الأحد، 21 يناير 2024

شرح مختصر الروضة

 

شرح مختصر الروضة

 

مقدمة

{انظر إبطال القياس والرأي الاستحسان لابن حزم}

 

الفصل الأول في تعريف أصول الفقه

 

 

الفصل الثاني: في التكليف

 

 

الفصل الثالث: في أحكام التكليف

 

 

الفصل الرابع: في اللغات

 

 

الأصول المتفق عليها، الكتاب

 

 

السنة

 

 

الآحاد

 

 

القول في النسخ

 

 

الأوامر والنواهي، الأمر

 

 

النهي

 

 

فوائد مشتركة بين الأمر والنهي

 

 

العموم والخصوص، العام

 

 

الخاص

 

 

الاستثناء

 

 

الشرط

 

 

الغاية

 

 

المطلق والمقيد

 

 

المجمل

 

 

المبين

 

 

خاتمة: فحوى اللفظ

 

 

الإجماع

 

 

استصحاب الحال

 

 

الأصول المختلف فيها، الأول: شرع من قبلنا

 

 

الثاني: قول الصحابي

 

 

الثالث: الاستحسان

 

 

الرابع: الاستصلاح

 

 

القياس

 

 

الاجتهاد، خاتمة

شرح مختصر الروضة

ـ[شرح مختصر الروضة]ـ

المؤلف: سليمان بن عبد القوي بن الكريم الطوفي الصرصري، أبو الربيع، نجم الدين (المتوفى: 716هـ)

المحقق: عبد الله بن عبد المحسن التركي

الناشر: مؤسسة الرسالة

الطبعة: الأولى، 1407 هـ / 1987 م

عدد الأجزاء: 3

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اللَّهُمَّ يَا وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَيَا مُوجِدَ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَيَا مُفِيضَ الْخَيْرِ وَالْجُودِ، عَلَى كُلِّ قَاصٍ مِنْ خَلْقِهِ وَدَانٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ نَجْمُ الدِّينِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الطُّوفِيُّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ: قَوْلُهُ: " اللَّهُمَّ يَا وَاجِبَ الْوُجُودِ، وَيَا مُوجِدَ كُلِّ مَوْجُودٍ، وَيَا مُفِيضَ الْخَيْرِ وَالْجُودِ، عَلَى كُلِّ قَاصٍ مِنْ خَلْقِهِ وَدَانٍ ".

الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَنَظَائِرَهَا مِنْ خُطْبَةِ الْكِتَابِ مُرَبَّعَةٌ نُونِيَّةٌ. أَعْنِي أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَرْبَعِ فِقَرٍ: ثَلَاثٌ مِنْهَا عَلَى فَاصِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالرَّابِعَةُ فَاصِلَتُهَا نُونٌ، غَيْرَ أَنَّ الثَّلَاثَ الْأُوَلَ تَخْتَلِفُ حُرُوفُ فَوَاصِلِ فِقَرِهَا فِي الْخُطْبَةِ، كَالدَّالِ فِي هَذِهِ، وَالْهَاءِ وَالْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهَا، كَقَوْلِهِ: " الْبَاهِرَةِ " وَ " النَّدَمِ " وَ " الْآلَاءِ " و" أَسْلَمَ " وَ " أَصْفِيَائِكَ " إِلَى آخَرِ الْخُطْبَةِ، وَالرَّابِعَةُ لَازِمَةٌ لِلنُّونِ لَا تَخْتَلِفُ، وَنَظِيرُ هَذِهِ

 الْخُطْبَةِ فِي التَّرْبِيعِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ تَعَالَى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فَاطِرٍ: 14] . فَالْفِقَرُ الثَّلَاثُ الْأُوَلُ عَلَى الْكَافِ وَالْمِيمِ بِخِطَابِ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ، وَالرَّابِعَةُ عَلَى الرَّاءِ، وَالنَّظِيرُ هَاهُنَا فِي مُطْلَقِ التَّرْبِيعِ لَا فِي عَيْنِ حُرُوفِ الْفَوَاصِلِ.

وَالْفِقَرُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَفَتْحِ الْقَافِ جَمْعُ فِقْرَةٍ - بِسُكُونِ الْقَافِ - وَهِيَ أَجْوَدُ بَيْتٍ فِي الْقَصِيدَةِ، شُبِّهَ بِفَقَارَةِ الظَّهْرِ، ثُمَّ سُمِّيَتِ الْقِطْعَةُ مِنَ السَّجْعِ فِقْرَةً تَشْبِيهًا بِهِ، وَالْفَاصِلَةُ فِي النَّثْرِ كَالْقَافِيَّةِ فِي الشِّعْرِ، وَقَدْ حَقَّقْتُ الْقَوْلَ فِيهَا فِي كِتَابِ " بُغْيَةِ الْوَاصِلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْفَوَاصِلِ ".

الْوَجْهُ الثَّانِي: لَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ لِمَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ عَلَى مَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النِّسَاءِ: 28] وَ {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الرُّومِ: 54] لَا يَسْتَقِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ مُرَادَاتِهِ بِدُونِ إِعَانَةٍ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَتَوْفِيقٍ، وَعِصْمَةٍ، وَتَسْدِيدٍ. وَكَانَ دُعَاءُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَنِدَاؤُهُ فِي الْمُهِمَّاتِ وَغَيْرِهَا مَشْرُوعًا، وَافْتِتَاحُ الْأُمُورِ الَّتِي يُرَامُ الشُّرُوعُ فِيهَا بِحَمْدِ اللَّهِ وَالتَّبَرُّكِ بِذِكْرِ اسْمِهِ مَنْدُوبًا، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الْأَعْرَافِ: 55] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النَّمْلِ: 62] {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الْأَنْبِيَاءِ: 83] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ وَعَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ مِنْ أَعْيَانِ الْبَشَرِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَكَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ. وَفِي رِوَايَةِ

 أَبِي دَاوُدَ: كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ، فَهُوَ أَجْذَمُ رَوَاهُ مِنْ وُجُوهٍ، وَفِي بَعْضِهَا: لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِذِكْرِ اللَّهِ أَوْ حَمْدِهِ فَهُوَ أَقْطَعُ.

ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِإِسْنَادِهِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ فِي " الْإِفْصَاحِ " وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ

قَدَّمْتُ نِدَاءَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَدُعَاءَهُ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَجَعَلْتُ ذَلِكَ تَوْطِئَةً إِلَى حَمْدِهِ وَاسْتِجْلَابِ مَا عِنْدَهُ مِنْ فَوَاضِلِ رِفْدِهِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْكَلَامِ عَلَى أَلْفَاظِ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَعَانِيهَا، فَأَقُولُ: اللَّهُمَّ: أَصْلُهُ يَا اللَّهُ، فَحُذِفَتْ " يَا " مِنْ أَوَّلِهِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْمِيمُ فِي آخِرِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ:

إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا ... أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا

 لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ، وَكَانَ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْحَذْفِ وَالتَّعْوِيضِ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِلَفْظِ اسْمِ اللَّهِ تَبَرُّكًا وَتَعْظِيمًا.

وَالثَّانِي: طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِتَصْيِيرِ اللَّفْظَيْنِ لَفْظًا وَاحِدًا، كَمَا قَالُوا: أَيْشٍ هَذَا، وَأَصْلُهُ أَيُّ شَيْءٍ هَذَا فِي نَظَائِرَ لَهُ كَثِيرَةٍ.

أَمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ: فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمُسْتَقِرُّ الثَّابِتُ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ عِنْدَ ذِكْرِ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ.

وَالْوُجُودُ: هُوَ الْإِثْبَاتُ الصِّرْفُ، كَمَا أَنَّ نَقِيضَهُ - وَهُوَ الْعَدَمُ - النَّفْيُ الصِّرْفُ، وَلِذَلِكَ ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنَّ الْوُجُودَ فِي الْمَعْلُومَاتِ بَدِيهَةٌ، فَهُوَ غَنِيٌّ عَنِ التَّعْرِيفِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُمْ: وَاجِبُ الْوُجُودِ عِبَارَةٌ أَحْدَثَهَا الْفَلَاسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَهِيَ لَا تُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَا فِي كَلَامِ السَّلَفِ فِيمَا عَلِمْنَا، لَكِنَّ مَعْنَاهُ ثَابِتٌ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّ مَعْنَى وَاجِبِ الْوُجُودِ عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ، وَوُجُودُهُ مِنْ ذَاتِهِ لِذَاتِهِ، لَا مِنْ سَبَبٍ خَارِجٍ، وَلَا لِعِلَّةِ خَارِجَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} [الْحَدِيدِ: 3] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ 

 

وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ الشَّيْءَ أَوِ الْمَعْلُومَ إِمَّا أَنْ يَجِبَ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ أَوْ يَمْتَنِعَ وُجُودُهُ لِذَاتِهِ، أَوْ يَكُونَ لِذَاتِهِ جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ابْتِدَاءً أَوْ دَوَامًا، أَعْنِي دَوَامَهُ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، كَإِنْسَانٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، أَوْ عَدَمَهُ بَعْدَ وُجُودِهِ، كَإِنْسَانٍ وُجِدَ ثُمَّ عُدِمَ.

فَالْأَوَّلُ: هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ، وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصِفَاتُهُ الذَّاتِيَّةُ، أَيِ: الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ، كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ، وَنَحْوِهَا، لَا غَيْرَ:

وَالثَّانِي: وَهُوَ الْمُحَالُ الْمُمْتَنِعُ الْوُجُودِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، أَوْ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، كَكَوْنِ الشَّيْءِ مَعْدُومًا مَوْجُودًا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَجِبُ وُجُودُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ، وَيَمْتَنِعُ وَجُودُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ مَا كَانَ لِذَاتِهِ جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، يُسَمَّى مُمْكِنًا، كَالْعَالَمِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ سَبَبٍ آخَرَ يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إِنِ افْتَقَرَ فِي وُجُودِهِ إِلَى سَبَبٍ مُؤَثِّرٍ فِيهِ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، فَهُوَ الْمُمْكِنُ الْجَائِزُ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ، فَهُوَ الْوَاجِبُ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ يَخْتَصُّ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ، لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ لَا وُجُودَ لَهُ حَتَّى يَفْتَقِرَ إِلَى مُؤَثِّرٍ خَارِجٍ، أَوْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ.

وَمَعْنَى قَوْلِنَا: وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ: أَنَّ عِلَّةَ وُجُودِهِ ذَاتُهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَوْجُودُ لِذَاتِهِ دَائِمَ الْبَقَاءِ مَا دَامَتْ ذَاتُهُ مَوْجُودَةً، بِخِلَافِ مَا عِلَّةُ وُجُودِهِ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ ذَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَزُولُ بِزَوَالِ عِلَّتِهِ.

 فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَوْجُودُ لِذَاتِهِ لَوْ قُدِّرَ زَوَالُ عِلَّتِهِ، وَهِيَ ذَاتُهُ، لَزَالَ.

قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ مَا عِلَّةُ وُجُودِهِ ذَاتُهُ لَا يُمْكِنُ زَوَالُ عِلَّتِهِ حَتَّى يَزُولَ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْعِلْمِ الْكَلَامِيِّ.

وَقَوْلُهُ: وَيَا مُوجِدَ كُلِّ مَوْجُودٍ " يَعْنِي مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، وَهُوَ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي أَوْجَدَهَا، وَأَفَاضَ عَلَيْهَا وُجُودَهَا بِقُدْرَتِهِ. وَقَوْلُهُ: " وَيَا مُفِيضَ الْخَيْرِ وَالْجُودِ " الْخَيْرُ: ضِدُّ الشَّرِّ، وَهُوَ مَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ الْمُعْتَدِلَ السَّلِيمَ وَيَخْتَارُهُ الْعَاقِلُ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ وَجْهُ الِاخْتِيَارِ فِي الشَّيْءِ ظَاهِرًا، كَالْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ، وَالرِّئَاسَةِ الْعَالِيَةِ، وَالْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ الْمُسْتَطَابَةِ، وَقَدْ يَكُونُ خَفِيًّا كَامِنًا فِي ضِدِّهِ، حَتَّى إِذَا ظَهَرَ، لَاحَ وَجْهُ الِاخْتِيَارِ فِيهِ، كَالْأَمْرَاضِ وَالْعَاهَاتِ وَالذُّلِّ وَالْخُمُولِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الصِّحَّةِ، وَالرِّفْعَةِ فِي الْعُقْبَى، وَشُرْبِ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ الْمُفْضِي إِلَى زَوَالِ الْعِلَّةِ، فَهِيَ خَيْرَاتٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا وَمَآلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شُرُورًا بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا وَحَالِهَا، وَأَفْعَالُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْوُجُودِ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَخَيْرٌ، لَكِنْ مِنْهَا مَا ظَهَرَ فِيهِ وَجْهُ الِاخْتِيَارِ، كَالنَّافِعِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَمِنْهَا مَا خَفِيَ فِيهِ ذَلِكَ كَالْمُضِرِّ مِنَ السِّبَاعِ وَأَنْوَاعِ الْعَقَارِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رِعَايَةَ مَصَالِحِ عِبَادِهِ: إِنَّ دُخُولَ النَّارِ وَالْخُلُودَ فِيهَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْكُفَّارِ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ.

وَالْخَيْرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ مَصْدَرُ: خَارَ يَخِيرُ خَيْرًا: إِذَا صَارَ خَيِّرًا، وَخَارَ اللَّهُ لَهُ يَخِيرُ لَهُ خَيْرًا. إِذَا اخْتَارَ لَهُ مَا يُوَافِقُهُ.

وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى: هُوَ ضِدُّ الشَّرِّ، وَهُوَ مَا وَافَقَ الْغَرَضَ بِوَجْهٍ مَا، وَهُوَ مِنَ

 الْإِضَافِيَّاتِ، أَيْ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ خَيْرًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ.

وَالْجُودُ: مَصْدَرُ جَادَ الرَّجُلُ بِمَالِهِ يَجُودُ جُودًا: إِذَا بَذَلَهُ لَا لِعِوَضٍ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَوْدِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَهُوَ الْمَطَرُ الْغَزِيرُ، يُقَالُ: جَادَ الْمَطَرُ يَجُودُ جَوْدًا.

وَمُفِيضُ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ: أَفَاضَ يُفِيضُ إِفَاضَةً، فَهُوَ مُفِيضٌ، وَحَقِيقَتُهُ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَائِعَاتِ، يُقَالُ: فَاضَ الْقَدَحُ وَالْإِنَاءُ إِذَا صَبَبْتَ فِيهِ مِنَ الْمَائِعِ حَتَّى امْتَلَأَ، وَجَعَلَ يَتَبَدَّدُ مِنْ حَافَّاتِهِ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعَانِي، نَحْوَ: أَفَاضَ الْخَيْرُ وَالْعَطَاءُ، وَأَفَاضُوا فِي الْحَدِيثِ، وَأَفَاضَ الْحَاجُّ مِنْ مِنًى إِلَى الْبَيْتِ لِلطَّوَافِ مَجَازٌ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ بِالضَّادِ، أَمَّا قَوْلُهُمْ: فَاظَتْ نَفْسُهُ فَفِيهِ مَعْنَى الْفَيْضِ إِلَّا أَنَّهُ بِالظَّاءِ، إِمَّا مُلَاحَظَةً لِمَعْنًى آخَرَ، أَوْ فَرْقًا بَيْنَ فَاضَ الْمَاءُ وَفَاظَتْ نَفْسُهُ، وَكَثِيرًا مَا يُفَرِّقُونَ بِاخْتِلَافِ الْحُرُوفِ بَيْنَ الْمَعَانِي وَالْمَدْلُولَاتِ، كَقَوْلِهِمْ: الْبَيْضُ كُلُّهُ بِالضَّادِ إِلَّا بَيْظَ النَّمْلِ بِالظَّاءِ.

 

وَقَوْلُهُ: «عَلَى كُلِّ قَاصٍ مِنْ خَلْقِهِ وَدَانٍ» . الْقَاصِي: الْبَعِيدُ، وَالدَّانِي: الْقَرِيبُ. وَالَّذِي خَطَرَ بِبَالِي وَقْتَ إِنْشَاءِ الْخُطْبَةِ الْقُرْبُ وَالْبُعْدُ الْمَكَانِيُّ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْزَاءِ الْعَالَمِ مِنْ شَخْصٍ وَمَكَانِ صِحَّةٍ إِضَافِيَّةٍ، مَثَلًا مَنْ فِي الشَّامِ أَقْرَبُ إِلَى مَنْ بِمِصْرَ مِمَّنْ بِبَغْدَادَ وَبِلَادِ الْمَشْرِقِ، وَبِالْعَكْسِ مَنْ بِالشَّامِ أَقْرَبُ إِلَى مَنْ بِبَغْدَادَ مِمَّنْ بِمِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ أَقْرَبُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى

 خِلَافِ الْمُشَاهَدَاتِ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَالظُّهُورِ وَالْبُطُونِ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اخْتِفَائِهِ، بَاطِنٌ فِي ظُهُورِهِ، قَرِيبٌ فِي بُعْدِهِ، بَعِيدٌ فِي قُرْبِهِ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الْحَدِيدِ: 3] .

وَأَيْضًا كَمَا لَا يُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ، لَا يُقَالُ: بَعْضُهَا أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ بَعْضٍ خُصُوصًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَنْفِي الْجِهَةَ، أَوْ يَقُولُ: إِنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَمَّا مَنْ يُثْبِتُ الْجِهَةَ، فَقَدْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ، وَيَجُوزُ تَخْرِيجُ الْكَلَامِ عَلَى الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ. فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: مُفِيضَ الْخَيْرِ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ إِلَيْكَ، أَيْ: إِلَى رَحْمَتِكَ بِالطَّاعَةِ، وَكُلِّ بَعِيدٍ عَنْكَ بِالْمَعْصِيَةِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَسْبَغَ إِنْعَامَهُ عَلَى الْمُطِيعِ وَالْعَاصِي، وَالْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ  وَيَا ذَا الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ الْقَاهِرَةِ، وَيَا سُلْطَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَامِعَ الْإِنْسِ وَالْجَانِّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَيَا ذَا الْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ الْبَاهِرَةِ، وَالْقُوَّةِ الْعَظِيمَةِ الْقَاهِرَةِ، وَيَا سُلْطَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَجَامِعَ الْإِنْسِ وَالْجَانِّ» .

لَمَّا كَانَ الْمَرْغُوبُ فِيهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَاهُنَا هُوَ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ لِلتَّحْقِيقِ، وَالْعِصْمَةَ مِنَ الزَّلَلِ، وَالْحِرَاسَةَ مِنَ الْخَلَلِ، نَاسَبَ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيُثْنَى عَلَيْهِ بِالْقُدْرَةِ، وَالْقُوَّةِ وَالسَّلْطَنَةِ الْعَامَّةِ، الَّتِي يَتَحَقَّقُ بِهَا الْمَرْغُوبُ الْمَذْكُورُ.

وَالْقُدْرَةُ: صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ يَتَحَقَّقُ بِهَا اخْتِرَاعُ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْقَدِيمَةُ: الَّتِي لَا مَبْدَأَ لَهَا فِي الزَّمَانِ، بَلْ قَارَنَ وُجُودُهَا وُجُودَ الذَّاتِ، وَالْبَاهِرَةُ: الْغَالِبَةُ، أَيْ: غَلَبَتْ قُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلَّ مَقْدُورٍ حَتَّى انْقَادَ لَهَا وَهُوَ ذَلِيلٌ مَقْهُورٌ، يُقَالُ: بَهَرَ الْقَمَرُ: إِذَا أَضَاءَ وَغَلَبَ ضَوْؤُهُ ضَوْءَ الْكَوَاكِبِ، وَبَهَرَ فُلَانٌ فُلَانًا: إِذَا غَلَبَهُ، وَبَهَرَتْ فُلَانَةٌ النِّسَاءَ: غَلَبَتْهُنَّ حُسْنًا، وَبَهَرَهُ الْحِمْلُ: غَلَبَهُ حَتَّى تَتَابَعَ نَفَسُهُ، وَهُوَ اللَّهَثُ.

وَالْقُوَّةُ: صِفَةٌ أَثْبَتَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذَّارِيَاتِ: 58] {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الْأَحْزَابِ: 25] .

وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ وَالْأَمْرِ الْعَامِّ: مَعْنًى يَتَحَقَّقُ بِهِ قَهْرُ الْأَضْدَادِ، وَفِعْلُ مَا يُسْتَصْعَبُ فِي عُرْفِ الْمَخْلُوقِينَ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَوِيٌّ عَلَى قَمْعِ عَدُوِّهِ، وَعَلَى رَفْعِ الْحِمْلِ الثَّقِيلِ، وَحَكَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ بِلْقِيسَ أَنَّهُمْ قَالُوا: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ} شَدِيدٍ [النَّمْلِ: 33] ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُغَالِبُهُ عَدُوٌّ أَوْ مُضَادٌّ إِلَّا قَهَرَهُ وَقَمَعَهُ، وَلَا يُرِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ - وَإِنِ اسْتَصْعَبَهُ الْمَخْلُوقُونَ - إِلَّا هَانَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَهُونُ وَهُوَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، غَيْرَ أَنَّ قُوَّةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَأْثِيرَهَا لَيْسَتْ كَقُوَّةِ الْمَخْلُوقِينَ وَتَأْثِيرِهَا، لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ قُوَّتُهُ بِوَاسِطَةِ الْعِلَاجِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنِ الْعِلَاجِ وَالْمِزَاجِ، كَمَا قَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: مَوْجُودٌ بِلَا مِزَاجٍ، فَعَّالٌ بِلَا عِلَاجٍ.

وَالسُّلْطَانُ: الْوَالِي، وَجَمْعُهُ: سَلَاطِينُ، وَهُوَ فُعْلَانُ مِنَ السَّلَاطَةِ، وَهِيَ الْقَهْرُ، وَقَدْ سَلَّطَهُ اللَّهُ فَتَسَلَّطَ.

 

قَوْلُهُ: «جَامِعَ الْإِنْسِ وَالْجَانِّ» مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [آلِ عِمْرَانَ: 9] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آلِ عِمْرَانَ: 25] ، وَقَوْلُهُ: كُلُّ نَفْسٍ، أَعَمُّ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ثُمَّ قَدْ صَرَّحَ بِجَمْعِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} [الْأَنْعَامِ: 128] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الْأَعْرَافِ: 38] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} [الرَّحْمَنِ: 31] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَاتِ  تَنَزَّهْتَ فِي حِكْمَتِكَ عَنْ لُحُوقِ النَّدَمِ، وَتَفَرَّدْتَ فِي إِلَهِيَّتِكَ بِخَوَاصِّ الْقِدَمِ، وَتَعَالَيْتَ فِي أَزَلِيَّتِكَ عَنْ سَوَابِقِ الْعَدَمِ، وَتَقَدَّسْتَ عَنْ لَوَاحِقِ الْإِمْكَانِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «تَنَزَّهْتَ فِي حِكْمَتِكَ عَنْ لُحُوقِ النَّدَمِ، وَتَفَرَّدْتَ فِي إِلَهِيَّتِكَ بِخَوَاصِّ الْقِدَمِ، وَتَعَالَيْتَ فِي أَزَلِيَّتِكَ عَنْ سَوَابِقِ الْعَدَمِ، وَتَقَدَّسْتَ عَنْ لَوَاحِقِ الْإِمْكَانِ» .

تَنَزَّهْتَ، أَيْ: تَبَاعَدْتَ عَنْ لُحُوقِ النَّدَمِ، وَمَادَّةُ ن ز هـ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْبُعْدِ عَلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الصِّحَاحِ» وَفُهِمَ مِنْ فُرُوعِ الْمَادَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَاكَ. وَالْحِكْمَةُ: مَعْنًى قَامَ بِالذَّاتِ، يَتَحَقَّقُ بِهِ وُقُوعُ الْأَفْعَالِ وَسَطًا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، خَالِيَةً عَنِ التَّفْرِيطِ وَالتَّبْسِيطِ، آمِنَةً مِنْ لُحُوقِ الِاخْتِلَالِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ، وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَامِلَ الْحِكْمَةِ، لَمْ يَلْحَقْهُ فِيمَا يَفْعَلُهُ نَدَمٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ كَمَالِ حِكْمَتِهِ تَامُّ الْعِلْمِ بِمَا كَانَ وَسَيَكُونُ، فَلَا يَتَطَرَّقُ عَلَيْهِ النَّدَمُ، مَعَ كَمَالِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ، خِلَافًا لِلْيَهُودِ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غَضِبَ عَلَى الْعَالَمِ فِي زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَهْلَكَهُمْ بِالطُّوفَانِ، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ وَبَكَى حَتَّى رَمَدَتْ عَيْنَاهُ، فَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فِي الرَّمَدِ، وَفِي التَّوْرَاةِ: أَنَّ الشَّرَّ لَمَّا كَثُرَ فِي زَمَنِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَسِفَ الرَّبُّ وَحَزِنَ قَلْبُهُ عَلَى خَلْقِهِ لِآدَمَ فِي الْأَرْضِ، وَعَزَمَ عَلَى إِهْلَاكِ مَنْ فِيهَا مِنْ كُلِّ ذِي رُوحٍ إِلَّا نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ وَجَدَ رَحْمَةً بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْلَكَ الْعَالَمَ بِالطُّوفَانِ قَالَ فِي قَلْبِهِ: لَا أَعُودُ أُبِيدُ أَهْلَ الْأَرْضِ لِمَوْضِعٍ أَنَّ ضَمِيرَ قَلْبِ الْإِنْسَانِ إِلَى الشَّرِّ مُذْ حَدَاثَتِهِ

 وَلَا أَعُودُ أُهْلِكُ كُلَّ حَيٍّ كَالَّذِي فَعَلْتُ وَهَذَا عَيْنُ النَّدَمِ، وَهُوَ مِنْ تَحْرِيفِ الْيَهُودِ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ.

وَتَفَرَّدْتَ، أَيْ: تَوَحَّدْتَ وَاخْتَصَصْتَ، وَالْإِلَهِيَّةُ هِيَ كَوْنُهُ إِلَهًا، كَمَا أَنَّ الْعَالِمِيَّةَ وَالْقَادِرِيَّةَ عِنْدَ مُثْبِتِي الْأَحْوَالِ كَوْنُهُ عَالِمًا قَادِرًا.

وَالْخَوَاصُّ: جَمْعُ خَاصَّةٍ، وَهُوَ مَعْنًى كُلِّيٌّ، يَلْزَمُ الشَّيْءَ وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، كَالضَّحِكِ لِلْإِنْسَانِ وَنَحْوِهِ، وَلِلْمَنْطِقِيِّينَ فِي تَعْرِيفِ الْخَاصَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ رُسُومٌ مَشْهُورَةٌ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ الْخَاصَّةِ أَعَمُّ مِمَّا يَذْكُرُونَهُ، لِأَنَّهُ الْمُرَادُ هَاهُنَا.

وَالْقِدَمُ: يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ التَّعْرِيفُ الْعَدَمِيُّ، وَهُوَ عَدَمُ الْأَوَّلِيَّةِ أَوْ عَدَمُ السَّبْقِ بِالْعَدَمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ التَّعْرِيفُ الْوُجُودِيُّ، وَهُوَ اسْتِغْرَاقُ الْأَزْمِنَةِ التَّحْقِيقِيَّةِ وَالتَّقْدِيرِيَّةِ بِالْوُجُودِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا الْأَزْمِنَةَ التَّحْقِيقِيَّةَ وَالتَّقْدِيرِيَّةَ، لِأَنَّ الزَّمَانَ عِنْدَنَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: تَحْقِيقِيٍّ: وَهُوَ الصَّادِرُ عَنْ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، وَتَقْدِيرِيٍّ: وَهُوَ مَا قَبْلَ خَلْقِ الْأَفْلَاكِ، يَعْنِي أَنَّ إِيجَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ مُمْكِنًا، وَكَانَتْ حِينَئِذٍ الْأَزْمِنَةُ التَّحْقِيقِيَّةُ تَصْدُرُ عَنْهَا، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَا بُدَّ فِي الْجَوَابِ عَمَّا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ

 الْأَحَدِ الْحَدِيثَ، عَلَى مَا بَيَّنْتُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِنْ مُخْتَصَرِ التِّرْمِذِيِّ، وَهَذَا عَلَى رَأْيِنَا، أَمَّا عَلَى رَأْيِ الْفَلَاسِفَةِ فِي قِدَمِ الزَّمَانِ التَّحْقِيقِيِّ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى قَوْلِنَا: وَالتَّقْدِيرِيَّةِ، وَخَوَاصُّ الْقِدَمِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ الْقَدِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا، وَلَا يَكُونُ جَوْهَرًا وَلَا عَرَضًا، وَلَا يَكُونُ لَهُ بِدَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ، بَلْ هُوَ أَزَلِيٌّ سَرْمَدِيٌّ. وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ: أَنْ لَا يَكُونَ وُجُودُهُ زَائِدًا عَلَى ذَاتِهِ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ، وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ تَحْقِيقٌ وَنَظَرٌ.

وَالْخَوَاصُّ: جَمْعُ خَاصَّةٍ، وَهِيَ مَا يُلَازِمُ الشَّيْءَ وَلَا يُفَارِقُهُ، وَلَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، كَانْتِصَابِ الْقَامَةِ لِلْإِنْسَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَعْنَى الْخَاصَّةِ عَنْ قُرْبٍ.

وَتَعَالَيْتَ: تَفَاعَلْتَ مِنَ الْعُلُوِّ وَالرِّفْعَةِ، وَهُوَ تَعَالَى مَعْنَوِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ بِمَعْنَى الْجِهَةِ، كَمَا يُقَالُ: تَرَفَّعَ زِيدٌ عَنْ لُحُوقِ الْعَارِ وَنَحْوُهُ.

وَالْأَزَلِيَّةُ: لَفْظَةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْأَزَلِ، وَهِيَ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ عِبَارَةٌ

 عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقِدَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْمَسْبُوقَةِ بِالْعَدَمِ، وَيُقَابِلُونَهُ بِالْأَبَدِ، وَهُوَ عَدَمُ التَّنَاهِي فِي اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ. يَقُولُونَ مَثَلًا: ذَاتُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ الذَّاتِيَّةُ مَوْجُودَةٌ أَزَلًا وَأَبَدًا، وَفِي الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ، فَمَا لَا يَزَالُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَبَدِ أَيْضًا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَزَلَ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مَفْهُومٍ لَمْ يَزَلْ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ. لَا لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدِ اسْتَعْمَلُوا النَّفْيَ بِهَا بِمَعْنَى الْأَبَدِ، وَ «لَمْ» لِنَفْيِ الْمَاضِي، وَهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ النَّفْيَ بِهَا بِمَعْنَى الْأَزَلِ، فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْأَزَلَ هُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا لَمْ يَزَلْ.

وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ إِلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَزَلِ لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَا يَعْرِفُونَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوْلِيدِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، فَكَأَنَّهُمُ اخْتَصَرُوا مَا لَمْ يَزَلْ فِي لَفْظِ الْأَزَلِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْأَزَلُ بِالتَّحْرِيكِ: الْقِدَمُ، يُقَالُ: أَزَلِيٌّ، ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ قَوْلُهُمْ لِلْقَدِيمِ: لَمْ يَزَلْ، ثُمَّ نُسِبَتْ إِلَى هَذَا فَلَمْ تَسْتَقِمْ إِلَّا بِاخْتِصَارٍ فَقَالُوا: يَزَلِيٌّ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الْيَاءُ أَلِفًا لِأَنَّهَا أَخَفُّ، كَمَا قَالُوا فِي الرُّمْحِ الْمَنْسُوبِ إِلَى ذِي يَزِنٍ: أَزَنِيٌّ.

أَمَّا الْأَبَدُ: فَهُوَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الدَّهْرُ، وَالْجَمْعُ آبَادُ، وَالْأَبَدُ أَيْضًا: الدَّائِمُ، وَكَأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَالسَّرْمَدُ: الدَّائِمُ أَيْضًا، وَكَأَنَّهُ مِنَ السَّرْدِ، وَهُوَ الْمُتَابَعَةُ، فَكَأَنَّ

 السَّرْمَدَ الدَّائِمُ الْمُتَتَابِعُ وَفِي التَّنْزِيلِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الْقَصَصِ: 72] الْآيَةَ، أَيْ دَائِمًا لَا يَتَخَلَّلُهُ لَيْلٌ.

وَسَوَابِقُ الْعَدَمِ: جَمْعُ سَابِقَةٍ، أَيْ لَمْ يَتَقَدَّمْ وُجُودَكَ عَدِمَاتٌ سَابِقَةٌ، أَوْ أَزْمِنَةٌ سَابِقَةٌ، لِأَنَّ أَزَلِيَّتَكَ أَبَتْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الْوَاحِدِ فِي سَابِقٍ وَلَاحِقٍ، أَوْ سَابِقَةٍ وَلَاحِقَةٍ أَبْلَغَ فِي التَّبْرِئَةِ وَالتَّنْزِيهِ فَكَانَ يُقَالُ: تَنَزَّهْتَ عَنْ سَابِقِ الْعَدَمِ، وَتَقَدَّسْتَ عَنْ لَاحِقِ الْإِمْكَانِ، أَوْ عَنْ سَابِقَةِ الْعَدَمِ، وَلَاحِقَةِ الْإِمْكَانِ، لِأَنَّ نَفْيَ الْفَرْدِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْجَمْعِ، وَنَفْيَ الْجَمْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْفَرْدِ عَلَى مَا عُرِفَ، لَكِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمْعِ أَوْلَى بِاعْتِدَالِ الْكَلَامِ وَاتِّزَانِهِ فَآثَرْنَاهُ، مَعَ أَنَّ الْخَطْبَ فِي هَذَا يَسِيرٌ.

وَتَقَدَّسْتَ: أَيْ تَطَهَّرْتَ، وَجَمِيعُ مَادَّةِ «ق د س» أَوْ غَالِبُهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الطَّهَارَةِ وَالتَّطْهِيرِ.

وَلَوَاحِقُ الْإِمْكَانِ: مَا يَلْحَقُ الْمُمْكِنَ لِكَوْنِهِ مُمْكِنًا، كَالْحُدُوثِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَالتَّرْكِيبِ إِنْ كَانَ جِسْمًا، وَشَغْلِ الْحَيِّزِ إِنْ كَانَ جَوْهَرًا، وَالِافْتِقَارِ إِلَى مَا يَقُومُ بِهِ، وَعَدَمِ الْتِقَاءِ زَمَانَيْنِ، أَوْ تَعَقُّبِ عَدِمِه وُجُودِهِ إِنْ كَانَ عَرَضًا، وَبِالْجُمْلَةِ أَضْدَادُ خَوَاصِّ الْقَدِيمِ السَّابِقَةِ هِيَ مِنْ لَوَاحِقِ الْمُمْكِنِ، وَالْإِمْكَانُ اسْتِوَاءُ نِسْبَةِ الْمَعْلُومِ إِلَى الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ أَوْ قَابِلِيَّتُهُ لِلتَّأْثِيرِ عَنِ الْمُؤَثِّرِ. //أَحْمَدُكَ عَلَى مَا أَسَلْتَ مِنْ وَابِلِ الْآلَاءِ، وَأَزَلْتَ مِنْ وَبِيلِ اللَّأْوَاءِ، وَأَسْبَلْتَ مِنْ جَمِيلِ الْغِطَاءِ، وَأَزْلَلْتَ مِنْ كَفِيلِ الْإِحْسَانِ.

قَوْلُهُ: «أَحْمَدُكَ عَلَى مَا أَسَلْتَ مِنْ وَابِلِ الْآلَاءِ، وَأَزَلْتَ مِنْ وَبِيلِ اللَّأْوَاءِ، وَأَسْبَلْتَ مِنْ جَمِيلِ الْغِطَاءِ، وَأَزْلَلْتَ مِنْ كَفِيلِ الْإِحْسَانِ» .

أَحْمَدُكَ، بِفَتْحِ الْمِيمِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْحَمْدُ نَقِيضُ الذَّمِّ، تَقُولُ: حَمِدْتُ الرَّجُلَ أَحْمَدُهُ حَمْدًا وَمَحْمَدَةً، فَهُوَ حَمِيدٌ وَمَحْمُودٌ، وَالتَّحْمِيدُ أَبْلَغُ مِنَ الْحَمْدِ، وَالْحَمْدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.

قُلْتُ: أَمَّا أَنَّ التَّحْمِيدَ أَبْلَغُ، فَلِأَنَّ بِنَاءَهُ - وَهُوَ التَّفْعِيلُ - يُفِيدُ التَّكْثِيرَ وَالتَّكْرَارَ، وَالْكَثِيرُ أَبْلَغُ مِنَ الْقَلِيلِ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَأَمَّا أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ، فَلِأَنَّ الشُّكْرَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الصَّنِيعَةِ الْمُعْتَدِيَةِ إِلَى الْغَيْرِ، وَالْحَمْدُ يَكُونُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ، كَالشَّجَاعَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَنَحْوِهِ.

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي «شَرْحِ الْفَصِيحِ» : الشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا مُجَازَاةً، وَالْحَمْدُ يَكُونُ ابْتِدَاءً وَمُجَازَاةً. قُلْتُ: هُوَ مَعْنَى الَّذِي قَبْلَهُ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ سِيَّانِ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ بِالْقَوْلِ وَالشُّكْرُ بِالْفِعْلِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَأَسَلْتَ: أَجْرَيْتَ إِجْرَاءً مُتَتَابِعًا بِشِدَّةٍ، وَمِنْهُ السَّيْلُ لِلْمَطَرِ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَالْوَابِلُ: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، يُقَالُ: وَبَلَتِ السَّمَاءُ تَبِلُ، وَأَرْضٌ مَوْبُولَةٌ. وَالْآلَاءُ: النِّعَمُ،

وَاحِدُهَا أَلًا بِالْفَتْحِ، وَقَدْ تُكْسَرُ، وَتُكْتَبُ بِالْيَاءِ مِثْلَ مِعًى وَأَمْعَاءٍ. وَأَزَلْتَ: مِنَ الْإِزَالَةِ، وَهِيَ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ، وَالْوَبِيلُ: فَعِيلٌ مِنَ الْوَبَالِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الثِّقَلُ وَالْوَخَامَةُ، وَمَرْتَعٌ وَبِيلٌ، أَيْ: وَخِيمٌ، وَلَعَلَّ الْوَبَالَ مِنْ هَذَا. وَاللَّأْوَاءُ: الشِّدَّةُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّأْوَاءَ لِذَاتِهَا صِفَةٌ وَخِيمَةٌ فَنَعُوذُ بِكَ مِنْهَا.

وَأَسْبَلْتَ: مِنْ سَبْلِ إِزَارِهِ: إِذَا أَرْخَاهُ، وَهُوَ الْإِسْبَالُ، وَالْجَمِيلُ: الْحَسَنُ، وَأَصْلُهُ: الشَّحْمُ الْمُذَابُ، قَالُوا: وَجْهٌ جَمِيلٌ أَيْ كَأَنَّهُ لِنَضَارَتِهِ وَبَرِيقِهِ دُهِنَ بِالْجَمِيلِ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ حَسَنٍ: جَمِيلٌ، وَالْغِطَاءُ أَصْلُهُ الِارْتِفَاعُ وَغَطَا الْمَاءُ وَكُلُّ شَيْءٍ إِذَا ارْتَفَعَ، [وَطَالَ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ غَطَا عَلَيْهِ] ، وَغَطَا اللَّيْلُ يَغْطُو وَيَغْطِي: إِذَا أَظْلَمَ، لِأَنَّهُ يَرْتَفِعُ عَلَى الْأَشْيَاءِ وَيَعْلُو عَلَيْهَا فَيُخْفِيهَا، وَالْغِطَاءُ كَذَلِكَ يَعْلُو مِنْ تَحْتِهِ فَيُخْفِيهِ.

وَأَزْلَلْتَ: أَصْلُهُ مِنَ الزَّلَلِ، وَهُوَ الْمَيْلُ، يُقَالُ: زَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ وَنَحْوُهُ إِذَا مَالَ عَنْهُ، وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [الْبَقَرَةِ: 36] أَيْ أَمَالَهُمَا، فَالْمَعْنَى: أَمَلْتَ إِلَيْنَا مِنَ الْإِحْسَانِ، يُقَالُ: أَزَلَّ فُلَانٌ إِلَيَّ نِعَمَهُ، أَيْ أَمَالَهَا، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ، فَإِنَّ النِّعَمَ فِي الْأَصْلِ كُلَّهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنْهَا شَيْئًا، وَنِسْبَتُهَا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ  آحَادِ الْخَلْقِ عَلَى السَّوَاءِ، فَإِذَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَبْدًا بِنِعْمَةٍ مَا، فَقَدْ أَمَالَهَا إِلَيْهِ عَنْ غَيْرِهِ.

وَكَفِيلُ الْإِحْسَانِ: شَامِلُهُ وَعَامُّهُ: مِنَ الْكِفْلِ، وَهُوَ كِسَاءٌ يُدَارُ حَوْلَ سَنَامِ الْبَعِيرِ، ثُمَّ يُرْكَبُ، وَيَجُوزُ فِي مَعْنَى الضَّامِنِ، أَيْ: إِحْسَانُكَ إِلَيْنَا تَكْفَّلَ لَنَا بِالْكِفَايَةِ وَالْغَنَاءِ وَكُلِّ خَيْرٍ، وَمَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ مَطْلُوبُ كُلِّ عَاقِلٍ، وَمُتَعَلَّقُ الْحَمْدِ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْعَاقِلِ، إِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ وَهُوَ اللَّأْوَاءُ، أَوْ حُصُولُ نَفْعٍ وَهُوَ إِسَالَةُ الْإِحْسَانِ وَالْآلَاءِ، وَإِسْبَالُ جَمِيلِ الْغِطَاءِ.

 __________

حَمْدَ مَنْ آمَنَ بِكَ وَأَسْلَمَ، وَفَوَّضَ إِلَيْكَ أَمْرَهُ وَسَلَّمَ، وَانْقَادَ لِأَوَامِرِكَ وَاسْتَسْلَمَ، وَخَضَعَ لِعِزِّكَ الْقَاهِرِ وَدَانَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «حَمْدَ مَنْ آمَنَ بِكَ وَأَسْلَمَ، وَفَوَّضَ إِلَيْكَ أَمْرَهُ وَسَلَّمَ، وَانْقَادَ لِأَوَامِرِكَ وَاسْتَسْلَمَ، وَخَضَعَ لِعِزِّكَ الْقَاهِرِ وَدَانَ» .

قَوْلُهُ: «أَحْمَدُكَ» : أَيْ: أَحْمَدُكَ حَمْدًا مِثْلَ حَمْدِ مَنْ آمَنَ بِكَ، فَحَذَفَ الْمَصْدَرَ وَصِفَتَهُ وَأَقَامَ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ اخْتِصَارًا، لِأَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ لَيْسَ حَمْدِي لِلَّهِ مَثَلًا هُوَ نَفْسَ حَمْدِ مَنْ آمَنَ غَيْرِي، بَلْ هُوَ مِثْلُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: أَعْطَى عَطَاءَ الْأَجْوَادِ، وَبَخِلَ بُخْلَ الْأَوْغَادِ، أَيْ: مِثْلُهُ، وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

إِذَا قَامَتَا تَضَوَّعَ الْمِسْكُ مِنْهُمَا ... نَسِيمَ الصَّبَا جَاءَتْ بَرَيَّا الْقَرَنْفُلِ

أَيْ تَضَوَّعَ تَضَوُّعًا مِثْلَ تَضَوُّعِ نَسِيمِ الصَّبَا، وَهُوَ أَكْثَرُ حَذْفًا مِمَّا قُلْنَاهُ.

وَقَوْلُهُ: «مَنْ آمَنَ بِكَ وَأَسْلَمَ» إِشَارَةٌ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَقَدْ نَصَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الْحُجُرَاتِ: 14] ، نَفَى الْإِيمَانَ وَأَثْبَتَ الْإِسْلَامَ، وَالْمَنْفِيُّ غَيْرُ الْمُثْبَتِ، فَالْإِيمَانُ غَيْرُ الْإِسْلَامِ، وَالْمُتَغَايِرَانِ مُفْتَرِقَانِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ

 الْفَرْقَ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ جِبْرِيلَ الصَّحِيحُ حَيْثُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا الْإِيمَانُ؟ فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ - أَيْ تُصَدِّقَ بِذَلِكَ - قَالَ: فَمَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصِيغَةٍ مُفْرَدَةٍ سُؤَالًا مُسْتَقِلًّا وَذَلِكَ قَاطِعٌ فِي الْفَرْقِ، كَمَا إِذَا قِيلَ: مَا الْإِنْسَانُ وَمَا الْأَسَدُ؟ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا قَطْعًا.

الثَّانِي: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى الْفَرْقِ فِي السُّؤَالِ عَنْهُمَا، وَأَجَابَهُ عَنْهُمَا بِحَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَفَسَّرَ الْإِيمَانَ بِالتَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ، وَالْإِسْلَامَ بِالْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ، وَهَذَا قَاطِعٌ فِي أَنَّ اخْتِلَافَهُمَا اخْتِلَافٌ كُلِّيٌّ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ أَثَرُ الْإِيمَانِ وَمُكَمِّلُهُ وَصِفَةٌ لَهُ لَا رَكْنٌ فِيهِ وَجُزْءٌ لَهُ.

وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَلَى اتِّحَادِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذَّارِيَاتِ: 35 - 36] ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ آلُ لُوطٍ، فَضَعِيفٌ، وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالْأَمْرَيْنِ تَخْصِيصًا لَهُمْ، وَمَدْحًا وَتَعْظِيمًا، أَوْ أَنَّهُ غَايَرَ بَيْنَ الْفَاصِلَتَيْنِ فِي الْآيَتَيْنِ دَفْعًا لِلتَّكْرَارِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي «بُغْيَةِ الْوَاصِلِ» .

 قَوْلُهُ: «وَفَوَّضَ إِلَيْكَ أَمْرَهُ وَسَلَّمَ» ، التَّفْوِيضُ: رَدُّ الْأَمْرِ إِلَى الْغَيْرِ لِيَنْظُرَ فِيهِ، وَقُوَّةُ اللَّفْظِ تُعْطِي التَّوْسِيعَ، كَأَنَّ مَنْ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى غَيْرِهِ قَدْ جَعَلَهُ فِي سَعَةٍ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ، وَيُقَالُ: أَمْوَالُهُمْ بَيْنَهُمْ فَوْضَى وَفَيْضُوضَى: إِذَا كَانُوا شُرَكَاءَ فِيهَا، وَأَمْرَهُ: أَيْ شَأْنُهُ وَكُلُّ مَا يَعْنِيهِ مِنَ اسْتِجْلَابِ خَيْرٍ، أَوِ اسْتِدْفَاعِ شَرٍّ، فَهُوَ مُفَوَّضٌ فِيهِ إِلَيْكَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ شَيْءٌ إِلَّا عَنْكَ نِعْمَةً وَبَلَاءً، وَمَنْعًا وَعَطَاءً، وَأَنَّكَ الْمُسْتَبِدُّ فِي الْخَلْقِ حُكْمًا وَقَضَاءً. وَالتَّسْلِيمُ فِي مَعْنَى التَّفْوِيضِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 65] .

وَقَوْلُهُ: «وَانْقَادَ لِأَوَامِرِكَ وَاسْتَسْلَمَ» الِانْقِيَادُ: هُوَ الْمُتَابَعَةُ مَعَ الْمُطَاوَعَةِ، كَالْبَعِيرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدَّوَابِّ إِذَا قُيِّدَ بِزِمَامِهِ، تَابَعَ مُطَاوِعًا. وَالِاسْتِسْلَامُ: تَسْلِيمُ النَّفْسِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ، وَلَيْسَ هَذَا فِيمَا بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نِفَاقًا، لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ نِفَاقًا كَالْحَرْبِيِّ وَالْمُرْتَدِّ إِذَا أَسْلَمَ خَوْفًا مِنَ الْقَتْلِ، لِأَنَّ خَوْفَ الْمَخْلُوقِينَ غَيْرُ وَاجِبٍ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النَّحْلِ: 106] فَهَذَا اسْتِسْلَامٌ لِلْكُفْرِ تَقِيَّةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا الِانْقِيَادَ لِلْأَوَامِرِ، أَيْ نَعْتَقِدُ وُجُوبَ امْتِثَالِ أَوَامِرِكَ وَنَوَاهِيكَ فِعْلًا وَكَفًّا وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى نَحْمَدُكَ حَمْدَ الْمُؤْمِنِينَ.

وَقَوْلُهُ: «وَخَضَعَ لِعِزِّكَ الْقَاهِرِ وَدَانَ» الْخُضُوعُ: التَّطَامُنُ وَالتَّوَاضُعُ، وَمِنْهُ خَضَعَ النَّجْمُ: إِذَا مَالَ لِلْمَغِيبِ، وَخَضَعَ الْإِنْسَانُ خَضْعًا: أَمَالَ رَأْسَهُ إِلَى الْأَرْضِ وَدَنَا مِنْهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَلَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ الْكَامِلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَهِيَ الْإِيمَانُ

 الْقَلْبِيُّ حَتَّى بِالْقَدَرِ، وَالْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ مَعَ الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ وَالْخُضُوعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 1 - 2] ، فَذَكَرَ الْإِيمَانَ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَظَائِفِ الْقَلْبِ، وَالصَّلَاةَ، وَهِيَ أَكْبَرُ وَظَائِفِ الْبَدَنِ، وَالْخُشُوعَ وَهُوَ أَكْبَرُ الْوَظَائِفِ الْمُشْتَرِكَةِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْخُشُوعَ تَوَاضُعٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَجُلٍ رَآهُ يُصَلِّي وَهُوَ يَعْبَثُ، فَقَالَ. لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ

 ____________

وَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى سَيِّدِ أَصْفِيَائِكَ، وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِكَ، وَفَاتِحِ أَوْلِيَائِكَ، مُحَمَّدٍ سَيِّدِ مُعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى سَيِّدِ أَصْفِيَائِكَ وَخَاتَمِ أَنْبِيَائِكَ وَفَاتِحِ أَوْلِيَائِكَ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ مُعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ» .

«وَأَسْأَلُكَ» : مَعْطُوفٌ عَلَى «أَحْمَدُكَ» ، أَيْ: أَحْمَدُكَ وَأَسْأَلُكَ، وَتَقْدِيمُ الْحَمْدِ قَبْلَ السُّؤَالِ أَجْدَرُ بِالْإِجَابَةِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا وَقَعَ فِي الْفَاتِحَةِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، قُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ لِتَكَوُنَ وَسِيلَةً إِلَى حُصُولِ الْإِعَانَةِ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: الرَّحْمَةُ، وَيَلْزَمُهَا مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ، خُصُوصًا إِذَا كَانَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

وَالسَّيِّدُ: هُوَ الرَّئِيسُ الَّذِي يَسُودُ مَنْ دُونَهُ، وَهُوَ فَعِيلٌ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنَ السِّيَادَةِ وَهِيَ التَّقَدُّمُ وَالرِّئَاسَةُ.

وَالْأَصْفِيَاءُ: جَمْعُ صَفِيٍّ، وَهُوَ الصَّفْوَةُ الْمُخْتَارُ إِلَيْهِ تَشْبِيهُ مَاءٍ دُونَ الصَّافِي أَوِ الْأَصْفَى مِنَ الْمَاءِ إِلَيْهِ، فَالْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ صَفْوَةُ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ، وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ تِلْكَ الصَّفْوَةِ.

وَالْأَنْبِيَاءُ جَمْعُ نَبِيءٍ، بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ، فَإِذَا هُمِزَ فَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ النَّبَأِ، وَهُوَ الْخَبَرُ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالْخَبَرِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِذَا لَمْ يُهْمَزْ فَهُوَ مُخَفَّفٌ مِنَ الْمَهْمُوزِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ، كَمَا خَفَّفُوا الذُّرِّيَّةَ وَالْبَرِيَّةَ وَأَصْلُهُمَا الْهَمْزُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُ النَّبِيِّ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ يَهْدِي النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ كَمَا تَهْدِيهِمُ الطَّرِيقُ إِلَى مَقَاصِدِهِمْ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ فَعِيلٌ مِنْ نَبَا: إِذَا ارْتَفَعَ مَكَانُهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفِيعُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَدَلِيلِ الْعَقْلِ لِمَنْ يُطَالِبُ بِهِ.

وَالْأَوْلِيَاءُ: جَمْعُ وَلِيٍّ، وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ: وَلِيتُ الشَّيْءَ أَلِيهِ: إِذَا عُنِيتُ بِهِ وَنَظَرْتُ فِيهِ كَمَا يَنْظُرُ الْوَلِيُّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَنْظُرُ فِي أَمْرِ وَلَيِّهِ بِالرَّحْمَةِ وَالْعِنَايَةِ، وَالْوَلِيُّ يَنْظُرُ فِي أَوَامِرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالطَّاعَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعِيلًا مِنْ: وَلِيتُ الشَّيْءَ، وَوَلِيَنِي الشَّيْءُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ، كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التَّوْبَةِ: 123] ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ ذَوُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، وَقَوْلِهِ

 عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، كُلُّ هَذَا الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْوَاسِطَةِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ آيِلٌ إِلَى هَذَا أَيْضًا فَهُوَ الْأَصْلُ، فَالْوَلِيُّ يَلِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَلِيهِ رَبُّهُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْوَلِيَّ يَقْطَعُ الْوَسَائِطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَ يَصِيرُ فِي مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ الَّذِي فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ. وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ يَجْعَلُ عَبْدَهُ يَلِيهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُفِيضُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَعَارِفِ وَاللَّطَائِفِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَمَا أَعْطَى الْخَضِرَ تِلْكَ الْعُلُومَ اللَّدُنِّيَّةَ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ، وَلَا مَلَكٍ مُرْسَلٍ، وَلَيْسَ هَذَا مُوجِبًا لِتَفْضِيلِ الْوَلِيِّ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا زَعَمَ بَعْضُ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ مُحْتَجًّا بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقَامَ الْوَلِيِّ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَقَامُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَمَقَامَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَقَامُ الشَّرَفِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْقُوَّةِ وَالْعِصْمَةِ، وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْمُورًا بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزِ وَإِشَاعَتِهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، وَالْوَلِيُّ مَأْمُورًا بِكِتْمَانِ الْكَرَامَةِ وَسَتْرِهَا عَنْ إِدْرَاكِ الْعِبَادِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ قَدْ يَرَى

 مِسْكِينًا أَوْ يَتِيمًا، فَيَرْحَمُهُ، فَيَمْسَحُ بِرَأْسِهِ، أَوْ يُعْطِيهِ مِنْ يَدِهِ شَيْئًا، وَلَا يَصِلُ إِنْعَامُهُ إِلَى قَائِدِ جُيُوشِهِ إِلَّا بِوَسَائِطَ، مَعَ أَنَّ الْقَائِدَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ قَدْرًا وَأَعْلَى مَحِلًّا، وَكَمْ بَيْنَ مَنْ يُعْطِيهِ الْمَلِكُ سَيْفًا، وَيَقُولُ لَهُ: خُذْهُ فِي يَدِكَ مَشْهُورًا، وَاضْرِبْ بِهِ مَنْ عَصَاكَ فِي أَمْرٍ، وَبَيْنَ مَنْ يُعْطِيهِ سِكِّينًا وَيَقُولُ لَهُ: اجْعَلْهُ تَحْتَ ثِيَابِكَ، لِئَلَّا يَرَاكَ الْوَالِي أَوْ غَيْرُهُ، هَذَا تَفَاوُتٌ كَثِيرٌ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا خَتَمَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ كَذَلِكَ افْتَتَحَ بِهِ الْأَوْلِيَاءَ، وَالنَّبِيُّ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلِيِّ وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ أَوْصَافِهِ، وَقَدْ نَظَمَ الْمَعْنَى الشَّيْخُ يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ الصَّرْصَرِيُّ حَيْثُ قَالَ:

هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَفَاتِحُ الْ ... أَوْلِيَاءِ وَشُرْبُهُمْ مِنْ شُرْبِهِ

أَيْ: هُوَ مَادَّتُهُمْ وَمِنْهُ يُسْقَوْنَ.

وَمُحَمَّدٌ اسْمُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ مُفَعَّلٌ مِنَ الْحَمْدِ، كَمَا أَنَّ أَحْمَدَ أَفْعَلَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا، وَمَعَدٌّ مَفَعْلٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ وَتَخْفِيفِهِمَا، أَبُو الْعَرَبِ، وَهَلْ مِيمُهُ زَائِدَةٌ أَوْ أَصْلِيَّةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: اخْتِيَارُ الْأَكْثَرِينَ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي عَدَدٍ.

 وَالثَّانِي: اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ، لِقَوْلِهِمْ تَمَعْدَدَ.

وَعَدْنَانُ: فَعْلَانُ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ، إِذَا لَزِمَهُ وَتَوَطَّنَهُ إِقَامَةً.

وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ. إِلَى هَاهُنَا اتَّفَقَ النَّسَّابُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَدْنَانَ بْنِ أُدِّ بْنِ أُدَدِ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ حَمَلِ بْنِ نَبْتِ بْنِ قَيْدَارِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَدْنَانَ بْنِ أُدَدٍ وَلَا يَذْكُرُ أُدًّا، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ عَدْنَانَ، قَالَ عُرْوَةُ: وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ [أَبِي] حَثْمَةَ يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا فِي عِلْمِ عَالِمٍ، وَلَا شِعْرِ شَاعِرٍ أَحَدًا يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ مُعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ [يُثْبِتُ] .

(1/79)

________________________________________

وَأَنْ تَرْزُقَنِي الْعِلْمَ وَتُوَفِّقَنِي لِلْعَمَلِ، وَتُبَلِّغَنِي مِنْهُمَا نِهَايَةَ السُّولِ وَغَايَةَ الْأَمَلِ، وَتَفْسَحَ لِي فِي الْمُدَّةِ وَتَنْسَأَ لِي فِي الْأَجَلِ، فِي حُسْنِ دِينٍ وَإِصْلَاحِ شَأْنٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: " وَأَنْ تَرْزُقَنِي الْعِلْمَ، وَتُوَفِّقَنِي لِلْعَمَلِ، وَتُبَلِّغَنِي مِنْهُمَا نِهَايَةَ السُّولِ وَغَايَةَ الْأَمَلِ، وَتَفْسَحَ لِي فِي الْمُدَّةِ، وَتَنْسَأَ لِي فِي الْأَجَلِ، فِي حُسْنِ دِينٍ وَإِصْلَاحِ شَأْنٍ ".

هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ تُصَلِّيَ، فِيمَا سَبَقَ، أَيْ: وَأَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى سَيِّدِ أَصْفِيَائِكَ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَنِي التَّوْفِيقَ، وَهُوَ التَّيْسِيرُ لِمَا يُوَافِقُ، وَذَلِكَ بِتَحْقِيقِ الدَّوَاعِي، وَإِزَالَةِ الْعَوَائِقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ وَالتَّوْفِيقَ لِلْعَمَلِ بِهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَالْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ إِلَى السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وَالْعِلْمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا لِأَنَّهُ يَحْرُسُ الْعَمَلَ عَنِ الْفَسَادِ وَالِاخْتِلَالِ، وَالْعَمَلُ نَتِيجَةُ الْعِلْمِ وَمَقْصُودُهُ وَثَمَرَتُهُ، وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَى الْخُلُودِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ، قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فُصِّلَتْ: 30 - 32] فَحَقِيقَةُ الِاسْتِقَامَةِ: فِعْلُ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيَّاتِ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ، فَعِلْمٌ بِلَا عَمَلٍ عَقِيمٌ، وَعَمَلٌ بِلَا عِلْمٍ سَقِيمٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، وَلِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ كِتَابٌ سَمَّاهُ: " اقْتِضَاءُ الْعِلْمِ الْعَمَلُ " ذَكَرَ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ذَكَرْتُ جُمْلَةً صَالِحَةً مِنْهُ فِي كِتَابِ: " الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ " فَإِذَا شِئْتَ انْظُرْ هُنَاكَ.

 وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي الْعَاقِلُ عَنْهُمَا، لِأَنَّ الْعِلْمَ زِينَةُ النَّفْسِ وَكَمَالُهَا وَحِلْيَتُهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعَمَلَ سَبَبُ سَلَامَتِهَا فِي مَعَادِهَا، وَحُلُولِهَا بِالْمَرَاتِبِ الْفَاخِرَةِ، سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَهُ مِنْهُمَا نِهَايَةَ سُؤْلِهِ، وَغَايَةَ أَمَلِهِ. وَنِهَايَةُ الشَّيْءِ وَغَايَتُهُ: عِبَارَةٌ عَنْ آخِرِهِ وَمَوْضِعِ انْقِطَاعِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ مَخْلُوقًا مُتَنَاهِيًا كَانَ أَمَلُهُ كَذَلِكَ، وَالسُّؤْلُ مَهْمُوزًا: مَا يَسْأَلُهُ الْإِنْسَانُ، وَقُرِئَ: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَامُوسَى} [طه: 36] بِالْهَمْزِ. وَلِمَا صَحَّ وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ خَيْرِ النَّاسِ فَقَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ ". وَعَنْ شَرِّ النَّاسِ، فَقَالَ: مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُتَقَرِّرًا فِي الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ ضَرُورَةً، أَوْ بِوَاسِطَةِ النَّظَرِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِمَّا أَنْ يَطُولَ عُمُرُهُ أَوْ يَقْصُرَ، وَعَلَى هَذَيْنِ التَّقْدِيرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَسُوءَ عَمَلُهُ أَوْ يَحْسُنَ، فَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ، خَيْرُهَا مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّهَا مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ، وَبَيْنَهُمَا وَاسِطَتَانِ، خَيْرُهُمَا مَنْ قَصُرَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَشَرُّهُمَا مَنْ قَصُرَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ، سَأَلْتُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِطُولِ الْعُمُرِ مَعَ حُسْنِ الدِّينِ وَصَلَاحِ الشَّأْنِ.

وَمَعْنَى تَفْسَحُ: تُوَسِّعُ، وَالْفُسْحَةُ بِضَمِّ الْفَاءِ: السَّعَةُ، وَمِنْهُ (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجْلِسِ) [الْمُجَادَلَةِ: 11] ، وَالْمُدَّةُ: الزَّمَنُ الْمُمْتَدُّ، وَالْمُرَادُ هَهُنَا زَمَنُ الْحَيَاةِ.

وَتَنْسَأُ - بِفَتْحِ السِّينِ -: تُؤَخِّرُ، وَمِنْهُ النَّسِيئَةُ: الْبَيْعُ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ} [الْبَقَرَةِ: 106] أَيْ: نُؤَخِّرُ نَسْخَهَا فَلَا نَنْسَخُهَا، وَالْأَجَلُ: نِهَايَةُ الْمُدَّةِ، وَمِنْهُ أَجْلُ الدَّيْنِ، أَيْ آخِرُ مُدَّةِ تَأْخِيرِهِ، وَأَجَلُ الْحَيِّ كَذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الْأَعْرَافِ: 34] . وَالِدِّينُ يَشْمَلُ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعَهَا، عِلْمَهَا وَعَمَلَهَا، فَهُوَ مُتَعَلِّقُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَأْخِيرَ الْمُدَّةِ فِي حُسْنِ اعْتِقَادٍ وَعَمَلٍ.

وَالشَّأْنُ: الْأَمْرُ وَالْحَالُ، وَالْمُرَادُ إِصْلَاحُ كُلِّ مَا يَعْنِيهِ.

 ______

وَأَنْ تُحْيِيَنِي حَيَاةً طَيِّبَةً هَنِيئَةً، وَتَقِيَنِي فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ أَعْرَاضَ السُّوءِ الرِّدِيَّةَ، وَتَعْدِلَ بِي عَنِ السُّبُلِ الْوَبِيَّةِ إِلَى الْمَرِيَّةِ، وَتَعْصِمَنِي مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَأَنْ تُحْيِيَنِي حَيَاةً طَيِّبَةً هَنِيئَةً، وَتَقِيَنِي فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ أَعْرَاضَ السُّوءِ الرِّدِيَّةَ، وَتَعْدِلَ بِي عَنِ السُّبُلِ الْوَبِيَّةِ إِلَى الْمَرِيَّةِ، وَتَعْصِمَنِي مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ» .

هَذَا أَيْضًا عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالرِّزْقِ، أَيْ: أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّيَ، وَتَرْزُقَنِي، وَتُحْيِيَنِي، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا فِيمَا بَعْدُ مَنْصُوبَةً بِتَقْدِيرِ «أَنِ» الظَّاهِرَةِ فِي الْفِعْلِ الْأَوَّلِ مِنْهَا، وَهُوَ تُصَلِّي، وَلَمَّا كَانَ الْفَسْحُ فِي الْمُدَّةِ قَدْ يَكُونُ مَعَ حَيَاةٍ طَيِّبَةٍ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، سَأَلَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعَ حَيَاةٍ طَيِّبَةٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا مَنْ أَحْسَنَ مِنْ خَلْقِهِ، حَيْثُ قَالَ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النَّحْلِ: 97] .

وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهَا الرِّزْقُ الطَّيِّبُ فِي الدُّنْيَا، وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ: أَنَّهَا الْقَنَاعَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَقِيلَ: حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ: أَنَّهَا حُصُولُ السُّرُورِ، وَعَدَمُ الشُّرُورِ، أَوْ يُقَالُ: حُصُولُ الْمُلَائِمِ، وَانْدِفَاعُ الْمُنَافِي.

وَالْهَنِيئَةُ: مِنْ قَوْلِهِمْ: هَذَا هَنِيءٌ، أَيْ: لَا تَعَبَ فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النِّسَاءِ: 4] قِيلَ: سَائِغًا طَيِّبًا، وَحُكِيَ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ: الْهَنِيءُ: الَّذِي يُسَمِّنُ، وَالْمَرِيءُ: غَيْرُ الْوَبِيِّ، يُقَالُ: هَنَأَنِي الطَّعَامُ وَمَرَأَنِي بِغَيْرِ أَلِفٍ، فَإِنْ أَفْرَدْتَهُ

قُلْتَ: أَمْرَأَنِي. وَفَسَّرَهُ الْأَزْهَرِيُّ: أَنَّهُ الْهَطْمُ ذَكَرَهُ الدِّيَارِبَكْرِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» .

وَتَقِيَنِي: مِنَ الْوِقَايَةِ، أَيْ تَدْفَعُ عَنِّي وَتَكْفِينِي أَعْرَاضَ السُّوءِ الرَّدِيئَةَ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ، أَيْ: مَا يَعْرِضُ فِيهِمَا مِمَّا يَسُوءُ، كَالْخَطَأِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، وَالِانْحِرَافِ فِي مِزَاجِ الْبَدَنِ لِاعْتِرَاضِ الْعِلَلِ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ مِنْ جُمْلَةِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَهُوَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ تَفَاصِيلِهَا، وَتَعْدِلَ بِي: أَيْ تَمِيلُ بِي، يُقَالُ: عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ، أَيْ: مَالَ عَنِ السَّبِيلِ، أَيِ: الطُّرُقِ الْوَبِيئَةِ الَّتِي فِيهَا الْوَبَاءُ، وَهُوَ مَرَضٌ عَامٌّ، وَهُوَ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ، وَاسْتِعْمَالُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَدَنِ حَقِيقَةٌ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الدِّينِ مَجَازٌ عَنِ الْأَذَى فِيهِ بِاخْتِلَالِ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ. إِلَى الْمَرِيَّةِ، أَيِ: الطُّرُقِ السَّالِمَةِ مِنَ الْوَبَاءِ وَالْأَذَى الَّتِي يُسْتَمْرَى سُلُوكُهَا، أَيْ: يَكُونُ سَلِيمَ الْعَاقِبَةِ مِنَ الْأَذَى.

«وَتَعْصِمَنِي مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ» : أَصْلُ الْعِصْمَةِ الْمَنْعُ، مَأْخُوذٌ مِنْ عِصَامِ الْقِرْبَةِ، وَهُوَ رِبَاطُ الْقِرْبَةِ وَسَيْرُهَا الَّذِي تُحْمَلُ بِهِ، فَهُوَ يَمْنَعُهَا مِنَ الْوُقُوعِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَبُو عَاصِمٍ كُنْيَةُ السَّوِيقِ، لِأَنَّهُ يُمْسِكُ الرَّمَقَ، وَيَمْنَعُ السُّقُوطَ، فَالْمُرَادُ: تَمْنَعُنِي مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ أَنْ أَقَعَ فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِحَبَائِلِ الشَّيْطَانِ: جَمِيعُ الشَّهَوَاتِ وَالْمَعَاصِي الَّتِي تُغْرِي الْإِنْسَانَ بِمُوَاقَعَتِهَا، فَهِيَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ كَالشِّباكِ

وَالْفِخَاخِ وَنَحْوِهَا لِلصَّيَّادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ، بِجَامِعٍ أَنَّ عَاقِبَةَ الْجَمِيعِ الْهَلَاكُ، هَؤُلَاءِ فِي الْآجِلِ، وَأُولَئِكَ فِي الْعَاجِلِ بِالذَّبْحِ وَأَكْلِ الصَّيَّادِ وَغَيْرِهِ لَهُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: النِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ حَصْرَ الْحَبَائِلِ فِي النِّسَاءِ، بَلْ إِنَّهُنَّ مِنَ الْحَبَائِلِ وَأَعْظَمِهَا وَأَجْدَرِهَا بِالْوُقُوعِ فِيهَا، كَقَوْلِهِ: الْحَجُّ عَرَفَةُ، أَيْ مُعْظَمُهُ، وَوَاحِدَةُ الْحَبَائِلِ: حِبَالَةٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ. وَتَقْبِضَنِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَجْعَلَ رَحْمَتَكَ لِي مِنَ النَّارِ جُنَّةً، وَتُدْخِلَنِي بِفَضْلِكَ وَجُودِكَ الْجَنَّةَ، وَمَنِّكَ يَا مَنَّانُ.

وَتُلْحِقَنِي بِالنَّبِيِّ الْأَفْضَلِ، وَالرَّسُولِ الْمُكَمَّلِ الْأَكْمَلِ، الَّذِي خَتَمَ النُّبُوَّةَ وَأَكْمَلَ، وَمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَتَقْبِضَنِي عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» : أَيْ عَلَى مَضْمُونِهِمَا وَمُقْتَضَاهُمَا، وَمَا أَفْصَحَا بِهِ، وَدَلَّا عَلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.

قَوْلُهُ: «وَتَجْعَلَ رَحْمَتَكَ بِي مِنَ النَّارِ جُنَّةً» أَيْ سِتْرًا أَسْتَتِرُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَكُلُّ شَيْءٍ سَتَرَ شَيْئًا، فَقَدْ أَجَنَّهُ، وَهُوَ جُنَّةٌ لَهُ، بِضَمِّ الْجِيمِ، كَالدِّرْعِ وَالْجَوْشَنِ لِلْمُحَارِبِ، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرَاكِيبِهَا تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى السَّتْرِ، كَالْجِنِّ وَالْجُنُونِ وَالْجَنَّةِ لِلْبُسْتَانِ، وَالْمِجَنِّ لِلتُّرْسِ، وَمَعْنَى السَّتْرِ فِي جَمِيعِهَا ظَاهِرٌ. نَعَمْ، اسْتِعْمَالُ الْجَنَّةِ فِي الرَّحْمَةِ مَجَازٌ، لِأَنَّ نَفْسَ الرَّحْمَةِ لَيْسَتْ هِيَ السَّاتِرَ الْحَائِلَ دُونَ النَّارِ، بَلْ إِذَا بَاعَدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِرَحْمَتِهِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالنَّارِ، حَتَّى لَا يَجِدَ ضَرَرَهَا، كَانَتِ الرَّحْمَةُ سَبَبًا لِزَوَالِ أَذَاهَا، فَصَارَتْ كَأَنَّهَا سَاتِرٌ حَجَبَ أَذَى النَّارِ عَنِ الْوُصُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِمَّا صِفَةُ ذَاتٍ، أَوْ صِفَةُ فِعْلٍ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَتُهَا جُنَّةً، لِأَنَّ الصِّفَةَ الذَّاتِيَّةَ لَا تَنْتَقِلُ، وَالْفِعْلَ عَرَضٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِهِ السَّتْرُ.

قَوْلُهُ: «وَتُدْخِلَنِي بِفَضْلِكَ وَجُودِكَ الْجَنَّةَ» الْجُودُ قَدْ سَبَقَ مَعْنَاهُ، وَالْفَضْلُ: الْإِفْضَالُ وَالْإِحْسَانُ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِ: إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ.

قَوْلُهُ: «وَمَنِّكَ» أَيْ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ بِفَضْلِكَ وَمَنِّكَ، وَهُوَ مَا يَصِحُّ أَنْ تَمُنَّ بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالتَّطَوُّلِ، وَأَصْلُ الْمَنِّ: تَذْكِيرُ النِّعْمَةِ وَالْجَمِيلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

{لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [الْبَقَرَةِ: 264] ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي سَبَبِهِ وَمُصَحِّحِهِ، وَهُوَ النِّعْمَةُ.

قَوْلُهُ: «يَا مَنَّانُ» نِدَاءٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَوَصْفٌ لَهُ بِصِفَتِهِ الْجَمِيلَةِ، وَهِيَ الْمَنُّ وَالْإِنْعَامُ، لِأَنَّ الْمَسْؤُولَ إِذَا دُعِيَ بِجَمِيلِ صِفَاتِهِ كَانَ أَجْدَرَ بِإِجَابَةِ السُّؤَالِ، وَالْمَنَّانُ: الْكَثِيرُ الْمَنِّ وَالْإِفْضَالِ الْمُتَكَرِّرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى صِيغَةِ فَعَّالٍ.

قَوْلُهُ: «وَتُلْحِقَنِي بِالنَّبِيِّ الْأَفْضَلِ» يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

قَوْلُهُ: «وَالرَّسُولُ الْمُكَمَّلُ الْأَكْمَلُ» ، هَهُنَا بَحْثَانِ:

أَحَدُهُمَا: ذِكْرُ لَفْظِ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ لِوَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: دَفْعًا لِتَكْرَارِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ.

الثَّانِي: أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ هُنَا مُنَاسِبٌ لِذِكْرِ التَّكْمِيلِ، لِأَنَّهُ مِنْ لَوَازِمَ الرِّسَالَةِ، بِخِلَافِ النَّبِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُكْمِلُ أَحَدًا، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَعَلَ يَمُرُّ بِالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الْقَوْمُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَمَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيِّ وَالنَّبِيَّيْنِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَحَدٌ الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ

وَصَحَّحَهُ.

وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، قِيلَ: بِأَنَّ النَّبِيَّ يُوحَى إِلَيْهِ مَنَامًا، وَالرَّسُولَ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ يَقَظَةً، وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوحِيَ إِلَيْهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ مَنَامًا فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ رَسُولًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: بِأَنَّ الرَّسُولَ نَبِيٌّ خَاصٌّ، فَكَانَ الْوَحْيُ إِلَيْهِ مَنَامًا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ نَبِيًّا، وَيَكُونُ الْوَحْيُ قَدْ تَرَاخَى عَنْهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا، كَمَا انْقَطَعَ عَنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا حِينَ سُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ وَالْإِسْكَنْدَرِ، وَعَنِ الرُّوحِ، فَقَالَ: غَدًا أُخْبِرُكُمْ وَلَمْ يَسْتَثْنِ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ.

وَقِيلَ: بِأَنَّ الرَّسُولَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالنَّبِيَّ لَا يَلْزَمُ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ تَكُونُ نُبُوَّتُهُ وَحْيًا يَخْتَصُّ بِهِ، وَمُنَاجَاةً بَيْنِهِ وَبَيْنَ رَبِّهِ.

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا عَبَدَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَعَبَدَ بَعْضُهُمُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ، وَكَانَ يَرَى نَفْسَهُ فَرَجَعَ يَلُومُهَا وَيَقُولُ: يَا نَفْسُ مَا أُتِيتُ إِلَّا مِنْ قِبَلِكِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: الْآنَ حَيْثُ اعْتَرَفْتَ بِالتَّقْصِيرِ أَهَّلْتُكَ لِلْوَحْيِ، أَوْ كَمَا قَالَ.

وَحَاصِلُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الرِّسَالَةَ مَعْنًى مُتَعَدٍّ، وَالنُّبُوَّةَ تَكُونُ لَازِمَةً وَمُتَعَدِّيَةً، وَذَكَرَ يَعْقُوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ فِي «دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ» : أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ أَتَاهُ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ

تَعَالَى، وَالرَّسُولَ مَنْ أَتَى بِشَرْعٍ ابْتِدَاءً وَبِنَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ، وَهَذَا نَحْوُ الَّذِي قَبْلَهُ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا كَامِلٌ مُكَمِّلٌ، أَوْ لَا كَامِلٌ وَلَا مُكَمِّلٌ، أَوْ كَامِلٌ غَيْرُ مُكَمِّلٍ، أَوْ مُكَمِّلٌ غَيْرُ كَامِلٍ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُحَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ، لِأَنَّ تَكْمِيلَ الْغَيْرِ فَرْعُ كَمَالِ الذَّاتِ، فَإِذَا انْتَفَى الْأَصْلُ، اسْتَحَالَ وُجُودُ الْفَرْعِ، وَلِأَنَّ كَمَالَ الشَّيْءِ فِي نَفْسِهِ مَبْدَأُ تَكْمِيلِهِ لِغَيْرِهِ، وَالْمُحْدَثُ بِدُونِ مَبْدَأٍ مُحَالٌ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ التَّعْلِيمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَطَهُورِيَّةَ الْمَاءِ بِدُونِ طَهَارَتِهِ مُحَالٌ.

أَمَّا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ، فَأَعْلَاهَا الْكَامِلُ الْمُكَمِّلُ - بِكَسْرِ الْمِيمِ - وَلَهُ مَرَاتِبُ أَعْلَاهَا فِي ذَلِكَ رُتْبَةُ الْبَارِي، جَلَّ جَلَالُهُ، فَإِنَّهُ الْكَامِلُ فِي ذَاتِهِ لِذَاتِهِ لَا لِمُكَمِّلِ غَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُكَمِّلُ لِمَنْ سِوَاهُ مُطْلَقًا، لَكِنْ لِبَعْضِهِمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُحْدَثِينَ الْمُلْهَمِينَ، وَلِبَعْضِهِمْ بِوَاسِطَةِ هَؤُلَاءِ كَتَكْمِيلِ الْأُمَمِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَبَعْضِ أَشْخَاصِ الْأُمَمِ بِبَعْضٍ كَالتِّلْمِيذِ بِالْمُعَلِّمِ، وَالْقَاضِي بِالْإِمَامِ يُوَلِّيهِ الْحُكْمَ، وَالْعَدْلِ بِالْقَاضِي يَعْدِلُهُ، وَالشَّاهِدِ بِالْمُزَكِّي، وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِالْوَلِيِّ.

ثُمَّ يَلِي هَذَا الْقَسَمَ فِي الرُّتْبَةِ الْكَامِلُ غَيْرُ الْمُكَمِّلِ، كَالرَّجُلِ الصَّالِحِ الْعَارِفِ بِرَبِّهِ، لَكِنْ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ تُعَرِّفُهُ غَيْرَهُ، وَالْعَالِمِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي عَمَلِهِ وَتَعَبُّدَاتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ فَضْلُ عِلْمٍ يُعَلِّمُهُ غَيْرَهُ، أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ قُوَّةٌ يُوصَلُ بِهَا إِلَى فَهْمِ غَيْرِهِ، فَهَذَا كَالْمَاءِ الطَّاهِرِ غَيْرِ الطَّهُورِ، وَالَّذِي قَبْلَهُ كَالطَّهُورِ

= وَالْقِسْمُ الْآخَرُ الَّذِي لَيْسَ بِكَامِلٍ وَلَا مُكَمِّلٍ، هُوَ كَالْمَاءِ النَّجِسِ الَّذِي لَا هُوَ طَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ، وَقَدْ سُلِبَ صِفَتَيِ الطَّهَارَةِ وَالطَّهُورِيَّةِ، فَهُوَ كَالْفَاسِقِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ عَدْلًا، وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَتُهُ لِمَنْ يُرِيدُ التَّعْدِيلَ، وَكَالْكَافِرِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ، وَلَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِخَيْرٍ.

إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَكَمَالُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ، وَهُوَ مُتَفَاوِتٌ فِي مَرَاتِبِهِ، فَكَمَالُ الْمُحْدَثِ دُونَ كَمَالِ الْقَدِيمِ، وَكَمَالُ الْعَرَضِ دُونَ كَمَالِ الْجَوْهَرِ، وَكَمَالُ الْجَمَادِ دُونَ كَمَالِ النَّامِي، وَكَمَالُ النَّامِي دُونَ كَمَالِ الْحَسَّاسِ، وَكَمَالُ الْحَسَّاسِ - وَهُوَ الْحَيَاةُ - دُونَ كَمَالِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ يَتَفَاوَتُ الْإِنْسَانُ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ بِحَسَبِ الْمَعَانِي وَالصِّفَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفَاوُتِ، فَلِهَذَا قَالَ: «وَالرَّسُولِ الْمُكَمِّلِ الْأَكْمَلِ» : أَيِ الْمُكَمِّلِ لِغَيْرِهِ بِالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَالدُّعَاءِ إِلَى سُبُلِ الرَّشَادِ، الْأَكْمَلِ مِنْ جَمِيعِ أَشْخَاصِ نَوْعِهِ وَغَيْرِهِ، فَالْكَامِلُ مِنْهُمْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي مُطْلَقِ الْكَمَالِ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِرُتْبَةِ الْأَكْمَلِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ: «الَّذِي خَتَمَ النُّبُوَّةَ وَأَكْمَلَ» هَذَا وَصْفٌ لِلرَّسُولِ بِأَنَّهُ خَتَمَ النُّبُوَّةَ وَأَكْمَلَهَا، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كَرَجُلٍ بَنَى دَارًا، فَأَكْمَلَهَا وَأَحْسَنَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قَوْلُهُ: «وَمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ» .

 هَذَا عَطْفٌ عَلَى النَّبِيِّ الْأَفْضَلِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْبَاءِ، تَقْدِيرُهُ: وَأَنْ تُلْحِقَنِي بِالنَّبِيِّ وَبِمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، مِمَّنْ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَالْقِيَامَ بِأَمْرِهِ.

 ______________

وَأَسْأَلُكَ التَّسْدِيدَ فِي تَأْلِيفِ كِتَابٍ فِي الْأُصُولِ. حَجْمُهُ يَقْصُرُ وَعِلْمُهُ يَطُولُ. مُتَضَمِّنٌ مَا فِي الرَّوْضَةِ الْقُدَامِيَّةِ، الصَّادِرَةِ عَنِ الصِّنَاعَةِ الْمَقْدِسِيَّةِ. غَيْرَ خَالٍ مِنْ فَوَائِدَ زَوَائِدَ، وَشَوَارِدَ فَرَائِدَ، فِي الْمَتْنِ وَالدَّلِيلِ، وَالْخِلَافِ وَالتَّعْلِيلِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَأَسْأَلُكَ التَّسْدِيدَ» هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: «أَحْمَدُكَ» ، أَيْ أَحْمَدُكَ وَأَسْأَلُكَ التَّسْدِيدَ، وَهُوَ التَّوْفِيقُ لِلسَّدَادِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَمِنْهُ تَسْدِيدُ السَّهْمِ إِلَى الْغَرَضِ، أَيْ: تَصْوِيبُهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ السَّدَادِ وَالسَّدَدِ وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ. وَالسَّهْمُ وَالرُّمْحُ الْمُسَدَّدُ: الْمُقَوَّمُ، وَرَأْيٌ سَدِيدٌ: صَائِبٌ مُسْتَقِيمٌ.

قَوْلُهُ: «فِي تَأْلِيفِ كِتَابٍ فِي الْأُصُولِ» التَّأْلِيفُ: تَفْعِيلُ مِنْ أَلِفَ الشَّيْءُ الشَّيْءَ، وَالطَّائِرُ الْوَكْرَ، إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا، وَتَأْلِيفُ الْكِتَابِ: ضَمُّ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ حُرُوفًا وَكَلِمَاتٍ وَأَحْكَامًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْزَاءِ، وَالْكِتَابُ: فِعَالُ مِنَ الْكَتْبِ، وَهُوَ الْجَمْعُ، يُقَالُ: كَتَبْتَ الْقِرْبَةَ: إِذَا خَرَزْتَهَا، وَالْكُتْبَةُ - بِضَمِّ الْكَافِ وَسُكُونِ التَّاءِ: الْخَرَزَةُ، وَكَتَبْتُ الْبَغْلَةَ: جَمَعْتُ بَيْنَ شُفْرَيْهَا بِحَلْقَةٍ، وَكَتَبْتُ النَّاقَةَ: صَرَرْتُهَا، وَتَكَتَّبَتِ الْخَيْلُ: تَجَمَّعَتْ، وَالْكَتِيبَةُ: جَمَاعَةُ الْخَيْلِ.

وَالْأُصُولُ: جَمْعُ أَصْلٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: «حَجْمُهُ» أَيْ حَجْمُ الْكِتَابِ الْمُؤَلَّفِ «يَقْصُرُ» ، أَيْ: يَقِلُّ وَيَسْهُلُ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ لَفْظَ الْقِصَرِ مُقَابَلَةً لِقَوْلِهِ: «وَعِلْمُهُ يَطُولُ» فَإِنَّ الطِّبَاقَ يُحَسِّنُ الْكَلَامَ، وَهُوَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ، وَحَجْمُ الشَّيْءِ: نُتُوُّهُ، يُقَالُ: لِمَرْفَقِهِ حَجْمٌ، أَيْ: نُتُوٌّ، وَالْمُرَادُ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ ثَخَانَتُهُ، وَهُوَ بُعْدُ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ سِوَارَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ

كَثِيرُ الْمَعْنَى، قَلِيلُ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْإِيجَازُ الْمُسْتَحْسَنُ، إِذْ خَيْرُ الْكَلَامِ مَا قَلَّ وَدَلَّ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الِاخْتِصَارِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِي الْكَلَامُ اخْتِصَارًا أَيْ أُوتِيتُ الْمَعَانِيَ الْكَثِيرَةَ الْجَلِيلَةَ فِي الْأَلْفَاظِ الْيَسِيرَةِ الْقَلِيلَةِ، وَأَصْلُ الِاخْتِصَارِ: هُوَ مِنْ خَصْرِ الْإِنْسَانِ: وَهُوَ مَا اسْتَدَقَّ فَوْقَ مَتْنِهِ، أَوْ مِنَ اخْتِصَارِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ سُلُوكُ أَقْرَبِهِ، وَخُصُورِ الرَّمْلِ: مَا اسْتَدَقَّ مِنْهُ وَاطْمَأَنَّ، فَسُلُوكُهُ أَقْرَبُ.

قَوْلُهُ: «مُتَضَمِّنٍ» هُوَ مَجْرُورٌ صِفَةً لِكِتَابٍ، أَيْ فِي تَأْلِيفِ كِتَابٍ مُتَضَمِّنٍ، أَيْ: فِي ضِمْنِهِ، أَيْ بَاطِنِهِ، «مَا فِي الرَّوْضَةِ الْقُدَامِيَّةِ، الصَّادِرَةِ عَنِ الصِّنَاعَةِ الْمَقْدِسِيَّةِ» يَعْنِي كِتَابَ «الرَّوْضَةِ» ، تَأْلِيفِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْعَلَّامَةِ مُوَفَّقِ الدِّينِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قُدَامَةَ الْمَقْدِسِيِّ، فَالْقُدَامِيَّةُ نِسْبَةٌ إِلَى جَدِّهِ، وَبِهِ يُعْرَفُ نَسَبًا، لِأَنَّهُ أَشْهَرُ آبَائِهِ وَأَعْرَفُهَا لَفْظًا، فَهُوَ إِذَا نُسِبَ إِلَى الْأَبِ قِيلَ: ابْنُ قُدَامَةَ، وَإِذَا نُسِبَ إِلَى الْبَلَدِ قِيلَ: الْمَقْدِسِيُّ، فَوَقَعَتِ النِّسْبَةُ هَاهُنَا إِلَيْهِمَا.

وَالصَّادِرَةُ: النَّاشِئَةُ، وَمَصْدَرُ الشَّيْءِ مَبْدَؤُهُ وَمَنْشَؤُهُ.

وَالصِّنَاعَةُ: مَلَكَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ يَصْدُرُ عَنْهَا آثَارٌ عِلَاجِيَّةٌ لِإِفَادَةِ كَمَالٍ فِي مَحِلٍّ،

وَاسْتِعْمَالُ الصِّنَاعَةِ فِي الْعُلُومِ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بِاعْتِبَارِ الْمُبَادَرَةِ الذِّهْنِيَّةِ وَالِاسْتِعْمَالِ الْعَامِّ لِمَا تَضَمَّنَ عِلَاجًا بَدَنِيًّا كَالنِّجَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ.

قَوْلُهُ: «غَيْرَ خَالٍ مِنْ فَوَائِدَ زَوَائِدَ» غَيْرَ مَنْصُوبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ كِتَابٍ فِي قَوْلِهِ: تَأْلِيفِ كِتَابٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ نَكِرَةً إِلَّا أَنَّهُ وُصِفَ بِصِفَاتٍ خَصَّصَتْهُ حَتَّى قَارَبَ الْمَعْرِفَةَ جِدًّا، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ تَأْلِيفٌ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ دَلَّ عَلَى فِعْلِهِ، وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ وَأَسْلَمُ أَنْ تَكُونَ «غَيْرَ» صِفَةً لِكِتَابٍ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ التَّأْلِيفَ مَصْدَرٌ مُقَدَّرٌ بِأَنْ وَالْفِعْلِ.

وَكِتَابٌ حَقُّهُ النَّصْبُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: أَسْأَلُكَ التَّسْدِيدَ فِي أَنْ أُؤَلِّفَ كِتَابًا غَيْرَ خَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «غَيْرَ» مَجْرُورَةً نَعْتًا لِكِتَابٍ عَلَى اللَّفْظِ، وَالنَّصْبُ الْمُخْتَارُ نَعْتًا عَلَى الْمَحَلِّ.

وَالْفَوَائِدُ: جَمْعُ فَائِدَةٍ، وَهِيَ فَاعِلَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْفُؤَادِ، لِأَنَّهَا تُرَدُّ عَلَيْهِ اسْتِفَادَةً، وَتَصْدُرُ عَنْهُ إِفَادَةً، أَعْنِي أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْقِلُ مَا يَسْتَفِيدُهُ بِفُؤَادِهِ، وَالْمُرَادُ قَلْبُهُ الَّذِي يُشْرِقُ عَلَيْهِ نُورُ عَقْلِهِ، أَوْ هُوَ مَحِلُّ عَقْلِهِ عَلَى خِلَافٍ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَيَصْدُرُ مَا يُفِيدُهُ غَيْرُهُ عَنْ فُؤَادِهِ أَيْضًا، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الْأَحْقَافِ: 26] يَعْنِي يَفْهَمُونَ بِهَا. وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النَّحْلِ: 78] ، أَيْ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ قَدْرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْكُمْ، فَتَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا.

وَزَوَائِدُ: جَمْعُ زَائِدَةٍ، أَيْ: فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَمَّا فِي «الرَّوْضَةِ» الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمُخْتَصَرِ.

قَوْلُهُ: «وَشَوَارِدَ فَرَائِدَ» هُوَ جَمْعُ شَارِدَةٍ، أَيْ: فَائِدَةٌ أَوْ نُكْتَةٌ شَارِدَةٌ يَعْنِي خَارِجَةً عَنِ الرَّوْضَةِ لَيْسَتْ فِيهَا، أَوْ عَنْ فَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ مُؤَلِّفِي الْكُتُبِ، وَالنَّاسُ لَمْ يَنْتَبِهُوا لَهَا، يُقَالُ: شَرَدَ الْبَعِيرُ وَالنَّاقَةُ: إِذَا نَفَرَا، وَالشَّرِيدُ الطَّرِيدُ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْخُرُوجِ، وَهَذَا مُسْتَعَارٌ مِنْ ذَلِكَ.

وَالْفَرَائِدُ: جَمْعُ فَرِيدَةٍ، أَيْ: مُنْفَرِدَةٌ بِالْحُسْنِ فِي بَابِهَا.

قَوْلُهُ: «فِي الْمَتْنِ وَالدَّلِيلِ، وَالْخِلَافِ وَالتَّعْلِيلِ» هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: زَوَائِدَ، أَيْ هَذِهِ الزَّوَائِدُ هِيَ تَارَةً فِي الْمَتْنِ أَعْنِي الْمَسَائِلَ الْمُسْتَدَلَّ عَلَيْهَا، وَتَارَةً فِي الدَّلِيلِ عَلَى الْأَحْكَامِ، وَتَارَةً فِي نَقْلِ الْخِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ، وَتَارَةً فِي تَعْلِيلِهَا، أَيْ: تَقْرِيرِ عِلَلِهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَالتَّعْلِيلُ أَخَصُّ مِنَ الدَّلِيلِ، إِذْ كُلُّ تَعْلِيلٍ دَلِيلٌ، وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ تَعْلِيلًا، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ وَجْهَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ بَيْنَهُمَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذِكْرَ التَّعْلِيلِ مَعَ الدَّلِيلِ تَكْرَارٌ.

وَالْمَتْنُ فِي الْأَصْلِ الْجِسْمُ، وَمَتْنَا الظَّهْرِ: مُكْتَنِفَا الصُّلْبِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ مِنْ عَصَبٍ وَلَحْمٍ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي الْكَلَامِ الْمَرْوِيِّ بِالْإِسْنَادِ وَقَابَلُوا بَيْنَهُمَا، فَقَالُوا: الْمَتْنُ وَالْإِسْنَادُ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَتْنِ الْحَيَوَانِ أَنَّهُ لَا ثُبُوتَ لِلْحَدِيثِ بِدُونِ مَتْنِهِ، كَمَا لَا ثُبُوتَ لِلْحَيَوَانِ بِدُونِ مَتْنِهِ، وَاسْتَعْمَلْتُهُ أَنَا هَاهُنَا فِيمَا ذَكَرْتُ، لِأَنَّ نِسْبَةَ حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى دَلِيلِهَا نِسْبَةُ لَفْظِ الْحَدِيثِ إِلَى إِسْنَادِهِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَلِيلِهِ، كَمَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِإِسْنَادِهِ. _________________

مَعَ تَقْرِيبِ الْإِفْهَامِ عَلَى الْأَفْهَامِ، وَإِزَالَةِ اللَّبْسِ عَنْهُ مَعَ الْإِبْهَامِ. حَاوِيًا لِأَكْثَرَ مِنْ عِلْمِهِ، فِي دُونِ شَطْرِ حَجْمِهِ، مُقِرًّا لَهُ غَالِبًا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ إِلَى قَلْبِي بِحَبِيبٍ وَلَا قَرِيبٍ. سَائِلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وُفُورَ النَّصِيبِ، مِنْ جَمِيلِ الْأَجْرِ، وَجَزِيلِ الثَّوَابِ، وَدُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ، وَثَنَاءٍ مُسْتَطَابٍ، اللَّهُمَّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «مَعَ تَقْرِيبِ الْإِفْهَامِ» هُوَ مَكْسُورُ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ التَّفْهِيمُ أَيْضًا، يُقَالُ: أَفْهَمْتُهُ إِفْهَامًا، وَفَهَّمْتُهُ تَفْهِيمًا، فَهُمَا مَصْدَرَانِ لِفِعْلَيْنِ مِنَ الْمَادَّةِ، كَالْإِكْرَامِ وَالتَّكْرِيمِ، غَيْرَ أَنَّ التَّفْهِيمَ وَالتَّكْرِيمَ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ وَالتَّكْرِيرَ عَلَى الْأَفْهَامِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ فَهْمٍ، وَهُوَ الْقُوَّةُ الَّتِي يُدْرَكُ بِهَا مَعْنَى الْكَلَامِ، وَالْمَعْنَى: أَنِّي مَعَ اخْتِصَارِ الْكِتَابِ لَفْظًا وَالزِّيَادَةِ فِيهِ مَعْنًى، قَرَّبْتُهُ عَلَى الْأَفْهَامِ بِتَسْهِيلِ أَلْفَاظِهِ وَوَضْعِهَا مَوَاضِعَهَا، بِحَيْثُ إِنَّ مَنْ سَمِعَ ظَوَاهِرَ أَلْفَاظِهِ مُطْلَقًا أَوْ غَالِبًا، فَهِمَ بَاطِنَ مَعَانِيهِ، وَرُبَّ عِبَارَةٍ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، بَلْ يُحْتَاجُ فِي تَنْزِيلِهَا عَلَى الْمُرَادِ إِلَى تَكَلُّفٍ وَتَعَسُّفٍ، وَهَذَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: «وَإِزَالَةِ الْإِبْهَامِ» بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ أَسْفَلَ، وَفِيهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ لَبْسٌ، لَكِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْقَرِينَةُ وَسِيَاقُ الْكَلَامِ زَائِلٌ. أَمَّا وَجْهُ اللَّبْسِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: «مَعَ الْإِبْهَامِ» يُحْتَمَلُ أَنِّي أَزَلْتُ اللَّبْسَ وَالْإِبْهَامَ فَاصْطَحَبَا فِي الزَّوَالِ عَنِ الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ، وَعَلَيْهِ دَلَّ سِيَاقُ

 الْكَلَامِ وَقَرِينَتُهُ، لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالتَّقْرِيبِ وَالظُّهُورِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِذَلِكَ.

وَيُحْتَمَلُ أَنِّي أَلَّفْتُ الْكِتَابَ مَعَ الْإِبْهَامِ، فَيَكُونُ الِاصْطِحَابُ بَيْنَ التَّأْلِيفِ وَالْإِبْهَامِ فِي الْوُقُوعِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مُرَادًا، لِأَنَّهُ يُنَافِي سِيَاقَ الْكَلَامِ، وَيُنَاقِضُ قَوْلَهُ: «مَعَ تَقْرِيبِ الْإِفْهَامِ عَلَى الْأَفْهَامِ» وَأَمَّا زَوَالُ اللَّبْسِ مِنْ حَيْثُ الْقَرِينَةُ فَبِمَا ذَكَرْتُهُ.

وَالْإِبْهَامُ: هُوَ اشْتِبَاهُ جِهَاتِ الْحَقِّ، فَلَا تُعْلَمُ عَيْنُ جِهَتِهِ يُقَالُ: أَمْرٌ مُبْهَمٌ: لَا يُدْرَى مَا وَجْهُهُ.

قَوْلُهُ: «حَاوِيًا لِأَكْثَرَ مِنْ عِلْمِهِ» أَيْ لِأَكْثَرَ مِنْ عِلْمِ كِتَابِ «الرَّوْضَةِ» «فِي دُونِ شَطْرِ حَجْمِهِ» أَيْ: نِصْفُ مِقْدَارِهِ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ مَعْرُوفٌ بِالْعِيَانِ لِمَنْ قَابَلَ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ. وَ «حَاوِيًا» : مَنْصُوبٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ: «غَيْرَ خَالٍ» وَيَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فِيهِ.

قَوْلُهُ: «مُقِرًّا لَهُ غَالِبًا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ إِلَى قَلْبِي بِحَبِيبٍ وَلَا قَرِيبٍ» مُقِرًّا: فِي إِعْرَابِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي «غَيْرَ خَالٍ» .

وَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَنَّ غَالِبَ تَرْتِيبِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ فِي «الرَّوْضَةِ» أَقْرَرْتُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَمْ أُغَيِّرْهُ، وَإِنْ كَانَ تَرْتِيبُهُ لَيْسَ بِحَبِيبٍ إِلَيَّ، وَلَا قَرِيبٍ إِلَى قَلْبِي، لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنِّي مُخْتَصِرٌ لِكِتَابِهِ، وَحَقِيقَةُ الِاخْتِصَارِ: هُوَ ذِكْرُ جَمِيعِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَتَغْيِيرُ التَّرْتِيبِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، غَيْرَ أَنِّي تَصَرَّفْتُ فِي تَرْتِيبِهِ تَصَرُّفًا مَا، بِحَسَبِ مَا يَنْبَغِي وَيَقْرُبُ عَلَى الْفَهْمِ.

فَمِنْ ذَلِكَ تَقْدِيمُ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلَهُ، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى فُصُولٍ هِيَ كُلِّيَّاتٌ لِلْكِتَابِ، أَوْ كَالْكُلِّيَّاتِ، وَتَقْدِيمُ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ مَعْلُومُ الْحُسْنِ بِمُنَاسَبَةِ الْعَقْلِ، لِأَنَّ الْكُلِّيَّاتِ هِيَ قَوَاعِدُ يُرَدُّ إِلَيْهَا، وَيَنْبَنِي عَلَيْهَا جُزْئِيَّاتُ الْعِلْمِ الْمُتَكَلَّمِ  فِيهِ.

وَوَجْهُ عَدَمِ مَحَبَّتِي لِتَرْتِيبِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَقُرْبِهِ مِنْ قَلْبِي أَنَّهُ رَتَّبَ كِتَابَهُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ، هَكَذَا: حَقِيقَةُ الْحُكْمِ وَأَقْسَامِهِ، ثُمَّ تَفْصِيلُ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ، ثُمَّ بَيَانُ الْأُصُولِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا، ثُمَّ تَقَاسِيمُ الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْعُمُومُ وَالِاسْتِثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ، وَنَحْوِهِ، ثُمَّ الْقِيَاسُ، ثُمَّ حُكْمُ الْمُجْتَهِدِ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ.

وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ تَقْدِيمَ تَقَاسِيمِ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ الْكَلَامُ فِي اللُّغَاتِ لِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ خِطَابِ الشَّرْعِ عَلَى فَهْمِهَا، لِوُرُودِهِ بِهَا، لَكِنَّ الْعُذْرَ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَنْ هَذَا أَنَّهُ تَابِعٌ فِي كِتَابِهِ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الْغَزَالِيَّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» حَتَّى فِي إِثْبَاتِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ فِي أَوَّلِهِ، وَحَتَّى قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ رَأَى الْكِتَابَيْنِ: إِنَّ «الرَّوْضَةَ» مُخْتَصَرُ «الْمُسْتَصْفَى» وَيَظْهَرُ ذَلِكَ قَطْعًا فِي إِثْبَاتِهِ الْمُقَدِّمَةَ الْمَنْطِقِيَّةَ، مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْ مُتَابَعَتِهِ عَلَى ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنْ نُصُوصِ أَلْفَاظِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ.

فَأَقُولُ: إِنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ الْتَقَطَ أَبْوَابَ «الْمُسْتَصْفَى» ، فَتَصَرَّفَ فِيهَا بِحَسَبِ رَأْيِهِ، وَأَثْبَتَهَا، وَبَنَى كِتَابَهُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَرَ الْحَاجَةَ مَاسَّةً إِلَى مَا اعْتَنَى بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ مِنْ دَرْجِ الْأَبْوَابِ تَحْتَ أَقْطَابِ الْكِتَابِ، أَوْ أَنَّهُ أَحَبَّ ظُهُورَ الِامْتِيَازِ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ بِاخْتِلَافِ التَّرْتِيبِ، لِئَلَّا يَصِيرَ مُخْتَصِرًا لِكِتَابِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَصْنَعُ كِتَابًا مُسْتَقِلًّا فِي غَيْرِ الْمَذْهَبِ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ أَبُو حَامِدٍ كِتَابَهُ، لِأَنَّ أَبَا حَامِدٍ أَشْعَرِيٌّ شَافِعِيٌّ، وَأَبُو مُحَمَّدٍ حَنْبَلِيٌّ أَثَرِيٌّ، وَهُوَ طَرِيقَةُ الْحُكَمَاءِ الْأَوَائِلِ وَغَيْرِهِمْ، لَا تَكَادُ تَجِدُ لَهُمْ كِتَابًا فِي طِبٍّ أَوْ فَلْسَفَةٍ إِلَّا وَقَدْ ضُبِطَتْ مَقَالَاتُهُ وَأَبْوَابُهُ فِي أَوَّلِهِ، بِحَيْثُ يَقِفُ النَّاظِرُ الذَّكِيُّ مِنْ مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا فِي أَثْنَائِهِ مِنْ تَفَاصِيلِهِ.

 أَبُو حَامِدٍ الْمَنْهَجُ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ دَائِرًا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْطَابٍ:

الْأَوَّلُ: فِي الْأَحْكَامِ وَالْبِدَايَةِ بِهَا، لِأَنَّهَا الثَّمَرَةُ الْمَطْلُوبَةُ.

وَالثَّانِي: فِي الْأَدِلَّةِ الْمُثْمِرَةِ لِلْأَحْكَامِ، إِذْ لَيْسَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَرَةِ أَهَمُّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُثْمِرِ.

الثَّالِثُ: فِي طَرِيقِ الِاسْتِثْمَارِ، وَهُوَ بَيَانُ وَجْهِ دَلَالَةٍ عَلَى الْأَحْكَامِ فِي الْمَنْطُوقِ وَغَيْرِهِ.

الرَّابِعُ: فِي الْمُسْتَثْمِرِ، وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَخْرِجُ لِلْحُكْمِ مِنَ الدَّلِيلِ.

وَلَمَّا كَانَ الْمُقَلِّدُ يُقَابِلُهُ، وَجَبَ بَيَانُ حُكْمِهِ عِنْدَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ انْدِرَاجِ تَفَاصِيلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَعَ كَثْرَتِهَا تَحْتَ هَذِهِ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ بَيَانًا ثَانِيًا أَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَهُوَ وَاضِحٌ ظَاهِرٌ، وَلَمْ أَذْكُرْهُ لِطُولِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ بَيَانًا ثَالِثًا عَلَى عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ فِي اسْتِيفَاءِ التَّفْصِيلِ.

وَقَدْ يُورِدُ عَلَى أَبِي حَامِدٍ فِي تَرْتِيبِهِ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ الْأَدِلَّةَ، ثُمَّ الْأَحْكَامَ، ثُمَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ، ثُمَّ أَحْكَامَ الْمُجْتَهِدِينَ، لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الْوُجُودِيَّ فِي اجْتِنَاءِ الْأَثْمَارِ مِنَ الْأَشْجَارِ الَّذِي جَعَلَهُ نَظِيرًا لِاسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْأَدِلَّةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الشَّجَرَةَ قَبْلَ الثَّمَرَةِ، ثُمَّ إِذَا وُجِدَتِ الثَّمَرَةُ تَوَصَّلَ الْمُجْتَنِي إِلَى تَحْصِيلِهَا، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَامِدٍ قَدْ نَبَّهَ عَلَى جَوَابِ هَذَا بِقَوْلِهِ: لِأَنَّهَا الثَّمَرَةُ الْمَطْلُوبَةُ، إِشَارَةً إِلَى تَقْدِيمِ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ الْأَدِلَّةُ وَوَجْهُ 

وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ فَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِعِلْمِ الْأُصُولِ، بَلْ هِيَ آلَةٌ لِكُلِّ عِلْمٍ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ كَالْعِلَاوَةِ أَلْحَقَهَا بَعْضُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ بِهِ لِشِدَّةِ الْفَهْمِ لَهُ، وَالْفِطَامُ عَنِ الْمَأْلُوفِ شَدِيدٌ، وَلِذَلِكَ كُلُّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ عِلْمٌ وَأَلِفَهُ، مَزَجَ بِهِ سَائِرَ عُلُومِهِ، يُعْرَفُ ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءِ تَصَانِيفِ النَّاسِ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ كَانَ فِي كِتَابِهِ مُتَابِعًا لِأَبِي حَامِدٍ، لِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا مُحَمَّدٍ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا مَنْطِقِيًّا حَتَّى يُقَالَ: غَلَبَ عَلَيْهِ عِلْمُهُ الْمَأْلُوفُ، فَلَمَّا أَلْحَقَ الْمُقَدِّمَةَ بِكِتَابِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِمَحْضِ الْمُتَابَعَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا الثِّقَاتُ أَنَّ الشَّيْخَ إِسْحَاقَ الْعَلْثِيَّ عَاتَبَ أَبَا مُحَمَّدٍ فِي إِلْحَاقِهِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ، فَأَسْقَطَهَا مِنَ «الرَّوْضَةِ» بَعْدَ أَنِ انْتَشَرَتْ بَيْنَ النَّاسِ فَلِهَذَا تُوجَدُ فِي نُسْخَةٍ دُونَ نُسْخَةٍ، فَتَرْكِي لِاخْتِصَارِهَا فِي جُمْلَةِ الْكِتَابِ كَانَ لِأُمُورٍ:

أَحَدُهَا: مَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ رُجُوعِهِ.

وَالثَّانِي: أَنَّ النُّسْخَةَ الَّتِي اخْتَصَرْتُ مِنْهَا لَمْ تَكُنِ الْمُقَدِّمَةُ فِيهَا.

وَالثَّالِثُ: وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ أَنِّي أَنَا لَا أُحَقِّقُ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَلَا الشَّيْخُ أَيْضًا كَانَ يُحَقِّقُهُ، فَلَوِ اخْتَصَرْتُهَا لَظَهَرَ بَيَانُ التَّكْلِيفِ عَلَيْهَا مِنَ الْجِهَتَيْنِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ

الِانْتِفَاعُ بِهَا لِلطَّالِبِ، وَيَقْطَعُ عَلَيْهِ الْوَقْتَ، فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْعِلْمَ فَعَلَيْهِ بِأَخْذِهِ مِنْ مَظَانِّهِ مِنْ شُيُوخِهِ وَكُتُبِهِ، وَإِذَا كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ قَبْلَهُ أَلْحَقَ الْمَنْطِقَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ، اقْتَصَرَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ، وَأَحَالَ مَنْ أَرَادَ الزِّيَادَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى كِتَابَيْهِ: «مِعْيَارِ الْعِلْمِ» وَ «مِحَكِّ النَّظَرِ» فَمَنْ هُوَ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ أَوْلَى بِالْإِحَالَةِ عَلَى كُتُبِ الْفَنِّ، وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا تَابَعَ أَبَا حَامِدٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى إِلْحَاقِ الْمَنْطِقِ بِالْأُصُولِ إِلَّا ابْنَ الْحَاجِبِ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الدِّينِ الَّذِي هُوَ إِمَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْمَنْطِقِ وَالْكَلَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كُتُبِهِ الْأُصُولِيَّةِ شَيْئًا مِنْهُ.

 

وَقَدْ رَتَّبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أُصُولَ الْفِقْهِ تَرْتِيبًا حَسَنًا، فَمِنْهُمُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا حَكَيْنَا عَنْهُ، وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ سَيْفُ الدِّينِ الْآمِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمُنْتَهَى» وَغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ رَتَّبَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ:

الْأَوَّلُ: فِي تَحْقِيقِ مَبَادِئِهِ.

الثَّانِي: فِي الدَّلِيلِ وَأَقْسَامِهِ وَأَحْكَامِهِ.

الثَّالِثُ: فِي أَحْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَفْتِينَ.

الرَّابِعُ: فِي تَرْجِيحَاتِ طُرُقِ الْمَطْلُوبَاتِ.

وَهُوَ تَرْتِيبٌ مُخْتَصَرٌ جَامِعٌ انْتَظَمَ جَمِيعَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، عَلَى مَا فَصَّلَهُ فِي كِتَابِهِ، وَيَقَعُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِنَا تَقْسِيمَ غَيْرِهِ.

وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي «اللُّمَعِ» حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ، فَهِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْفِقْهُ، وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْأَدِلَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ.

وَالْأَدِلَّةُ هَاهُنَا: خِطَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخِطَابُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَفْعَالُهُ وَإِقْرَارُهُ،

وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالْقِيَاسُ، وَالْبَقَاءُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ، وَفُتْيَا الْعَالِمِ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ. وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْأَدِلَّةِ، فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى تَفْصِيلِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَوُجُوبِهَا وَتَرْتِيبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.

وَأَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ: الْكَلَامُ فِي خِطَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخِطَابِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمَا أَصْلٌ لِمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَقْسَامُ الْكَلَامِ، وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ.

ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقْرَارِهِ، لِأَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى أَقْوَالِهِ فِي الْبَيَانِ.

ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْأَخْبَارِ لِأَنَّهَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.

ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُهُ دَلِيلًا بِخِطَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَخِطَابِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَنْهُمَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ.

ثُمَّ الْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُهُ دَلِيلًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَإِلَيْهَا يَسْتَنِدُ.

ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِنَّمَا يُفْزَعُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ.

ثُمَّ نَذْكُرُ فُتْيَا الْعَالِمِ، وَصِفَةَ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ طَرِيقًا لِلْحُكْمِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ.

ثُمَّ نَذْكُرُ الِاجْتِهَادَ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ بِلَفْظِهِ.

وَمِنْهُمُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ فِي «الْمَحْصُولِ» : الْفَصْلُ الْعَاشِرُ فِي ضَبْطِ أَبْوَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ: وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ عِبَارَةٌ عَنْ

مَجْمُوعِ طُرُقِ الْفِقْهِ، وَكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، وَكَيْفِيَّةِ حَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا.

أَمَّا الطُّرُقُ: فَهِيَ إِمَّا عَقْلِيَّةٌ، وَلَا مَجَالَ لَهَا عِنْدَنَا فِي الْأَحْكَامِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ قَالُوا: حُكْمُ الْعَقْلِ فِي الْمَنَافِعِ الْإِبَاحَةُ، وَفِي الْمَضَارِّ التَّحْرِيمُ. أَوْ سَمْعِيَّةٌ، وَهِيَ إِمَّا مَنْصُوصَةٌ أَوْ مُسْتَنْبَطَةٌ.

أَمَّا الْمَنْصُوصَةُ: فَهِيَ إِمَّا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ يَصْدُرُ عَمَّنْ لَا يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَيْهِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَمَجْمُوعُ الْأُمَّةِ، وَالصَّادِرُ عَنِ الرَّسُولِ وَعَنِ الْأُمَّةِ إِمَّا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ لَا يَدُلُّ إِلَّا مَعَ الْقَوْلِ، فَتَكُونُ الدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الدَّلَالَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَالدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِي ذَاتِهَا، وَهِيَ الْأَوَامِرُ وَالْمَنَاهِي. وَإِمَّا فِي عَوَارِضِهَا، إِمَّا بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَهِيَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، أَوْ بِحَسَبِ كَيْفِيَّةِ دَلَالَتِهَا، وَهِيَ الْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ، وَالنَّظَرُ فِي الذَّاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّظَرِ فِي الْعَوَارِضِ، فَلَا جَرَمَ بَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُقَدَّمٌ عَلَى بَابِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ.

ثُمَّ النَّظَرُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ نَظَرٌ فِي مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ نَظَرٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِتِلْكَ الْمُتَعَلِّقَاتِ، وَمُتَعَلِّقُ الشَّيْءِ مُقَدَّمٌ عَلَى النِّسَبِ الْعَارِضَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمُتَعَلِّقِهِ، فَلَا جَرَمَ قُدِّمَ بَابُ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى بَابِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، وَبَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ لَا بُدَّ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ.

ثُمَّ هَذِهِ الدَّلَالَةُ تَارَةً تَرِدُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَتَارَةً لِرَفْعِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَابِ النَّسَخِ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهُ عَلَى بَابِ الْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، وَكَذَا الْقِيَاسُ، ثُمَّ ذَكَرْنَا بَعْدَهُ بَابَ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهَا مَنْ لَمْ يُشَاهِدْ مَنْ صَدَرَتْ عَنْهُ، وَلَا أَهْلَ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا تَصِلُ إِلَيْهِ هَذِهِ الدَّلَالَةُ إِلَّا

بِالنَّقْلِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنِ النَّقْلِ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالنَّقْلِ الَّذِي يُفِيدُ الظَّنَّ، وَهُوَ بَابُ الْأَخْبَارِ.

وَهَذِهِ جُمْلَةُ أَبْوَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ بِحَسَبِ الدَّلَائِلِ الْمَنْصُوصَةِ.

وَلَمَّا كَانَ التَّمَسُّكُ بِالْمَنْصُوصَاتِ إِنَّمَا يُمْكِنُ بِوَاسِطَةِ اللُّغَاتِ وَجَبَ تَقْدِيمُ بَابِ اللُّغَاتِ عَلَى الْكُلِّ.

وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْمُسْتَنْبَطُ فَهُوَ الْقِيَاسُ.

فَهَذِهِ أَبْوَابُ طُرُقِ الْفِقْهِ.

أَمَّا أَبْوَابُ كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، فَهُوَ بَابُ التَّرْجِيحِ.

وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ حَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا، فَالَّذِي يَنْزِلُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، إِنْ كَانَ عَالِمًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ بَابُ شَرَائِطِ الِاجْتِهَادِ وَأَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاسْتِفْتَاءِ، وَهُوَ بَابُ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي.

ثُمَّ نَخْتِمُ الْأَبْوَابَ بِذِكْرِ أُمُورٍ اخْتَلَفَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي كَوْنِهَا طُرُقًا إِلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

فَهَذِهِ مَجْمُوعُ أَبْوَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ: أَوَّلُهَا اللُّغَاتُ، ثُمَّ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، ثُمَّ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ، ثُمَّ الْمُجْمَلُ وَالْمُبَيَّنُ، ثُمَّ الْأَفْعَالُ، ثُمَّ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ، ثُمَّ الْأَخْبَارُ، ثُمَّ الْقِيَاسُ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ، ثُمَّ الِاجْتِهَادُ، ثُمَّ الِاسْتِفْتَاءُ، ثُمَّ الْأُمُورُ الْمُخْتَلَفُ فِي كَوْنِهَا طُرُقًا لِلْأَحْكَامِ، فَهِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ بَابًا.

هَذَا كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ إِلَّا أَحْرُفًا يَسِيرَةً لَخَّصْتُهَا مِنْهُ.

وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ، لِأَنَّهُ أَدْرَجَهُ فِي كِتَابِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَهَذَا تَقْسِيمٌ وَتَرْتِيبٌ لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.

وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَوْحَدُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ الْمَالِكِيُّ، الْمَعْرُوفُ بِالْقَرَافِيِّ، جَعَلَ كِتَابَهُ «التَّنْقِيحَ» مُشْتَمِلًا عَلَى مِائَةِ فَصْلٍ وَفَصْلَيْنِ يَجْمَعُهَا عِشْرُونَ بَابًا.

الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ، ثُمَّ فِي مَعَانِي الْحُرُوفِ، ثُمَّ فِي تَعَارُضِ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ، ثُمَّ فِي الْأَوَامِرِ، ثُمَّ فِي النَّوَاهِي، ثُمَّ فِي الْعُمُومَاتِ، ثُمَّ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ، ثُمَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، ثُمَّ فِي الشُّرُوطِ، ثُمَّ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، ثُمَّ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ، ثُمَّ فِي الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ، ثُمَّ فِي فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ فِي النَّسْخِ، ثُمَّ فِي الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ فِي الْأَخْبَارِ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ، ثُمَّ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ، ثُمَّ فِي الِاجْتِهَادِ، ثُمَّ فِي أَدِلَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ.

وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّرْتِيبِ قَبْلَهُ وَمُقْتَضَبٌ مِنْهُ، وَهُوَ كَثِيرًا مَا يَأْتَمُّ بِالْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيِّ فِيمَا يَصِحُّ عِنْدَهُ، عَلَى جِهَةِ التَّأَدُّبِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْفَضِيلَةِ.

وَمِنْهُمْ مِنْ مَشَايِخِ أَصْحَابِنَا الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ فِي «الْعُدَّةِ» : الَّذِي نَقُولُ: إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ وَأَدِلَّةَ الشَّرْعِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَصْلٌ، وَمَفْهُومُ أَصْلٍ، وَاسْتِصْحَابُ حَالٍ. وَالْأَصْلُ: ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. وَالْكِتَابُ ضَرْبَانِ: مُجْمَلٌ وَمُفَصَّلٌ. وَالسُّنَّةُ ضَرْبَانِ: مَسْمُوعٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْقُولٌ عَنْهُ.

وَالْكَلَامُ فِي الْمَنْقُولِ، فِي سَنَدِهِ مِنْ حَيْثُ التَّوَاتُرُ وَالْآحَادُ، وَفِي مَتْنِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ إِقْرَارٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْإِجْمَاعُ يُذْكَرُ.

وَمَفْهُومُ الْأَصْلِ: ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: مَفْهُومُ الْخِطَابِ، وَدَلِيلُهُ، وَمَعْنَاهُ. وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ: ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: اسْتِصْحَابُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَالثَّانِي: اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْخِلَافِ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ لَخَّصْتُهُ أَنَا، وَفِي ظَاهِرِ لَفْظِهِ مُنَاقَشَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ: إِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: قَوْلٌ، وَفِعْلٌ، وَإِقْرَارٌ عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ لَا ضَرْبَانِ، فَلَعَلَّهُ جَعَلَ الْإِقْرَارَ نَوْعًا مِنَ الْفِعْلِ، وَجَعَلَهُمَا

جَمِيعًا قَسِيمَ الْقَوْلِ، فَصَارَ تَقْدِيرُهُ: الْمَتْنُ، إِمَّا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُبَاشَرَةٍ، وَإِقْرَارٍ عَلَى مُبَاشَرَةٍ، وَلَا يَسْتَقِيمُ كَلَامُهُ إِلَّا بِهَذَا.

قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ وَأَدِلَّةَ الشَّرْعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا طَرِيقُهُ الْأَقْوَالُ، وَالْآخَرُ: الِاسْتِخْرَاجُ.

فَأَمَّا الْأَقْوَالُ: فَهِيَ النَّصُّ وَالْعُمُومُ وَالظَّاهِرُ وَمَفْهُومُ الْخِطَابِ وَفَحْوَاهُ وَالْإِجْمَاعُ.

وَأَمَّا الِاسْتِخْرَاجُ: فَهُوَ الْقِيَاسُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ أَعَمُّ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيهِ، وَذَلِكَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا.

قَالَ: وَلَمْ أَذْكُرْ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إِذَا لَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَسَأَذْكُرُهُ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْقَاضِي.

وَالضَّبْطُ الَّذِي اخْتَارَهُ وَحَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ كِلَاهُمَا نَاقِصُ ضَبْطٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ.

وَمِنْهُمُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَوْحَدُ نَجْمُ الدِّينِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الصَّيْقَلِ الْحَرَّانَيُّ الْحَنْبَلِيُّ، ضَبَطَ مَقَالَاتِ أُصُولِ الْفِقْهِ ضَبْطًا حَسَنًا مُحَقَّقًا، فَقَالَ:

أُصُولُ الْفِقْهِ: هُوَ الْعِلْمُ بِأَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا إِجْمَالًا لَا تَفْصِيلًا.

وَقَدِ اشْتَمَلَ هَذَا الْحَدُّ عَلَى ذِكْرِ الْعِلْمِ وَالْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا، وَهِيَ أَجْزَاءُ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفْرَدَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَقَالَةٌ، فَاشْتَمَلَ كِتَابُنَا لِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَرْبَعِ مَقَالَاتٍ:

الْمَقَالَةُ الْأُولَى: فِي الْعِلْمِ.

الْمَقَالَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

الْمَقَالَةُ الثَّالِثَةُ: فِي الْأَدِلَّةِ.

الْمَقَالَةُ الرَّابِعَةُ: فِي وُجُوهِ دَلَالَتِهَا.

قَالَ: وَقَدَّمْنَا النَّظَرَ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّهُ كَالتَّمْهِيدِ لِسَائِرِ الْمَقَالَاتِ، لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِي الْعِلْمِ. وَقَدَّمْنَا النَّظَرَ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَدِلَّةِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ يُرَادُ لِلْإِيصَالِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ يُرَادُ لِذَاتِهِ، فَكَانَ تَقْدِيمُ مَا يُرَادُ لِذَاتِهِ عَلَى مَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ أَوْلَى. وَقَدَّمْنَا النَّظَرَ فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى النَّظَرِ فِي وُجُوهِ دَلَالَتِهَا، لِأَنَّهَا حَالَةٌ لِلدَّلِيلِ، فَكَانَ النَّظَرُ فِيمَا لَهُ الْحَالُ مُقَدَّمًا عَلَى النَّظَرِ فِي الْحَالَةِ.

قَالَ: وَالنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْمَقَالَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْصَاءِ مُتَسَرِّبٌ إِلَى جَمِيعِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ.

قُلْتُ: ذَكَرَ هَذَا فِي كِتَابِ «النُّكَتِ وَالْإِشَارَاتِ فِي الْأُصُولِ النَّظَرِيَّاتِ» وَجَدْتُ مِنْهُ إِلَى مَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ.

وَهَذَا الضَّبْطُ وَالتَّقْسِيمُ عَلَى إِجْمَالٍ فِيهِ، شَبِيهٌ فِي التَّلْخِيصِ وَالِاخْتِصَارِ بِضَبْطِ الشَّيْخِ سَيْفِ الدِّينِ الْآمِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ.

هَذَا الَّذِي تَهَيَّأَ لِي الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ ضَبْطِ النَّاسِ لِأُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِيهِ بِمَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَالْكُلُّ مُوصِلٌ إِلَى الْمَقْصُودِ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي أَحْسَنِ الطُّرُقِ إِيصَالًا. وَأَخْصَرُ مَا حَكَيْنَاهُ مِنَ الطُّرُقِ طَرِيقَةُ الْآمِدِيِّ، وَابْنِ الصَّيْقَلِ. وَأَبْيَنُهُ وَأَبْسَطُهُ طَرِيقَةُ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَالْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ.

 

وَلِي فِيهِ طَرِيقَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ جَامِعَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَةِ مَا قَالُوهُ، لَكِنَّ

الْكَيْفِيَّةَ مُتَغَايِرَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ: امْتِثَالُ الْمُكَلَّفِينَ لِأَحْكَامِهَا قَوْلًا وَعَمَلًا.

فَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَهُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الشَّرْعُ، وَمَوْرِدٌ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ الَّذِي يَتَلَقَّاهُ لِيَمْتَثِلَهُ.

ثُمَّ مَوْرِدُ الْحُكْمِ - وَهُوَ الْمُكَلَّفُ - قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا يَسْتَقِلُّ بِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ عَنْ دَلِيلِهِ، فَلَا حَاجَةَ لَهُ إِلَى وَاسِطَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ قَاصِرًا عَنْ ذَلِكَ، وَحُكْمُهُ التَّقْلِيدُ لِلْمُجْتَهِدِ، فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْمُقَلِّدِ وَالشَّرْعِ فِي إِيصَالِ الْحُكْمِ، فَوَجَبَ لِذَلِكَ النَّظَرُ فِي الْحُكْمِ وَدَلِيلِهِ وَمَوْرِدِهِ.

وَهُوَ ضَرْبَانِ: الْمُجْتَهِدُ، وَالْمُقَلِّدُ، وَالنَّظَرُ فِي الْحُكْمِ يَسْتَلْزِمُ النَّظَرَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهِ، وَهِيَ الْحَاكِمُ، وَهُوَ الشَّارِعُ، وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ، لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُجْتَهِدٌ وَلَا مُقَلِّدٌ، وَالْمَحْكُومُ فِيهِ، وَهُوَ الْأَفْعَالُ الْمُتَّصِفَةُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَكَرَاهَةٍ وَحَظْرٍ وَصِحَّةٍ وَفَسَادٍ.

وَالنَّظَرُ فِي الدَّلِيلِ يَسْتَدْعِي النَّظَرَ فِي أَقْسَامِهِ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ وَالِاسْتِصْلَاحُ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا زَادَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَنَقَصُوا.

وَالنَّظَرُ فِي مَوْرِدِ الْحُكْمِ يَسْتَدْعِي الْكَلَامَ فِي الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ مِنْ حَيْثُ هُمَا كَذَلِكَ.

فَهَذَا ضَبْطٌ جَامِعٌ، مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْإِجْمَالِ الْمُخِلِّ وَالْبَيَانِ الْمُمِلِّ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ غَرِيبَةٌ لَا تُوجَدُ إِلَّا هَاهُنَا.

أَمَّا تَرْتِيبُ كِتَابِنَا هَذَا الْمُخْتَصَرِ، فَسَتَرَاهُ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ: «سَائِلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وُفُورَ النَّصِيبِ» أَيْ أَلَّفْتُ هَذَا الْكِتَابَ سَائِلًا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فِي تَأْلِيفِ كِتَابٍ. وُفُورُ النَّصِيبِ: كَمَالُهُ، أَيْ أَنْ يُكْمِلَ

نَصِيبِي «مِنْ جَمِيلِ الْأَجْرِ وَجَزِيلِ الثَّوَابِ» . سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُحْسِنَ لَهُ الْأَجْرَ فِي كَيْفِيَّتِهِ بِكَوْنِهِ جَمِيلًا، وَفِي كَمِّيَّتِهِ بِكَوْنِهِ جَزِيلًا، أَيْ: كَثِيرًا. وَالْأَجْرُ وَالثَّوَابُ وَاحِدٌ، لَكِنْ سَهَّلَ تِكْرَارَهُ اخْتِلَافُ اللَّفْظِ.

قَوْلُهُ: «وَدُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ، وَثَنَاءٍ مُسْتَطَابٍ، اللَّهُمَّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» أَيْ: وُفُورَ النَّصِيبِ مِنْ دُعَاءٍ مُسْتَجَابٍ، وَثَنَاءٍ مُسْتَطَابٍ، أَيْ: يَدْعُو لِي مَنْ رُبَّمَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَيَسْتَجِيبُ اللَّهُ مِنْهُ فِيَّ. وَلَقَدْ طَالَمَا نَظَرْتُ فِي كُتُبِ الْفُضَلَاءِ، فَإِذَا رَأَيْتُ فَائِدَةً مُسْتَغْرَبَةً، أَوْ حَلَّ أَمْرٍ مُشْكِلٍ، أَقْرَأُ لِمُصَنِّفِ الْكِتَابِ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَجْعَلُ لَهُ ثَوَابَهُ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ وُصُولَهُ، فَأَنَا أَرْجُو مِنَ النَّاسِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ.

أَمَّا قَوْلِي: «وَثَنَاءٍ مُسْتَطَابِ» فَلَفْظٌ أَثْبَتُّهُ عِنْدَ اخْتِصَارِ الْكِتَابِ، وَنَفْسِي تَنْفِرُ مِنْهُ، إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي حِينَئِذٍ إِلَّا ثَنَاءُ النَّاسِ، وَذَلِكَ مَحْضُ الرِّيَاءِ الْمَذْمُومِ، وَالَّذِي جَرَّأَنِي عَلَى ذَلِكَ التَّأَسِّي بِصَاحِبِ «الْمُفَصَّلِ» حَيْثُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَنْشَأْتُ هَذَا الْكِتَابَ مُنَاصَحَةً لِمُقْتَنِيهِ، أَرْجُو أَنْ أَجْتَنِيَ مِنْهَا ثَمَرَتَيْ دُعَاءٍ يُسْتَجَابُ وَثَنَاءٍ يُسْتَطَابُ.

وَأَمَّا الْآنَ - وَقْتَ الشَّرْحِ - فَإِنَّهُ خَطَرَ لِي تَخْرِيجُهَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَهُوَ طَلَبُ الثَّنَاءِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لِكَرَمِهِ قَدْ يَشْكُرُ مِنَ الْعَبْدِ مَا هُوَ دُونَ هَذَا، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِهِ، إِذَا عَلِمَ نِيَّتَهُ فِيهِ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. فَإِنْ صَحَّ لِي هَذَا التَّأْوِيلُ مَعَ تَرَاخِي الزَّمَانِ هَذَا التَّرَاخِيَ، وَإِلَّا فَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلَا عَلَى مَنْ كَتَبَ هَذَا الْمُخْتَصَرِ أَنْ يُسْقِطَهَا.

«اللَّهُمَّ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» . خَتَمْتُ الْخُطْبَةَ بِلَفْظِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ تَبَرُّكًا. __________

فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أُصُولُ الْفِقْهِ: أَدِلَّتُهُ، فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا أَصْلًا بَعْدَ ذِكْرِ مُقْدِمَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ: أُصُولُ الْفِقْهِ: أَدِلَّتُهُ ". هَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَعْرِيفِ الْأَصْلِ مِنْ أَنَّهُ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، أَوِ اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْفِقْهَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ مُسْتَنِدٌ فِي وُجُودِهِ إِلَيْهَا، وَلِهَذَا مَزِيدُ تَحْقِيقٍ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

قَوْلُهُ " فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا ": أَيْ عَلَى الْأُصُولِ " أَصْلًا أَصْلًا، بَعْدَ ذِكْرِ مُقَدِّمَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ ".

أَيْ: فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْلًا بَعْدَ أَصْلٍ، عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي الشَّرَفِ لَا فِي الْقُوَّةِ.

فَهِيَ فِي الشَّرَفِ: الْكِتَابُ، ثُمَّ السُّنَّةُ، ثُمَّ الْإِجْمَاعُ، لِأَنَّ الْكِتَابَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهُوَ أَجَلُّ وَأَشْرَفُ وَأَعْظَمُ مِنَ النَّبِيِّ الَّذِي السُّنَّةُ كَلَامُهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِينَ الْإِجْمَاعُ هُوَ اتِّفَاقُهُمْ.

وَأَمَّا فِي الْقُوَّةِ، فَالْإِجْمَاعُ، ثُمَّ الْكِتَابُ، ثُمَّ السُّنَّةُ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ، بِخِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُمَا يُنْسَخَانِ، فَيَجُوزُ أَنَّ الْآيَةَ أَوِ الْخَبَرَ الْمُعَارِضَ لِإِجْمَاعٍ يَكُونُ مَنْسُوخًا.

وَالْكِتَابُ أَقْوَى مِنَ السُّنَّةِ لِأَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ مَحْفُوظُ الْأَلْفَاظِ لَا يَدْخُلُهُ تَبْدِيلُ قَارِئٍ، وَلَا تَحْرِيفُ رَاوٍ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ غَالِبَهَا آحَادٌ، وَالْمُتَوَاتِرُ مِنْهَا غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ أَنَّهُ عَيْنُ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا سِيَّمَا مَعَ تَجْوِيزِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ الرِّوَايَةَ  بِالْمَعْنَى.

وَأَمَّا تَقْدِيمُنَا عَلَى ذَلِكَ مُقَدِّمَةً، فَلِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى أُمُورٍ كُلِّيَّةٍ، فَكَانَ تَقْدِيمُهَا مُنَاسِبًا، وَهِيَ تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهَا، ثُمَّ التَّكْلِيفُ وَمَسَائِلُهُ، ثُمَّ الْأَحْكَامُ وَأَقْسَامُهَا، ثُمَّ اللُّغَاتُ الَّتِي هِيَ كَالْبَابِ لِلْكِتَابِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ.

فَائِدَةٌ: تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ الْمَذْكُورَةُ أَلْفَاظًا يَلِيقُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا:

أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: فَلْنَتَكَلَّمْ، هَذِهِ صِيغَةُ أَمْرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ فِي التَّحْقِيقِ مُتَعَذِّرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَدْعِي آمِرًا وَمَأْمُورًا مُتَغَايِرَيْنِ، كَالْإِخْبَارِ يَسْتَدْعِي مُخْبِرًا وَمُخْبَرًا، وَالضَّرْبِ يَقْتَضِي ضَارِبًا وَمَضْرُوبًا، وَنَحْوُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، لَكِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ التَّقْدِيرِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ أَجْنَبِيٍّ يَأْمُرُهُ بِمَا يُرِيدُ، وَهَذَا مَشْهُورٌ شَائِعٌ فِي أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ وَمَنْ تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِمْ نَظْمًا وَنَثْرًا.

الثَّانِي: قَوْلُهُ: فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا، وَمَعْنَى عَلَى: الِاسْتِعْلَاءُ، وَحَقِيقَتُهُ لَا يَصِحُّ هَاهُنَا، إِذْ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي الْأَجْسَامِ، وَالْكَلَامُ عَرَضٌ، وَالْأُصُولُ الْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا عَرَضٌ أَيْضًا، وَهُوَ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَنَحْوُهَا، فَالِاسْتِعْلَاءُ إِنَّمَا يَصِحُّ هُنَا تَقْدِيرًا، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ لَمَّا كَانَتْ مَوْضِعَ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْعِلْمِ، صَارَ الْكَلَامُ فِيهَا كَالْمُسْتَعْلِي عَلَيْهَا اسْتِعْلَاءَ اللَّوْنِ عَلَى الْجِسْمِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُهُ.

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: أَصْلًا أَصْلًا لِنَصْبِهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَالٌ، أَيْ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا مُرَتَّبَةً أَصْلًا بَعْدَ أَصْلٍ.

الثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمُفْرَدٍ هُوَ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، التَّقْدِيرُ: نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا كَلَامًا مُرَتَّبًا فِي أَصْلٍ بَعْدَ أَصْلٍ، وَحَقِيقَةُ الْأَصْلِ لُغَةً وَعُرْفًا تُذْكَرُ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: " مُقَدِّمَةٍ "، هِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَهِيَ أَوَّلُهُ، لَمْ يَحْكِ الْجَوْهَرِيُّ فِيهَا غَيْرَ الْكَسْرِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي قَادِمَتَيِ الرَّحْلِ مُقَدَّمَةً بِفَتْحِ الدَّالِ، وَهِيَ أَوَّلُهُ مِمَّا يَلِي وَجْهَ الرَّاكِبِ، وَهِيَ مُقَابِلَةٌ آخِرَ الرَّحْلِ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ تَرْجِعُ تَرَاكِيبُهَا إِلَى مَعْنَى الْأَوَّلِيَّةِ، فَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ أَيْضًا أَوَّلُهُ، وَيَجُوزُ فِيهَا كَسْرُ الدَّالِ عَلَى صِيغَةِ الْفَاعِلِ، وَفَتْحُهَا عَلَى صِيغَةِ الْمَفْعُولِ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ صِفَةٌ، ثُمَّ اسْتَعْمَلُوهَا اسْمًا فِي كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ التَّقْدِيمُ نَحْوَ مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ وَالْكِتَابِ، وَمُقَدِّمَةِ الدَّلِيلِ وَالْقِيَاسِ، وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي تُنْتِجُ ذَلِكَ مَعَ قَضِيَّةٍ أُخْرَى، نَحْوَ: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ، وَنَحْوَ ذَلِكَ: كُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ، وَكُلُّ عِبَادَةٍ يُشْتَرَطُ لَهَا النِّيَّةُ، وَنَحْوَ: الْعَالِمُ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ مُحْدَثٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.

الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: " فُصُولٍ ": هُوَ جَمْعُ فَصْلٍ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَصَلَ يَفْصِلُ فَصْلًا، إِذَا قَطَعَ، وَمَادَّةُ " ف ص ل " تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْقَطْعِ وَالْإِبَانَةِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ الْمَذْكُورِ كُلُّ مَا بَيَّنَ وَمَيَّزَ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ وَقَطَعَهُ عَنْهُ، فَمِنْهَا الْفُصُولُ فِي الْكُتُبِ الْمُدَوَّنَةِ، لِأَنَّهَا تُمَيِّزُ جُمَلَ الْكَلَامِ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهَا فُصُولُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي الْحُدُودِ، كَالنَّاطِقِ فِي حَدِّ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِمْ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَالْحَسَّاسُ فِي حَدِّ الْحَيَوَانِ فِي قَوْلِهِمْ: جِسْمٌ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ، وَمِنْهَا يَوْمُ الْفَصْلِ، وَفَصْلُ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ النِّزَاعَ بَيْنَ الْخُصُومِ.


شرح مختصر الروضة

 

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ: وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ. وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ، وَبِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ تَفْصِيلِيٌّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «الْأَوَّلُ» يَعْنِي مِنْ فُصُولِ الْمُقَدِّمَةِ «فِي تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ» .

التَّعْرِيفُ: هُوَ تَصْيِيرُ الشَّيْءِ مَعْرُوفًا بِمَا يُمَيِّزُهُ عَمَّا يُشْتَبَهُ بِهِ بِذِكْرِ جِنْسِهِ وَفَصْلِهِ، أَوْ لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِهِ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، أَوْ شَرْحِ لَفْظِ الْغَرِيبِ بِلَفْظٍ مَشْهُورٍ مَأْلُوفٍ.

مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُنَا: مَا الْإِنْسَانُ؟ فَيُقَالُ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَهُوَ الْحَدُّ التَّامُّ.

وَمِثَالُ الثَّانِي: قَوْلُنَا فِيهِ: حَيَوَانٌ ضَاحِكٌ، أَوْ قَابِلٌ لِصَنْعَةِ الْكِتَابَةِ، وَفِي الْخَمْرِ: إِنَّهُ مَائِعٌ مُزِيلٌ، وَهُوَ رَسْمِيٌّ.

وَمِثَالُ الثَّالِثِ: قَوْلُنَا: مَا الْغَضَنْفَرُ وَالدَّلَهْمَسُ؟ فَيُقَالُ: الْأَسَدُ، وَمَا الرَّحِيقُ وَالسَّلْسَبِيلُ فَيُقَالُ: الْخَمْرُ، وَهُوَ لَفْظِيٌّ.

وَبَاقِي أَحْكَامِ التَّعْرِيفِ مُسْتَوْفًى فِي مَوْضِعِهِ.

وَحَقِيقَةُ التَّعْرِيفِ: هُوَ فِعْلُ الْمُعَرِّفِ، ثُمَّ أُطْلِقَ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى اللَّفْظِ الْمُعَرَّفِ بِهِ مَجَازًا، لِأَنَّهُ أَثَرُ اللَّافِظِ كَمَا أَنَّ التَّعْرِيفَ أَثَرُ الْمُعَرِّفِ، وَالتَّعْرِيفُ أَعَمُّ مِنَ الْحَدِّ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِذِكْرِ لَازِمٍ، أَوْ خَاصَّةٍ، أَوْ لَفْظٍ يَحْصُلُ مَعَهُ الِاطِّرَادُ

وَالِانْعِكَاسُ، وَالْحَدُّ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِجَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الْمَحْدُودِ، فَكُلُّ حَدٍّ تَعْرِيفٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَعْرِيفٍ حَدًّا، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ الذَّاتِيَّاتِ.

قَوْلُهُ: «وَهُوَ» يَعْنِي أُصُولَ الْفِقْهِ، رَدَّ إِلَيْهِ ضَمِيرَ الْمُذَكَّرِ، «مُرَكَّبٌ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إِلَيْهِ» ، فَالْمُضَافُ هُوَ أَصُولُ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ هُوَ الْفِقْهُ.

وَالتَّرْكِيبُ فِي اللُّغَةِ: هُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَمِنْهُ تَرْكِيبُ الْفَصِّ فِي الْخَاتَمِ، وَالنَّصْلِ فِي السَّهْمِ، وَمِنْهُ رُكُوبُ الدَّابَّةِ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا، وَيُلَابِسُهَا.

وَهُوَ فِي الِاصْطِلَاحِ، مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، غَيْرَ أَنَّ التَّرَاكِيبَ فِيمَا يَظْهَرُ أَخَصُّ مِنَ التَّأْلِيفِ، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَلِفَ فُلَانٌ فُلَانًا، وَأَلِفَ الطَّائِرُ وَكْرَهُ يَأْلَفُهُ أَلَفًا، إِذَا لَازَمَهُ وَلَمْ يُؤْثِرْ مُفَارَقَتَهُ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِانْضِمَامَ وَالْمُلَابَسَةَ، بَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْمُقَارَبَةِ، بِخِلَافِ التَّرْكِيبِ، فَإِنَّهُ تَفْعِيلٌ مِنَ الرُّكُوبِ وَالْمُمَاسَّةِ، وَالْمُلَابَسَةُ فِيهِ لَازِمَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَأَمَّا الْإِضَافَةُ، فِيهِ فِي اللُّغَةِ: الْإِمَالَةُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: أَضَفْتُ الشَّيْءَ إِلَى الشَّيْءِ، أَيْ: أَمَلْتُهُ.

قُلْتُ: وَبَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ يَقُولُ: الْإِضَافَةُ الْإِسْنَادُ، وَمِنْهُ أَضَفْتُ ظَهْرِي إِلَى الْحَائِطِ، أَيْ: أَسْنَدْتُهُ، وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:

فَلَمَّا دَخَلْنَاهُ أَضَفْنَا ظُهُورَنَا ... إِلَى كُلِّ حَارِيٍّ قَشِيبٍ مُشَطَّبِ

يَعْنِي أَسْنَدْنَا، وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ مَعْنَى الْإِمَالَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِسْنَادَ أَخَصُّ، فَكُلُّ مُسْنَدٍ مُمَالٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مُمَالٍ مُسْنَدًا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مُشَاهَدٌ.

فَعَلَى الْأَوَّلِ: اللَّفْظُ الْمُضَافُ يَمِيلُ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، لِيُعَرِّفَهُ أَوْ يُخَصِّصَهُ، إِذْ ذَلِكَ فَائِدَةُ الْإِضَافَةِ، أَعْنِي التَّعْرِيفَ، نَحْوَ: غُلَامُ زِيدٍ، أَوِ التَّخْصِيصَ، نَحْوَ: غُلَامُ رَجُلٍ، فَغُلَامٌ تُعَرَّفُ فِي الْأَوَّلِ بِزَيْدٍ، وَتُخَصَّصُ فِي الثَّانِي بِرَجُلٍ عَنْ أَنْ يَكُونَ غُلَامَ امْرَأَةٍ.

وَعَلَى الثَّانِي: اللَّفْظُ الْمُضَافُ يُسْنِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي تَعْرِيفِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ، وَقَدْ حَصَلَ فِي الْإِضَافَةِ اللَّفْظِيَّةِ الضَّمُّ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ التَّرْكِيبِ، لِأَنَّ الْمُضَافَ مَضْمُومٌ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ لِفَائِدَةِ الْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَوْلُهُ: «وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ، وَبِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ تَفْصِيلِيٌّ» يَعْنِي مَا كَانَ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ مُرَكَّبًا تَرْكِيبَ إِضَافَةٍ، كَقَوْلِنَا: أُصُولُ الْفِقْهِ، وَأُصُولُ الدِّينِ، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ مُرَكَّبٌ، أَيْ: وَمَا كَانَ مُرَكَّبًا، فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ، أَيْ: فَتَعْرِيفُهُ بِاعْتِبَارِ مَجْمُوعِ لَفْظِهِ الَّذِي تَرَكَّبَ مِنْهُ إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ، أَيْ: يُسَمَّى بِذَلِكَ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَتَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ بِذَلِكَ لِمَنْ سَمَّاهُ.

وَقَوْلُهُ: «إِجْمَالِيٌّ لَقَبِيٌّ» لَفْظَانِ مَنْسُوبَانِ إِلَى الْإِجْمَالِ وَاللَّقَبِ.

وَالْإِجْمَالُ، هُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ جُمْلَةً، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ الْمُجْمَلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَاللَّقَبُ: هُوَ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ عَلَى مُعَيَّنٍ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعَلَمِ.

غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اللَّقَبَ عَلَمٌ يَكْرَهُ مَنْ وُضِعَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَاطَبَ بِهِ لِقُبْحٍ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ: أَنْفُ النَّاقَةِ، وَعَائِدُ الْكَلْبِ، وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْأَلْقَابِ، وَلِهَذَا سُمِّيَ التَّخَاطُبُ بِهِ تَنَابُزًا وَنَبْزًا، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّقَبُ وَاحِدُ الْأَلْقَابِ، وَهِيَ الْأَنْبَازُ، وَقَالَ فِي نَبَزَ: النَّبْزُ: اللَّقَبُ.

قُلْتُ: وَلَفْظُ النَّبْزِ مُشْعِرٌ بِكَرَاهَةٍ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّازِقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الْحُجُرَاتِ: 11] قَالَ: لَا تَقُلْ لِأَخِيكَ الْمُسْلِمِ: يَا فَاسِقٌ، يَا مُنَافِقٌ. وَرَوَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يُسَلِّمُ، فَيَقُولُونَ لَهُ: يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ.

قُلْتُ: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُهُ مِنْ أَنَّ اللَّقَبَ عَلَمٌ يَكْرَهُهُ الْمُخَاطَبُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَلَمِ، فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ: قَدْ يَكُونُ مِمَّا يَكْرَهُ التَّخَاطُبَ بِهِ وَهُوَ اللَّقَبُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ الْعَلَمُ لَقَبًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو.

وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ وَهِيَ قَوْلُنَا: «مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ» تَقَعُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدْ يَغْمُضُ مَعْنَاهَا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مِمَّنْ لَمْ يُعَانِ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ.

وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْحُكْمُ عَلَى هَذَا الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَا، أَيْ: مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَذَا، لِأَنَّ حَيْثُ فِي اللُّغَةِ ظَرْفُ مَكَانٍ، وَالْمَكَانُ مُجَاوِرٌ لِلْجِهَةِ فِي الْحَقِيقَةِ

وَالتَّصَوُّرِ، لِأَنَّ الْجِهَةَ مَقْصِدُ الْمُتَحَرِّكِ، فَلَا تَنْفِكُّ عَنِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً وَتَصَوُّرًا. فَقَوْلُنَا: «فَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ إِجْمَالِيٌّ» أَيْ: مِنْ جِهَةِ تَرْكِيبِهِ، أَوْ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا مُرَكَّبٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مُرَكَّبٍ، فَلَهُ مِنْ حَيْثُ حَقِيقَتُهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا جِهَةُ أَجْزَائِهِ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا، وَالثَّانِي جِهَةُ حَقِيقَتِهِ الْمُجْتَمِعَةِ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَيَخْتَلِفُ النَّظَرُ فِيهِ وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِاخْتِلَافِ جِهَتِهِ.

مِثَالُهُ: أَنَّا إِذَا عَرَفْنَا الْحِبْرَ مِنْ جِهَةِ تَرْكِيبِهِ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ الَّتِي هِيَ الْعَفْصُ وَالزَّاجُ وَالصَّمْغُ، قُلْنَا: الْحِبْرُ مَائِعٌ أَسْوَدُ يُكْتَبُ بِهِ، وَإِذَا عَرَّفْنَاهُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ، قُلْنَا: الْعَفْصُ: جَوْهَرٌ نَبَاتِيٌّ مُسْتَدِيرٌ، خَشِنُ الظَّاهِرِ مُضَرَّسٌ، وَالزَّاجُ: جَوْهَرٌ مُسْتَحْجَرٌ أَبْيَضُ، طَبْعُهُ التَّسْوِيدُ. وَالصَّمْغُ: جَوْهَرٌ تَدْفَعُهُ طَبِيعَةُ الشَّجَرِ فَيَسِيلُ عَلَى ظَاهِرِهِ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُنَا: الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، فَإِذَا عَرَّفْنَا مُفْرَدَاتِ أَجْزَائِهِ، قُلْنَا: الْيَدُ عُضْوٌ آلِيٌّ مُعَدٌّ لِلْبَطْشِ، وَالرِّجْلُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ مُعَدٌّ لِلْمَشْيِ.

فَقَدْ رَأَيْتُ اخْتِلَافَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْحَقَائِقِ بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهَا.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِنَا: إِنَّ تَعْرِيفَ الْمُرَكَّبِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مُرَكَّبًا إِجْمَالِيٌّ، أَيْ: فِيهِ إِجْمَالٌ وَعُمُومٌ وَغُمُوضٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعْرِيفِهِ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِهِ وَمُفْرَدَاتِ تَرْكِيبِهِ، كَمَا يَتَبَيَّنُ فِيمَا بَعْدُ، وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَمَعْنَى تَسْمِيَةِ هَذَا التَّعْرِيفِ لَقَبًا أَنَّهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْمُعَرَّفِ لَقَبًا عَلَى مَفْهُومِهِ، مِثَالُهُ: أَنَّ لَفْظَ أُصُولِ الْفِقْهِ لَقَبٌ عَلَى مَدْلُولِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي تُسْتَنْبَطُ بِهَا الْأَحْكَامُ، وَالتَّفْصِيلِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى التَّفْصِيلِ، أَيْ تَعْرِيفُهُ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِ مُفْرَدَاتِهِ.

وَقَوْلُهُ: «بِاعْتِبَارِ كُلٍّ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ» أَيْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ، أَوْ كُلِّ مُفْرَدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الْأَنْبِيَاءِ: 79] ، {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النِّسَاءِ: 95] ، {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النَّحْلِ: 87] . وَمِثَالُ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي تَعْرِيفِهِ الْإِجْمَالِيِّ وَاللَّقَبِيِّ: أُصُولُ الدِّينِ فِيهِمَا.

فَنَقُولُ فِي تَعْرِيفِهِ الْإِجْمَالِيِّ: هُوَ الْعِلْمُ الْكَاشِفُ عَنْ أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ، أَوِ الْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعَقَائِدِ.

وَنَقُولُ فِي تَعْرِيفِهِ التَّفْصِيلِيِّ: الْأُصُولُ: الْأَدِلَّةُ، كَمَا قُلْنَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالدِّينُ فِي اللُّغَةِ: الطَّاعَةُ وَالْعَادَةُ وَالشَّأْنُ وَالْجَزَاءُ وَالْمُكَافَأَةُ.

وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ الشَّرِيعَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِالضَّرُورَةِ هَذَا أَدْخَلُ فِي الْبَيَانِ مِنَ الْأَوَّلِ.

 _____________

فَأُصُولُ الْفِقْهِ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ: الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «فَأُصُولُ الْفِقْهِ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ» أَيْ بِاعْتِبَارِ تَعْرِيفِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُرَكَّبٌ: هُوَ «الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ» .

الْعِلْمُ: سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ آخِرَ الْفَصْلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْقَوَاعِدُ: جَمْعُ قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَسَاسُ الْبُنْيَانِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ يَقُولُونَ: قَاعِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَذَا: هِيَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِيهَا قَضَايَا جُزْئِيَّةٌ، كَقَوْلِنَا مَثَلًا: حُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ، وَقَوْلِنَا: الْحِيَلُ فِي الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ تُعْرَفُ بِالنَّظَرِ فِيهَا قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٌ.

كَقَوْلِنَا: عُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، فَوَكَّلَ فِيهِ حَنِثَ، وَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ. وَقَوْلُنَا: لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ، وَلَا تَخْلِيلُ الْخَمْرِ عِلَاجًا، وَلَا بَيْعُ الْعِينَةِ، وَلَا الْحِيلَةُ عَلَى إِبْطَالِ الشُّفْعَةِ، لِأَنَّ الْحِيَلَ بَاطِلَةٌ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لِهَذِهِ الْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةِ أُسًّا تَسْتَنِدُ إِلَيْهَا وَتَسْتَقِرُّ عَلَيْهَا.

وَهَكَذَا قَوْلُنَا: الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَلِلْفَوْرِ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ حُجَّةٌ، وَقِيَاسُ الشَّبَهِ دَلِيلٌ

صَحِيحٌ، وَالْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ يُحْتَجُّ بِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ هِيَ قَوَاعِدُ لِلْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ.

وَالتَّوَصُّلُ: هُوَ قَصْدُ الْوُصُولِ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِوَاسِطَةٍ فَهُوَ كَالتَّوَسُّلِ.

وَاسْتِنْبَاطُ الْأَحْكَامِ: اسْتِخْرَاجُهَا، وَكَذَا اسْتِنْبَاطُ الْمَاءِ، يُقَالُ: نَبَطَ الْمَاءُ يَنْبُطُ - بِضَمِّ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا - نُبُوطًا: إِذَا نَبَعَ، وَالنَّبِيطُ: الْمَاءُ الْخَارِجُ مِنْ قَعْرِ الْبِئْرِ إِذَا حُفِرَتْ.

وَالْأَحْكَامُ: يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَالشَّرْعِيَّةُ: الصَّادِرَةُ عَنِ الشَّرْعِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْإِلَهِيُّ الْمَعْلُومُ بِوَاسِطَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَالْفَرْعِيَّةُ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْفَرْعِ، وَهُوَ مَا اسْتَنَدَ فِي وُجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ اسْتِنَادًا ثَابِتًا، وَهَذَا احْتِرَازٌ مِنَ الْمَشْرُوطِ وَنَحْوِهُ، مِمَّا اسْتِنَادُ وَجُودِهِ إِلَى غَيْرِهِ عَرَضِيٌّ، لِاقْتِضَاءِ الْعَقْلِ أَوِ الشَّرْعِ تَوَقُّفُهُ عَلَى وُجُودِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ ذَاتِهِ، كَالْغُصْنِ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَنَحْوِهِ، هَذَا حَقِيقَةُ الْفَرْعِ.

أَمَّا قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: هَذَا مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ عَلَى كَذَا، فَهُوَ مَجَازٌ، إِذْ لَيْسَ فِيهِ تَبْعِيضٌ وَلَا اسْتِنَادٌ ذَاتِيٌّ.

وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ: الْقَضَايَا الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَأِ فِي اعْتِقَادِهِ مُقْتَضَاهَا وَلَا الْعَمَلِ بِهِ قَدْحٌ فِي الدِّينِ، وَلَا الْعَدَالَةُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، كَمَسْأَلَةِ

النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ، وَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ، وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَالْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ، وَأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُنَفَّذُ بَاطِنًا.

بِخِلَافِ مَا يَقْدَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي الدِّينِ، كَاعْتِقَادِ قِدَمِ الْعَالَمِ، وَنَفْيِ الصَّانِعِ، وَإِنْكَارِ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِبْطَالِ النُّبُوَّاتِ، أَوْ يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ، أَوِ الدِّينِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ، كَالْمَسَائِلِ الَّتِي بَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْأَثَرِيَّةِ، كَمَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْجِهَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَمَسَائِلُ الشَّرِيعَةِ، إِمَّا مُكَفِّرٌ قَطْعًا كَنَفْيِ الصَّانِعِ، أَوْ غَيْرِ مُكَفِّرٍ قَطْعًا كَاسْتِبَاحَةِ النَّبِيذِ بِالِاجْتِهَادِ، أَوْ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ تَحْتَمِلُ الْخِلَافَ، كَمَا حَقَّقْتُهُ فِي آخِرِ كِتَابِ «إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ» .

فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ أَنَّ شُرْبَ الْحَنْبَلِيِّ لِلنَّبِيذِ، وَأَكْلَ الْحَنَفِيِّ لَحْمَ الْخَيْلِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ لَيْسَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ، بَلْ مِنَ الْأُصُولِيَّةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمَا وَيَأَثَمَانِ بِهِ، وَيَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمَا. قِيلَ: نَعَمْ، هُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِمُخَالَفَةِ الْمُعْتَقَدِ، فَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْفُرُوعِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَفْعَالِ.

قَوْلُهُ: «مِنْ أَدِلَّتِهَا» : أَيِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، أَيِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ، كَمَا سَنُبَيِّنُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

 __________

وَبِالثَّانِي:

الْأُصُولُ: الْأَدِلَّةُ الْآتِي ذِكْرُهَا، وَهِيَ جَمْعُ أَصْلٍ، وَأَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَقِيلَ: مَا اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ إِلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ أَدِلَّتِهِ، وَمُسْتَنِدٌ فِي تَحَقُّقِ وَجُودِهِ إِلَيْهَا.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَبِالثَّانِي» : أَيْ وَأُصُولُ الْفِقْهِ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي، وَهُوَ تَعْرِيفُهُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ [الْأُصُولُ الْأَدِلَّةُ] ، لِأَنَّ الْمَادَّةَ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا لَفْظُ أُصُولِ الْفِقْهِ، هِيَ الْأُصُولُ وَالْفِقْهُ، فَهُمَا مُفْرَدَا ذَلِكَ الْمُرَكَّبِ، فَيَحْتَاجُ فِي تَعْرِيفِهِ التَّفْصِيلِيِّ إِلَى تَعْرِيفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَّتِهِ.

فَالْأُصُولُ: «الْأَدِلَّةُ الْآتِي ذِكْرُهَا» يَعْنِي: الْكِتَابَ وَالسَّنَةَ وَالْإِجْمَاعَ وَالْقِيَاسَ، وَمَا فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ.

قَوْلُهُ: «وَهِيَ» : يَعْنِي الْأُصُولَ، «جَمْعُ أَصْلٍ» ، هَذَا بَيَانٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ جَمْعُهَا وَإِفْرَادُهَا، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ عَلَى فِعْلٍ - سَاكِنِ الْعَيْنِ - فَبَابُهُ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ عَلَى أَفْعُلٍ، نَحْوَ أَفْلُسٍ وَأَكْلُبٍ، وَفِي الْكَثْرَةِ عَلَى فِعَالٍ وَفُعُولٍ، نَحْوَ حَبْلٍ وَحِبَالٍ، وَكَلْبٍ وَكِلَابٍ، وَكَعْبٍ وَكِعَابٍ، وَفَصْلٍ وَفُصُولٍ، وَأَصْلٍ وَأُصُولٍ، وَفَرْعٍ وَفُرُوعٍ.

وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اشْتِقَاقُهُ اللُّغَوِيُّ، فَلَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا فِيمَا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنِّي أَحْسَبُ أَنَّهُ مِنَ الْوَصْلِ ضِدَّ الْقَطْعِ، وَأَنَّ هَمْزَتَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ، لِمَا فِي الْأَصْلِ مِنْ مَعْنَى الْوَصْلِ، وَهُوَ اتِّصَالُ فُرُوعِهِ، كَاتِّصَالِ الْغُصْنِ بِالشَّجَرَةِ حِسًّا، وَالْوَلَدِ بِوَالِدِهِ نَسَبًا وَحُكْمًا، وَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِدَلِيلِهِ عَقْلًا.

قَوْلُهُ: «وَأَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَقِيلَ: مَا اسْتَنَدَ الشَّيْءُ فِي وُجُودِهِ إِلَيْهِ» .

هَذَانِ تَعْرِيفَانِ لِلْأَصْلِ، فَالْأَوَّلُ ذَكَرَهُ فِي «الْحَاصِلِ» ، وَالثَّانِي هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْآمِدِيِّ: أَصْلُ كُلِّ شَيْءٍ: مَا يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ، وَزَادَ فِي غَيْرِ «الْمُنْتَهَى» : مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ احْتِرَازًا مِنَ اسْتِنَادِ الْمُمْكِنِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَصْلًا لَهُ.

وَالتَّعْرِيفُ الثَّانِي أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَيْهِ فِي وُجُودِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُسْتَنِدٍ فِي وُجُودِهِ إِلَى شَيْءٍ يَكُونُ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: «وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِقْهَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ أَدِلَّتِهِ، وَمُسْتَنِدٌ فِي تَحَقُّقِ وَجُودِهِ إِلَيْهَا» .

هَذَا بَيَانٌ وَتَقْرِيرٌ لِكَوْنِ التَّعْرِيفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مُتَطَابِقَيْنِ لِلْمُعَرَّفِ بِهِمَا، وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ الْفِقْهَ يُسْتَمِدُّ مِنْ أَدِلَّتِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا مَادَّةٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمَعْنَى، لَا بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ تَرْكِيبِ الْأَلْفَاظِ، فَقَوْلُنَا: الْمَاءُ الْبَاقِي عَلَى إِطْلَاقِهِ طَهُورٌ، سَوَاءٌ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ نَبَعَ مِنَ الْأَرْضِ، هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الْفَرْقَانِ: 48] ، {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الْأَنْفَالِ: 11] ، لِأَنَّ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ تَرَاكِيبُ الصِّيَغِ، لَكِنَّ الْأَلْفَاظَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِذَاتِهَا، بَلْ لِإِظْهَارِ الْمَعَانِي.

فَعَلَى هَذَا «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مَا مِنْهُ الشَّيْءُ: لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ: مَا بَعْضُهُ الشَّيْءُ، وَالْفَرْعُ بَعْضُ أَصْلِهِ، كَالْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ، وَالْغُصْنُ مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا: أَنَّ الْفِقْهَ مُقْتَطَعٌ مِنْ أَدِلَّتِهِ اقْتِطَاعَ الْوَلَدِ مِنَ الْوَالِدِ، وَالْغُصْنِ مِنَ الشَّجَرَةِ، أَوْ نَحْوَهُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مِنْ» فِيهِ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ أَدِلَّةَ الْفِقْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَنَحْوِهَا، هِيَ مَبْدَأُ ظُهُورِهِ، وَمِنْهَا ابْتِدَاءُ بَيَانِهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي «مِنْ» ، وَكَذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى التَّعْرِيفِ الثَّانِي،

الْفِقْهُ مُسْتَنِدٌ فِي وُجُودِهِ إِلَى أَدِلَّتِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَوْ لَمْ تُوجَدْ هِيَ لَمْ يُوجَدْ هُوَ، إِذْ لَوْ لَمْ يُوجَدْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ لَمْ يُحْكُمْ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَوْ لَمْ تُوجَدْ أَدِلَّتُهَا لَمْ يُحْكَمْ بِهَا.

وَالِاسْتِنَادُ، هُوَ اعْتِمَادُ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، بِحَيْثُ لَوْ زَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَمْ يَسْتَقِرَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ، وَكَذَلِكَ الْفِقْهُ مَعَ أَدِلَّتِهِ، لَوْ زَالَتْ لَمْ يَسْتَقِرَّ الْفِقْهُ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوخَةِ، كَانَتْ ثَابِتَةً قَبْلَ النَّسْخِ لِبَقَاءِ أَدِلَّتِهَا مُحْكَمَةً، فَلَمَّا زَالَتِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي هِيَ مُسْتَنَدُ الْأَحْكَامِ لَمْ تَسْتَقِرَّ الْأَحْكَامُ، بَلْ زَالَتْ بِزَوَالِهَا، وَوِزَانُ ذَلِكَ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ مَنِ اسْتَنَدَ إِلَى جِدَارٍ، فَمَالَ الْجِدَارُ وَوَقَعَ، فَإِنَّ الْمُسْتَنِدَ إِلَيْهِ يَقَعُ بِالضَّرُورَةِ. هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَلْفَاظِ الْمُخْتَصَرِ.

وَقَالَ فِي «الْمَحْصُولِ» : الْأَصْلُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ.

وَرُدَّ، بِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى مَا لَيْسَ أَصْلًا لَهُ، كَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ، وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَالْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ أَعَمُّ مِنَ الْأَصْلِ؛ إِذْ كَلُّ أَصْلٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ أَصْلًا.

وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ - وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ -: أُصُولُ الْفِقْهِ، هِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي يُبْنَى عَلَيْهَا الْفِقْهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي فِي «الْعُدَّةِ» : أُصُولُ الْفِقْهِ، عِبَارَةٌ عَمَّا تُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْفِقْهِ

وَتُعْلَمُ أَحْكَامُهَا بِهِ، لِأَنَّ أَصْلَ الشَّيْءِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَعُرِفَ مِنْهُ، إِمَّا بِاسْتِخْرَاجٍ أَوْ تَنْبِيهٍ.

قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ صَحِيحٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَصْلُ الشَّيْءِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ، فَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، إِذْ قَدْ يَتَعَلَّقُ الشَّيْءُ بِمَا لَيْسَ أَصْلًا لَهُ، كَتَعَلُّقِ الْحَبَلِ بِالْوَتَدِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ، وَتَعَلُّقِ السَّبَبِ بِالْمُسَبِّبِ، وَالْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ فِي الْمَعْقُولَاتِ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: أَصْلُ الشَّيْءِ: مَا مِنْهُ الشَّيْءُ لُغَةً، وَرُجْحَانُهُ وَدَلِيلُهُ اصْطِلَاحًا، يَعْنِي أَنَّ أَصْلَ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ مَادَّتُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، نَحْوَ قَوْلِنَا: أَصْلُ السُّنْبُلَةِ الْبُرَّةُ، أَيْ: هِيَ مَادَّتُهَا.

وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ، فَيُطْلَقُ الْأَصْلُ عَلَى رُجْحَانِ الشَّيْءِ، نَحْوَ: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، أَيْ: هُوَ رَاجِحٌ، وَلِهَذَا احْتِيجَ فِي دَعَاوَى الْحُقُوقِ إِلَى الْبَيِّنَاتِ، لِيَصِيرَ جَانِبُ الْمُدَّعِي رَاجِحًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَرْجُوحًا، وَكَقَوْلِنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النِّسَاءِ: 43] : الْمُرَادُ حَقِيقَةُ الْمُلَامَسَةِ بِالْيَدِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَجَازِ.

وَالْمُتَيَمِّمُ إِذَا رَأَى الْمَاءَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَالْعَبْدُ الْغَائِبُ تَجِبُ فِطْرَتُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ.

وَالْمُرَادُ فِي هَذَا كُلِّهِ، أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الرَّاجِحُ، أَوْ أَنَّ الرُّجْحَانَ الْأَصْلُ.

وَيُطْلَقُ أَيْضًا فِي الِاصْطِلَاحِ، عَلَى الدَّلِيلِ، نَحْوَ: أُصُولُ الْفِقْهِ أَدِلَّتُهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَرَافِيُّ تَوَسُّطٌ جَيِّدٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَادَّةُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ

الرُّجْحَانُ وَالدَّلِيلُ.

«تَنْبِيهٌ» زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَعَنِّتِينَ، أَنَّ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ بِـ «مَا» ، نَحْوَ قَوْلِنَا: أَصْلُ الشَّيْءِ: مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَأُصُولُ الْفِقْهِ، مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْفِقْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، قَبِيحٌ أَوْ غَيْرُ صَحِيحٍ، قَالَ: لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّعْرِيفِ الْإِيضَاحُ وَالْإِفْهَامُ، وَلَفْظُ «مَا» شَدِيدُ الْإِبْهَامِ، فَالتَّعْرِيفُ بِهِ يُنَافِي الْمَقْصُودَ.

وَهَذَا كَلَامٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، لِأَنَّ مَا وَإِنْ كَانَتْ شَدِيدَةَ الْإِبْهَامِ، غَيْرَ أَنَّ التَّعْرِيفَ لَيْسَ بِهَا وَحْدَهَا، بَلْ بِهَا وَبِمَا بَعْدَهَا، وَبِمَجْمُوعِهِمَا يَحْصُلُ الْكَشْفُ عَنْ حَقِيقَةِ الْمَحْدُودِ.

فَلَا فَرْقَ إِذًا بَيْنَ قَوْلِنَا: أَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: أَصْلُ الشَّيْءِ مَعْلُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ أَوْ جِسْمٌ مِنْهُ الشَّيْءُ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا: مَا يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ إِلَيْهِ. وَبَيْنَ قَوْلِنَا: مَعْلُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ، أَوْ جِسْمٌ يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ إِلَيْهِ.

نَعَمْ، الْمُنَاقَشَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ شَأْنَ الْحُدُودِ وَالتَّعْرِيفَاتِ أَنْ يُوضَعَ فِيهَا الْجِنْسُ الْأَقْرَبُ، ثُمَّ يُمَيَّزُ بِمَا يَفْصِلُ النَّوْعَ الْمَقْصُودَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَلَفْظُ مَا عَامٌّ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، فَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَيُّهُمَا الْمُرَادُ.

فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: الْإِنْسَانُ: مَا كَانَ نَاطِقًا، لَمْ يُعْلَمْ هَلِ الْمُرَادُ مَا كَانَ مِنَ الْحَيَوَانِ نَاطِقًا، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْجِنْسِ الْقَرِيبِ، كَقَوْلِهِ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، أَوْ مَا كَانَ مِنَ الْأَجْسَامِ أَوِ الْمَعْلُومَاتِ أَوِ الْمَوْجُودَاتِ نَاطِقًا، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى بِالْجِنْسِ الْبَعِيدِ، نَحْوَ قَوْلِهِ:

جِسْمٌ نَاطِقٌ أَوْ مَعْلُومٌ أَوْ مَوْجُودٌ نَاطِقٌ، فَيَكُونُ قَدْ أَخَلَّ بِالْمُخْتَارِ فِي الِاصْطِلَاحِ، وَأَفْسَدَ الْحَدَّ بِتَنَاوُلِهِ الْمَلَكَ وَالْجِنِّيَّ، إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ وَمَوْجُودٌ نَاطِقٌ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْحُذَّاقَ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ مَا فِي التَّعْرِيفِ إِلَّا مَعَ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ الْقَرِيبِ، وَالْقَرَائِنُ فِي الْمُخَاطَبَاتِ كَالْأَلْفَاظِ، بَلْ أَبْلَغُ فِي الْإِفْهَامِ، إِذْ قَدْ تَكُونُ الْقَرِينَةُ عَقْلِيَّةً قَاطِعَةً وَاللَّفْظُ مُجْمَلًا، فَتَكُونُ الْقَرِينَةُ أَدَلَّ مِنْهُ.

مِثَالُ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: الْعِلْمُ مَثَلًا: مَعْرِفَةُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ، ثُمَّ يَقُولُ: وَالْفِقْهُ مَا عُرِفَ مِنْهُ أَحْكَامُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ.

فَإِنَّ تَقْدِيمَهُ لِتَعْرِيفِ الْعِلْمِ، دَلَّنَا عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِمَا الَّتِي عَرَّفَ بِهَا الْفِقْهَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الْفِقْهُ: عِلْمٌ يُعْرَفُ بِهِ أَحْكَامُ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ.

وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: الْكَلِمَةُ: لَفْظٌ وُضِعَ لِمَعْنًى مُفْرَدٍ، وَأَنْوَاعُهَا: اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ، ثُمَّ قَالَ: الِاسْمُ: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، تَقْدِيمُهُ لِتَعْرِيفِ الْكَلِمَةِ، وَأَنَّ الِاسْمَ مِنْ أَنْوَاعِهَا، دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ بِـ «مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى» : كَلِمَةٌ دَلَّتْ عَلَى مَعْنًى.

فَأَمَّا مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمُرَادِ، أَوْ عَلَى وَجْهٍ يَفْسُدُ بِهِ التَّعْرِيفُ، فَذَاكَ مِمَّنْ لَا كَلَامَ مَعَهُ بِإِقْرَارٍ وَلَا إِنْكَارٍ.

 ___________

وَالْفِقْهُ لُغَةً: الْفَهْمُ، وَمِنْهُ {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} ، {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ، أَيْ: مَا نَفْهَمُ، وَلَا تَفْهَمُونَ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: " وَالْفِقْهُ لُغَةً " أَيْ فِي اللُّغَةِ: " الْفَهْمُ وَمِنْهُ: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هُودٍ: 91] ، {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الْإِسْرَاءِ: 44] أَيْ: مَا نَفْهَمُ، وَلَا تَفْهَمُونَ

هَذَا تَعْرِيفُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مِنْ لَفْظِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفِقْهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ. وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ هَاهُنَا تَنْبِيهٌ كُلِّيٌّ، وَهُوَ أَنَّ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءَ جَرَتْ عَادَتُهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا انْتَصَبُوا لِبَيَانِ لَفْظٍ، بَيَّنُوهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، فَقَالُوا مَثَلًا: الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: كَذَا، وَفِي الِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ: كَذَا، كَمَا نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، وَفِي الشَّرْعِ الْأَقْوَالُ وَالْأَفْعَالُ الْمُفْتَتَحَةُ بِالتَّكْبِيرِ الْمُخْتَتَمَةُ بِالتَّسْلِيمِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ، وَذَلِكَ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ مِنْ كِبَارِ الْمَسَائِلِ.

وَصُورَةُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرْعَ، هَلْ وَضَعَ لِحَقَائِقِهِ الشَّرْعِيَّةِ أَسْمَاءَ بِإِزَائِهَا وَضْعًا اسْتِقْلَالِيًّا خَارِجًا عَنْ وَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَوْ أَنَّهُ أَبْقَى الْمَوْضُوعَاتِ اللُّغَوِيَّةَ عَلَى حَالِهَا، وَزَادَ فِيهَا شَرْعًا شُرُوطًا وَأَفْعَالًا أُخَرَ؟

مِثَالُهُ: أَنَّهُ سَمَّى الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ صَلَاةً، لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الصَّلَاةِ اللُّغَوِيَّةِ، وَهِيَ الدُّعَاءُ، لَكِنِ اشْتَرَطَ لَهَا فِي الشَّرْعِ شُرُوطَهَا السِّتَّةَ، وَأَرْكَانَهَا الثَّلَاثَةَ عَشَرَ، وَكَذَلِكَ سَمَّى الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ صَوْمًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ، وَزَادَهُ النِّيَّةَ، وَقَدَّرَ وَقْتَهُ.

هَذَا فِيهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْأُصُولِيِّينَ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ بِأَدِلَّتِهَا فِي فَصْلِ اللُّغَاتِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا عُدْنَا إِلَى لَفْظِ الْمُخْتَصَرِ.

فَالْفِقْهُ فِي الْوَضْعِ: " الْفَهْمُ "، كَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ وَالْأَكْثَرُونَ. يُقَالُ: فَقِهْتُ الْكَلَامَ، أَيْ: فَهِمْتُ غَرَضَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي " الْمَحْصُولِ ": الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ فَهْمِ غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ.

وَقَوْلُهُ: " وَمِنْهُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا " هُوَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ الْفَهْمُ، أَيْ: وَمِمَّا أُطْلِقَ فِيهِ الْفِقْهُ بِمَعْنَى الْفَهْمِ، قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: {يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هُودٍ: 91] ، أَيْ مَا نَفْهَمُ كَثِيرًا مِنْ قَوْلِكَ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الْإِسْرَاءِ: 44] أَيْ لَا تَفْهَمُونَ، لِأَنَّكُمْ مَحْجُوبُو الْأَسْمَاعِ عَنْ سَمَاعِهِ، كَمَا أَنَّكُمْ مَحْجُوبُو الْأَبْصَارِ عَنْ رُؤْيَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالْهَوَاءِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يُرَى، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الْكَهْفِ: 93] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النِّسَاءِ: 78] ، وَقَوْلُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} {يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 28] ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنَى يَفْهَمُونَ.

وَقَوْلُهُ: " أَيْ مَا نَفْهَمُ وَلَا تَفْهَمُونَ " هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَعْنَى الْفِقْهِ فِي الْآيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا مُتَوَالِيَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَفْسِيرَهُمَا مُتَوَالِيًا، وَهُوَ يُسَمَّى اللَّفَّ وَالنَّشْرَ، فَتَقْدِيرُهُ: مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا، أَيْ مَا نَفْهَمُ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ أَيْ: لَا تَفْهَمُونَ. وَمِثْلُهُ فِي اللَّفِّ وَالنَّشْرِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ

وَتَعَالَى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [الْقَصَصِ: 73] ، أَيْ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَالنَّهَارَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفِينَ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، فَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَالْآمِدِيُّ وَابْنُ الصَّيْقَلِ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ. يُقَالُ: فُلَانٌ يَفْقَهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَيَفْقَهُ كَلَامَ فُلَانٍ، أَيْ: يَفْهَمُهُ وَيَعْلَمُهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْعُدَّةِ ": الْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ: الْعِلْمُ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمِثَالَ الْمَذْكُورَ قَبْلُ.

قَالَ: وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ الْفِقْهَ فِي اللُّغَةِ: الْفَهْمُ.

وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْفِقْهُ: هُوَ الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ وَالشِّعْرُ وَالطِّبُّ لُغَةً، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ بَعْضُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِبَعْضِ الْعُلُومِ بِسَبَبِ الْعُرْفِ، وَحَكَاهُ عَنِ الْمَازِرِيِّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ ".

قُلْتُ: كُلُّ ذَلِكَ لَهُ أَصْلٌ فِي اللُّغَةِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي " الْمُجْمَلِ ": الْفِقْهُ الْعِلْمُ، وَكُلُّ عِلْمٍ بِشَيْءٍ فَهُوَ فِقْهٌ.

غَيْرَ أَنَّ الْجَوْهَرِيَّ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ أَنَّ الْفِقْهَ الْفَهْمُ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ الْمَشْهُورُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الْفَهْمِ وَالْعِلْمِ مُلَازِمَةً، إِذِ الْفَهْمُ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ، وَالْعِلْمُ يَسْتَلْزِمُ فَهْمَ الشَّيْءِ الْمَعْلُومِ، فَيُشْبِهُ أَنَّ مَنْ سَمَّى الْفِقْهَ عِلْمًا تَجَوَّزَ فِي ذَلِكَ لِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ فِي (فَهِمَ) : فَهِمْتُ الشَّيْءَ فَهْمًا، عَلِمْتُهُ، إِذْ لَوْ كَانَ الْفَهْمُ الْعِلْمَ حَقِيقَةً مَعَ قَوْلِهِ: الْفِقْهُ الْفَهْمُ، لَكَانَ الْفِقْهُ هُوَ الْعِلْمَ، فَكَانَ تَفْسِيرُهُ بِهِ بِدُونِ وَاسِطَةِ الْفَهْمِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَشْهَرُ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْفِقْهِ وَالْفَهْمِ، أَنَّ الْفِقْهَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعَانِي دُونَ الْأَعْيَانِ، وَالْعِلْمُ

يَتَعَلَّقُ بِهِمَا، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: عَلِمْتُ مَعْنَى كَلَامِهِ، وَعَلِمْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ، وَتَقُولُ: فَقِهْتُ مَعْنَى الْكَلَامِ وَفَهِمْتُهُ، وَلَا يُقَالُ: فَقِهْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ.

وَحَكَى الْقَرَافِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ - وَلَمْ أَجِدْهُ فِي " اللُّمَعِ "، فَلَعَلَّهُ فِي غَيْرِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَظِنَّتِهِ -: أَنَّ الْفِقْهَ فِي اللُّغَةِ إِدْرَاكُ الْأَشْيَاءِ الْخَفِيَّةِ، فَلِذَلِكَ تَقُولُ: فَهِمْتُ كَلَامَكَ، وَلَا تَقُولُ: فَهِمْتُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفِقْهَ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، فَهَذَا اخْتِلَافُهُمَا بِحَسَبِ مُتَعَلِّقِهِمَا.

وَأَمَّا بِحَسَبِ حَدِّهِمَا، فَالْعِلْمُ قَدْ عُلِمَ حَدُّهُ بِمَا مَرَّ، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْفَهْمُ، قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " الْوَاضِحِ ": هُوَ إِدْرَاكُ مَعْنَى الْكَلَامِ بِسُرْعَةٍ. قُلْتُ أَنَا: وَلَا حَاجَةَ لِقَيْدِ السُّرْعَةِ، لِأَنَّ مَنْ سَمِعَ كَلَامًا وَلَمْ يُدْرِكْ مَعْنَاهُ إِلَّا بَعْدَ شَهْرٍ، أَوْ أَكْثَرَ، قِيلَ: قَدْ فَهِمَهُ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: الْفَهْمُ إِمَّا بَطِيءٌ أَوْ سَرِيعٌ، فَيَنْقَسِمُ إِلَيْهِمَا وَمَوْرِدُ الْقِسْمَةِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْأَقْسَامِ، نَعَمْ، السُّرْعَةُ قَيْدٌ فِي الْفَهْمِ الْجَيِّدِ.

فَقَدْ تَحَقَّقَ بِمَا ذَكَرْتُهُ، أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْفَهْمُ، يُقَالُ: فَقِهَ بِكَسْرِ الْقَافِ: إِذَا صَارَ فَقِيهًا، وَفَقَهَ غَيْرَهُ، بِفَتْحِهَا: إِذَا غَلَبَهُ فِي الْفِقْهِ وَتَرَجَّحَ عَلَيْهِ، وَفَقُهَ، بِضَمِّهَا -: إِذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً وَخُلُقًا وَمَلَكَةً.

 وَاصْطِلَاحًا: قِيلَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَاصْطِلَاحًا» أَيْ: وَالْفِقْهُ فِي الِاصْطِلَاحِ يَعْنِي فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ.

«قِيلَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ» ، إِنَّمَا قُلْتُ: قِيلَ، لِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأَسْئِلَةُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدُ، فَلَمْ أَرْتَضِهِ لِذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ الْأَشْبَهَ عِنْدِي فِيهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وَهَذَا التَّعْرِيفُ لِلَفْقِهِ، وَالتَّعْرِيفُ السَّابِقُ لِأُصُولِ الْفِقْهِ، هُمَا لِابْنِ الْحَاجِبِ.

وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِبَيَانِهَا، لَفْظَ «الْعِلْمِ» ، وَقَدْ وَعَدْتُ قَبْلُ أَنْ أُبَيِّنَهُ بَعْدُ، وَلَفْظُ «الْأَحْكَامِ» ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا. إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَلَفْظُ «الشَّرْعِيَّةِ» وَ «الْفَرْعِيَّةِ» وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُمَا. بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى.

«وَالتَّفْصِيلِيَّةِ» هِيَ الْمَذْكُورَةُ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ، وَهُوَ تَمْيِيزُ أَفْرَادِ الْأَحْكَامِ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ فِيمَا تَخْتَصُّ بِهِ، كَقَوْلِنَا: إِذَا سَخُنَ الْمَاءُ، فَإِمَّا أَنْ يَسْخُنَ بِطَاهِرٍ، فَلَا يُكْرَهُ، أَوْ بِنَجَسٍ، فَإِمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ وَصُولُ النَّجَاسَةِ إِلَيْهِ، فَيُمْنَعَ مِنْهُ، أَوْ لَا يَتَحَقَّقَ، فَإِنْ كَانَ الْحَائِلُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالنَّجَاسَةِ حَصِينًا، لَمْ يُكْرَهْ، وَإِلَّا كُرِهَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ.

وَقَدْ خَطَرَ لِي هَاهُنَا فَائِدَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، لَكِنْ لِمُنَاسَبَةِ اللَّفْظِ، وَالْحَدِيثُ ذُو شُجُونٍ، وَالشَّيْءُ يُذْكَرُ بِالشَّيْءِ، وَهِيَ أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الْإِسْرَاءِ: 12] ، فَهَذِهِ قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، لِأَنَّهَا أَشْيَاءُ،

فَتَقْتَضِي أَنَّهَا مُفَصَّلَةٌ فِي الشَّرْعِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَى كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ غَيْرَ مُفَصَّلٍ، لَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ، إِذْ قَدْ تَقَعُ حَوَادِثُ غَرَائِبُ، لَيْسَ لَهُمْ فِيهَا كَلَامٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَحَالَ بِالتَّفْصِيلِ عَلَى مُجْتَهَدِي كُلِّ عَصْرٍ، فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُطْلِقٌ أَوْ مُقَيِّدٌ تَمَسَّكَ فِي حُكْمٍ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَانَ مَا أَفْتَى بِهِ حُكْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَفْصِيلًا مِنْهُ بِمُقْتَضَى النَّصِّ الْمَذْكُورِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} عَامٌّ مَخْصُوصٌ، أَوْ عَلِمْنَا تَفْصِيلَهُ، وَإِنْ لَمْ نَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ، لَكِنْ هُوَ تَخْصِيصٌ وَتَأْوِيلٌ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ.

وَأَمَّا «الِاسْتِدْلَالُ» ، فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ دَلَّ يَدُلُّ، وَمُقْتَضَاهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ طَلَبُ الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ طَلَبُهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِ أَوْ غَيْرِهِ، إِذَا أَرَادَ مَعْرِفَةَ الْحُكْمِ لِيَعْمَلَ بِهِ، أَوْ يُعَلِّمَهُ غَيْرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ السَّائِلِ لِلْمُسْتَدِلِّ، كَقَوْلِ الْحَنْبَلِيِّ لِلْحَنَفِيِّ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْوُضُوءِ بِدُونِ النِّيَّةِ؟ وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْأَوَّلُ، وَهُوَ طَلَبُ الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ.

وَقَدْ يُطْلَقُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَا أَمْكَنَ التَّوَصُّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

 ____________

احْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الذَّوَاتِ، وَبِالشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْعَقْلِيَّةِ، وَبِالْفَرْعِيَّةِ عَنِ الْأُصُولِيَّةِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «احْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الذَّوَاتِ» إِلَى آخِرِهِ.

الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَبْحَاثٍ:

الْأَوَّلُ: فِي لَفْظِ احْتَرَزَ، وَهُوَ افْتَعَلَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: تَحَرَّزْتُ مِنْ كَذَا، وَاحْتَرَزْتُ مِنْهُ: إِذَا تَوَقَّيْتُهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحِرْزِ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ الْمَوْضِعُ الْحَصِينُ، يُقَالُ: هَذَا حِرْزٌ حَرِيزٌ، وَيَقُولُ الْمُتَكَلِّمُ: احْتَزَرْتُ بِكَذَا مِنْ كَذَا، أَيْ: صِرْتُ فِي حِرْزٍ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ مَا يُفْسِدُ كَلَامِي مِنْ جِهَةِ طَرْدٍ أَوْ عَكْسٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

الثَّانِي: فِي مَعْنَى الِاحْتِرَازِ فِي الْكَلَامِ وَكَيْفِيَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ جُعِلَتْ دَالَّةً عَلَى الْمَعَانِي وَالْمُسَمَّيَاتِ، وَشَأْنُ الدَّلِيلِ أَنْ يُطَابِقَ الْمَدْلُولَ، وَالْمُعَرِّفِ أَنْ يُطَابِقَ الْمُعَرَّفَ، أَيْ: يَكُونُ طَبَقَهُ وَمُسَاوِيًا لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. وَلَمَّا كَانَتْ أَجْنَاسُ الْأَشْيَاءِ شَامِلَةً لِأَنْوَاعِهَا، وَأَنْوَاعُهَا شَامِلَةً لِأَشْخَاصِهَا، وَكَانَتِ الْأَجْنَاسُ وَالْأَنْوَاعُ مُتَعَدِّدَةً، مِنْهَا الْعَالِي وَالسَّافِلُ وَالْمُتَوَسِّطُ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي بَابِ الْعُمُومِ، وَسَنُقَرِّرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْأَشْخَاصُ أَيْضًا مُتَشَابِهَةٌ وَمُتَبَايِنَةٌ بِالصِّفَاتِ، وَكَانَتِ الْأَشْخَاصُ شَائِعَةً فِي أَنْوَاعِهَا، وَالْأَنْوَاعُ شَائِعَةً فِي أَجْنَاسِهَا، لَا جَرَمَ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْكَشْفَ عَنْ حَقِيقَةِ شَخْصٍ مِنْ نَوْعٍ، أَوْ نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ، أَنْ يَصِفَهُ بِصِفَاتٍ مُطَابِقَةٍ لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهِ، وَلَا يَتَّصِفُ بِهَا إِلَّا هُوَ، فَكُلَّمَا قَلَّتْ أَوْصَافُهُ، كَانَ أَدْخَلَ فِي الْعُمُومِ وَالشُّيُوعِ وَالِاشْتِبَاهِ، وَكُلَّمَا كَثُرَتْ أَوْصَافُهُ، قَرُبَ مِنَ الْكَشْفِ وَالتَّعَيُّنِ، وَزَوَالِ الِاشْتِبَاهِ بِغَيْرِهِ، وَقَلَّ مَا يَشْتَبِهُ بِهِ مِنْ نَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ، فَكَانَ كُلُّ وَصْفٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمُخَصَّصَةِ مُحَصِّنًا لَهُ مِنْ طَائِفَةِ مِمَّا يُشَابِهُهُ أَوْ يَشْتَبِهُ بِهِ، وَحِرْزًا لَهُ مِنْهُ، فَهَذَا بَيَانُ

كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ، وَيَتَّضِحُ بِالْمِثَالِ.

فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُسَمَّيَاتِ مُتَرَتِّبَةٌ فِي أَجْنَاسِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا بَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ الْأَشْخَاصِ تَحْتَ بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا مِنْ جِهَةِ أَعْلَى الْأَجْنَاسِ فَوْقَ بَعْضٍ، فَأَعَمُّ الْمُسَمَّيَاتِ، قَوْلُنَا: مَعْلُومٌ، لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ، ثُمَّ الْمَوْجُودُ يَتَنَاوَلُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ، ثُمَّ الْقَدِيمُ يَتَنَاوَلُ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ، وَالْمُحْدَثُ يَتَنَاوَلُ الْجَوْهَرَ وَالْعَرَضَ، وَالْأَعْرَاضُ أَقْسَامُهَا كَثِيرَةٌ، وَالْجَوْهَرُ يَتَنَاوَلُ الْجَامِدَ وَالنَّامِيَ، وَالنَّامِي يَتَنَاوَلُ الْحَيَوَانَ وَغَيْرَهُ، كَالشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ، وَالْحَيَوَانُ يَتَنَاوَلُ النَّاطِقَ، كَالْإِنْسَانِ، وَغَيْرَ النَّاطِقِ، كَالْفَرَسِ، فَالْإِنْسَانُ نَوْعٌ لِلْحَيَوَانِ، وَالْحَيَوَانُ نَوْعٌ لِلنَّامِي، وَالنَّامِي نَوْعٌ لِلْجَوْهَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِسْمُ، وَالْجِسْمُ نَوْعٌ لِلْمُحْدَثِ، وَالْمُحْدَثُ نَوْعٌ لِلْمَعْلُومِ، فَهَذَا مِنْ جِهَةِ الْإِنْسَانِ، وَيُسَمَّى نَوْعَ الْأَنْوَاعِ، وَإِنْ نَزَلَتْ مِنْ جِهَةِ الْجِنْسِ الْأَعْلَى، وَهُوَ الْمَعْلُومُ فِي مِثَالِنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِنْسًا فِي الْحَقِيقَةِ، لِأَنَّ أَحَدَ قِسْمَيْهِ الْمَعْدُومُ، وَالْحَقِيقَةُ الثَّابِتَةُ لَا تَتَقَوَّمُ فِي وُجُودٍ وَعَدَمٍ، وَلِأَنَّهُ يَشْمَلُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ، وَالْقَدِيمُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ جِنْسٍ، وَلَكِنَّا ذَكَرْنَاهُ جِنْسًا فِي الْمِثَالِ لَفْظًا، فَقُلِ: الْمَعْلُومُ جِنْسُ الْمُحْدَثِ، وَالْمُحْدَثُ جِنْسُ الْجَوْهَرِ، وَالْجِسْمُ جِنْسُ النَّامِي، وَالنَّامِي جِنْسُ الْحَيَوَانِ، فَالْمُتَوَسِّطَاتُ مِنْ هَذِهِ، وَهِيَ الْمُحْدَثُ، وَالْجِسْمُ، وَالنَّامِي، وَالْحَيَوَانُ، هِيَ أَنْوَاعٌ لِمَا فَوْقَهَا، كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجِسْمِ النَّامِي، أَجْنَاسٌ لِمَا تَحْتَهَا، كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ.  . . . .

ـــــــــــــــــــــــــــــ

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَأَنْتَ إِذَا قَالَ لَكَ قَائِلٌ: قَدْ أَضْمَرْتُ فِي نَفْسِي مَعْلُومًا فَمَا هُوَ؟ لَاحْتَمَلَ عِنْدَكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْلُومُ الَّذِي أَضْمَرَهُ قَدِيمًا أَوْ مُحْدَثًا.

فَإِذَا قُلْتَ لَهُ: زِدْنِي بَيَانًا، فَقَالَ لَكَ: الَّذِي أَضْمَرْتُهُ مُحْدَثٌ، تَخَصَّصَ بِهِ، وَأَعْرَضْتَ أَنْتَ عَنِ الْفِكْرَةِ فِي التَّقْدِيمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الضَّمِيرِ، وَصِرْتَ تَطْلُبُهُ فِي الْمُحْدَثَاتِ، لَكِنَّكَ لَا تَدْرِي هُوَ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ.

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ جَوْهَرٌ، أَعْرَضْتَ عَنِ الْأَعْرَاضِ، وَأَجَلْتَ فِكْرَكَ فِي الْجَوَاهِرِ، لِتَسْتَخْرِجَهُ مِنْهَا، لَكِنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَامٍ أَوْ غَيْرُ نَامٍ.

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ نَامٍ، أَعْرَضْتَ عَنِ الْجَمَادَاتِ، وَتَرَدَّدْتَ فِي النَّامِي، هَلْ هُوَ حَيَوَانٌ أَوْ غَيْرُ حَيَوَانٍ؟

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ حَيَوَانٌ، أَعْرَضْتَ عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ، ثُمَّ تَرَدَّدْتَ، هَلْ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ نَاطِقٌ أَمْ لَا؟

فَإِذَا قَالَ لَكَ: نَاطِقٌ: أَعْرَضْتَ عَنْ نَوْعِ الْخَيْلِ وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ إِنْسَانٌ، ثُمَّ تَرَدَّدْتَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ، لَا تَدْرِي، هَلْ هُوَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، أَوْ مُوسَى، أَوْ مُحَمَّدٌ؟

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ نَبِيٌّ، تَخَصَّصَ مَطْلُوبُكَ بِصِنْفِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَعْرَضْتَ عَنْ آحَادِ الْأُمَمِ، ثُمَّ تَرَدَّدْتَ، هَلْ هُوَ آدَمُ أَوْ مُحَمَّدٌ أَوْ وَاحِدٌ مِمَّنْ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ؟

فَإِذَا قَالَ لَكَ: هُوَ أَوَّلُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ، قُلْتَ: هُوَ آدَمُ أَوْ نُوحٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ، لِأَنَّهُ تَخَصَّصَ بِالْأَوَّلِيَّةِ.

وَلَوْ قَالَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي الْعِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَقُلْتَ: هُوَ أَيُّوبُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي الْعِيصِ نَبِيٌّ غَيْرَهُ.

وَلَوْ قَالَ لَكَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنَ الْعَرَبِ، أَوْ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ، لَقُلْتَ: هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَأَيْتَ أَنَّ مَطْلُوبَكَ كُلَّمَا تَخَصَّصَ بِوَصْفٍ بَعْدَ وَصْفٍ قَرُبَ إِدْرَاكُهُ، وَقَلَّ الصِّنْفُ الَّذِي يَشْتَبِهُ بِهِ، لِخُرُوجِ غَيْرِهِ بِالْوَصْفِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْمَطْلُوبِ، فَهَذَا كَشَفَ الْقِنَاعَ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاحْتِرَازَاتِ فِي هَذَا الْحَدِّ.

قَوْلُهُ: «احْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الذَّوَاتِ» لِأَنَّ الْأَحْكَامَ هِيَ مَا عُرِفَ مِنَ الْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالنَّدْبِ. وَالذَّوَاتُ: الْحَقَائِقُ، وَذَاتُ الشَّيْءِ: حَقِيقَتُهُ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ.

وَزَعَمَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي مَأْخَذِهِ عَلَى الْمَقَامَاتِ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِذَلِكَ فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ فِيهَا ذَاتٌ، بِمَعْنَى صَاحِبَةٍ، مُؤَنَّثُ ذُو، فَلَوْ قِيلَ: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالشَّرْعِيَّةِ، لَاحْتَمَلَ أَنَّ هُنَاكَ ذَوَاتٍ يَكُونُ الْعِلْمُ بِهَا فِقْهًا، فَلَمَّا قَالَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، انْتَفَى ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ.

قَوْلُهُ: «وَبِالشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْعَقْلِيَّةِ» ، أَيْ: وَاحْتَرَزَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ، كَأَحْكَامِ الْفَلْسَفَةِ، مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْعَدَدِ وَالْمَقَادِيرِ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ فِي  «الْمَحْصُولِ» : كَالتَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ، وَالْعِلْمِ بِقُبْحِ الظُّلْمِ، وَحُسْنِ الصِّدْقِ، عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِكَوْنِهِمَا عَقْلِيَّيْنِ.

فَلَوْ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّرْعِيَّةَ، لَاقْتَضَى الْحَدُّ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ فِقْهًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَفِي بِقَوْلِهِ: الْفَرْعِيَّةِ، إِذِ الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تُسَمَّى فَرْعِيَّةً.

نَعَمْ، الِاحْتِرَازُ عَنِ الْعَقْلِيَّةِ، حَصَلَ بِالْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا، أَعْنِي الشَّرْعِيَّةَ الْفَرْعِيَّةَ، إِذْ لَوْ لَمْ يَذْكُرْهُمَا، بَلْ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْإِحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، لَدَخَلَتِ الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ.

قَوْلُهُ: «وَبِالْفَرْعِيَّةِ عَنِ الْأُصُولِيَّةِ» ، أَيِ: احْتَرِزْ بِالْفَرْعِيَّةِ عَنْهَا، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا، لَاقْتَضَى أَنَّ الْأُصُولِيَّةَ، كَأُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ فِقْهٌ، لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، إِذِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَعُمُّ الْأُصُولِيَّةَ وَالْفُرُوعِيَّةَ. إِذِ الشَّرْعُ عِبَارَةٌ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْلٍ وَفَرْعٍ.  «وَعَنْ» فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَدِلَّتِهَا، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: الْفَرْعِيَّةُ الصَّادِرَةُ أَوِ الْحَاصِلَةُ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، احْتِرَازًا مِنَ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ، كَأُصُولِ الْفِقْهِ، نَحْوَ قَوْلِنَا: الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، وَكَالْخِلَافِ، نَحْوَ: ثَبَتَ بِالْمُقْتَضِي، وَامْتَنَعَ بِالنَّافِي.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَعَنْ فِي قَوْلِهِ: عَنْ أَدِلَّتِهَا» إِلَخْ، يَعْنِي أَنَّ «عَنْ» الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِنَا: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْفَرْعِيَّةُ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لَا بُدَّ لَهَا مِنْ فِعْلٍ أَوْ مَعْنَى فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ، لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ إِنَّمَا وُضِعَتْ فِي الْكَلَامِ لِتَجُرَّ مَعَانِي الْأَفْعَالِ إِلَى الْأَسْمَاءِ، نَحْوَ: ذَهَبْتٌ إِلَى زَيْدٍ، وَجِئْتُ مِنْ عِنْدِ عَمْرٍو، فَإِلَى جَرَّتْ مَعْنَى ذَهَابِكَ إِلَى زَيْدٍ، بِمَعْنَى أَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ ذَهَابَكَ كَانَ نَحْوَهُ، وَأَنْتَ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ، وَمَنْ جَرَّتْ مَعْنَى ذَهَابِكَ إِلَى عَمْرٍو، بِمَعْنَى أَنَّهَا أَفَادَتْ أَنَّ مَجِيئَكَ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ مُنْصَرِفًا إِلَى غَيْرِهَا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سُمِّيَتْ حُرُوفَ الْجَرِّ، وَمَعْنَى تَعَلُّقِ الْحَرْفِ بِالْفِعْلِ: هُوَ أَنْ لَا يَصِحَّ مَعْنَى الْكَلَامِ وَيَنْتَظِمَ إِلَّا بِاتِّصَالِهِ بِهِ، وَلَوْ قُدِّرَ اتِّصَالُهُ بِغَيْرِهِ، لَمْ يَصِحَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النَّحْلِ: 43 - 44] ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: بِالْبَيِّنَاتِ، لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِتَعْلَمُونَ، وَلَا بِقَوْلِهِ: فَاسْأَلُوا، بَلْ بِأَرْسَلْنَا، أَيْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ رِجَالًا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ، إِذْ لَا يَنْتَظِمُ أَنْ يُقَالَ: بِالزُّبُرِ، وَلَا اسْأَلُوا بِالزُّبُرِ، فَمَتَى كَانَ فِي الْكَلَامِ فِعْلٌ مَوْجُودٌ يَصْلُحُ أَنْ يَتَعَلَّقَ حَرْفُ الْجَرِّ بِهِ، وَجَبَ تَعَلُّقُهُ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ، قُدِّرَ لَهُ فِعْلٌ أَوْ مَعْنَاهُ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْكَلَامُ، وَلَيْسَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِعْلٌ يَصْلُحُ أَنْ تَتَعَلَّقَ «عَنْ» بِهِ وَلَا مَعْنَاهُ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَالْفَرْعِيَّةَ أَسْمَاءٌ مَحْضَةٌ، وَمَعْنَى الْفِعْلِ فِيهَا

خَامِلٌ خَفِيٌّ، فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ عَنْ، لِئَلَّا يَبْقَى سَائِبًا بِغَيْرِ مُتَعَلِّقٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي اللُّغَةِ، فَصَارَ تَقْدِيرُهُ كَمَا ذُكِرَ، الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ أَوِ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا، لِأَنَّا نَعْلَمُ بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَصْدُرُ وَتَحْصُلُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، عِنْدَ نَظَرِ الْمُسْتَدِلِّ فِيهَا، طَالِبًا لِيَعْرِفَ الْأَحْكَامَ مِنْهَا، فَقَدَّرْنَا لِانْتِظَامِ الْكَلَامِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُهُ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ كُلِّيَّةٌ فِي جَمِيعِ الْكَلَامِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالشِّعْرِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ إِذَا تَضَمَّنَ حَذْفًا أَوْ إِضْمَارًا، قُدِّرَ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ، وَمَوْضِعُ بَسْطِهِ بِأَمْثِلَتِهِ «كِتَابُ الْمَجَازِ» لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ.

قَوْلُهُ: «عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، احْتِرَازًا مِنَ الْأَحْكَامِ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ» . قَدْ عُلِمَ مَعْنَى التَّفْصِيلِ وَالْإِجْمَالِ مِمَّا سَبَقَ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَوْ قَالَ: الْفِقْهُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ، لَدَخَلَ فِيهِ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَدِلَّةِ الْفِقْهِ كَقَوْلِنَا: الْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ، لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، حَاصِلَةٌ عَنِ الْأَدِلَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَتْ فِقْهًا، بَلْ هِيَ أُصُولُ فِقْهٍ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ بِقَوْلِهِ: الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، خَرَجَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا الْحَدُّ، لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ تَعَلُّمَهَا، لِيُعْلَمَ مَا يُبْنَى عَلَيْهَا مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ فَرْعِيَّةً، بَلْ هِيَ أُصُولِيَّةٌ.

وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ أَحْكَامَ أُصُولِ الْفِقْهِ هِيَ أُصُولِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ، فُرُوعِيَّةٌ مِنْ وَجْهٍ،

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ الْمَقْصُودَ لِذَاتِهِ، إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِالْعَقَائِدِ الْقَلْبِيَّةِ، وَهُوَ عِلْمُ أُصُولِ الدِّينِ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ، وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَوَقَعَ عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَاسِطَةً بَيْنَهُمَا، فَهُوَ يَسْتَمِدُّ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَمُدُّ فُرُوعَ الْفِقْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ مَوَادِّهِ عِلْمُ الْكَلَامِ، وَهُوَ أُصُولُ الدِّينِ، وَتَصَوُّرُ فُرُوعِ الْأَحْكَامِ لِتَمَكُّنِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ عِنْدَ ضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ، وَحِينَئِذٍ لَوْ لَمْ يَقُلْ: عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لَدَخَلَتِ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا أُصُولًا لِلْفِقْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا فُرُوعًا لِأُصُولِ الدِّينِ، فَبِالتَّفْصِيلِيَّةِ خَرَجَتْ عَنِ الدُّخُولِ فِي حَدِّ الْفِقْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ قَوِيٌّ.

وَأَحْسَبُ أَنِّي وَهِمْتُ فِي قَوْلِي: «الْحَاصِلَةُ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ» احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرْتُ، مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ وَنَحْوَهُ حُجَّةٌ، لِأَنَّ مَسَائِلَ كُلِّ عِلْمٍ وَأَحْكَامَهُ، حَاصِلَةٌ عَنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ، فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً حُكْمًا حَصَلَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُصُولِ الْفِقْهِ، وَسَيَأْتِي مِثَالُ هَذَا عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَالْمِثَالُ الصَّحِيحُ لِمَا حَصَلَ مِنَ الْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّةٍ إِجْمَالِيَّةٍ، وَوَقَعَ الِاحْتِرَازُ بِالتَّفْصِيلِيَّةِ عَنْهُ، هُوَ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي فَنِّ الْخِلَافِ، نَحْوَ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْمُقْتَضِي وَانْتَفَى بِوُجُودِ النَّافِي، فَإِنَّ هَذِهِ قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ إِجْمَالِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ، إِذْ يُقَالُ مَثَلًا: وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضِي، وَهُوَ تَمْيِيزُ الْعِبَادَةِ عَنِ الْعَادَةِ، وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: عَدَمُ وُجُوبِهِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَسْنُونِيَّتِهِ، حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضِي، وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ بِدُونِ النِّيَّةِ.

وَيُقَالُ: سُقُوطُ الْقَصَاصِ عَنِ الْمُسْلِمِ الْقَاتِلِ لِلذِّمِّيِّ، حُكْمٌ ثَبَتَ لِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ شَرَفُ الْمُسْلِمِ وَصِيَانَتُهُ، عَنْ أَنْ يُجْعَلَ الْكَافِرُ كُفْئًا لَهُ، وَيُقَالَ: قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، حُكْمٌ انْتَفَى بِوُجُودِ نَافِيهِ، وَهُوَ تَحَقُّقُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، أَوْ بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْمُكَافَأَةُ، وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ: هُوَ حُكْمٌ ثَبَتَ بِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ، وَهُوَ عِصْمَةُ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا أَدَّوُا الْجِزْيَةَ، فَلَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا.

وَغَالِبُ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، فَهِيَ أَدِلَّةٌ إِجْمَالِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَسْأَلَةٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ، إِمَّا إِثْبَاتُ الْحُكْمِ، فَهُوَ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ نَفْيهِ فَهُوَ بِالدَّلِيلِ النَّافِي، أَوْ بِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، أَوْ بِوُجُودِ الْمَانِعِ، أَوْ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ، فَهَذِهِ أَرْبَعُ قَوَاعِدَ ضَابِطَةٌ لِمَجَارِي الْأَحْكَامِ عَلَى تَعَدُّدِ جُزْئِيَّاتِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا. وَلَوْ عُلِّقَتْ عَنِ الْعِلْمِ، لَكَانَ أَوْلَى، وَتَقْدِيرُهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الْأَدِلَّةِ. وَعَلَى هَذَا إِنْ جُعِلَتْ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ، كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ، إِذْ يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُهُ عَنْهُ، إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَلَوْ عُلِّقَتْ عَنْ بِالْعِلْمِ، لَكَانَ أَوْلَى، وَتَقْدِيرُهُ، الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الْأَدِلَّةِ» . قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ: عَنْ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ: «عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ» لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَعَلِّقٍ، وَفِيهِ احْتِمَالَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ سَبَقَ تَقْدِيرُهُ.

وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى عَلِمَ يَعْلَمُ عِلْمًا، وَالْمَصْدَرُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ بِالِالْتِزَامِ، لِأَنَّهُ فَرْعُهُ مِنْ جِهَةِ التَّصْرِيفِ، وَبِالتَّضْمِينِ، لِأَنَّهُ جُزْءُ مَدْلُولِهِ، إِذْ مَدْلُولُ الْفِعْلِ الزَّمَانُ وَالْمَصْدَرُ، فَدَلَالَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الِالْتِزَامِ وَالتَّضَمُّنِ، وَهُمَا دَلَالَتَانِ قَوِيَّتَانِ، وَالتَّعَلُّقُ الْمَذْكُورُ فِي التَّحْقِيقِ، هُوَ بِمَا فِي الْعِلْمِ مِنْ مَعْنَى الْعَقْلِ، وَهُوَ عَلِمَ أَوْ يَعْلَمُ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ تَعْلِيقَ عَنْ بِلَفْظِ الْعِلْمِ، أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِمَحْذُوفٍ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، لِأَنَّ لَفْظَ الْعِلْمِ مَوْجُودٌ فِي الْحَدِّ، فَكَأَنَّ التَّعْلِيقَ بِهِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيقِ بِمَعْدُومٍ مُقَدَّرٍ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّعْلِيقِ أَنْ يَكُونَ بِالْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ، وَالتَّعَلُّقُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُقَدَّرَةِ عِنْدَ عَدَمِ اللَّفْظِ الْمَوْجُودِ ضَرُورَةُ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ، فَالتَّقْدِيرُ إِذًا: الْفِقْهُ، هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ.

قَوْلُهُ: «وَعَلَى هَذَا» أَيْ: عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي مُتَعَلِّقِ عَنْ، وَهُوَ أَنَّهُ الْعِلْمُ «إِنْ جُعِلَتْ عَنْ بِمَعْنَى مِنْ، كَانَ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ» ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: الْفِقْهُ، هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا.

قَوْلُهُ: «إِذْ يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ» إِلَى آخِرِهِ، هَذَا تَقْدِيرٌ وَتَوْجِيهٌ لِتَأْوِيلِ «عَنْ» بِمَعْنَى «مِنْ» ، وَهُوَ أَنَّ عَلِمَ إِنَّمَا يَتَعَدَّى فِي وَضْعِ اللُّغَةِ بِحَرْفِ «مِنْ» نَحْوَ: «عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ» مَثَلًا: عَلِمْتُ الْحُكْمَ مِنَ الدَّلِيلِ، وَعَلِمْتُ الْخَبَرَ مِنْ فُلَانٍ، «وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُهُ عَنْهُ» ، أَيْ: لَا يُقَالُ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ عَنِ الشَّيْءِ، وَعَلِمْتُ الْحُكْمَ عَنِ الدَّلِيلِ، وَالْخَبَرَ عَنْ فُلَانٍ، «إِلَّا بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ» ، وَهُوَ تَأْوِيلُ «عَنْ» بِمَعْنَى «مِنْ» . وَتَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّ «مِنْ» مَعْنَاهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَ «عَنْ» مَعْنَاهَا الْمُجَاوَزَةُ، فَمَعْنَى عَلِمْتُ الْحُكْمَ مِنَ الدَّلِيلِ، أَنَّ مَبْدَأَ عِلْمِي بِالْحُكْمِ هُوَ الدَّلِيلُ، أَوِ ابْتِدَاءُ عِلْمِي بِالْحُكْمِ كَانَ مِنَ الدَّلِيلِ، فَالدَّلِيلُ مَبْدَأُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ، كَمَا أَنَّ الدَّارَ مَبْدَأُ خُرُوجِكَ إِذَا قُلْتَ: خَرَجْتُ مِنَ الدَّارِ. وَمَعْنَى عَلِمْتُ الْحُكْمَ عَنِ الدَّلِيلِ جَاوَزَ الْعِلْمُ الدَّلِيلَ إِلَيَّ، لَكِنْ «عَنْ» الدَّالَّةُ عَلَى الْمُجَاوَزَةِ تَدُلُّ عَلَى مَبْدَأِ الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ بِالِالْتِزَامِ، إِذْ كُلُّ مُجَاوَزَةٍ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنَ ابْتِدَاءٍ، وَمِنْ، تَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاءِ الْعِلْمِ وَمَبْدَئِهِ بِالْمُطَابَقَةِ الْوَضْعِيَّةِ، فَكَانَتْ أَوْلَى، لِأَنَّهَا أَقْوَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ.

فَتَحَصَّلَ مِمَّا ذَكَرْنَا: أَنَّ قَوْلَنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، هُوَ الْأَصْلُ فِي تَعَدِّي عَلِمْتُ، وَقَوْلَنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنِ الْأَدِلَّةِ، لَا يُدَلُّ عَلَيْهِ إِلَّا بِوَاسِطَةِ تَأْوِيلِ «عَنْ» بِمَعْنَى «مِنْ» ، فَكَانَ التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ «مِنْ» الدَّالَّةِ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ «عَنْ» الَّتِي لَا تَدُلُّ إِلَّا بِوَاسِطَةٍ.

وَلَمْ آتِ أَنَا فِي الْمُخْتَصَرِ بِلَفْظِ «مِنْ» عِوَضًا عَنْ لَفْظِ «عَنْ» ، لِأَنَّ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ لِابْنِ الْحَاجِبِ، وَهُوَ بِلَفْظِ عَنْ، فَلَمْ أُغَيِّرْ لَفْظَهُ.

تَنْبِيهٌ يَتَعَلَّقُ بِتَحْقِيقِ قَوْلِنَا: إِذْ يُقَالُ: «عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ» . وَتَقْرِيرُهُ، أَنَّ «إِذْ» وُضِعَتْ فِي اللُّغَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الزَّمَنِ الْمَاضِي، كَقَوْلِكَ: قُمْتُ، أَيْ: فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي الَّذِي قُمْتَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهَا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضُوعِ التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ، فَيُقَالُ مَثَلًا: الْحُكْمُ فِيُ كَذَا كَذَا، إِذْ يُقَالُ: أَيْ: لِأَنَّهُ يُقَالُ: كَذَا لَا كَذَا، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: إِلَّا كَذَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ كَذَا، وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ الْعُرْفِيُّ مُطَابِقٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَكَ: قُمْتُ إِذْ قُمْتَ فِي مَعْنَى قَوْلِكَ: قُمْتُ لَمَّا قُمْتَ، وَلِمَا فِيهَا أَيْضًا مَعْنَى الزَّمَانِ، لِأَنَّهَا بِمَعْنَى حِينَ، أَيْ: قُمْتُ حِينَ قُمْتَ.

وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ قَوْلُ الْمُعَلِّلِ أَوِ الْمُسْتَدِلِّ مَثَلًا: النَّبِيذُ حَرَامٌ إِذْ هُوَ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ، إِذْ هِيَ شَرْطٌ فَتَجِبُ مُقَارَنَتُهُ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ، فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: لَمَّا كَانَ النَّبِيذُ مُسْكِرًا، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، حُرِّمَ النَّبِيذُ. وَلَمَّا كَانَتِ النِّيَّةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ، وَالشَّرْطُ تَجِبُ 

لِمَشْرُوطِهِ، وَجَبَ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ، فَهَذَا وَجْهُ اسْتِعْمَالِ «إِذْ» فِي مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ وَالدَّلِيلِ.

وَتَقْرِيرُهُ فِي عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ: لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: عَلِمْتُ الشَّيْءَ مِنَ الشَّيْءِ، وَلَا يُقَالُ: عَلِمْتُهُ عَنْهُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ عَلِمْتُهُ مِنْهُ، كَانَ قَوْلُنَا: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا، أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِنَا: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا. وَبِالِاسْتِدْلَالِ: قِيلَ: احْتِرَازٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَيْهِ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا. وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَقَائِقُ الْأَحْكَامِ تَابِعَةٌ لِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ احْتِرَازًا عَنِ الْمُقَلِّدِ. فَإِنَّ عِلْمَهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا. وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذِ الْمُقَلِّدُ يَخْرُجُ بِقَوْلِهِ: عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، لَيْسَ عَنْ دَلِيلٍ أَصْلًا. وَيُمْكُنُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ بِهَا عَنْ دَلِيلِ حِفْظِهِ، كَمَا حَفِظَهَا، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِخْرَاجِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِالِاسْتِدْلَالِ، إِذِ الِاسْتِدْلَالُ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّتَهُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْمُقَلِّدِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَبِالِاسْتِدْلَالِ قِيلَ: احْتِرَازٌ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولَيْهِ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالِيٌّ، لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَحَقَائِقُ الْأَحْكَامِ تَابِعَةٌ لِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا» .

مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّنَا بَعْدُ إِلَى الْآنِ فِي بَيَانِ الِاحْتِرَازَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا حَدُّ الْفِقْهِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى جَمِيعِهَا شَيْئًا فَشَيْئًا، إِلَّا قَوْلَهُ: «عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ» فَنُبَيِّنُ قَوْلَهُ: «بِالِاسْتِدْلَالِ» عَنْ أَيِّ شَيْءٍ احْتَرَزَ بِهِ.

فَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعِلْمِ رَسُولَيْهِ: جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ، وَعِلْمُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا، أَيْ لَيْسَ هُوَ حَاصِلٌ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَاتِيٌّ عَامُّ التَّعَلُّقِ بِالْأَشْيَاءِ، مُخَالِفٌ لِعُلُومِنَا الضَّرُورِيَّةِ وَالنَّظَرِيَّةِ، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَالِمٌ لَذَاتِهِ،

أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ، وَالذَّاتُ لَا تُوصَفُ بِضَرُورَةٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَعِلْمُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحْيٌ يَتَلَقَّاهُ مِنَ الْبَارِئِ جَلَّ جَلَالُهُ، أَوْ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ غَيْرِهِ، وَعِلْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحْيٌ يَتَلَقَّاهُ عَنْ جِبْرِيلَ، فَلَا يَحْتَاجَانِ فِيهِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ لَهُمَا بِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَبِمُرَادِهِ مِنْهُ حَاصِلٌ، وَمَعَ الْقَطْعِ، تَبْطُلُ فَائِدَةُ الِاسْتِدْلَالِ.

فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ يَقُلْ: بِالِاسْتِدْلَالِ، لَدَخَلَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ، لِأَنَّهَا عِلْمٌ بِأَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ عَنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، لَكِنَّهَا لَا تُسَمَّى فِقْهًا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا، فَاحْتِيجَ إِلَى إِخْرَاجِهَا بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ تِلْكَ الْعُلُومَ لَيْسَتْ بِالِاسْتِدْلَالِ.

وَيَعْنِي بِكَوْنِهَا عَنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ: أَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: «بَلْ هُوَ اسْتِدْلَالِيٌّ» يَعْنِي عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولَيْهِ، «لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الشَّيْءَ عَلَى حَقِيقَتِهِ» أَيْ عَلَى مَا هُوَ بِهِ «وَحَقَائِقُ الْأَحْكَامِ تَابِعَةٌ لِأَدِلَّتِهَا وَعِلَلِهَا» فَكَمَا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ، يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ تَابِعًا لِدَلِيلِهِ وَعِلَّتِهِ وَأَنَّهَا كَذَا، فَكَمَا يَعْلَمُونَ مَثَلًا وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَاطِئِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، يَعْلَمُونَ أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ عُمُومُ إِفْسَادِ الصَّوْمِ أَوْ خُصُوصُهُ بِالْوَطْءِ، وَكَمَا يَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَحْرِيمَ الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، يَعْلَمُ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ أَوِ الطَّعْمُ أَوِ الِاقْتِيَاتُ مَعَ الْجِنْسِ، وَكَمَا عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الْمُخَالِطِ، عَلِمَ أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ خُصُوصُ الضَّرَرِ بِشَرِيكِهِ حَتَّى يَقْتَصِرَ عَلَى الْمُقَاسِمِ، أَوْ عُمُومُهُ حَتَّى يَتَعَدَّى إِلَى الْمُلَاصِقِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.

قُلْتُ: وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولَيْهِ اسْتِدْلَالِيٌّ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِدْلَالِيِّ، مَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِاسْتِدْلَالٍ، وَهُوَ النَّظَرُ فِي مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ،

كَقَوْلِنَا: هَذَا مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ، فَنَاسَبَ عُقُوبَتَهُ بِالْكَفَّارَةِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْكَالِ الِاسْتِدْلَالِيَّةِ، وَالْعُلُومُ الْمَذْكُورَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.

وَأَمَّا عِلْمُهُمْ بِالْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ وَدَلِيلِهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ عُلُومَهُمُ اسْتِدْلَالِيَّةٌ، لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ بِدُونِ النَّظَرِ فِي دَلِيلِهِ وَعِلَّتِهِ، كَالْإِلْهَامِيَّاتِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِهَا هُجُومًا عَلَى النَّفْسِ، بِدُونِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ، وَفِيهَا مَا لَوْ أَرَادَ الْعَاقِلُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ عِلَّتَهُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ.

وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، التَّوَسُّطُ، وَهُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْأَحْكَامِ، لَيْسَ اسْتِدْلَالِيًّا لِمَا تَقَدَّمَ، وَعِلْمَ مَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَغَيْرِهِمُ اسْتِدْلَالِيٌّ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالِيَّ فِي عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ، أَظْهَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِمْ، لِقِلَّةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ.

بَيَانُ ذَلِكَ، أَنَّ أَقَلَّ مَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعِلْمُ الِاسْتِدْلَالِيُّ، مُقَدِّمَتَانِ، فَإِذَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ أَوْجَبْتُ الصَّلَاةَ عَلَى بَنِي آدَمَ، فَانْزِلْ بِذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَعِلْمُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ مَسْبُوقٌ بِمُقَدِّمَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْآمِرَ لَهُ بِذَلِكَ هُوَ اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ، أَوْ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلصَّلَاةِ، هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَهُوَ مَعْلُومُ الْوُجُوبِ، فَإِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا، وَأَخْبَرَهُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ

عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ، كَانَ عِلْمُ الرَّسُولِ بِوُجُوبِهَا مَسْبُوقًا بِثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ:

إِحْدَاهُنَّ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ.

وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِهِ.

الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مَعْصُومٌ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ مِنَ الْخَطَأِ، فَإِذَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، كَانَ عِلْمُهُمْ بِوُجُوبِهَا مَسْبُوقًا بِمُقَدِّمَاتٍ:

مِنْهَا: أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ رَسُولُ اللَّهِ تَعَالَى، فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الْوَحْيِ، وَمُسْتَنَدُ صِحَّةِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ، ظُهُورُ الْمُعْجِزِ الْخَارِقِ عَلَى يَدِهِ، لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ تَصْدِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي النُّبُوَّاتِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَمِنْهَا: أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَهُوَ حَقٌّ، ثُمَّ تَتَعَدَّدُ طَبَقَاتُ الْأُمَّةِ وَكَثْرَةُ الْوَسَائِطِ بِتَعَدُّدِ مُقَدِّمَاتِ الْعِلْمِ الِاسْتِدْلَالِيِّ.

فَنَقُولُ فِيمَا أَرَدْنَا إِيجَابَهُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ: هَذَا الصَّحَابِيُّ عَدَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجَازَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، بِقَوْلِهِ: أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ، وَمَنْ عَدَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَجَازَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعْصُومٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعْصُومٌ مِنَ الْخَطَأِ، حَتَّى إِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي يَبْلُغُنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاسِطَةِ عَشَرَةٍ، أَوْ عِشْرِينَ مِنَ الرُّوَاةِ، هُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ مِنَ

الْمُقَدِّمَاتِ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِي حَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الرُّوَاةِ مُقَدِّمَةٌ، هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ.

وَإِنْ تَجَوَّزْنَا، فَقُلْنَا: النَّظَرُ فِي حَالِ مَجْمُوعِ رِجَالِ الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ، مُقَدِّمَةٌ.

قَوْلُهُ: «فَعَلَى هَذَا» ، أَيْ: عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ وَرَسُولَيْهِ اسْتِدْلَالِيٌّ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: بِالِاسْتِدْلَالِ احْتِرَازٌ عَنْهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: بِالِاسْتِدْلَالِ مُحْتَرِزًا بِهِ عَنْ شَيْءٍ، لِئَلَّا يَبْقَى ذِكْرُهُ لَاغِيًا غَيْرَ مُفِيدٍ، فَيَكُونُ مُحْتَرِزًا بِهِ عَنِ الْمُقَلِّدِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى عِلْمُهُ بِهَا فِقْهًا، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا بِالنَّقْلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْمُجْتَهِدِ، لَا عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَالشَّرْطُ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ بِالِاسْتِدْلَالِ.

قَوْلُهُ: «وَفِيهِ نَظَرٌ» ، أَيْ: فِي كَوْنِ قَوْلِهِ: بِالِاسْتِدْلَالِ احْتِرَازٌ عَنِ الْمُقَلِّدِ نَظَرٌ لِأَنَّ عِلْمَ الْمُقَلِّدِ يَخْرُجُ مِنْ حَدِّ الْفِقْهِ، وَيَحْصُلُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِقَوْلِنَا: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، وَمَعْرِفَةُ الْمُقَلِّدِ لِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، لَيْسَتْ عَنْ دَلِيلٍ أَصْلًا، لَا إِجْمَالِيٍّ وَلَا تَفْصِيلِيٍّ، وَشَرْطُ الْفِقْهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ، وَعِلْمُ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ، فَلَا يَكُونُ فِقْهًا، وَلَا الْمُقَلِّدُ فَقِيهًا، فَيَكُونُ خَارِجًا عَنْ حَدِّ الْفِقْهِ، بِقَيْدِ التَّفْصِيلِ، لَا بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ، وَحِينَئِذٍ يَبْقَى لَفْظُ الِاسْتِدْلَالِ لَاغِيًا لَا يُفِيدُ شَيْئًا.

تَنْبِيهَانِ:

أَحَدُهُمَا: قَوْلُ الْقَائِلِ: فِي هَذَا الْكَلَامِ، أَوْ فِي هَذَا الرَّأْيِ نَظَرٌ، أَيْ: يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُعَادَ النَّظَرُ فِيهِ، أَوْ يَحْتَاجُ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ لِإِظْهَارِ مَا يَلُوحُ فِيهِ مِنْ فَسَادٍ، وَلَا يُقَالُ  ذَلِكَ فِي كَلَامٍ مَقْطُوعٍ بِفَسَادِهِ وَلَا صِحَّتِهِ، بَلْ فِيمَا كَانَ فَسَادُهُ مُحْتَمَلًا، فَإِنْ قِيلَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ يُقْطَعُ بِفَسَادِهِ، كَانَ كِنَايَةً وَمُحَابَاةً لِلْخَصْمِ، وَإِنْ قِيلَ فِي كَلَامٍ يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ، كَانَ عِنَادًا مِنَ الْقَائِلِ.

الثَّانِي: قَوْلُهُ: «لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بَعْضَ» هُوَ مَنْصُوبٌ بِمَعْرِفَتِهِ، لِأَنَّهَا مَصْدَرٌ، أَوِ اسْمُ مَصْدَرٍ يَعْمَلُ عَمَلَ فِعْلِهِ، تَقْدِيرُهُ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمُقَلِّدِ، أَيْ: إِنْ عَرَفَ بَعْضَ الْأَحْكَامِ. قَوْلُهُ: «وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ» هَذَا رَدٌّ لِلنَّظَرِ الْمَذْكُورِ فِي أَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِدْلَالِ احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ الْمُقَلِّدِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ.

وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ حَفِظَهُ كَمَا حَفِظَ الْأَحْكَامَ، إِذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْمَعَ الْمُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا يَقُولُ: الْمُرْتَدَّةُ تُقْتَلُ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَتْلِ الْمُرْتَدِّ تَبْدِيلُ الدِّينِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ. وَذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَحَقِّقٌ فِي الْمُرْتَدَّةِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ عَامٌّ يَتَنَاوَلُهَا. أَوْ يَسْمَعُ حَنَفِيًّا يَقُولُ: الْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ، لِنَهْيهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِنَّمَا قُتِلَ بِالرِّدَّةِ، لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْإِسْلَامِ بِتَنْقِيصِ عَدَدِ أَهْلِهِ، وَصَيْرُورَتِهِ عَوْنًا لِعَدُوِّهِمْ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَارْتِدَادُهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَهَذَا  الْمَعْنَى مُنْتَفٍ فِي الْمُرْتَدَّةِ، لِأَنَّ ارْتِدَادَهَا لَا يُؤَثِّرُ، وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُوَجَّهَةِ بِدَلَائِلِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَيَكُونُ الْمُقَلِّدُ حِينَئِذٍ عَالِمًا بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَلَوِ اقْتَصَرَ فِي حَدِّ الْفِقْهِ عَلَى ذَلِكَ، لَدَخَلَ فِيهِ الْمُقَلِّدُ، وَلَيْسَ هُوَ فَقِيهًا، وَلَا يُسَمَّى عِلْمُهُ فِقْهًا، فَاحْتِيجَ إِلَى إِخْرَاجِهِ بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ وَإِنْ كَانَ عَنْ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ يَسْتَدْعِي أَهْلِيَّتَهُ، أَيْ: يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ.

وَأَهْلِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْمُقَلِّدِ، إِذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُنْتَفِيَةً فِيهِ، لَمَا كَانَ مُقَلِّدًا، لَأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ مُجْتَهِدٌ، وَالْمُجْتَهِدُ ضِدُّ الْمُقَلِّدِ، فَلَوْ كَانَ عِلْمُهُ بِالِاسْتِدْلَالِ مَعَ فَرْضِنَا لَهُ مُقَلِّدًا، لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.

وَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: يَحْتَرِزُ بِقَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ أَيْضًا، عَنْ مِثْلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَا لَا يُسَمَّى فِقْهًا فِي الِاصْطِلَاحِ، لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَحُصُولِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِهِ، لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، كَالْعَوَامِّ وَالنِّسَاءِ وَالْحَمْقَى وَنَحْوِهِمْ.

 ______________

وَأُورِدَ عَلَيْهِ: أَنَّ الْأَحْكَامَ الْفَرْعِيَّةَ مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: التَّفْصِيلِيَّةُ، لَا فَائِدَةَ لَهُ، إِذْ كُلُّ دَلِيلٍ فِي فَنٍّ، فَهُوَ تَفْصِيلِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، لِوُجُوبِ تَطَابُقِ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ. وَأَنَّ الْأَحْكَامَ، إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْبَعْضُ، دَخَلَ الْمُقَلِّدُ لِعِلْمِهِ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ فَقِيهًا، وَإِنْ أُرِيدَ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ، لَمْ يُوجَدْ فِقْهٌ وَلَا فَقِيهٌ، إِذْ جَمِيعُهَا لَا يُحِيطُ بِهَا بَشَرٌ، لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ سُئِلُوا فَقَالُوا: لَا نَدْرِي.

وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْحُكْمَ مَعْلُومٌ، وَالظَّنَّ فِي طَرِيقِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْفَقِيهَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا، عَلِمَ ذَلِكَ قَطْعًا بِحُصُولِ ذَلِكَ الظَّنِّ، وَبِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَاهُ، بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّ الظَّنَّ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ، الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوِ الْعِلْمُ بِحُصُولِ ظَنِّ الْأَحْكَامِ إِلَى آخِرِهِ. وَفِيهِ تَعَسُّفٌ لَا يَلِيقُ بِالتَّعْرِيفَاتِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الظَّنُّ مَجَازًا، وَهُوَ أَيْضًا لَا يَلِيقُ.

وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ بِأَدِلَّتِهَا أَوْ أَمَارَاتِهَا. وَالْمُقَلِّدُ لَا يَعْلَمُهَا كَذَلِكَ. أَوْ بِأَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُهَا بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْفِعْلِ، أَيْ تَهَيُّؤُهُ لِلْعِلْمِ بِالْجَمِيعِ، لِأَهْلِيَّتِهِ لِلِاجْتِهَادِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عِلْمُهُ بِجَمِيعِهَا بِالْفِعْلِ، فَلَا يَضُرُّ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ: لَا نَدْرِي، مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ قَرِيبًا.

وَلَوْ قِيلَ: ظَنُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ، بِاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ أَدِلَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ، لَحَصَلَ الْمَقْصُودُ وَخَفَّ الْإِشْكَالُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

قَوْلُهُ: «وَأُورِدَ عَلَيْهِ» إِلَى آخِرِهِ. أَيْ: وَأُورِدَ عَلَى حَدِّ الْفِقْهِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَسْئِلَةٌ، وَمَعْنَى إِيرَادِ السُّؤَالِ عَلَى الْكَلَامِ: مُعَارَضَتُهُ بِمَا يُنَاقِضُهُ وَيُبْطِلُهُ مِنْ جِهَةِ الطَّرْدِ، أَوِ الْعَكْسُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ.

وَالْأَسْئِلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمُخْتَصَرِ ثَلَاثَةٌ:

أَحَدُهَا: «أَنَّ الْأَحْكَامَ الْفَرْعِيَّةَ مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ» .

وَتَقْرِيرُ هَذَا السُّؤَالِ، أَنَّكُمْ قَدْ عَرَّفْتُمُ الْفِقْهَ: بِأَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ. وَالْعِلْمُ: هُوَ الْحُكْمُ الْجَازِمُ الْمُطَابِقُ، وَالْأَحْكَامُ الْفَرْعِيَّةُ، أَوْ غَالِبُهَا، مَظْنُونَةٌ لَا مَعْلُومَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْلُومِ وَالْمَظْنُونِ، أَنَّ الْمَعْلُومَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، كَالْبَدِيهِيَّاتِ وَالتَّوَاتُرِيَّاتِ، وَالْمَظْنُونُ يَحْتَمِلُهُ، كَقَوْلِنَا: جِلْدُ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ، وَلَا تَزُولُ النَّجَاسَةُ بِمَائِعٍ غَيْرِ الْمَاءِ، فَإِنَّ هَذَا وَإِنِ اعْتَقَدْنَا ظُهُورَهُ، فَخِلَافُهُ مُحْتَمَلٌ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ جَامِعًا، فَتَخْرُجُ غَالِبُ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ كَوْنِهَا فِقْهًا.

السُّؤَالُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَكُمْ: عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، لَا فَائِدَةَ لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ، فَهُوَ تَفْصِيلِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ الْفَنِّ، لِوُجُوبِ تَطَابُقِ الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ: أَيْ: يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُتَطَابِقَيْنِ، أَيْ: أَحَدُهُمَا طَبَقُ الْآخَرِ، أَيْ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا، بِجَوَازِ كَوْنِ الْفُتْيَا أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ، نَحْوَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ، فَأَجَابَ عَنِ السُّؤَالِ عَنْ حُكْمٍ بِالْجَوَابِ عَنْ حُكْمَيْنِ، وَلَا بِمَا أَجَازَهُ بَعْضُ النُّظَّارِ، مِنْ جَوَازِ كَوْنِ الْجَوَابِ أَخَصَّ، كَعَكْسِ الْحُكْمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مَا لَوْ سُئِلَ عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ وَأَكْلِ مَيْتَتِهِ، فَقَالَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ فَحَسْبُ، أَوْ هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَقَطْ، وَكَمَا لَوْ قَالَ السَّائِلُ: هَلْ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ؟ فَيَقُولُ الْمُجِيبُ: يَجُوزُ فِعْلُ ذَوَاتِ الْأَسْبَابِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لِأَنَّ دَلِيلَ كُلِّ حُكْمٍ مَا يَثْبُتُ بِهِ مُسَاوِيًا لَهُ، وَمَا خَرَجَ عَنْ مَحِلِّ السُّؤَالِ بِعُمُومٍ أَوْ خُصُوصٍ، لَيْسَ دَلِيلًا وَلَا بَعْضًا مِنَ الدَّلِيلِ الْمَسْؤُولِ عَنْهُ، فَالدَّلِيلُ فِي الْحَدِيثِ، هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِمْ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ؟ أَمَّا قَوْلُهُ: الْحِلُّ مَيْتَتُهُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحِلِّ السُّؤَالِ

عَلَى جِهَةِ ابْتِدَاءِ شَرْعِ هَذَا الْحُكْمِ.

السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُكُمْ: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، إِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، دَخَلَ الْمُقَلِّدُ فِي الْفِقْهِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، فَيَكُونُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ غَيْرَ مَانِعٍ، وَإِنْ أَرَدْتُمُ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ، لَمْ يَكُنِ الْحَدُّ جَامِعَهَا، بَلْ لَمْ يُوجَدْ فِقْهٌ وَلَا فَقِيهٌ، إِذْ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ لَا يُحِيطُ بِهَا بَشَرٌ، لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَغَيْرَهُمْ سُئِلُوا عَنْ بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَقَالُوا: لَا نَدْرِي، كَمَا حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَجَابَ عَنْ سِتَّةَ عَشَرَ حُكْمًا مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَقَالَ فِي الْبَاقِي: لَا أَدْرِي. وَحُكِيَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ: جُنَّةُ الْعَالِمِ لَا أَدْرِي، فَإِذَا أَخْطَأَهَا، أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ. وَالْجُنَّةُ: بِضَمِّ الْجِيمِ السُّتْرَةُ، وَقَوْلُ: لَا أَدْرِي فِي كَلَامِ أَحْمَدَ كَثِيرٌ جِدًّا.

قَوْلُهُ: «وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ» ، هَذَا شُرُوعٌ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى تَرْتِيبِهَا أَوَّلٍ فَأَوَّلٍ.

وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُورِدُونَ الْأَسْئِلَةَ ثُمَّ يُورِدُونَ أَجْوِبَتَهَا مُرَتَّبَةً عَلَيْهَا، وَطَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ يَذْكُرُونَ جَوَابَ كُلِّ سُؤَالٍ عَقِيبَهُ، وَهَذِهِ أَيْسَرُ عَلَى الْفَهْمِ، وَفِي كِلَا الطَّرِيقَيْنِ حِكْمَةٌ، وَأَنَا سَلَكْتُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ غَالِبًا الطَّرِيقَةَ الْأُولَى، لِأَنَّهَا أَعْوَنُ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالِاخْتِصَارِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَقَدْ أُجِيبَ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، فَيَخْرُجُ عَنِ التَّعْرِيفِ بِالْعِلْمِ، بِأَنَّ الْحُكْمَ مَعْلُومٌ وَالظَّنَّ فِي طَرِيقِهِ.

وَبَيَانُهُ: أَنَّ الْفَقِيهَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ كَذَا، عَلِمَ قَطْعًا بِحُصُولِ ذَلِكَ الظَّنِّ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ وِجْدَانِيٌّ، كَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ، يَقْطَعُ الْإِنْسَانُ بِوُجُودِ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَعَلِمَ قَطْعًا بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الظَّنِّ، بِنَاءً عَلَى مَا ثَبَتَ  مِنْ أَنَّ الظَّنَّ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ، أَيْ: إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ حُكْمٌ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَالْفُتْيَا إِذَا سُئِلَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ.

وَدَلِيلُ أَنَّ الظَّنَّ يُوجِبُ الْعَمَلَ: الْإِجْمَاعُ، وَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْكَامِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الظُّنُونِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ ذَلِكَ الظَّنَّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ. وَمِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، أَنَّ غَالِبَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ لَا تُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، فَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِالظَّنِّ، لَبَطَلَتْ أَكْثَرُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، أَوْ لَزِمَ الْمُكَلَّفُ أَنْ لَا يَعْمَلَ إِلَّا بِالْقَطْعِ، مَعَ أَنَّ دَلِيلَ الشَّرْعِ لَا يُفِيدُهُ، وَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ

جَائِزًا، لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْفُرُوعِ.

وَهَذَا هُوَ جَوَابُ الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ فِي «الْمَحْصُولِ» ، وَلَفْظُهُ: فَإِنْ قُلْتَ: الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ، فَكَيْفَ جَعَلْتَهُ عِلْمًا؟ قُلْتُ: الْمُجْتَهِدُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مُشَارَكَةُ صُورَةٍ لِصُورَةٍ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إِلَيْهِ ظَنُّهُ، فَالْحُكْمُ مَعْلُومٌ قَطْعًا، وَالظَّنُّ وَقَعَ فِي طَرِيقِهِ. انْتَهَى كَلَامُهُ.

وَمِثَالُهُ، قَوْلُنَا: الْخَمْرُ مُحَرَّمٌ بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ، وَهِيَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَالنَّبِيذُ يُشَارِكُ الْخَمْرَ فِي الْعِلَّةِ، فَغَلَبَ بِذَلِكَ عَلَى ظَنِّنَا تَحْرِيمُ النَّبِيذِ، وَعَلِمْنَا بِالْإِجْمَاعِ وُجُوبَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَاجْتِنَابِهِ، بِمُقْتَضَى هَذَا الظَّنِّ، فَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ، هُوَ وُجُوبُ اجْتِنَابِهَا، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الظَّنُّ فِي طَرِيقِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُنَا: النَّبِيذُ يُشَارِكُ الْخَمْرَ فِي الْإِسْكَارِ، الَّذِي هُوَ عِلَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَهُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ، وَإِذَا شَارَكَهُ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهِ.

فَهَذَا قِيَاسٌ تَوَصَّلْنَا بِهِ إِلَى حُصُولِ الظَّنِّ بِتَحْرِيمِ النَّبِيذِ، وَهُوَ قِيَاسٌ ظَنِّيٌّ، فَلَمَّا حَصَلَ لَنَا الظَّنُّ مِنَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ، حَكَمْنَا بِالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْقَوْلِ بِالتَّحْرِيمِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ ظَنِّيٌّ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، فَالْإِجْمَاعُ الْقَاطِعُ أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ الْحَاصِلِ عَنِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِالْوُجُوبِ.

وَقَالَ ابْنُ الصَّيْقَلِ فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: الظُّنُونُ لَيْسَتْ فِقْهًا، وَإِنَّمَا الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ عِنْدَ قِيَامِ الظُّنُونِ.

وَقَدْ أَكْثَرْتُ فِي هَذَا الْمَكَانِ، لِأَنَّهُ مِمَّا يَسْتَشْكِلُ فَهْمُهُ، فَقَصَدْتُ بِالْإِكْثَارِ فِيهِ

إِيضَاحَهُ.

قَوْلُهُ: «وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي» . إِلَى آخِرِهِ، هَذِهِ صُورَةُ مُنَاقَشَةٍ عَلَى حَدِّ الْفِقْهِ الْمَذْكُورِ، وَتَقْرِيرُهَا: أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي أَنَّ تَقْدِيرَ لَفْظِ الْحَدِّ هَكَذَا: الْفِقْهُ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوِ الْعِلْمُ بِحُصُولِ الظَّنِّ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ، أَوِ الْعِلْمُ بِحُصُولِ ظَنِّ الْأَحْكَامِ إِلَى آخِرِهِ، أَيْ إِلَى آخِرِ الْحَدِّ، يَعْنِي الْعِلْمَ بِحُصُولِ ظَنِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي جَوَابِنَا عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِنَا: الْفِقْهُ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ، أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّنَا حُكْمٌ، عَلِمْنَا بِالْإِجْمَاعِ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ، فَصَارَ بِالضَّرُورَةِ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي الْحَدِّ: أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْع