
قَوْلُهُ: " وَجَوَابُهُ: بِبَيَانِ لُزُومِ حُكْمِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مِمَّا ذَكَرَهُ إِنْ أَمْكَنَ، أَوْ بِأَنَّ النِّزَاعَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ بِإِقْرَارٍ، أَوِ اشْتِهَارٍ، وَنَحْوِهِ ". أَيْ: وَجَوَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ بِطُرُقٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ لُزُومَ حُكْمِ مَحَلِّ النِّزَاعِ بِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي دَلِيلِهِ إِنْ أَمْكَنَهُ بَيَانُهُ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ: يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ التَّفَاوُتِ فِي الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ وُجُودُ مُقْتَضَى الْقِصَاصِ إِمَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُودَ الْمَانِعِ وَعَدَمَهُ قِيَامُ الْمُقْتَضِي، إِذْ لَا يَكُونُ الْوَصْفُ مَانِعًا بِالْفِعْلِ إِلَّا لِمُعَارَضَةِ الْمُقْتَضِي، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي وَجُودَهُ. وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ
(3/559)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُقْتَضِيهِ وُجُودًا وَعَدَمًا، لَمْ يَصِحَّ عُرْفًا الِاهْتِمَامُ بِسَلْبِ الْمَانِعِ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ الْمُقْتَضِي، وَإِلَّا فَالِاهْتِمَامُ بِسَبَبِ الْمُقْتَضِي أَوْلَى. أَوْ بِأَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: إِذَا سَلَّمْتَ أَنَّ تَفَاوُتَ الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، فَالْقَتْلُ الْمُزْهِقُ هُوَ الْمُقْتَضِي، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ. وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِيلَادِ إِذَا سَلَّمْتَ أَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ لَا يَمْنَعُ الْمَهْرَ، فَالْمُتَقَضِّي لِوُجُوبِ الْمَهْرِ قَائِمٌ، وَهُوَ الْوَطْءُ فِي وَقْتٍ لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: أَقُولُ بِمُوجِبِ هَذَا الدَّلِيلِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَلِمَ قُلْتَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ؟ فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَازِمٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ عِنْدَكَ، فَإِذَا سَلَّمْتَ انْتِفَاءَ لَازِمِهَا، لَزِمَكَ تَسْلِيمُ انْتِفَائِهَا، إِذْ لَا بَقَاءَ لِلْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ " أَنَّ النِّزَاعَ " إِنَّمَا هُوَ فِيمَا " يَعْرِضُ لَهُ "، إِمَّا " بِإِقْرَارٍ " أَوِ اعْتِرَافٍ مِنَ الْمُعْتَرِضِ بِذَلِكَ. مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ لَا فِي ثُبُوتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ فِيهِ، وَوَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ بِاشْتِهَارٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعُرْفِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَقَعَ النِّزَاعُ فِيهَا فِي كَذَا لِصِحَّةِ الْبَيْعِ هَهُنَا، فَلَا يُسْمَعُ مِنَ الْمُعْتَرِضِ الْعُدُولُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ إِنْكَارٌ لِمَا اعْتَرَفَ بِهِ، وَفِي الثَّانِي نَوْعُ مُرَاوَغَةٍ وَمُغَالَطَةٍ وَدَعْوَى جَهْلٍ بِالْمَشْهُورَاتِ، كَمَنْ نَشَأَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَشَرِبَ أَوْ زَنَى مُدَّعِيًّا لِلْجَهْلِ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: الدَّيْنُ لَا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، وَوَطْءُ الثَّيِّبِ
(3/560)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: أُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ، لَكِنْ لِمَ قُلْتَ: إِنَّ الزَّكَاةَ وَالرَّدَّ يَثْبُتَانِ؟ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ لَا يُسْمَعُ، لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا مَشْهُورٌ، وَهُوَ أَنَّ النِّزَاعَ فِي الزَّكَاةِ: هَلْ تَجِبُ مَعَ الدَّيْنِ؟ وَوَطْءُ الثَّيِّبِ هَلْ يَجُوزُ مَعَهُ الرَّدُّ؟ وَمَعَ الشُّهْرَةِ لَا يُقْبَلُ الْعُدُولُ عَنِ الْمَشْهُورِ، وَلَا دَعْوَى خَفَائِهِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ هَذَا التَّقْسِيمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ إِلَى دَعْوَى فَسَادِ الْوَضْعِ، لِكَوْنِ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَأَشْبَهَ اقْتِضَاءَ الْعِلَّةِ خِلَافَ مَا عُلِّقَ بِهَا.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ الْآخَرُ مِنْهُ إِذَا صَحَّ وَاسْتَقَرَّ.
مِثَالُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، وَهُوَ أَنْ يَرِدَ مِنَ الْمُعْتَرِضِ إِبْطَالًا لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي " الْخَيْلِ: حَيَوَانٌ يُسَابَقُ عَلَيْهِ، فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْإِبِلِ، فَيَقُولُ " الْمُعْتَرِضُ " أَقُولُ بِمُوجَبِ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنْ تَجِبَ فِيهَا " زَكَاةُ الْقِيمَةِ " إِذَا كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ.
قَوْلُهُ: " وَجَوَابُهُ ". أَيْ: وَجَوَابُ مِثْلِ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: النِّزَاعُ إِنَّمَا كَانَ فِي زَكَاةِ الْعَيْنِ وَقَدْ عُرِّفَتِ " الزَّكَاةُ بِاللَّامِ، فَيَنْصَرِفُ إِلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ " الْمَعْهُودِ، وَهُوَ زَكَاةُ الْعَيْنِ، فَالْعُدُولُ إِلَى زَكَاةِ الْقِيمَةِ لَا يُسْمَعُ، لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِمَدْلُولٍ إِلَى غَيْرِهِ. وَهَذَا نَحْوٌ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْجَوَابِ بِشُهْرَةِ الْمُرَادِ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ فِي نِكَاحِ الْيَتِيمَةِ: صَغِيرَةٌ، فَتَثْبُتُ الْوَلَايَةُ
(3/561)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهَا، كَمَا لَوْ كَانَ لَهَا أَبٌ أَوْ جَدٌّ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: نَعَمْ تَثْبُتُ الْوَلَايَةُ عَلَيْهَا فِي الْمَالِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: اللَّفْظُ أَعَمُّ مِنَ الْمَالِ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي وَلَايَةِ النِّكَاحِ.
قَوْلُهُ: " وَفِي لُزُومِ الْمُعْتَرِضِ إِبْدَاءُ مُسْتَنَدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ خِلَافُ الْإِثْبَاتِ، لِئَلَّا يَأْتِيَ بِهِ نَكَدًا وَعِنَادًا، وَالنَّفْيُ، إِذْ بِمُجَرَّدِهِ يَبِينُ عَدَمُ لُزُومِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ مِمَّا ذَكَرَهُ ".
يَعْنِي: أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِذَا قَالَ بِمُوجَبِ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ مُسْتَنَدَ الْقَوْلِ بِمُوجَبِهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: التَّفَاوُتُ فِي الْآلَةِ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ، لِانْتِفَاءِ السَّبَبِ، وَوُجُوبُ الْقِيمَةِ لَا يَمْنَعُ الْمَهْرَ، لَكِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي، إِذْ لَمْ يَبْقَ مَحَلٌّ يَجِبُ الْمَهْرُ عَنْهُ، وَأُسَلِّمُ أَنَّ زَكَاةَ الْقِيمَةِ تَجِبُ فِي الْخَيْلِ، لَكِنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ لَا تَجِبُ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ بِمَا عِنْدَهُ، فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذِكْرُ مُسْتَنَدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، لَأَتَى بِهِ نَكَدًا وَعِنَادًا عَلَى الْمُسْتَدِلِّ لِيُفْحِمَهُ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنْ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيُفْضِي إِلَى تَضْيِيعِ فَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ. وَيَصِيرُ هَذَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَجِبُ، لَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، بَلْ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ عَدْلٌ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَذْهَبِهِ وَمَأْخَذِهِ، فَوَجَبَ تَقْلِيدُهُ فِي ذَلِكَ،
(3/562)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِلَّا كَانَ مُطَالَبَتُهُ بِالْمُسْتَنَدِ تَكْذِيبًا لَهُ.
قُلْتُ: فَقَدْ بَانَ أَنَّ مَحَلَّ الْقَوْلَيْنِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُعْتَرِضِ الْعَدْلِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا بِحُبِّ الِانْتِصَارِ عَلَى الْخَصْمِ حَتَّى بِالِاسْتِرْسَالِ فِي الْكَلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُطَالَبَتِهِ بِالْمُسْتَنَدِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى إِفْحَامِ الْمُسْتَدِلِّ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَتَضْيِيعِ فَائِدَةِ النَّظَرِ، وَنَشْرِ الْكَلَامِ. ثُمَّ إِذَا ذَكَرَ مُسْتَنَدَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ فِيهِ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ: وُجُوبُ الْقِيمَةِ لَا يَمْنَعُ الْمَهْرَ، لَكِنَّهُ لَا يَجِبُ، لِأَنَّ الْأَبَ مَلَكَ الْأَمَةَ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَهْرُهَا، فَلَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُعَارِضَهُ، وَيُبَيِّنَ أَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ الْجَارِيَةَ، وَيَكُونُ مُنْقَطِعًا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُنَاظِرُ الْخَصْمَ فِي مَذْهَبِهِ وَهُوَ أَعْرَفُ بِهِ.
قَوْلُهُ: " وَيَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ بِإِيرَادِهِ عَلَى وَجْهٍ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ عَنْ ظَاهِرِهِ، إِذْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، فَهُوَ كَالتَّسْلِيمِ ".
أَيْ: يَنْقَطِعُ الْمُعْتَرِضُ بِإِيرَادِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ عَلَى وَجْهٍ يُغِيِّرُ كَلَامَ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ " وَجُودَهُ كَعَدَمِهِ "، وَلَوْ عُدِمَ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ لَانْقَطَعَ، فَكَذَا إِذَا أَتَى بِهِ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِتَغَيُّرِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ، صَارَ كَالْمُنَاظِرِ لِنَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ التَّقْسِيمُ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا.
مِثْلَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْحَنْبَلِيُّ: " الْخَلُّ مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، فَلَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ كَالْمَرَقِ، فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: أَقُولُ " بِمُوجَبِهِ، وَهُوَ أَنَّ " الْخَلَّ النَّجِسَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ " عِنْدِي، فَلَا يُسْمَعُ هَذَا مِنْهُ، " لِأَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ " عَقْلًا وَعُرْفًا وَشَرْعًا إِنَّمَا هُوَ " الْخَلُّ الطَّاهِرُ "، أَمَّا النَّجِسُ فَمُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، فَصَارَ " كَالنَّقْضِ الْعَامِّ " عَلَى الْعِلَّةِ، لِأَنَّ النَّجِسَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بِإِزَالَتِهِ لِلنَّجَاسَةِ قَائِلٌ؛ صَارَ مَرْفُوضًا لَا يُفْرَضُ فِيهِ نِزَاعٌ، وَلَا يُوَجَّهُ إِلَيْهِ نَظَرٌ، " كَالْعَرَايَا عَلَى
(3/563)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عِلَّةِ الرِّبَا "؛ لَمَّا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يَقُولُ بِهَا لَمْ تِرِدْ نَقْضًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا هَذَا، وَبَيَانُ تَغْيِيرِ الْمُعْتَرِضِ كَلَامَ الْمُسْتَدِلِّ أَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ الْحُكْمَ فِي الْخَلِّ النَّجِسِ، صَارَ كَأَنَّهُ فَهِمَ عَنِ الْمُسْتَدِلِّ أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَلَّ النَّجِسَ لَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ، فَقَدْ قَوَّلَهُ مَا لَمْ يَقُلْ.
(3/564)
________________________________________
وَيَرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ مَنْعُ كَوْنِهِ حُجَّةً، أَوْ فِي الْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتِ وَالْمَظَانِّ كَالْحَنَفِيَّةِ كَمَا سَبَقَ وَجَوَابُهُ.
وَالْأَسْئِلَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعٍ، أَوْ مُعَارَضَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يُسْمَعْ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَتَرْتِيبُهَا أَوْلَى اتِّفَاقًا، وَفِي وُجُوبِهِ خِلَافٌ، وَفِي كَيْفِيَّتِهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَيَرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ مَنْعُ كَوْنِهِ حُجَّةً» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: يُعْتَرَضُ عَلَى الْقِيَاسِ بِأَسْئِلَةٍ أُخَرَ، مِثْلَ: أَنَّ الْقِيَاسَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ حُجَّةً شَرْعِيَّةٍ كَمَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ، أَوْ لَيْسَ حُجَّةً «فِي الْحُدُودِ» «وَالْمَظَانِّ» ، يَعْنِي الْأَسْبَابَ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ «كَمَا سَبَقَ وَجَوَابُهُ» ، أَيْ: قَدْ سَبَقَ هَذَا كُلُّهُ وَسَبَقَ جَوَابُهُ فِي أَقْسَامِ الْعِلَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَسْئِلَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعٍ أَوْ مُعَارَضَةٍ، وَإِلَّا لَمْ يُسْمَعْ» . أَيْ: جَمِيعُ الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَعَدُّدِهَا رَاجِعَةٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى مَنْعِ حَالِ الدَّلِيلِ لِيَسْلَمَ مَذْهَبُ الْمُعْتَرِضِ مِنْ إِفْسَادِهِ لَهُ، أَوْ إِلَى مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ بِمَا يُقَاوِمُهُ أَوْ يَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ، لِتَضْعُفَ قُوَّتُهُ عَنْ إِفْسَادِ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ مَعَ الْمُسْتَدِلِّ كَسُلْطَانٍ فِي بِلَادِهِ وَقِلَاعِهِ وَحُصُونِهِ، دَهَمَهُ سُلْطَانٌ آخَرُ يُرِيدُ أَخْذَ بِلَادِهِ مِنْهُ، فَالْمَلِكُ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ تِلْكَ الْبِلَادِ يَتَوَصَّلُ إِلَى الِاعْتِصَامِ مِنَ الْمَلِكِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، إِمَّا بِأَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ دُخُولِ أَرْضِهِ بِمَانِعٍ يَجْعَلُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ إِرْسَالِ مَاءٍ، أَوْ نَارٍ، أَوْ خَنْدَقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ بِأَنْ يُعَارِضَ جَيْشَهُ بِجَيْشٍ
(3/565)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثْلِهِ، أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، لِيَمْنَعَ اسْتِيلَاءَهُ، أَوْ يَطْرُدَهُ.
فَكَذَلِكَ الْمُسْتَدِلُّ إِذَا نَصَبَ الدَّلِيلُ وَقَرَّرَهُ، فَهُوَ مُبْطِلٌ لِمَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، إِمَّا تَصْرِيحًا أَوْ لُزُومًا، فَيَحْتَاجُ الْمُعْتَرِضُ إِلَى مَنْعِ دَلِيلِهِ، أَوْ إِلَى مُعَارَضَتِهِ، وَقَدْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ دَلِيلَكَ يُفِيدُ مَا ادَّعَيْتَ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِكَذَا، وَاصْطَلَحَ نُظَّارُ الْعَجَمِ فِي صِيغَةِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى قَوْلِهِمْ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الدَّلِيلِ وَإِنْ دَلَّ لَكِنْ عِنْدَنَا مَا يُعَارِضُهُ، وَيُقَرِّرُونَ الْمُعَارَضَةَ، وَلِلْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ مِنَ الْمَحْسُوسِ مِثَالٌ آخَرُ وَهُمَا الْمُتَضَارِبَانِ بِالسَّيْفِ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا ضَرَبَ فَإِمَّا أَنْ يَمْنَعَ تَأْثِيرَ ضَرْبَةِ صَاحِبِهِ فِيهِ، بِأَنْ يَلْقَاهَا فِي مِجَنٍّ أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ يُقَابِلَ صَاحِبَهُ عَلَى ضَرْبَتِهِ بِضَرْبَةٍ مِثْلِهَا مَانِعَةٍ أَوْ مُقْتَضِيَةٍ.
وَحَيْثُ اتَّضَحَ أَنَّ مَرْجِعَ الْأَسْئِلَةِ إِلَى مَنْعٍ، أَوْ مُعَارَضَةٍ، فَالْمُعَارَضَةُ أَيْضًا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُعْتَرِضِ الِاعْتِصَامُ مِنْ إِفْسَادِ الْمُسْتَدِلِّ مَذْهَبَهُ. وَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْأَسْئِلَةُ رَاجِعَةً إِلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَنْدَفِعُ بِالْمَنْعِ، وَالْمُعَارَضَةُ فَمَا سِوَاهُمَا خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، فَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ» سُؤَالًا. وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْآمِدِيُّ فِي «الْمُنْتَهَى» . وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا أَنَا ذَاكِرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فَذَكَرَ الشَّيْخُ فَخْرُ الدِّينِ الْبَزْدَوِيُّ فِي «الْمُقْتَرَحِ» أَنَّهَا خَمْسَةَ عَشَرَ سُؤَالًا،
(3/566)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهِيَ هَذِهِ:
دَعْوَى فَسَادِ الْوَضْعِ، مَنْعُ وَصْفِ الْعِلَّةِ، الْقَدْحُ فِي الْمُنَاسَبَةِ، النِّزَاعُ فِي ظُهُورِ وَصْفِ الْعِلَّةِ، النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ مَضْبُوطًا، الْمُطَالَبَةُ بِاعْتِبَارِهِ عِلَّةً، مَنْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ. اخْتِلَافُ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مَعَ اتِّحَادِ جِنْسِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِمَا، بَيَانُ اخْتِلَافِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِمَا، بَيَانُ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ فِيهِمَا، الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ، النَّقْضُ، الْكَسْرُ، الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ، الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ.
وَذَكَرَهَا النِّيلِيُّ فِي «شَرْحِ جَدَلِ الشَّرِيفِ» أَرْبَعَةَ عَشَرَ:
الِاسْتِفْسَارُ، فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، فَسَادُ الْوَضْعِ، الْمَنْعُ، التَّقْسِيمُ، الْمُطَالَبَةُ، النَّقْضُ، الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ، عَدَمُ التَّأْثِيرِ، الْفَرْقُ، الْمُعَارَضَةُ، التَّعْدِيَةُ، التَّرْكِيبُ. هَكَذَا، ذَكَرَ أَنَّهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ عَشَرَ.
قَالَ: وَهَذَا تَرْتِيبُهَا فِي الْإِيرَادِ إِلَّا فِي عَدَمِ التَّأْثِيرِ، فَإِنَّهُ قَبْلَ النَّقْضَ، لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ وَصْفًا مِنَ الْعِلَّةِ لَا أَثَرَ لَهُ، وَالنَّقْضُ إِنَّمَا يَرِدُ بَعْدَ صَلَاحِيَةِ الْعِلَّةِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي «الْمُنْتَهَى» فَهُوَ:
الِاسْتِفْسَارُ، فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، فَسَادُ الْوَضْعِ، مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، التَّقْسِيمُ، مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ، عَدَمُ التَّأْثِيرِ، الْقَدْحُ فِي مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ، مَنْعُ صَلَاحِيَةِ إِفْضَاءِ الْوَصْفِ إِلَى الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ، مَنْعُ ظُهُورِ الْوَصْفِ، مَنْعُ انْضِبَاطِهِ، النَّقْضُ، الْكَسْرُ، الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ، التَّرْكِيبُ، التَّعْدِيَةُ، مَنْعُ وُجُوبِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي حُكْمَ الْمُسْتَدِلِّ، الْفَرْقُ، اخْتِلَافُ الضَّابِطِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعَ اتِّحَادِ الْحِكْمَةِ، اتِّحَادُ الضَّابِطِ مَعَ اخْتِلَافِ الْحِكْمَةِ - عَكْسُ الَّذِي قَبْلَهُ - اخْتِلَافُ
(3/567)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، قَلْبُ الدَّلِيلِ، الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ.
هَذِهِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ.
وَذَكَرَ فِي «الْجَدَلِ» الَّذِي لَهُ أَنَّ الْأَسْئِلَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ أُمُورٍ فِقْهِيَّةٍ، وَإِلْزَامَاتٍ أَحْكَامِيَّةٍ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إِلَى مُنَاسَبَاتٍ جَدَلِيَّةٍ وَمُؤَاخَذَاتٍ لَفْظِيَّةٍ:
فَالْأَوَّلُ: وَهُوَ أَهَمُّهَا يَنْحَصِرُ فِي أَسْئِلَةٍ عَشْرَةٍ، وَهِيَ:
فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، فَسَادُ الْوَضْعِ، مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ، مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ، مَنْعُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَيُلَقَّبُ بِسُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ، النَّقْضُ، الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ، مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ سُؤَالًا:
عَدَمُ التَّأْثِيرِ، الْكَسْرُ، الْعَكْسُ، التَّقْسِيمُ، بَيَانُ اخْتِلَافِ الْمَظِنَّةِ فِي الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ مَعَ اتِّحَادِ جِنْسِ الْمَصْلَحَةِ، بَيَانُ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَصْلَحَةِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَظِنَّةِ - عَكْسُ الَّذِي قَبْلَهُ - بَيَانُ اخْتِلَافِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، كَقِيَاسِ التَّحْرِيمِ عَلَى الْوُجُوبِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ، الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ، الْقَلْبُ، سُؤَالُ التَّرْكِيبِ.
وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ اصْطَلَحَ عَلَى إِيرَادِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجَدَلِيِّينَ، وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِإِيرَادِهِ. فَهَذِهِ وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ سُؤَالًا ذَكَرَهَا هَهُنَا. وَذَكَرَهَا فِي «الْمُنْتَهَى» خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ كُلَّ مَا قَدَحَ فِي الدَّلِيلِ، اتَّجَهَ إِيرَادُهُ، كَمَا أَنَّ كُلَّ سِلَاحٍ صَلُحَ لِلتَّأْثِيرِ فِي الْعَدُوِّ، يَنْبَغِي اسْتِصْحَابُهُ، وَجَمِيعُ الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَغَيْرِهِ تَقْدَحُ فِي الدَّلِيلِ فَيَنْبَغِي إِيرَادُهَا، وَلَا يَضُرُّ تَدَاخُلُهَا، وَرُجُوعُ
(3/568)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، لِأَنَّ صِنَاعَةَ الْجَدَلِ اصْطِلَاحِيَّةٌ. وَقَدِ اصْطَلَحَ الْفُضَلَاءُ عَلَى إِيرَادِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ، فَهِيَ وَإِنْ تَدَاخَلَتْ، أَوْ رَجَعَ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَجْدَرُ بِحُصُولِ الْفَائِدَةِ مِنْ إِفْحَامِ الْخَصْمِ، وَتَهْذِيبِ الْخَوَاطِرِ، وَتَمْرِينِ الْأَذْهَانِ عَلَى فَهْمِ السُّؤَالِ، وَاسْتِحْضَارِ الْجَوَابِ، وَتَكَرُّرُهَا الْمَعْنَوِيُّ لَا يَضُرُّ كَمَا لَوْ رَمَى الْمُقَاتِلُ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
قَوْلُهُ: «وَتَرْتِيبُهَا أَوْلَى اتِّفَاقًا، وَفِي وُجُوبِهِ خِلَافٌ» .
أَيْ: تَرْتِيبُ الْأَسْئِلَةِ وَهُوَ جَعْلُ كُلِّ سُؤَالٍ فِي رُتْبَتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي بِالْمُعْتَرِضِ إِلَى الْمَنْعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَرْتِيبَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى، وَهُوَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْمَنْعَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ قَبِيحٌ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ أَوْلَى.
أَمَّا وُجُوبُهُ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ نَفْيًا لِلْقُبْحِ الْمَذْكُورِ، وَنَفْيُ الْقُبْحِ وَاجِبٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ كُلَّ سُؤَالٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ، وَجَوَابُهُ مُرْتَبِطٌ بِهِ، فَلَا فَرْقَ إِذَنْ بَيْنَ تَقَدُّمِهِ وَتَأَخُّرِهِ، وَالْمَقْصُودُ إِفْحَامُ الْخَصْمِ، وَهُوَ حَاصِلٌ مَعَ التَّرْتِيبِ وَعَدَمِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُحَارِبَ لَمَّا كَانَ قَصْدُهُ قَتْلَ غَرِيمِهِ، أَوْ هَزِيمَتَهُ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ يَبْدَأَ قِتَالَهُ بِسَيْفٍ، أَوْ رُمْحٍ، أَوْ سَهْمٍ، أَوْ نَارٍ مُحْرِقَةٍ، أَوْ مَاءٍ مُغْرِقٍ، أَوْ تَرْدِيَةٍ مِنْ شَاهِقٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الْأَسْئِلَةِ كَيْفِيَّةٌ لَهَا، ثُمَّ إِنَّ نَفْسَ الْأَسْئِلَةِ لَيْسَتْ مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا، إِنَّمَا الْمَقْصُودُ إِفْحَامُ الْخَصْمِ وَهِيَ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ فَتَرْتِيبُهَا الَّذِي هُوَ فَرْعٌ
(3/569)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهَا أَوْلَى بِذَلِكَ. هَذَا تَوْجِيهُ مَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» .
وَذَكَرَ النِّيلِيُّ كَلَامًا مَعْنَاهُ: أَنَّ السَّائِلَ هَلْ لَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَسْئِلَةِ بِأَنْ يَسْرُدَهَا سَرْدًا، ثُمَّ يُجِيبُ الْمُسْتَدِلَّ عَنْهَا سُؤَالًا سُؤَالًا، أَمْ لَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ سُؤَالٍ وَجَوَابِهِ، ثُمَّ إِيرَادِ الَّذِي بَعْدَهُ؟
فَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ، لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَ، فَقَالَ: لَا أُسَلِّمُ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ قُلْتَ؟ فَقَدْ رَجَعَ عَنِ الْأَوَّلِ. وَبِالْجُمْلَةِ انْتِقَالُهُ إِلَى كُلِّ سُؤَالٍ رُجُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ.
قُلْتُ: فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ يُورِدُ، وَيُجِيبُ نَفْسَهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ جَمْعَهُ بَيْنَ الْأَسْئِلَةِ لَيْسَ رُجُوعًا عَنْ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ تَنَزُّلٌ مَعَ الْخَصْمِ مِنْ مَقَامٍ إِلَى مَقَامٍ عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ. أَيْ: لَوْ فَرَضْنَا سَلَامَةَ الدَّلِيلِ عَنِ الْمَنْعِ، لَمْ يَسْلَمْ عَنِ الْمُطَالَبَةِ، فَانْتِقَالُهُ إِلَيْهَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِ سُؤَالِ الْمَنْعِ بِإِجَابَةِ الْمُسْتَدِلِّ عَنْهُ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي عُهْدَةِ الْمَنْعِ حَتَّى يُجِيبَ عَنْهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي أَوَّلِ الشَّرْحِ أَنِّي اسْتَعْمَلْتُ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْكِتَابِ، وَأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَائِدَةٌ. ثُمَّ إِذَا جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَسْئِلَةِ هَلْ يَلْزَمُهُ تَرْتِيبُهَا كَمَا ذَكَرْنَا؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ آنِفًا. وَمِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ أَهْلُ سَمَرْقَنْدَ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ أَلْيَقُ بِالِاتِّفَاقِ.
قَوْلُهُ: «وَفِي كَيْفِيَّتِهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ» ، أَيْ: فِي كَيْفِيَّةِ تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ خِلَافٌ كَثِيرٌ. ذَكَرَ ابْنُ الْمَنِيِّ مِنْهُ جُمْلَةً فِي جَدَلِهِ الْمُسَمَّى: «جَنَّةُ النَّاظِرِ وَجُنَّةُ الْمَنَاظِرِ» وَلَيْسَ الْآنَ حَاضِرًا عِنْدِي لِأَذْكُرَ مَا قَالَهُ، وَإِلَيْهِ أَشَرْتُ بِالْأَقْوَالِ الْكَثِيرَةِ، لَكِنْ قَدْ دَلَّ عَلَى كَثْرَةِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَزْدَوِيِّ وَالنِّيلِيِّ وَالْآمِدِيِّ
(3/570)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي «جَدَلِهِ» زَعَمَ أَنَّ تَرْتِيبَ الْأَسْئِلَةِ عَلَى تَرْتِيبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْهُ، وَأَنْتَ تَرَى الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَاتِ الْأَسْئِلَةِ وَأَسْمَائِهَا وَتَرْتِيبِهَا، وَالضَّابِطُ الْكُلِّيُّ لَهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنْ لَا يُفْضِيَ إِيرَادُهَا إِلَى مَنْعٍ بَعْدَ تَسْلِيمٍ أَوْ إِنْكَارٍ بَعْدَ اعْتِرَافٍ.
مِثْلَ أَنْ يَقُولَ فِي قَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ: قَتْلٌ فَيُوجِبُ الْقِصَاصَ، لِمَ قُلْتَ: إِنَّهُ إِذَا كَانَ قَتْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُوجِبُ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَتْلٌ، سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ يَنْتَقِضُ بِالْخَطَأِ، سَلَّمْنَاهُ، لَكِنَّهُ قَتْلٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؟ سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ عِنْدَنَا مَا يُعَارِضُهُ، سَلَّمْنَاهُ، لَكِنْ مَا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِكَ: إِنَّهُ قَتْلٌ؟ وَهُوَ سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ، ثُمَّ يَذْكُرُ فَسَادَ الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ، فَالسُّؤَالُ الْأَوَّلُ سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْعِلَّةِ، وَفِيهِ تَسْلِيمُ وَجُودِهَا، وَالثَّانِي مَنْعُ الْعِلَّةِ، فَهُوَ مَنْعٌ بَعْدَ تَسْلِيمٍ، وَكَذَا الْأَسْئِلَةُ بَعْدَهُ فِي غَيْرِ مَرَاتِبِهَا، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.
قَالَ الْآمِدِيُّ فِي «الْجَدَلِ» : أَوَّلُ مَا يَجِبُ ذِكْرُهُ مِنَ الْأَسْئِلَةِ:
فَسَادُ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَجًّا بِهِ، فَلَا مَعْنًى لِلنَّظَرِ فِي تَفَاصِيلِهِ.
ثُمَّ فَسَادُ الْوَضْعِ، لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِتَسْلِيمِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ فِي جِنْسِهِ.
ثُمَّ مَنْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ نَظَرٌ فِي تَفْصِيلِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ يُشْعِرُ بِتَسْلِيمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ.
ثُمَّ سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ عَمَّا يَدَّعِي كَوْنَهُ عِلَّةً، إِذِ التَّعَرُّضُ لِلِاسْتِفْسَارِ عَنِ الْوَصْفِ الْمُسْتَنْبَطِ يُشْعِرُ بِصِحَّةِ الْمُسْتَنْبَطِ عَنْهُ.
ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِمَعْرِفَةِ الْوَصْفِ، وَالِاسْتِفْسَارُ يُشْعِرُ بِجَهْلِهِ.
(3/571)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثُمَّ سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً، إِذِ الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِهِ تُشْعِرُ بِتَسْلِيمِ وَجُودِهِ فِي نَفْسِهِ.
ثُمَّ النَّقْضُ، لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِتَسْلِيمِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَصْفِ.
ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّهَا تُشْعِرُ بِتَسْلِيمِ صَلَاحِيَةِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ، وَالنَّقْضُ يُشْعِرُ بِعَدَمِ ذَلِكَ.
ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ لِإِشْعَارِهِ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِإِيرَادِهِ.
ثُمَّ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ، لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِتَسْلِيمِ دَلَالَةِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ عَلَى الْحُكْمِ، لَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّهُ غَيْرُ مَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ.
وَقَالَ فِي «الْمُنْتَهَى» : الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِالِاسْتِفْسَارِ، لِيَعْرِفَ مَدْلُولَ اللَّفْظِ، ثُمَّ بِفَسَادِ الِاعْتِبَارِ، إِذْ هُوَ نَظَرٌ فِي الدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، ثُمَّ فَسَادُ الْوَضْعِ، لِكَوْنِهِ أَخَصَّ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ، ثُمَّ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ نَظَرَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، فَكَانَ مُؤَخَّرًا عَمَّا قَبْلَهُ، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ نَظَرَ فِيمَا هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، ثُمَّ الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ، وَسُؤَالُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ، وَالْقَدْحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ، وَالتَّقْسِيمِ، وَكَوْنُ الْوَصْفِ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَلَا يَنْضَبِطُ، وَكَوْنُ الْحُكْمِ غَيْرُ مُفْضٍ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ، لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ صِفَةَ وُجُوهِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ النَّقْضُ، وَالْكَسْرُ؛ لِكَوْنِهِ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، ثُمَّ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ وَالتَّرْكِيبِ؛ لِكَوْنِهِ مُعَارِضًا لِلْعِلَّةِ، ثُمَّ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ، وَمُخَالَفَةُ حُكْمِهِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَمُخَالَفَتُهُ لِلْأَصْلِ فِي الضَّابِطِ أَوِ الْحِكْمَةِ،
(3/572)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ، وَسُؤَالُ الْقَلْبِ؛ لِكَوْنِهِ نَظَرًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْعِ التَّابِعِ لِلْأَصْلِ، ثُمَّ الْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ لِتَضَمُّنِهِ تَسْلِيمَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّلِيلِ الْمُثْمِرِ لَهُ.
قُلْتُ: وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَنَا: يَلْزَمُ أَوْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْأَدِلَّةِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، أَوْ لَا يَجُوزُ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ الْوُجُوبَ أَوْ عَدَمَ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ، بِمَعْنَى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحِيٌّ، أَيْ: يَكُونُ تَارِكُهُ مَذْمُومًا فِي اصْطِلَاحِ النُّظَّارِ، فَهُوَ قَادِحٌ فِي الْفَضِيلَةِ، لَا فِي دِينٍ وَلَا مُرُوءَةٍ بِالنَّظَرِ فِي الطَّرِيقِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، يَعْرِفُ أَمْثِلَةَ إِيرَادِ الْأَسْئِلَةِ وَكَيْفِيَّةِ الْجَوَابِ عَنْهَا، كَتَعْلِيقَةِ الشَّرِيفِ الْمَرَاغِيِّ، وَالسَّيْفِ الْآمِدِيِّ، وَتَعْلِيقَةِ ابْنِ الْمَنِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الطَّرَائِقِ.
أَمَّا طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ، كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي «الِانْتِصَارِ» ، وَابْنِ عَقِيلٍ فِي «عُمُدِ الْأَدِلَّةِ» وَنَحْوِهَا، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا، ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا الْأَدِلَّةَ سَرْدًا وَتَرْتِيبًا، بَلْ أَوْرَدُوا كُلَّ دَلِيلٍ وَجَوَابَهُ عَقِيبَهُ مُرَتَّبًا ذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مُرَتَّبٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ الْوَارِدَةَ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى الْخِلَافِ فِي عَدَدِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ وُرُودِهَا عَلَى الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَرِدُ عَلَى كُلِّ قِيَاسٍ، لِأَنَّ مِنَ الْأَقْيِسَةِ مَا لَا يَرِدُ مِنْ مُوْرِدِهَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، كَالْقِيَاسِ مَعَ عَدَمِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ فَسَادُ الِاعْتِبَارِ إِلَّا مِنْ ظَاهِرِيٍّ وَنَحْوِهِ مِنْ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ، وَاللَّفْظُ الْبَيِّنُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ، وَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ فَسَادُ الْوَضْعِ، وَعَلَى ذَلِكَ يُمْكِنُ تَخَلُّفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَسْئِلَةِ عَلَى الْبَدَلِ عَنْ بَعْضِ الْأَقْيِسَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّ الْأَسْئِلَةَ الْوَارِدَةَ عَلَى الْقِيَاسِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ.
(3/573)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ التَّصْرِيفِ: إِنَّ حُرُوفَ الزِّيَادَةِ هِيَ حُرُوفُ: «سَأَلْتُمُونِيهَا» عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْحُرُوفَ الزَّوَائِدَ عَلَى أُصُولِ مَوَادِّ الْكَلِمِ لَا تَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ، لَا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفُ حَيْثُ وَقَعَتْ كَانَتْ زَوَائِدَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهَا وَقَعَ أُصُولًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَدْ نُجِزَ بِحَمْدِ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْكَلَامُ عَلَى الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا حِينُ الشُّرُوعِ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُسْتَدِلِّ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ بَيَانِ الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ، وَالتَّقْلِيدِ وَالْمُقَلِّدِ، وَمَسَائِلِ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(3/574)
________________________________________
( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )
شرح مختصر الروضة
الِاجْتِهَادُ
الِاجْتِهَادُ لُغَةً: بَذْلُ الْجُهْدِ فِي فِعْلٍ شَاقٍّ، فَيُقَالُ: اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ الرَّحَى لَا فِي حَمْلِ خَرْدَلَةٍ.
وَاصْطِلَاحًا: بَذْلُ الْجُهْدِ فِي تَعَرُّفِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَالتَّامُّ مِنْهُ: مَا انْتَهَى إِلَى حَالِ الْعَجْزِ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ.
وَشَرْطُ الْمُجْتَهِدِ إِحَاطَتُهُ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ، وَهِيَ الْأُصُولُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَمَا يُعْتَبَرُ لِلْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ، بِحَيْثُ يُمْكِنُ اسْتِحْضَارُهَا لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا لَا حِفْظُهَا، وَكَذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ، وَمَعْرِفَةُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ اجْتِهَادًا كَعِلْمِهِ بِصِحَّةِ مَخْرَجِهِ وَعَدَالَةِ رُوَاتِهِ، أَوْ تَقْلِيدًا كَنَقْلِهِ مِنْ كِتَابٍ صَحِيحٍ ارْتَضَى الْأَئِمَّةُ رُوَاتَهُ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مِنْهُمَا، وَيَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ أَنَّ دَلِيلَ هَذَا الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَمِنَ الْإِجْمَاعِ مَا تَقَدَّمَ فِيهِ؛ وَيَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا أَمْ لَا، وَمِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ مَا يَكْفِيهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَصٍّ وَظَاهِرٍ وَمُجْمَلٍ وَحَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَعَامٍّ وَخَاصٍّ وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ وَدَلِيلِ خِطَابٍ، وَنَحْوِهِ، لَا تَفَارِيعِ الْفِقْهِ، لِأَنَّهُ مِنْ فُرُوعِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ، وَتَقْرِيرُ الْأَدِلَّةِ وَمُقَوِّمَاتُهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الِاجْتِهَادُ " افْتِعَالٌ مِنَ الْجُهْدِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِهَا: الطَّاقَةُ، وَبِفَتْحِهَا فَقَطْ: الْمَشَقَّةُ.
(3/575)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ " لُغَةً "، أَيْ: فِي اللُّغَةِ: " بَذْلُ الْجُهْدِ "، يَعْنِي الطَّاقَةَ " فِي فِعْلٍ شَاقٍّ "، وَإِنَّمَا وَصَفْنَا الْفِعْلَ بِكَوْنِهِ شَاقًّا لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ مُخْتَصٌّ بِهِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ، إِذْ يُقَالُ: " اجْتَهَدَ " الرَّجُلُ " فِي حَمْلِ الرَّحَى " وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الثَّقِيلَةِ، وَ " لَا " يُقَالُ: اجْتَهَدَ " فِي حَمْلِ خَرْدَلَةٍ " وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيفَةِ.
" وَاصْطِلَاحًا "، أَيْ: وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ: " بَذْلُ الْجُهْدِ فِي تَعَرُّفِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ "، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي " الرَّوْضَةِ " وَ " الْمُسْتَصْفَى " " بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ.
وَقَالَ الْآمِدِيُّ: هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الظَّنِّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ يُحَسُّ مِنَ النَّفْسِ الْعَجْزُ عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي الْمَطْلُوبِ لُغَةً، وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي النَّظَرِ فِيمَا يَلْحَقُهُ فِيهِ لَوْمٌ شَرْعِيٌّ اصْطِلَاحًا.
قُلْتُ: وَجَمِيعُ ذَلِكَ مُتَقَارِبٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَسَاوِيًا.
قَوْلُهُ: " وَالتَّامُّ مِنْهُ "، أَيْ: مِنْ الِاجْتِهَادِ " مَا انْتَهَى إِلَى حَالِ الْعَجْزِ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ " الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى أَنَّ الِاجْتِهَادَ يَنْقَسِمُ إِلَى نَاقِصٍ وَتَامٍّ، فَالنَّاقِصُ: هُوَ النَّظَرُ الْمُطْلَقُ فِي تَعَرُّفِ الْحُكْمِ، وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ. وَالتَّامُّ: هُوَ اسْتِفْرَاغُ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ حَتَّى يُحِسَّ النَّاظِرُ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ مَزِيدِ طَلَبٍ. وَمِثَالُهُ مِثَالُ مَنْ ضَاعَ مِنْهُ دِرْهَمٌ فِي التُّرَابِ، فَقَلَّبَهُ بِرِجْلِهِ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا، فَتَرَكَهُ وَرَاحَ. وَآخَرُ إِذَا جَرَى لَهُ ذَلِكَ، جَاءَ بِغِرْبَالٍ، فَغَرْبَلَ التُّرَابَ حَتَّى يَجِدَ الدِّرْهَمَ، أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مَا عَادَ يَلْقَاهُ، فَالْأَوَّلُ اجْتِهَادٌ قَاصِرٌ، وَالثَّانِي تَامٌّ.
قَوْلُهُ: " وَشَرْطُ الْمُجْتَهِدِ إِحَاطَتُهُ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ، هِيَ الْأُصُولُ الْمُتَقَدِّمَةُ
(3/576)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَا يُعْتَبَرُ لِلْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً ".
لَمَّا ذَكَرَ الِاجْتِهَادَ مَا هُوَ، وَالنَّاقِصَ مِنْهُ وَالتَّامَّ، أَخَذَ يُبَيِّنُ الْمُجْتَهِدَ وَشُرُوطَهُ، فَالْمُجْتَهِدُ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الِاجْتِهَادِ، وَحَصَّلَ أَهْلِيَّتَهُ، " وَشَرْطُ الْمُجْتَهِدِ إِحَاطَتُهُ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ "، أَيْ: طُرُقِهَا الَّتِي تُدْرَكُ مِنْهَا، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَيْهَا، " وَهِيَ الْأُصُولُ " الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا، وَهِيَ الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ، وَالِاسْتِدْلَالُ، وَالْأُصُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا، " وَمَا يُعْتَبَرُ لِلْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ " مِنْ حَيْثُ الْكَمِّيَّةِ وَالْمِقْدَارِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ لِلْحُكْمِ، أَوْ مِنْ حَيْثُ الْكَيْفِيَّةِ كَتَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ، وَتَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ آلَةٌ لِلْمُجْتَهِدِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ، فَوَجَبَ اشْتِرَاطُهُ، كَالْقَلَمِ لِلْكَاتِبِ، وَالْقَدُومِ وَنَحْوِهِ لِلنَّجَّارِ.
قَوْلُهُ: «فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ مِنْهُ، وَهُوَ قَدْرُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ» ، إِلَى آخِرِهِ.
هَذَا تَفْصِيلٌ لِلْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، وَهُوَ قَدْرُ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ، كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ مِقْدَارَ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ كَمَا تُسْتَنْبَطُ مِنَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي؛ كَذَلِكَ تُسْتَنْبَطُ مِنَ الْأَقَاصِيصِ وَالْمَوَاعِظِ وَنَحْوِهَا،
(3/577)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَلَّ أَنْ يُوجَدَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَيُسْتَنْبَطُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَإِذَا أَرَدْتَ تَحْقِيقَ هَذَا، فَانْظُرْ إِلَى كِتَابِ «أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ» لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ حَصَرُوهَا فِي خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ إِنَّمَا نَظَرُوا إِلَى مَا قُصِدَ مِنْهُ بَيَانُ الْأَحْكَامِ دُونَ مَا اسْتُفِيدَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ بَيَانُهَا.
قَوْلُهُ: «بِحَيْثُ يُمْكِنُ اسْتِحْضَارُهَا لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا، لَا حِفْظُهَا» ، أَيْ: الْقَدْرُ الْمُعْتَبَرُ مَعْرِفَتُهُ لِلْمُجْتَهِدِ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَحْفَظَهُ، وَإِنْ حَفِظَهُ، فَلَا يُشْتَرَطُ حِفْظُهُ بِلَفْظِهِ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَعْرِفُ مَوَاقِعَهُ مِنْ مَظَانِّهِ، لِيَحْتَجَّ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الِاجْتِهَادِ - وَهُوَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِدَلِيلِهِ - يَحْصُلُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَكَذَلِكَ مِنَ السُّنَّةِ» ، أَيْ: وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ مِنَ السُّنَّةِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ الْآيَاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْقُرْآنِ
قُلْتُ: فَالْكَلَامُ هُنَا فِي التَّقْدِيرِ، كَالْكَلَامِ هُنَاكَ، أَعْنِي أَنَّ اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ لَا يَتَعَيَّنُ لَهُ بَعْضُ السُّنَّةِ دُونَ بَعْضٍ، بَلْ قَلَّ حَدِيثٌ يَخْلُو عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ. وَمَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَى دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ، كَالْقَاضِي عِيَاضٍ، وَالنَّوَاوِيِّ عَلَى «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» ، وَالْخَطَّابِيِّ وَغَيْرِهِ عَلَى «الْبُخَارِيِّ» ، وَفِي شَرْحِ «سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ» وَغَيْرِهَا؛ عَرِفَ ذَلِكَ.
نَعَمْ أَحَادِيثُ السُّنَّةِ وَإِنْ كَثُرَتْ، فَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي الدَّوَاوِينِ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مِنْهَا مَشْهُورٌ، كَالصَّحِيحَيْنِ وَبَقِيَّةِ السُّنَنِ السِّتَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَقَدْ قَرَّبَ
(3/578)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النَّاسُ ذَلِكَ بِتَصْنِيفِ كُتُبِ الْأَحْكَامِ، كَكِتَابَيْ عَبْدِ الْغَنِيِّ بْنِ سُرُورٍ، وَكُتُبِ الْحَافِظِ عَبْدِ الْحَقِّ الْمَغْرِبِيِّ، وَكِتَابِ «الْأَحْكَامِ التَّيْمِيَّةِ» وَنَحْوِهَا، وَأَجْمَعَ مَا رَأَيْتُهُ مِنْ كُتُبِ الْأَحْكَامِ لَهَا أَحْكَامُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ، فَصَارَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا احْتِيجَ إِلَيْهِ مِنْ أَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ سَهْلُ الْمَرَامِ وَ «مُخْتَصَرُ التِّرْمِذِيِّ» الَّذِي أَلَّفَهُ نَافِعٌ فِي هَذَا الْبَابِ.
قَوْلُهُ: «وَمَعْرِفَةُ صِحَّةِ الْحَدِيثِ اجْتِهَادًا» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ، وَمَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ إِمَّا بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الْأَهْلِيَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مَا يَعْرِفُ بِهِ صِحَّةَ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ. أَيْ: طَرِيقِهِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ، وَمِنْ رِوَايَةِ أَيِّ الْبِلَادِ هُوَ، أَوْ أَيِ التَّرَاجِمِ، وَيَعْلَمُ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ وَضَبْطَهُمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ يَعْلَمُ مِنْ حَالِهِ وُجُودَ شُرُوطِ قَبُولِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، وَمُوجِبَاتِ رَدِّهِ.
وَإِمَّا بِطَرِيقِ التَّقْلِيدِ، بِأَنْ يَنْقِلَهُ «مِنْ كِتَابٍ صَحِيحٍ ارْتَضَى الْأَئِمَّةُ رُوَاتَهُ» ،
(3/579)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَالصَّحِيحَيْنِ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ ظَنَّ الصِّحَّةِ يَحْصُلُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَعْلَى رُتْبَةً مِنَ الثَّانِي لِتَحْصِيلِهِ مِنَ الظَّنِّ أَكْثَرَ.
قَوْلُهُ: «وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مِنْهُمَا» ، أَيْ: مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ بَطَلَ حُكْمُهُ، وَصَارَ الْعَمَلُ عَلَى النَّاسِخِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، أَفْضَى إِلَى إِثْبَاتِ الْمَنْفِيِّ، وَنَفْيِ الْمُثْبَتِ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ وَصِيَّةُ السَّلَفِ وَاهْتِمَامُهُمْ بِمَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَأَى قَاصًّا يَقُصُّ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ وَهُوَ يَخْلِطُ الْأَمْرَ بِالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةَ بِالْحَظْرِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَبُو مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَبُو يَحْيَى، قَالَ: أَنْتَ أَبُو اعْرِفُونِي، ثُمَّ أَخَذَ أُذُنَهُ فَفَتَلَهَا، وَقَالَ: لَا تَقُصَّ فِي مَسْجِدِنَا بَعْدُ.
«وَيَكْفِيهِ» مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنْ يَعْرِفَ «أَنَّ دَلِيلَ هَذَا الْحُكْمِ غَيْرُ مَنْسُوخٍ» ، يَعْنِي وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ جَمِيعَ الْأَحَادِيثِ الْمَنْسُوخَةِ مِنَ النَّاسِخَةِ، وَالْإِحَاطَةُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَيْسَرُ مِنْ غَيْرِهِ، لِقِلَّةِ الْمَنْسُوخِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْكَمِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ صَنَّفَ فِي نَاسِخِ الْقُرْآنِ وَمَنْسُوخِهِ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، وَمَكِّيٌّ صَاحِبُ «الْإِعْرَابِ» ، وَمِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَامَةَ، وَمِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي نَاسِخِ الْحَدِيثِ وَمَنْسُوخِهِ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ شَاهِينَ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَغَيْرُهُمْ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مَعْرِفَةً جَيِّدَةً مِنْ تَفَاسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ الْبَسِيطَةِ كَتَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ، وَشَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَاوِيِّ، وَغَيْرِهِمَا. وَقَدْ سَبَقَتِ الطُّرُقُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ.
قَوْلُهُ: «وَمِنَ الْإِجْمَاعِ» . أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ مِنَ الْإِجْمَاعِ
(3/580)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«مَا تَقَدَّمَ فِيهِ» ، أَيْ: فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ. مِثْلَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ اتِّفَاقُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِاتِّفَاقِ بَلَدٍ دُونَ بَلَدٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِهِ السَّابِقِ تَقْرِيرُهَا.
قَوْلُهُ: «وَيَكْفِيهِ مَعْرِفَةُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا أَمْ لَا» .
هَذَا كَمَا سَبَقَ فِي الْقَدْرِ الْكَافِي مِنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، أَوْ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْلَمَ الْإِجْمَاعَ وَالْخِلَافَ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَلَعَلَّ هَذَا يَنْزِعُ إِلَى تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: «وَمِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ «مِنَ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ مَا يَكْفِيهِ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَصٍّ وَظَاهِرٍ، وَمُجْمَلٍ، وَحَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَعَامٍّ وَخَاصٍّ، وَمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، وَدَلِيلِ خِطَابٍ وَنَحْوِهِ» ، كَفَحْوَى الْخِطَابِ وَلَحْنِهِ وَمَفْهُومِهِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَوَقُّفًا ضَرُورِيًّا، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [الْمَائِدَةَ: 45] ، يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِرَفْعِ (الْجُرُوحَ) وَنَصْبِهَا كَمَا سَبَقَ فِي أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ الرِّوَايَةُ بِالرَّفْعِ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرَثُونَ مُطْلَقًا، وَرَوَاهُ الشِّيعَةُ «صَدَقَةً» بِالنَّصْبِ وَهُوَ يَقْتَضِي نَفْيَ الْإِرْثِ عَمَّا تَرَكُوهُ لِلصَّدَقَةِ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ يُوَرِّثُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ ظَلَمُوا أَبَا
(3/581)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَشَنَّعُوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَنَعَ فَاطِمَةَ حَقَّهَا، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَوَاهُ الشِّيعَةُ بِالنَّصْبِ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ عَلَى النِّدَاءِ، أَيْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْجَرِّ هُمَا مُقْتَدًى بِهِمَا، وَعَلَى رِوَايَةِ النَّصْبِ هُمَا مُقْتَدِيَانِ بِغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ مُحَاجَّةِ آدَمَ وَمُوسَى: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى بِرَفْعِ آدَمَ عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ وَمُوسَى مَفْعُولٌ، وَعَكَسَ الْقَدَرِيَّةُ ذَلِكَ، فَنَصَبُوا آدَمَ تَصْحِيحًا لِمَذْهَبِ الْقَدَرِ.
وَقَدْ فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ وَغَيْرِهِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ بَابِ الطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَبَنَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، كَفَرْقِهِ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فَهُوَ حُرٌّ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْتَهُ، فَهُوَ حُرٌّ، وَذَكَرَ الْجُرْجَانِيُّ جُمْلَةً مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ، وَذَكَرْتُ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ «الرَّدُّ عَلَى مُنْكِرِي الْعَرَبِيَّةِ» .
وَعِلْمٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ هَذَا التَّعَلُّقَ جَدِيرٌ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي الِاجْتِهَادِ، وَيَلْحَقُ بِالْعَرَبِيَّةِ التَّصْرِيفُ لِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَبْنِيَةِ الْكَلِمِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ مِنْ لَفْظِ مُخْتَارٍ وَمُغْتَالٍ، فَاعِلًا وَمَفْعُولًا.
قَوْلُهُ: «لَا تَفَارِيعَ الْفِقْهِ» . أَيْ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ مَا ذَكَرْنَا، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ تَفَارِيعَ الْفِقْهِ الَّتِي يُعْنَى بِتَحْقِيقِهَا الْفُقَهَاءُ، لِأَنَّ ذَلِكَ «مِنْ فُرُوعِ الِاجْتِهَادِ» الَّتِي وَلَّدَهَا الْمُجْتَهِدُونَ بَعْدَ حِيَازَةِ مَنْصِبِهِ، فَلَوِ اشْتُرِطْتَ مَعْرِفَتُهَا فِي الِاجْتِهَادِ، لَزِمَ الدَّوْرُ، لِتَوَقُّفِ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الِاجْتِهَادُ عَلَى
(3/582)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْفَرْعِ الَّذِي هُوَ تَفَارِيعُ الْفِقْهِ، وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ دَقَائِقِ الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّصْرِيفِ حَتَّى يَكُونَ كَسِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشِ، وَالْمَازِنِيِّ، وَالْمُبَرِّدِ، وَالْفَارِسِيِّ، وَابْنِ جِنِّيٍّ وَنَحْوِهِمْ، لِأَنَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ مِنْهَا فِي الْفِقْهِ دُونَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَتَقْرِيرَ الْأَدِلَّةِ وَمُقَوِّمَاتِهَا» . أَيْ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْرِفَ «تَقْرِيرَ الْأَدِلَّةِ» وَمَا يَتَقَوَّمُ وَيَتَحَقَّقُ بِهِ كَيْفِيَّةُ نَصْبِ الدَّلِيلِ وَوَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَرُبَّمَا اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ مَعْرِفَةَ الْمَنْطِقِ، إِذْ بِهِ تَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ، وَتَقْرِيرُ مُقَدَّمَاتِهَا وَوَجْهُ إِنْتَاجِهَا الْمَطَالِبِ، لِكَوْنِهِ ضَابِطًا لِلْأَشْكَالِ الْمُنْتِجَةِ مِنْ غَيْرِهَا، وَالْحَقُّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ، لَكِنَّهُ أَوْلَى وَأَجْدَرُ بِالْمُجْتَهِدِ خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا هَذَا الَّذِي قَدِ اشْتُهِرَ فِيهِ عِلْمُ الْمَنْطِقِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ رُبَّمَا عُدَّ نَاقِصَ الْأَدَوَاتِ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: لَا يُشْتَرَطُ، لِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ، وَلَمْ يَعْرِفُوا الْمَنْطِقَ الِاصْطِلَاحِيَّ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَدَلَالَاتِهَا عَلَى الْمَطَالِبِ بِالدُّرْبَةِ وَالْقُوَّةِ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ مِثْلَهُمْ فِيهِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِيمَنْ سَاعَدَهُ طَبْعُهُ عَلَى صَوَابِ الْكَلَامِ وَاجْتِنَابِ اللَّحْنِ فِيهِ لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ عِلْمُ الْعَرَبِيَّةِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: وَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِوُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَبِمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا، مُصَدِّقًا بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ، كُلٌّ بِدَلِيلِهِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: لَيْسَ مَعْرِفَةَ الْكَلَامِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فِيهِ عَلَى عَادَةِ
(3/583)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُتَكَلِّمِينَ شَرْطًا فِي الِاجْتِهَادِ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ، إِذْ لَا يَبْلُغُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِلْمِ إِلَّا وَقَدْ قَرَعَ سَمْعَهُ أَدِلَّةُ الْكَلَامِ فَيَعْرِفُهَا، حَتَّى لَوْ تُصُوِّرَ مُقَلِّدٌ مَحْضٌ فِي تَصْدِيقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُصُولِ الْإِيمَانِ، لَجَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْفُرُوعِ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.
قَالَ: وَالْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ، إِذْ بِهِ يَصِيرُ مُسْلِمًا، وَالْإِسْلَامُ شَرْطُ الْمُفْتِي لَا مَحَالَةَ.
قُلْتُ: الْمُشْتَرَطُ فِي الِاجْتِهَادِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ حُصُولُ ظَنِّ الْحُكْمِ الشَّرْعِيَّ، سَوَاءٌ انْحَصَرَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، أَوْ خَرَجَ عَنْهُ شَيْءٌ لَمْ يُذْكَرْ فَمَعْرِفَتُهُ مُعْتَبَرَةٌ.
(3/584)
________________________________________
وَمَنْ حَصَّلَ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةٍ، فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهَا وَإِنْ جَهِلَ حُكْمَ غَيْرِهَا. وَمَنَعَهُ قَوْمٌ لِجَوَازِ تَعَلُّقِ بَعْضِ مَدَارِكِهَا بِمَا يَجْهَلُهُ، وَأَصْلُهُ الْخِلَافُ فِي تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ.
وَلَنَا: قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ: لَا أَدْرِي، حَتَّى قَالَهُ مَالِكٌ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً مِنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ.
قَالُوا: لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ.
قُلْنَا: (لَا أَدْرِي) أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْعِلْمِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُ فِي اجْتِهَادِهِ بَلْ فِي قَبُولِ فُتْيَاهُ وَخَبَرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَمَنْ حَصَّلَ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةٍ، فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهَا وَإِنْ جَهِلَ حُكْمَ غَيْرِهَا، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ» ، إِلَى آخِرِهِ.
يَعْنِي: أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ كُلَّهَا إِنَّمَا تُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ الشَّرْعِ، كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَنَحْوِهِمْ. أَمَّا مَنْ أَفْتَى فِي فَنٍّ وَاحِدٍ، أَوْ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وُجِدَ فِيهِ شُرُوطُ الِاجْتِهَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْفَنِّ، أَوْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ ذَلِكَ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيمَا حَصَّلَ شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، كَمَنْ عَرَفَ أُصُولَ الْفَرَائِضِ وَالْحِسَابِ وَهُوَ فَقِيهُ النَّفْسِ فِيهَا عَارِفًا بِمَعَانِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشَرَّكَةِ، وَمَسَائِلِ الْمُنَاسَخَاتِ وَالْجَدِّ، وَالْمَفْقُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِمَسَائِلِ الْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهَا، وَنَحْوِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ.
وَمَنَعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، فَقَالُوا: لَا يَجْتَهِدُ فِي مَسْأَلَةٍ إِلَّا مَنْ حَصَّلَ
(3/585)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ «لِجَوَازِ تَعَلُّقِ» مَدَارِكِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ «بِمَا يَجْهَلُهُ» ، فَإِنَّ الْعُلُومَ وَالْفُنُونَ وَالْمَسَائِلَ يَمُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيُبَرْهَنُ فِي بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَمَنْ جَهِلَ فَنًّا، نَقَصَ عَلَيْهِ مَادَّةُ فَنٍّ آخَرَ. وَلِهَذَا تَزِيدُ مَادَّةُ الْعِلْمِ فِي فَنٍّ بِتَحْصِيلِهِ فَنًّا آخَرَ، فَإِذَا عَرَفَ الْكَلَامَ وَالْمَنْطِقَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْقُولَاتِ، ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ تَصَوُّرِهِ لِلْحَقَائِقِ، وَتَقْرِيرِهِ لِلْأَدِلَّةِ وَتَرْكِيبِهِ لِلْأَقْيِسَةِ، وَإِذَا عَرَفَ الْحِسَابَ وَالْهَنْدَسَةَ، ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي مَهَارَتِهِ فِي الْفَرَائِضِ وَالْوَصَايَا، وَاسْتِخْرَاجِ الْمَجْهُولَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَقِسْ. وَإِذَا جَازَ تَعَلُّقُ بَعْضِ مَدَارِكِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا يَجْهَلُهُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَكُنْ مُجْتَهِدًا فِيهَا مُطْلَقًا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ.
قَوْلُهُ: «وَأَصْلُهُ الْخِلَافُ فِي تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ» . يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ هَذَا النِّزَاعِ هُوَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ مَنْصِبَ الِاجْتِهَادِ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يَتَجَزَّأَ بِمَعْنَى: أَنْ يَنَالَ الْعَالِمُ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ؟ وَقَدْ أَجَازَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الْحَقُّ، وَمَسْأَلَةُ النِّزَاعِ وَأَصْلُهَا هَذَا الْمَذْكُورُ وَاحِدٌ عِنْدَ التَّحْقِيقِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانُوا يُسْأَلُونَ عَنْ بَعْضِ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ، فَيَقُولُونَ: لَا نَدْرِي، «حَتَّى قَالَهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» ، أَيْ: قَالَ: لَا أَدْرِي «فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً مِنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ» ، يَعْنِي أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً، فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: لَا أَدْرِي، وَقَدْ تَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بَلِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
(3/586)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الْفَتَاوَى كَثِيرًا، فَلَوْ كَانَ الِاجْتِهَادُ الْمُطْلَقُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، شَرْطًا فِي الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ عَلَى حِدَتِهَا؛ لَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ مُجْتَهِدِينَ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا: لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، قُلْنَا: (لَا أَدْرِي) أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْعِلْمِ» هَذَا سُؤَالٌ مِنَ الْمَانِعِينَ لِتَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ: لَا أَدْرِي، كَانَ لِعَدَمِ آلَةِ الِاجْتِهَادِ فِيمَا سُئِلُوا عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِمْ مُجْتَهِدِينَ، إِذْ شَأْنُ الْمُجْتَهِدِ الْجَوَابُ تَارَةً، وَالتَّوَقُّفُ أُخْرَى، بِحَسَبِ ظُهُورِ الدَّلِيلِ وَخَفَائِهِ. وَحِينَئِذٍ مَا اجْتَهَدَ مِنْهُمْ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ إِلَّا مُجْتَهِدٌ مُطْلَقٌ بِاجْتِهَادٍ كُلِّيٍّ لَا جُزْئِيٍّ. وَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ دَلِيلُكُمْ عَلَى تَجَزُّؤِ الِاجْتِهَادِ.
وَتَقْرِيرُهُ الْجَوَابَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ: لَا أَدْرِي؛ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، أَوْ لِعَدَمِ اجْتِهَادِهِ فِيهَا، فَحَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الْإِمَامِ الْمُفْتِي، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إِخْبَارٌ بِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ عِلْمِ ذَلِكَ الْإِمَامِ بِحُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَيُسْتَصْحَبُ فِيهِ الْحَالُ، وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا وَقَفَ فِي الْجَوَابِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ، فَمَنِ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
(3/587)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُ فِي اجْتِهَادِهِ، بَلْ فِي قَبُولِ فُتْيَاهُ وَخَبَرِهِ» .
أَيْ: لَا يُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْمُجْتَهِدِ فِي كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا، لِأَنَّ تَصَوُّرَ الْأَحْكَامِ، وَاقْتِنَاصَهَا بِالْأَدِلَّةِ يَصِحُّ مِنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ، بَلْ وَالْكَافِرِ. وَلِهَذَا اجْتَهَدَ الْكُفَّارُ فِي مِلَلِهِمْ، وَصَنَّفُوا فِيهَا الدَّوَاوِينَ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ عَدَالَتُهُ لِقَبُولِ فُتْيَاهُ، وَإِخْبَارِهِ أَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ دَلَّ عَلَيْهِ.
وَفَائِدَةُ هَذَا التَّفْصِيلِ: أَنَّ الْفَاسِقَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْحُكْمِ، وَيَأْخُذَ بِهِ لِنَفْسِهِ، أَيْ: يَعْمَلَ بِهِ، وَلَا يُلْزَمُ غَيْرُهُ الْعَمَلَ بِاجْتِهَادِهِ وَقَبُولُ خَبَرِهِ فِيهَا بِدُونِ الْعَدَالَةِ، فَلَوْ أَدَّى الْفَاسِقَ اجْتِهَادُهُ إِلَى أَنَّ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ لَا يَنْجُسُ إِلَّا بِالتَّغْيِيرِ، لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ إِذَا كَانَ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ لِلصَّلَاةِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَا اجْتِهَادَ لَهُ، وَيَعْدِلُ إِلَى التَّيَمُّمِ. وَهَذِهِ تُشْبِهُ مَا سَبَقَ فِي اعْتِبَارِ الْفَاسِقِ فِي الْإِجْمَاعِ، وَأَنَّ إِجْمَاعَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، دُونَ غَيْرِهِ.
(3/588)
________________________________________
ثُمَّ هَهُنَا مَسَائِلٌ:
الْأُولَى: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْغَائِبِ عَنْهُ، وَلِلْحَاضِرِ بِإِذْنِهِ وَبِدُونِهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ مُطْلَقًا.
وَقِيلَ: فِي الْحَاضِرِ دُونَ الْغَائِبِ.
لَنَا: حَدِيثُ مُعَاذٍ، وَحُكْمُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِاجْتِهَادٍ بِحَضْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَذِنَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَلِرَجُلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، وَلِأَنَّهُ لَا مُحَالَ فِيهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ.
قَالُوا: كَيْفَ يَعْمَلُ بِالظَّنِّ مَعَ إِمْكَانِ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ.
قُلْنَا: لَعَلَّهُ لِمَصْلَحَةٍ، ثُمَّ قَدْ تُعُبِّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُكْمِ بِالشُّهُودِ وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَعَ إِمْكَانِ الْوَحْيِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ بِالْحَقِّ الْجَازِمِ فِيهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«ثُمَّ هَهُنَا مَسَائِلُ» ، يَعْنِي مَا سَبَقَ مِنَ الْكَلَامِ فِي الِاجْتِهَادِ، هُوَ كَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ لَهُ، ثُمَّ فِيهِ مَسَائِلُ كَالْجُزْئِيَّاتِ:
الْمَسْأَلَةُ «الْأُولَى: يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالِاجْتِهَادِ» مِنْ قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ، «فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْغَائِبِ عَنْهُ» . أَمَّا «الْحَاضِرُ» ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ «بِإِذْنِهِ» عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَمَّا بِدُونِ إِذْنِهِ، فَأَجَازَهُ «أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ، وَمَنَعَهُ» ، أَيْ: وَمَنَعَ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَوْمٌ مُطْلَقًا» ، يَعْنِي لِلْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ، بِإِذْنِهِ أَوْ بِدُونِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: يَمْتَنِعُ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ الْغَائِبِ عَنْهُ، فَالْمَذَاهِبُ إِذَنْ ثَالِثُهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَرَابِعُهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي «الْمُخْتَصَرِ» الْوَقْفُ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ.
(3/589)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَحَكَى الْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ وَالْجَوَازَ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فِي غَيْبَتِهِ، لَا فِي حُضُورِهِ، دُونَ غَيْرِهِمْ، وَالْمُجَوِّزُونَ مِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ الْإِذْنَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى بِالسُّكُوتِ، وَاخْتَارَ هُوَ الْجَوَازَ فِي غَيْبَتِهِ وَحَضْرَتِهِ، مَعَ إِذْنِهِ أَوْ سُكُوتِهِ.
قُلْتُ: وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ أَظُنُّهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا، وَالنِّزَاعُ إِمَّا فِي الْجَوَازِ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا، أَوْ فِي الْوُقُوعِ، وَالظَّاهِرُ إِثْبَاتُ الْجَمِيعِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: لَنَا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: «حَدِيثُ مُعَاذٍ» حَيْثُ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حُكْمٌ بِالِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِهِ.
قُلْتُ: لَكِنْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ، أَوْ بَيْنَ الْغَائِبِ وَغَيْرِهِ، لَا يَلْزَمُهُ هَذَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، حَكَمَ فِي قُرَيْظَةَ، لَمَّا حَصَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ: أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَصَوَّبَ حُكْمَهُ وَقَالَ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ، وَفِي رِوَايَةٍ: بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ. أَوْ: سَمَاوَاتٍ.
(3/590)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَمَنْ يَجْعَلُ سَعْدًا وَالِيًا، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَالِي وَغَيْرِهِ، لَا يَلْزَمُهُ هَذَا أَيْضًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَذِنَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَلِرَجُلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، أَيْ: فِي الِاجْتِهَادِ، فَقَالَ لِعَمْرٍو فِي بَعْضِ الْقَضَايَا: «احْكُمْ» ، فَقَالَ: أَجْتَهِدُ وَأَنْتَ حَاضِرٌ؟ ! قَالَ: نَعَمْ إِنْ أَصَبْتَ فَلَكَ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ أَجْرٌ وَقَالَ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَصَاحِبَيْهِ: اجْتَهِدُوا فَإِنْ أَصَبْتُمْ، فَلَكُمْ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتُمْ فَلَكُمْ حَسَنَةٌ فَهَذَا مِنْ غَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ.
قُلْتُ: وَمَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِذْنِ وَغَيْرِهِ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا، لِأَنَّهُ بِإِذْنٍ مِنَ الشَّارِعِ.
قُلْتُ: وَهَذِهِ الْآثَارُ ذَكَرَهَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ، وَلَمْ أَقِفْ مِنْهَا إِلَّا عَلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادِهِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى سَائِرِ التَّفَاصِيلِ فِيهِ، لَا هُوَ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ، فَالِاجْتِهَادُ فِي زَمَنِهِ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ بَيِّنٌ غَنِيٌّ عَنْ تَقْرِيرِ مُقَدَّمَاتِهِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» يَعْنِي الْمَانِعِينَ، قَالُوا: الِاجْتِهَادُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَلٌ بِالظَّنِّ، مَعَ إِمْكَانِ عِلْمِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ بِالْوَحْيِ، مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ
(3/591)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْعُدُولُ عَنِ الْعِلْمِ إِلَى الظَّنِّ غَيْرُ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ تَهَاوُنٌ بِالْأَحْكَامِ، وَتَرْكٌ لِلْأَقْوَى مِنْهَا إِلَى الْأَضْعَفِ، فَلَا يَجُوزُ، كَتَرْكِ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ إِلَى الْقِيَاسِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» : الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ مَعَ إِمْكَانِ الْعِلْمِ بِالْوَحْيِ «لَعَلَّهُ لِمَصْلَحَةٍ» ، أَيْ: لَعَلَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ، وَالشَّرْعُ مَوْضُوعٌ لِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَضَمَّنَ مَصْلَحَةً، وَقَدْ وَقَعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ قَدْ تُعُبِّدَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا نَقْضٌ لِدَلِيلِهِمُ الْمَذْكُورِ، أَيْ: ثُمَّ بَعْدَ جَوَابِنَا عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ، هُوَ مَنْقُوضٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ تُعُبِّدَ بِالْحُكْمِ فِي الْحُقُوقِ «بِالشُّهُودِ وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ» ، وَهُوَ إِنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ «مَعَ إِمْكَانِ الْوَحْيِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ» مِنْ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ «بِالْحَقِّ الْجَازِمِ» ، وَالْعِلْمِ الْقَاطِعِ «فِيهَا» .
وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ: أَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الْجَوَازِ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ، فَلَا يَثْبُتُ بِهَا، وَالْجَوَابُ بِمَنْعِ كَوْنِهَا قَطْعِيَّةً.
(3/592)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ.
لَنَا: لَا مُحَالَ ذَاتِيَّ، وَلَا خَارِجِيَّ.
قَالُوا: يُمْكِنُهُ التَّحْقِيقُ بِالْوَحْيِ، وَالِاجْتِهَادُ عُرْضَةُ الْخَطَأِ.
قُلْنَا: الظَّنُّ مُتَّبَعٌ شَرْعًا وَلَا يُخْطِئُ لِعِصْمَةِ اللَّهِ لَهُ، أَوْ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ فَيَسْتَدْرِكُ، أَمَّا وُقُوعُهُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيَّةُ، وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ.
لَنَا: (اعْتَبِرُوا) وَهُوَ عَامٌّ، فَيَجِبُ الِامْتِثَالُ، وَعُوتِبَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَالْإِذْنِ لِلْمُخَلَّفِينَ، وَلَوْ كَانَ نَصًّا لَمَا عُوتِبَ، وَقَالَ: «إِلَّا الْإِذْخِرَ» وَ «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ. لَوَجَبَتْ» وَلَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا لَمَا قَتَلْتُهُ، وَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ وَالْحُبَابُ: إِنْ كَانَ هَذَا بِوَحْيٍ فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الرَّأْيَ، فَقَالَ: بَلْ بِاجْتِهَادٍ وَرَأْيٍ رَأَيْتُهُ وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ.
وَقَدْ حَكَمَ دَاوُدُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِاجْتِهَادِهِ وَإِلَّا لَمَا خَالَفَهُ سُلَيْمَانُ، وَإِلَّا لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، خِلَافًا لِقَوْمٍ» .
اعْلَمْ أَنَّ مَا فِيهِ نَصٌّ إِلَهِيٌّ؛ لَا يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِ بِخِلَافِ النَّصِّ شَرْعًا، لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الْأَنْعَامُ: 106] . أَمَّا مَا
(3/593)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا نَصَّ فِيهِ، فَهَلْ هُوَ مُتَعَبَّدٌ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ أَمْ لَا؟ وَالْمَذَاهِبُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ:
أَحَدُهَا: الْإِثْبَاتُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ.
وَالثَّانِي: النَّفْيُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَائِيِّ، وَابْنِهِ أَبِي هَاشِمٍ.
وَالثَّالِثُ: الْإِثْبَاتُ فِي الْحُرُوبِ وَالْآرَاءِ، دُونَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَالرَّابِعُ: تَجْوِيزُهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِهِ. حَكَاهُ الْآمِدِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي رِسَالَتِهِ.
قَالَ: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَوُقُوعِهِ، وَالْأَصَحُّ جَوَازُهُ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُحَالٌ، وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يُنَازِعُ فِي الْجَوَازِ عَقْلًا، إِنَّمَا يُنَازِعُ مَنْ يُنَازِعُ فِيهِ شَرْعًا.
وَأَمَّا الْوُقُوعُ، فَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِيهِ أَقْوَالًا، ثَالِثُهَا الْوَقْفُ وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: تَوَقَّفَ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْكُلِّ، وَاخْتَارَ الْآمِدِيُّ الْجَوَازَ وَالْوُقُوعَ.
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا يُوسُفَ قَالَا بِالْوُقُوعِ.
قَوْلُهُ: «لَنَا» ، أَيْ: الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ أَنَّهُ «لَا مُحَالَ» فِيهِ «ذَاتِيٌّ وَلَا خَارِجِيٌّ» ، أَيْ: لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَلَا لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا:» . هَذِهِ حُجَّةُ الْخَصْمِ.
وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُمْكِنُهُ تَحْقِيقُ الْأَحْكَامِ، وَتَحْقِيقُهَا بِالْوَحْيِ، «وَالِاجْتِهَادُ عُرْضَةُ الْخَطَأِ» فَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الصَّوَابِ قَطْعًا. وَهَذَا نَحْوٌ مِمَّا سَبَقَ لَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «الظَّنَّ مُتَّبَعٌ» فِي الشَّرْعِ، وَاجْتِهَادُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقَلُّ أَحْوَالِهِ
(3/594)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنْ يُفِيدَ الظَّنَّ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ كَغَيْرِهِ، وَأَوْلَى.
الثَّانِي: أَنَّ الِاجْتِهَادَ يُفِيدُ الظَّنَّ، وَظَنُّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يُخْطِئُ لِعِصْمَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، أَوْ يُخْطِئُ لَكِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ، بَلْ يُنَبَّهُ عَلَى الْخَطَأِ، فَيَسْتَدْرِكُهُ، وَالْكَلَامُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» إِلَى هَهُنَا فِي الْجَوَازُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ: مَسْأَلَةُ التَّفْوِيضِ، وَهِيَ مَا إِذَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احْكُمْ بِرَأْيِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ. وَهُوَ اجْتِهَادٌ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.
قَوْلُهُ: «أَمَّا وُقُوعُهُ» ، أَيْ: وُقُوعُ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، «فَاخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا وَالشَّافِعِيَّةُ، وَأَنْكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ» . وَقَدْ سَبَقَتْ حِكَايَةُ الْمَذَاهِبِ فِيهِ.
قَوْلُهُ: لَنَا «اعْتَبِرُوا» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: لَنَا عَلَى وُقُوعِهِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الْحَشْرِ: 2] ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ، فَيَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ بِالِاعْتِبَارِ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الِامْتِثَالُ، وَإِلَّا كَانَ عَاصِيًا، وَهُوَ مَعَ عِصْمَةِ النُّبُوَّةِ مُحَالٌ.
قُلْتُ: هَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عُوتِبَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ» ، حَيْثُ قَبِلَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الْأَنْفَالِ: 67، 68] ، وَعُوتِبَ فِي إِذْنِهِ لِلْمُخَلَّفِينَ عَنِ الْقِتَالِ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ، بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التَّوْبَةِ:
(3/595)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
43] ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَمَلًا مِنْهُ بِالنَّصِّ، لَمَا عُوتِبَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا قَالَ فِي شَأْنِ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى: لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا قَالَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لِبُيُوتِنَا وَقُبُورِنَا - أَوْ: لِقُبُورِنَا - فَقَالَ: إِلَّا الْإِذْخِرَ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَثْنَاهُ بِاجْتِهَادِهِ، إِجَابَةً لِلْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ، إِذْ لَوْ دَخَلَ الْإِذْخِرُ فِي عُمُومِ الْمَنْعِ مِنْهُ؛ لَمَا جَازَ أَنْ يُجِيبَ الْعَبَّاسَ إِلَيْهِ.
وَلَمَّا سَأَلَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ عَنِ الْحَجِّ: أَلِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِلْأَبَدِ؟ قَالَ: لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ: لِعَامِنَا، لَوَجَبَتْ الْكَلِمَةُ أَوِ الْحَجَّةُ مُكَرَّرَةٌ كُلَّ عَامٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ بِاجْتِهَادِهِ.
قُلْتُ: إِنَّمَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ إِنْ دَلَّ، وَالْكَلَامُ فِي الْوُقُوعِ. وَلَمَّا قَتَلَ النَّضْرُ بْنَ الْحَارِثِ بِبَدْرٍ، جَاءَتْ أُخْتُهُ قُتَيْلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ، فَأَنْشَدَتْهُ أَبْيَاتًا مِنْهَا:
(3/596)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمُحَمَّدٌ وَلَأَنْتَ نَجْلُ كَرِيمَةٍ ... مِنْ قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ
فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَوْ سَمِعْتُ شِعْرَهَا قَبْلَ قَتْلِهِ، مَا قَتَلْتُهُ، وَلَوْ قَتَلَهُ بِالنَّصِّ، لَمَا قَالَ ذَلِكَ.
«وَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ» : يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا أَرَادَ صُلْحَ الْأَحْزَابِ عَلَى شَطْرِ نَخْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ كَتَبَ بَعْضَ الْكِتَابِ بِذَلِكَ: إِنْ كَانَ بِوَحْيٍ، فَسَمْعًا وَطَاعَةً، «وَإِنْ كَانَ بِاجْتِهَادٍ، فَلَيْسَ هَذَا هُوَ الرَّأْيَ» ، وَكَذَلِكَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ؛ لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَنْزِلَ بِبَدْرٍ دُونَ الْمَاءِ؛ قَالَ لَهُ: إِنْ كَانَ هَذَا بِوَحْيٍ، فَنَعَمْ، وَإِنْ كَانَ الرَّأْيَ وَالْمَكِيدَةَ، فَانْزِلْ بِالنَّاسِ عَلَى الْمَاءِ، لِتَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ، فَقَالَ لَهُمْ: لَيْسَ بِوَحْيٍ إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ وَاجْتِهَادٌ رَأَيْتُهُ «وَرَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِالِاجْتِهَادِ.
(3/597)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَمَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحُرُوبِ وَالْآرَاءِ، وَالْأَحْكَامِ لَا يَلْزَمُهُ هَذَا، وَلَا قِصَّةُ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، وَفِدَاءِ الْأُسَارَى، وَالْإِذْنِ لِلْمُخَلَّفِينَ، لِأَنَّهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْحُرُوبِ.
وَيَرِدُ عَلَى هَذِهِ الصُّوَرِ جَمِيعِهَا جَوَازُ اقْتِرَانِ الْوَحْيِ بِهَا، أَوْ تَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ: إِذَا كَانَ كَذَا فَافْعَلْ كَذَا، وَتَخْصِيصُ قَضِيَّةِ الْحَجِّ بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى كَلَامِهِ: لَوْ قُلْتُ: لِعَامِنَا، لَمَا قُلْتُ إِلَّا عَنْ وَحْيٍ، وَلَوَجَبَ - لَا مَحَالَةَ - تَكْرَارُهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ حَكَمَا فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ بِاجْتِهَادِهِمَا، أَمَّا دَاوُدُ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ، لَمَا جَازَ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يُخَالِفَهُ، وَلَا لِدَاوُدَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ، لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] عَلَى طَرِيقِ الْمَدْحِ.
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ دَاوُدَ حَكَمَ بِالْوَحْيِ، فَلِذَلِكَ خَالَفَهُ، وَأَنَّ تَفْهِيمَ سُلَيْمَانَ كَانَ بِالنَّصِّ كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النِّسَاءِ: 113] وَهُوَ بِالْوَحْيِ.
وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ دَاوُدَ لَوْ حَكَمَ بِالْوَحْيِ، لَمَا رَجَعَ إِلَى قَوْلِ سُلَيْمَانَ، وَلَرَجَعَ سُلَيْمَانُ عَنْ رَأْيِهِ لَمَّا عَلِمَ بِالْوَحْيِ، وَسُلَيْمَانُ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْقِصَّةَ كَانَتْ وَهُوَ صَبِيٌّ بَعْدُ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعَبُّدِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّ هَذَيْنِ نَبِيَّانِ قَدْ حَكَمَا بِاجْتِهَادِهِمَا. وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمَا وَبِغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الْأَنْعَامِ: 90] . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْأَمْرُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ مُطْلَقٌ لَا عُمُومَ لَهُ، فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ.
(3/598)
________________________________________
قَالُوا: مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، وَلَوِ اجْتَهَدَ لَنُقِلَ وَاسْتَفَاضَ، وَلَمَا انْتَظَرَ الْوَحْيَ، وَلَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ، فَكَانَ يُتَّهَمُ.
قُلْنَا: الْحُكْمُ عَنْ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ عَنِ الْهَوَى، لِاعْتِمَادِهِ عَلَى إِذْنٍ وَدَلِيلٍ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُقُوعِ النَّقْلُ، فَضْلًا عَنِ الِاسْتِفَاضَةِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَا مُشْتَهِرٌ، وَانْتِظَارُ الْوَحْيِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَاسْتِبْهَامِ وَجْهِ الْحَقِّ وَالتُّهْمَةِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا، إِذْ قَدِ اتُّهِمَ فِي النَّسْخِ وَلَمْ يُبْطِلْهُ، وَلَا يَتْرُكُ حَقًّا لِبَاطِلٍ، ثُمَّ الِاجْتِهَادُ مَنْصِبُ كَمَالٍ لِشَحْذِهِ الْقَرِيحَةَ، وَحُصُولِ ثَوَابِهِ، فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى النَّاسِ بِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا» : يَعْنِي الْمَانِعِينَ احْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمٌ بِالْهَوَى، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ، لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النَّجْمِ: 3] ، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] ، أَوْ نَقُولُ: هُوَ لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى عَمَلًا بِالْوَحْيِ الصَّادِقِ، وَالْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمٌ بِالْهَوَى، فَهُوَ لَا يَنْطِقُ بِهِ، فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: «لَوِ اجْتَهَدَ، لَنُقِلَ وَاسْتَفَاضَ» ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ مُسْتَفِيضًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ، وَالْقَضَايَا الَّتِي ذُكِرَتْ فِي ذَلِكَ مُحْتَمَلَةٌ، ثُمَّ هِيَ آحَادٌ لَا تُفِيدُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْأَحْكَامِ «لَمَا انْتَظَرَ الْوَحْيَ» فِي بَعْضِ
(3/599)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَقَائِعِ، كَقِصَّةِ بَنَاتِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فِي تَرِكَةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ؛ حَتَّى نَزَلَتْ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النِّسَاءِ: 11] ؛ لَكِنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الْأَحْكَامِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: لَوِ اجْتَهَدَ فِي الْأَحْكَامِ، «لَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ» فِيهَا، كَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ، «فَكَانَ يُتَّهَمُ» بِسَبَبِ تَغَيُّرِ الرَّأْيِ، وَكَانَ يَلْزَمُ مِنِ اجْتِهَادِهِ مَفْسَدَةٌ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ، وَهِيَ مَفْسَدَةُ تَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ:
أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ، فَبِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ بِالِاجْتِهَادِ نُطْقٌ عَنِ الْهَوَى، لِاعْتِمَادِهِ عَلَى الْإِذْنِ وَالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، إِنَّمَا الْحُكْمُ بِالْهَوَى وَالنُّطْقُ عَنْهُ مَا لَا يَسْتَنِدُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ نَقْلُهُ، فَضْلًا عَنِ اسْتِفَاضَتِهِ، بَلْ كَمْ مِنْ قَضِيَّةٍ وَقَعَتْ وَلَمْ تُنْقَلْ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَايَاهُ الِاجْتِهَادِيَّةَ لَمْ تَشْتَهِرْ، بَلْ هِيَ مُسْتَفِيضَةٌ مُشْتَهِرَةٌ.
قَوْلُهُمْ: هِيَ مُحْتَمَلَةٌ.
قُلْنَا: احْتِمَالًا بَعِيدًا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُمْ: هِيَ آحَادٌ لَا تُفِيدُ.
(3/600)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْنَا: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا آحَادٌ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الِاسْتِفَاضَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ تَثْبُتُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ.
وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ انْتِظَارَ الْوَحْيِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ عِنْدَ تَعَارُضِ مَدَارِكِ الْحُكْمِ، وَمَسَالِكِ الِاجْتِهَادِ، «وَاسْتِبْهَامِ وَجْهِ الْحَقِّ» أَمَّا حَيْثُ ظَهَرَ لَهُ الْحُكْمُ، فَكَانَ يَجْتَهِدُ وَلَا يَنْتَظِرُ.
وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ، لَاخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُ، وَالْفَرْقُ عِصْمَتُهُ، وَتَأْيِيدُهُ الْإِلَهِيُّ دُونَهُمْ. سَلَّمْنَاهُ؛ لَكِنْ غَايَةُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ «التُّهْمَةِ» ، لَكِنْ «لَا تَأْثِيرَ لَهَا، إِذْ قَدِ اتُّهِمَ فِي النَّسْخِ» حَتَّى قَالَ السُّفَهَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [الْبَقَرَةِ: 142] ، وَحَتَّى قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَعْمَلُ بِرَأْيِهِ، فَيَعْمَلُ الْيَوْمَ شَيْئًا، وَيُخَالِفُهُ غَدًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَضِ تَطَرُّقُ التُّهْمَةِ بُطْلَانَ النَّسْخِ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَرْكُ حَقٍ لِبَاطِلٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الِاجْتِهَادُ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَوْجِيهٌ آخَرُ لِوُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ، مُؤَكِّدٌ لِمَا سَبَقَ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ «الِاجْتِهَادَ مَنْصِبُ كَمَالٍ لِشَحْذِهِ الْقَرِيحَةَ» بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَمُقَدَّمَاتِهَا، «وَحُصُولِ ثَوَابِهِ» ، أَيْ: ثَوَابِ الِاجْتِهَادِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِتْعَابِ النَّفْسِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحُكْمِ، فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَوْلَى النَّاسِ بِهِ» ، ضَمًّا لِكَمَالِ الِاجْتِهَادِ الْكَسْبِيِّ السَّلْبِيِّ إِلَى الْكَمَالِ الْمُنْتِجِيِّ الْإِلَهِيِّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/601)
________________________________________
الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَقُّ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَيْنًا فِي فُرُوعِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ، وَمَنْ عَدَاهُ مُخْطِئٌ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي فُرُوعٍ وَلَا قَاطِعَ، فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ، مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ وَالْجَاحِظُ: لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ مَعَ الْجِدِّ فِي طَلَبِهِ مُطْلَقًا، حَتَّى مُخَالِفِ الْمِلَّةِ. وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْإِثْمُ لَاحِقٌ لِلْمُخْطِئِ مُطْلَقًا، إِذْ فِي الْفُرُوعِ حَقٌّ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالْعَقْلُ قَاطِعٌ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ لِغَيْرِهِ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قَاطِعٌ، بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ، وَرُبَّمَا أَنْكَرُوا الْحُكْمَ بِالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الثَّالِثَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْحَقُّ " فِي " قَوْلِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَيْنًا "، أَيْ: الْمُصِيبُ مُعَيَّنٌ " فِي فُرُوعِ الدِّينِ وَأُصُولِهِ، وَمَنْ عَدَاهُ مُخْطِئٌ، ثُمَّ إِنْ كَانَ " يَعْنِي خَطَأَ الْمُخْطِئِ " فِي فُرُوعِ " الدِّينِ، " وَلَا قَاطِعَ "، أَيْ: وَلَيْسَ هُنَاكَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَيْهِ، " فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي خَطَئِهِ، مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ وَالْجَاحِظُ: لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ، مَعَ الْجِدِّ فِي طَلَبِهِ مُطْلَقًا " يَعْنِي فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، " حَتَّى مُخَالِفِ الْمِلَّةِ " كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالدَّهْرِيَّةِ؛ لَوْ جَدُّوا فِي
(3/602)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طَلَبِ الْحَقِّ وَلَمْ يُعَانِدُوا. " وَالظَّاهِرِيَّةُ "، أَيْ: وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ " وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ " الْإِثْمُ لَاحِقٌّ لِلْمُخْطِئِ مُطْلَقًا، إِذْ فِي الْفُرُوعِ حَقٌّ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالْعَقْلُ قَاطِعٌ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ لِغَيْرِهِ، إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ قَاطِعٌ "، يَعْنِي أَنَّ الظَّاهِرِيَّةَ وَبَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ، مِنْهُمْ بِشْرُ الْمَرِيسِيُّ، وَابْنُ عَلِيَّةَ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ، وَالْإِمَامِيَّةُ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، قَالُوا: إِنَّ " الْإِثْمَ لَاحِقٌّ لِلْمُخْطِئِ مُطْلَقًا " فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَعِبَارَةُ " الرَّوْضَةِ " وَ " الْمُسْتَصْفَى ": إِنَّ الْإِثْمَ غَيْرُ مَحْطُوطٍ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ. فَفَهِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ أَوْلَى، لِأَنَّ فِي الْفُرُوعِ حَقًّا مُتَعِيِّنًا، عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، فَمَا ثَبَتَ مِنْهَا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ قَاطِعٍ، فَهُوَ ثَابِتٌ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قَطْعًا، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍ، إِذْ لَا مَجَالَ لِلظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ.
قَوْلُهُ: " بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمْ ". أَيْ: وَإِنَّمَا قَالَ هَؤُلَاءِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، " بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمْ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسَ، وَرُبَّمَا أَنْكَرُوا الْحُكْمَ بِالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ "، لِأَنَّ هَذِهِ هِيَ مَدَارِكُ الظُّنُونِ فِي الشَّرْعِ، فَإِذَا أَنْكَرُوهَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ مَا يُفِيدُ الظَّنَّ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ مَا يُفِيدُ الْقَطْعَ، كَالنَّصِّ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّهَا تُفِيدُ الْعِلْمَ عِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ الْفِقْهِيَّةُ ظَنِّيَّةً؛ فَإِنْ كَانَ فِيهَا نَصٌّ، وَقَصَّرَ الْمُجْتَهِدُ فِي طَلَبِهِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ، أَوْ كَانَ فِيهَا نَصٌّ وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي طَلَبِهِ، فَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو الْهُذَيْلِ، وَالْجُبَائِيُّ وَابْنُهُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ، وَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهَا مَا أَدَّى إِلَيْهِ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ.
(3/603)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ: إِنَّ الْمُصِيبَ فِيهَا وَاحِدٌ، وَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ.
وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَالْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ: التَّخْطِئَةُ وَالتَّصْوِيبُ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ تَصْوِيبُ الْوَاحِدِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَثِيرٌ، وَرُبَّمَا ذَكَرْنَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا مَا نَرْجُو أَنْ تَتَحَقَّقَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
(3/604)
________________________________________
الْأَوَّلُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وَلَوْلَا تَعَيُّنُ الْحَقِّ فِي جِهَةٍ لَمَا خُصَّ بِالتَّفْهِيمِ، وَلَوْلَا سُقُوطُ الْإِثْمِ عَنِ الْمُخْطِئِ لَمَا مُدِحَ دَاوُدُ بِـ كُلًّا آتَيْنَا.
الثَّانِي: لَا غَرَضَ لِلشَّارِعِ فِي تَعْيِينِ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ تَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ الظَّنِّيِّ، وَطَلَبُ الْأَشْبَهِ، فَإِنْ أَصَابَهُ أُجِرَ أَجْرَيْنِ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ أُجِرَ لِلِاجْتِهَادِ، وَفَاتَهُ أَجْرُ الْإِصَابَةِ، وَتَخْصِيصُ سُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ لِإِصَابَتِهِ الْأَشْبَهَ، لَا لِأَنَّ ثَمَّ حُكْمًا مُعَيَّنًا هُوَ مَطْلُوبُ الْمُجْتَهِدِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْقَائِلُ: إِنَّ الْحَقَّ فِي قَوْلِ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ بِقَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 78 - 79] وَلَوْلَا أَنَّ الْحَقَّ فِي جِهَةٍ بِعَيْنِهَا، «لَمَا خُصَّ» سُلَيْمَانُ «بِالتَّفْهِيمِ» ، إِذْ كَانَ يَكُونُ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ، «وَلَوْلَا سُقُوطُ الْإِثْمِ عَنِ الْمُخْطِئِ، لَمَا مُدِحَ دَاوُدُ» عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] ، لِأَنَّ الْمُخْطِئَ لَا يُمْدَحُ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي قَوْلِ مُجْتَهِدٍ مُعَيَّنٍ، وَأَنَّ الْمُخْطِئَ فِي الْفُرُوعِ غَيْرُ آثِمٍ.
قَوْلُهُ: «الثَّانِي» ، أَيْ: احْتَجَّ الثَّانِي وَهُوَ الْقَائِلُ: إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفُرُوعِ مُصِيبٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ حُكْمٌ مَقْصُودٌ، بَلِ الْمَقْصُودُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ؛ بِأَنْ قَالَ: «لَا غَرَضَ لِلشَّارِعِ فِي تَعْيِينِ حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ» لِأَنَّ الْغَرَضَ فِي
(3/605)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ بَعْضُ الْأَشْيَاءِ أَوْلَى بِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَالشَّارِعُ لَيْسَ كَذَلِكَ. إِذْ هَذَا شَأْنُ مَنْ يَلْحَقُهُ النَّفْعُ بِفِعْلِ الْأَوْلَى بِهِ، وَالضَّرَرُ بِتَرْكِهِ، وَالشَّارِعُ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ، «وَإِنَّمَا قَصْدُهُ تَعَبُّدُ الْمُكَلَّفِ بِالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى اجْتِهَادِهِ الظَّنِّيِّ، وَطَلَبُ الْأَشْبَهِ» بِمَقْصُودِ الشَّرْعِ لَوْ كَانَ لَهُ مَقْصُودٌ مُعَيَّنٌ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِ الْأَشْبَهِ، «فَإِنْ أَصَابَهُ أُجِرَ أَجْرَيْنِ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ أُجِرَ لِلِاجْتِهَادِ، وَفَاتَهُ أَجْرُ الْإِصَابَةِ» .
قَوْلُهُ: «وَتَخْصِيصُ سُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ» هَذَا جَوَابٌ عَنْ حُجَّةِ الْأَوَّلِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّ الْحَقَّ مُعَيَّنٌ، وَهُوَ أَنَّ تَخْصِيصَ سُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ، أَيْ: بِالْإِخْبَارِ، أَنَّهُ فَهِمَ الْحُكْمَ «لِإِصَابَتِهِ الْأَشْبَهَ، لَا لِأَنَّ ثَمَّ حُكْمًا مُعَيَّنًا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلْمُجْتَهِدِ» ، وَقَدْ فَسَّرْنَا الْأَشْبَهَ مَا هُوَ.
(3/606)
________________________________________
فَإِنْ قِيلَ: إِنْ عَنَيْتُمُ الْأَشْبَهَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، دَلَّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ حُكْمًا مُعَيَّنًا، وَالَّذِي يُصِيبُهُ الْمُجْتَهِدُ أَشْبَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَبَيِّنُوا الْمُرَادَ بِهِ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ الْأَشْبَهُ بِمَا عُهِدَ مِنْ حِكْمَةِ الشَّرْعِ، وَلَا يَلْزَمُ التَّعْيِينُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، هُوَ الْمُعَيَّنُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قُلْنَا: لِلْقَطْعِ بِأَنَّ لَا غَرَضَ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّ تَعْيِينَهُ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً.
قُلْنَا: وَلَعَلَّ عَدَمَهُ كَذَلِكَ، فَمَا الْمُرَجِّحُ؟
قَالُوا: الدَّلِيلُ يَسْتَدْعِي مَدْلُولًا قَطْعِيًّا.
قُلْنَا: الْمَدْلُولُ أَعَمُّ مِنَ الْمُعَيَّنِ وَغَيْرِهِ، فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَحْكَامُ الْقِيَاسِيَّةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّصِّيَّةِ، وَالنَّصِّيَّةُ مُعَيَّنَةٌ، فَكَذَا الْقِيَاسِيَّةُ.
قُلْنَا: قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَظْهَرُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا تَشْكِيكٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَشْبَهِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنْ يُقَالَ: " إِنْ عَنَيْتُمْ " بِالْأَشْبَهِ مَا هُوَ أَشْبَهُ " عِنْدَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - دَلَّ عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ حُكْمًا مُعَيَّنًا، وَالَّذِي يُصِيبُهُ الْمُجْتَهِدُ أَشْبَهُ " بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ " مِنْ غَيْرِهِ "، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ، وَإِنْ لَمْ تَعْنُوا بِهِ هَذَا فَبَيِّنُوا مُرَادَكُمْ بِهِ، حَتَّى نَعْلَمَهُ، وَنَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ بِمَا عِنْدَنَا.
(3/607)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَنَّ " الْمُرَادَ " بِالْأَشْبَهِ الْمَطْلُوبِ لِلْمُجْتَهِدِ هُوَ " الْأَشْبَهُ بِمَا عُهِدَ مِنْ حِكْمَةِ الشَّرْعِ "، بِحَيْثُ لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الشَّرْعَ لَوْ عَيَّنَ حُكْمًا مُلَائِمًا لِحِكْمَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، الْمَفْهُومَةِ مِنْ نُصُوصِهِ وَإِشَارَتِهِ وَإِيمَائِهِ، لَكَانَ مَطْلُوبَ الْمُجْتَهِدِ، وَمَا أَصَابَهُ بِاجْتِهَادِهِ أَشْبَهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُقَدَّرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِينُ الْحُكْمِ فِي جِهَةٍ.
قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ: "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا سُؤَالٌ آخَرُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَشْبَهِ.
وَتَقْرِيرُهُ " أَنْ يُقَالَ: " لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ " الَّذِي فَسَّرْتُمُوهُ هُوَ " فِي نَفْسِ الْأَمْرِ " الْحُكْمَ " الْمُعَيَّنَ عِنْدَ اللَّهِ " - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - لَا يَخْتَارُ مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا مَا نَاسَبَ الْحِكْمَةَ وَاقْتَضَتْهُ، فَيَكُونُ الْمُعَيَّنُ هُوَ الْأَشْبَهَ، وَيَلْزَمُ تَعْيِينُ الْحُكْمِ.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّا إِنَّمَا قُلْنَا بِأَنَّ الْأَشْبَهَ لَيْسَ مُعَيَّنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - " لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي تَعْيِينِهِ " بِمَا سَبَقَ آنِفًا، فَلَوْ عَيَّنَهُ مَعَ ذَلِكَ، لَكَانَ تَعْيِينُهُ عَبَثًا.
قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا سُؤَالٌ آخَرُ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ تَعْيِينَ الْحُكْمِ يَجُوزُ قَطْعًا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ، فَلَعَلَّ تَعْيِينَ الْحُكْمِ تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً لَهُمْ، فَتَعَيَّنَ لِتَحْصِيلِهَا.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَ
(3/608)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَعْيِينِ الْحُكْمِ يَجُوزُ قَطْعًا أَنْ يَتَضَمَّنَ مَصْلَحَةً لَهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ تَحْصِيلًا لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، " فَمَا الْمُرَجِّحُ " لِتَعْيِينِهِ عَلَى عَدَمِهِ، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي جَوَازِ تَضَمُّنِهِمَا لِلْمَصْلَحَةِ؟
" قَالُوا " يَعْنِي الْقَائِلَ بِتَعْيِينِ الْحُكْمِ: " الدَّلِيلُ يَسْتَدْعِي مَدْلُولًا قَطْعِيًّا " وَالشَّرْعُ قَدْ أَمَرَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالِاسْتِدْلَالِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَدْلُولٌ، لَتَجَرَّدَ الدَّلِيلُ عَنِ الْمَدْلُولِ وَهُوَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ وَالْمَدْلُولَ مِنَ الْإِضَافِيَّاتِ الَّتِي يَسْتَلْزِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، كَالْأَبِ وَابْنِهِ، وَالْأَخِ وَأَخِيهِ.
" قُلْنَا ": أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمْ أَنَّ كَوْنَ الدَّلِيلِ يَسْتَدْعِي مَدْلُولًا مُسَلَّمٌ، لَكِنَّ الْمَدْلُولَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ يَسْتَدْعِي مَدْلُولًا مُعَيَّنًا، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَسْتَدْعِيَ مَدْلُولًا مُطْلَقًا، فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَشْبَهِ، وَلَا يَلْزَمُ التَّعْيِينُ.
قَوْلُهُ: " فَإِنْ قِيلَ "، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا سُؤَالٌ آخَرُ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ " الْأَحْكَامَ الْقِيَاسِيَّةَ " أَيِ: الثَّابِتَةَ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ " مَحْمُولَةٌ عَلَى النَّصِّيَّةِ "، أَيِ الثَّابِتَةِ بِالنُّصُوصِ، ثُمَّ إِنَّ الْأَحْكَامَ " النَّصِّيَّةَ مُعَيَّنَةٌ "، إِذْ لَا مَعْنَى لِلنَّصِّ عَلَى الْحُكْمِ إِلَّا الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، لِيَتَّجِهَ التَّكْلِيفُ بِهِ، " فَكَذَا الْقِيَاسِيَّةُ " يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً.
قَوْلُهُ: " قُلْنَا "، أَيِ: الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ " قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ "، لِأَنَّكُمْ قِسْتُمُ الْأَحْكَامَ الْقِيَاسِيَّةَ فِي التَّعْيِينِ، عَلَى الْأَحْكَامِ النَّصِّيَّةِ فِيهِ، " وَمَا ذَكَرْنَاهُ " مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ التَّعْيِينِ " أَظْهَرُ "، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَالْعَمَلُ بِأَظْهَرِ الدَّلِيلَيْنِ وَأَقْوَاهُمَا مُتَعَيِّنٌ.
(3/609)
________________________________________
الْجَاحِظُ: الْإِثْمُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ قَبِيحٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ الْآرَاءِ، وَاعْتِوَارِ الشُّبَهِ وَعَدَمِ الْقَوَاطِعِ الْجَوَازِمِ. وَيَلْزَمُهُ رَفْعُ الْإِثْمِ عَنْ مُنْكِرِي الصَّانِعِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّاتِ، وَالْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ قَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا} إِذِ اجْتِهَادُهُمْ أَدَّاهُمْ إِلَى ذَلِكَ.
وَلَهُ مَنْعُ أَنَّهُمُ اسْتَفْرَغُوا الْوُسْعَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَأَثَّمَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْجِدِّ، لَا عَلَى الْخَطَأِ، وَقَوْلُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ حُجَّةً كَالنَّظَّامِ، أَوْ قَطْعِيَّتُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ، وَقَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ بَاطِلٌ لِبُطْلَانِ مَبْنَاهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «الْجَاحِظُ» ، أَيِ: احْتَجَّ الْجَاحِظُ عَلَى التَّصْوِيبِ مُطْلَقًا، بِأَنَّ، تَأْثِيمَ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ فِي الِاجْتِهَادِ قَبِيحٌ، إِذْ هُوَ مُفْضٍ إِلَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، «لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ الْآرَاءِ» وَالْمَذَاهِبِ، وَالْمَقَالَاتِ فِي الْعَالَمِ «وَاعْتِوَارِ الشُّبَهِ» ، أَيْ: تَوَارُدِهَا عَلَى الْقُلُوبِ، وَ «عَدَمِ» الْأَدِلَّةِ «الْقَوَاطِعِ، الْجَوَازِمِ» عَلَى الْمَطَالِبِ، فَإِنَّ التَّأْثِيمَ يَزْدَادُ قُبْحًا مَعَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَيَلْزَمُهُ» هَذَا إِلْزَامٌ أَلْزَمَ النَّاسَ الْجَاحِظُ بِهِ عَلَى مَقَالَتِهِ، وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَهُ «رَفْعُ الْإِثْمِ» وَالْوَعِيدِ «عَنْ» كُلِّ كَافِرٍ؛ مِنْ «مُنْكِرِي الصَّانِعِ، وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّاتِ، وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ الَّذِينَ قَالُوا» : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَرِ: 3] ، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُمْ هُوَ الَّذِي «أَدَّاهُمْ إِلَى ذَلِكَ» .
قَوْلُهُ: «وَلَهُ مَنْعُ أَنَّهُمُ اسْتَفْرَغُوا» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا الِاعْتِذَارُ لِلْجَاحِظِ عَنْ
(3/610)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الْإِلْزَامِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ لِلْجَاحِظِ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ «اسْتَفْرَغُوا الْوُسْعَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ» ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ بَذَلُوا الْمَجْهُودَ الْمُعْتَبَرَ لِمِثْلِهِمْ فِي مِثْلِ مَطْلُوبِهِمْ، فَكَانُوا مُفَرِّطِينَ مُقَصِّرِينَ، فَكَانَ «إِثْمُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْجِدِّ» وَالِاجْتِهَادِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ، لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَطَأِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ عَانَدَ مَعَ اتِّضَاحِ الْحَقِّ لَهُ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 144] وَقَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 146] ، فَالْكُفَّارُ إِذَنْ طَائِفَتَانِ: مُعَانِدٌ وَمُقَصِّرٌ فِي الِاجْتِهَادِ، فَعُوقِبُوا لِعِنَادِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَعْذُرُ مَنِ اجْتَهَدَ غَايَةَ وُسْعِهِ فَلَمْ يُدْرِكْ وَخَلَا عَنِ الْعِنَادِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ.
قُلْتُ: وَمُنْذُ خَطَرَ لِي هَذَا الِاعْتِذَارُ عَنِ الْجَاحِظِ، كَانَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي قُوَّتُهُ، وَإِلَى الْآنِ وَالْجُمْهُورُ مُصِرُّونَ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَا يَتَمَشَّى لَهُمْ حَالٌ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ الْمُحَالِ لِغَيْرِهِ، وَتُسَاعِدُهُمْ ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ، نَحْوَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] ، فَتَوَعَّدَهُمْ بِالنَّارِ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَمْ يَعْذُرْهُمْ بِالْخَطَأِ، وَعَلَى الْآيَةِ اعْتِرَاضَاتٌ لَا تَخْفَى.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ الْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ الْجَاحِظِ، وَالْعَقْلُ مَائِلٌ إِلَى مَذْهَبِهِ، «وَقَوْلُهُ - عَلَى كُلِّ حَالٍ - مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ حُجَّةً» كَمَا هُوَ مَذْهَبُ النَّظَّامِ، أَوْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ قَاطِعًا مُطْلَقًا، أَوْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ، «فَلَا يَلْزَمُهُ» حُكْمُ إِجْمَاعِهِمْ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ
(3/611)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَاحِدِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ وَصَاحِبُهُ الْعَنْبَرِيُّ اثْنَانِ مِنْ مَشَاهِيرِهِمْ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِمَا.
قَوْلُهُ: «وَقَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ بَاطِلٌ، لِبُطْلَانِ مَبْنَاهُ» وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَأْثِيمِ الْمُخْطِئِ فِي الْفُرُوعِ مَبْنِيٌّ عَلَى إِنْكَارِ الِاحْتِجَاجِ بِمَدَارِكِ الظُّنُونِ، مِنَ الظَّاهِرِ وَالْعُمُومِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ فِي مَوَاضِعِهِ، فَيَبْطُلُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ:
إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ؛ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَقَائِعَ الشَّرْعِيَّةَ، هَلْ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ أَمْ لَا؟ وَلْنَذْكُرْ تَفَاصِيلَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، ثُمَّ نَذْكُرْ فُرُوعَهُمَا الْمَذْكُورَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ فِي الْحَوَادِثِ حُكْمًا مُعَيَّنًا، فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَدَفِينٍ يُعْثَرُ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ؟ قَالَ الْأَصَمُّ وَبِشْرُ الْمَرِيسِيُّ فِي آخَرِينَ: هُوَ قَطْعِيٌّ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ، وَاخْتَلَفُوا: هَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ إِنْ أَخْطَأَهُ؟ قَالَ بِهِ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ.
وَهَلْ يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إِذَا خَالَفَهُ؟ قَالَ بِهِ الْأَصَمُّ، وَخَالَفَهُ الْبَاقُونَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ظَنِّيٌّ.
وَهَلْ يُكَلَّفُ الْمُجْتَهِدُ بِطَلَبِهِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إِلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ.
(3/612)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالثَّانِي: لَا يُكَلَّفُ بِطَلَبِهِ لِخَفَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا حُكْمَ فِي الْوَقَائِعِ مُعَيَّنٌ، فَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ، مِنْهُمُ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْجُبَائِيُّ وَابْنُهُ.
ثُمَّ عَلَى هَذَا هَلْ يُقَالُ: إِنَّ فِي الْوَاقِعَةِ لَوْ كَانَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لَكَانَ هُوَ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْأَشْبَهِ، أَمْ لَا؟ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ. هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ نَوْعُ تَكْرَارٍ وَتَدَاخُلٍ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ غَرَضِي الْبَيَانُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِتَغَايُرِ الْعِبَارَاتِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمًا مُعَيَّنًا قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ إِنْ كَانَ نَفْيًا، فَقَدْ أَخْطَأَهُ الْمُثْبِتُ، وَإِنْ كَانَ إِثْبَاتًا، فَقَدْ أَخْطَأَهُ النَّافِي.
وَمِمَّا قَرَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ؛ أَنْ قَالَ: الْقَائِلُ: لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا، أَوْ مُصِيبًا، فَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، فَهُوَ مُجْتَهِدٌ قَدْ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَلَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا، فَقَدْ ثَبَتَ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا، فَهُوَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَازِمٌ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ قَالَ: الْحُكْمُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ. وَحِينَئِذٍ كَلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، لِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَمُصِيبٌ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَهُمْ يُسَبِّبُهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظِيًّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهُ، وَذَلِكَ
(3/613)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَنَّهُمْ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ ثَمَّ حُكْمًا مُعَيَّنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْ لَا، فَهُمْ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الِاجْتِهَادِ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَأَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَالنِّزَاعُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَفْظِيٌّ.
الثَّانِيَةُ: الْمُخْتَارُ: الْقَوْلُ بِالتَّصْوِيبِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَخْبَارِ الْآحَادِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ» وَنَحْوِهِ، لَكِنْ قَدْ يَمْنَعُ الِاحْتِجَاجَ بِهَا فِي هَذَا الْبَابِ أَوْ يَتَأَوَّلُ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى التَّصْوِيبِ أَنَّ الْمُصَلِّينَ إِلَى جِهَاتٍ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ لَا يُعِيدُونَ عِنْدَنَا، وَهِيَ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، وَسَاعَدَهَا النَّصُّ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ بِالتَّصْوِيبِ يَنْبَنِي عَلَى أُصُولٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَدِلَّةَ الظَّنِّيَّةَ إِضَافِيَّةٌ، لَا حَقِيقَةٌ قَطْعِيَّةٌ، أَيْ: يَكُونُ الْحَدِيثُ مَثَلًا أَوْ غَيْرُهُ دَلِيلًا عِنْدَ شَخْصٍ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ حَقِيقِيًّا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَطْلُوبٌ مُتَعَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ.
الثَّانِي: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ إِضَافِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، كَالْكَيْلِ عِلَّةٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالطَّعْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْكَلَامُ كَمَا سَبَقَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ قَبْلَ ظُهُورِهِ لِلْمُجْتَهِدِ هُوَ حُكْمٌ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حُكْمًا بِالْفِعْلِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ حُكْمٌ بِالْفِعْلِ غَلِطَ، وَقَالَ بِالتَّعْيِينِ وَعَدَمِ التَّصْوِيبِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَحْكَامَ - كَالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ - لَيْسَتْ مِنْ أَوْصَافِ الذَّوَاتِ، حَتَّى يَسْتَحِيلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَلَالًا حَرَامًا، بَلْ هِيَ إِضَافِيَّةٌ، فَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ.
(3/614)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْخَامِسُ: أَنَّ الْأَحْكَامَ أُمُورٌ وَضْعِيَّةٌ لَا ذَاتِيَّةٌ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِلظُّنُونِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَالِ الرُّخَصِ، يَنْقَلِبُ الْحَرَامُ مُبَاحًا، وَلَوْ كَانَ الْحَرَامُ مَعْنًى ذَاتِيًّا لَمَا تَغَيَّرَ.
السَّادِسُ: أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لَا قَاطِعَ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ الْأَمْرُ بِإِصَابَةِ مَا لَا قَاطِعَ عَلَيْهِ، إِذْ هُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ وَإِنْ جَازَ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ.
السَّابِعُ: قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْحُكْمُ هُوَ التَّكْلِيفُ بِشَرْطِ بُلُوغِ الْمُكَلَّفِ، وَلَا تَكْلِيفَ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَا حُكْمَ.
قُلْتُ: بِتَقْدِيرِ صِحَّةِ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِمَا ذُكِرَ، لَا يَمْنَعُ تَعْيِينَ الْحُكْمِ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بَعْدَ الْبُلُوغِ.
الثَّامِنُ: قَالَ: الْخَطَأُ اسْمٌ قَدْ يُقَالُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا وَجَبَ، وَهُوَ الْخَطَأُ الْحَقِيقِيُّ، وَقَدْ يُقَالُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا طُلِبَ، وَهُوَ مَجَازٌ.
قُلْتُ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْخَطَأَ حَقِيقَةٌ، إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إِذَا أَخْطَأَ الشَّخْصُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُ، أَمَّا إِذَا أَخْطَأَ مَا طَلَبَهُ وَلَمْ يَجِبْ بَعْدُ، فَذَلِكَ خَطَأٌ مَجَازًا لَا حَقِيقَةً، وَخَطَأُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ ظُهُورِهِ لَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ، فَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ طَالِبُونَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ.
قُلْتُ: إِنْ كَانَ هَذَا مَجَازًا شَرْعِيًّا، أَوِ اصْطِلَاحِيًّا بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَإِلَّا فَالْخَطَأُ فِي اللُّغَةِ أَعَمُّ مِمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ نَقِيضُ الصَّوَابِ، وَالصَّوَابُ يَتَعَلَّقُ بِمَا طُلِبَ وَبِمَا وَجَبَ جَمِيعًا.
الثَّالِثَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ مُبْهَمٌ، وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» ، وَأَحْسَبُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إِلَيْهِ سَبَقَتْ فِي أَوَائِلِ
(3/615)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الشَّرْحِ، فَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ التَّأْكِيدُ بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ هَهُنَا. فَأَقُولُ: الْقَطْعِيَّةُ مَا وَجَبَ اعْتِقَادُ الْحُكْمِ فِيهَا قَطْعًا، وَلَمْ يَجُزِ اعْتِقَادُ نَقِيضِهِ وَلَا جَوَازُهُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا. وَالِاجْتِهَادِيَّةُ بِخِلَافِهِ، وَذَلِكَ تَابِعٌ لِلدَّلِيلِ، فَمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، أَوِ احْتَمَلَهُ احْتِمَالًا ضَعِيفًا، لَيْسَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ لِأَجْلِهِ، فَهُوَ قَطْعِيٌّ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ احْتِمَالًا قَوِيًّا، يُعْذَرُ فِيهِ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ عَقْلًا وَعُرْفًا؛ فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ.
وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ بِمُوجِبِ هَذَا التَّقْرِيرِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: لِأَنَّ الْحُكْمَ، إِمَّا أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى قَاطِعٍ، أَوْ مُحْتَمِلًا احْتِمَالًا يَسُوغُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ لِبُعْدِهِ، فَهُوَ قَاطِعٌ، كَمَسْأَلَةِ وُجُودِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَقِدَمِهِ، وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَمَا عُرِفَ مِنْ جِهَتِهِمْ مِنَ الْقَوَاطِعِ، كَالْبَعْثِ وَأَحْكَامِ الْمَعَادِ.
وَإِمَّا أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ احْتِمَالًا قَوِيًّا، فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ، كَأَحْكَامِ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ، وَأَكْثَرِ أُصُولِ الْفِقْهِ. وَإِمَّا أَنْ يَتَرَدَّدَ الدَّلِيلُ بَيْنَ الْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ، فَيَكُونُ دُونَ الْقَاطِعِ، وَفَوْقَ الظَّنِّيِّ فِي الْقُوَّةِ، كَبَقِيَّةِ أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ، مِمَّا اعْتَوَرَتْهَا الْأَدِلَّةُ وَالشُّبَهُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَهَذِهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالِاجْتِهَادِيِّ، تَبَعًا لِدَلِيلِهَا فِي ذَلِكَ، وَالَّذِي يُقْطَعُ بِهِ أَنَّ إِلْحَاقَهَا بِالِاجْتِهَادِيَّاتِ أَوْلَى، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْقَطْعِ - مَعَ عَدَمِ دَلِيلٍ يُفِيدُهُ - تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ وَإِنْ جَازَ، لَكِنَّ وُقُوعَهُ مُمْتَنِعٌ أَوْ نَادِرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(3/616)
________________________________________
الرَّابِعَةُ: إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا لَزِمَهُ التَّوَقُّفُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفِئَتَيْنِ: يُخَيَّرُ بِالْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ.
لَنَا: إِعْمَالُهُمَا جَمْعًا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَإِعْمَالُ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ تَحَكُّمٌ، فَتَعَيَّنَ التَّوَقُّفُ عَلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ.
قَالُوا: التَّوَقُّفُ لَا إِلَى غَايَةٍ تَعْطِيلٌ، وَرُبَّمَا لَمْ يَقْبَلِ الْحُكْمُ التَّأْخِيرَ، وَإِلَى غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ مُمْتَنِعٌ، وَمَعْلُومَةٍ لَا يُمْكِنُ؛ إِذْ ظُهُورُ الْمُرَجِّحِ لَيْسَ إِلَيْهِ، فَتَعَيَّنَ التَّخْيِيرُ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، كَتَخْيِيرِ الْمُزَكِّي بَيْنَ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسِ بَنَاتٍ لَبُونٍ عَنْ مِائَتَيْنِ، وَتَخَيُّرِ الْعَامِّيِّ أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ، أَوْ أَحَدَ جُدْرَانِ الْكَعْبَةِ، وَفِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَنَحْوِهَا.
قُلْنَا: يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُرَجِّحُ، وَلَا اسْتِحَالَةَ، كَمَا يَتَوَقَّفُ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا ابْتِدَاءً، أَوْ كَتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ.
وَالتَّخْيِيرُ رَافِعٌ لِحُكْمِ كُلٍّ مِنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَالتَّخْيِيرُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ قَامَ دَلِيلُهُ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الرَّابِعَةُ: إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا، لَزِمَهُ التَّوَقُّفُ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفِئَتَيْنِ» - يَعْنِي الطَّائِفَتَيْنِ، الْوَاحِدَةُ فِئَةٌ -: «يُخَيَّرُ بِالْأَخْذِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ» .
قُلْتُ: ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ بِنَاءَ ذَلِكَ عَلَى التَّعْيِينِ وَالتَّصْوِيبِ، فَمَنْ قَالَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ؛ قَالَ: لَا تَعَارُضَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَإِنَّمَا هَذَا لِعَجْزِ الْمُجْتَهِدِ، فَيَلْزَمُهُ التَّوَقُّفُ، أَوِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ، أَوْ تَقْلِيدُ مُجْتَهِدٍ آخَرَ عَثَرَ عَلَى التَّرْجِيحِ.
(3/617)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمَّا الْمُصَوِّبَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَتَوَقَّفُ، وَقَالَ الْقَاضِي مِنْهُمْ: يَتَخَيَّرُ.
قَوْلُهُ: «لَنَا:» إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ التَّوَقُّفِ. وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، فَإِمَّا أَنْ يُعْمِلَهُمَا، أَيْ: يَعْمَلَ بِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يُعْمِلَ أَحَدَهُمَا. وَالْأَوَّلُ يُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ؛ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهُوَ تَحَكُّمٌ، «فَتَعَيَّنَ التَّوَقُّفُ عَلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ» .
وَيَرِدُ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ غَيْرُ حَاصِرَةٍ، إِذْ بَقِيَ قِسْمَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: إِهْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى مَا قَبْلَ الشَّرْعِ.
وَالثَّانِي: التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ مُدَّعَى الْخَصْمِ، وَالْقِسْمَانِ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لَهُمَا.
قَوْلُهُ: «قَالُوا:» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذِهِ حُجَّةُ أَصْحَابِ التَّخْيِيرِ، وَهِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّوَقُّفَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا إِلَى غَايَةٍ، أَوْ إِلَى غَايَةٍ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ «التَّوَقُّفَ لَا إِلَى غَايَةٍ تَعْطِيلٌ» لِلْوَاقِعَةِ عَنْ حُكْمٍ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ قَابِلًا لِلتَّأْخِيرِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ غَايَةَ التَّوَقُّفِ إِمَّا مَجْهُولَةٌ أَوْ مَعْلُومَةٌ، وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْجَهَالَةَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ شَأْنُهَا ذَلِكَ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا، لِأَنَّ ظُهُورَ الْمُرَجِّحِ لَيْسَ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ غَايَةُ التَّوَقُّفِ مَعْلُومَةً، وَإِذَا انْتَفَى التَّوَقُّفُ إِلَى غَايَةٍ أَوْ إِلَى غَيْرِ
(3/618)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَايَةٍ؛ تَعَيَّنَ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّ الدَّلِيلَيْنِ شَاءَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِالتَّخْيِيرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ مُمْتَنِعًا هَهُنَا.
أَمَّا وُرُودُ الشَّرْعِ بِهِ، فَفِي صُوَرٍ:
مِنْهَا: أَنَّ الْمُزَكِّيَ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ، خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهَا أَرْبَعَ حِقَاقٍ، أَوْ خَمْسَ بَنَاتِ لَبُونٍ؛ عَلَى حِسَابِ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حَقَّةٌ. فَقَدْ وُجِدَ مُقْتَضَى إِخْرَاجِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا أَفْتَاهُ مُجْتَهِدَانِ، يُخَيَّرُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا، أَوْ إِذَا وَجَدَ مُجْتَهِدَيْنِ يُخَيَّرُ بَيْنَ اسْتِفْتَاءِ أَيِّهِمَا شَاءَ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُصَلِّيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَتَخَيَّرُ فِي اسْتِقْبَالِ أَيِّ جُدْرَانِهَا شَاءَ.
وَمِنْهَا: فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْعِتْقِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ. وَنَحْوَ هَذِهِ الصُّوَرِ مِنْ صُوَرِ التَّخْيِيرِ وَاقِعٌ فِي الشَّرْعِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْتَنِعَ التَّخْيِيرُ هَهُنَا، فَلِأَنَّهَا صُوَرٌ شَرْعِيَّةٌ، فَجَازَ التَّخْيِيرُ فِيهَا كَسَائِرِ صُوَرِ الشَّرْعِ التَّخْيِيرِيَّةِ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا جَوَابٌ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا امْتَنَعَ التَّوَقُّفُ تَعَيَّنَ التَّخْيِيرُ، بَلْ «يَتَوَقَّفُ حَتَّى يَظْهَرَ» لَهُ «الْمُرَجِّحُ، وَلَا اسْتِحَالَةَ» فِي ذَلِكَ، «كَمَا يَتَوَقَّفُ إِذَا لَمْ يَجِدْ دَلِيلًا ابْتِدَاءً» حَتَّى يَجِدَ دَلِيلًا، كَمَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْمُرَجِّحِ.
أَمَّا «التَّخْيِيرُ» فَإِنَّهُ «رَافِعٌ لِحُكْمِ كُلِّ» وَاحِدٍ مِنَ «الدَّلِيلَيْنِ» ، فَلَا يَجُوزُ، إِذْ
(3/619)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حُكْمُ أَحَدِهِمَا الْإِثْبَاتُ الْمُعَيَّنُ، وَحُكْمُ الْآخَرِ النَّفْيُ الْمُعَيَّنُ، وَالتَّخْيِيرُ رَافِعٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، كَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا لَوْ تُصُوِّرَ، وَحَيْثُ يُتَصَوَّرُ.
قُلْتُ: وَحَاصِلُ هَذَا الْجَوَابِ الْتِزَامُ التَّوَقُّفِ إِلَى غَايَةٍ مَجْهُولَةٍ، لِأَنَّهُ مَعْنَى التَّوَقُّفِ إِلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ.
قَوْلُهُ: «وَالتَّخْيِيرُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ» . هَذَا جَوَابُ الْوَجْهِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ «التَّخْيِيرَ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ قَامَ دَلِيلُهُ» شَرْعًا، وَالتَّخْيِيرُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ لَمْ يَقُمْ دَلِيلُهُ شَرْعًا، فَلَا يَصِحُّ إِلْحَاقُهُ بِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/620)
________________________________________
الْخَامِسَةُ: لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ.
مِنْهَا: قَوْلُهُ فِي الْمُسْتَرْسِلِ مِنَ اللِّحْيَةِ قَوْلَانِ: وُجُوبُ الْغَسْلِ، وَعَدَمُهُ.
لَنَا: إِنْ كَانَا فَاسِدَيْنِ وَعَلِمَ، فَالْقَوْلُ بِهِمَا حَرَامٌ، فَلَا قَوْلَ أَصْلًا؛ أَوْ أَحَدُهُمَا كَذَلِكَ فَلَا قَوْلَيْنِ، أَوْ صَحِيحَيْنِ فَالْقَوْلُ بِهِمَا مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِمَا تَضَادَّ الْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْفَاسِدَ فَلَيْسَ عَالِمًا بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا قَوْلَ لَهُ فِيهَا، فَيَلْزَمُهُ التَّوَقُّفُ، أَوِ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا قَوْلَيْنِ.
وَأَحْسَنُ مَا يُعْتَذَرُ بِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ، فَقَالَ بِمُقْتَضَاهُمَا عَلَى شَرِيطَةِ التَّرْجِيحِ، وَمَا حُكِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَالرِّوَايَتَيْنِ فَفِي وَقْتَيْنِ، ثُمَّ إِنْ عُلِمَ آخِرُهُمَا فَهُوَ مَذْهَبُهُ كَالنَّاسِخِ، وَإِلَّا فَكَدَلِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، وَلَا تَأْرِيخَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ " الْخَامِسَةُ: لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَقُولَ فِي مَسْأَلَةٍ قَوْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَفَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ: فِي الْمُسْتَرْسِلِ مِنَ اللِّحْيَةِ قَوْلَانِ: وُجُوبُ الْغَسْلِ وَعَدَمُهُ ". وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مِنْهُ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً.
قُلْتُ: وَوَقَعَ ذَلِكَ مِنْ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي " زَادِ الْمُسَافِرِ ": قَالَ - يَعْنِي أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ -: إِذَا أَخَّرَتِ الْمَرْأَةُ الصَّلَاةَ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، فَحَاضَتْ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَفِيهِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: إِنِ الصَّلَاةَ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا بِدُخُولِ الْوَقْتِ فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ، وَهُوَ أَعْجَبُ الْقَوْلَيْنِ إِلَيَّ.
(3/621)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
انْتَهَى. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَبِهَذَا أَقُولُ.
قَوْلُهُ: " لَنَا: إِلَى آخِرِهِ ". هَذَا تَوْجِيهٌ لِبُطْلَانِ إِطْلَاقِ الْقَوْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ رُبَّمَا يُجِيزُهُ.
وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَا فَاسِدَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوْ صَحِيحَيْنِ، فَإِنْ كَانَا فَاسِدَيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا؛ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ بِالْفَسَادِ أَوْ لَا، فَإِنْ عَلِمَ بِفَسَادِهِمَا، فَالْقَوْلُ بِهِمَا حَرَامٌ، إِذْ لَا قَوْلَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا، إِذْ لَا يُسْمَعُ مِنْ قَوْلِهِ وَقَوْلِ غَيْرِهِ إِلَّا الصَّحِيحُ، دُونَ الْفَاسِدِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْفَاسِدُ أَحَدَهُمَا، وَعَلِمَ بِهِ، " فَلَا قَوْلَيْنِ "، بَلْ هُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْفَاسِدَ مِنْ قَوْلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْفَاسِدُ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا " فَلَيْسَ عَالِمًا بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا قَوْلَ لَهُ فِيهَا، فَيَلْزَمُهُ التَّوَقُّفُ أَوِ التَّخْيِيرُ "، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ التَّوَقُّفِ أَوِ التَّخْيِيرِ " قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا قَوْلَيْنِ "، وَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ، فَالْقَوْلُ بِهِمَا مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِمَا التَّضَادَّ الْكُلِّيَّ أَوِ الْجُزْئِيَّ.
الْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْأَقْوَالِ الْمُتَقَابِلَةِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْوَسَائِطِ التَّفْصِيلِيَّةِ بَيْنَهُمَا، فَفِي الْأَقْوَالِ الْمُتَقَابِلَةِ يَلْزَمُ التَّضَادُّ الْكُلِّيُّ، وَفِي بَعْضِهَا مَعَ الْوَسَائِطِ التَّفْصِيلِيَّةِ يَلْزَمُ التَّضَادُّ الْجُزْئِيُّ.
مِثَالُهُ: أَنَّ عَنْ أَحْمَدَ فِي إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ عَنْ بَلَدِهَا إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: النَّفْيُ، وَالْإِثْبَاتُ، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ إِلَى الثُّغُورِ دُونَ غَيْرِهَا، فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ لَكَانَ هَذَا تَضَادًّا كُلِّيًّا، بِمَعْنَى أَنَّ الْجَوَازَ الْكُلِّيَّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ الزَّكَاةِ وَأَمَاكِنِ إِخْرَاجِهَا
(3/622)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَابَلَ الْمَنْعَ الْكُلِّيَّ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ قَالَ: لَا يَجُوزُ، وَيَجُوزُ إِلَى الثُّغُورِ خَاصَّةً؛ لَكَانَ هَذَا تَضَادًّا جُزْئِيًّا؛ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَنْعَ الْكُلِّيَّ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ الزَّكَاةِ قَابَلَ الْجَوَازَ الْجُزْئِيَّ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الزَّكَاةِ، بِالْإِضَافَةِ إِلَى بَعْضِ أَمَاكِنِ إِخْرَاجِهَا وَهِيَ الثُّغُورُ. وَهَذَا اصْطِلَاحٌ لِي ذَكَرْتُهُ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا أَوْ مَعْرُوفًا، وَإِلَّا فَهَا قَدْ بَيَّنْتُهُ، وَالْأَحْكَامُ الْمُتَقَابِلَةُ وَوَسَائِطُهَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، وَتِلْكَ الْوَسَائِطُ رَاجِعَةٌ فِي الْأَكْثَرِ إِلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ كَمَا سَبَقَ.
وَقَدْ وَقَعَ تَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ تَرْتِيبِهِ فِي " الْمُخْتَصَرِ "، إِذْ هُوَ فِيهِ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ: إِنْ كَانَ الْقَوْلَانِ فَاسِدَيْنِ، وَعَلِمَ الْمُجْتَهِدُ فَسَادَهُمَا، فَالْقَوْلُ بِهِمَا حَرَامٌ، فَلَا قَوْلَ لَهُ أَصْلًا، وَإِنْ كَانَ الْفَاسِدُ أَحَدَهُمَا فَكَذَلِكَ، أَيْ: فَالْقَوْلُ بِهِ حَرَامٌ فَلَا قَوْلَيْنِ، بَلْ هُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَا صَحِيحَيْنِ، فَالْقَوْلُ بِهِمَا مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِمَا التَّضَادَّ الْمَذْكُورَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْفَاسِدَ، أَيْ: إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِفَسَادِهِمَا أَوْ فَسَادِ أَحَدِهِمَا، فَلَيْسَ عَالِمًا بِحُكْمِ الْمَسْأَلَةِ، فَلَا قَوْلَ لَهُ فِيهَا، فَيَلْزَمُهُ التَّوَقُّفُ أَوِ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا قَوْلَيْنِ.
قَوْلُهُ: " وَأَحْسَنُ مَا يُعْتَذَرُ بِهِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ "، يَعْنِي دَلِيلَا الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ، " فَقَالَ بِمُقْتَضَاهُمَا "، أَيْ: أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِذَلِكَ " عَلَى شَرِيطَةِ التَّرْجِيحِ "، أَيْ: بِشَرْطِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِمَا بَعْدُ، فَيُرَجِّحَ مَا ظَهَرَ رُجْحَانُهُ. وَاتَّفَقَ أَنَّهُ مَاتَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبْلَ أَنْ يُرَجِّحَ الْمَسَائِلَ السَبْعَ عَشْرَةَ الْمَذْكُورَةَ.
قَالَ الْقَرَافِيُّ: إِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ الْمُجْتَهِدُ: فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُ الرُّجْحَانُ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمَا احْتِمَالَانِ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَالِمٌ، لِتَقَارُبِهِمَا مِنَ الْحَقِّ، أَوْ
(3/623)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَى أَنَّهُمَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: إِنْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ قَوْلًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الِاعْتِقَادِ لَهُمَا مَعًا؛ فَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ فَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ لَا أَقْوَالَ. وَهَذَا مَوْضِعُهُ عِنْدَ ذِكْرِ دَلِيلِ الْمَسْأَلَةِ، لَكِنِّي اسْتَدْرَكْتُهُ هَهُنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ مَعْنَاهُ.
قُلْتُ: وَالْقَوْلَانِ اللَّذَانِ حَكَيْنَاهُمَا عَنْ أَحْمَدَ، الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا قَوْلَانِ لَهُ، أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِهِمَا عَلَى شَرِيطَةِ التَّرْجِيحِ، وَقَدْ عَقَّبَهُمَا بِهِ حَيْثُ قَالَ: وَهَذَا أَعْجَبُ الْقَوْلَيْنِ إِلَيَّ، وَحِكَايَتُهُ لَهُمَا عَنِ الْعُلَمَاءِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ إِضَافَةُ الْكَلَامِ إِلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ.
الثَّانِي: لَوْ حَكَاهُمَا عَنْ غَيْرِهِ، لَبَيَّنَ ذَلِكَ، حَذَرًا مِنَ التَّلْبِيسِ عَلَى السَّامِعِ، وَتَرَدُّدِهِ بَيْنَ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ أَوْ غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: " وَمَا حُكِيَ عَنْهُ "، أَيْ: عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - " مِنَ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ " وَالرِّوَايَتَيْنِ " عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ، لَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا تَنَاقُضَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ تَابِعٌ لِظُهُورِ الدَّلِيلِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ، فَتَارَةً يَظْهَرُ وَتَارَةً لَا يَظْهَرُ، فَتَخْتَلِفُ أَقْوَالُهُ فِي الْأَوْقَاتِ لِذَلِكَ، كَمَا تَخْتَلِفُ نُصُوصُ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ أَوِ الْوَحْيِ أَوِ الِاجْتِهَادِ، وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كُنْتُ أَقُولُ كَذَا ثُمَّ تَرَكْتُهُ، أَوْ جَبُنْتُ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ فِي الْمُتَيَمِّمِ يَجِدُ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ: كُنْتُ أَقُولُ: يَمْضِي فِي صِلَاتِهِ، ثُمَّ تَدَبَّرْتُ فَإِذَا أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ. وَقَوْلُهُ: كُنْتُ أَقُولُ: إِنَّ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ لَا يَكْفُرُ، ثُمَّ نَظَرْتُ فَإِذَا الْقُرْآنُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ،
(3/624)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ. وَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِ الشَّارِعِ: كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ، فَإِذَا أَتَاكُمْ كِتَابِي هَذَا، فَلَا تَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ، غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ رُجُوعِ الشَّارِعِ عَنْ قَوْلِهِ، وَالْأَئِمَّةِ عَنْ أَقْوَالِهِمْ: أَنَّ رُجُوعَ الْأَئِمَّةِ لِظُهُورِ الْخَطَأِ لَهُمْ، بِخِلَافِ الشَّارِعِ، فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ، فَرُجُوعُهُ لِاخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ لَا لِلْخَطَأِ، إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجِيزُهُ فِي اجْتِهَادِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيُجِيزُ وُقُوعَهُ مِنْهُ، فَيَكُونُ رُجُوعُهُ عَنْهُ كَرُجُوعِ الْأَئِمَّةِ عَنْ أَقْوَالِهِمْ. وَلَعَلَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَحَرِّقُوهُمَا ثُمَّ دَعَا بِهِمْ فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا وَلَا تُحَرِّقُوهُمَا، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ إِنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ إِنْ عَلِمَ آخِرَهُمَا، فَهُوَ مَذْهَبُهُ كَالنَّاسِخِ ". أَيْ: إِذَا أَطْلَقَ الْمُجْتَهِدُ قَوْلَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ؛ فَإِنْ عَلِمَ آخِرَ الْقَوْلَيْنِ، فَهُوَ مَذْهَبُهُ دُونَ الْأَوَّلِ، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ رُجُوعِهِ عَنْهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، وَلَا يُقَلَّدَ فِيهِ، وَلَا يُعَدَّ مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَيَبْقَى الْعَمَلُ عَلَى النَّاسِخِ الْمُتَأَخِّرِ وَيُتْرَكُ الْمَنْسُوخُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ بِهِ، لِأَنَّ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى
(3/625)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُقَلِّدِيهِمْ؛ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَئِمَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ الْمَرْجُوعُ عَنْهُ لَا يُعَدُّ مِنَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْهُ، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي تَدْوِينِ الْفُقَهَاءِ لِلْأَقْوَالِ الْقَدِيمَةِ عَنْ أَئِمَّتِهِمْ؟ حَتَّى رُبَّمَا نُقِلَ عَنْ أَحَدِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ الْقَوْلَانِ وَالثَّلَاثَةُ كَثِيرًا وَالْأَرْبَعَةُ؛ كَمَا فِي بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ عَنْ أَحْمَدَ، وَالسِّتَّةُ؛ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَنْهُ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ.
قِيلَ: قَدْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا تُدَوَّنَ تِلْكَ الْأَقْوَالُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى ضَبْطِ الشَّرْعِ، إِذْ مَا لَا عَمَلَ عَلَيْهِ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَتَدْوِينُهُ تَعَبٌ مَحْضٌ، لَكِنَّهَا دُوِّنَتْ لِفَائِدَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ التَّنْبِيهُ عَلَى مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْآرَاءِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَقْوَالَ قَدْ أَدَّى إِلَيْهَا اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ مُؤَثِّرٌ فِي تَقْرِيبِ التَّرَقِّي إِلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ أَوِ الْمُقَيَّدِ، فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ إِذَا نَظَرَ إِلَى مَآخِذِ الْمُتَقَدِّمِينَ نَظَرَ فِيهَا، وَقَابَلَ بَيْنَهَا، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا فَوَائِدَ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ مَجْمُوعِهَا تَرْجِيحُ بَعْضِهَا، وَذَلِكَ مِنَ الْمَطَالِبِ الْمُهِمَّةِ، فَهَذِهِ فَائِدَةُ تَدْوِينِ الْأَقْوَالِ الْقَدِيمَةِ عَنِ الْأَئِمَّةِ، وَهِيَ عَامَّةٌ. وَثَمَّ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ، كَالشَّافِعِيِّ وَنَحْوِهِ نَصُّوا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِهِمْ، إِذِ الْعَمَلُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ بِمِصْرَ، وَصَنَّفَ فِيهِ الْكُتُبَ كَالْأُمِّ وَنَحْوِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مَذْهَبِهِ شَيْءٌ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ إِلَّا سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً، تَعَارَضَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ، وَاخْتُرِمَ قَبْلَ أَنْ يُحَقِّقَ النَّظَرَ فِيهَا، بِخِلَافِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَدْوِينَ الرَّأْيِ، بَلْ هَمُّهُ الْحَدِيثُ وَجَمْعُهُ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَإِنَّمَا نَقَلَ
(3/626)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَنْصُوصَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ تَلَقِّيًا مِنْ فِيهِ، مِنْ أَجْوِبَتِهِ فِي سُؤَالَاتِهِ وَفَتَاوِيهِ، فَكُلُّ مَنْ رَوَى مِنْهُمْ عَنْهُ شَيْئًا دَوَّنَهُ، وَعُرِفَ بِهِ كَمَسَائِلِ أَبِي دَاوُدَ، وَحَرْبٍ الْكِرْمَانِيِّ، وَمَسَائِلِ حَنْبَلٍ، وَابْنَيْهِ صَالِحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ، وَإِسْحَاقِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَالْمَرُّوذِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ذَكَرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ فِي أَوَّلِ " زَادِ الْمُسَافِرِ " وَهُمْ كَثِيرٌ، وَرَوَى عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْهُمْ، ثُمَّ انْتُدِبَ لِجَمْعِ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ "، ثُمَّ تِلْمِيذُهُ أَبُو بَكْرٍ فِي " زَادِ الْمُسَافِرِ "، فَحَوَى الْكِتَابَانِ عِلْمًا جَمًّا مِنْ عِلْمِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْلَمَ مِنْهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ الْإِخْبَارُ بِصَحِيحِ مَذْهَبِهِ فِي تِلْكَ الْفُرُوعِ، غَيْرَ أَنَّ الْخَلَّالَ يَقُولُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ: هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ لِأَحْمَدَ رَجَعَ عَنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسِيرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ مِنْهَا، وَنَحْنُ لَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نَجْزِمَ بِمَذْهَبِ إِمَامٍ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّهُ آخِرُ مَا دَوَّنَهُ مِنْ تَصَانِيفِهِ وَمَاتَ عَنْهُ، أَوْ أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ سَاعَةَ مَوْتِهِ، وَلَا سَبِيلَ لَنَا إِلَى ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَالتَّصْحِيحُ الَّذِي فِيهِ، إِنَّمَا هُوَ مِنِ اجْتِهَادِ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ، كَابْنِ حَامِدٍ، وَالْقَاضِي وَأَصْحَابِهِ، وَمِنِ الْمُتَأَخِّرِينَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، لَكِنَّ هَؤُلَاءِ بَالِغِينَ مَا بَلَغُوا، لَا يَحْصُلُ الْوُثُوقُ مِنْ تَصْحِيحِهِمْ لِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، كَمَا يَحْصُلُ مِنْ تَصْحِيحِهِ هُوَ لِمَذْهَبِهِ قَطْعًا، فَمَنْ فَرَضْنَاهُ جَاءَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ، وَبَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ دَرَجَتَهُمْ أَوْ قَارَبَهُمْ، جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْأَقْوَالِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ كَتَصَرُّفِهِمْ، وَيُصَحِّحَ مِنْهَا مَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، وَافَقَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، وَعَمِلَ بِذَلِكَ وَأَفْتَى. وَفِي عَصْرِنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْعَالِمُ
(3/627)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَةَ الْحَرَّانِيُّ حَرَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ فِي الْفُتْيَا عَلَى مَا صَحَّحَهُ الْأَصْحَابُ مِنَ الْمَذْهَبِ، بَلْ يَعْمَلُ وَيُفْتِي بِمَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ، فَتَكُونُ هَذِهِ فَائِدَةً خَاصَّةً بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَا كَانَ مِثْلَهُ لِتَدْوِينِ نُصُوصِهِ وَنَقْلِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/628)
________________________________________
السَّادِسَةُ: يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمُجْتَهِدٍ اجْتَهَدَ وَظَنَّ الْحُكْمَ، اتِّفَاقًا فِيهِمَا، أَمَّا مَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ وَيُمْكِنْهُ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ لِأَهْلِيَّتِهِ لِلِاجْتِهَادِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا مُطْلَقًا؛ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ.
وَقِيلَ: يَجُوزُ مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ، وَقِيلَ: لِيَعْمَلَ لَا لِيُفْتِيَ، وَقِيلَ: لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَقِيلَ: مِنَ الصَّحَابَةِ.
لَنَا: مُجْتَهِدٌ فَلَا يُقَلِّدُ، كَمَا لَوِ اجْتَهَدَ فَظَنَّ الْحُكْمَ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ خَطَأَ غَيْرِهِ لَوِ اجْتَهَدَ، فَكَيْفَ يَعْمَلُ بِمَا يَعْتَقِدُ خَطَأَهُ؟ نَعَمْ، لَهُ أَنْ يَنْقِلَ مَذْهَبَ غَيْرِهِ لِلْمُسْتَفْتِي، وَلَا يُفْتِي هُوَ بِتَقْلِيدِ أَحَدٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّادِسَةُ: يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِمُجْتَهِدٍ اجْتَهَدَ، وَظَنَّ الْحُكْمَ، اتِّفَاقًا فِيهِمَا» ، أَيْ: فِي الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. أَيْ: أَنَّ الْعَامِّيَّ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا اجْتَهَدَ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا، أَيْ: لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. «أَمَّا مَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ» فِي الْحُكْمِ بَعْدُ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ «بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ» ، لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ، «فَلَا يَجُوزُ لَهُ» تَقْلِيدُ غَيْرِهِ «أَيْضًا مُطْلَقًا» ؛ لَا لِأَعْلَمَ مِنْهُ وَلَا لِغَيْرِهِ؛ لَا مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلَا غَيْرِهِمْ؛ لَا لِلْعَمَلِ وَلَا لِلْفُتْيَا؛ لَا مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَلَا سَعَتِهِ. هَذَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ: «مُطْلَقًا، خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ» .
(3/629)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: هَذَا عَنِ الظَّاهِرِيَّةِ، لَا أَعْلَمُ الْآنَ مِنْ أَيْنَ نَقَلْتُهُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، وَلَمْ أَرَهُ فِي «الرَّوْضَةِ» ، وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا وَهْمًا مِمَّنْ نَقَلْتُهُ عَنْهُ، أَوْ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي كَانَ مِنْهَا الِاخْتِصَارُ، فَإِنَّ الظَّاهِرِيَّةَ أَشَدُّ النَّاسِ فِي مَنْعِ التَّقْلِيدِ لِغَيْرِ ظَوَاهِرِ الشَّرْعِ.
«وَقِيلَ: يَجُوزُ» - يَعْنِي التَّقْلِيدَ - لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ الْمَذْكُورِ «مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ» عَنْ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِاجْتِهَادِهِ، مِثْلَ أَنْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، وَقَدْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ بَعْضُ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا، بِحَيْثُ لَوْ أَخَّرَهَا لِيَسْتَوْفِيَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ فَاتَ وَقْتُهَا؛ جَازَ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ.
«وَقِيلَ» : يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ «لِيَعْمَلَ» بِهِ «لَا لِيُفْتِيَ» بِهِ - يَعْنِي فِيمَا يَخُصُّهُ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ غَيْرِهِ - وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ.
«وَقِيلَ» : يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ «لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ» مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ، دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ.
«وَقِيلَ» : يَجُوزُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ «مِنَ الصَّحَابَةِ» دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَقْوَالًا وَتَفَاصِيلَ أَذْكُرُهَا تَكْمِلَةً، فَقَالَ:
الْمُجْتَهِدُ إِذَا اجْتَهَدَ فِي مَسْأَلَةٍ، وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اجْتَهَدَ فِيهَا، قَالَ الْجُبَائِيُّ: الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، مَعَ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِيهَا لِوَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذَا تَرَجَّحَ فِي نَظَرِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَلَهُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَلَا يُقَلِّدُ غَيْرَ الصَّحَابِيِّ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ تَقْلِيدَهُ لِلتَّابِعِيِّ أَيْضًا دُونَ مَنْ بَعْدَهُ.
(3/630)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاجْتِهَادِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ مُطْلَقًا.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ فِيمَا يُفْتِي بِهِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ خَصَّصَ ذَلِكَ بِمَا يَفُوتُ وَقْتُهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ.
وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَنْعِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ مُطْلَقًا، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
قُلْتُ: مَا حَكَاهُ عَنْ أَحْمَدَ، مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ مُطْلَقًا غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ لَا تَقْلِيدًا لَهُ بَلْ بِنَوْعِ اسْتِدْلَالٍ، كَمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ. هَذَا مَا أَرَدْنَا حِكَايَتَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
عُدْنَا إِلَى الْكَلَامِ عَلَى أَدِلَّتِهَا:
قَوْلُهُ: «لَنَا: مُجْتَهِدٌ فَلَا يُقَلِّدُ» . أَيْ: لَنَا عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْقِيَاسُ عَلَى مَا لَوِ اجْتَهَدَ، وَظَنَّ الْحُكْمَ، لَأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُجْتَهِدٍ لَمْ يَجْتَهِدْ بِالْفِعْلِ، فَنَقُولُ: هَذَا مُجْتَهِدٌ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، «كَمَا لَوِ اجْتَهَدَ وَظَنَّ الْحُكْمَ» ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ اتِّفَاقًا، كَذَلِكَ هَهُنَا، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، بِأَنَّ ذَلِكَ قَدِ اجْتَهَدَ
(3/631)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْفِعْلِ، وَظَنَّ الْحُكْمَ، بِخِلَافِ هَذَا، لِأَنَّ ذَلِكَ تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ ظَنِّ الْحُكْمِ عَلَى هَذَا يَسِيرٌ، بِأَنْ يَجْتَهِدَ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا اجْتَهَدَ، فَتَبَيَّنَ لَهُ خَطَأُ مَنْ قَلَّدَهُ. وَحِينَئِذٍ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ «يَعْمَلَ بِمَا يَعْتَقِدُ خَطَأَهُ؟» وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا إِذَا جَوَّزْنَا لَهُ تَقْلِيدَ ذَلِكَ الْغَيْرِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ اجْتِهَادٌ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ وُجِدَ مِنْهُ اجْتِهَادٌ تَعَيَّنَ مَا صَارَ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَسَقَطَ التَّقْلِيدُ، كَوَاجِدِ الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَسَائِرِ الْمُبْدَلَاتِ بَعْدَ إِبْدَالِهَا.
قَوْلُهُ: «نَعَمْ» أَيْ: لَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ. «نَعَمْ لَهُ أَنْ يَنْقِلَ مَذْهَبَ غَيْرِهِ لِلْمُسْتَفْتِي» ، إِرْشَادًا لَهُ إِلَيْهِ، «وَلَا يُفْتِي هُوَ بِتَقْلِيدِ أَحَدٍ» .
(3/632)
________________________________________
قَالُوا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَهَذَا لَا يَعْلَمُ {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَهُمُ الْعُلَمَاءُ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ، تُرِكَ فِي مَنِ اجْتَهَدَ لِظُهُورِ الْحَقِّ لَهُ بِالْفِعْلِ؛ فَمَنْ عَدَاهُ عَلَى الْأَصْلِ.
قُلْنَا: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْأَلُوا: الْعَامَّةُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بَلْ يَعْلَمُ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ بِخِلَافِ الْعَامِّيِّ، وَأُولُو الْأَمْرِ: الْوُلَاةُ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ فَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِعُمُومِ: {فَاعْتَبِرُوا} {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} وَقَوْلِهِ: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ} وَهَذَا حَثٌّ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ.
وَالتَّدَبُّرُ تُرِكَ فِي الْعَامِّيِّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ، فَبَقِيَ غَيْرُهُ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَوَجْهُ بَقِيَّةِ التَّفَاصِيلِ ظَاهِرٌ، وَدَلِيلُ ضَعْفِهَا عُمُومُ الدَّلِيلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قَالُوا:» يَعْنِي مَنْ جَوَّزَ التَّقْلِيدَ احْتَجُّوا بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النَّحْلِ: 43] . «وَهَذَا» وَإِنْ كَانَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ، لَكِنَّهُ «لَا يَعْلَمُ» هَذَا الْحُكْمَ الْخَاصَّ، فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ هَذَا النَّصِّ، فَجَازَ لَهُ التَّقْلِيدُ كَالْعَامِّيِّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 59] ، «وَهُمُ الْعُلَمَاءُ» ، أَمَرَ بِطَاعَتِهِمْ، وَذَلِكَ بِتَقْلِيدِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنِ الشَّرْعِ، وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ هَذَا الْمُجْتَهِدَ وَغَيْرَهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: «أَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ» لِامْتِنَاعِ حُصُولِ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ أَحَدٍ عَادَةً «تُرِكَ» ذَلِكَ «فِي مَنِ اجْتَهَدَ» وَظَنَّ الْحُكْمَ، «لِظُهُورِ الْحَقِّ لَهُ بِالْفِعْلِ، فَمَنْ عَدَاهُ» يَبْقَى «عَلَى الْأَصْلِ» وَهُوَ جَوَازُ التَّقْلِيدِ، فَثَبَتَ
(3/633)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّ هَذَا الْمُجْتَهِدَ الْمَذْكُورَ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا:» إِلَى آخِرِهِ هَذَا جَوَابُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} ، فَالْمَأْمُورُ بِالسُّؤَالِ هُمُ «الْعَامَّةُ» بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا لَا يَعْلَمُ بَلْ هُوَ يَعْلَمُ الْحُكْمَ «بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ» مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ، «بِخِلَافِ الْعَامِّيِّ» ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاءِ: 59] فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمُ الْعُلَمَاءُ، بَلْ هُمُ «الْوُلَاةُ» ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ: {وَأُولِي الْأَمْرِ} بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النِّسَاءِ: 83] ، وَلَوْ كَانَ أُولُو الْأَمْرِ هَهُنَا الْعُلَمَاءَ لَمْ يَسْتَقِمْ، إِذْ لَا قَوْلَ لِأَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْفَرْضُ أَنَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَامَهُمْ عَلَى تَرْكِ الرَّدِّ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وَهُمْ أُمَرَاؤُهُمْ وَرُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ الْتَزَمُوا طَاعَتَهُمْ.
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ هُمُ الْعُلَمَاءُ «فَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ» يَعْنِي فِي الْجَوَابِ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ هُمُ الْعَامَّةُ لَا الْمُجْتَهِدُونَ، «ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِعُمُومِ» قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الْحَشْرِ: 2] وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [مُحَمَّدٍ: 24] وَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
(3/634)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ وَهُوَ الِاجْتِهَادُ، وَحَضٌّ عَلَى التَّدَبُّرِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْعُمُومِ، «تُرِكَ فِي الْعَامِّيِّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ» فَفِي غَيْرِهِ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ وَذَلِكَ يُعَارِضُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ دَلَالَةِ طَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى التَّقْلِيدِ.
قَوْلُهُ: «الْأَصْلُ جَوَازُ التَّقْلِيدِ» .
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، بَلِ الْأَصْلُ مَنْعُهُ، لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
قَوْلُهُ: لِامْتِنَاعِ حُصُولِ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ أَحَدٍ عَادَةً.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا يُجِيزُ التَّقْلِيدَ. ثُمَّ الْكَلَامُ فِيمَنْ حَصَّلَ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَنَازَعُ فِيهَا وَاسِطَةٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، فَتَجَاذَبَاهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يُقَلِّدُ بِاتِّفَاقٍ، وَالْمُجْتَهِدَ إِذَا ظَنَّ الْحُكْمَ بِاجْتِهَادٍ لَا يُقَلِّدُ بِاتِّفَاقٍ.
أَمَّا الْمُجْتَهِدُ الَّذِي لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الْحُكْمِ، وَيَظْهَرُ لَهُ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ظَنُّ الْحُكْمِ يَلْحَقُ بِالْعَامِّيِّ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ فِيهِ أَدَوَاتِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِقُوَّتِهِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ يَلْحَقُ بِالْمُجْتَهِدِ الَّذِي ظَنَّ الْحُكْمَ فِي عَدَمِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بِهِ أَشْبَهُ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ دُونَ بَعْضٍ، كَالنَّحْوِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ نَحْوِيَّةٍ، وَالْمُحَدِّثِ فِي مَسْأَلَةٍ خَبَرِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ هُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَإِلْحَاقُهُ بِالْعَامِّيِّ أَشْبَهُ بِخِلَافِ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَقِلِّ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ إِذَا اجْتَهَدَ.
فَحَصَلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعٌ:
(3/635)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَامِّيٌّ مَحْضٌ.
مُتَمَكِّنٌ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ.
مُجْتَهِدٌ كَامِلٌ لَمْ يَجْتَهِدْ.
مُجْتَهِدٌ كَامِلٌ اجْتَهَدَ وَظَنَّ الْحُكْمَ.
فَالطَّرَفَانِ قَدْ عُرِفَ حُكْمُهُمَا وَهُوَ أَنَّ الْعَامِّيَّ يُقَلِّدُ، وَالْمُجْتَهِدَ بِالْفِعْلِ الظَّانِّ لِلْحُكْمِ لَا يُقَلِّدُ، وَالْمُجْتَهِدُ الْكَامِلُ الَّذِي لَمْ يَجْتَهِدْ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ، وَيَلْحَقُ بِهِ مَنِ اجْتَهَدَ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَظُنَّ الْحُكْمَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَوْ غَيْرِهِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى، وَالْمُتَمَكِّنُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الْأَشْبَهُ أَنْ يُقَلِّدَ؛ لِأَنَّهُ عَامِّيٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقَلِّدَ، لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مِنْ وَجْهٍ، فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، وَلَهُ مَرَاتِبُ مُتَعَدِّدَةٌ بِحَسَبِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِلِ.
قَوْلُهُ: «وَوَجْهُ بَقِيَّةِ التَّفَاصِيلِ ظَاهِرٌ» يَعْنِي التَّفَاصِيلَ الْمَذْكُورَةَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَكَذَا فِي غَيْرِهِ.
أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ، فَلِأَنَّ فِي تَقْلِيدِهِ مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ تَحْصِيلًا لِلْعَمَلِ فِي وَقْتِهِ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ مَا، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِخْلَاءِ الْوَقْتِ عَنْ وَظِيفَتِهِ لِتَوَقُّعِ ظُهُورِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ، فَلِأَنَّ فِي تَقْلِيدِهِ مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ تَحْصِيلًا لِلْعَمَلِ فِي وَقْتِهِ بِقَوْلِ مُجْتَهِدٍ مَا، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِخْلَاءِ الْوَقْتِ عَنْ وَظِيفَتِهِ لِتَوَقُّعِ ظُهُورِ الْحُكْمِ بِالِاجْتِهَادِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ تَقْلِيدِهِ لِلْعَمَلِ وَالْفُتْيَا؛ فَلِأَنَّ تَقْلِيدَهُ لِيَعْمَلَ بِهِ هُوَ تَصَرُّفٌ فِيمَا يَخُصُّ نَفْسَهُ مِنَ الْعَمَلِ، فَجَازَ. كَتَوْكِيلِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ تَقْلِيدِهِ لِفُتْيَا الْغَيْرِ، لِأَنَّهُ كَتَوْكِيلِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ تَقْلِيدِهِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ فَلِأَنَّ تَقْلِيدَهُ أَعْلَمَ مِنْهُ يُفِيدُهُ ظَنًّا غَالِبًا أَعْلَى مِنْ ظُهُورِ ظَنِّهِ وَرُتْبَتِهِ، إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ الْأَعْلَمَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ، وَالْإِصَابَةَ عَلَيْهِ أَغْلَبُ، فَصَارَ كَاجْتِهَادِهِ هُوَ فِي الْحُكْمِ بِخِلَافِ تَقْلِيدِهِ
(3/636)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دُونَهُ، إِذْ لَا يُفِيدُهُ الظَّنَّ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ، إِذْ لَا مُرَجِّحَ لَهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ لِنَفْسِهِ.
وَيُشْبِهُ هَذَا مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ أَنَّ مَنْ أَوْدَعَ شَيْئًا وَعَيَّنَ لَهُ مَوْضِعًا، فَنَقَلَهُ الْمُودَعُ إِلَى أَحْرَزَ مِنْهُ، لَمْ يَضْمَنْ إِنْ تَلَفَ، وَإِنْ نَقَلَهُ إِلَى مِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ ضَمِنَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَقْلِيدِهِ الصَّحَابِيَّ دُونَ غَيْرِهِ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ أَقْرَبُ إِلَى الْإِصَابَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِمَا عُرِفَ مِنْ خَصَائِصِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ: «وَدَلِيلُ ضَعْفِهَا عُمُومُ الدَّلِيلِ» أَيْ: دَلِيلُ ضَعْفِ التَّفَاصِيلِ الْمَذْكُورَةِ عُمُومُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّقْلِيدِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ.
(3/637)
________________________________________
السَّابِعَةُ: إِذَا نَصَّ الْمُجْتَهِدُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ لِعِلَّةٍ بَيَّنَهَا، فَمَذْهَبُهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وُجِدَتْ فِيهَا تِلْكَ الْعِلَّةُ كَمَذْهَبِهِ فِيهَا، إِذِ الْحُكْمُ يَتْبَعُ الْعِلَّةَ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الْعِلَّةَ فَلَا، وَإِنْ أَشْبَهَتْهَا، إِذْ هُوَ إِثْبَاتُ مَذْهَبٍ بِالْقِيَاسِ، وَلِجَوَازِ ظُهُورِ الْفَرْقِ لَهُ لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَصَّ فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُشْتَبِهَتَيْنِ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، كَمَا لَوْ سَكَتَ عَنْ إِحْدَاهُمَا وَأَوْلَى، وَالْأَوْلَى جَوَازُ ذَلِكَ بَعْدَ الْجِدِّ وَالْبَحْثِ مِنْ أَهْلِهِ، إِذْ خَفَاءُ الْفَرْقِ مَعَ ذَلِكَ وَإِنْ دَقَّ مُمْتَنِعٌ عَادَةً.
وَقَدْ وَقَعَ فِي مَذْهَبِنَا، فَقَالَ فِي «الْمُحَرَّرِ» : وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا نَجِسًا صَلَّى فِيهِ، وَأَعَادَ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَنَصَّ فِيمَنْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ فَصَلَّى فِيهِ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ، فَيَتَخَرَّجُ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوَصَايَا وَالْقَذْفِ، وَمِثْلُهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كَثِيرٌ.
ثُمَّ التَّخْرِيجُ قَدْ يَقْبَلُ تَقْرِيرَ النَّصَّيْنِ وَقَدْ لَا يَقْبَلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «السَّابِعَةُ: إِذَا نَصَّ الْمُجْتَهِدُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ لِعِلَّةٍ بَيَّنَهَا، فَمَذْهَبُهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وُجِدَتْ فِيهَا تِلْكَ الْعِلَّةُ كَمَذْهَبِهِ فِيهَا» ، أَيْ: إِذَا نَصَّ الْمُجْتَهِدُ عَلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَبَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ الْحُكْمِ مَا هِيَ، ثُمَّ وُجِدَتْ تِلْكَ الْعِلَّةُ فِي مَسَائِلَ أُخَرَ؛ فَمَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ كَمَذْهَبِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ «الْحُكْمَ يَتْبَعُ الْعِلَّةَ» فَيُوجَدُ حَيْثُ وُجِدَتْ، وَلِأَنَّ هَذَا قَدْ
(3/638)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وُجِدَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ، فَفِي كَلَامِ الْمُجْتَهِدِينَ كَذَلِكَ وَأَوْلَى، لِأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي سِيَاقِ ذَمِّهِمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [الْمُجَادَلَةِ: 2] ، فَفَهِمْنَا مِنْ ذَلِكَ تَعْلِيلَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِ الْمُنْكَرِ وَالزُّورِ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ، فَقُلْنَا: إِذَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أَبِي؛ لَزِمَتْهَا الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّهَا قَدْ أَتَتْ بِالْمُنْكَرِ مِنَ الْقَوْلِ وَالزُّورِ كَمَا عَلَّلَ بِهِ الْخِرَقِيُّ. وَقَدْ يَرِدُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ يَقْتَضِي جَعْلَ الْمَرْأَةِ مُظَاهِرَةً وَقَدْ نَفَاهُ الْخِرَقِيُّ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ عَلَيْهَا كَفَّارَةَ الظِّهَارِ.
قُلْتُ: وَالْتِزَامُ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ. وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْهِرَّةِ: إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ وَوُجِدَتْ عِلَّةُ الطَّوَافِ فِي غَيْرِهَا؛ جَعَلْنَا حُكْمَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ وَاحِدًا. وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ، أَوْ رُوِيَ لَهُ: أَنَّ قَوْمًا عَلَى مَاءٍ لَهُمْ مَرَّ بِهِمْ قَوْمٌ آخَرُونَ، فَاسْتَسْقُوهُمْ فَلَمْ يَسْقُوهُمْ حَتَّى مَاتُوا عَطَشًا، فَضَمَّنَ عُمَرُ أَصْحَابَ الْمَاءِ دِيَاتِهِمْ. فَقِيلَ لِأَحْمَدَ: أَتَقُولُ بِهَذَا؟ قَالَ: إِيْ وَاللَّهِ؛ يَقُولُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا آخُذُ بِهِ! فَلَمَّا عَلَّلَ بِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَهُ؛ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي كُلِّ حُكْمٍ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مَانِعٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: «وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنِ الْعِلَّةَ» يَعْنِي الْمُجْتَهِدَ إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ عِلَّتَهُ «فَلَا» أَيْ: فَلَا يُحْكَمُ بِحُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِهَا
(3/639)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنَ الْمَسَائِلِ، «وَإِنْ أَشْبَهَتْهَا» يَعْنِي الْمَسْأَلَةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا وَغَيْرَهَا فِي الصُّورَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ «إِثْبَاتُ مَذْهَبٍ» لَهُ «بِالْقِيَاسِ» بِغَيْرِ جَامِعٍ «وَلِجَوَازِ ظُهُورِ الْفَرْقِ لَهُ» أَيْ: لِلْمُجْتَهِدِ «لَوْ عُرِضَتْ عَلَيْهِ» الْمَسْأَلَةُ الَّتِي لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِهَا أَيْ: لَوْ عُرِضَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمَسْأَلَتَانِ الَّتِي نَصَّ عَلَى حُكْمِهَا وَغَيْرُهَا لَجَازَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا نَصَّ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُثْبِتَ لَهُ حُكْمًا - يَجُوزُ أَنْ يُبْطِلَهُ بِظُهُورِ الْفَرْقِ لَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَصَّ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي مَسْأَلَةٍ فَأَلْحَقْنَا بِهَا غَيْرَهَا بِعِلَّتِهِ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ فَرْقٌ لَوْ عُرِضَتَا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ: " وَلَوْ نَصَّ "، يَعْنِي الْمُجْتَهِدَ " فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُشْتَبِهَتَيْنِ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ كَمَا لَوْ سَكَتَ عَنْ إِحْدَاهُمَا وَأَوْلَى ".
أَيْ: كَمَا أَنَّهُ إِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَسَكَتَ عَنْ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى تُشْبِهُهَا، فَلَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمٍ فِيهَا، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَلَ حُكْمُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا إِلَى الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، كَذَلِكَ إِذَا نَصَّ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْقَلَ حُكْمُ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى وَيُخَرِّجُهُ قَوْلًا لَهُ فِيهَا فَيَصِيرُ لَهُ فِيهَا قَوْلَانِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَجُزْ نَقْلُ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى الْمَسْكُوتِ عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَنْقُلَهُ إِلَى مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ بِنَقِيضِ الْحُكْمِ، لِأَنَّا فِي الْأَوَّلِ نَكُونُ قَدْ قَوَّلْنَاهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا لَجَازَ أَنْ يَقُولَ كَمَا قَوَّلَنَاهُ فِيهَا، وَفِي الثَّانِيَةِ قَوَّلْنَاهُ نَقِيضَ مَا قَالَ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مُوَافَقَتُهُ لَنَا فِيهَا الْآنَ بِحَالٍ.
(3/640)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَالْأَوْلَى جَوَازُ ذَلِكَ "، أَيْ: جَوَازُ نَقْلِ حُكْمِ إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمُشْتَبِهَتَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِمَا إِلَى الْأُخْرَى، إِذَا كَانَ ذَلِكَ " بَعْدَ الْبَحْثِ وَالْجِدِّ " فِيهِ " مِنْ أَهْلِهِ "، أَيْ: مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ مِمَّنْ تَدَرَّبَ فِي النَّظَرِ، وَعَرَفَ مَدَارِكَ الْأَحْكَامِ وَمَآخِذَهَا، لِأَنَّ " خَفَاءَ الْفَرْقِ " بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الَّذِي يَقْتَضِي اخْتِلَافَهُمَا فِي الْحُكْمِ " مَعَ ذَلِكَ "، أَيْ: مَعَ أَهْلِيَّةِ النَّظَرِ " مُمْتَنِعٌ " فِي الْعَادَةِ " وَإِنْ دَقَّ " يَعْنِي ذَلِكَ الْفَرْقَ.
قُلْتُ: وَقِيَاسُ هَذَا جَوَازُ ذَلِكَ فِي نَقْلِ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إِلَى الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، إِذَا عُدِمَ الْفَرْقُ الْمُؤَثِّرُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ النَّظَرِ الْبَالِغِ مِنْ أَهْلِهِ، لِأَنَّ عَدَمَ ظُهُورِ الْفَرْقِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مُمْتَنِعٌ فِي الْعَادَةِ.
وَقَوْلُهُ: " وَقَدْ وَقَعَ " - يَعْنِي النَّقْلَ وَالتَّخْرِيجَ - " فِي مَذْهَبِنَا، فَقَالَ فِي الْمُحَرَّرِ ": لَنَا فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ: " وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا ثَوْبًا نَجِسًا صَلَّى فِيهِ وَأَعَادَ ; نَصَّ عَلَيْهِ، وَنَصَّ فِيمَنْ حُبِسَ فِي مَوْضِعٍ نَجِسٍ فَصَلَّى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ، فَيَتَخَرَّجُ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ "، وَذَلِكَ لِأَنَّ طَهَارَةَ الثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، كِلَاهُمَا شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ، وَهَذَا وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَقَدْ نَصَّ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ أَنَّهُ يُعِيدُ فَيَنْقِلُ حُكْمَهُ إِلَى الْمَكَانِ، وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ مِثْلُهُ، وَنَصَّ فِي الْمَوْضِعِ النَّجِسِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعِيدُ، فَيَنْقِلُ حُكْمَهُ إِلَى الثَّوْبِ النَّجِسِ، فَيَتَخَرَّجُ فِيهِ مِثْلُهُ، فَلَا جَرَمَ صَارَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا بِالنَّصِّ وَالْأُخْرَى بِالنَّقْلِ.
قَوْلُهُ: " وَذَكَرَ " يَعْنِي صَاحِبَ " الْمُحَرَّرِ " مِثْلَ ذَلِكَ "، أَيْ: مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ " فِي الْوَصَايَا وَالْقَذْفِ ".
(3/641)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَالَ فِي الْوَصَايَا: وَمَنْ وُجِدَتْ لَهُ وَصِيَّةٌ بِخَطِّهِ عُمِلَ بِهَا ; نَصَّ عَلَيْهِ، وَنَصَّ فِيمَنْ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ وَخَتَمَهَا وَقَالَ: اشْهَدُوا بِمَا فِيهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ وُجِدَتْ وَصِيَّتُهُ بِخَطِّهِ، وَقَدْ نَصَّ فِيهِمَا عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، فَيَخْرُجُ الْخِلَافُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ كَمَا سَبَقَ.
وَقَالَ فِي الْقَذْفِ: وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: بِكَ زَنَيْتُ ; سَقَطَ عَنْهُ حَقُّهَا بِتَصْدِيقِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَاذِفَةً لَهُ ; نَصَّ عَلَيْهِ، وَنَصَّ فِيمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: زَنَى بِكِ فُلَانٌ. إِنَّهُ قَاذِفٌ لَهُمَا، فَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَتَانِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا أَنَّهَا فِي قَوْلِهَا لَهُ: بِكَ زَنَيْتُ قَاذِفَةٌ لَهُ بِالِالْتِزَامِ وَالتَّبَعِ، وَهُوَ فِي قَوْلِهِ لَهَا زَنَى بِكِ فُلَانٌ ; قَاذِفٌ لِفُلَانٍ بِالتَّبَعِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ نَصُّهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَيَخْرُجُ الْخِلَافُ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: " وَمِثْلُهُ "، أَيْ: وَمِثْلُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ مَذْهَبِنَا مِنَ النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ " فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ كَثِيرٌ ". وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَسَائِلِ الْمُشْتَبِهَةِ.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ التَّخْرِيجُ قَدْ يَقْبَلُ تَقْرِيرَ النَّصَّيْنِ، وَقَدْ لَا يَقْبَلُ ". يَعْنِي أَنَّا إِذَا خَرَّجْنَا حُكْمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْأُخْرَى لِاشْتِبَاهِهِمَا، فَقَدْ يُمْكِنُنَا بِتَدْقِيقِ النَّظَرِ أَنْ نُقَرِّرَ كُلَّ مَسْأَلَةٍ عَلَى مَا نَصَّ فِيهَا الْإِمَامُ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ حُكْمِ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، بِأَنْ نُبْدِيَ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مُنَاسِبًا لِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِيهَا. فَهَذَا يُسَمَّى تَقْرِيرَ النَّصِّ. وَقَدْ لَا يُمْكِنُنَا ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَظْهَرَ بَيْنَهُمَا فَرْقًا مُؤَثِّرًا مُنَاسِبًا كَذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ التَّخْرِيجُ قَابِلًا لِلتَّقْرِيرِ.
مِثَالُ مَا يَقْبَلُ التَّقْرِيرَ: مَسْأَلَةُ الْقَذْفِ الْمَذْكُورَةُ، فَإِنَّ الصُّورَتَيْنِ وَإِنِ اشْتَبَهَتَا
(3/642)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ حَيْثُ ذَكَرْنَا، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا إِذَا قَالَتْ لَهُ: بِكَ زَنَيْتُ، فَهِيَ غَيْرُ قَاصِدَةٍ لِقَذْفِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَتْ إِلْزَامَهُ بِمِثْلِ مَا أَلْزَمَهَا، وَتَوْبِيخَهُ عَلَى تَعْبِيرِهِ لَهَا بِفِعْلٍ قَدْ فَعَلَ مِثْلَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، كَأَنَّهَا قَالَتْ: إِنْ عَيَّرْتَنِي بِالزِّنَى فَعَيِّرْ نَفْسَكَ لِأَنِّي وَأَنْتَ اشْتَرَكْنَا فِيهِ.
وَمِنَ الْمَشْهُورِ فِي إِنْكَارِ تَعْيِيرِ الْإِنْسَانِ غَيْرَهُ بِمِثْلِ مَا فَعَلَهُ هُوَ قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 44] ، وَقَوْلُ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هُودٍ: 88] ، وَقَوْلُ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِنَ الضَّرْطَةِ أَيَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
فَهَذَا كُلُّهُ يَشْتَرِكُ فِي الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا.
أَمَّا إِذَا قَالَ لَهَا: زَنَى بِكِ فُلَانٌ، فَقَدْ قَصَدَ قَذْفَهَا، وَأَسْنَدَهُ إِلَى فُلَانٍ إِسْنَادَ الْفَاعِلِيَّةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا هِيَ لَهُ: بِكَ زَنَيْتُ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا أَضَافَتِ الزِّنَى إِضَافَةَ الْفَاعِلِيَّةِ إِلَى نَفْسِهَا دُونَهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ قَاذِفَةً لَهُ، بِخِلَافِهِ هُوَ حَيْثُ كَانَ قَاذِفًا لَهَا.
وَمِثَالُ مَا لَا يَقْبَلُ التَّقْرِيرَ مَسْأَلَةُ الْوَصِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَنْقَدِحُ بَيْنَ صُورَتَيْهَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ.
أَمَّا مَسْأَلَةُ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، فَفِي قَبُولِهَا لِلتَّقْرِيرِ نَظَرٌ، إِذْ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الثَّوْبِ
(3/643)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْمَكَانِ فِي الِاشْتِرَاطِ يَتَعَذَّرُ وُجُودُ الْفَارِقِ الْمُؤَثِّرِ بَيْنَهُمَا، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَكَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَفْعَالِ عَقْلًا، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِعْلٌ إِلَّا فِي مَكَانٍ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا عَقْلًا، إِذْ يُتَصَوَّرُ فِعْلُهَا بِدُونِهِ، كَصَلَاةِ الْعُرْيَانِ يَنْقَدِحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَيَتَّجِهُ التَّقْرِيرُ.
فَائِدَةٌ: كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ: فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ بِالنَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، وَصِفَتُهُ وَمِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَا، وَيَقُولُونَ أَيْضًا: يَتَخَرَّجُ أَنْ يَكُونَ كَذَا، وَتَتَخَرَّجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ كَذَا، أَوْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَخْرِيجٌ، فَيُقَالُ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْرِيجِ، وَبَيْنَ النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ؟ .
وَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّقْلَ وَالتَّخْرِيجَ يَكُونُ مِنْ نَصِّ الْإِمَامِ بِأَنْ يُنْقَلَ عَنْ مَحَلٍّ إِلَى غَيْرِهِ بِالْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ مَحَلَّيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ، وَالتَّخْرِيجُ يَكُونُ مِنْ قَوَاعِدِهِ الْكُلِّيَّةِ.
مِثَالُهُ: قَوْلُنَا: لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ لِفَرْضٍ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَلَا لِنَفْلٍ فِي وَقْتِ الْمَنْعِ مِنْهُ، وَيَبْطُلُ التَّيَمُّمُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَا يُصَلِّي بِهِ حَتَّى يُحْدِثَ، وَيَتَخَرَّجُ خِلَافُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ ; وَهُوَ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ التَّيَمُّمِ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوعًا عَنْهُ عِنْدَنَا.
وَقَوْلُنَا: إِذَا وَجَدَ الْمُتَيَمِّمُ الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ خَرَجَ فَتَطَهَّرَ وَابْتَدَأَهَا، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيَبْنِيَ بِنَاءً عَلَى مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ هَلْ يَسْتَأْنِفُ أَوْ يَبْنِي.
وَقَوْلُنَا: مَنْ أَتْلَفَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا، لَمْ يَضْمَنْهُ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَضْمَنَ الذِّمِّيُّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَالٌ لَهُمْ.
(3/644)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّخْرِيجَ أَعَمُّ مِنَ النَّقْلِ وَالتَّخْرِيجِ، لِأَنَّ التَّخْرِيجَ يَكُونُ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لِلْإِمَامِ، أَوِ الشَّرْعِ، أَوِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهُ بِنَاءُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ بِجَامِعٍ مُشْتَرَكٍ، كَتَخْرِيجِنَا عَلَى قَاعِدَةِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فُرُوعًا كَثِيرَةً، وَعَلَى قَاعِدَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ أَيْضًا فُرُوعًا كَثِيرَةً فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُرُوعِهِ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ.
وَأَمَّا النَّقْلُ وَالتَّخْرِيجُ، فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِنُصُوصِ الْإِمَامِ.
(3/645)
________________________________________
وَإِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ، فَمَذْهَبُهُ آخِرُهُمَا إِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ، كَتَنَاسُخِ أَحْكَامِ الشَّارِعِ، وَإِلَّا فَأَشْبَهُهُمَا بِأُصُولِهِ وَقَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ وَأَقْرَبُهُمَا إِلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ.
وَقِيلَ: كِلَاهُمَا مَذْهَبٌ لَهُ، إِذْ لَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ، فَإِنْ أُرِيدَ ظَاهِرُهُ فَمَمْنُوعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ مَا عُمِلَ بِالْأَوَّلِ لَا يُنْقَضُ، فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِمَا لَوْ صَرَّحَ بِرُجُوعِهِ عَنْهُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ مَذْهَبًا لَهُ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِاعْتِقَادِ بُطْلَانِهِ، وَلَوْ خَالَعَ مُجْتَهِدٌ زَوْجَتَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَعْتَقِدُ الْخُلْعَ فَسْخًا، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَاعْتَقَدَهُ طَلَاقًا لَزِمَهُ فِرَاقُهَا، وَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ حَاكِمٌ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ لَمْ يُنْقَضْ، لِلُزُومِ التَّسَلْسُلِ بِنَقْضِ النَّقْضِ ; وَاضْطِرَابِ الْأَحْكَامِ ; وَلَوْ نَكَحَ مُقَلِّدٌ بِفَتْوَى مُجْتَهِدٍ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَالظَّاهِرُ لَا يَلْزَمُهُ فِرَاقُهَا، إِذْ عَمَلُهُ بِالْفُتْيَا جَرَى مَجْرَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَإِذَا نَصَّ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَسْأَلَةٍ» كَقَوْلِهِ: يُجْزِئُ إِخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ وَلَا يُجْزِئُ ; «فَمَذْهَبُهُ آخِرُهُمَا» ، أَيْ: آخِرُ الْحُكْمَيْنِ «إِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ» ، أَيْ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُ الْقَوْلَيْنِ أَوْ لَا، فَإِنْ عُلِمَ ; فَمَذْهَبُهُ آخِرُهُمَا، «كَتَنَاسُخِ أَحْكَامِ الشَّارِعِ» ، أَيْ: كَمَا يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، كَذَلِكَ يُؤْخَذُ بِالْآخِرِ فَالْآخِرُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَئِمَّةِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ نُصُوصَ الْأَئِمَّةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُقَلِّدِيهِمْ كَنُصُوصِ الشَّارِعِ بِالْإِضَافَةِ
(3/646)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِلَى الْأَئِمَّةِ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ التَّارِيخُ فَمَذْهَبُهُ أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ «بِأُصُولِهِ» ، أَيْ: بِأُصُولِ الْإِمَامِ «وَقَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ وَأَقْرَبُهُمَا» ، أَيْ: أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ «إِلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ» تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَصْلَ وَالظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْإِمَامِ مَعَ سَبْرِهِ الْأحْكَامَ وَالنَّظَرَ فِي مَآخِذِهَا أَنَّهُ يَطَّرِدُ أُصُولُهُ وَقَوَاعِدُهُ فِيهَا، وَأَنَّهُ لَا يُخَالِفُ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا لَوِ اخْتَلَفَ نَصُّ أَحْمَدَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ، لَكَانَ الْأَشْبَهُ بِأَصْلِهِ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ بِنَاءً عَلَى تَكْلِيفِهِمْ بِالْفُرُوعِ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِقَاعِدَتِهِ فِي أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمُحَرَّمَةَ لَا تُفِيدُ الْمِلْكَ، وَلِذَلِكَ رَجَّحَهُ أَبُو الْخَطَّابِ، وَنَصْرَهُ فِي تَعْلِيقِهِ ; وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِنُصُوصِ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَهَا.
وَلَمَّا اخْتَلَفَ نَصُّهُ فِي أَنَّ بَيْعَ النَّجَشِ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَنَحْوَهُمَا بَاطِلٌ ; كَانَ الْأَشْبَهُ بِأَصْلِهِ الْبُطْلَانَ بِنَاءً عَلَى اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الْفَسَادَ مُطْلَقًا.
قَوْلُهُ: «وَقِيلَ: كِلَاهُمَا» ، أَيْ: كِلَا الْقَوْلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ «مَذْهَبٌ لَهُ» ، أَيْ: لِلْإِمَامِ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِالِاجْتِهَادِ، وَالْقَوْلَانِ بِاجْتِهَادَيْنِ، فَلَا يَنْقُضُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ أُرِيدَ ظَاهِرُهُ» ، أَيْ: ظَاهِرُ قَوْلِهِمْ: كِلَا الْقَوْلَيْنِ مَذْهَبٌ لَهُ بِمَعْنَى أَنَّ الْفُتْيَا وَالْعَمَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَهُوَ «مَمْنُوعٌ» ، أَيْ: لَا نُسَلِّمُهُ، لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، «وَإِنْ أُرِيدَ» بِكَوْنِهِمَا مَذْهَبًا لَهُ «أَنَّ مَا عُمِلَ» بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ حُكْمٍ وَعِبَادَةٍ «لَا يُنْقَضُ» ، وَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا «فَلَيْسَ» ذَلِكَ «مِمَّا نَحْنُ فِيهِ» أَيْ: لَيْسَ هَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ هَلْ
(3/647)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَبْقَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَمْ لَا؟ وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ. وَأَمَّا عَدَمُ نَقْضِ مَا عُمِلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا يُوجَبُ بَقَاؤُهُ مَذْهَبًا لِجَوَازِ امْتِنَاعِ النَّقْضِ لِعَارِضٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ يَبْطُلُ» - يَعْنِي مَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ بِالِاجْتِهَادِ - «بِمَا لَوْ صَرَّحَ» الْإِمَامُ «بِرُجُوعِهِ عَنْهُ» ، أَيْ: بِرُجُوعِهِ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ إِذَا صَرَّحَ بِرُجُوعِهِ عَنْهُ، فَإِمَّا أَنْ لَا يَبْقَى مَذْهَبًا لَهُ فَقَدْ نَقَضَ الِاجْتِهَادَ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ الَّذِي نَفَاهُ الْخَصْمُ، أَوْ يَبْقَى مَذْهَبًا لَهُ، فَكَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِاعْتِقَادِ بُطْلَانِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
قَوْلُهُ: «وَلَوْ خَالَعَ مُجْتَهِدٌ زَوْجَتَهُ» ، إِلَى آخِرِهِ هَذَا مِنْ فُرُوعِ نَقْضِ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ وَصُوَرِهِ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مُجْتَهِدًا لَوْ خَالَعَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ «يَعْتَقِدُ الْخُلْعَ فَسْخًا» لَا طَلَاقًا، «ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَاعْتَقَدَهُ طَلَاقًا، لَزِمَهُ فِرَاقُهَا» ، لِأَنَّهَا صَارَتْ بِمُوجِبِ هَذَا الِاجْتِهَادِ الثَّانِي مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إِمْسَاكُ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ.
قَوْلُهُ: «وَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ حَاكِمٌ» مِثْلَ أَنْ حَكَمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ أَوْ شُهُودٍ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ، أَوْ مُجْتَهِدٌ غَيْرُهُ، «ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ» ، فَرَأَى ذَلِكَ النِّكَاحَ بَاطِلًا، «لَمْ يُنْقَضْ» ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ الْأَوَّلُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَذَلِكَ «لِلُزُومِ التَّسَلْسُلِ بِنَقْضِ النَّقْضِ» ، أَيْ: لَوْ نُقِضَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي لَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ، لَوَجَبَ أَنْ يُنْقَضَ الْحُكْمُ الثَّانِي بِالثَّالِثِ إِذَا تَغَيَّرَ
(3/648)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اجْتِهَادُهُ، وَهَلُمَّ جَرًّا ; كُلَّمَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، حَكَمَ بِحُكْمٍ، وَنَقَضَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَيَتَسَلْسَلُ النَّقْضُ، وَتَضْطَرِبُ أَحْكَامُ النَّاسِ لِنَقْضِهَا بَعْدَ تَرْتِيبِهَا عَلَى تِلْكَ الِاجْتِهَادَاتِ، وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُنْقَضَ الْحُكْمُ بِمَا يُنَافِيهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ بَعْدَهُ، كَمَا يُنْقَضُ الِاجْتِهَادُ الْمُجَرَّدُ عَنْ حُكْمٍ بِمِثْلِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ، لَكِنْ هَهُنَا تُرِكَ الْقِيَاسُ لِلِاسْتِحْسَانِ تَحْصِيلًا لِضَبْطِ الْأُمُورِ، وَصِيَانَتِهَا عَنِ الِانْتِشَارِ.
قَوْلُهُ: «وَلَوْ نَكَحَ مُقَلِّدٌ بِفَتْوَى مُجْتَهِدٍ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ» - يَعْنِي اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِ - «فَالظَّاهِرُ» أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ، أَيْ: لَا يَلْزَمُ الْمُقَلِّدُ فِرَاقُ زَوْجَتِهِ لِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ عَمَّا أَفْتَاهُ بِهِ أَوَلًا، «إِذْ عَمَلُهُ بِالْفُتْيَا جَرَى مَجْرَى حُكْمِ الْحَاكِمِ» .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُنْقَضُ، فَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَاهُ.
وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ: أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِ إِمَّا أَنْ يَتَجَرَّدَ عَنِ الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى، أَوْ لَا يَتَجَرَّدْ.
فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْهُمَا، وَجَبَ نَقْضُهُ بِالِاجْتِهَادِ الْمُخَالِفِ لَهُ بَعْدَهُ.
وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ حَكَمٌ لَمْ يُنْقَضْ، وَاسْتُؤْنِفَ الْعَمَلُ بِالِاجْتِهَادِ الثَّانِي.
وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الْفُتْيَا، وَالْعَمَلُ بِهَا، احْتَمَلَ أَنْ لَا يُنْقَضَ مَا عَمِلَ بِهَا مُطْلَقًا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، تَنْزِيلًا لِلْعَمَلِ بِهَا مَنْزِلَةَ حُكْمِ الْحَاكِمِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُنْقَضَ مَا سِوَى النِّكَاحِ، كَمَا فَرَضَ فِي الْمُخْتَصَرِ، فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِمَا عُرِفَ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَتَشَوَّفَ الشَّرْعُ إِلَى تَكْثِيرِهِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/649)
________________________________________
التَّقْلِيدُ
لُغَةً: جَعْلُ شَيْءٍ فِي الْعُنُقِ مُحِيطًا بِهِ، وَالشَّيْءُ قِلَادَةٌ.
وَشَرْعًا: قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، كَأَنَّ الْمُقَلِّدَ يُطَوِّقُ الْمُجْتَهِدَ إِثْمَ مَا غَشَّهُ بِهِ فِي دِينِهِ، وَكَتَمَهُ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ، وَلَيْسَ قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقْلِيدًا، إِذْ هُوَ حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ.
وَيَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ إِجْمَاعًا، خِلَافًا لِبَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ.
لَنَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ تَكْلِيفِ الْعَامَّةِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهَا مُثَابٌ فَلَا مَحْذُورَ.
قَالُوا: الْوَاجِبُ الْعِلْمُ ; أَوْ مَا أَمْكَنَ مِنَ الظَّنِّ، وَالْحَاصِلُ مِنْهُ بِاجْتِهَادٍ أَكْثَرَ.
قُلْنَا: فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ، ثُمَّ تَكْلِيفُهُمُ الِاجْتِهَادَ يُبْطِلُ الْمَعَايِشَ، وَيُوجِبُ خَرَابَ الدُّنْيَا فِي طَلَبِ أَهْلِيَّتِهِ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُدْرِكُهَا فَتَتَعَطَّلُ الْأَحْكَامُ بِالْكُلِّيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«التَّقْلِيدُ لُغَةً» أَيْ: هُوَ فِي اللُّغَةِ «جَعْلُ شَيْءٍ فِي الْعُنُقِ» عُنُقِ الدَّابَّةِ وَغَيْرِهِ «مُحِيطًا بِهِ» ، احْتِرَازًا مِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِالْعُنُقِ، فَلَا يُسَمَّى قِلَادَةً فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَلَا غَيْرِهِا، وَذَلِكَ كَالْعُقُودِ،الْمَخَانِقِ، وَالْمُرْسِلَاتِ فِي حُلُوقِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَالسُّبَحِ الَّتِي هِيَ فِي حُلُوقِ الْمُتَزَهِّدِينَ، وَالْقَلَائِدِ فِي أَعْنَاقِ
(3/650)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْخَيْلِ. وَفِي الْحَدِيثِ: ارْكَبُوا الْخَيْلَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ، أَيْ: لَا تَجْعَلُوا الْأَوْتَارَ قَلَائِدَ فِي أَعْنَاقِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَخْتَنِقَ إِذَا أَمْعَنَتْ فِي الْجَرْيِ، لِانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهَا. هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَالشَّيْءُ» - يَعْنِي الْمُحِيطُ بِالْعُنُقِ - يُسَمَّى «قِلَادَةً» ، وَجَمْعُهَا قَلَائِدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} [الْمَائِدَةِ: 2] يَعْنِي مَا يُقَلِّدُهُ الْهَدْيَ فِي عُنُقِهِ مِنَ النِّعَالِ أَوْ آذَانِ الْقُرَبِ وَنَحْوِهَا.
قَوْلُهُ: «وَشَرْعًا» ، أَيْ: وَالتَّقْلِيدُ شَرْعًا، أَيْ: فِي عُرْفِ الشَّرْعِ: «قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ» ; اسْتِعَارَةً مِنَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، «كَأَنَّ الْمُقَلِّدَ يُطَوِّقُ الْمُجْتَهِدَ
(3/651)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إِثْمَ مَا غَشَّهُ بِهِ فِي دِينِهِ، وَكَتَمَهُ عَنْهُ مِنْ عِلْمِهِ» ، أَيْ: يَجْعَلُهُ طَوْقًا فِي عُنُقِهِ «أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ» - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الْإِسْرَاءِ: 13] «عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ» يَعْنِي مِنَ التَّقْلِيدِ اللُّغَوِيِّ كَمَا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ قَبُولُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَقْلِيدًا إِذْ هُوَ - يَعْنِي قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ فِي نَفْسِهِ» .
قُلْتُ: قَالَ الْآمِدِيُّ: التَّقْلِيدُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ مُلْزِمَةٍ، كَأَخْذِ الْعَامِّيِّ بِقَوْلِ مِثْلِهِ، وَالْمُجْتَهِدِ بِقَوْلِ مِثْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بِخِلَافِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَوْلِ الْأُمَّةِ - يَعْنِي فِي الْإِجْمَاعِ - وَالْعَامِّيِّ لِلْمُفْتِي لِعَدَمِ عُرُوِّهِ عَنِ الْحُجَّةِ الْمُلْزِمَةِ بِهِ.
قُلْتُ: هَذَا مِنْهُ عَلَى جِهَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا هُوَ تَقْلِيدٌ أَوْ غَيْرُهُ.
وَالتَّحْقِيقُ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أُرِيدَ بِالْحُجَّةِ مَا أَفَادَ مَدْلُولَهُ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَهَذَا كُلُّهُ تَقْلِيدٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا مَا أَفَادَ مَدْلُولَهُ مُطْلَقًا، فَلَيْسَ ذَلِكَ تَقْلِيدٌ، لِأَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفِيدُ مَدْلُولَهُ بِوَاسِطَةِ تَصْدِيقِ الْمُعْجِزِ لَهُ، وَالْإِجْمَاعُ يُفِيدُ مَدْلُولَهُ بِوَاسِطَةِ شَهَادَةِ الصَّادِقِ لَهُ بِالْعِصْمَةِ، وَقَوْلُ الْمُفْتِي يُفِيدُ مَدْلُولَهُ بِوَاسِطَةِ الْإِجْمَاعِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّيِّ.
قَوْلُهُ: «وَيَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ إِجْمَاعًا» ، أَيْ: بِالْإِجْمَاعِ، «خِلَافًا لِبَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ» مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ.
«لَنَا» عَلَى جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: «الْإِجْمَاعُ» مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرِهِمْ -
(3/652)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سِوَى هَذَا الْمُخَالِفِ - «عَلَى عَدَمِ تَكْلِيفِ الْعَامَّةِ ذَلِكَ» - يَعْنِي الِاجْتِهَادَ فِي الْفُرُوعِ - فَإِنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى عَامِيٍّ اتَّبَعَ مُفْتِيًا فِيمَا أَفْتَاهُ سَوَاءَ ذَكَرَ لَهُ الدَّلِيلَ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ «الْمُخْطِئَ فِيهَا» ، أَيْ: فِي الْفُرُوعِ «مُثَابٌ» ، لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي الْحَاكِمِ يُخْطِئُ فَلَهُ أَجْرٌ. وَحِينَئِذٍ لَا مَحْذُورَ فِي تَقْلِيدِ الْعَامِّيِّ فِيهَا، لِأَنَّهُ فِي تَقْلِيدِهِ كَالْمُجْتَهِدِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَالْمُجْتَهِدُ إِذَا أَخْطَأَ فِيهَا لَا مَحْذُورَ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امْتَثَلَ حُكْمَ الشَّرْعِ بِحَسَبِ طَاقَتِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ ; هَذَا بِالتَّقْلِيدِ، وَهَذَا بِالِاجْتِهَادِ.
قَوْلُهُ: «قَالُوا» ، أَيِ: احْتَجَّ الْخَصْمُ عَلَى مَنْعِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ لِلْعَامِّيِّ، بِأَنَّ «الْوَاجِبَ» فِيهَا «الْعِلْمُ أَوْ مَا أَمْكَنَ مِنَ الظَّنِّ» إِذَا تَعَذَّرَ الْعِلْمُ. «وَالْحَاصِلُ» مِنَ الظَّنِّ بِالِاجْتِهَادِ أَكْثَرُ مِنَ الْحَاصِلِ مِنْهُ بِالتَّقْلِيدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الظَّنُّ الْأَكْثَرُ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَالْأَقْرَبُ إِلَى الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ وَاجِبٌ، وَإِذَا وَجَبَ الظَّنُّ الْأَكْثَرُ وَجَبَ الِاجْتِهَادُ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إِلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْعِلْمُ لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الْإِسْرَاءِ: 36] ، {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 33] . وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْعِلْمَ إِذَا تَعَذَّرَ، وَجَبَ مَا أَمْكَنَ مِنَ الظَّنِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأَتَوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَقِيَاسًا عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا بَعْضَ صَاعٍ مِنْ فِطْرَتِهِ
(3/653)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا مَا يَكْفِي بَعْضَ طَهَارَتِهِ، لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُهُ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فِي بَلَدِهِ مَصْرِفًا لِلزَّكَاةِ أَخْرَجَهَا إِلَى أَقْرَبِ الْبِلَادِ إِلَيْهِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَبَاقِي مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ ظَاهِرَةٌ.
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» ، أَيْ: فِي جَوَابِ مَا ذَكَرُوهُ أَنَّهُ «فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ» ، وَالْإِشَارَةُ بِالنَّصِّ إِلَى قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 7] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قِصَّةِ ذِي الشَّجَّةِ الْمَشْهُورَةِ: أَلَا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعَيِّ السُّؤَالُ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ ذَهَابِ الْعِلْمِ: رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا مَفْهُومُهُ مَنْ أَفْتَى بِعِلْمٍ يَكُونُ هَادِيًا، وَمَنْ كَانَ هَادِيًا، جَازَ اتِّبَاعَهُ، وَالْإِشَارَةُ بِالْإِجْمَاعِ إِلَى إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَمَا ذُكِرَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ تَكْلِيفُهُمْ» ، أَيْ: تَكْلِيفُ الْعَامَّةِ «الِاجْتِهَادَ يُبْطِلُ الْمَعَايِشَ، وَيُوجِبُ خَرَابَ الدُّنْيَا فِي طَلَبِ أَهْلِيَّتِهِ» ، أَيْ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ، أَيْ صَيْرُورَةِ الْعَامَّةِ أَهْلًا لَهُ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْفَرَاغِ وَالنَّظَرِ، وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ، وَمُمَارَسَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعُلُومِ، «وَلَعَلَّ أَكْثَرَهُمْ» - أَيْ: أَكْثَرَ الْعَامَّةِ - لَوْ تَجَرَّدَ لِطَلَبِ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ «لَا يُدْرِكُهَا» ، إِذْ قَدْ وُجِدَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَجَرَّدَ لِتَحْصِيلِ الْعِلْمِ فَمَاتَ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ فِيهِ عَلَى عَامِّيَّتِهِ، إِذِ الْمُجْتَهِدُونَ لِعِزَّةِ مَنْصِبِ الِاجْتِهَادِ كَالْمُلُوكِ فِي
(3/654)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَعْصَارِ لَا يُوجَدُ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ، فَكَانَتْ «تَتَعَطَّلُ الْأَحْكَامُ بِالْكُلِّيَّةِ» لَوْ كُلِّفَ الْعَامَّةُ الِاجْتِهَادَ، لِأَنَّهُمْ مَادَّةُ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا تَشَاغَلُوا بِطَلَبِ الِاجْتِهَادِ، انْقَطَعَتْ مَادَّةُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَعَطَّلَتِ الْأَحْكَامُ، إِذِ الْعَامِّيُّ لَا يَقُومُ مِنْهُ مُجْتَهِدٌ، وَيَنْقَطِعُ بِتَشَاغُلِهِ بِالْعِلْمِ مَادَّةَ طَلَبِهِ الْعِلْمَ، فَيَشْتَغِلُونَ بِضَرُورَاتِهِمْ عَنْ طَلَبِهِ، فَيَخْلُو الْوَقْتُ عَمَّنْ يَسْتَرْشِدُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ.
(3/655)
________________________________________
وَلَا تَقْلِيدَ فِي مَا عُلِمَ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، كَالْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ فِيهِ، وَلَا فِي الْأَحْكَامِ الْأُصُولِيَّةِ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ، وَنَحْوِهِا، لِظُهُورِ أَدِلَّتِهَا فِي نَفْسِ كُلِّ عَاقِلٍ، وَإِنْ مَنَعَ الْعَامِّيَّ عِيُّهُ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهَا.
وَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ إِنْ عَلِمَ خَطَأَ مَنْ قَلَّدَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَهُ، أَوْ أَصَابَتَهُ فِيمَ عَلِمَهَا إِنْ كَانَ لِتَقْلِيدِهِ آخَرَ، فَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْأَوَّلِ، أَوْ بِاجْتِهَادِهِ فِيهِ فَلْيَجْتَهِدْ فِي الْمَطْلُوبِ وَلْيُلْغِ وَاسِطَةَ التَّقْلِيدِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ، إِذِ الْعَامِّيُّ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّبَهِ لِاشْتِبَاهِهِمَا، لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا ; مَعَ تَفَرُّقِ الْآرَاءِ وَكَثْرَةِ الْأَهْوَاءِ، بَلْ نَحَارِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ لَا يَسْتَقِلُّونَ بِذَلِكَ، فَإِذَا مُنِعَ مِنَ التَّقْلِيدِ لَزِمَ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ شَيْئًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَلَا تَقْلِيدَ فِيمَا عُلِمَ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً كَالْأَرْكَانِ الْخَمْسَةِ» ، وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ، وَالصَّلَاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالْحَجُّ. «لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ» يَعْنِي الْعَامِّيَّ وَغَيْرَهُ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، إِذْ التَّقْلِيدُ يَسْتَدْعِي جَهْلَ الْمُقَلِّدِ بِمَا قَلَّدَ فِيهِ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِيمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ، وَالْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَرْكَانِ بِالضَّرُورَةِ الْحَاصِلَةِ عَنِ التَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ، وَهُمَا مُرَكَّبَانِ مِنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ كَمَا سَبَقَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَحْضَةِ.
قَوْلُهُ: «وَلَا فِي الْأَحْكَامِ» ، أَيْ: وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي الْأَحْكَامِ «الْأُصُولِيَّةِ» الْكُلِّيَّةِ، «كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَصِحَّةِ الرِّسَالَةِ، وَنَحْوِهَا» مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ الظَّاهِرَةِ الْأَدِلَّةِ، «لِظُهُورِ أَدِلَّتِهَا فِي نَفْسِ كُلِّ عَاقِلٍ، وَإِنْ مَنَعَ الْعَامِّيَّ عِيُّهُ» ، أَيْ: قُصُورُ عِبَارَتِهِ «مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهَا» ، أَيْ: عَنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ،
(3/656)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَإِنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا رَأَى هَذَا الْعَالَمَ بِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْإِتْقَانِ، عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ لَهُ صَانِعًا، وَإِنْ قَصُرَتْ عِبَارَتُهُ عَنْ تَقْرِيرِ دَلِيلِ الدُّورِ وَالتَّسَلْسُلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَإِذَا رَأَى الْعَالَمَ جَارِيًا عَلَى نِظَامِ الْحِكْمَةِ عَلِمَ أَنَّ صَانِعَهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَلَا مُشَارِكَ، لِمَا عَلِمَ فِي مُسْتَقَرِّ الْعَادَةِ مِنْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَفْسَدُ بِتَعَدُّدِ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَقْرِيرُ الدَّلِيلِ مِنْ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الَأَنْبِيَاء: 22] ، وَإِذَا رَأَى إِنْسَانًا قَدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَظَهَرَ عَلَى يَدَيْهِ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِشَرْطِهِ ; عَلِمَ صِدْقَهُ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ تَقْرِيرُ دَلِيلِ النُّبُوَّةِ، وَدَفْعُ الشُّبَهِ عَنْهُ.
قَوْلُهُ: «وَلِأَنَّ الْمُقَلِّدَ» ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُقَلِّدَ إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ خَطَأَ مَنْ قَلَّدَهُ أَوْ إِصَابَتَهُ، فَإِنْ عَلِمَ خَطَأَهُ، «لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَلِّدَهُ» فِي الْخَطَأِ كَمَا فِي الْفُرُوعِ وَأَوْلَى، وَإِنْ عَلِمَ إِصَابَتَهُ فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَهَا بِتَقْلِيدٍ آخَرَ، أَوْ بِاجْتِهَادِهِ هُوَ، فَإِنْ عَلِمَهَا بِتَقْلِيدِ شَخْصٍ آخَرَ قُلْنَا: الْكَلَامُ فِي هَذَا الشَّخْصِ الْآخَرِ، كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي قَلَّدْتُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: بِمَ عَلِمْتَ إِصَابَةَ هَذَا الَّذِي قَلَّدْتَهُ، بِتَقْلِيدِكَ فِي ذَلِكَ غَيْرَكَ، أَوْ بِاجْتِهَادِكَ؟ وَيَتَسَلْسَلُ التَّعْلِيلُ، أَوْ يَنْتَهِي إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ عَلِمَ الْمُقَلِّدُ إِصَابَةَ مَنْ قَلَّدَهُ بِاجْتِهَادِهِ «فَلْيَجْتَهِدْ فِي الْمَطْلُوبِ وَلْيُلْغِ وَاسِطَةَ التَّقْلِيدِ» ، فَنَقُولُ لَهُ: إِذَا كَانَ لَكَ أَهْلِيَّةٌ تَعْلَمُ بِهَا إِصَابَةَ مَنْ تُقَلِّدُهُ مِنْ خَطَئِهِ، فَاجْتَهِدْ أَنْتَ فِيمَا قَلَّدْتَ فِيهِ، وَأَلْغِ وَاسِطَةَ التَّقْلِيدِ، أَيْ: لَا تَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اعْتِقَادِكَ وَاسِطَةً
(3/657)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تُقَلِّدُهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْوَاسِطَةَ تَكُونُ لَاغِيَةً لَا فَائِدَةَ فِيهَا، بَلْ مَعَ تَقْلِيدِهَا إِنَّمَا اعْتَمَدْتَ عَلَى اجْتِهَادِكَ. وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: الْإِقْرَارُ يُلْغِي الْبَيِّنَةَ، وَحُضُورُ شَاهِدَ الْأَصْلِ يُلْغِي اعْتِبَارَ شَاهِدِ الْفَرْعِ.
قَوْلُهُ: «وَفِيِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِشْكَالٌ» ، أَيْ: تَكْلِيفُ الْعَامَّةِ الِاجْتِهَادَ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ «الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ» ، وَبِالْفَرْقِ «بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّبَهِ لِاشْتِبَاهِهِمَا» ، أَيْ: لِاشْتِبَاهِ الدَّلِيلِ وَالشُّبْهَةِ، إِذِ الدَّلِيلُ مَا لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِهِ ثُبُوتُ الْمَدْلُولِ، وَالشُّبْهَةُ تُوهِمُ ثُبُوتَ مَا نُصِبَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لِمُشَابَهَتِهَا الدَّلِيلَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ، وَهِيَ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَيَحْتَاجُ النَّاظِرُ فِي أَحْكَامِ الْأُصُولِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِتَقْرِيرِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَدَفْعِ الشُّبَهِ عَنْهَا، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَامِّيِّ، بَلْ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ عَادَةً «لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا مَعَ تَفَرُّقِ الْآرَاءِ، وَكَثْرَةِ الْأَهْوَاءِ، بَلْ نَحَارِيرُ الْمُتَكَلِّمِينَ» وَشُطَّارُهُمْ «لَا يَسْتَقِلُّونَ بِذَلِكَ» وَحَيْثُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، «فَإِذَا مُنِعَ» يَعْنِي الْعَامِّيَّ «مِنَ التَّقْلِيدِ لَزِمَ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ شَيْئًا» ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الِاجْتِهَادِيَّ مُتَعَذِّرٌ عَلَيْهِ، وَالتَّقْلِيدُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ.
وَحَاصِلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَنْعِ عُمُومِ الدَّلِيلِ السَّابِقِ عَلَى مَنْعِ التَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ لِظُهُورِ أَدِلَّتِهَا فِي نَفْسِ كُلِّ عَاقِلٍ.
وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي نُفُوسِ الْعُلَمَاءِ. أَمَّا الْعَامَّةُ فَلَا.
(3/658)
________________________________________
فَالْأَشْبَهُ إِذًا، أَنْ لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ فِي حُكْمٍ اعْتِقَادِيٍّ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ مُجْتَهِدٍ، أَوْ عَامِّيٍّ مَعَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ تَرْكِ الْعِنَادِ.
وَفِيهِ احْتِرَازٌ مِمَّا يَلْزَمُ الْجَاحِظَ، إِذْ أَكْثَرُ مُخَالِفِي الْمِلَّةَ عَانَدُوا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَفْرِغْ وُسْعَهُ فِي الِاجْتِهَادِ.
وَأَنَّ الْكُفْرَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي رِسَالَتِهِ، إِذْ لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ غَيْرَ الْمُعَانِدِينَ وَمُنْكِرِي الضَّرُورِيَّاتِ، لِقَصْدِهِمُ الْحَقَّ مَعَ اسْتِبْهَامِ طَرِيقِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: «فَالْأَشْبَهُ إِذًا» ، أَيْ: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَدَفْعِ الشُّبَهِ عَنْهَا، فَالْأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ «أَنْ» يُقَالَ: «لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ فِي حُكْمٍ اعْتِقَادِيٍّ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ مُجْتَهِدٍ أَوْ عَامِّيٍّ مَعَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ تَرْكِ الْعِنَادِ» .
فَقَوْلُنَا: «اعْتِقَادِيٍّ» هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ الْأُصُولِيَّةِ لِأَنَّ حَظَّ الْمُكَلَّفِ مِنْهَا الِاعْتِقَادُ.
وَقَوْلُنَا: «غَيْرِ ضَرُورِيٍّ» احْتِرَازٌ مِمَّا سَبَقَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي اشْتَرَكَ فِيهَا الْعَامَّةُ وَغَيْرُهُمْ.
وَقَوْلُنَا: «مُجْتَهِدٍ، أَوْ عَامِّيٍّ» لَيْسَ احْتِرَازًا عَنْ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ بَدَلٌ تَفْصِيلِيٌّ مِنْ قَوْلِنَا: «عَلَى مَنْ أَخْطَأَ» ، أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا أَوْ عَامِيًّا.
(3/659)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُنَا: «مَعَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ» احْتِرَازٌ مِمَّنْ لَا يَجْتَهِدُ فِي مُعْتَقَدِهِ أَصْلًا، بَلْ يَعْتَقِدُ مَا خَطَرَ لَهُ أَوْ مَا مَالَ إِلَيْهِ هَوَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَأْثَمُ، لِأَنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَ، أَوْ تَابِعَ الْهَوَى فِي اجْتِهَادِهِ.
وَقَوْلُنَا: «بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ» ، أَيْ: يَكْتَفِي مِنْهُ بِمَا أَمْكَنَهُ، وَمَا بَلَغَتْهُ قُوَّتُهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنْهُ مَا لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَيْهِ، إِذْ ذَلِكَ مَا لَا يُطَاقُ.
وَقَوْلُنَا: «مَعَ تَرْكِ الْعِنَادِ» ، احْتِرَازٌ مِنْ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيُعَانِدَ فِي اجْتِهَادِهِ بِأَنْ يَظْهَرَ لَهُ الصَّوَابُ، فَيَحِيدَ عَنْهُ، كَمَا حَكَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النَّمْلِ: 14] .
قَوْلُهُ: «وَفِيهِ» ، أَيْ: فِي هَذَا الضَّابِطِ الْمَذْكُورِ لِعَدَمِ الْإِثْمِ «احْتِرَازٌ مِمَّا يَلْزَمُ الْجَاحِظَ» عَلَى قَوْلِهِ: لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ مَعَ الْجِدِّ فِي طَلَبِهِ مِنْ رَفْعِ الْإِثْمِ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ، لِأَنَّهُمْ جَدُّوا فِي طَلَبِ الْحَقِّ، فَلَمْ يُصِيبُوهُ، فَلَا يَلْزَمُ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الضَّابِطِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُخَالِفِينَ لِمِلَّةِ الْإِسْلَامِ عَانَدُوا الْحَقَّ مَعَ وُضُوحِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الْأَنْعَامِ: 33] ، {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الْأَنْعَامِ: 114] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، مِمَّا دَلَّ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ. «وَمِنْهُمْ» - أَيْ: وَمِنْ مُخَالِفِي الْمِلَّةِ - «مَنْ لَمْ يَسْتَفْرِغْ وُسْعَهُ فِي الِاجْتِهَادِ» ، فَكَانَ خَطَؤُهُ لِتَقْصِيرِهِ، فَلَحِقَهُمُ الْإِثْمُ لِذَلِكَ، وَنَحْنُ قَدَّرْنَا الضَّابِطَ الْمَذْكُورَ، لِنَفِيَ الْإِثْمِ بِأَنْ يُوجَدَ الْجِدُّ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَأَنْ تَنْتَفِيَ الْمُكَابَرَةُ وَالْمُعَانَدَةُ، فَلَا يَلْزَمُنَا مَا لَزِمَ الْجَاحِظَ مِمَّا سَبَقَ.
قَوْلُهُ: «وَأَنَّ الْكُفْرَ» . هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَالْأَشْبَهُ أَنْ لَا إِثْمَ عَلَى مَنْ
(3/660)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَكَرَ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْكُفْرَ «إِنْكَارُ مَا عُلِمَ كَوْنُهُ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً» ، فَلَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِإِنْكَارِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُصُولِ الضَّرُورِيَّةِ، كَمَسْأَلَةِ الْقَدْرِ، وَالْحَرْفِ، وَالصَّوْتِ، وَنَحْوِهَا عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .
قُلْتُ: وَهَذَا كَالتَّقْرِيرِ لِلضَّابِطِ الْمَذْكُورِ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ عَمَّنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكُفْرَ إِذَا انْحَصَرَ فِي إِنْكَارِ الضَّرُورِيَّاتِ، فَالضَّرُورِيَّاتُ لَا يُخْطِئُ فِيهَا أَحَدٌ عَامِيٌّ وَلَا غَيْرُهُ، فَيَبْقَى مَا عَدَا الضَّرُورِيَّاتِ «هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ» مُصَنِّفِ «الرَّوْضَةِ» «فِي رِسَالَتِهِ» ، وَهِيَ رِسَالَةٌ رَدَّ فِيهَا عَلَى بَعْضِ الْحَرَّانِيِينَ قَوْلَهُ بِتَكْفِيرِ كُلِّ مُبْتَدِعٍ فِي مَسَائِلِ الْعَقَائِدِ، كَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ، فَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَ «لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدًا» مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ غَيْرَ الْمُعَانِدِينَ وَمُنْكِرِي الضَّرُورِيَّاتِ لِقَصْدِهِمُ الْحَقَّ مَعَ اسْتِبْهَامِ طَرِيقِهِ.
قُلْتُ: فَهُمْ بِقَصْدِ الْحَقِّ مُثَابُونَ أَوْ غَيْرُ آثِمِينَ، وَبِاسْتِبْهَامِ طَرِيقِهِ مَعْذُورُونَ.
وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى قَاعِدَةٍ قَرَّرْتُهَا فِي ذَلِكَ فِي «الْقَوَاعِدِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى» وَكِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .
أَمَّا مُنْكِرُو الضَّرُورَاتِ، فَيَلْزَمُهُمُ الْعِنَادُ، لِأَنَّ مَنْ يَعِشْ خَمْسِينَ سَنَةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَقُولُ: الصَّلَاةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَالزِّنَا غَيْرُ مُحَرَّمٍ، فَهَذَا لَا يُرْتَابُ فِي أَنَّهُ مُعَانِدٌ، وَكَذَلِكَ مَنِ اعْتَقَدَ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ، كَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ جِسْمٌ ; وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْجِسْمِيَّةَ لَا تَلِيقُ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ بِالْحُرْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ، مُتَلَاعِبٌ بِهَا، فَهَذَانِ يَكْفُرَانِ، وَمَنْ سِوَاهُمْ، فَلَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/661)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَائِدَةٌ: قَالَ الْآمِدِيُّ: ذَهَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ وَالْحَشْوِيَّةُ وَالتَّعْلِيمِيَّةُ إِلَى جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ فِي اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَتَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ، وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْمَسَائِلِ: لَمْ يَقُلْ بِالتَّقْلِيدِ فِي الْأُصُولِ إِلَّا الْحَنَابِلَةُ.
قُلْتُ: قَدْ رَأَيْتَ أَيُّهَا النَّاظِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِنَا فِي ذَلِكَ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، كَيْفَ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّقْلِيدِ نَهْيًا عَامًا، فَقَالَ: مِنْ ضِيقِ عِلْمِ الرَّجُلِ أَنْ يُقَلِّدَ دِينَهُ غَيْرَهُ، فَبَانَ أَنَّ مَا قَالَهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِمَّا الْتِبَاسٌ عَلَيْهِ، أَوْ تَلْبِيسٌ مِنْهُ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/662)
________________________________________
ثُمَّ هُنَا مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ الْعَامِّيَّ يُقَلِّدُ مَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلِاجْتِهَادِ بِطَرِيقٍ مَا، دُونَ مَنْ عَرَفَهُ بِالْجَهْلِ اِتِفَاقًا فِيهِمَا.
أَمَّا مَنْ جَهِلَ حَالَهُ فَلَا يُقَلِّدُهُ أَيْضًا، خِلَافًا لِقَوْمٍ.
لَنَا: غَالِبُ النَّاسِ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ، فَاحْتِمَالُ الْأَهْلِيَّةِ مَرْجُوحٌ، وَلِأَنَّ مَنْ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَجَبَ مَعْرِفَةُ حَالِهِ، كَالنَّبِيِّ بِالْمُعْجِزِ، وَالشَّاهِدِ وَالرَّاوِي بِالتَّعْدِيلِ.
قَالُوا: الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلَدًا لَا يَسْأَلُ عَنْ عِلْمِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ وَلَا عَنْ عَدَالَتِهِ.
قُلْنَا: الْعَادَةُ لَيْسَتْ حُجَّةً عَلَى الدَّلِيلِ، لِجَوَازِ مُخَالَفَتِهَا إِيَّاهُ، ثُمَّ وُجُوبُ السُّؤَالِ عَنْ عِلْمِهِ مُلْتَزَمٌ، وَالْعَدَالَةُ أَصْلِيَّةٌ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ، بِخِلَافِ الْعِلْمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «ثُمَّ هُنَا» ، أَيْ: فِي بَابِ التَّقْلِيدِ «مَسْأَلَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْعَامِّيَّ يُقَلِّدُ مَنْ عَلِمَ، أَوْ ظَنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِلِاجْتِهَادِ بِطَرِيقٍ مَا، دُونَ مَنْ عُرِفَ بِالْجَهْلِ اِتِفَاقًا فِيهِمَا» . أَيِ: الْحُكْمُ فِي الصُّورَتَيْنِ إَثْبَاتٌ فِي الْأُولَى، وَنَفْيٌ فِي الثَّانِيَةِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ التَّقْلِيدَ لِلْعَامِّيِّ.
وَتَحْقِيقُ الْقِسْمَةِ فِيهِ: أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَفْتِيَ شَخْصًا، فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ، أَوْ يَظُنَّ أَنَّهُ أَهْلٌ لَلْفُتْيَا، أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ جَاهِلٌ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ، أَوْ يَجْهَلُ حَالَهُ، فَلَا يَعْلَمُ أَهْلِيَّتَهُ وَلَا عَدَمَهَا. فَالْأَوَّلُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ بِاتِّفَاقِهِمْ، وَعِلْمِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ إِمَّا بِإِخْبَارِ عَدْلٍ عَنْهُ بِذَلِكَ، أَوْ بِاشْتِهَارِهِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْفُتْيَا، أَوْ بِانْتِصَابِهِ لَهَا وَانْقِيَادِ
(3/663)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النَّاسِ لِلْأَخْذِ عَنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «بِطَرِيقٍ مَا» ، وَالظَّنُّ يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ لِمَا عُرِفَ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ جَهْلَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَفْتِيَهُ، لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ كَالْعَالِمِ يُفْتِي بِغَيْرِ دَلِيلٍ. أَمَّا مَنْ جَهِلَ حَالَهُ، فَلَا يُقَلِّدُهُ أَيْضًا عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، خِلَافًا لِقَوْمٍ.
«لَنَا» عَلَى أَنْ لَا يُقَلِّدَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ «غَالِبَ النَّاسِ غَيْرُ مُجْتَهِدٍ، فَاحْتِمَالُ الْأَهْلِيَّةِ مَرْجُوحٌ» .
يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَمَّا جُهِلَ حَالُهُ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ، لَكِنَّ غَالِبَ الْإِنْسِ غَيْرُ أَهْلٍ لَلْفُتْيَا، فَحَمْلُ هَذَا عَلَى الْغَالِبِ رَاجِحٌ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ أَهْلِيَّتُهُ مَرْجُوحَةً، فَيَنْتَفِي ظَنُّ أَهْلِيَّتِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُفْتِيَ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَكُلُّ «مَنْ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَجَبَ مَعْرِفَةُ حَالِهِ» ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ، وَجَبَ مَعْرِفَةُ حَالِهِ وَامْتِحَانِهِ بِظُهُورِ الْمُعْجِزِ عَلَى يَدِهِ، «وَالشَّاهِدُ وَالرَّاوِي» لَمَّا وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِمَا، وَجَبَ مَعْرِفَةُ حَالِهِمَا «بِالتَّعْدِيلِ» .
قَوْلُهُ: «قَالُوا» . هَذَا حُجَّةُ الْخَصْمِ عَلَى قَبُولِ فُتْيَا الْمَجْهُولِ الْحَالِ. وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ «الْعَادَةَ» جَرَتْ بِأَنَّ «مَنْ دَخَلَ بَلَدًا لَا يَسْأَلُ عَنْ عِلْمِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ وَلَا عَدَالَتِهِ» ، وَالْعَوَائِدُ الْمَشْهُورَةُ حُجَّةٌ لِدِلَالَتِهَا عَلَى اتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَيْهَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ.
(3/664)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «قُلْنَا» هَذَا جَوَابُ مَا ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَادَةَ «حُجَّةٌ عَلَى الدَّلِيلِ، لِجَوَازِ مُخَالَفَتِهَا إِيَّاهُ» ، وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَجْهُولَ الْحَالِ لَا يُسْتَفْتَى كَمَا سَبَقَ. وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْعَادَةِ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ وَكَذَلِكَ مُطْلَقُ «الْعَادَةِ لَيْسَتْ حُجَّةً عَلَى» مُطْلَقِ «الدَّلِيلِ لِجَوَازِ» أَنْ تُخَالِفَهُ، وَمَا خَالَفَ الدَّلِيلَ لَا يُعْتَبَرُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَادَةَ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلِ الْعَادَةُ خِلَافُهُ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلَدًا احْتَاطَ لِدِينِهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ إِلَّا عَنْ أَهْلِهِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ ; لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ شُهْرَتَهَا، بَلْ هُوَ عَادَةُ شُذُوذِ النَّاسِ وَجُهَّالِهِمْ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا مَشْهُورَةٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقٍ عَلَيْهَا حَتَّى تَكُونَ حُجَّةً.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ وُجُوبُ السُّؤَالِ عَنْ عِلْمِهِ مُلْتَزِمٌ» ، أَيْ: نَلْتَزِمُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ بَلَدًا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ عِلْمِ مَنْ يَسْتَفْتِيهِ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ اسْتَفَدْتُمُوهُ مِنَ الْعَادَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ.
قَوْلُهُ: «وَالْعَدَالَةُ أَصْلِيَّةٌ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ» .
هَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَدَالَةِ وَالْعِلْمِ: بِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُفْتِي إِنَّمَا لَمْ يَجِبِ السُّؤَالُ عَنْهَا، لِأَنَّهَا الْأَصْلُ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ بِخِلَافِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّ عَدَمَهُ أَصْلِيٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ، فَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا السُّؤَالَ عَنْ عِلْمِ الْمُفْتِي دُونَ عَدَالَتِهِ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ.
(3/665)
________________________________________
الثَّانِيَةُ: يَكْفِي الْمُقَلِّدَ سُؤَالُ بَعْضَ مُجْتَهَدِي الْبَلَدِ، وَفِي وُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ قَوْلَانِ:
النَّافِي: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَسْوِيغِ سُؤَالِ مُقَلِّدِيهِمُ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ لِأَنَّ الْفَضْلَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ، وَلَا عِبْرَةَ بِخَاصَّةِ الْأَفْضَلِيَّةِ.
الْمُثْبِتُ: الظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنْ قَوْلِ الْأَفْضَلِ أَغْلَبُ، فَإِنْ سَأَلَهُمَا وَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ الْأَفْضَلِ فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ كَالْمُجْتَهِدِ يَتَعَارَضُ عِنْدَهُ الدَّلِيلَانِ، أَوْ يَتَخَيَّرُ؟ فِيهِ خِلَافٌ، الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ، وَيُعَرَفُ الْأَفْضَلُ بِالْإِخْبَارِ وَإِذْعَانِ الْمَفْضُولِ لَهُ وَتَقْدِيمِهِ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَمَارَاتِ الْمُفِيدَةِ لِلظَّنِّ، فَإِنِ اسْتَوَيَا عِنْدَهُ اتَّبَعَ أَيَّهُمَا شَاءَ.
وَقِيلَ: الْأَشَدُّ، إِذِ الْحَقُّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ، وَالْبَاطِلُ خَفِيفٌ وَبِيٌّ.
وَقِيلَ الْأَخَفُّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، «لَا ضَرَرَ» ، «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ» .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَا لِتَعَارُضِهِمَا، وَيَرْجِعَ إِلَى غَيْرِهِمَا إِنْ وَجَدَ، وَإِلَّا فَإِلَى مَا قَبْلَ السَّمْعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَسْأَلَةُ «الثَّانِيَةُ: يَكْفِي الْمُقَلِّدَ سُؤَالُ بَعْضِ مُجْتَهَدِي الْبَلَدِ» يَعْنِي مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَلَا يَلْزَمُهُ سُؤَالُ جَمِيعِهِمْ. «وَفِي وُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ» . أَيْ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَخَيَّرَ أَفْضَلَ الْمُجْتَهِدِينَ فَيَسْتَفْتِيَهِ؟ فِيهِ «قَوْلَانِ» : بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ «النَّافِي» ، أَيْ: احْتَجَّ النَّافِي لِوُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
(3/666)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا «عَلَى تَسْوِيغِ سُؤَالِ مُقَلِّدِيهِمُ الْفَاضِلَ وَالْمَفْضُولَ» ، أَيْ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يُقَلِّدَ فَاضِلَهُمْ وَمَفْضُولَهُمْ، وَذَلِكَ يَنْفِي وُجُوبَ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ وَإِلَّا كَانَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خَطَأً وَهُوَ بَاطِلٌ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: «أَنَّ الْفَضْلَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ» بَيْنَ الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ، فَلْيَكْفِ فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ «وَلَا عِبْرَةَ بِخَاصَّةِ الْأَفْضَلِيَّةِ» .
قُلْتُ: وَلِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي رُتْبَةِ الْفَضَائِلِ، فَمَا مِنْ فَاضِلٍ إِلَّا وَثَمَّ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يُوسُفَ: 76] ، فَلَوِ اعْتُبِرَ الْأَفْضَلُ، لَانْسَدَّ بَابُ التَّقْلِيدِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إِذَا اعْتَبَرْنَا أَفْضَلَ الْمُجْتَهِدِينَ مُطْلَقًا، أَمَّا إِذَا قَيَّدْنَا ذَلِكَ بِمُجْتَهَدِي الْبَلَدِ، لَمْ يَلْزَمْ، لِأَنَّ الْفَاضِلَ فِي كُلِّ بَلَدٍ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ مُشَارٌ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ.
قَوْلُهُ: «الْمُثْبِتُ» ، أَيْ: احْتَجَّ الْمُثْبِتُ لِوُجُوبِ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ بِأَنَّ «الظَّنَّ الْحَاصِلَ مِنْ قَوْلِ الْأَفْضَلِ أَغْلَبُ» ، فَيَكُونُ وَاجِبًا، أَمَّا الْأُولَى، فَظَاهِرَةٌ، وَأُمَّا الثَّانِيَةُ، فَبِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لِتَعَذُّرِهِ، فَوَجَبَ الظَّنُّ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعِلْمِ كَمَا سَبَقَ.
قُلْتُ: الْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَالْأَوَّلُ أَيْسَرُ، وَالثَّانِي أَحْوَطُ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ سَأَلَهُمَا وَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ» ، إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: إِنْ سَأَلَ الْمُسْتَفْتِي مُجْتَهِدَيْنِ، فَأَكْثَرَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ، «فَهَلْ يَلْزَمُهُ مُتَابَعَةُ
(3/667)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَفْضَلِ» مِنْهُمْ «فِي دِينِهِ وَعِلْمِهِ» ، «أَوْ يَتَخَيَّرُ» فَيَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ؟ «فِيهِ خِلَافٌ» .
وَجْهُ اللُّزُومِ: أَنَّهُ قَدْ تَعَارَضَ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي قَوْلَانِ، وَأَحَدُهُمَا خَطَأٌ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالرُّجْحَانِ لِذَاتِهِ، فَلَزِمَهُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِرُجْحَانِ أَحَدِ الْقَائِلِينَ، «كَالْمُجْتَهِدِ» إِذَا تَعَارَضَ عِنْدَهُ دَلِيلَانِ، اسْتَعْمَلَ التَّرْجِيحَ فِيهِمَا، فَأَخَذَ بِالْأَرْجَحِ مِنْهُمَا، إِذْ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ، كَقَوْلِ الشَّارِعِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ.
وَجْهُ التَّخْيِيرِ: مَا سَبَقَ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى تَسْوِيغِ سُؤَالِ الْمُقَلِّدِ مَنْ شَاءَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَعْلَمُ الْأَفْضَلَ بِالْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا يَعْرِفُ ذَا الْفَضْلِ مِنَ النَّاسِ ذَوُوهُ، بَلِ الْعَامِّيِّ يَغْتَرُّ بِظَوَاهِرِ هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ، وَطَيْلَسَانٍ، فَرُبَّمَا اعْتَقَدَ الْمَفْضُولَ فَاضِلًا.
قَوْلُهُ: «الظَّاهِرُ الْأَوَّلُ» ، أَيْ: وُجُوبُ مُتَابَعَةِ الْأَفْضَلِ، لِأَنَّ الْعَامِّيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِمَعْرِفَةِ الْفَاضِلِ مِنَ الْمَفْضُولِ، لَكِنْ يُكَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ وُسْعَهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، كَالْمُجْتَهِدِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَالْخَطَأُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ مُغْتَفَرٌ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَخْتَلِفِ الْجَوَابُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي، بَلْ إِذَا جَاءَ يَسْتَفْتِي ابْتِدَاءً. أَمَّا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، فَيَجِبُ تَخَيُّرُ الْأَفْضَلِ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْخِرَقِيُّ: وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ، لَمْ يَتَّبِعْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، وَيَتَّبِعُ الْأَعْمَى أُوثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ.
قَوْلُهُ: «وَيُعْرَفُ الْأَفْضَلُ» ، إِلَى آخِرِهِ.
لَمَّا رُجِّحَ وُجُوبُ تَخَيُّرِ الْأَفْضَلِ احْتَاجَ أَنْ يُبَيِّنَ طُرُقَ مَعْرِفَتِهِ، وَهِيَ: إِمَّا إِخْبَارُ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ أَفْضَلِيَّتِهِ، وَهُوَ كَافٍ، أَوْ بِإِذْعَانِ «الْمَفْضُولِ لَهُ وَتَقْدِيمِهِ» عَلَى نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، كَالتِّلْمِيذِ مَعَ شَيْخِهِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْقَطْعَ
(3/668)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِهَا عَادَةً، أَوْ بِأَمَارَاتٍ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفِيدُ الْقَطْعَ، أَوِ الظَّنَّ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَوَيَا عِنْدَهُ» ، أَيْ: إِنِ اسْتَوَى الْمُجْتَهِدَانِ عِنْدَ الْمُسْتَفْتِي فِي الْفَضِيلَةِ، وَاخْتَلَفَا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: يَتَّبِعُ «أَيَّهُمَا شَاءَ» مُخَيَّرًا لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ.
الثَّانِي: يَأْخُذُ بِأَشَدِّ الْقَوْلَيْنِ، لِأَنَّ «الْحَقَّ ثَقِيلٌ مَرِيٌّ وَالْبَاطِلَ خَفِيفٌ وَبِيٌّ» ، كَمَا يُرْوَى فِي الْأَثَرِ. وَفِي الْحِكْمَةِ: إِذَا تَرَدَّدْتَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، فَاجْتَنِبْ أَقْرَبَهُمَا مِنْ هَوَاكَ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا خُيِّرَ عَمَّارٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَشَدَّهُمَا وَفِي لَفْظٍ: أَرْشَدَهُمَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ لِلْحَدِيثِ أَنَّ الرُّشْدَ فِي الْأَخْذِ بِالْأَشَدِّ.
الثَّالِثُ: يَأْخُذُ بِأَخَفِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّخْفِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ، كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
(3/669)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[الْبَقَرَةِ: 185] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الْحَجِّ: 78] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ، وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ السَّهْلَةِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا الْمُزَنِيُّ: مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِخِفَّةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ. أَوْ كَمَا قَالَ.
قُلْتُ: وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَا خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا.
قُلْتُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَمَّارٍ فِيمَا حَكَيْنَا عَنْهُ مِنَ الْأَخْذِ بِأَشَدِّ الْأُمُورِ: أَنَّ عَمَّارًا كَانَ مُكَلَّفًا مُحْتَاطًا لِنَفْسِهِ وَدِينِهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُشَرِّعًا مُوَسِّعًا عَلَى النَّاسِ، لِئَلَّا يُحْرَجُوا فَيَنْفِرُوا، كَمَا صَحَّ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ لِئَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ. وَقَالَ: يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَقَالَ لِبَعْضِ
(3/670)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَصْحَابِهِ فِي سِيَاقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ: إِنَّ فِيكُمْ مُنْكِرِينَ مُنَفِّرِينَ.
قَوْلُهُ: «وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَسْقُطَا» - يَعْنِي قَوْلَا الْمُجْتَهِدَيْنِ إِذَا اخْتَلَفَا يَسْقُطَانِ - لِتَعَارُضِهِمَا، وَعَدَمِ الْمُرَجِّحِ لِأَحَدِهِمَا، «وَيَرْجِعَ» الْمُقَلِّدُ «إِلَى غَيْرِهِمَا» مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ «إِنْ وَجَدَ» غَيْرُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُمَا، رَجَعَ إِلَى «مَا قَبْلَ السَّمْعِ» ، وَفِيهِ الْأَقْوَالُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا.
تَنْبِيهٌ: إِذَا اخْتَلَفَ عَلَى الْمُقَلِّدِ جَوَابُ الْمُجْتَهِدَيْنِ، وَقُلْنَا: يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِمَا، فَذَلِكَ الْغَيْرُ إِنْ أَفْتَاهُ بِقَوْلٍ ثَالِثٍ غَيْرِ قَوْلَيْهِمَا، مِثْلَ أَنْ أَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ طَاهِرٌ، وَأَفْتَاهُ الْآخَرُ أَنَّهُ طَهُورٌ، فَأَفْتَاهُ الثَّالِثُ بِأَنَّهُ نَجِسٌ ; رَجَعَ إِلَيْهِ، وَكَانَ مُسْتَنَدُ الْعَمَلِ قَوْلَهُ.
وَإِنْ أَفْتَاهُ بِأَحَدِ قَوْلَيِ الْأَوَّلَيْنِ بِكَمَالِهِ أَوْ بِجُزْئِهِ، بِأَنْ فَصَّلَ لَهُ مَا أَطْلَقَاهُ مِثْلَ أَنْ أَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَطْهُرُ، وَإِنْ خُلِّلَتْ بِنَقْلِهَا عَنِ الشَّمْسِ إِلَى الظِّلِّ طَهُرَتْ، فَهَلْ تَكُونُ فُتْيَاهُ مُسْتَقِلَّةً بِاسْتِنَادِ عَمَلِ الْمُقَلِّدِ إِلَيْهَا، أَوْ تَكُونُ مُؤَكِّدَةً لِمَا وَافَقَهَا مَنْ فُتْيَا الْمُجْتَهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ: أَصْلُهُمَا تَعَارُضُ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى، فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ، وَقَدْ يُرَجَّحُ الثَّانِي بِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِقَوْلِ أَحَدِ الْمُجْتَهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، لَكِنْ
(3/671)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ لِعَارِضِ التَّعَارُضِ، وَبِفُتْيَا الثَّالِثِ مُوَافِقًا لِأَحَدِهِمَا زَالَ التَّعَارُضُ، وَظَهَرَ رُجْحَانُ قَوْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي الْعَمَلِ، وَقَوْلُ الْمُفْتِي الثَّالِثِ مُؤَكِّدًا لَهُ.
وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا عَمِلَ بِفُتْيَاهُمَا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا لَيْسَا أَهْلًا لَلْفُتْيَا، وَتَضَمَّنَ الْعَمَلُ بِالْفُتْيَا مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَلْفُتْيَا، فَإِنْ جَعَلْنَا عُمْدَةَ الْعَمَلِ فُتْيَا الثَّالِثِ اسْتَقَلَّ بِالضَّمَانِ كَمَا اسْتَقَلَّ قَوْلُهُ بِالْعَمَلِ، وَإِنْ جَعَلْنَا عُمْدَتَهُ فُتْيَا أَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ وَفُتْيَا الثَّالِثِ مُرَجِّحَةً ; كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي سَبَبِ الْإِتْلَافِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَثْلَاثًا عَلَى الثَّالِثِ ثَلَاثَةٌ حَطًّا لِرُتْبَةِ الْمُرَجِّحِ عَنْ رُتْبَةِ الْأَصْلِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهِ. وَضَبَطْنَا ذَلِكَ بِالثَّلَاثِ لِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ كَثِيرًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(3/672)
________________________________________
الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ
التَّرْتِيبُ: جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا فِي رُتْبَتِهِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِوَجْهٍ مَا، فَالْإِجْمَاعُ مُقَدَّمٌ عَلَى بَاقِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، لِقَطْعِيَّتِهِ وَعِصْمَتِهِ وَأَمْنِهِ مِنْ نَسْخٍ، أَوْ تَأْوِيلٍ، ثُمَّ الْكِتَابُ، وَيُسَاوِيهِ مُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ لِقَطْعِيَّتِهِمَا، ثُمَّ خَبَرُ الْوَاحِدِ، ثُمَّ الْقِيَاسُ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْأَدِلَّةِ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، وَنَحْوُهُ سَبَقَ.
وَالتَّرْجِيحُ: تَقْدِيمُ أَحَدِ طَرِيقَيِ الْحُكْمِ لِاخْتِصَاصِهِ بِقُوَّةٍ فِي الدِّلَالَةِ، وَرُجْحَانُ الدَّلِيلِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ أَقْوَى، وَالرُّجْحَانُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَعْيَانِ الْجَوْهَرِيَّةِ، وَهُوَ فِي الْمَعَانِي مُسْتَعَارٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
" الْقَوْلُ فِي تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَالتَّرْجِيحِ "
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا مِنْ مَوْضُوعِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ وَضَرُورَاتِهِ، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي مَرَاتِبِ الْقُوَّةِ، فَيَحْتَاجُ الْمُجْتَهِدُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُقَدَّمُ مِنْهَا وَمَا يُؤَخَّرُ، لِئَلَّا يَأْخُذَ بِالْأَضْعَفِ مِنْهَا مَعَ وُجُودِ الْأَقْوَى، فَيَكُونَ كَالْمُتَيَمِّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ.
وَقَدْ يَعْرِضُ لِلْأَدِلَّةِ التَّعَارُضُ وَالتَّكَافُؤُ، فَتَصِيرُ بِذَلِكَ كَالْمَعْدُومَةِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِظْهَارِ بَعْضِهَا بِالتَّرْجِيحِ لِيَعْمَلَ بِهِ، وَإِلَّا تَعَطَّلَتِ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ.
فَهَذَا الْبَابُ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ تَوَقُّفَ الشَّيْءِ عَلَى جُزْئِهِ، أَوْ شَرْطِهِ.
قَوْلُهُ: " التَّرْتِيبُ: جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا فِي رُتْبَتِهِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا بِوَجْهٍ مَا "، أَيْ: بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.
(3/673)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْبَابُ مَعْقُودًا لِتَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَتَرْجِيحِهَا، وَجَبَ الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَةِ التَّرْتِيبِ وَالتَّرْجِيحِ مَا هِيَ، لِأَنَّهُمَا شَرْطَانِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا بِالشَّرْطِيَّةِ يَسْتَدْعِي سَبْقَ تَصَوُّرِ مَاهِيَّتِهِمَا، إِذِ التَّصْدِيقُ أَبَدًا مَسْبُوقٌ بِالتَّصَوُّرِ. وَلَمَّا كَانَ التَّرْتِيبُ مَصْدَرَ رَتَّبَ يُرَتِّبُ تَرْتِيبًا ; عَرَّفْنَاهُ بِمَصْدَرٍ مِثْلِهِ وَهُوَ الْجَعْلُ.
قَوْلُهُ: " جَعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا "، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ قَدْ يَكُونُ فِي شَيْئَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ كَجَمَاعَةِ رِجَالٍ مُتَفَاوِتِينَ فِي الْأَقْدَارِ يَجْلِسُ كُلٌّ مِنْهُمْ حَيْثُ يَسْتَحِقُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْحَابِهِ.
قَوْلُهُ: " فِي رُتْبَتِهِ "، أَيْ: فِي مَوْضِعِهِ أَوْ مَنْزِلَتِهِ " الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا "، أَيْ: يَسْتَحِقُّ جَعْلَهُ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ أَسْبَابَ التَّرْتِيبِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الْمَرَاتِبِ مُتَعَدِّدَةٌ، فَقَدْ يَسْتَحِقُّ الشَّيْءُ التَّقْدِيمَ مِنْ جِهَةِ قُوَّتِهِ أَوْ قُرْبِهِ أَوْ حُسْنِهِ أَوْ خَاصِّيَّةٍ فِيهِ. وَقَدْ يَسْتَحِقُّ الْإِنْسَانُ التَّقْدِيمَ تَارَةً لِشَجَاعَتِهِ، وَتَارَةً لِعِلْمِهِ، وَتَارَةً لِجَاهِهِ، وَتَارَةً لِدِينِهِ، وَتَارَةً لِجَمَالِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجِهَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ تَرْتِيبَ الْأَقَارِبِ فِي نَفَقَاتِهِمْ وَفِطْرَتِهِمْ وَوِلَايَتِهِمْ فِي النِّكَاحِ وَإِرْثِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ وَالْقُوَّةِ عَلَى مَا فُصِّلَ فِي الْفِقْهِ.
قَوْلُهُ: " فَالْإِجْمَاعُ مُقَدَّمٌ عَلَى بَاقِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ ".
قَدْ سَبَقَ أَنَّ أَدِلَّةَ الشَّرْعِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُصُولِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَوْ لَمْ نَذْكُرْهُ، وَالْإِجْمَاعُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا جَمِيعًا لِوَجْهَيْنِ:
(3/674)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهُمَا: كَوْنُهُ قَاطِعًا مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ بِشَهَادَةِ الْمَعْصُومِ لَهُ بِذَلِكَ كَمَا سَبَقَ فِي بَابِهِ، بِخِلَافِ بَاقِي الْأَدِلَّةِ.
الثَّانِي: كَوْنُهُ آمِنًا مِنَ النَّسْخِ وَالتَّأْوِيلِ بِخِلَافِ بَاقِي الْأَدِلَّةِ، فَإِنَّ النَّسْخَ يَلْحَقُهَا وَالتَّأْوِيلَ يَتَّجِهُ عَلَيْهَا. وَقَدْ سَبَقَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يَلْحَقُ الْإِجْمَاعَ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ إِلَّا مَا كَانَتْ دِلَالَتُهُ ظَاهِرَةً وَالْإِجْمَاعُ قَاطِعٌ فَصَارَ فِي عَدَمِ لُحُوقِ التَّأْوِيلِ لَهُ كَالنُّصُوصِ فِي مَدْلُولِهَا لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ فِي مَسْأَلَةٍ أَنَّ الْمُبَاحَ غَيْرُ مَأْمُورٍ: أَنَّ الْكَعْبِيَّ تَأَوَّلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَا ذَكَرَ هُنَاكَ.
قُلْنَا: حَيْثُ أُضِيفَ التَّأْوِيلُ إِلَى الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى مَوْرِدِ الْإِجْمَاعِ لَا عَلَى ذَاتِ الْإِجْمَاعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ الْكِتَابُ، وَيُسَاوِيهِ مُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ لِقَطْعِيَّتِهِمَا " أَيْ: ثُمَّ الْكِتَابُ مُقَدَّمٌ فِي الدِّلَالَةِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ، وَيُسَاوِي الْكِتَابَ فِي ذَلِكَ مُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا قَاطِعَانِ مِنْ جِهَةِ الْمَتْنِ. وَلِذَلِكَ جَازَ نَسْخُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ.
قَوْلُهُ: " ثُمَّ خَبَرُ الْوَاحِدِ ". يَعْنِي هُوَ مُقَدَّمٌ بَعْدَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، " ثُمَّ الْقِيَاسُ بَعْدَ خَبَرِ الْوَاحِدِ.
قَوْلُهُ: " وَالتَّصَرُّفُ فِي الْأَدِلَّةِ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ وَنَحْوِهِ " مِنْ حَمْلِ الْمُجْمَلِ عَلَى الْمُبَيَّنِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ " سَبَقَ " فِي أَبْوَابِهِ.
وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَهُ وَظَائِفُ، وَهِيَ تَرْتِيبُ الْأَدِلَّةِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا، وَتَرْجِيحُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عِنْدِ التَّعَارُضِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ
(3/675)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التَّصَرُّفِ فِيهَا.
أَمَّا التَّرْتِيبُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْإِجْمَاعُ، ثُمَّ الْكِتَابُ ثُمَّ مُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ، ثُمَّ خَبَرُ الْوَاحِدِ، ثُمَّ الْقِيَاسُ، ثُمَّ بَاقِي الْأَدِلَّةِ عَلَى مَرَاتِبِهَا فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ.
وَأَمَّا التَّصَرُّفُ فِيهَا كَحَمْلِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَالْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَالْمُجْمَلِ عَلَى الْمُبَيَّنِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ; فَقَدْ ذُكِرَ فِي أَبْوَابِهِ، وَسُمِّيَ هَذَا تَصَرُّفًا، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ هُوَ التَّنَقُّلُ فِي الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ، وَهَذَا تَنَقُّلٌ فِي أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
وَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَنَحْنُ الْآنُ ذَاكِرُوهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: " وَالتَّرْجِيحُ: تَقْدِيمُ أَحَدِ طَرِيقَيِ الْحُكْمِ لِاخْتِصَاصِهِ بِقُوَّةٍ فِي الدِّلَالَةِ، وَرُجْحَانُ الدَّلِيلِ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ أَقْوَى ".
اعْلَمْ أَنَّ التَّرْجِيحَ وَالرُّجْحَانَ قَدْ يَلْتَبِسَانِ. وَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِتَمْيِيزِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْهُ بِرَسْمٍ.
فَالتَّرْجِيحُ: فِعْلُ الْمُرَجِّحِ النَّاظِرِ فِي الدَّلِيلِ، وَهُوَ تَقْدِيمُ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ الصَّالِحَيْنِ لِلْإِفْضَاءِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ بِقُوَّةٍ فِي الدِّلَالَةِ، كَمَا إِذَا تَعَارَضَ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ فِي حُكْمٍ، وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ، أَوْ قِيَاسُ الْعِلَّةِ وَالشَّبَهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقٌ يَصْلُحُ لِأَنْ يُعْرَفَ بِهِ الْحُكْمُ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ اخْتَصَّ بِقُوَّةٍ عَلَى الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ الدِّلَالَةُ. وَكَذَا الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ، وَقِيَاسُ الْعِلَّةِ عَلَى الشَّبَهِ مُقَدَّمٌ لِذَلِكَ.
وَالرُّجْحَانُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالدَّلِيلِ، أَوْ مُضَافَةٌ إِلَيْهِ، وَهِيَ كَوْنُ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ
(3/676)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْهُ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ، كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ قِيَاسِ الْعِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَمِنَ الْخَاصِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَامِّ، فَالتَّرْجِيحُ فِعْلُ الْمُرَجِّحِ، وَالرُّجْحَانُ صِفَةُ الدَّلِيلِ. وَيَظْهَرُ لَكَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ اللَّفْظِيِّ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: رَجَّحْتُ الدَّلِيلَ تَرْجِيحًا، فَأَنَا مُرَجِّحٌ، وَالدَّلِيلُ مُرَجَّحٌ - بِفَتْحِ الْجِيمِ - وَتَقُولُ: رَجَحَ الدَّلِيلُ رُجْحَانًا فَهُوَ رَاجِحٌ. أَلَا تَرَى أَنَّكَ أَسْنَدْتَ التَّرْجِيحَ إِلَى نَفْسِكَ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ، وَأَسْنَدْتَ الرُّجْحَانَ إِلَى الدَّلِيلِ ; كَذَلِكَ كَانَ التَّرْجِيحُ وَصْفَ الْمُسْتَدِلِّ، وَالرُّجْحَانُ وَصْفَ الدَّلِيلِ. فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ التَّصْرِيفِيَّةُ مُفِيدَةٌ فِي مَعْرِفَةِ رُسُومِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ. وَلَمَّا أَهْمَلَهَا أَوْ سَهَا عَنْهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُمْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ دِلَالَةِ اللَّفْظِ وَالدِّلَالَةِ بِاللَّفْظِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ دِلَالَةَ اللَّفْظِ صِفَةٌ لَهُ وَهِيَ كَوْنُهُ حَيْثُ يُفِيدُ مُرَادَ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ، أَوْ إِفَادَتُهُ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ، كَأَنْ يَقُولَ: عَجِبْتُ مِنْ دِلَالَةِ اللَّفْظِ، وَمِنْ: إِنْ دَلَّ اللَّفْظُ، فَإِذَا فَسَّرْتَهَا بِأَنْ وَالْفِعْلِ اللَّذَيْنِ يَنْحَلُّ إِلَيْهِمَا الْمَصْدَرُ، كَانَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى اللَّفْظِ إِسْنَادَ الْفَاعِلِيَّةِ، وَالدِّلَالَةُ بِاللَّفْظِ صِفَةٌ لِلْمُتَكَلِّمِ وَفِعْلِهِ، وَهِيَ إِفَادَةُ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ اللَّفْظِ مَا أَرَادَ مِنْهُ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: عَجِبْتُ مِنْ دِلَالَةِ فُلَانٍ بِلَفْظِهِ، وَمِنْ أَنْ دَلَّ فُلَانٌ بِلَفْظِهِ عَلَى كَذَا، فَيُسْنَدُ ذَلِكَ إِلَى فُلَانٍ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ لَا إِلَى اللَّفْظِ، فَافْهَمْ هَذَا.
قَوْلُهُ: «وَالرُّجْحَانُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَعْيَانِ الْجَوْهَرِيَّةِ وَهُوَ فِي الْمَعَانِي مُسْتَعَارٌ» .
يَعْنِي أَنَّ اسْتِعْمَالَ الرُّجْحَانِ حَقِيقَةٌ إِنَّمَا هُوَ فِي الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ، نَحْوَ:
(3/677)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هَذَا الدِّينَارُ أَوِ الدِّرْهَمُ رَاجِحٌ عَلَى هَذَا، لِأَنَّ الرُّجْحَانَ مِنْ آثَارِ الثِّقَلِ وَالِاعْتِمَادِ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْجَوَاهِرِ.
أَمَّا اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعَانِي، نَحْوَ: هَذَا الدَّلِيلُ، أَوِ الْمَذْهَبُ رَاجِحٌ عَلَى هَذَا، وَهَذَا الرَّأْيُ أَرْجَحُ مِنْ ذَاكَ، فَهُوَ مَجَازٌ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعَارَةِ مِنْ رُجْحَانِ الْأَجْسَامِ.
(3/678)
________________________________________
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ إِنْكَارُ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ كَالْبَيِّنَاتِ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذِ الْعَمَلُ بِالْأَرْجَحِ مُتَعَيِّنٌ.
وَقَدْ عَمِلَ الصَّحَابَةُ بِالتَّرْجِيحِ، وَالْتِزَامُهُ فِي الْبَيِّنَاتِ مُتَّجِهٌ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ مَشُوبٌ بِالتَّعَبُّدِ، وَلِهَذَا لَوْ أَبْدَلَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ لَمْ تُقْبَلْ، وَلَا تُقْبَلْ شَهَادَةُ جَمْعٍ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَثُرْنَ عَلَى بَاقَةِ بَقْلٍ بِدُونِ رَجُلٍ، بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ، وَمَوْرِدُ التَّرْجِيحِ إِنَّمَا هُوَ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَسْمُوعَةِ، وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ تَمَسُّكٍ بِدَلِيلٍ، خِلَافًا لِعَبْدِ الْجَبَّارِ، وَلَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ، إِذْ لَا غَايَةَ وَرَاءَ الْيَقِينِ، وَالْأَلْفَاظُ الْمَسْمُوعَةُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ إِذَا جَهِلَ التَّارِيخُ، أَوْ عُلِمَ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا فَالثَّانِي نَاسِخٌ إِذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ، وَالتَّنَاقُضُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ، فَأَحَدُ الْمُتَنَاقِضِينَ بَاطِلٌ، إِمَّا لِكَذِبِ النَّاقِلِ أَوْ خَطَئِهِ بِوَجْهٍ مَا فِي النَّقْلِيَّاتِ ; أَوْ خَطَأِ النَّاظِرِ فِي النَّظَرِيَّاتِ، أَوْ لِبُطْلَانِ حُكْمِهِ بِالنَّسْخِ، وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَنَحْوِهَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ إِنْكَارُ التَّرْجِيحِ فِي الْأَدِلَّةِ كَالْبَيِّنَاتِ» ، أَيْ: قَالَ: لَا يُرَجَّحُ بَعْضُ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يُرَجَّحُ بَعْضُ الْبَيِّنَاتِ.
قَوْلُهُ: «وَلَيْسَ بِشَيْءٍ» . يَعْنِي قَوْلَ الْبَاقِلَّانِيِّ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ «الْعَمَلِ بِالْأَرْجَحِ مُتَعَيِّنٌ» عَقْلًا وَشَرْعًا، «وَقَدْ عَمِلَ الصَّحَابَةُ بِالتَّرْجِيحِ» مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ.
وَقَدْ نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. . الْحَدِيثَ فَهَذَا تَقْدِيمٌ لِلْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَاةِ
(3/679)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالتَّرْجِيحِ. وَلَمَّا بَعَثَ بَعْضَ السَّرَايَا، اسْتَقْرَأَهُمْ الْقُرْآنَ، فَوَجَدَ فِيهِمْ رَجُلًا يَحْفَظُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَحْفَظُهَا غَيْرُهُ، فَأَمَّرَهُ عَلَيْهِمْ تَرْجِيحًا لَهُ بِحِفْظِهَا. وَلَمَّا كَثُرَ الْقَتْلَى يَوْمَ أُحُدٍ، أَمَرَ بِدَفْنِ الْجَمَاعَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ: قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا وَبِالْجُمْلَةِ فَالتَّرْجِيحُ دَأْبُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ حَيْثُ احْتَاجَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ: «وَالْتِزَامُهُ» ، أَيْ: الْتِزَامُ التَّرْجِيحِ «فِي الْبَيِّنَاتِ مُتَّجِهٌ» ، لِأَنَّ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ إِذَا اخْتَصَّتْ بِمَا يُفِيدُ زِيَادَةَ ظَنٍّ، صَارَتِ الْأُخْرَى كَالْمَعْدُومَةِ، إِذْ
(3/680)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَرْجُوحُ مَعَ الرَّاجِحِ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَازَ اسْتِعْمَالُ التَّرْجِيحِ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْعَامَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِقَوَاعِدِهِ الْكُلِّيَّةِ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي أَدِلَّتِهِ الْخَاصَّةِ الْمُبَيِّنَةِ لِفُرُوعِهِ الْجُزْئِيَّةِ أَوْلَى. لَا يُقَالُ: لَوِ اسْتَعْمَلْنَا الرُّجْحَانَ فِي الْبَيِّنَاتِ لَأَفْضَى إِلَى تَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ أَوْ إِبْطَالِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّمَا شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أَمْكَنَ أَنْ يُؤْتَى بِأَرْجَحَ مِنْهَا، وَهُوَ خِلَافُ مَقْصُودِ الشَّرْعِ مِنْ نَصْبِ الْحُكَّامِ، وَهُوَ تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ، وَفَصْلُ الْخِصَامِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: نَحْنُ إِذَا اسْتَعْمَلْنَا التَّرْجِيحَ فِي الْبَيِّنَاتِ فَإِنَّمَا نَسْتَعْمِلُهُ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ حُكْمٌ، فَإِذَا حُكِمَ بِهَا مَضَتْ شَهَادَتُهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ صِيَانَةً لِحُكْمِ الشَّرْعِ عَنِ النَّقْضِ ضَبْطًا لِلْأَحْكَامِ عَنِ الِاضْطِرَابِ، لَا احْتِرَامًا لِلْبَيِّنَةِ الْمَرْجُوحَةِ. وَهَذَا كَمَا قُلْنَا: إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ، يُعْمَلُ بِاجْتِهَادِ الثَّانِي فِيمَا يُسْتَقْبَلُ، وَلَا يُنْقَضُ مَا حُكِمَ بِهِ أَوَلًا، مَعَ أَنَّهُ كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ تَبَيَّنَ كَوْنُهُ مَرْجُوحًا، فَنِسْبَةُ الِاجْتِهَادِ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ فِي الرُّجْحَانِ كَنِسْبَةِ الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْأُولَى فِيهِ، وَاتِّصَالُ الْحُكْمِ بِالْمَرْجُوحِ عَاصِمٌ لَهُ مِنَ النَّقْضِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِي تَرْجِيحِ أَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، وَالشَّاهِدَيْنِ عَلَى شَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَجْهَيْنِ.
قَوْلُهُ: «ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا» ، أَيْ: بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَيِّنَاتِ، هُوَ «أَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ مَشُوبٌ بِالتَّعَبُّدِ» بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّاهِدَ «لَوْ أَبْدَلَ لَفَظَ الشَّهَادَةِ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ» أَوِ الْعِلْمِ فَقَالَ: أَخْبَرَ أَوْ أَعْلَمَ مَكَانَ: أَشْهَدَ ; «لَمْ تُقْبَلْ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ جَمْعٍ مِنَ النِّسَاءِ وَإِنْ كَثُرْنَ» وَبَلَغْنَ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً «عَلَى» يَسِيرٍ مِنَ الْمَالِ وَلَوْ «بَاقَةُ بَقْلٍ» حَتَّى
(3/681)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَكُونَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ، مَعَ أَنَّ شَهَادَةَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنَ النِّسَاءِ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ الْعِلْمُ التَّوَاتُرِيُّ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِثُبُوتِ التَّعَبُّدِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ التَّرْجِيحِ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ «بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ» ، إِذْ لَا تَعَبُّدَ فِيهَا، وَالتَّرْجِيحُ أَمْرٌ مُفِيدٌ مَعْقُولٌ، فَلَا مَانِعَ لَهُ مِنْ لُحُوقِهَا، وَالْمُقْتَضِي مَوْجُودٌ وَهُوَ وُجُوبُ الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ بِمَا يُمْكِنُ مِنَ الظَّنِّ أَوِ الْعِلْمِ. فَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرَهُ الْبَاقِلَّانِيُّ بِوَجْهَيْنِ ; الْتِزَامُ الْحُكْمِ بِالتَّرْجِيحِ فِي الْبَيِّنَاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ قَالَ بِهِ الْبَاقِلَّانِيُّ، ثُمَّ تَرَكَهُ، إِذْ لَا يُظَنُّ بِمِثْلِهِ الْإِصْرَارُ عَلَى مَثَلِ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ ظُهُورِ ضَعْفِهِ.
تَنْبِيهٌ: لَوْ عَلِمَ الْحَاكِمُ يَقِينًا خِلَافَ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِمَا عَلِمَهُ، وَيَصِيرَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ مُنْكَرٍ اخْتَصَّ بِعِلْمِهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِزَالَتِهِ، بَلْ هَذَا هُوَ عَيْنُ ذَاكَ وَصُورَةٌ مِنْ صُوَرِهِ.
قَوْلُهُ: «وَمَوْرِدُ التَّرْجِيحِ» - أَيِ: الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ التَّرْجِيحُ - «إِنَّمَا هُوَ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَسْمُوعَةِ» كَنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَظَوَاهِرِهَا «وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ» كَأَنْوَاعِ الْأَقْيِسَةِ وَالتَّنْبِيهَاتِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنَ النُّصُوصِ، أَمَّا الْقَوَاطِعُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ فِيهَا، إِذْ أَحَدُ الْقَاطِعَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ يَكُونُ كَذِبًا قَطْعًا.
قَوْلُهُ: «فَلَا مَدْخَلَ لَهُ» ، أَيْ: حَيْثُ اخْتَصَّ التَّرْجِيحُ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، «فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْمَذَاهِبِ مِنْ غَيْرِ تَمَسُّكٍ بِدَلِيلٍ خِلَافًا لِعَبْدِ الْجَبَّارِ» .
(3/682)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ فِي «الرَّوْضَةِ» ، وَإِنَّمَا نَقَلْتُهَا وَالَّتِي قَبْلَهَا فِيمَا أَظُنُّ مِنْ جَدَلِ ابْنِ الْمَنِّيِّ الْمُسَمَّى «جَنَّةُ النَّاظِرِ وَجُنَّةُ الْمَنَاظِرِ» . وَقَوْلُهُ: «مِنْ غَيْرِ تَمَسُّكٍ بِدَلِيلٍ» أَحْسَبُ أَنِّي أَنَا زِدْتُهُ قَيْدًا فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْجَبَّارِ يَقُولُ: إِنَّ التَّرْجِيحَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْمَذَاهِبِ بِحَيْثُ يُقَالُ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مَثَلًا أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ.
حُجَّةُ عَبْدِ الْجَبَّارِ: أَنَّ الْمَذَاهِبَ آرَاءٌ وَاعْتِقَادَاتٌ مُسْنَدَةٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَاتِ، وَهِيَ تَتَفَاوَتُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَجَازَ دُخُولُ التَّرْجِيحِ فِيهَا، كَالْأَدِلَّةِ.
حُجَّةُ الْمَانِعِينَ تَتَّجِهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَذَاهِبَ لِتَوَافُرِ انْهِرَاعِ النَّاسِ إِلَيْهَا وَتَعْوِيلِهِمْ عَلَيْهَا صَارَتْ كَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَا تَرْجِيحَ فِي الشَّرَائِعِ.
قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ انْهِرَاعَ النَّاسِ إِلَيْهَا لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا ظَنِّيَّةً تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تُشْبِهُ الشَّرَائِعَ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّرَائِعَ لَا تَقْبَلُ التَّرْجِيحَ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَحَاسِنِ، وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ جَمِيعِهَا قَاطِعًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: لَوْ كَانَ لِلتَّرْجِيحِ مَدْخَلٌ فِي الْمَذَاهِبِ لَاضْطَرَبَتِ النَّاسُ وَلَمْ يَسْتَقِرْ أَحَدٌ عَلَى مَذْهَبٍ، إِذْ كَانَ كُلَّمَا ظَهَرَ لَهُ رُجْحَانُ مَذْهَبٍ دَخَلَ فِيهِ وَتَرَكَ مَذْهَبَهُ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلتَّرْجِيحِ فِيهِ مَدْخَلٌ كَمَا سَبَقَ فِي تَرْجِيحِ الْبَيِّنَاتِ.
(3/683)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، وَاللَّازِمُ مِنْهُ مُلْتَزِمٌ، وَكُلُّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ رُجْحَانُ مَذْهَبٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِيهِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْأَخْذُ بِأَرْجَحِ الدَّلِيلَيْنِ. وَقَدْ بَيَّنَّا اتِّجَاهَ الرُّجْحَانِ فِي الْبَيِّنَاتِ وَالْتِزَامَهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذَاهِبِ لَيْسَ مُتَمَحِضًا فِي الْخَطَأِ وَلَا فِي الصَّوَابِ، بَلْ هُوَ مُصِيبٌ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، مُخْطِئٌ فِي بَعْضِهَا. وَعَلَى هَذَا، فَالْمَذْهَبَانِ لَا يَقْبَلَانِ التَّرْجِيحَ لِإِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، أَوْ بَيْنَ خَطَأَيْنِ وَصَوَابَيْنِ، وَالْخَطَأُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّرْجِيحِ فِيهِ اتِّفَاقًا.
قُلْتُ: وَهَذَا الْوَجْهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَنَّ مَنْ نَفَى التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ: لَا يَصِحُّ تَرْجِيحَ مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ عَلَى مَجْمُوعِ مَذْهَبٍ آخَرَ لِمَا ذَكَرَ، وَمَنْ أَثْبَتَ التَّرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، أَثْبَتَهُ بِاعْتِبَارِ مَسَائِلِهَا الْجُزْئِيَّةِ، وَهُوَ صَحِيحٌ، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي الْحَدَثِ طَهُورٌ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ طَهُورٍ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّطَوُّعِ بَعْدَ الْفَجْرِ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِهَا أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ فِي أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي إِجْزَاءِ الْبَعِيرِ عَنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي تَقْدِيمِ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ وَنَحْوُهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أَرْجَحُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي طَهَارَةِ الْأَعْيَانِ بِالِاسْتِحَالَةِ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ الْقَابِلَةِ لِلرُّجْحَانِ وَالْمَرْجُوحِيَّةِ. وَحِينَئِذٍ يَعُودُ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، إِذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ قَوْلِنَا: يَجُوزُ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذَاهِبِ، وَلَا يَجُوزُ، لِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْحُكْمِ بِالْكُلِّ وَالْجُزْءِ، كَمَا يُقَالُ: الزِّنْجِيُّ أَسْوَدُ، الزِّنْجِيُّ لَيْسَ بِأَسْوَدَ حَيْثُ أَثْبَتْنَا السَّوَادَ لِجِلْدِهِ، وَنَفَيْنَاهُ عَنْ أَسْنَانِهِ.
(3/684)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ بِمَا ذَكَرْتُهُ فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ وَكَانَ النِّزَاعُ مَعْنَوِيًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُهُ النِّزَاعَ فِي التَّصْوِيبِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ امْتَنَعَ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذَاهِبِ عِنْدَهُ، إِذْ مَاهِيَّةُ الصَّوَابِ أَوِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ لَا تَرْجِيحَ فِيهِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنْ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا اتَّجَهَ التَّرْجِيحُ عِنْدَهُ فِي الْمَذَاهِبِ لِتَتَمَيَّزَ بِالنَّظَرِ الْحُجَّةُ مِنَ الشُّبْهَةِ، وَالرَّاجِحُ مِنَ الْمَرْجُوحِ، وَالصَّوَابُ مِنَ الْخَطَأِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ هَهُنَا مَبْنِيًا عَلَى تَعَادُلِ الْأَمَارَاتِ، فَمَنْ يَمْنَعْهُ يَمْنَعِ التَّرْجِيحَ فِي الْمَذَاهِبِ، لِأَنَّ الرُّجْحَانَ فِيهَا بَيِّنٌ مِنْ تَفَاوُتِ أَمَارَاتِهَا، وَمَنْ يُجِيزُهُ يُجِيزُ التَّرْجِيحَ فِي الْمَذَاهِبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، إِذْ مَعَ تَعَادُلِ الْأَمَارَاتِ يَشْتَبِهُ الصَّوَابُ بِالْخَطَأِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَمَارَتَيْنِ لِتَمْيِيزِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى، وَاحْتِمَالُ التَّعَادُلِ قَائِمٌ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ.
وَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ: أَنَّ لِلتَّرْجِيحِ مَدْخَلًا فِي الْمَذَاهِبِ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ إِذَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالِ، فَبِأَنْ نَقُولَ: مَذْهَبُ فُلَانٍ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ فُلَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ يَصِحُّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلْيَصِحَّ مُطْلَقًا:
أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ: مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ الْمَذَاهِبِ مِنْ جِهَةِ صِحَّةِ مَقَايِيسِهِ، وَاعْتِبَارِهِ الْمُنَاسَبَاتِ الْمُؤَثِّرَةَ، وَمَذْهَبُ الْبَاقِينَ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ اعْتِمَادِهِمْ عَلَى السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ، وَمَذْهَبُ الظَّاهِرِيَّةِ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ
(3/685)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَسْلَمُ لِجُمُودِهِ عَلَى الْأَثَرِ، وَمَذْهَبُ الْقَيَّاسِينَ مَرْجُوحٌ لِمُخَاطَرَتِهِمْ بِالتَّصَرُّفِ بِالرَّأْيِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا فَاسِدًا.
وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ مُطْلَقًا مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَمَا جَازَ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْجُمْلَةِ جَازَ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَلَمَّا جَازَ رُجْحَانُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ، جَازَ رُجْحَانُهُ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَالْكَلَامُ فِي الْجَوَازِ لَا فِي الْوُقُوعِ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلِ، فَبِأَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْ هَذَا الْحُكْمُ فِي مَذْهَبِ فُلَانٍ أَرْجَحُ مِنْهَا - أَوْ مِنْهُ - فِي مَذْهَبِ فُلَانٍ، لِأَنَّ هَذَا - أَعْنِي التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا - لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ لِذَاتِهِ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَمَنِ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
ثُمَّ إِنَّ التَّرْجِيحَ فِي الْمَذَاهِبِ وَاقِعٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ قَطْعًا، وَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اقْتَسَمُوا الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ وَغَيْرَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، كَمَذْهَبِ سُفْيَانَ، وَدَاوُدَ، وَغَيْرِهِمَا. فَكُلُّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ بِمَذْهَبٍ تَعَبَّدَ بِهِ، وَاتَّخَذَهُ دِينًا، حَتَّى غَلَبَ مَذْهَبُ مَالِكٍ عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَشْرِقِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى غَالِبِ الْبِلَادِ بَيْنَهُمَا، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ عَلَى أَهْلِ جِيلَانَ، فَكُلُّ مَنِ الْتَزَمَ مَذْهَبًا، فَإِنَّمَا هُوَ لِرُجْحَانِهِ عِنْدَهُ بِتَرْجِيحِهِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنِ الْتَزَمَ أَيَّ مَذْهَبٍ شَاءَ بِذَلِكَ التَّرْجِيحِ، فَكَانَ التَّرْجِيحُ فِي الْمَذَاهِبِ ثَابِتًا بِالْإِجْمَاعِ.
قَوْلُهُ: «وَلَا فِي الْقَطْعِيَّاتِ» ، أَيْ: وَلَا مَدْخَلَ لِلتَّرْجِيحِ فِي الْقَطْعِيَّاتِ، «إِذْ لَا غَايَةَ وَرَاءَ الْيَقِينِ» .
(3/686)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْنِي أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ التَّرْجِيحِ تَزَايُدُ الظَّنَّ بِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ. وَفِي الْقَطْعِيَّاتِ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ مَعْلُومًا يَقِينًا، وَلَا غَايَةَ وَرَاءَ الْيَقِينِ تُطْلَبُ، فَيَسْتَحِيلُ التَّرْجِيحُ لِعَدَمِ الْقَابِلِ لَهُ. وَهَذَا كَمَنْ يَمْشِي عَلَى جَبَلٍ، أَوْ سَطْحٍ، فَلَا يَزَالُ الْمَشْيُ مُمْكِنًا مِنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى حَافَّتِهِ، فَيَسْتَحِيلُ مِنْهُ لِانْتِهَاءِ غَايَةِ الْمَشْيِ، فَلَوْ زَادَ بَعْدَ انْتِهَائِهِ إِلَى الطَّرَفِ خُطْوَةً، لَصَارَ مَشْيُهُ فِي الْهَوَاءِ، وَهُوَ مُحَالٌ، بَلْ يَقَعُ الْمَاشِي فَيَهْلِكُ، أَوْ يَتَأَذَّى.
قَوْلُهُ: «وَالْأَلْفَاظُ الْمَسْمُوعَةُ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ، أَوْ عُلِمَ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا فَالثَّانِي نَاسِخٌ» .
اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَوْرِدَ التَّرْجِيحِ هُوَ الْأَلْفَاظُ الْمَسْمُوعَةُ وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةُ، شَرَعَ الْآنَ يُبَيِّنُ مَا هِيَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَعَارُضِهَا وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا، فَالْأَلْفَاظُ الْمَسْمُوعَةُ هِيَ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالِاسْتِقْرَاءِ، فَإِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ، فَإِمَّا،أَنْ يُجْهَلَ تَارِيخُهُمَا، أَوْ يُعْلَمُ، فَإِنْ جُهِلَ، قَدَّمْنَا الْأَرْجَحَ مِنْهُمَا بِبَعْضِ وُجُودِ التَّرْجِيحِ، وَإِنْ عُلِمَ تَارِيخُهُمَا، فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْجَمْعِ، أَوْ لَا، فَإِنْ أَمْكَنَ، جُمِعَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ الْجَمْعُ، إِذِ الْوَاجِبُ اعْتِبَارُ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ جَمِيعِهَا مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَالثَّانِي نَاسِخٌ إِنْ صَحَّ سَنَدُهُمَا، أَوْ أَحَدُهُمَا كَذِبٌ إِنْ لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ، «إِذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ دَلِيلَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ، وَالتَّنَاقُضُ يُنَافِي الْحِكْمَةَ، فَأَحَدُ الْمُتَنَاقِضَيْنِ» يَكُونُ بَاطِلًا، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا، أَوْ لِكَذِبِ نَاقِلِهِ، أَوْ لِخَطَئِهِ «بِوَجْهٍ
(3/687)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَا» مِنْ وُجُوهِ تَصْحِيفٍ أَوْ وَهُمٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ «فِي النَّقْلِيَّاتِ» ، أَوْ لِخَطَأِ «النَّاظِرِ فِي النَّظَرِيَّاتِ» كَالْإِخْلَالِ بِشَكْلِ الْقِيَاسِ أَوْ شَرْطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. هَذَا عَلَى تَرْتِيبِ «الْمُخْتَصَرِ» فِي تَقْسِيمِهِ، وَفِيهِ تَنْبِيهَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: «فَيَدْخُلُهَا التَّرْجِيحُ إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ، أَوْ عُلِمَ وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ» ، فَإِنَّ هَذَا مُوهِمٌ بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ التَّرْجِيحَ يَدْخُلُهَا فِي الْحَالَيْنِ، أَيْ: فِيمَا إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ وَفِيمَا إِذَا عُلِمَ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ.
وَلَسْتُ أَدْرِي الْآنَ مَا أَرَدْتُ وَقْتَ الِاخْتِصَارِ، وَالَّذِي يَتَّجِهُ الْآنَ مِنْهُ خِلَافُ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّصَّيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ، جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: «فِي الْجُمْلَةِ» . يَعْنِي وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالتَّنْزِيلِ عَلَى زَمَانَيْنِ أَوْ حَالَيْنِ، وَالْأَحْوَالُ كَثِيرَةٌ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا قَوِيًّا ظَاهِرًا، أَوْ ضَعِيفًا خَفِيًّا، لِأَنَّ حَمْلَ النَّصِّ عَلَى مَعْنًى خَفِيٍ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِهِ بِكُلِّ حَالٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالنَّصَّانِ، إِمَّا أَنْ لَا يَصِحَّ سَنَدُهُمَا. فَلَا اعْتِبَارَ بِهِمَا، أَوْ يَصِحَّ سَنَدُ أَحَدِهِمَا فَقَطْ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالْآخَرِ، فَلَا تَعَارُضَ، أَوْ يَصِحَّ سَنَدُهُمَا، فَإِمَّا أَنْ لَا يَتَعَارَضَا، فَلَا إِشْكَالَ، أَوْ يَتَعَارَضَا، فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ لَا ; فَإِنْ أَمْكَنَ تَعَيَّنَ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا، فَالثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، أَوْ لَا يُعْلَمَ، فَيُرَجَّحُ بَيْنَهُمَا بِبَعْضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا كَانَ أَحَدُهُمَا مَنْسُوخًا أَوْ كَذِبًا. فَهَذِهِ الْقِسْمَةُ أَضْبَطُ وَأَوْلَى مِنْ قِسْمَةِ «الْمُخْتَصَرِ» ، فَلْتَكُنِ الْعُمْدَةُ عَلَيْهَا.
وَقَدْ يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي النُّصُوصِ إِذَا تَعَارَضَتْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ التَّرْجِيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ الْجَمْعِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ
(3/688)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بْنُ رُشْدٍ فِي «قَوَاعِدِهِ» كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ تَقْدِيمُ الْجَمْعِ عَلَى التَّرْجِيحِ مَا أَمْكَنَ، إِلَّا أَنْ يُفْضِيَ الْجَمْعُ إِلَى تَكَلُّفٍ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ بَرَاءَةُ الشَّرْعِ مِنْهُ، وَيَبْعُدُ أَنَّهُ قَصَدَهُ، فَيَتَعَيَّنُ التَّرْجِيحُ ابْتِدَاءً.
قَوْلُهُ: «وَالْمَعَانِي الْمَعْقُولَةِ وَالْأَقْيِسَةِ وَنَحْوِهَا» مِنَ التَّنْبِيهَاتِ وَاسْتِصْحَابِ الْأَحْوَالِ، كَمَا إِذَا تَعَارَضَ أَصْلَانِ، فَرَجَّحْنَا أَحَدَهُمَا، كَمَنْ قَدَّ مَلْفُوفًا نِصْفَيْنِ، وَادَّعَى وَلِيُّهُ أَنَّهُ كَانَ حَيًّا، فَالْأَصْلُ حَيَاتُهُ وَبَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْجَانِي، فَلِلْمُجْتَهِدِ تَرْجِيحُ مَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى تَرْجِيحِهِ مِنْ ذَلِكَ.
(3/689)
________________________________________
فَالتَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ إِمَّا مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ، أَوِ الْمَتْنِ، أَوِ الْقَرِينَةِ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَيُقَدَّمُ التَّوَاتُرُ عَلَى الْآحَادِ لِقَطْعِيَّتِهِ ; وَالْأَكْثَرُ رُوَاةً عَلَى الْأَقَلِّ، وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ كَالشَّهَادَةِ، وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ، وَالْمُسْنَدُ عَلَى الْمُرْسَلِ، إِلَّا مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، فَالْأَمْرُ أَسْهَلُ فِيهَا لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ. كَمَا سَبَقَ. وَالْمَرْفُوعُ عَلَى الْمَوْقُوفِ، وَالْمُتَّصِلُ عَلَى الْمُنْقَطِعِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَرِوَايَةُ الْمُتْقِنِ وَالْأَتْقَنِ وَالضَّابِطِ وَالْأَضْبَطِ وَالْعَالِمِ وَالْأَعْلَمِ وَالْوَرِعِ وَالْأَوْرَعِ، وَالتَّقِيِّ وَالْأَتْقَى عَلَى غَيْرِهِمْ، وَصَاحِبِ الْقِصَّةِ وَالْمُلَابِسِ لَهَا عَلَى غَيْرِهِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ عِلْمٍ، وَالرِّوَايَةُ الْمُتَّسِقَةُ الْمُنْتَظِمَةُ عَلَى الْمُضْطَرِبَةِ، وَالْمُتَأَخِّرَةُ عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ ; وَرِوَايَةُ مُتَقَدِّمِ الْإِسْلَامِ وَمُتَأَخِّرِهِ سِيَّانِ ; وَفِي تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى غَيْرِهَا رِوَايَتَانِ، فَإِنْ رَجَحَتْ رَجَحَتْ رِوَايَةُ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَزِيدِ خِبْرَةٍ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْزِلَتِهِمْ وَمَكَانِهِمْ مِنْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «فَالتَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ» ، أَيْ: التَّرْجِيحُ الْوَاقِعُ فِي الْأَلْفَاظِ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ مَتْنِهَا، أَوْ سَنَدِهَا، أَوْ قَرَائِنِهَا الْمُحْتَفَّةِ بِهَا.
«أَمَّا الْأَوَّلُ» : يَعْنِي التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ السَّنَدِ، «فَيُقَدَّمُ التَّوَاتُرُ عَلَى الْآحَادِ لِقَطْعِيَّتِهِ» ، أَيْ: لِأَنَّ التَّوَاتُرَ قَاطِعٌ، وَالْآحَادُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَالْقَاطِعُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ بِالضَّرُورَةِ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى بَاقِي الْأَدِلَّةِ.
قَوْلُهُ: «وَالْأَكْثَرُ» أَيْ: وَيُقَدَّمُ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ «رُوَاةً عَلَى» الَّذِي هُوَ
(3/690)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَقَلُّ رُوَاةً، «وَمَنَعَهُ الْحَنَفِيَّةُ» أَيْ: قَالُوا: لَا يُقَدَّمُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ، «كَالشَّهَادَةِ» لَا يُقَدَّمُ فِيهَا الْأَكْثَرُ عَدَدًا عَلَى غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ» . يَعْنِي عِنْدَ مَا حُكِيَ عَنِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ مِنْ إِنْكَارِ تَرْجِيحِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ.
وَتَقْرِيرُهُ هَهُنَا أَنَّ كَثْرَةَ الْعَدَدِ يُفِيدُ قُوَّةَ الظَّنِّ حَتَّى يُفْضِيَ إِلَى الْعِلْمِ، بِتَزَايُدِهِ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَزِيَادَةُ الظَّنِّ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا، إِذْ مَا دُونَهَا مَغْمُورٌ بِهَا، فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ مَعَهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا هُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرُهُمْ فِيمَا أَحْسَبُ عَلَى خِلَافِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: الْكَرْخِيُّ يَحْكِي التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَقِيلَ: هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُسْنَدُ» ، أَيْ: وَيُقَدَّمُ «الْمُسْنَدُ عَلَى الْمُرْسَلِ» ، لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِضَعْفٍ لَحِقَهُ تَبَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ، فَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ الْمُتَّفَقِ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً أَوْلَى، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ مَعَ كُلِّ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ، فَتَقْدِيمُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ. وَرَجَّحَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ، وَمَشَايِخُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْمُسْنَدِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا عَبْدُ الْجَبَّارِ.
قَوْلُهُ: «إِلَّا مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ فَالْأَمْرُ أَسْهَلُ فِيهَا لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ كَمَا سَبَقَ» ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْمُسْنَدِ، أَوْ يُعَارِضَهُ، وَيُنْتَظَرُ الْمُرَجِّحُ.
قُلْتُ: وَهَذَا عَلَى مَا فِيهِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ. أَمَّا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ ; فَإِذَا تَعَارَضَ الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ بِأَنْ قَالَ الصَّحَابِيُّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا، فَقَالَ صَحَابِيٌّ آخَرُ: حَدَّثْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا ;
(3/691)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَانَ الْمُسْنَدُ مُتَعَيَّنَ التَّقْدِيمِ، كَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَعَ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فِيمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعَ حَدِيثِ غَيْرِهِ فِي رِبَا النَّسِيئَةِ. وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: «وَالْمَرْفُوعُ» ، أَيْ: وَيُقَدَّمُ الْمَرْفُوعُ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ بِالسَّنَدِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَلَى الْمَوْقُوفِ» الَّذِي لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ الصَّحَابِيَّ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ رَفْعِهِ، وَثُبُوتُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْحُجَّةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دُونَ غَيْرِهِ.
«وَالْمُتَّصِلُ» يُقَدَّمُ «عَلَى الْمُنْقَطِعِ» ، لِأَنَّ الِاتِّصَالَ صِفَةُ كَمَالٍ فِي الْحَدِيثِ تُوجِبُ زِيَادَةَ ظَنٍّ، وَالِانْقِطَاعَ صِفَةُ نَقْصٍ وَعِلَّةٌ تُوجِبُ نَقْصَ الظَّنِّ، وَلِأَنَّ الْمُنْقَطِعَ نَوْعٌ مِنَ الْمُرْسَلِ كَمَا سَبَقَ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَالْأَخْذُ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مُتَعَيَّنٌ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ» أَيْ: يُقَدَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي وُجُودِهَا فِيهِ، فَيُقَدَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَى إِسْنَادِهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي إِسْنَادِهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَى رَفْعِهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي رَفْعِهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَى اتِّصَالِهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِي اتِّصَالِهِ، لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى الشَّيْءِ يُوجِبُ لَهُ قُوَّةً، وَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ وَتَمَكُّنُهُ فِي بَابِهِ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ يُوجِبُ لَهُ ضَعْفًا، وَيَدُلُّ عَلَى تَزَلْزُلِهِ فِي بَابِهِ مَا لَمْ يَقُمِ الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى ثُبُوتِهِ، فَيَكُونَ الْمُخَالِفُ حِينَئِذٍ مُعَانِدًا، كَالْيَهُودِ فِي نُبُوَّةِ عِيسَى، وَهُمْ وَالنَّصَارَى فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
(3/692)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَرِوَايَةُ الْمُتْقِنِ وَالْأَتْقَنِ، وَالضَّابِطِ وَالْأَضْبَطِ، وَالْعَالِمِ وَالْأَعْلَمِ، وَالْوَرِعِ وَالْأَوْرَعِ، وَالتَّقِيِّ وَالْأَتْقَى عَلَى غَيْرِهِمْ» .
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا وَاضِحٌ، لَكِنْ نَزِيدُهُ إِيضَاحًا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ شَخْصَيْنِ اشْتَرَكَا فِي صِفَةٍ، أَوْ فِعْلٍ، وَتَفَاوَتَا فِيهِمَا بِالْكَمِّيَّةِ، أَوِ الْكَيْفِيَّةِ، كَانَا جَمِيعًا مُشْتَرِكَيْنِ فِي اشْتِقَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ لَهُمَا مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ، أَوْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَاخْتَصَّ الزَّائِدُ مِنْهُمَا بِاشْتِقَاقِ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ لَهُ مِنْهُمَا، فَيُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْإِتْقَانِ: مُتْقِنٌ، وَلِلزَّائِدِ فِيهِ: أَتْقَنُ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّفَاتِ.
فَنَقُولُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ: تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْمُتْقِنِ عَلَى غَيْرِ الْمُتْقِنِ، وَرِوَايَةُ الْأَتْقَنِ عَلَى غَيْرِ الْأَتْقَنِ ; وَإِنْ كَانَ مُتْقِنًا، لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمُتْقِنِ إِلَى الْأَتْقَنِ كَنِسْبَةِ الْفَاضِلِ إِلَى الْأَفْضَلِ، وَهُوَ مُتَرَجِّحٌ كَمَا سَبَقَ.
وَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الضَّابِطِ عَلَى غَيْرِ الضَّابِطِ، وَرِوَايَةُ الْأَضْبَطِ عَلَى غَيْرِ الْأَضْبَطِ، وَرِوَايَةُ الْعَالِمِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْعَالِمِ ; كَرِوَايَةِ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ مِثْلَ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأُبَيٍّ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَنَحْوِهِمْ، عَلَى مَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ كَثِيرٌ. وَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَئِمَّةِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ مَشْهُورًا بِالْفِقْهِ مِنْهُمْ.
وَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْأَعْلَمِ عَلَى غَيْرِ الْأَعْلَمِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا كَرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى، فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ أَعْلَمُ بِلَا شَكٍّ. وَلِهَذَا وَهِمَ أَبُو
(3/693)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُوسَى فِي غَيْرِ قَضِيَّةٍ، وَيُصِيبُ فِيهِ ابْنُ مَسْعُودٍ، فَيَقُولُ أَبُو مُوسَى: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ.
وَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ الْوَرِعِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْوَرِعِ، وَرِوَايَةُ الْأَوْرَعِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِ الْأَوْرَعِ، وَرِوَايَةُ التَّقِيِّ، أَيْ: ذِي التَّقْوَى عَلَى غَيْرِ التَّقِيِّ، وَرِوَايَةُ الْأَتْقَى عَلَى غَيْرِ الْأَتْقَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالزِّيَادَةَ فِيهَا يُوجِبُ زِيَادَةَ الظَّنِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَدَمِهِ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ، كَمَا فِي الْخَبَرِ الْمُسْتَفِيضِ عَلَى الْآحَادِ.
قَوْلُهُ: «وَصَاحِبُ الْقِصَّةِ» ، أَيْ: وَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ صَاحِبِ الْقِصَّةِ «وَالْمُلَابِسِ لَهَا عَلَى غَيْرِهِ، لِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ عِلْمٍ» يُوجِبُ إِصَابَتَهُ.
مِثَالُ رِوَايَةِ صَاحِبِ الْقِصَّةِ حَدِيثُ مَيْمُونَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَلَالٌ» يُقَدَّمُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» .
وَمِثَالُ رِوَايَةِ الْمُلَابِسِ، أَيْ: الْمُبَاشِرُ لِلْقِصَّةِ: حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ: «تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَكُنْتُ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا» ; يُقَدَّمُ عَلَى حَدِيثِ
(3/694)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَمَأْخَذَهَا فِي «مُخْتَصَرِ التِّرْمِذِيِّ» .
قَوْلُهُ: «وَالرِّوَايَةُ» . أَيْ: وَتُقَدَّمُ الرِّوَايَةُ «الْمُتَّسِقَةُ الْمُنْتَظِمَةُ عَلَى الْمُضْطَرِبَةِ» ، لِأَنَّ اتِّسَاقَ الرِّوَايَةِ وَانْتِظَامَهَا يَدُلُّ عَلَى ضَبْطِهَا وَالْعِنَايَةِ بِهَا، وَاضْطِرَابِهَا يَدُلُّ عَلَى تَزَلْزُلِهَا وَقِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَا حَتَّى اضْطَرَبَتْ، وَالِاتِّسَاقُ: الِانْتِظَامُ. ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَانْتِظَامُ الرِّوَايَةِ: هُوَ ارْتِبَاطُ بَعْضِ أَلْفَاظِهَا بِبَعْضٍ، وَوَفَاءُ الْأَلْفَاظِ بِالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ مُخِلٍّ، وَلَا زِيَادَةٍ مُمِلَّةٍ، وَاضْطِرَابُهَا تَنَافُرُ أَلْفَاظِهَا، وَاخْتِلَافُهَا بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، كَحَدِيثِ: لَا يَبُولُنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، وَحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي الْمُخَابَرَةِ وَنَحْوِهِمَا وَسَبَبُ وُقُوعِ الِاضْطِرَابِ فِي السُّنَنِ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى فِي أَسْبَابٍ أُخَرَ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُتَأَخِّرَةِ» ، أَيْ: وَتُقَدَّمُ الرِّوَايَةُ الْمُتَأَخِّرَةِ «عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ» ، كَقَوْلِ الرَّاوِي: كَانَ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ،
(3/695)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ وَبُسْرَةَ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ عَلَى رِوَايَةِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ فِيهِ، لِأَنَّهَا مُتَقَدِّمَةٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَةَ تَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَوْلُهُ: «وَرِوَايَةُ مُتَقَدِّمِ الْإِسْلَامِ وَمُتَأَخِّرِهِ سِيَّانِ» ، أَيْ: لَا تَرْجِيحَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَتَفَاوُتِهِمَا بِتَقَدُّمِ الْإِسْلَامِ وَتَأَخُّرِهِ إِنَّمَا يُوجِبُ رُجْحَانًا فِي الْفَضِيلَةِ، لَا فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ وَقُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا، وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ التَّرْجِيحَ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: نَظَرَ إِلَى مُطْلَقِ الرُّجْحَانِ فِي الْفَضِيلَةِ، وَلِأَنَّهَا جِهَةٌ يُقَدَّمُ بِهَا فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ، فَقَدَّمَ بِهَا فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ، كَالْعِلْمِ، وَالتَّقْوَى، وَالْعَدَالَةِ.
قُلْتُ: وَالتَّوْجِيهُ الْمُؤَثِّرُ الْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ أَنَّ مُتَقَدِّمَ الْإِسْلَامِ أَثْبَتُ إِيمَانًا وَأَرْجَحُ فِي التَّقْوَى وَالْوَرَعِ لِزِيَادَةِ تَفَكُّرِهِ فِي قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَوَفُّرَ الدَّوَاعِي عَلَى الْعِنَايَةِ بِضَبْطِ الرِّوَايَةِ، وَالتَّحَرِّي فِي تَحَمُّلِهَا وَأَدَائِهَا، وَذَلِكَ مِنْ مَثَارَاتِ زِيَادَةِ الظَّنِّ.
قَوْلُهُ: «وَفِي تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ» يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «عَلَى غَيْرِهَا رِوَايَتَانِ» :
إِحْدَاهُمَا: لَا تُقَدَّمُ، لِأَنَّهُمْ وَسَائِرَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي مَنَاطِ الرِّوَايَةِ - وَهُوَ الصُّحْبَةُ - سَوَاءٌ.
(3/696)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالثَّانِيَةُ: تُقَدَّمُ لِزِيَادَةِ فَضِيلَتِهِمْ، وَتَيَقُّظِهِمْ، وَتَنَبُّهِهِمْ لِلْأَحْكَامِ، وَاحْتِيَاطِهِمْ لَهَا، وَلِمَا ذَكَرْنَا فِي تَقْدِيمِ رِوَايَةِ الْأَقْدَمِ إِسْلَامًا.
قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي تَقْدِيمِ رِوَايَتِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي إِجْمَاعِهِمْ: هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِهِ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ رَجَحَتْ» - يَعْنِي رِوَايَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «رَجَحَتْ رِوَايَةُ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ» . يَعْنِي عَلَى رِوَايَةِ أَصَاغِرِهِمْ «لِاخْتِصَاصِهِمْ بِمَزِيدِ خِبْرَةٍ بِأَحْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِمَنْزِلَتِهِمْ» مِنْهُ «وَمَكَانِهِمْ» عِنْدَهُ، وَمُلَازَمَتِهِمْ لَهُ.
قُلْتُ: وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ بِنَاءِ هَذَا عَلَى رُجْحَانِ رِوَايَةِ الْخُلَفَاءِ، بَلْ رِوَايَةُ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مُحْتَمِلَةٌ لِلْخِلَافِ مُطْلَقًا، كَرِوَايَةِ الْأَقْدَمِ إِسْلَامًا، سَوَاءٌ رَجَحَتْ رِوَايَةُ الْخُلَفَاءِ أَوْ لَا، وَالْأَشْبَهُ تَرْجِيحُ رِوَايَةِ الْأَكَابِرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَصَاغِرِ يُعْرَفُ مِنْ كُتُبِ الطَّبَقَاتِ، وَقَدْ قَسَّمَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّحَابَةَ إِلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ طَبَقَةً.
(3/697)
________________________________________
وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَبْنَاهُ تَفَاوُتُ دَلَالَاتِ الْعِبَارَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، فَيُرَجَّحُ الْأَدَلُّ مِنْهَا فَالْأَدَلُّ، فَالنَّصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَلِلظَّاهِرِ مَرَاتِبُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ، أَوْ قَرِينَتِهِ، فَيُقَدَّمُ الْأَقْوَى مِنْهَا فَالْأَقْوَى بِحَسَبِ قُوَّةِ دِلَالَتِهِ وَضَعْفِهَا، وَالْمُخْتَلِفُ لَفْظًا فَقَطْ عَلَى مُتَّحَدِهِ، لِدِلَالَةِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ عَلَى اشْتِهَارِهِ ; وَقَدْ يُعَارَضُ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْفَاظِ ضَرْبٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ، وَالِاتِّحَادَ أَدَلُّ عَلَى الْإِتْقَانِ وَالْوَرَعِ، وَذُو الزِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِهِ، لِإِمْكَانِهِمَا بِذُهُولِ رَاوِي النَّاقِصِ ; أَوْ نِسْيَانِهِ، كَمَا سَبَقَ. وَالْمُثْبِتُ عَلَى النَّافِي إِلَّا أَنْ يَسْتَنِدَ النَّفْيُ إِلَى عِلْمٍ بِالْعَدَمِ، لَا عَدَمَ الْعِلْمِ فَيَسْتَوِيَانِ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى حَظْرٍ، أَوْ وَعِيدٍ، عَلَى غَيْرِهِ اِحْتِيَاطًا عِنْدَ الْقَاضِي.
وَالنَّاقِلُ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِهِ، وَفِيهِمَا خِلَافٌ، وَلَا يُرَجَّحُ مَسْقِطُ الْحَدِّ وَمُوجِبُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى غَيْرِهِمَا، إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي صِدْقِ الرَّاوِي، وَقِيلَ: بَلَى ; لِمُوَافَقَتِهِمَا الْأَصْلَ ; وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فِعْلِهِ، إِذِ الْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: " وَأَمَّا الثَّانِي " - يَعْنِي التَّرْجِيحُ اللَّفْظِيُّ مِنْ جِهَةِ الْمَتْنِ - " فَمَبْنَاهُ "، أَيْ: هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى " تَفَاوُتِ دَلَالَاتِ الْعِبَارَاتِ فِي أَنْفُسِهَا، فَيُرَجَّحُ الْأَدَلُّ مِنْهَا فَالْأَدَلُّ "، أَيْ: إِنَّ الْعِبَارَاتِ تَتَفَاوَتُ فِي الدِّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَالْبَيَانِ وَالْإِجْمَالِ، وَالْإِيضَاحِ وَالْإِشْكَالِ، فَمَا كَانَ مِنْهَا أَقْوَى دِلَالَةً، قُدِّمَ عَلَى غَيْرِهِ. وَهَذِهِ قَاعِدَةُ هَذَا الْقِسْمِ، " فَالنَّصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ "، لِأَنَّ النَّصَّ أَدَلُّ، لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ غَيْرَ الْمُرَادِ، وَالظَّاهِرَ مُحْتَمِلٌ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا، لَكِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِدَلِيلٍ، كَمَا سَبَقَ فِي تَأْوِيلِ الظَّوَاهِرِ.
قَوْلُهُ: " وَلِلظَّاهِرِ مَرَاتِبُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهِ أَوْ قَرِينَتِهِ "، أَيْ: قَدْ يَكُونُ لَفْظٌ
(3/698)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَظْهَرَ فِي الْمُرَادِ مِنْ لَفْظٍ، وَقَدْ تَقْتَرِنُ بِهِ قَرِينَةٌ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ مَعْنَوِيَّةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ تُوجِبُ لَهُ زِيَادَةَ الظُّهُورِ، فَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُ بِذَلِكَ، " فَيُقَدَّمُ الْأَقْوَى " فَالْأَقْوَى " مِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ " بِحَسَبِ قُوَّةِ دِلَالَتِهِ وَضَعْفِهَا " كَمَا تُرَجَّحُ بَعْضُ الْعُمُومَاتِ عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ قُوَّتِهَا فِي نَفْسِهَا، أَوْ بِحَسَبِ قَرَائِنِهَا، وَكَمَا تُقَدَّمُ بَعْضُ الْأَقْيِسَةِ عَلَى بَعْضٍ.
قَوْلُهُ: " وَالْمُخْتَلِفُ "، أَيْ: وَيُقَدَّمُ الْخَبَرُ الْمُخْتَلِفُ فِي اللَّفْظِ عَلَى مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَلَمْ يَخْتَلِفْ " لِدِلَالَةِ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ عَلَى اشْتِهَارِهِ. وَقَدْ يُعَارَضُ بِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَلْفَاظِ ضَرْبٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ وَالِاتِّحَادِ " - يَعْنِي اتِّحَادَ لَفْظِ الْحَدِيثِ - " أَدَلُّ عَلَى الْإِتْقَانِ وَالْوَرَعِ " يَعْنِي إِتْقَانَ الرَّاوِي وَوَرَعَهُ.
حَاصِلُ هَذَا أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ إِذَا تَعَارَضَا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا مُخْتَلِفَ الْأَلْفَاظِ، وَالْآخَرُ مُتَّحِدَ اللَّفْظِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِهَةُ رُجْحَانٍ، فَصَارَ لِذَلِكَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا مَحَلَّ اجْتِهَادٍ.
أَمَّا جِهَةُ رُجْحَانِ الْمُخْتَلِفِ، فَلِأَنَّ اخْتِلَافَ أَلْفَاظِهِ تَدُلُّ عَلَى شُهْرَتِهِ حَتَّى تَلَعَّبَتْ بِهِ أَلْسِنَةُ الرُّوَاةِ بِاللَّفْظِ تَارَةً، وَبِالْمَعْنَى تَارَةً، فَاخْتَلَفَتْ أَلْفَاظُهُ لِذَلِكَ.
وَأَمَّا جِهَةُ رُجْحَانِ الْمُتَّحِدِ اللَّفْظِ، فَلِأَنَّ اتِّحَادَ لَفْظِهِ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِحِفْظِهِ وَضَبْطِهِ، وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى إِتْقَانِ رَاوِيهِ وَوَرَعِهِ حَتَّى اجْتَهَدَ فِي ضَبْطِهِ، فَلَمْ يَدَعْ لِلِاخْتِلَافِ عَلَيْهِ مَدْخَلًا، وَاخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ ضَرْبٌ مِنَ الِاضْطِرَابِ.
قُلْتُ: وَقَدْ يَتَوَسَّطُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، فَيُقَالُ: إِنْ كَانَ اخْتِلَافُ الْأَلْفَاظِ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِهِ الْمَعْنَى وَلَوْ أَدْنَى اخْتِلَافٍ، أَوْ تَغَيَّرِ انْتِظَامُ الرِّوَايَةِ وَاتِّسَاقُهَا ; قُدِّمَ الْمُتَّحِدُ لَفْظًا، وَإِلَّا فَالْمُخْتَلِفُ، أَوْ يَتَعَارَضَانِ
(3/699)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: " وَالْمُخْتَلِفُ لَفْظًا فَقَطْ ": احْتِرَازٌ مِنَ الْمُخْتَلِفِ مَعْنًى، فَإِنَّهُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَّحِدُ مَعْنًى قَوْلًا وَاحِدًا، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَعْنَى اضْطِرَابٌ، وَالْمُضْطَرِبُ لَا يُعَارِضُ الْمُسْتَقِيمَ، وَهَذَا هُوَ وَالْمُتَوَسِّطُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: " وَذُو الزِّيَادَةِ ". أَيْ: وَيُقَدَّمُ ذُو الزِّيَادَةِ " عَلَى غَيْرِهِ "، أَيْ: عَلَى مَا لَا زِيَادَةَ فِيهِ " لِإِمْكَانِهِمَا "، أَيْ: لِإِمْكَانِ رِوَايَةِ الزَّائِدِ وَالنَّاقِصِ مِنْ رِوَايَتَيْنِ بِأَنْ يَذْهَلَ " رَاوِي النَّاقِصِ " عَنِ الزِّيَادَةِ، أَوْ يَنْسَاهَا، فَيَرْوِيهَا غَيْرُهُ " كَمَا سَبَقَ " فِي قَبُولِ الزِّيَادَةِ مِنَ الثِّقَةِ.
قَوْلُهُ: " وَالْمُثْبِتُ "، أَيْ: وَيُقَدَّمُ الْخَبَرُ الْمُثْبِتُ " عَلَى النَّافِي "، يَعْنِي الدَّالَّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عَلَى الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِهِ، كَإِثْبَاتِ بِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَلَاةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْكَعْبَةِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَفْيِهَا، لِأَنَّ عِنْدَ الْمُثْبِتِ زِيَادَةُ عِلْمٍ مُمْكِنَةٍ وَهُوَ عَدْلٌ جَازِمٌ بِهَا.
قَوْلُهُ: " إِلَّا أَنْ يَسْتَنِدَ النَّفْيُ إِلَى عِلْمٍ بِالْعَدَمِ، لَا عَدَمِ الْعِلْمِ، فَيَسْتَوِيَانِ ".
(3/700)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْنِي أَنَّ نَفْيَ النَّافِي إِنِ اسْتَنَدَ إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالْبَيْتِ، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا، لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ، وَكَانَ إِثْبَاتُ الْمُثْبِتِ لِلصَّلَاةِ، وَقَتْلُ فُلَانٍ مُقَدَّمًا لِمَا سَبَقَ. وَإِنِ اسْتَنَدَ نَفْيُ النَّافِي إِلَى عِلْمٍ بِالْعَدَمِ، كَقَوْلِ الرَّاوِي: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ بِالْبَيْتِ، لِأَنِّي كُنْتُ مَعَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْ نَظَرِي طَرْفَةَ عَيْنٍ فِيهِ، وَلَمْ أَرَهُ صَلَّى فِيهِ، أَوْ قَالَ أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ، أَوْ قَالَ: اعْلَمْ أَنْ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْ زَيْدًا، لِأَنِّي رَأَيْتُ زَيْدًا حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ، أَوْ بَعْدَ الزَّمَنِ الَّذِي أَخْبَرَ الْجَارِحُ أَنَّهُ قَتَلَهُ فِيهِ. فَهَذَا يُقْبَلُ، لِاسْتِنَادِهِ إِلَى مُدْرَكٍ عِلْمِيٍّ، وَيَسْتَوِي هُوَ وَإِثْبَاتُ الْمُثْبِتِ، فَيَتَعَارَضَانِ، وَيُطْلَبُ الْمُرَجِّحُ مِنْ خَارِجٍ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ مِثْلُ هَذَا. وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهَادَةٍ نَافِيَةٍ اسْتَنَدَتْ إِلَى عِلْمٍ بِالنَّفْيِ، لَا إِلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهَا تُعَارِضُ الْمُثْبِتَةَ، لِأَنَّهَا تُسَاوِيهَا، إِذْ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مُثْبِتَتَانِ، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا تُثْبِتُ الْمَشْهُودَ بِهِ، وَالْأُخْرَى تُثْبِتُ الْعِلْمَ بِعَدَمِهِ.
قَوْلُهُ: " وَمَا اشْتَمَلَ عَلَى حَظْرٍ، أَوْ وَعِيدٍ عَلَى غَيْرِهِ احْتِياطًا عِنْدَ الْقَاضِي ".
أَيْ: وَيُرَجَّحُ مَا تَضَمَّنَ تَحْرِيمًا، أَوْ وَعِيدًا عَلَى مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ذَلِكَ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَقِيلَ: لَا يُرَجَّحُ بِذَلِكَ.
قُلْتُ: الْوَعِيدُ وَالْحَظْرُ مُتَلَازِمَانِ، إِذْ كُلُّ مَحْظُورٍ مُتَوَعَّدٌ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ، لِأَنَّ الْوَعِيدَ مِنْ آثَارِ الْحَظْرِ، وَالْحَظْرَ مِنْ أَحْكَامِ الْوَعِيدِ، فَحَصَلَ التَّلَازُمُ بَيْنَهُمَا لِذَلِكَ.
وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي هَذَا أَنَّ وَعْدَ الشَّرْعِ وَوَعِيدَهُ مُتَكَافِئَانِ فِي الْغَالِبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْأَنْعَامِ: 165] ،
(3/701)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فُصِّلَتْ: 43] ، {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمَائِدَةِ: 98] ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ وُزِنَ خَوْفُ الْمُؤْمِنِ وَرَجَاؤُهُ لَاعْتَدَلَا وَهُوَ كَثِيرٌ. فَإِذَا تَعَارَضَ الْحَاظِرُ وَالْمُبِيحُ، أَوْ مَا تَضَمَّنَ وَعِيدًا أَوْ غَيْرَهُ، احْتَمَلَ الْخِلَافُ لِمَا ذَكَرْنَا. وَهُوَ أَيْضًا يُشْبِهُ مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا تَعَارَضَتْ فُتْيَا الْمُجْتَهِدِينَ عِنْدَ الْمُقَلِّدِ هَلْ يَأْخُذُ بِالْأَخَفِّ، أَوْ بِالْأَثْقَلِ نَظَرًا إِلَى الدَّلِيلِ الْمُتَعَارِضِ هُنَاكَ، أَوْ إِلَى الِاحْتِيَاطِ تَارَةً، وَإِلَى عُمُومِ التَّخْفِيفِ فِي الشَّرِيعَةِ أُخْرَى.
قَوْلُهُ: " وَالنَّاقِلُ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِهِ "، أَيْ: وَيُرَجَّحُ النَّصُّ أَوِ الدَّلِيلُ النَّاقِلُ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَى الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ. " وَفِيهِمَا خِلَافٌ ": هَلْ يُقَدَّمُ النَّاقِلُ، أَوِ الْمُقَرَّرُ؟
مِثَالُهُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَطْعُومَاتِ الْحِلُّ، فَلَوْ وَرَدَ بِإِبَاحَةِ الثَّعْلَبِ حَدِيثٌ ; وَحَدِيثٌ بِتَحْرِيمِهِ ; فَهَلْ يُرَجَّحُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ لِمُوَافَقَتِهِ أَصْلَ الْحِلِّ وَاعْتِضَادِهِ بِهِ، فَهُمَا دَلِيلَانِ، فَيُرَجَّحَانِ عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ دَلِيلُ الْحَظْرِ، أَوْ يُرَجَّحُ الْحَاظِرُ، لِأَنَّهُ نَاقِلٌ عَنْ أَصْلِ الْحِلِّ، فَهُوَ مُفِيدٌ فَائِدَةَ زِيَادَةٍ، وَهِيَ التَّحْرِيمُ؟ فِيهِ هَذَا الْخِلَافُ. وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي الضَّبُعِ أَنَّهَا صَيْدٌ تَجِبُ فِيهِ الْفِدْيَةُ فِي الْإِحْرَامِ، وَهُوَ يُفِيدُ إِبَاحَتَهَا، وَثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَهِيَ ذَاتُ نَابٍ، وَهُوَ يُفِيدُ تَحْرِيمَهَا، فَالْأَوَّلُ مُقَرِّرٌ لِإِبَاحَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ، وَالثَّانِي نَاقِلٌ عَنْ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ وَالْأَشْبَهُ تَقْدِيمُ الْمُقَرَّرِ لِاعْتِضَادِهِ بِدَلِيلِ الْأَصْلِ.
(3/702)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَعَلَى هَذَا تَنْبَنِي بَيِّنَةُ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ، وَهُوَ مَا إِذَا ادَّعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ، فَالدَّاخِلُ مَنْ فِي يَدِهِ الْعَيْنُ، وَالْخَارِجُ مَنْ لَيْسَتْ فِي يَدِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الدَّاخِلِ، لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ اعْتَضَدَتْ بِيَدِهِ عَلَى الْعَيْنِ فَهُمَا دَلِيلَانِ، وَالْخَارِجُ إِنَّمَا مَعَهُ الْبَيِّنَةُ فَقَطْ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ تَقْدِيمُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ، لِأَنَّهَا نَاقِلَةٌ عَنْ دَلَالَةِ الْيَدِ الَّتِي هِيَ كَالْأَصْلِ، وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ لِأَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْأَشْبَهُ بِقَوَاعِدِهِ وَقَوَاعِدِ غَيْرِهِ فِي اعْتِبَارِ التَّرْجِيحِ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ، وَالْيَدُ صَالِحَةٌ لِلتَّرْجِيحِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا بِأَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ، أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا.
قَوْلُهُ: " وَلَا يُرَجَّحُ مُسْقِطُ الْحَدِّ وَمُوجِبُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى غَيْرِهِمَا ". أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يُسْقِطُ حَدًّا، وَالْآخَرُ يُوجِبُهُ ; أَوْ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ، وَالْآخَرُ يَمْنَعُهَا ; لَمْ يُرَجَّحْ مُسْقِطُ الْحَدِّ وَمُوجِبُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى مُقَابِلِهَا، " إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي صِدْقِ الرَّاوِي ".
" وَقِيلَ ": بَلْ يُرَجَّحُ مُسْقِطُ الْحَدِّ وَمُوجِبُ الْحُرِّيَّةِ " لِمُوَافَقَتِهِمَا الْأَصْلَ "، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِّ، وَالْأَصْلُ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ.
قُلْتُ: فَهُوَ مِنْ بَابِ تَعَارُضِ النَّاقِلِ وَالْمُقَرِّرِ.
قُلْتُ: وَقَوْلُنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: " لَا تَأْثِيرَ لِذَلِكَ فِي صِدْقِ الرَّاوِي " وَهْمٌ تَابَعْتُ
(3/703)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِيهِ الْأَصْلَ وَلَمْ أَتَأَمَّلْهُ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي التَّرْجِيحِ مِنْ جِهَةِ الْمَتْنِ، فَإِذَا تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْمَتْنِ بِمُوَافَقَةِ الْأَصْلِ، وَجَبَ تَقْدِيمُهَا.
قُلْتُ: وَقَدْ يُسْتَشْكَلُ هَذَا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا قَطْعَ إِلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَكَوْنُهُ قَطَعَ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ حَدِّ الْقَطْعِ عَمَّنْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ إِلَى تِسْعَةِ دَرَاهِمَ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي وُجُوبَ حَدِّ الْقَطْعِ عَلَيْهِ، فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ تَرْجِيحِهِ أَنْ يَكُونَ فِي قَطْعِ سَارِقِ رُبُعِ دِينَارٍ خِلَافٌ، بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي تَرْجِيحِهِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ فِي اسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فِي قِيمَةِ بَاقِيهِ إِذَا كَانَ الْمُعْتِقُ لِبَعْضِهِ الْآخَرِ مُعْسِرًا، فَرِوَايَةُ الِاسْتِسْعَاءِ مُوجِبَةٌ لِحُرِّيَّةِ الْبَاقِي، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَى مُقَابِلِهَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ:
أَمَّا الْأَوَّلُ، فَلِأَنَّ حَدِيثَ لَا قَطْعَ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِيهِ مَقَالٌ، فَلَا
(3/704)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُعَارِضُ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي الْقَطْعِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ. وَلَوْ صَحَّ، لَرَجَّحْنَاهُ، أَوْ خَرَّجْنَا الْخِلَافَ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ قُلْنَا بِهِ، فَإِنَّ عِنْدَنَا فِي الِاسْتِسْعَاءِ الْمُوجِبِ لِحُرِّيَّةِ بَاقِي الْعَبْدِ قَوْلَيْنِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا يُرَجِّحُهُ. وَقَدْ صَحَّ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْمَانِعُ لِلِاسْتِسْعَاءِ لَا يَمْنَعُهُ إِعْرَاضًا عَنِ التَّرْجِيحِ الْمَذْكُورِ، بَلْ قَدْ جَاءَ فِي ذِكْرِ الِاسْتِسْعَاءِ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْأَوْلَى خِلَافُهُ، وَثُبُوتُ الِاسْتِسْعَاءِ عَلَى مَا قَرَّرْتُهُ فِي " الْقَوَاعِدِ الْكُبْرَى ".
قَوْلُهُ: " وَقَوْلُهُ "، أَيْ: وَيُرَجَّحُ قَوْلُهُ " - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى فِعْلِهِ، إِذِ الْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ ".
أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فِعْلِهِ، رُجِّحَ الْقَوْلُ، لِأَنَّ لَهُ صِيغَةً دَالَّةً، بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا صِيغَةَ لَهُ تَدُلُّ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا دِلَالَةُ الْفِعْلِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَهُوَ كَوْنُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، فَكَانَ الْقَوْلُ أَقْوَى، فَيُرَجَّحُ لِذَلِكَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَوْلَ مُتَّفَقٌ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً، وَالْفِعْلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ رَاجِحٌ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَشْرِيعًا عَامًّا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَصَائِصِهِ، وَإِذَا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ، سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ.
(3/705)
________________________________________
وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَيُرَجَّحُ الْمُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ عَلَى الْمَخْصُوصِ ; وَالْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ عَلَى مَا دَخَلَهُ النَّكِيرُ، وَعَلَى قِيَاسِهِ مَا قَلَّ نَكِيرُهُ عَلَى مَا كَثُرَ، وَمَا عَضَدَهُ عُمُومُ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ قِيَاسٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ مَعْنًى عَقْلِيٍّ عَلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ عَضَدَ أَحَدَهُمَا قُرْآنٌ، وَالْآخَرَ سُنَّةٌ، قُدِّمَ الْأَوَّلُ فِي رِوَايَةٍ، لِتَنَوُّعِ الدِّلَالَةِ، وَالثَّانِي فِي أُخْرَى، إِذِ السُّنَّةُ مُقَدَّمَةٌ بِطْرِيقِ الْبَيَانِ، وَمَا وَرَدَ ابْتِدَاءً عَلَى ذِي السَّبَبِ، لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِهِ بِسَبَبِهِ. وَمَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ عَلَى غَيْرِهِ فِي رِوَايَةٍ، لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَمَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَاوِيهِ خِلَافُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَلَا يُرَجَّحُ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كَقَوْلِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ، إِذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْأَمَاكِنِ فِي زِيَادَةِ الظُّنُونِ.
وَمَا عَضَدَهُ مِنِ احْتِمَالَاتِ الْخَبَرِ بِتَفْسِيرِ الرَّاوِي، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَأَمَّا الثَّالِثُ» . يَعْنِي التَّرْجِيحَ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ، «فَيُرَجَّحُ الْمُجْرَى عَلَى عُمُومِهِ عَلَى الْمَخْصُوصِ» .
أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ عَامَّانِ أَحَدُهُمَا بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْآخَرُ قَدْ خُصَّ بِصُورَةٍ فَأَكْثَرَ ; رُجِّحَ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ عَلَى الْمَخْصُوصِ، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي بَقَائِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَحُجَّةً، أَوْ غَيْرَ حُجَّةٍ، وَالْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ لَا خِلَافَ فِي بَقَائِهِ حَقِيقَةً وَحُجَّةً، فَكَانَ رَاجِحًا.
قُلْتُ: وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ مَا كَانَ أَقَلَّ تَخْصِيصًا عَلَى الْأَكْثَرِ تَخْصِيصًا، مِثْلَ
(3/706)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنْ يُخَصَّ أَحَدُهُمَا بِصُورَةٍ، وَالْآخَرُ بِصُورَتَيْنِ، فَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ عَلَى الْعُمُومِ وَمُخَالَفَةُ الْأَصْلِ فِيهِ أَقَلُّ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُتَلَقَّى» . أَيْ: وَيُرَجَّحُ الْمُتَلَقَّى «بِالْقَبُولِ عَلَى مَا دَخَلَهُ النَّكِيرُ» ، أَيْ: إِذَا كَانَ أَحَدُ النَّصَّيْنِ قَدْ تَلَقَّاهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ إِنْكَارٌ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا لَحِقَهُ الْإِنْكَارُ مِنْ بَعْضِهِمْ، لِأَنَّ لُحُوقَ الْإِنْكَارِ شُبْهَةٌ، فَالْخَالِي مِنْهَا يَكُونُ رَاجِحًا، كَمَا فِي الْمُسْنَدِ مَعَ الْمُرْسَلِ «وَعَلَى قِيَاسِهِ» أَيْ: وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِنَا: يُقَدَّمُ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ عَلَى مَا دَخَلَهُ النَّكِيرُ أَنْ يُقَدَّمَ «مَا قَلَّ نَكِيرُهُ عَلَى مَا كَثُرَ» نَكِيرُهُ، مِثْلَ أَنْ يَتَعَارَضَ النَّصَّانِ ; وَكِلَاهُمَا قَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، فَمَا قَلَّ مُنْكِرُهُ مِنْهُمَا مُقَدَّمٌ، مِثْلَ أَنْ يُنْكِرَ أَحَدَهُمَا اثْنَانِ وَالْآخَرَ ثَلَاثَةٌ، فَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ، كَالْأَقَلِّ تَخْصِيصًا مَعَ الْأَكْثَرِ.
قَوْلُهُ: «وَمَا عَضَدَهُ عُمُومُ كِتَابٍ، أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ قِيَاسٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ مَعْنًى عَقْلِيٍّ عَلَى غَيْرِهِ» .
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ يَتَرَجَّحُ بِاعْتِضَادِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ مِمَّا يُفِيدُهُ قُوَّةً لِاجْتِمَاعِ دَلِيلَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ دَلِيلٍ وَاحِدٍ. فَإِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ ; وَمَعَ أَحَدِهِمَا عُمُومُ كِتَابٍ، أَوْ عُمُومُ سُنَّةٍ، أَوْ عَضَدَهُ قِيَاسٌ شَرْعِيٌّ أَوْ مَعْنًى عَقْلِيٌّ يَحْصُلُ مَصْلَحَةً مَا ; كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْآخَرِ لِتَجَرُّدِهِ عَنْ مُرَجِّحٍ.
قَوْلُهُ: «فَإِنْ عَضَدَ أَحَدَهُمَا - أَيْ: أَحَدَ النَّصَّيْنِ - قُرْآنٌ وَالْآخَرَ سُنَّةٌ» ، أَيْ: تَعَارَضَ حَدِيثَانِ وَعَضَدَ أَحَدَهُمَا آيَةٌ، وَعَضَدَ الْآخَرَ حَدِيثٌ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يُقَدَّمُ مَا عَضَدَهُ الْقُرْآنُ لِتَنَوُّعِ الدِّلَالَةِ، أَيْ: لِأَنَّ الدِّلَالَةَ صَارَتْ مِنْ نَوْعَيْنِ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، بِخِلَافِ مَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، فَإِنَّ دِلَالَتَهُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحَدِيثُ.
(3/707)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يُقَدَّمُ مَا عَضَدَهُ الْحَدِيثُ، لِأَنَّ «السُّنَّةَ مُقَدَّمَةٌ» عَلَى الْكِتَابِ «بِطَرِيقِ الْبَيَانِ» ، أَيْ: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُبَيِّنَةً لَهُ بِحَقِّ الْأَصْلِ وَالْغَالِبِ، لِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النَّحْلِ: 44] .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعَارُضَ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بَيْنَ آيَتَيْنِ، أَوْ خَبَرَيْنِ، أَوْ قِيَاسَيْنِ، أَوْ آيَةٍ وَخَبَرٍ، أَوْ آيَةٍ وَقِيَاسٍ، أَوْ خَبَرٍ وَقِيَاسٍ. وَعَلَى التَّقْدِيرَاتِ السِّتَّةِ، فَالْمُرَجَّحُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ إِمَّا آيَتَانِ، أَوْ خَبَرَانِ، أَوْ قِيَاسَانِ، أَوْ آيَةٌ وَخَبَرٌ، أَوْ آيَةٌ وَقِيَاسٌ، أَوْ خَبَرٌ وَقِيَاسٌ. فَهَذِهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ تَعَارُضًا مَضْرُوبُ سِتَّةٍ فِي سِتَّةٍ، فَحَيْثُ اتَّحَدَ نَوْعُ الْعَاضِدِ وَالْمَعْضُودِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ كَآيَتَيْنِ عَضَدَتْهُمَا آيَتَانِ، أَوْ خَبَرَيْنِ عَضَدَهُمَا خَبَرَانِ، أَوْ قِيَاسَيْنِ عَضَدَهُمَا قِيَاسَانِ ; رُجِّحَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِبَعْضِ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ مِمَّا سَبَقَ أَوْ غَيْرِهِ. وَحَيْثُ اخْتَلَفَ نَوْعُهَا، كَآيَةٍ وَخَبَرٍ مَعَ خَبَرَيْنِ أَوْ آيَتَيْنِ ; فَهَلْ يُقَدَّمُ مَا تَعَدَّدَ نَوْعُ دِلَالَتِهِ أَوْ مَا عَضَدَتْهُ السُّنَّةُ؟ فِيهِ مَا ذُكِرَ. وَالْأَضْبَطُ مِنْ هَذَا أَنْ يُرَجَّحَ مَا تُخِيِّلَ فِيهِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ كَائِنًا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ، وَقَدْ تُتَخَيَّلُ زِيَادَةُ الْقُوَّةِ مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ وَاخْتِلَافِهِ.
قَوْلُهُ: «وَمَا وَرَدَ» . أَيْ: وَيُرَجَّحُ مَا وَرَدَ «ابْتِدَاءً» عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ عَلَى مَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ «لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِهِ» ، أَيْ: اخْتِصَاصِ ذِي السَّبَبِ «بِسَبَبِهِ» . وَهَذَا الِاحْتِمَالُ مَعْدُومٌ فِيمَا وَرَدَ ابْتِدَاءً، فَيَكُونُ رَاجِحًا، وَلِأَنَّ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ، كَالْمُرْسَلِ مَعَ الْمُسْنَدِ، وَالْمَخْصُوصِ عَلَى غَيْرِ الْمَخْصُوصِ.
قَوْلُهُ: «وَمَا عَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ عَلَى غَيْرِهِ فِي رِوَايَةٍ» ، أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ، وَقَدْ عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، فَهَلْ يَكُونُ عَمَلُهُمْ بِهِ
(3/708)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُرَجِّحًا لَهُ عَلَى النَّصِّ الْآخَرِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَعَمْ، «لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِمْ» حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا النَّصَّ الْآخَرَ إِلَّا لِحُجَّةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَكُونُ مَا عَمِلُوا بِهِ رَاجِحًا عَلَى غَيْرِهِ، لِجَوَازِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ. وَحِينَئِذٍ لَا يَدُلُّ تَرْكُهُمْ لَهُ عَلَى مَرْجُوحِيَّتِهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
فَائِدَةٌ: إِذَا وَجَدْنَا فُتْيَا صَحَابِيٍّ مَشْهُورٍ بِالْعِلْمِ وَالْفِقْهِ عَلَى خِلَافِ نَصٍّ، لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَجْزِمَ بِخَطَئِهِ الْخَطَأَ الِاجْتِهَادِيَّ، لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ الصَّحَابِيِّ عَلَى نَصٍّ أَوْ دَلِيلٍ رَاجِحٍ أَفْتَى بِهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَقْرَبُ إِلَى مَعْرِفَةِ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ مِنَّا لِمُعَاصَرَتِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَمْ مِنْ نَصٍّ نَبَوِيٍّ كَانَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثُمَّ دُثِرَ، فَلَمْ يَبْلُغْنَا، وَذَلِكَ كَفُتْيَا عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَدُّ بِأَطْوَلِ الْأَجَلَيْنِ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي نَقَمَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى عَلِيٍّ فِيهَا لِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ، وَخَطَئِهِ بِذَلِكَ.
(3/709)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَمَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَاوِيهِ خِلَافُهُ عَلَى غَيْرِهِ» ، أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ خَبَرَانِ، أَحَدُهُمَا قَدْ نُقِلَ عَنْ رَاوِيهِ خِلَافُهُ قُولًا أَوْ فِعْلًا، وَالْآخَرُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَاوِيهِ خِلَافُهُ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا، قُدِّمِ الثَّانِي، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الرَّاوِي مَا رَوَاهُ يُؤْثِرُ شُبْهَةً، فَالْخَالِي مِنْهُ يَكُونُ رَاجِحًا، كَمَا سَبَقَ فِيمَا لَحِقَهُ النَّكِيرُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ.
قَوْلُهُ: «وَلَا يُرَجَّحُ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» . أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِأَحَدِهِمَا، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لَهُ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: يُرَجَّحُ بِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يُرَجَّحُ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ:
حُجَّةُ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَمَاكِنَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي زِيَادَةِ الظُّنُونِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمَا فِي عَدَمِ التَّرْجِيحِ بِهِ.
حُجَّةُ الثَّانِي: أَنَّ إِطْبَاقَ الْجَمِّ الْغَفِيرِ عَلَى الْعَمَلِ عَلَى وَفْقِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ يُفِيدُهُ تَقْوِيَةٌ وَزِيَادَةُ ظَنٍّ، فَيُرَجَّحُ بِهِ، كَمُوَافَقَةِ خَبَرٍ آخَرَ، وَلِأَنَّ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْبَلَدِ الْمَذْكُورِينَ قَدِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ إِجْمَاعًا، فَإِنْ كَانَ إِجْمَاعًا، فَهُوَ مُرَجَّحٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، فَأَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَجَّحًا، كَالظَّاهِرِ وَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ.
قُلْتُ: هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.
وَقَوْلُهُمْ: «لَا تَأْثِيرَ لِلْأَمَاكِنِ فِي زِيَادَةِ الظُّنُونِ» .
قُلْنَا: نَحْنُ لَا نُرَجِّحُ بِالْأَمَاكِنِ، بَلْ بِأَقْوَالِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِهَا، وَهُوَ مُفِيدٌ لِزِيَادَةِ الظَّنِّ بِلَا شَكٍّ.
(3/710)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَمَا عَضَدَهُ مِنِ احْتِمَالَاتِ الْخَبَرِ بِتَفْسِيرِ الرَّاوِي، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ» .
أَيْ: إِذَا كَانَ الْخَبَرُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، وَتَتَّجِهُ لَهُ مَحَامِلُ، فَفَسَّرَهُ الرَّاوِي عَلَى بَعْضِهَا ; كَانَ مَا فَسَّرَهُ الرَّاوِي عَلَيْهِ مُقَدَّمًا عَلَى بَاقِيهَا. وَكَذَلِكَ إِذَا تَرَجَّحَ بَعْضُ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يَتَرَجَّحْ بِذَلِكَ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الصَّحَابِيَّ لِسَمَاعِهِ الْخَبَرَ مِنَ الْمُخْبِرِ، وَمُشَاهَدَتِهِ قَرَائِنَ الْمَقَالِ وَالْحَالِ، أَعْلَمُ بِمَعْنَى مَا رَوَى، فَيَكُونُ مَا فَسَّرَ بِهِ الْخَبَرَ مُتَعَيِّنًا، كَتَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ التَّفَرُّقَ فِي حَدِيثِ: الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ بِفِعْلِهِ، وَتَفْسِيرِهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ بِالتَّضْيِيقِ فِي الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا، حَيْثُ كَانَ يُصْبِحُ يَوْمَ الثَّلَاثِينَ إِذَا غُمَّ الْهِلَالُ صَائِمًا.
(3/711)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ بَعْضَ احْتِمَالَاتِ الْخَبَرِ إِذَا عُضِدَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، كَانَ كَاعْتِضَادِهِ بِخَبَرٍ آخَرَ بِجَامِعِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الصُّورَتَيْنِ.
(3/712)
________________________________________
وَالْقِيَاسِيُّ: إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ أَوِ الْعِلَّةِ، أَوِ الْقَرِينَةِ الْعَاضِدَةِ:
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَحُكُمُ الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ، رَاجِحٌ عَلَى الثَّابِتِ بِالنَّصِّ لِعِصْمَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالثَّابِتِ بِالْقُرْآنِ، أَوْ تَوَاتُرِ السُّنَّةِ، عَلَى الثَّابِتِ بِآحَادِهَا.
وَبِمُطْلَقِ النَّصِّ، عَلَى الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ، وَالْمَقِيسِ عَلَى أُصُولٍ أَكْثَرَ عَلَى غَيْرِهِ، لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ، كَالشَّهَادَةِ، خِلَافًا لِلْجُوَيْنِيِّ، وَالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَمْ يُخَصَّ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَخْصُوصِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَالْقِيَاسِيُّ» ، أَيْ: وَالتَّرْجِيحُ الْقِيَاسِيُّ، يَعْنِي الْوَاقِعَ فِي الْأَقْيِسَةِ، لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنِ التَّرْجِيحَ ضَرْبَانِ: لَفْظِيٌّ، أَيْ: وَاقِعٌ فِي الْأَلْفَاظِ. وَقَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَقِيَاسِيٌّ، أَيْ: وَاقِعٌ فِي الْقِيَاسِ، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِيهِ. وَهُوَ «إِمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ، أَوِ الْعِلَّةِ، أَوِ الْقَرِينَةِ الْعَاضِدَةِ» ، أَيْ: التَّرْجِيحُ الْعَاضِدُ لِلْقِيَاسِ إِمَّا مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ، أَوْ عِلَّتِهِ، أَوْ قَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ تَعْضِدُهُ، فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْآخَرِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: يَعْنِي تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ أَصْلِهِ، فَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ «حُكْمَ الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ رَاجِحٌ عَلَى الثَّابِتِ بِالنَّصِّ لِعِصْمَةِ الْإِجْمَاعِ» ، أَيْ: إِذَا أَمْكَنَ قِيَاسُ الْفَرْعِ عَلَى أَصْلَيْنِ ; حُكْمُ أَحَدِهِمَا ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالْآخَرُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ; كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّصِّ، فَكَذَا مَا
(3/713)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثَبَتَ بِهِ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ، لِعِصْمَةِ الْإِجْمَاعِ مِنَ الْخَطَأِ وَالنَّسْخِ بِخِلَافِ النَّصِّ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: حُكْمُ الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَوْ تَوَاتُرِ السُّنَّةِ، رَاجِحٌ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ الثَّابِتِ بِآحَادِ السُّنَّةِ، أَيْ: بِالسُّنَّةِ الْمَرْوِيَّةِ بِطَرِيقِ الْآحَادِ، كَمَا يُقَدَّمُ الْقُرْآنُ، وَمُتَوَاتِرُ السُّنَّةِ عَلَى آحَادِهَا.
وَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْقُرْآنِ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الثَّابِتِ بِتَوَاتُرِ السُّنَّةِ، كَمَا لَا يُقَدَّمُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تَوَاتُرِ السُّنَّةِ، لِاسْتِوَائِهِمَا كَمَا سَبَقَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: حُكْمُ الْأَصْلِ الثَّابِتِ «بِمُطْلَقِ النَّصِّ» رَاجِحٌ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ «الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ» ، كَمَا يُقَدَّمُ مُطْلَقُ النَّصِّ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْمُرَادُ بِمُطْلَقِ النَّصِّ أَنَّهُ سَوَاءٌ كَانَ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا، صَحِيحًا أَوْ حَسَنًا مِمَّا سَاغَ الْعَمَلَ بِهِ شَرْعًا.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْحُكْمُ «الْمَقِيسُ عَلَى أُصُولٍ أَكْثَرَ» رَاجِحٌ «عَلَى غَيْرِهِ» ، أَيْ: إِذَا تَعَدَّدَتِ الْأُصُولُ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْقِيَاسِ الْآخَرِ إِلَّا أَصْلٌ وَاحِدٌ، مِثْلُ: إِنْ أَمْكَنَ قِيَاسُ الْفَرْعِ بِجَامِعٍ عَلَى أُصُولٍ كَثِيرَةٍ ; وَأَمْكَنَ قِيَاسُهُ بِجَامِعٍ آخَرَ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ أَوْ أُصُولٍ أَقَلَّ مِنْ أُصُولِ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ ; قُدِّمَ الْقِيَاسُ عَلَى الْأُصُولِ الْكَثِيرَةِ لِأَنَّ كَثْرَتَهَا شَوَاهِدُ لِلْفَرْعِ بِالصِّحَّةِ، وَمَا كَثُرَتْ شَوَاهِدُهُ كَانَ الظَّنُّ بِصِحَّتِهِ أَغْلَبَ، كَمَا يُرَجَّحُ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ، كَالشَّهَادَةِ» . يَعْنِي عَلَى قَوْلِ مَنْ يُرَجِّحُ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ، «خِلَافًا لِلْجُوَيْنِيِّ» حَيْثُ حُكِيَ عَنْهُ، أَنَّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ لَا يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ.
(3/714)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: «الْقِيَاسُ عَلَى» أَصْلٍ «لَمْ يُخَصَّ» رَاجِحٌ عَلَى أَصْلٍ مَخْصُوصٍ، كَمَا يُرَجَّحُ الْعَامُّ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ عَلَى الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: حُكْمُ أَصْلِ الْقِيَاسِ حُكْمُ مُسْتَنَدِهِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ، فَمَا قُدِّمَ مِنَ الْمُسْتَنَدَاتِ، قُدِّمَ مَا ثَبَتَ بِهِ مِنْ أُصُولِ الْأَقْيِسَةِ.
(3/715)
________________________________________
وَأَمَّا الثَّانِي: فَتُقَدَّمُ الْعِلَّةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا عَلَى غَيْرِهَا، وَالْمَنْصُوصَةُ، عَلَى الْمُسْتَنْبَطَةِ، وَالثَّابِتَةُ عِلِّيَّتُهَا تَوَاتُرًا عَلَى الثَّابِتَةِ عِلِّيَّتُهَا آحَادًا، وَالْمُنَاسِبَةُ عَلَى غَيْرِهَا، لِاخْتِصَاصِهَا بِزِيَادَةِ الْقَبُولِ فِي الْعُقُولِ، وَالنَّاقِلَةُ عَلَى الْمُقَرِّرَةِ، وَالْحَاظِرَةُ عَلَى الْمُبِيحَةِ، وَمُسْقِطَةُ الْحَدِّ وَمُوجِبَةُ الْعِتْقِ وَالْأَخَفُّ حُكْمًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، كَالْخَبَرِ، وَالْوَصْفِيَّةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا عَلَى الِاسْمِيَّةِ، وَالْمَرْدُودَةُ إِلَى أَصْلٍ قَاسَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ عَلَى غَيْرِهَا، كَقِيَاسِ الْحَجِّ عَلَى الدَّيْنِ، وَالْقُبْلَةِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ، وَالْمُطَّرِدَةِ عَلَى غَيْرِهَا إِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهَا، وَالْمُنْعَكِسَةِ عَلَى غَيْرِهَا إِنْ اشْتُرِطَ الْعَكْسُ، إِذِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ اخْتِصَاصِهَا بِالتَّأْثِيرِ، فَتَصِيرُ كَالْحَدِّ مَعَ الْمَحْدُودِ وَالْعَقْلِيَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
«وَأَمَّا الثَّانِي» : يَعْنِي تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ عِلَّتِهِ فَمِنْ وُجُوهٍ:
الْأَوَّلُ: تُرَجَّحُ «الْعِلَّةُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهَا عَلَى غَيْرِ» الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، أَيْ: إِذَا ظَهَرَ فِي الْأَصْلِ الْوَاحِدِ وَصْفَانِ مُنَاسِبَانِ، وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِأَحَدِهِمَا، وَاخْتُلِفَ فِي التَّعْلِيلِ بِالْآخَرِ، فَالتَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ رَاجِحٌ لِقُوَّةِ مُسْتَنَدِهَا، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَهُوَ كَمَا لَوِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلَيْنِ ; وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِهِمَا ; تَعَيَّنَ وَلَمْ يَجُزِ الْأَخْذُ بِغَيْرِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ «الْمَنْصُوصَةُ عَلَى الْمُسْتَنْبَطَةِ» أَيْ: الَّتِي تَثْبُتُ عِلَّتُهَا بِالنَّصِّ عَلَى الَّتِي ثَبَتَتْ عِلَّتُهَا بِالِاسْتِنْبَاطِ، لِأَنَّ نَصَّ الشَّارِعِ أَوْلَى مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ، لِعِصْمَةِ النَّصِّ دُونَهُ.
(3/716)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الَّتِي ثَبَتَتْ عِلَّتُهَا بِالتَّوَاتُرِ عَلَى الَّتِي ثَبَتَتْ عِلَّتُهَا بِالْآحَادِ لِقُوَّةِ التَّوَاتُرِ كَمَا فِي الْأَخْبَارِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الْمُنَاسِبَةُ عَلَى غَيْرِ الْمُنَاسِبَةِ، وَكَذَلِكَ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مُنَاسَبَةً عَلَى غَيْرِهَا لِاخْتِصَاصِ الْمُنَاسِبَةِ «بِزِيَادَةِ الْقَبُولِ فِي الْعَقْلِ» ، أَيْ: لِأَنَّ الْعُقُولَ أَسْرَعُ انْقِيَادًا، وَأَشَدُّ قَبُولًا لِلْعِلَّةِ الْمُنَاسِبَةِ، وَالَّتِي هِيَ أَكْثَرُ مُنَاسَبَةً.
قُلْتُ: وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَنْصُوصَتَيْنِ أَوِ الْمُسْتَنْبَطَتَيْنِ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا مَنْصُوصَةً، فَهِيَ الرَّاجِحَةُ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُنَاسِبَةً، أَوْ أَشَدَّ مُنَاسَبَةٍ أَوْ لَا، لِعِصْمَةِ النَّصِّ، كَمَا لَوِ اجْتَمَعَ نَصٌّ وَقِيَاسٌ، كَانَ النَّصُّ مُقَدَّمًا.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ «النَّاقِلَةُ» عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ «عَلَى» الْعِلَّةِ «الْمُقَرَّرَةِ» عَلَيْهِ، كَمَا سَبَقَ فِي الْخَبَرِ النَّاقِلِ مَعَ الْمُقَرِّرِ.
الْوَجْهُ السَّادِسُ: تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ «الْحَاظِرَةُ عَلَى الْمُبِيحَةِ» ، أَيْ: الَّتِي تُوجِبُ الْحَظْرَ عَلَى الَّتِي تُوجِبُ الْإِبَاحَةَ.
الْوَجْهُ السَّابِعُ: تُرَجَّحُ «مُسْقِطَةُ الْحَدِّ» عَلَى مُوجِبَتِهِ، «وَمُوجِبَةُ الْعِتْقِ» عَلَى نَافِيَتِهِ، وَالَّتِي هِيَ أَخَفُّ حُكْمًا عَلَى الَّتِي أَثْقَلُ حُكْمًا، «عَلَى خِلَافٍ» فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، كَمَا سَبَقَ فِي نَظِيرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّ الْعِلَلَ مُسْتَفَادَةٌ مِنَ النُّصُوصِ فَتَتْبَعُهَا فِي الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمَنْصُوصَتَيْنِ وَالْمُسْتَنْبَطَتَيْنِ، أَمَّا فِي الْمَنْصُوصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ، فَالْمَنْصُوصَةُ وَاجِبَةُ التَّقْدِيمِ بِكُلِّ حَالٍ، لِمَا سَبَقَ فِي الْمُنَاسَبَةِ مَعَ غَيْرِهَا.
(3/717)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: تُقَدَّمُ الْعِلَّةُ: «الْوَصْفِيَّةُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا عَلَى الِاسْمِيَّةِ» ، أَيْ: الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ وَصْفٌ، تُرَجَّحُ عَلَى الَّتِي هِيَ اسْمٌ، لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَوْصَافِ مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْأَسْمَاءِ، كَمَا سَبَقَ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ فَائِدَةً، كَتَعْلِيلِ الرِّبَا فِي الْبُرِّ بِكَوْنِهِ مَكِيلًا أَوْ مَطْعُومًا يُقَدَّمُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِكَوْنِهِ بُرًّا، وَفِي الذَّهَبِ بِكَوْنِهِ مَوْزُونًا يُقَدَّمُ عَلَى التَّعْلِيلِ بِكَوْنِهِ ذَهَبًا، وَرُبَّمَا نَزَعَ هَذَا إِلَى تَعَدِّي الْعِلَّةِ وَقُصُورِهَا.
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: الْعِلَّةُ «الْمَرْدُودَةُ إِلَى أَصْلٍ قَاسَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ» رَاجِحَةٌ «عَلَى غَيْرِهَا» ، كَقِيَاسِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَجَّ عَلَى دِينِ الْآدَمِيِّ فِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ، «وَالْقُبْلَةِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ» فِي حَدِيثِ عُمَرَ.
فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْحَجُّ عَلَى الْمَغْصُوبِ لَا يُجْزِئُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَالْقُبْلَةِ تُفْطِرُ الصَّائِمَ، لِأَنَّهَا نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْوَطْءِ ; لَقُلْنَا: الْقِيَاسُ عَلَى مَا قَاسَ عَلَيْهِ الشَّارِعُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِالْأَحْكَامِ وَمَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا، وَيَصِيرُ الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِقِيَاسِ الشَّارِعِ، كَالْقِيَاسِ الْمُعَارِضِ لِنَصِّهِ، بَلْ هُوَ مُعَارِضٌ لِنَصِّهِ حَقِيقَةً، لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ، ثُمَّ أَوْضَحَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ وَاضِحٍ، لِأَنَّهُ قَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ: حُجِّي عَنْ أَبِيكِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: لَا تُفْطِرُ بِالْقُبْلَةِ كَمَا لَا تُفْطِرُ إِذَا تَمَضْمَضْتَ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: الْعِلَّةُ «الْمُطَّرِدَةُ» تُرَجَّحُ «عَلَى» غَيْرِ الْمُطَّرِدَةِ «إِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهَا» ، يَعْنِي بِصِحَّةِ غَيْرِ الْمُطَّرِدَةِ.
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ غَيْرَ الْمُطَّرِدَةِ وَهِيَ الْمُنْتَقِضَةُ بِصُورَةٍ فَأَكْثَرَ إِنْ لَمْ نَقُلْ بِصِحَّتِهَا لَمْ تُعَارِضِ الْمُطَّرِدَةَ حَتَّى تَحْتَاجَ إِلَى التَّرْجِيحِ، وَتَكُونُ كَالْخَبَرِ الضَّعِيفِ
(3/718)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعَ الصَّحِيحِ، وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهَا، فَاجْتَمَعَتْ هِيَ وَالْمُطَّرِدَةُ، فَالْمُطَّرِدَةُ رَاجِحَةٌ، لِأَنَّ ظَنَّ الْعِلِّيَّةُ فِيهَا أَغْلَبُ، وَلِأَنَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَالْمُنْتَقَضَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَهْمًا كَالْعَامَّيْنِ إِذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ كَانَ الْبَاقِي عَلَى عُمُومِهِ رَاجِحًا.
الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ: الْعِلَّةُ «الْمُنْعَكِسَةُ» رَاجِحَةٌ عَلَى غَيْرِ الْمُنْعَكِسَةِ «إِنِ اشْتُرِطَ الْعَكْسُ» ، يَعْنِي فِي الْعِلَلِ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ اطِّرَادَ الْعِلَّةِ هُوَ وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا حَيْثُ وُجِدْتُ، وَانْعِكَاسُهَا هُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَائِهَا، وَسَبَقَ أَيْضًا أَنَّ انْعِكَاسَ الْعِلَّةِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطِ الْعَكْسُ لَمْ تُرَجَّحِ الْمُنْعَكِسَةُ عَلَى غَيْرِ الْمُنْعَكِسَةِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِكَ بَيْنَهُمَا فِي شَرْطِ الصِّحَّةِ هُوَ الِاطِّرَادُ وَهُوَ مَوْجُودٌ، وَالِانْعِكَاسُ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ، فَوُجُودُهُ كَالْعَدَمِ، وَهُوَ كَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ مَعَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَإِنِ اشْتَرَطْنَا انْعِكَاسَ الْعِلَّةِ رَجَحَتِ الْمُنْعَكِسَةُ عَلَى غَيْرِهَا، لِأَنَّ «انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهَا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ اخْتِصَاصِهَا بِالتَّأْثِيرِ، فَتَصِيرُ كَالْحَدِّ مَعَ الْمَحْدُودِ» يُقَدَّمُ الْمُنْعَكِسُ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَالْعِلَّةِ «الْعَقْلِيَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ» ، كَالتَّسْوِيدِ مَعَ الِاسْوِدَادِ، فَكَانَتِ الْمُشَبَّهَةُ لَهَا مِنَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى، وَصَارَ انْعِكَاسُهَا عَلَى هَذَا كَإِخْوَةِ الْأُمِّ مَعَ إِخْوَةِ الْأَبِ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ، يُرَجَّحُ بِهَا دِلَالَتُهُ عَلَى أَخَصِيَّةِ الْقَرَابَةِ.
(3/719)
________________________________________
الْمُتَعَدِّيَةُ وَالْقَاصِرَةُ إِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهَا، سِيَّانَ حُكْمًا، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا.
وَقِيلَ: تُقَدَّمُ الْقَاصِرَةُ لِمُطَابَقَتِهَا النَّصَّ فِي مَوْرِدِهَا، وَأَمْنِ صَاحِبِهَا مِنَ الْخَطَأِ.
وَقِيلَ: الْمُتَعَدِّيَةُ، لِكَثْرَةِ فَوَائِدِهَا، فَعَلَى هَذَا تُرَجَّحُ الْأَكْثَرُ فُرُوعًا عَلَى الْأَقَلِّ، وَمِنْهُ تَرْجِيحُ ذَاتِ الْوَصْفِ لِكَثْرَةِ فُرُوعِهَا عَلَى ذَاتِ الْوَصْفَيْنِ.
وَرُدَّ بِأَنَّ ذَاتَ الْوَصْفَيْنِ قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ فُرُوعًا، وَلَا مَدْخَلَ لِلْكَلَامِ فِي الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ فِي تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهُ إِمْكَانُ الْقِيَاسِ بِتَقْدِيرِ تَقْدِيمِ الْمُتَعَدِّيَةِ كَالْوَزْنِ فِي النَّقْدَيْنِ، وَعَدَمِهِ بِتَقْدِيرِ تَقْدِيمِ الْقَاصِرَةِ كَالثَّمَنِيَّةِ فِيهِمَا، إِذِ الْقَاصِرُ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّهُ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ، وَيُقَدَّمُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ وَالْيَقِينِيُّ عَلَى الْوَصْفِ الْحِسِّيِّ، وَالْإِثْبَاتِيِّ عِنْدَ قَوْمٍ.
وَقِيلَ: الْحَقُّ التَّسْوِيَةُ، إِذْ بَعْدَ قِيَامِ دَلِيلِ الْعِلِّيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ الظَّنُّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُؤَثِّرُ عَلَى الْمُلَائِمِ، وَالْمُلَائِمُ عَلَى الْغَرِيبِ، وَالْمُنَاسِبُ عَلَى الشَّبَهِيِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ: قَالَ: «الْمُتَعَدِّيَةُ وَالْقَاصِرَةُ إِنْ قِيلَ بِصِحَّتِهَا سِيَّانِ حُكْمًا» ، إِلَى آخِرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ قَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهَا هَلْ هِيَ عِلَّةٌ صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَتْ صَحِيحَةً لَمْ تُعَارِضِ الْمُتَعَدِّيَةَ، فَلَا تَرْجِيحَ كَغَيْرِ الْمُطَّرِدَةِ مَعَ الْمُطَّرِدَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: هِيَ صَحِيحَةٌ، فَاجْتَمَعَتْ مَعَ الْمُتَعَدِّيَةِ فَفِيهِ أَقْوَالٌ:
(3/720)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَحَدُهَا: أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ لَا رُجْحَانَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى «لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا» كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْضِعِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْقَاصِرَةَ أَرْجَحُ، فَتُقَدَّمُ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُطَابِقَةٌ لِلنَّصِّ فِي مَوْرِدِهَا، أَيْ: لَمْ يُجَاوِزْ تَأْثِيرُهَا مَوْضِعَ النَّصِّ، بِخِلَافِ الْمُتَعَدِّيَةِ، فَإِنَّهَا لَمْ تُطَابِقِ النَّصَّ، بَلْ زَادَتْ عَلَيْهِ، وَمَا طَابَقَ النَّصَّ كَانَ أَوْلَى.
الْوَجْهُ الثَّانِي: «أَمْنُ صَاحِبِهَا» - أَيِ الْمُعَلَّلُ بِهَا - «مِنَ الْخَطَأِ» ، لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْلِيلِ بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ كَالْمُتَعَدِّيَةِ، فَرُبَّمَا أَخْطَأَ بِالْوُقُوعِ فِي بَعْضِ مَثَارَاتِ الْغَلَطِ فِي الْقِيَاسِ، وَمَا أُمِنَ فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ أَوْلَى مِمَّا كَانَ عُرْضَةً لَهُ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ «الْمُتَعَدِّيَةَ» أَرْجَحُ، فَتُقَدَّمُ «لِكَثْرَةِ فَوَائِدِهَا» ، كَالتَّعْلِيلِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْوَزْنِ، فَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ إِلَى كُلِّ مَوْزُونٍ، كَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالصُّفْرِ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالثَّمَنِيَّةِ أَوِ النَّقْدِيَّةِ، فَلَا تَتَعَدَّاهُمَا، فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ مُتَعَدٍّ لِمَحِلِّ النَّقْدَيْنِ إِلَى غَيْرِهِمَا أَكْثَرَ فَائِدَةً مِنَ الثَّمَنِيَّةِ الْقَاصِرَةِ عَلَيْهِمَا لَا تُجَاوِزُهُمَا. «فَعَلَى هَذَا» - أَيْ: فَعَلَى الْقَوْلِ بِتَرْجِيحِ الْمُتَعَدِّيَةِ - تُرَجَّحُ الْعِلَّةُ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ فُرُوعًا عَلَى الَّتِي هِيَ أَقَلُّ فُرُوعًا.
مِثَالُهُ: لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْمَكِيلَاتِ أَكْثَرُ ; عَلَّلْنَا فِي الْبُرِّ بِالْكَيْلِ، لِأَنَّ عِلَّةَ الْكَيْلِ حِينَئِذٍ تَكُونُ أَكْثَرَ فُرُوعًا. وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْمَطْعُومَاتِ أَكْثَرُ ; عَلَّلْنَا فِيهِ
(3/721)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالطَّعْمِ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَكْثَرَ فُرُوعًا. وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْأَقَلُّ فُرُوعًا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَكْثَرِ فُرُوعًا كَالْقَاصِرَةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمُتَعَدِّيَةِ، وَيَخْرُجُ فِيهِمَا بِالتَّفْرِيعِ الْعَامِّ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ.
قَوْلُهُ: «وَمِنْهُ» - أَيْ: وَمِنَ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْفُرُوعِ - «تَرْجِيحُ» الْعِلَّةِ «ذَاتِ الْوَصْفِ» الْوَاحِدِ «عَلَى ذَاتِ الْوَصْفَيْنِ» فَصَاعِدًا، لِأَنَّ ذَاتَ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ فُرُوعًا، لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى وَصْفٍ وَاحِدٍ، وَمَا تَوَقَّفَ عَلَى وَصْفٍ وَاحِدٍ، كَانَ أَكْثَرَ فُرُوعًا مِمَّا تَوَقَّفَ عَلَى وَصْفَيْنِ فَأَكْثَرَ، وَصَارَ هَذَا كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شُرُوطٍ. وَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَثْبُتُ بِشَاهِدٍ أَقْرَبُ وُقُوعًا مِمَّا تَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ، وَمَا يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ أَقْرَبُ وُقُوعًا مِمَّا يَثْبُتُ بِأَرْبَعَةٍ، فَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْأَقَلِّ أَكْثَرُ، وَعَلَى الْأَكْثَرِ أَقَلُّ، وَلِهَذَا كَانَ الزِّيَادَةُ فِي الْحَدِّ نَقْصًا فِي الْمَحْدُودِ، وَالنَّقْصُ فِي الْحَدِّ زِيَادَةً فِي الْمَحْدُودِ، فَالْحَيَوَانُ الْمَشَّاءُ أَكْثَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَالْحَيَوَانُ الْكَاتِبُ بِالْفِعْلِ أَقَلُّ مِنَ الْإِنْسَانِ.
قَوْلُهُ: «وَرُدَّ» ، أَيْ: وَرُدَّ تَرْجِيحُ ذَاتِ الْوَصْفِ «بِأَنَّ ذَاتَ الْوَصْفَيْنِ قَدْ تَكُونُ أَكْثَرَ فُرُوعًا» .
قُلْتُ: وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِحَسَبِ كَثْرَةِ مَوَارِدِ فُرُوعِ ذَاتِ الْوَصْفَيْنِ، وَقِلَّةِ مَوَارِدِ فُرُوعِ ذَاتِ الْوَصْفِ عَلَى سَبِيلِ الِاتِّفَاقِ. مِثْلَ أَنْ نُعَلِّلَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ بِالْكَيْلِ وَحْدَهُ، وَيُعَلِّلُ غَيْرُنَا بِالْكَيْلِ مَعَ الطَّعْمِ، وَيَتَّفِقُ أَنَّ الْمَكِيلَاتِ الْمَطْعُومَةَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَكِيلَاتِ غَيْرِ الْمَطْعُومَةِ. فَحِينَئِذٍ تَكُونُ فُرُوعُ ذَاتِ الْوَصْفَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ فُرُوعِ ذَاتِ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَمَتَى فَرَضْنَا اتِّفَاقَ مَوَارِدِ فُرُوعِهِمَا فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، كَانَتْ فُرُوعُ ذَاتِ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ أَكْثَرَ بِالضَّرُورَةِ لِمَا حَقَّقْنَاهُ.
(3/722)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِثْلَ: إِنْ فَرْضَنَا أَصْنَافَ الْمَكِيلِ مَعَ الْمُجَرَّدِ عِشْرِينَ، وَأَصْنَافَ الْمَكِيلِ مَعَ الْمَطْعُومِ عِشْرِينَ أَيْضًا، فَإِنَّ عِلَّةَ الْكَيْلِ تَجْرِي فِي الْأَرْبَعِينَ صِنْفًا، وَعِلَّةَ الْكَيْلِ مَعَ الطُّعْمِ لَا تَجْرِي إِلَّا فِي أَصْنَافِهَا الْعِشْرِينَ الَّتِي وُجِدَتْ فِيهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَوْلُهُ: «وَلَا مَدْخَلَ لِلْكَلَامِ فِي الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ فِي تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهُ إِمْكَانُ الْقِيَاسِ بِتَقْدِيرِ تَقْدِيمِ الْمُتَعَدِّيَةِ، كَالْوَزْنِ فِي النَّقْدَيْنِ وَعَدَمِهِ بِتَقْدِيرِ تَقْدِيمِ الْقَاصِرَةِ، كَالثَّمَنِيَّةِ فِيهِمَا، إِذِ الْقَاصِرُ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّهُ لِيُقَاسَ عَلَيْهِ» .
قُلْتُ: مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَرْجِيحِ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ عَلَى الْقَاصِرَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ، أَيْ: لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَرْجِيحُ قِيَاسِ إِحْدَى هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، لِأَنَّ الْقَاصِرَةَ لَا تَتَعَدَّى مَحَلَّهَا لِيُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ الْكَلَامِ فِي تَرْجِيحِ الْقَاصِرَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ إِمْكَانُ الْقِيَاسِ إِنْ قَدَّمْنَا الْمُتَعَدِّيَةَ، وَعَدَمُ إِمْكَانِهِ إِنْ قَدَّمْنَا الْقَاصِرَةَ.
مِثَالُهُ: أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ فِي النَّقْدَيْنِ الْوَزْنُ وَالثَّمَنِيَّةُ، فَإِنْ عَلَّلْنَا بِالْوَزْنِ أَمْكَنَ الْقِيَاسُ لِتَعَدِّي الْوَزْنِ مَحَلَّ النَّقْدِيَّةِ إِلَى الرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهِ. فَنَقُولُ: يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ بِجَامِعِ الْوَزْنِ. وَإِنْ عَلَّلْنَا بِالثَّمَنِيَّةِ أَوِ النَّقْدِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعِلَّةَ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِمَا لِيُقَاسَ عَلَيْهِمَا.
وَهَذَا الْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ جَوَابِ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ لَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا، فَالْكَلَامُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِلَّةِ
(3/723)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُتَعَدِّيَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ، إِذِ التَّرْجِيحُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ مَوْجُودَيْنِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْقَاصِرَةِ غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا مُمْكِنٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيَاسِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ؟
فَكَانَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فَائِدَةُ ذَلِكَ تَرْجِيحَ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِمَا ذَكَرْتُمْ، بَلْ فَائِدَتُهُ أَنَّا إِنْ رَجَّحْنَا الْمُتَعَدِّيَةَ، أَمْكَنَ الْقِيَاسُ، وَإِلَّا فَلَا.
قَوْلُهُ: «وَيُقَدَّمُ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ وَالْيَقِينِيُّ عَلَى الْوَصْفِ الْحِسِّيِّ وَالْإِثْبَاتِيِّ عِنْدَ قَوْمٍ، وَقِيلَ: الْحَقُّ التَّسْوِيَةُ» .
أَيْ: إِذَا تَعَارَضَ قِيَاسَانِ وَالْجَامِعُ فِي أَحَدِهِمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَفِي الْآخَرِ وَصْفٌ حِسِّيٌّ أَوِ الْجَامِعُ فِي أَحَدِهِمَا حُكْمٌ سَلْبِيٌّ، وَفِي الْآخَرِ حُكْمٌ إِثْبَاتِيٌّ، فَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصْفِ الْحِسِّيِّ، لِأَنَّ الْقِيَاسَ طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ لَا حِسِّيٌّ، فَكَانَ الِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْلَى مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْحِسِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ السَّلْبِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الثُّبُوتِيِّ، لِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِلْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. هَذَا عِنْدَ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْحَقُّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ. يَعْنِي الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ مَعَ الْوَصْفِ الْحِسِّيِّ، وَالْحُكْمَ السَّلْبِيَّ مَعَ الْإِثْبَاتِيِّ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَمَّا قَامَ عَلَى عِلِّيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، ثَبَتَتْ عِلِّيَتُهُ، وَالظَّنُّ لَا يَتَفَاوَتُ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، فَاسْتَوَيَا لِعَدَمِ مَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا، وَأَبُو الْخَطَّابِ يُرَجِّحُ الْعِلَّةَ الْحُكْمِيَّةَ، وَالْقَاضِي يُرَجِّحُ الْحِسِّيَّةَ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُؤَثِّرُ» ، أَيْ: وَيُرَجَّحُ «الْمُؤَثِّرُ عَلَى الْمُلَائِمِ، وَالْمُلَائِمِ عَلَى الْغَرِيبِ» .
(3/724)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: لِأَنَّ قُوَّتَهَا فِي أَنْفُسِهَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. وَقَدْ سَبَقَ حَقَائِقُهَا وَأَحْكَامُهَا وَصِفَاتُهَا وَمَرَاتِبُهَا فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ.
قَوْلُهُ: «وَالْمُنَاسِبُ» ، أَيْ: وَيُقَدَّمُ «الْمُنَاسِبُ عَلَى الشَّبَهِيِّ» . يَعْنِي إِذَا دَارَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسِ بَيْنَ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ وَشَبَهِيٍّ ; قُدِّمَ الْمُنَاسِبُ، لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالْمَصْلَحَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ، بِخِلَافِ الشَّبَهِيِّ فِيهِمَا.
(3/725)
________________________________________
وَتَفَاصِيلُ التَّرْجِيحِ كَثِيرَةٌ، فَالضَّابِطُ فِيهِ: أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَمْرٌ نَقْلِيٌّ، أَوِ اصْطِلَاحِيٌّ، عَامٌّ أَوْ خَاصٌّ، أَوْ قَرِينَةٌ عَقْلِيَّةٌ، أَوْ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ، وَأَفَادَ ذَلِكَ زِيَادَةَ ظَنٍّ، رَجَحَ بِهِ.
وَقَدْ حَصَلَ بِهَذَا بَيَانُ الرُّجْحَانِ مِنْ جِهَةِ الْقَرَائِنِ ; وَوَجْهُ الرُّجْحَانِ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ ظَاهِرٌ، فَلِهَذَا أَهْمَلْنَا ذِكْرَهُ اخْتِصَارًا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُهُ: «وَتَفَاصِيلُ التَّرْجِيحِ كَثِيرَةٌ» .
اعْلَمْ أَنَّ التَّرْجِيحَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» هِيَ أَكْثَرُ مِنْ تَرْجِيحَاتِ «الرَّوْضَةِ» نَقَلْتُهَا مِنْ «الْحَاصِلِ» وَ «جَدَلِ ابْنِ الْمَنِّيِّ» ، وَغَيْرِهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ، فَثَمَّ تَرَاجِيحُ كَثِيرَةٌ لَمْ نَذْكُرْهَا ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِيِّينَ، وَذَلِكَ، لِأَنَّ مَثَارَاتِ الظُّنُونِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الرُّجْحَانُ وَالتَّرَاجِيحُ كَثِيرَةٌ جِدًا، فَحَصْرُهَا يَبْعُدُ.
وَحَيْثُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ; «فَالضَّابِطُ» ، وَالْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ فِي التَّرْجِيحِ: «أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ» يَعْنِي الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ «أَمْرٌ نَقْلِيٌّ» ، كَآيَةٍ، أَوْ خَبَرٍ، «أَوِ اصْطِلَاحِيٌّ» كَعُرْفٍ، أَوْ عَادَةٍ ; عَامًّا كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ أَوْ خَاصًّا، «أَوْ قَرِينَةٌ عَقْلِيَّةٌ، أَوْ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ، وَأَفَادَ ذَلِكَ زِيَادَةَ ظَنٍّ ; رَجَحَ بِهِ» لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ رُجْحَانَ الدَّلِيلِ هُوَ الزِّيَادَةُ فِي قُوَّتِهِ، وَظَنُّ إِفَادَتِهِ الْمَدْلُولَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَدَارِكُهُ.
قَوْلُهُ: «وَقَدْ حَصَلَ بِهَذَا بَيَانُ الرُّجْحَانِ مِنْ جِهَةِ الْقَرَائِنِ» . هَذَا اعْتِذَارٌ عَنْ تَرْكِ التَّصْرِيحِ بِالْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَقْسَامِ التَّرْجِيحِ الْقِيَاسِيِّ، وَهُوَ التَّرْجِيحُ بِالْقَرَائِنِ، لِأَنَّا كُنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ الْقِيَاسِيَّ: إِمَّا مِنْ جِهَةِ أَصْلِ الْقِيَاسِ، أَوْ عِلَّتِهِ، أَوْ قَرِينَةٍ عَاضِدَةٍ لَهُ، وَذَكَرْنَا الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنَ، وَهْمًا التَّرْجِيحُ مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ وَالْعِلَّةِ، وَبَقِيَ التَّرْجِيحُ مِنْ جِهَةِ الْقَرِينَةِ لَمْ يُصَرَّحْ بِذِكْرِهِ تَفْصِيلًا
(3/726)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَالْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ، لَكِنَّا أَدْرَجْنَاهُ إِجْمَالًا فِي الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلتَّرْجِيحِ بِقَوْلِنَا: «أَوْ قَرِينَةٌ عَقْلِيَّةٌ، أَوْ لَفْظِيَّةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ» .
قَوْلُهُ: «وَوَجْهُ الرُّجْحَانِ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ ظَاهِرٌ، فَلِهَذَا أَهْمَلْنَا ذِكْرَهُ اخْتِصَارًا» .
يَعْنِي أَنَّ التَّرْجِيحَاتِ الْمَذْكُورَةَ فِي «الْمُخْتَصَرِ» وَقَعَ أَكْثَرُهَا غَيْرَ مُوَجَّهٍ، أَيْ: لَمْ يُذْكَرْ وَجْهُ التَّرْجِيحِ فِيهِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ، إِذِ الْعَادَةُ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ ذِكْرُ الْأَحْكَامِ وَتَرْكُ التَّوْجِيهَاتِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ اخْتِصَارًا.
الثَّانِي: أَنَّ وَجْهَ تِلْكَ التَّرْجِيحَاتِ بَيِّنٌ، فَلَمْ نَرَ الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ تَوْجِيهُكُمْ لِذَلِكَ فِي الشَّرْحِ بِتَبْيِينِ الْبَيِّنِ، وَإِيضَاحِ الْوَاضِحِ، وَذَلِكَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ.
قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، لِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ أَنَّ الْبَيَانَ لَهُ مَرَاتِبُ، بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ. فَرُتْبَةُ بَيَانِ التَّرْجِيحَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الشَّرْحِ أَعْلَى مِنْ رُتْبَةِ بَيَانِهَا عَلَى الْمُخْتَصَرِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ الْبَسْطِ فِي الشُّرُوحَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِصَارِ الْمَشْرُوحَاتِ.
وَقَدْ نَجَزَ الْكَلَامُ فِي «الْمُخْتَصَرِ» ، فَلْنَسْرِدِ الْآنَ وُجُوهًا مِنَ التَّرْجِيحَاتِ ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ تَكْمِلَةً لِمَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» . وَرُبَّمَا وَقَعَ تَكْرَارٌ بَيْنَ مَا
(3/727)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَذْكُرُهُ وَمَا فِي «الْمُخْتَصَرِ» فَلْيُغْتَفَرْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَرِيٌّ عَنِ الْأَمْثِلَةِ، فَمِنَ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى الرَّاوِي: أَنْ يَكُونَ أَذْكَرَ لِلرِّوَايَةِ، أَوْ قَدْ عَمِلَ بِمَا رَوَى، أَوْ يَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَرْوِيِّ عَنْهُ حَالَ سَمَاعِهِ، أَوْ يَكُونَ أَعْلَمَ بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ أَفْطَنَ، أَوْ أَذْكَى، أَوْ أَشْهَرَ فِي النَّسَبِ لَا لَبْسَ فِي اسْمِهِ، أَوْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ عَنْ حِفْظٍ لَا عَنْ كِتَابٍ، وَيُحْتَمَلُ تَرْجِيحُ الْكِتَابِ هَهُنَا، لِأَنَّهُ أَوْثَقُ وَأَضْبَطُ.
وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ كِتَابٍ مَعَ حِفْظِهِ لِمَا يَرْوِيهِ، وَأَوْصَى بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ، كَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَنَحْوِهِ. أَوْ يَكُونُ تَحَمُّلِهِ لِلرِّوَايَةِ فِي حَالِ بُلُوغِهِ، بِخِلَافِ مَنْ تَحَمَّلَ الرِّوَايَةَ صَغِيرًا، وَتُقَدَّمُ رِوَايَةُ مَنْ لَمْ يَخْتَلِطْ عَقْلُهُ فِي وَقْتٍ عَلَى غَيْرِهِ.
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ تَقْدِيمَ رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ نَازِعٌ إِلَى مَسْأَلَةِ إِجْمَاعِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ.
وَمِنْ التَّرْجِيحِ الْعَائِدِ إِلَى تَزْكِيَةِ الرَّاوِي: أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي لِأَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ أَكْثَرَ، أَوْ يَكُونَ تَزْكِيَتُهُ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ، وَتَزْكِيَةُ الْآخَرِ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، أَوِ الْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ، أَوِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَمِنْ الْعَائِدِ إِلَى نَفْسِ الرِّوَايَةِ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مِنْ مَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ، وَالْآخَرُ مِنْ مَرَاسِيلِ مَنْ دُونَهُمْ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُصَرَّحًا فِيهِ بِلَفْظِ: «حَدَّثَنَا» ، أَوْ «سَمِعْتُ فُلَانًا يَقُولُ» ، وَالْآخَرُ مُعَنْعَنًا، لِوُقُوعِ التَّدْلِيسِ فِي الْعَنْعَنَةِ كَمَا سَبَقَ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعَنْعَنًا وَالْآخَرُ مُعَلَّقًا، أَوْ مُكْتَفًى فِيهِ بِالشُّهْرَةِ، فَالْمُعَنْعَنُ رَاجِحٌ، لِأَنَّهُ وَإِنِ احْتَمَلَ الْإِرْسَالَ، فَالظَّاهِرُ الِاتِّصَالُ، وَهُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِمَّا لَا سَنَدَ لَهُ بِكُلِّ حَالٍ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْزُوًّا إِلَى كِتَابٍ مَشْهُورٍ
(3/728)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالصِّحَّةِ، وَالْآخَرُ إِلَى كِتَابٍ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَوْ يَكُونَ رَاوِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ سَمَاعًا مِنْ لَفْظِ الشَّيْخِ بِقِرَاءَتِهِ وَالْآخَرُ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ، أَوْ إِجَازَةً، أَوْ مُنَاوَلَةً مِنْهُ، أَوْ وِجَادَةً، فَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ، أَوْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَعْلَى إِسْنَادًا مِنَ الْآخَرِ، فَيَكُونُ أَرْجَحُ لِقِلَّةِ مَظَانِّ الْغَلَطِ فِيهِ، أَوْ تَكُونَ رِوَايَةُ أَحَدِهِمَا بِاللَّفْظِ، وَالْآخَرِ بِالْمَعْنَى، أَوْ أَحَدِهِمَا سَمَاعًا مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، كَرِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ، وَعَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِأَنَّهُمْ مَحَارِمُهَا، وَالْآخَرِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، كَرِوَايَةِ رِجَالٍ كَثِيرِينَ عَنْهَا، لِكَوْنِهِمْ أَجَانِبَ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى فِيهِمَا.
وَمِنْ الْعَائِدِ إِلَى الْمَرْوِيِّ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مَسْمُوعًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْآخَرُ عَنْ كِتَابٍ، أَوْ إِقْرَارٍ مِنْهُ، أَوْ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ قَوْلٌ، وَالْآخَرُ فِعْلٌ، أَوْ أَحَدُهُمَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَالْآخَرُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ. فَالْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ فِي الْكُلِّ لِقُوَّةِ السَّمَاعِ وَالْقَوْلِ عَلَى غَيْرِهِمَا، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى: هَلْ يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَمْ لَا؟ ، وَيُقَدَّمُ مَا لَمْ يُنْكِرْهُ رَاوِي الْأَصْلِ عَلَى مَا أَنْكَرَهُ، وَمَا أَنْكَرَهُ إِنْكَارَ نِسْيَانٍ عَلَى مَا أَنْكَرَهُ إِنْكَارَ تَكْذِيبٍ.
وَمِنْ الْعَائِدِ إِلَى الْمَتْنِ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَمْرًا وَالْآخَرُ نَهْيًا، فَالنَّهْيُ رَاجِحٌ، لِأَنَّ مَحَامِلَهُ أَقَلُّ، إِذْ هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ، وَالْأَمْرُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَيُقَدَّمُ الْحَاظِرُ عَلَى الْمُبِيحِ لِذَلِكَ، وَيُقَدَّمُ مَا مَدْلُولُهُ مُبَيَّنٌ عَلَى مَا مَدْلُولُهُ مُجْمَلٌ بِاشْتِرَاكٍ أَوْ
(3/729)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَيْرِهِ، وَمَا مَدْلُولُهُ حَقِيقِيٌّ عَلَى مَا مَدْلُولُهُ مَجَازِيٌّ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَالْأَشْهُرُ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْ إِضْمَارٍ أَوْ حَذْفٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَا دَلَّ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ جَمِيعًا عَلَى مَا دَلَّ بِأَحَدِهِمَا، وَمَا دَلَّ مِنْ وَجْهَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى مَا دَلَّ مِمَّا دَوْنَ ذَلِكَ، وَمَا لَهُ مَجَازٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا لَهُ مَجَازَاتٌ، وَمَا لَزِمَهُ إِضْمَارٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا لَزِمَهُ إِضْمَارَاتٌ، وَمَا أُكِّدَتْ دِلَالَاتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَدِلَالَةُ الْمَنْطُوقِ عَلَى الْمَفْهُومِ، وَمَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَمَا دَلَّ عَلَى عِلَّةِ حُكْمِهِ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا، وَمَا سِيقَ لِبَيَانِ الْحُكْمِ عَلَى مَا لَمْ يُسَقْ لَهُ، بَلِ اسْتُفِيدَ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهِ، لِجَوَازِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يُرِيدُ مَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَمَا فَصَّلَ الْقِصَّةَ، وَاسْتَوْفَى حِكَايَتَهَا عَلَى مَا أَجْمَلَهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا، لِأَنَّ التَّفْصِيلَ وَالِاسْتِيفَاءَ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ إِحَاطَةٍ بِهَا، وَمَا لَا يُشْعِرُ بِنَقْصِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى غَيْرِهِ، كَحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ الْمُتَضَمِّنِ الْإِخْبَارَ بِضَحِكِ الصَّحَابَةِ فِي صَلَاتِهِمْ مِنْ وُقُوعِ الضَّرِيرِ فِي الْبِئْرِ. وَالْإِنْصَافُ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ مِنَ التَّرْجِيحِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ مَعَ كَمَالِهِمْ قَدْ وَقَعَ مِنْ بَعْضِهِمُ الزِّنَى وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى ضَعْفِهِ مُحِيلٌ لِلرُّجْحَانِ. وَمَا تَضَمَّنَ ذِكْرَ سَبَبِ الْحُكْمِ عَلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ الْأَسْبَابَ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ، وَلِهَذَا رَجَعْنَا فِي الْأَيْمَانِ إِلَى أَسْبَابِهَا وَمَا هَيَّجَهَا، وَالْأَفْصَحُ لَفْظًا عَلَى غَيْرِهِ.
وَمِنْ تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ مِمَّا يَعُودُ إِلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ
(3/730)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقِيَاسَيْنِ وَاجِبَ التَّعْلِيلِ، أَوْ مُتَّفَقًا عَلَى تَعْلِيلِهِ، أَوْ هُوَ غَيْرُ مَعْدُولٍ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، فَيُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ. وَمِمَّا يَعُودُ إِلَى عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ: أَنْ يَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ وَصْفًا حَقِيقِيًّا وَالْأُخْرَى حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَيُقَدَّمُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا قَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ. وَيُقَدَّمُ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ عَلَى الْعَدَمِيُّ، وَقَدْ سَبَقَ الْخِلَافُ فِيهِ أَيْضًا، وَمَا لَا تَرْجِعُ عَلَى أَصْلِهَا بِالْإِبْطَالِ عَلَى غَيْرِهَا، كَمَا يَقُولُ الْحَنَفِيُّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ الْمَعْقُولُ مِنْ هَذَا إِيجَابُ مَالِيَّةِ الشَّاةِ لِإِغْنَاءِ الْفُقَرَاءِ، فَتُجْزِئُ قِيمَتُهَا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَالِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ النَّصِّ الْمَذْكُورِ، عَادَتْ عَلَيْهِ بِالْإِبْطَالِ، فَتُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْعِلَّةُ الْأُخْرَى، وَهِيَ قَصْدُ الشَّارِعِ التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ فِي جِنْسِ الْمَالِ، لِأَنَّهَا تُقَرِّرُ أَصْلَهَا وَلَا تُبْطِلُهُ.
قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ بَابِ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ، وَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ. وَأَحْسَبُ أَنَّ خُصُومَهُمْ تَمَحَّلُوا لِهَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّرْجِيحِ حَتَّى يُبْطِلُوا بِهِ تَأْوِيلَهُمْ. وَمَذْهَبُهُمْ فِي دَفْعِ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ قَوِيٌّ جِدًا.
وَيُقَدَّمُ الْمُنَاسِبُ الضَّرُورِيُّ عَلَى غَيْرِهِ، وَالْحَاجِيُّ عَلَى التَّحْسِينِيِّ، وَقِيَاسُ الْعِلَّةِ عَلَى قِيَاسِ الدِّلَالَةِ، وَالدِّلَالَةِ عَلَى الشَّبَهِ، وَمَا عِلَّتُهُ وَاحِدَةٌ عَلَى ذِي الْعِلَّتَيْنِ لِلْخِلَافِ فِيهِ كَمَا سَبَقَ، وَالْعِلَّةِ الْعَامَّةِ الْمُصْلِحَةِ عَلَى الْخَاصِّ مِنْهَا.
وَمِمَّا يَعُودُ إِلَى الْفَرْعِ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ مُشَارِكًا لِأَصْلِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَعَيْنُ الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْآخَرَ، أَوْ يَكُونَ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرُ مِنْ
(3/731)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وُجُودِهَا فِي الْآخَرِ، أَوْ يَكُونَ النَّصُّ قَدْ دَلَّ عَلَى حُكْمِ أَحَدِهِمَا إِجْمَالًا لَا تَفْصِيلًا، بِخِلَافِ الْآخَرِ. هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ الْمُكَمِّلَةِ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: ذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنَ التَّرْجِيحَاتِ بِأَمْثِلَتِهَا أَوْ بَعْضِهَا، ذَكَرَهَا بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَحْسَبُهُ الْجَصَّاصَ صَاحِبَ «الْفُصُولِ» وَفِيهِ أَبْوَابٌ:
أَحَدُهَا: فِي تَرْجِيحِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ: إِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ، فَهُمَا إِمَّا عَامَّانِ، أَوْ خَاصَّانِ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالْآخَرُ خَاصٌّ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ كَانَا عَامَّيْنِ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، تَعَيَّنَ احْتِرَازًا مِنْ تَعْطِيلِهِمَا، أَوْ تَعْطِيلِ أَحَدِهِمَا.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: خَيْرُ الشُّهَدَاءِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ مَعَ ذَمِّهِ لِمَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ
(3/732)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صَاحِبُ الْحَقِّ أَنَّ لَهُ شَاهِدًا حِفْظًا لَحِقِّ الْمُسْلِمَ. وَالثَّانِي: عَلَى مَا إِذَا عَلِمَ فَإِنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ حِينَئِذٍ تَكُونُ فُضُولًا.
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، أَوْ كَانَا خَاصَّيْنِ لَا رُجْحَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، تَوَقَّفَ عَلَى الْمُرَجِّحِ الْخَارِجِيِّ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ، وَعُلِمَ التَّارِيخُ، فَالثَّانِي نَاسِخٌ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، فَهُمَا كَمُجْمَلٍ لَا بَيَانَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا، وَالْآخَرُ خَاصًّا، حُمِلَ الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ مَعَ قَوْلِهِ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ يَخُصُّ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي، وَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ: فِي الرِّقَّةِ فِي خَمْسِ أَوَاقٍ فَصَاعِدًا رُبْعُ الْعُشْرِ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامًّا مِنْ وَجْهٍ خَاصًّا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ تَرَجَّحَتْ حُجَّةُ خُصُوصِ أَحَدِهِمَا، خُصَّ بِهِ الْآخَرُ، وَإِلَّا وَقَفَ عَلَى الْمُرَجِّحِ.
وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا مَعَ قَوْلِهِ: لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ
(3/733)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، فَالْأَوَّلُ عَامٌّ فِي الْوَقْتِ خَاصٌّ فِي الصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ، وَالثَّانِي خَاصٌّ فِي الْوَقْتِ عَامٌّ فِي الصَّلَاةِ، فَخَصَّصْنَا الثَّانِي لِمَا عُرِفَ مِنْ شِدَّةِ اهْتِمَامِ الشَّرْعِ بِالْمَكْتُوبَاتِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا صَلَاةَ تَطَوُّعٍ بَعْدَ الْفَجْرِ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ خَاصَّانِ وَأَحَدُهُمَا مُتَقَدِّمٌ، رُجِّحَ الْمُتَأَخِّرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ تَرْجِيحِ الْمُتَقَدِّمِ يَتَعَطَّلُ الْمُتَأَخِّرُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَبِتَقْدِيرِ تَرْجِيحِ الْمُتَأَخِّرِ إِنَّمَا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْمُتَقَدِّمِ بِبَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنَ التَّعْطِيلِ بِالْكُلِّيَّةِ.
قُلْتُ: وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُ قَدْ عَمِلَ بِهِ فِي وَقْتٍ مَا، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ تَرْجِيحِ أَيُّهُمَا كَانَ تَعْطِيلُ الْآخَرُ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ، وَأَحَدُهُمَا يُعَرِّفُ الْحُكْمَ - مَوْضُوعٌ لِتَعْرِيفِهِ -، وَالثَّانِي يَنْفِي الْحُكْمَ بِإِضْمَارِ شَيْءٍ، أَوْ بِتَقْيِيدِ مُطَلَّقٍ، فَالْأَوَّلُ رَاجِحٌ.
قُلْتُ: حَاصِلُ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَرْجِيحِ مَا دَلَّ بِنَفْسِهِ عَلَى مَا افْتَقَرَ إِلَى إِضْمَارٍ أَوْ تَقْيِيدٍ، لَكِنَّ عِبَارَتَهُ مُنْحَرِفَةٌ عَنْ إِفَادَةِ ذَلِكَ إِفَادَةً تَامَّةً. ثُمَّ مَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ مَعَ قَوْلِهِ: لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي قَبُولُ الصَّلَاةِ بِدُونِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَالثَّانِي يَنْفِي ذَلِكَ ; إِمَّا بِإِضْمَارِ الْجَوَازِ، أَيْ: لَا صَلَاةَ جَائِزَةٌ أَوْ صَحِيحَةٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، أَوْ بِتَقْيِيدِ لَفَظِ الْعَمَلِ بِالْوَاجِبِ، أَيْ: لَا عَمَلَ وَاجِبٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ.
(3/734)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَحَيُّلَاتِ الْحَنَفِيَّةِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَبَيَانُ ضَعْفِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فَهْمَ قَبُولِ الصَّلَاةِ بِدُونِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ، هُوَ مِنْ بَابِ مَفْهُومِ الْغَايَةِ، وَالْحَنَفِيَّةِ لَا يَقُولُونَ بِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ إِنْ كُنَّا نَحْنُ نُضْمِرُ فِيهِ الْجَوَارِحَ فَهُمْ يَلْزَمُهُمْ إِضْمَارُ الْكَمَالِ بِأَنْ يُقَالَ: لَا عَمَلَ كَامِلٌ وَلَا صَلَاةَ كَامِلَةٌ، وَلَمْ يُضْمِرُوا ذَلِكَ ; لَزِمَ انْتِفَاءُ ذَاتِ الْعَمَلِ وَالصَّلَاةِ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُنَا.
وَأَمَّا تَقْيِيدُ الْعَمَلِ بِالْوَاجِبِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ الْمَطْعُونُ فِيهِ وَغَيْرُهُ ; قُدِّمَ الثَّانِي، كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ عَلَيْكَ فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ عَلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا زَكَاةَ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ،
(3/735)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ، وَالثَّانِي يَنْفِيهِ، لَكِنْ طَعَنَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: لَمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ.
قُلْتُ: أَمَّا أَصْلُ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَرْجِيحِ مَا لَا طَعْنَ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَصَحِيحٌ،أَمَّا الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ الثَّانِي لَا يَصِحُّ، لَكِنَّ الْأَوَّلَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْحُلِيِّ بِعُمُومِهِ، وَنَحْنُ نَخُصُّهُ فِي قِيَاسِ الْحُلِيِّ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى عَبِيدِ الْخِدْمَةِ، وَثِيَابِ الْبَذْلَةِ بِجَامِعِ كَوْنِهَا مُتَعَلَّقَ الْحَاجَةِ، فَلَا تَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ، وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ عُمُومُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِعْلِهِ، تَرَجَّحَ الْفِعْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْقَوْلُ عِنْدَ غَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَقَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ.
(3/736)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْتُ: وَحُجَّةُ رُجْحَانِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ أَنَّ لَهُ صِيغَةً دَالَّةً بِخِلَافِ الْفِعْلِ كَمَا سَبَقَ، وَلِلْقَوْلِ بِتَرْجِيحِ الْفِعْلِ وَجْهٌ أَيْضًا.
أَمَّا الْمِثَالُ الْمَذْكُورُ، فَإِنَّ مَا رَوَوْهُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَقَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ، لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَئِمَّةِ النَّقْلِ، وَإِنَّمَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي «مُسْنَدِهِ» وَمَنْ عَسَاهُ وَافَقَهُ، وَلَوْ صَحَّ، لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُ ضَمَّ إِلَى قَتْلِ الذِّمِّيِّ مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ مِنْ قَتْلِ مُسْلِمٍ أَوْ رِدَّةٍ أَوْ حِرَابَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَوَقَعَ قَتَلَهُ بِذَلِكَ فِي سِيَاقِ قَتْلِ الذِّمِّيِّ اتِّفَاقًا، فَظَنَّ أَنَّهُ أَقَادَهُ بِهِ. وَإِذَا احْتَمَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ، سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ، وَبَقِيَ حَدِيثُنَا نَصًّا لَا مَعَارِضَ لَهُ. وَمُنِعَ الْخِلَافُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَتْلَ الذِّمِّيِّ وَقَعَ وَاسِطَةً بَيْنَ قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ يَتَجَاذَبُهُ الطَّرَفَانِ بِالشَّبَهِ، فَخَرَجَ فِيهَا الْخِلَافُ، وَيَلْزَمُهُمْ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّ عَهْدَ الْإِسْلَامِ وَذِمَّتَهُ وَاحِدٌ فِي الْعِصْمَةِ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ الْمُحَرِّمُ وَالْمُبِيحُ، رَجَحَ الْمُحَرِّمُ، كَمَا سَبَقَ حُكْمُهُ.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النِّسَاءِ: 23] مَعَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الْمُؤْمِنُونَ: 6] ، إِذِ الْأَوَّلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْءِ مُطْلَقًا، وَالثَّانِي يَقْتَضِي إِبَاحَتَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَهَلْ يُرَجَّحُ الْمُحَرِّمُ احْتِيَاطًا، أَوِ الْمُبِيحُ أَخْذًا بِالرُّخْصَةِ
(3/737)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالتَّخْفِيفِ؟ وَلَنَا فِي تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي التَّسَرِّي قَوْلَانِ عَنْ أَحْمَدَ، أَصَحُّهُمَا الْمَنْعُ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمُبِيحَ الْخَاصَّ رَاجِحٌ عَلَى الْمُحَرِّمِ الْعَامِّ.
قُلْتُ: هَذَا صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْخَاصِّ، كَمَا سَبَقَ وَذَكَرَ.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 87] مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ، فَقَدْ طَهُرَ كَالْخَمْرِ تُخَلَّلُ فَتَحِلُّ. قَالَ: فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي حُرْمَةَ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، لِكَوْنِ التَّخْلِيلِ تَحْرِيمًا لِلْعِلَاجِ الطَّيِّبِ، وَالثَّانِي يَقْتَضِي إِحْلَالُهُ.
قُلْتُ: فِي هَذَا الْمِثَالِ خَبْطٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: كَالْخَمْرِ تُخَلَّلُ فَتَحِلُّ ; لَيْسَ ثَابِتًا فِي الْخَمْرِ. وَلَوْ ثَبَتَ ; لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْلِيلَ تَحْرِيمٌ لِلْعِلَاجِ الطَّيِّبِ، بَلْ هُمَا سَبَبَانِ عَالَجَهَا بِأَحَدِهِمَا، كَمَا يُسَخَّنُ الْمَاءُ بِالطَّاهِرَاتِ تَارَةً وَبِالنَّجَاسَاتِ أُخْرَى، وَالْمِثَالُ الْجَيِّدُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ مَعَ قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، فَالْخَبَرُ مُبِيحٌ خَاصٌّ، قُدِّمَ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي هِيَ مُحَرِّمٌ عَامٌّ عَلَى قَاعِدَةِ تَقَدُّمِ الْخَاصِّ.
وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ النَّصِّ الَّذِي لَا مُزَاحِمَ لِمَدْلُولِهِ عَلَى مَا لَهُ مُزَاحِمٌ لِمَدْلُولِهِ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى تَرْجِيحِ النَّصِّ عَلَى الظَّاهِرِ أَوِ الْمُجْمَلِ.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: طَلَاقُ الْأَمَةِ اثْنَتَانِ مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:
(3/738)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ، فَالْأَوَّلُ نَصٌّ فِي أَنَّ طَلَاقَ الْأَمَةِ تَحْتَ الْحُرِّ طَلْقَتَانِ، وَالثَّانِي مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ نَفْيِ ذَلِكَ وَعَدَمِهِ.
وَمِثَالُهُ: التَّرَدُّدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَوْلَهُ: «الطَّلَاقُ» : مُبْتَدَأٌ، «بِالرِّجَالِ» : جَارٌّ وَمَجْرُورٌ يَتَعَلَّقُ بِالْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ، فَذَلِكَ الْمَحْذُوفُ مَا هُوَ؟ إِنْ جَعَلْنَا تَقْدِيرَهُ: الطَّلَاقُ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ ; كَانَ مُنَافِيًا لِلْأَوَّلِ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الْأَمَةِ تَحْتَ الْحُرِّ ثَلَاثٌ اعْتِبَارًا بِهِ، وَإِنْ جَعَلْنَا تَقْدِيرَهُ: الطَّلَاقُ قَائِمٌ بِالرِّجَالِ، كَمَا تَقُولُ: الْكَلَامُ بِالْمُتَكَلِّمِ، وَالسَّوَادُ بِالْأَسْوَدِ، أَيْ: قَائِمٌ ; لَمْ يُنَافِ الْأَوَّلَ، لِأَنَّ قِيَامَهُ بِالرَّجُلِ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَهُ بِالْمَرْأَةِ. وَالْأَظْهَرُ هُوَ التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ قِيَامَ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ، وَاعْتِبَارَهُ بِهِمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ خَفِيٌ، فَحَمْلَ الْأَمْرِ
(3/739)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى تَعْرِيفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ أَوْلَى. وَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْمَثَّالِ إِلَى تَعَارُضِ نَصٍّ وَظَاهِرَيْنِ.
وَمِنْهَا تَقْدِيمُ مَا اسْتَقَلَّ بِتَعْرِيفِ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، عَلَى مَا احْتَاجَ فِي تَعْرِيفِهِ إِلَى وَاسِطَةٍ أَوْ أَمْرٍ زَائِدٍ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِخَوْلَةَ بِنْتِ يَسَارٍ فِي دَمِ الْحَيْضِ: إِذَا طَهُرْتِ فَاغْسِلِيهِ وَصَلِّي فِيهِ مَعَ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ: حُتِّيهِ ثُمَّ اقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ، قَالَ: فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْغَسْلِ بِالْخَلِّ، وَالثَّانِي يَنْفِيهِ لِتَخْصِيصِهِ بِالْمَاءِ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِاسْتِقْلَالِهِ بِالْحُكْمِ دُونَ زِيَادَةٍ.
قُلْتُ: أَصْلُ الْقَاعِدَةِ فِي التَّرْجِيحِ جَيِّدٌ، لَكِنْ لَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَمْثِلَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، أَوِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْغَسْلَ فِي الْأَوَّلِ مُجْمَلًا فِي آلَتِهِ، وَقَيَّدَ فِي الثَّانِي بِالْمَاءِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الْآلَةُ فِيهِ.
وَأَمَّا عَدَمُ الِاسْتِقْلَالِ، فَهُوَ أَنْ يَحْتَاجَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ إِلَى إِضْمَارٍ أَوْ تَقْدِيرٍ دُونَ الْآخَرَ، فَيُقَدَّمُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِالدِّلَالَةِ، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ، فَيَكُونُ عَدَمُ الِاسْتِقْلَالِ إِضَافِيًّا، لَكِنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنِ الْمَشْهُورِ. نَعَمْ، يَرِدُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْغَسْلِ بِالْمَاءِ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ أَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَاءِ بِالذِّكْرِ فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لِغَلَبَتِهِ، وَالْمَفْهُومِ إِذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا يَكُونُ حُجَّةً كَمَا سَبَقَ، وَنَظَائِرُهُ فِي مَوْضِعِهِ.
(3/740)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى عُمُومِهِ يُقَدَّمُ عَلَى مَا خُصَّ، وَأَنَّ الْأَقَلَّ تَخْصِيصًا رَاجِحٌ عَلَى الْأَكْثَرِ تَخْصِيصًا، وَهُمَا قَاعِدَتَانِ صَحِيحَتَانِ، لَكِنَّ ذَكَرَ لِمِثَالِ الثَّانِيَةِ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النِّسَاءِ: 3] مَعَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ قَالَ: فَالْأَوَّلُ يَقْتَضِي حِلَّ نِكَاحِ الْأُخْتِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ، وَالثَّانِي يَنْفِيهِ لِتَضَمُّنِهِ جَمْعَ الْمَاءَ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ.
قُلْتُ: صَوَابُ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: حِلُّ نِكَاحِ أُخْتِ الْمُعْتَدَّةِ، لِأَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا مُطْلَقًا بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي أُخْتِ زَوْجَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ.
وَأَمَّا الْمِثَالُ، فَلَيْسَ مُطَابِقًا لِقَاعِدَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ اجْتِمَاعِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، إِذْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النِّسَاءِ: 3] يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ جَوَازَ نِكَاحِ أُخْتِ الْمُعْتَدَّةِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَنْفِي ذَلِكَ بِخُصُوصِهِ، أَوْ بِعُمُومِهِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ مَضْمُونِ الْآيَةِ، فَكَانَ مُقَدَّمًا.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَأَثَرُ بَعْضِ مُجْتَهَدِي الصَّحَابَةِ، وَالْخَبَرُ
(3/741)
________________________________________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِمَّا لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ عَادَةً، تَرَجَّحَ الْأَثَرُ.
قُلْتُ: هَذَا قَدْ يَتَّجِهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ أَوْ فِعْلَهُ مَعَ سُكُوتِ الْبَاقِينَ عَنْهُ، يَكُونُ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًا يُتْرَكُ لَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ، لَكِنْ ذِكْرُ مِثَالِ الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلرَّجُلِ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ: عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ مَعَ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا أَنْفِي بَعْدَ هَذَا أَحَدًا أَبَدًا، وَقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً. يَعْنِي فَيُقَدَّمُ الْأَثَرُ فِي عَدَمِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْحَدِيثِ فِي إِثْبَاتِهِ، لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُخَالِفُ الْخَبَرَ إِلَّا لِدَلِيلٍ أَرْجَحَ مِنْهُ.
قُلْتُ:
وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ: أَنَّ النَّفْيَ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ ; حَدِيثِ
الْعَسِيفِ وَحَدِيثِ عُبَادَةَ: «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا» الْحَدِيثَ. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - لَيْسَ فِي
الصِّحَّةِ وَالشُّهْرَةِ كَالْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَلَوْ ثَبَتَ صِحَّتُهُمَا، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ خَفَاءُ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْهُمَا، فَقَدْ أَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ، وَخُفِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حَتَّى رَوَى لَهُمْ ذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِذَا احْتُمِلَ ذَلِكَ، لَمْ يُعَارَضْ بِهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ بِإِيجَابِ التَّغْرِيبِ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ أَثَرَانِ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ، وَأَحَدُهُمَا أَفْقَهُ مِنَ الْآخَرِ ; قُدِّمَ قَوْلُ الْأَفْقَهِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.
وَمِثَالُهُ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي عَدِّهِ نَوَاقِضَ الْوُضُوءِ: أَوْ دَسْعَةٌ تَمْلَأُ الْفَمَ، مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أَفْتَى بِعَدَمِ انْتِقَاضِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ، لِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بُقُولِ الْأَفْقَهِ أَغْلَبُ، وَاللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْبَابُ الثَّانِي: فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ مَحَامِلِ الْأَثَرِ عَلَى بَعْضٍ:
فَمِنْهَا: إِذَا
كَانَ أَحَدُ احْتِمَالَيِ التَّصَرُّفِ يُعَرِّفُ حُكْمًا يُوَافِقُ الْعَقْلَ،
وَالْآخَرَ يُعَرِّفُ حُكْمًا يُنَافِيهِ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْلَى،
كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: مَنْ مَسَّ
ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ ; يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالْوُضُوءِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْيَدَ نَدْبًا، إِزَالَةً لِنَفْرَةِ النَّفْسِ الَّتِي أَوْرَثَهَا مَسُّ الذَّكَرِ فِي الْيَدِ، فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الِاحْتِمَالُ، لِأَنَّهُ يُوَافِقُ الْعَقْلَ، وَالْأَوَّلُ يُنَافِيهِ.
قُلْتُ: الْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا بِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْلِ تَصْحِيحُ دَلِيلٍ مُسْتَقِرٍّ، فَيَتَرَجَّحُ الِاحْتِمَالُ الْمُوَافِقُ لَهُ يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ دَلِيلَيْنِ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَخْرُجُ فِي هَذَا مَا يَخْرُجُ فِي الْخَبَرِ الْمُقَرَّرِ مَعَ النَّافِي.
أَمَّا الْمِثَالُ
الَّذِي ذَكَرَهُ، فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى مَا رَجَّحَهُ فِيهِ بِأَنْ يُقَالَ:
غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَيَجِبُ حَمْلُ
كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَيْهَا لِمَا سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ. سَلَّمْنَاهُ ;
لَكِنَّ قَوْلَهُ: «فَلْيَتَوَضَّأْ» أَمْرٌ، فَظَاهَرُهُ الْوُجُوبُ، فَحَمْلُهُ
عَلَى اسْتِحْبَابِ غَسْلِ الْيَدِ خِلَافُهُ. سَلَّمْنَاهُ ; لَكِنْ لَا
نُسَلِّمُ حُصُولَ النَّفْرَةِ لِلنَّفْسِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، كَيْفَ وَأَنَّهُ
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَقُولُ فِي حَدِيثِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ: إِنْ هُوَ إِلَّا
بِضْعَةٌ - أَوْ مُضْغَةٌ - مِنْكَ. سَلَّمْنَاهُ ; لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ
غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ يُنَافِيهِ، كَيْفَ وَأَنَّ فِيهِ طَهَارَةً
مِنَ الْأَدْرَانِ الدِّينِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ. وَوُقُوفُ الْمُصَلِّي بَيْنَ
يَدَيْ رَبِّهِ كَذَلِكَ هُوَ أَكْمَلُ أَحْوَالِهِ، وَهُوَ مُنَاسِبٌ ظَاهِرٌ فِي
الْعَقْلِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُنَافِيهِ، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَا نَافَى
الْعَقْلَ، رَجَحَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَزِمَ حَمْلُ الصَّلَاةِ فِي
قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الْأَنْعَامِ: 72] عَلَى
مُسَمَّاهَا اللُّغَوِيِّ،
وَهُوَ الدُّعَاءُ، لِأَنَّهُ أَنْسَبُ فِي الْعَقْلِ مِنْ مُسَمَّاهَا الشَّرْعِيِّ، لِأَنَّهُ حَرَكَةٌ مَحْضَةٌ لَا يَلْحَقُ الشَّرْعُ مِنْهَا نَفْعٌ، وَلَا يَتَوَقَّفُ نَفْعُ الْمُكَلَّفِ عَلَيْهَا، إِذْ كَمْ مِنْ شَخْصٍ حَصَلَ لَهُ الْفَوْزُ الْأُخْرَوِيُّ بِغَيْرِ عَمَلٍ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَنَازَعَ النَّصَّ مَحْمَلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَلْزِمُ التَّخْصِيصَ، وَالْآخَرُ يَسْتَلْزِمُهُ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النِّسَاءِ: 3] ، يَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: الْمُرَادُ بِالْمُسْتَطَابِ الْحَلَالُ طَبْعًا، فَيَتَنَاوَلُ جَوَازُ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا، وَلَا تُوطَأُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: بَلِ الْمُرَادُ بِالْمُسْتَطَابِ: الْحَلَالُ، فَلَا يُنَاوِلُهَا، فَيُقَالُ: هَذَا يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْعَامِّ، وَالْمَحْمَلُ الْأَوَّلُ يُبْقِيهِ عَلَى عُمُومِهِ، فَيَكُونُ أَوْلَى.
قُلْتُ: وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إِلَى تَرْجِيحِ الْأَقَلِّ تَخْصِيصًا عَلَى الْأَكْثَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ وَهُوَ «طَابَ» ، فَعَلَى أَيِّ مَحْمَلَيْهِ حُمِلَ، كَانَ عَامًّا فِي مَدْلُولِهِ، إِنْ حُمِلَ عَلَى مَا طَابَ طَبْعًا، فَهُوَ عَامٌّ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ النِّزَاعُ بِمَعْزِلٍ عَنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ.
وَمِنْهَا: إِذَا
كَانَ أَحَدُ مَحْمَلَيِ النَّصِّ يَسْتَلْزِمُ التَّعَارُضَ، وَالْآخَرُ لَا
يَسْتَلْزِمُهُ، فَالثَّانِي أَوْلَى، وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النِّسَاءِ: 25] ; حَمَلَهُ
الشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَلَى اشْتِرَاطِ عَدَمِ الطَّوْلِ لِنِكَاحِ الْأَمَةِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى لَا عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُقْتَضِيَةَ لِجَوَازِ النِّكَاحِ مُطْلَقًا تُعَارِضُهُ، فَيَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْلَى لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ التَّعَارُضَ.
قُلْتُ: هَذَا بِنَاءٌ مِنْهُمْ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ مَمْنُوعٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَنَحْنُ لَمَّا قُلْنَا: يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، كَانَتْ آيَةُ الطَّوْلِ مُقَيِّدَةٌ لِلنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ.
وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ الْأَقَلِّ إِضْمَارًا عَلَى الْأَكْثَرِ، وَقَدْ سَبَقَ، وَمُثِّلَ بُقُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ فَإِضْمَارُ الْوُجُوبِ حَتَّى يَصِيرَ تَقْدِيرُهُ: يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ ; أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ نَفْيِهِ بِتَقْدِيرٍ: لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ.
قُلْتُ: فِي هَذَا التَّمْثِيلِ نَظَرٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَدْرَ الْحَدِيثِ: لَيْسَ الْوُضُوءُ مِنَ الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ، إِنَّمَا الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ. وَهَذَا يَمْنَعُ إِضْمَارُ نَفْيِ الْوُجُوبِ لِلتَّصْرِيحِ بِإِثْبَاتِهِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْإِضْمَارَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْكَلَامِ لَا مُنَافِيًا، وَقَوْلُهُ: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» جُمْلَةٌ إِثْبَاتِيَّةٌ، فَإِضْمَارُ نَفْيِ الْوُجُوبِ يُنَافِيهَا، وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ فِيهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْوُجُوبُ وَالِاسْتِحْبَابُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: الْوُضُوءُ وَاجِبٌ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ، أَوْ: مُسْتَحَبٌّ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ.
وَمِنْهَا:
تَقْدِيمُ أَشْهَرِ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ.
مِثَالُهُ: أَنْ يَتَمَسَّكَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ التَّزَوُّجِ عَلَى النَّوَافِلِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّوَافِلِ، وَالْمُرَادُ بِالنِّكَاحِ: الْعَقْدُ، فَقَالَ الْخَصْمُ: بَلِ الْمُرَادُ بِهِ: الْوَطْءُ، فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: لَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا لَكِنَّهُ فِي الْعَقْدِ أَشْهَرُ، فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ أَوْلَى.
قُلْتُ: النِّكَاحُ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فِي الْوَطْءِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ هُوَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، وَبِالْجُمْلَةِ فِي أَيِّهَا كَانَ حَقِيقَةً أَوْ أَشْهَرَ، صَحَّ التَّرْجِيحُ بِهِ.
وَمِنْهَا: تَرْجِيحُ مَا أَفَادَ حُكْمًا شَرْعِيًّا عَلَى مَا أَفَادَ حُكْمًا حِسِّيًّا.
مِثَالُهُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ يُحْتَمَلُ أَنِ الْمُرَادَ يَجِبُ فِي الرِّقَّةِ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، فَيُرَجَّحُ الْأَوَّلُ عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ أَنَّ الرِّقَّةَ تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ حَتَّى يَكُونَ لَهَا رُبْعُ الْعُشْرِ.
قُلْتُ: وَهَذَا يَنْزِعُ إِلَى تَعَارُضِ التَّأْسِيسِ وَالتَّأْكِيدِ، لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى وُجُوبِ رُبْعِ الْعُشْرِ أَسَّسَ لَنَا حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُهُ، وَحَمْلُهُ عَلَى اشْتِمَالِ الرِّقَّةِ عَلَيْهِ يَكُونُ تَأَكِيدًا لِمَا عَلِمْنَاهُ بِالْحِسِّ.
وَمِنْهَا: إِذَا
احْتَمَلَ النَّصُّ مَحْمَلَيْنِ ; أَحَدُهُمَا يُعَرِّفُ حُكْمًا مُخْتَلَفًا
فِيهِ،
وَالثَّانِي يُعَرِّفُ حُكْمًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ رَافِعٌ لِخِلَافٍ وَاقِعٍ، فَيَكُونُ أَكْثَرَ فَائِدَةً، وَهُوَ شَبِيهٌ بِتَقْدِيمِ التَّأْسِيسِ عَلَى التَّأْكِيدِ.
وَمِنْهَا: تَرْجِيحُ أَعَمِّ الْمَحْمَلَيْنِ عَلَى أَخَصِّهِمَا. وَمُثِّلَ بُقُولِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [الْمَائِدَةِ: 3] ، فَحَمْلُ الدَّمِ عَلَى مَا يَعُمُّ دَمَ الْجَنِينِ الْخَارِجِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا، أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُخْرِجُهُ مِنَ الْعُمُومِ، لِأَنَّ أَعَمَّ الْمَحْمَلَيْنِ أَعَمُّ فَائِدَةً.
قُلْتُ: هَذَا جِيدٌ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ خَصُّوا الْجَنِينَ الْمَذْكُورَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ بِالرَّفْعِ، وَهُوَ أَشْهَرُ فِي الرِّوَايَةِ، وَأَوْفَقُ لِرَأْيِ سِيبَوَيْهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْ رِوَايَةِ النَّصْبِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَكَاةَ الْأُمِّ مُجْزِئَةٌ عَنْ ذَكَاةِ الْجَنِينِ.
الْبَابُ الثَّالِثُ: فِي تَرْجِيحِ الْأَقْيِسَةِ عَلَى النُّصُوصِ.
فَمِنْهَا: إِذَا
تَعَارَضَ الْقِيَاسُ وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، فَالتَّرْجِيحُ مَبْنِيٌّ عَلَى
مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْعَامَّ الْمَخْصُوصَ يَبْقَى حُجَّةً وَحَقِيقَةً فِي
الْبَاقِي أَمْ لَا؟ إِنْ قُلْنَا: يَبْقَى حُجَّةً ; قُدِّمَ عَلَى الْقِيَاسِ،
وَعَلَى مَذْهَبِ عِيسَى بْنِ أَبَانٍ وَأَصْحَابِهِ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ.
مِثَالُهُ: أَنَّ قَوْلَهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [الْمَائِدَةِ: 5] عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ يَتَنَاوَلُ لَحْمَ الْخَيْلِ، فَيَكُونُ حَلَالًا، وَقِيَاسُهَا عَلَى الْبِغَالِ بِجَامِعِ الصُّورَةِ وَالْوِلَادَةِ وَالِاقْتِرَانِ بِهَا فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النَّحْلِ: 8] ; يَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا، فَأَيُّهَا يُقَدَّمُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسُ النَّافِي لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُوجِبِ لَهُ، اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا يُقَدَّمُ؟
مِثَالُهُ: إِذَا وَهَبَ الْمَالِكُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ لِسَارِقِهَا بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى الْإِمَامِ، فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْقَطْعِ، كَمَا لَوْ وَهَبَهَا لَهُ قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ، وَخَبَرُ صَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَطْعِ، لِأَنَّهُ وَهَبَ رِدَاءَهُ مِنْ سَارِقِهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ " ثُمَّ قَطَعَهُ.
قُلْتُ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقِيَاسِ لَا يَكْفِي، بَلْ مَعَ انْضِمَامِ دَلِيلَيْنِ آخَرَيْنِ إِلَيْهِ، وَهُمَا اسْتِصْحَابُ حَالِ عَدَمِ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَكَوْنُ الْحَدِّ مِمَّا يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَتَخَرَّجُ فِيهِ أَقْوَالٌ، ثَالِثُهَا الْوَقْفُ، وَأَصَحُّهَا وُجُوبُ الْحَدِّ فَرْقًا بَيْنَ مَا قَبْلَ الرَّفْعِ إِلَى الْإِمَامِ وَبَعْدَهُ بِأَنَّهُ بَعْدَ الرَّفْعِ قَدْ تَمَكَّنَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ كَالْمُحَارِبِينَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: إِذَا
تَعَارَضَ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ الَّذِي رَاوِيهِ لَيْسَ
مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ الْمَشْهُورِينَ، كَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُصَرَّاةِ
;
رَجَّحَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقِيَاسَ، وَأَحْمَدُ فِي آخَرِينَ الْخَبَرَ.
وَمَأْخَذُ الْخِلَافِ: أَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الْقِيَاسِ هَهُنَا أَغْلَبُ، أَوِ الْحَاصِلَ مِنَ الْخَبَرِ؟ وَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ، وَقَدْ سَبَقَ.
وَمِنْهَا: إِذَا تَعَارَضَ الْقِيَاسُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.
مِثَالُهُ: أَنَّ الْخَمْرَ إِذَا خُلِّلَتِ اقْتَضَى الْقِيَاسُ حَلَّهَا كَمَا لَوْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: كُلُوا مَا فَسَدَ مِنَ الْخَمْرِ وَلَا تَأْكُلُوا مَا فَسَدْتُمُوهُ يَقْتَضِي حُرْمَتَهَا.
قُلْتُ: وَجْهُ الْخِلَافِ سَبَقَ فِي الْأَخْبَارِ، وَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ، أَمَّا هَذَا الْخَبَرُ، فَلَا يَثْبُتُ، وَمَا يُرْوَى عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي عَكْسِهِ: خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ وَلَوْ صَحَّ الْخَبَرَانِ، لَكَانَ الْأَوَّلُ مُقَدَّمًا عَلَى الثَّانِي، لِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ وَعَلَى الْقِيَاسِ عِنْدَنَا لِمَا سَبَقَ.
وَقَدِ انْتَهَى مَا
تَهَيَّأَ إِلْحَاقُهُ بِالْمُخْتَصَرِ مِنَ التَّرَاجِيحِ، وَقَدْ تَضَمَّنَ
ذَلِكَ فَوَائِدَ كَثِيرَةً جَمَّةً يَلِيقُ بِالْفَاضِلِ أَنْ لَا يُهْمِلَهَا، وَكَذَلِكَ
الشَّرْحُ جَمِيعُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ يَتَضَمَّنُ فَوَائِدَ
وَمَبَاحِثَ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، تَنَبَّهْتُ عَلَيْهَا بِالْفِكْرَةِ
وَالنَّظَرِ فِي كَلَامِ الْفُضَلَاءِ، وَأَنَا ذَاكِرٌ لَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ -
عَزَّ وَجَلَّ - مَادَّةَ هَذَا الشَّرْحِ، لِتَكُونَ
عَلَى بَصِيرَةٍ مِمَّا تَجِدُ فِيهِ وَثِقَةٍ، بِحَيْثُ إِنَّ أَرَدْتَ الْوُقُوفَ عَلَى أَصْلِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَمِنْ أَيْنَ نُقِلَ، عَرَفْتَ مَادَّتَهُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ مَادَّتَهُ، وَهِيَ الْكُتُبُ الَّتِي جُمِعَ مِنْهَا هِيَ:
" الرَّوْضَةُ " لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الَّتِي هِيَ أَصْلُ " الْمُخْتَصَرِ ".
وَأَصْلُ الرَّوْضَةِ " وَهُوَ " الْمُسْتَصْفَى ".
وَ " مُنْتَهَى السُّولِ " لِلشَّيْخِ سَيْفِ الدِّينِ الْآمِدِيِّ.
وَ " التَّنْقِيحُ " وَشَرْحُهُ لِلشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ الْقَرَافِيِّ.
وَوَقَعَ فِي أَوَائِلِهِ مُرَاجَعَةٌ لِأَوَائِلِ " الْمَحْصُولِ " لِلْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ.
وَأَوَائِلُ " الْعُدَّةِ " لِلْقَاضِي أَبِي يَعْلَى.
وَفِي أَوَاخِرِهِ خُصُوصًا الْقِيَاسُ، وَالْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَيْهِ مُطَالَعَةٌ لِشَرْحِ " جَدَلِ الشَّرِيفِ الْمَرَاغِيِّ " لِلنِّيلِيِّ، وَ " لِجَدَلِ " الشَّيْخِ سَيْفِ الدِّينِ الْآمِدِيِّ، وَ " الْمُقْتَرَحُ " لِلْبَرُّوِيِّ، وَ " نِهَايَةُ الْجَدَلِ " وَ " لُبَابُ الْقِيَاسِ " لِلشَّيْخِ رَشِيدِ الدِّينِ الْحُوَارِيِّ.
وَوَقَعَ فِيهِ
فَوَائِدُ مِنْ كُتُبٍ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، لَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِنْ كُلٍّ مِنْهَا مَا
يَسْتَحِقُّ أَنْ يُذْكَرَ لِأَجْلِهِ، وَذِكْرُهَا يَطُولُ. فَمَا كَانَ فِي
هَذَا الشَّرْحِ مِمَّا يُسْتَغْرَبُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْكُتُبِ
الْمُسَمَّاةِ، فَهُوَ إِمَّا فِي الْكُتُبِ الَّتِي لَمْ تُسَمَّ، أَوْ مِمَّا
قُلْتُهُ أَنَا. وَقَدِ افْتَتَحْتُ أَكْثَرَ ذَلِكَ بِ " قُلْتُ "
تَمْيِيزًا لِلْمَقُولِ مِنَ الْمَنْقُولِ. وَقَدْ أَوْضَحْتُ ذَلِكَ كُلَّهُ
بِمَا اتَّضَحَ لِي مِنْ حُجَجِهِ مَعَ اجْتِهَادِي فِي تَحْقِيقِ مَعَانِيهِ
وَتَلْخِيصِهَا، وَإِيضَاحِ مَبَانِي أَلْفَاظِهِ وَتَخْلِيصِهَا، وَتَمْثِيلِ مَا
أَمْكَنَ ذِكْرُ مِثَالِهِ
تَسْهِيلًا
لِفَهْمِهِ عَلَى النَّاظِرِ. وَلَمْ أَعْزُ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ
شَيْئًا إِلَّا بَعْدَ تَحْقِيقِهِ بِمُشَاهَدَتِهِ فِي مَوْضِعِهِ، أَوْ سُؤَالِ
مَنْ أَثِقُ بِهِ، إِلَّا مَا قَدْ رُبَّمَا يَنْدُرُ ; مِمَّا الِاحْتِرَازُ
عَنْهُ مُتَعَذِّرٌ. وَأَنَا أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَمْزِ الْغَامِزِ، وَلَمْزِ
اللَّامِزِ، وَعَيْبِ الْعَايِبِ لِلْغَافِلِ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْمَعَايِبِ،
الظَّانِّ بِجَهْلِهِ أَوْ تَجَاهُلِهِ عِصْمَةَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا الْإِنْسَانُ لِلْوَهْمِ كَالْغَرَضِ لِلسَّهْمِ.
وَمَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِ الْفُضَلَاءِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْقُدَمَاءِ،
وَمَا وَقَعَ فِي آثَارِهِمِ الْعِلْمِيَّةِ مِنَ الْخَلَلِ وَالنَّقْصِ، وَمَا
أَبْدَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ، مَهَّدَ الْعُذْرَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ
فِي الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ فِي فَضْلِهِ كَمُلَ،
لَا جَاهِلَ يُهْمِلُ فِي تَحْصِيلِ الْفَضَائِلِ، وَيَشْرِي نَفْسَهُ لِنَقْصِ
الْأَفَاضِلِ. ثُمَّ إِنِّي أَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ يَجْعَلَ سَعْيِي
مُقَرِّبًا إِلَيْهِ، وَمُزْدَلَفًا لَدَيْهِ، وَذُخْرًا فِي الْمَعَادِ،
وَشَاهِدًا مُزَكِّيًا يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَنِي
كَالْفَتِيلَةِ تَحْرِقُ نَفْسَهَا، وَتُضِيءُ لِغَيْرِهَا، أَوْ مِنَ {الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا} بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، إِنَّهُ هُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق