الخميس، 18 يناير 2024

11.سورة هود كلها.{123.مكية}

 

 11.سورة هود .كاملة {123.مكية}

سورة هود

مقدمة السورة

أسماء السورة:

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسورةِ (هود)

، ولم يُعرَفْ لها اسمٌ سِواه.

فعن عُقبةَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ الله، أَقْرِئْني سورةَ هودٍ، وسورةَ يوسفَ ... الحديثَ))

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ هودٍ مكِّيَّةٌ

، وحُكي الإجماعُ على ذلك 


مقاصد السورة:

 

مِن أهمِّ مَقاصدِ سورةِ هودٍ:

 

- تثبيتُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَسلِيتُه

موضوعات السورة:

 

من أهمِّ الموضوعاتِ التي اشتملَتْ عليها سورةُ هودٍ:

1- التَّنويهُ بشأنِ القُرآنِ، وإقامةُ الأدلَّةِ على أنَّه مِن عندِ اللَّهِ.

2- بيانُ أنَّ اللَّهَ سُبحانَه مُطَلِّعٌ على سَرائرِ الخَلقِ وضَمائرِهم، وأنَّه ضَمِنَ الأرزاقَ للمَخلوقاتِ.

3- إثباتُ البَعثِ والجزاءِ.

4- بيانُ أحوالِ النَّاسِ في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ.

5- تثبيتُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وتَسليتُه عمَّا يقولُه المُشرِكونَ وما يَقتَرحونَه مِن آياتٍ.

6- بيانُ حالِ فريقِ الكافرينَ، وفريقِ المؤمنينَ، وضربُ المَثَلِ لهما.

7- ذِكرُ بَعضِ قَصصِ الأنبياءِ، وتفصيلُ بعضِ أحداثِها، وما جرَى لهم مع أقوامِهم، ومِن ذلك قِصَّةُ نوحٍ، وهودٍ، وصالحٍ، وإبراهيمَ، ولوطٍ، وشعيبٍ، وموسَى- عليهم صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُه.

8- الإرشادُ إلى ما  يُوجِبُ السَّعادةَ؛ كالاستقامةِ على الدِّينِ، وعَدَمِ الرُّكونِ إلى الظَّالمينَ، وإقامةِ الصَّلاةِ.

9- بيانُ الفائدةِ مِنَ القَصَصِ، وذكْرِ أنباءِ الرُّسُلِ؛ مِن تثبيتِ قلبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

10- خُتِمت السورةُ بالأمرِ بالتوكُّلِ على اللهِ في كلِّ حالٍ.

=================

غريب الكلمات

المعنى الإجمالي

تفسير الآيات

الفوائد التربوية

الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيات

 ===

سورة هود

 

الآيات (كاملة)

سورة هود مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم

الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ (2) وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ (3) إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ (4) أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (5) ۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ (6) وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۗ وَلَئِن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡمَوۡتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ (7) وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (8) وَلَئِنۡ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِنَّا رَحۡمَةٗ ثُمَّ نَزَعۡنَٰهَا مِنۡهُ إِنَّهُۥ لَيَـُٔوسٞ كَفُورٞ (9) وَلَئِنۡ أَذَقۡنَٰهُ نَعۡمَآءَ بَعۡدَ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّـَٔاتُ عَنِّيٓۚ إِنَّهُۥ لَفَرِحٞ فَخُورٌ (10) إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٞ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكُۢ بَعۡضَ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ وَضَآئِقُۢ بِهِۦ صَدۡرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ كَنزٌ أَوۡ جَآءَ مَعَهُۥ مَلَكٌۚ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٞۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٌ (12) أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (13) فَإِلَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلۡمِ ٱللَّهِ وَأَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ (14) مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ (15) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَيۡسَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (16) أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ (17) وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ (18) ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ (19) أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يَكُونُواْ مُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَۘ يُضَٰعَفُ لَهُمُ ٱلۡعَذَابُۚ مَا كَانُواْ يَسۡتَطِيعُونَ ٱلسَّمۡعَ وَمَا كَانُواْ يُبۡصِرُونَ (20) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ (22) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَأَخۡبَتُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ (23) ۞مَثَلُ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ وَٱلۡبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِۚ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦٓ إِنِّي لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٌ (25) أَن لَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ أَلِيمٖ (26) فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ (27) قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ (28) وَيَٰقَوۡمِ لَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مَالًاۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۚ وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۚ إِنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَلَٰكِنِّيٓ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمٗا تَجۡهَلُونَ (29) وَيَٰقَوۡمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمۡۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٞ وَلَآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزۡدَرِيٓ أَعۡيُنُكُمۡ لَن يُؤۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيۡرًاۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِيٓ أَنفُسِهِمۡ إِنِّيٓ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (31) قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدۡ جَٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَٰلَنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأۡتِيكُم بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ (33) وَلَا يَنفَعُكُمۡ نُصۡحِيٓ إِنۡ أَرَدتُّ أَنۡ أَنصَحَ لَكُمۡ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغۡوِيَكُمۡۚ هُوَ رَبُّكُمۡ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ (34) أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ إِنِ ٱفۡتَرَيۡتُهُۥ فَعَلَيَّ إِجۡرَامِي وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُجۡرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ (36) وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ (37) وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ (38) فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيۡهِ عَذَابٞ مُّقِيمٌ (39) حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ (40) ۞وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡر۪ىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ (41) وَهِيَ تَجۡرِي بِهِمۡ فِي مَوۡجٖ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (42) قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ (44) وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ (45) قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَيۡسَ لِي بِهِۦ عِلۡمٞۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِي وَتَرۡحَمۡنِيٓ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ (47) قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمٞ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ (48) تِلۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهَآ إِلَيۡكَۖ مَا كُنتَ تَعۡلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوۡمُكَ مِن قَبۡلِ هَٰذَاۖ فَٱصۡبِرۡۖ إِنَّ ٱلۡعَٰقِبَةَ لِلۡمُتَّقِينَ (49) وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۖ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُفۡتَرُونَ (50) يَٰقَوۡمِ لَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (51) وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡاْ مُجۡرِمِينَ (52) قَالُواْ يَٰهُودُ مَا جِئۡتَنَا بِبَيِّنَةٖ وَمَا نَحۡنُ بِتَارِكِيٓ ءَالِهَتِنَا عَن قَوۡلِكَ وَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِينَ (53) إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعۡتَرَىٰكَ بَعۡضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوٓءٖۗ قَالَ إِنِّيٓ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ وَٱشۡهَدُوٓاْ أَنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ (54) مِن دُونِهِۦۖ فَكِيدُونِي جَمِيعٗا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (56) فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُم مَّآ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَيَسۡتَخۡلِفُ رَبِّي قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّونَهُۥ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ (57) وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا هُودٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَنَجَّيۡنَٰهُم مِّنۡ عَذَابٍ غَلِيظٖ (58) وَتِلۡكَ عَادٞۖ جَحَدُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَعَصَوۡاْ رُسُلَهُۥ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَمۡرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ (59) وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَآ إِنَّ عَادٗا كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّعَادٖ قَوۡمِ هُودٖ (60) ۞وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ (61) قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ (62) قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَةٗ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُۥۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيۡرَ تَخۡسِيرٖ (63) وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖۖ ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوبٖ (65) فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ (67) كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّثَمُودَ (68) وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذٖ (69) فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۚ قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ (70) وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ (71) قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ (72) قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ (75) يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُودٖ (76) وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ (77) وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ (78) قَالُواْ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنۡ حَقّٖ وَإِنَّكَ لَتَعۡلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوۡ أَنَّ لِي بِكُمۡ قُوَّةً أَوۡ ءَاوِيٓ إِلَىٰ رُكۡنٖ شَدِيدٖ (80) قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ (81) فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ (83) ۞وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَۖ إِنِّيٓ أَرَىٰكُم بِخَيۡرٖ وَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ مُّحِيطٖ (84) وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ (86) قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ (87) قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (88) وَيَٰقَوۡمِ لَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِيٓ أَن يُصِيبَكُم مِّثۡلُ مَآ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَٰلِحٖۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطٖ مِّنكُم بِبَعِيدٖ (89) وَٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٞ وَدُودٞ (90) قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ (91) قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَهۡطِيٓ أَعَزُّ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَآءَكُمۡ ظِهۡرِيًّاۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ (92) وَيَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَٰمِلٞۖ سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ وَمَنۡ هُوَ كَٰذِبٞۖ وَٱرۡتَقِبُوٓاْ إِنِّي مَعَكُمۡ رَقِيبٞ (93) وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا شُعَيۡبٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ (94) كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ (95) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَا وَسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ (96) إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦ فَٱتَّبَعُوٓاْ أَمۡرَ فِرۡعَوۡنَۖ وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ (97) يَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَأَوۡرَدَهُمُ ٱلنَّارَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡوِرۡدُ ٱلۡمَوۡرُودُ (98) وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِۦ لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ بِئۡسَ ٱلرِّفۡدُ ٱلۡمَرۡفُودُ (99) ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّهُۥ عَلَيۡكَۖ مِنۡهَا قَآئِمٞ وَحَصِيدٞ (100) وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡۖ فَمَآ أَغۡنَتۡ عَنۡهُمۡ ءَالِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖ لَّمَّا جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَمَا زَادُوهُمۡ غَيۡرَ تَتۡبِيبٖ (101) وَكَذَٰلِكَ أَخۡذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ ٱلۡقُرَىٰ وَهِيَ ظَٰلِمَةٌۚ إِنَّ أَخۡذَهُۥٓ أَلِيمٞ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّمَنۡ خَافَ عَذَابَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ ذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّجۡمُوعٞ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّشۡهُودٞ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُۥٓ إِلَّا لِأَجَلٖ مَّعۡدُودٖ (104) يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ (105) فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيقٌ (106) خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ (107) ۞وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلۡجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۖ عَطَآءً غَيۡرَ مَجۡذُوذٖ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّمَّا يَعۡبُدُ هَٰٓؤُلَآءِۚ مَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبۡلُۚ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمۡ نَصِيبَهُمۡ غَيۡرَ مَنقُوصٖ (109) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ فَٱخۡتُلِفَ فِيهِۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ (110) وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ (111) فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ (112) وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ (114) وَٱصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (115) فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡمٖ وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ (117) وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ (119) وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَآءَكَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةٞ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ (120) وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنَّا عَٰمِلُونَ (121) وَٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ (123)

غريب الكلمات:

 

فُصِّلَتْ: أي: بُيِّنتْ، وأصلُ (فصل): يدلُّ على تَمييزِ الشَّيءِ مِن الشَّيءِ، وإبانتِه عنه

.

لَدُنْ: أي: عندَ، أو لدَى، لكن (لدن) أخصُّ مِن (عند) .

يَثْنُونَ: أي: يَطوونَ ويُخفونَ .

يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ: أي: يَستَتِرونَ بها، ويُغَطُّونَ رُؤوسَهم، وأصلُ (غشي): يدلُّ على تَغطيةِ شيءٍ بِشَيءٍ

المعنى الإجمالي:

 

افتَتَحَ اللهُ هذه السورةَ العظيمةَ بالحُروفِ المُقطَّعةِ؛ لبيانِ إعجازِ القُرآنِ، إذ إنَّها تشيرُ إلى الحالةِ التي كان عليها العربُ مِن العجزِ عن مُعارضتِه بالإتيانِ بِشيءٍ مِن مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها، ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ هذا الكتابَ الذي أنزَلَه على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُحكِمَت آياتُه، فلا خَللَ فيها ولا باطِلَ، ثم بُيِّنَت بالأمرِ والنَّهيِ والأخبارِ الصادقةِ مِن عندِ اللهِ، الحكيمِ بتدبيرِ الأمورِ، الخبيرِ بما تؤولُ إليه عواقِبُها، وكان ذلك لأجلِ أن لا تعبُدوا إلَّا اللهَ وَحدَه لا شريكَ له، ثمَّ أمر اللهُ تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ للنَّاسِ: إنَّني لكم نذيرٌ مِن عندِ اللهِ أُنذِرُكم عقابَه، وبشيرٌ أُبشِّرُكم بثوابِه، واسألوه أن يغفِرَ لكم ذنوبَكم، ثمَّ ارجِعوا إليه نادمينَ، يُمَتِّعْكم في دُنياكم متاعًا حسنًا بالحياةِ الطيِّبةِ فيها إلى أن يحينَ أجَلُكم، ويُعطِ كلَّ ذي فضلٍ مِن قولٍ أو عمَلٍ جزاءَ فَضلِه كاملًا لا نقصَ فيه، وإن تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه؛ فإنِّي أخشَى عليكم عذابَ يومٍ شَديدٍ، وهو يومُ القيامةِ، إلى اللهِ رُجوعُكم بعد موتِكم فاحذَروا عقابَه، وهو سُبحانه قادِرٌ على بَعثِكم وحَشرِكم وجَزائِكم، ألا إنَّ هؤلاء المُشرِكينَ يُضمِرونَ في صدورِهم الكُفرَ؛ ظنًّا منهم أنَّه يخفَى على الله ما تُضمِرُه نفوسُهم، ألا يَعلمونَ حينَ يُغطُّونَ أجسادَهم بثيابِهم أنَّ اللهَ لا يخفى عليه سِرُّهم وعلانيتُهم؟ إنَّه عليمٌ بكُلِّ ما تُكِنُّه صُدورُهم من النيَّاتِ والضَّمائرِ والسَّرائرِ.

تفسير الآيات:

 

الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1).

الَر

تقدَّمَ الكلامُ عن هذه الحروفِ المقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سورةِ البَقَرةِ

.

كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ

أي: هذا القُرآنُ أتقَنَ اللهُ آياتِه فلا خللَ فيها ولا باطِلَ ولا تَناقُضَ، ثمَّ بُيِّنَتْ بالأخبارِ الصَّادقةِ، والأحكامِ العادلةِ مِن أوامِرَ ونواهٍ .

كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 55] .

وقال سُبحانه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 114-115] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 52] .

وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الكهف: 54] .

مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.

أي: أُحكِمَت آياتُ القرآنِ ثمَّ فُصِّلَت من عند حكيمٍ في تدبيرِ الأشياءِ وتقديرِها، فيضعُ كُلَّ شيءٍ في مَوضِعِه اللَّائقِ به، خبيرٍ مُطَّلِعٍ على الظَّواهرِ والبواطِنِ، وعواقبِ الأمورِ وأحوالِ عبادِه وما يُصلِحُهم .

أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا تفسيرٌ أو بيانٌ لأوَّلِ ما أُحكِمَت وفُصِّلَت به وله الآياتُ، وهو أن تَجعلوا عبادتَكم له وَحْدَه، لا تُشرِكوا به شيئًا .

أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ .

أي: أُحكِمَت آياتُ القُرآنِ ثم فُصِّلَت؛ لئلَّا تَعبُدوا- أيُّها النَّاسُ- إلَّا اللهَ وَحدَه، ولا تُشِركوا به شيئًا .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .

وقال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] .

إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للنَّاسِ: إنَّني لكم من عندِ اللهِ نذيرٌ؛ أُخَوِّفُكم عقابَه في الدُّنيا والآخرةِ، إن كَفَرتُم به وعَصَيْتُموه، وبشيرٌ؛ أُبَشِّرُكم بثوابِ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ، إن آمَنتُم به وأطعتُموه .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سبأ: 28] .

وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها عطفٌ على جملةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وهو تفسيرٌ ثانٍ يَرجِعُ إلى ما في الجُملةِ الأُولَى مِن لفظِ التَّفصيلِ، فهذا ابتداءُ التَّفصيلِ؛ لأنَّه بيانٌ وإرشادٌ لوسائلِ نَبذِ عبادةِ ما عدا اللهَ تعالى، ودلائِلُ على ذلك وأمثالٌ ونُذُرٌ .

وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ.

أي: وأنِ استَغفِروا ربَّكم- أيُّها النَّاسُ- فاطلُبوا منه سَترَ ذُنوبِكم، والتَّجاوُزَ عن مؤاخَذتِكم بها، ثمَّ توبوا إليه فيما تَستَقبِلونه من أعمارِكم، بالرُّجوعِ إلى عبادتِه وَحْدَه، وطاعتِه، وتَرْكِ مَعصِيتِه .

عن الأغرِّ المُزَنيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا أيُّها النَّاسُ توبوا إلى اللهِ؛ فإنِّي أتوبُ في اليومِ إليه مئةَ مَرَّةٍ )) .

وعن شَدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سَيِّدُ الاستغفارِ أن تقولَ: اللهمَّ أنت ربِّي لا إلهَ إلَّا أنت، خَلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عَهدِك ووَعدِك ما استطعْتُ، أعوذُ بك مِن شَرِّ ما صنَعتُ، أبوءُ لك بنِعمَتِك عليَّ، وأبوءُ لك بذَنبي، فاغفِرْ لي؛ فإنَّه لا يَغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنت، قال: مَن قالها مِن النَّهارِ مُوقِنًا بها، فمات مِن يَومِه قبل أن يُمسيَ، فهو من أهلِ الجنَّةِ، ومن قالَها من اللَّيلِ وهو موقِنٌ بها، فمات قبل أن يُصبِحَ، فهو من أهلِ الجنَّةِ )) .

يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى.

أي: فإنَّكم إن استَغفَرتُم ربَّكم ثمَّ تُبتُم إليه، يُمتِّعْكم في الدُّنيا بسَعةِ الرِّزقِ ورَغَدِ العَيشِ، وحصولِ العافيةِ إلى حُضورِ أجَلِكم .

كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] .

وقال سُبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [الزمر: 10] .

وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ.

أي: ويُعطِ كلَّ ذي إحسانٍ وبِرٍّ- بقَولِه أو بفِعلِه، أو قُوَّتِه أو مالِه، أو غيرِ ذلك- أجْرَه وثوابَه .

كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى: 23] .

وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا انقضى التَّبشيرُ مجزومًا به، أتبَعَه التَّحذيرَ مخوفًا منه؛ لطفًا بالعبادِ، فقال تعالى :

وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ.

أي: وإن تُعرِضوا عمَّا دَعَوتُكم إليه، من إخلاصِ العِبادةِ لله تعالى وَحدَه، والاستغفارِ والتَّوبةِ إليه؛ فإنِّي أخاف عليكم عذابَ يومٍ كَبِيرٍ شأنُه، عظيمٍ هولُه .

إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا خوَّفَ تعالى المُنذَرينَ باليومِ الكبيرِ، كانوا كأنَّهم قالوا: ما هذا اليومُ؟ فكان الجوابُ: يومَ يُرجعونَ إليه .

إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ.

أي: إلى اللهِ وَحْدَه مَصيرُكم بعدَ مَوتِكم، فيُجازيكم بأعمالِكم، فاحذَروه .

كما قال تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة: 105] .

وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أي: واللهُ على كلِّ شَيءٍ قادِرٌ، فلا يُعجِزُه بعثُ عبادِه بعدَ مَوتِهم، ومُجازاتُهم على أعمالِهم .

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا قال الله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا يعني: عن عبادتِه وطاعتِه فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ؛ بيَّن بعده أنَّ التَّولِّيَ عن ذلك باطنًا كالتَّولِّي عنه ظاهِرًا .

وأيضًا لَمَّا قال: وَإِنْ تَوَلَّوْا عن عبادةِ اللهِ وطاعتِه؛ بيَّن بَعده صِفةَ ذلك التولِّي

وأيضًا فهذا الكلامَ قد نشأ عن قَولِه تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لِمُناسبةِ أنَّ المرجوعَ إليه لَمَّا كان مَوصوفًا بتمامِ القُدرةِ على كلِّ شَيءٍ، هو أيضًا مَوصوفٌ بإحاطةِ عِلمِه بكُلِّ شَيءٍ؛ للتَّلازُمِ بين تمامِ القُدرةِ وتمامِ العِلمِ .

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ.

أي: ألا إنَّ المُشرِكينَ يَعطِفونَ صُدورَهم ويَطوونَها على الشِّركِ والشَّكِّ في الحَقِّ، وعداوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ، يَظنُّونَ- جَهلًا منهم باللهِ- أنَّ ثَنيَ صُدورِهم يَحجُبُ عن علمِ اللهِ ما يُخفونَه فيها !

أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ.

أي: ألا إنَّ اللهَ- حين يتغطَّى المُشرِكونَ بثِيابِهم- يَعلَمُ ما يُسرُّونَه وما يُعلِنونَه، من الأقوالِ والأفعالِ، لا يخفَى عليه شيءٌ مِن سرائرِ عبادِه وعلانِيتِهم .

إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.

أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بما تُخفي صدورُ عِبادِه، من العقائدِ والإراداتِ، والأفكارِ والوساوسِ مِن خيرٍ وشَرٍّ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ أشارت الآيةُ إلى أنَّ الاستغفارَ والتَّوبةَ سبَبُ السَّعةِ، وأنَّ الإعراضَ سبَبُ الضِّيقِ، وقَولُه: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ إشارةٌ إلى ثوابِ الآخرةِ، فالتَّوبةُ سببُ طِيبِ العَيشِ في الدُّنيا والآخرةِ

.

2- قال الله تعالى: يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى سمَّى منافِعَ الدُّنيا بالمتاعِ؛ لأجلِ التَّنبيهِ على حَقارتِها وقِلَّتِها، ونبَّهَ على كونِها مُنقَضيةً بِقَولِه تعالى: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فصارت هذه الآيةُ دالَّةً على كَونِها حقيرةً خَسيسةً مُنقَضيةً ، ووصفُ المتاعِ بالحسَنِ إنَّما هو لطِيبِ عَيشِ المؤمِنِ برَجائِه في اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي ثَوابِه وفرَحِه بالتَّقرُّبِ إليه بِمَفروضاتِه، والسُّرورِ بمَواعيدِه، والكافِرُ ليس في شيءٍ مِن هذا .

3- قَولُ الله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ فيه إعلامٌ بتَفاوُتِ الدَّرَجاتِ في الآخرةِ، وترغيبٌ في العَمَلِ لها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- دلَّ قولُه تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ على أنَّ القرآنَ كلامُ الله مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، منه بَدأ، فلم يبتدئْ مِن غيره مِن الموجوداتِ، وإليه يعودُ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ بناه للمَفعولِ؛ بيانًا لأنَّ إحكامَه أمرٌ قد فُرِغَ منه على أيسَرِ وَجهٍ عنده سبحانه، وأُتقِنَ إتقانًا لا مزيدَ عليه .

3- العُمرُ يطولُ، والرِّزقُ يُبسَطُ بالتَّوبةِ، والاستغفارِ، والعَمَلِ الصَّالحِ؛ قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من أحبَّ أَن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسأَ له في أثره ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَه )) .

4- قَولُ الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فيه عُطِف الأمرُ بالتوبةِ على الاستغفارِ بحرفِ التراخي (ثمَّ)، وذلك لأنَّ مرتبةَ العَمَلِ متأخِّرةٌ عن مرتبةِ القَولِ؛ فكم من مستغفِرٍ، وهو مصِرٌّ على الذَّنبِ ، فالتَّائِبُ يستغفِرُ أوَّلًا، ثمَّ يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنبِ المُستغفَرِ منه ، وأيضًا فإنَّه أشار بأداة التَّراخي إلى علوِّ رُتبةِ التَّوبةِ، وأنْ لا سبيلَ إلى طلَبِ الغُفرانِ إلَّا بها .

5- قَولُ الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فيه سؤالٌ: أنَّنا نجِدُ من لم يستغفِرِ اللهَ ولم يتُب يُمَتِّعه الله متاعًا حَسنًا إلى أجَلِه، أي: يَرزُقه ويوسِّع عليه، أو يُعمِّره، فما فائدةُ التقييدِ بالاستغفارِ والتَّوبةِ؟

الجواب: أنَّ المتاعَ الحَسَن- المقيَّد بالاستغفارِ والتَّوبةِ- هو الحياةُ في الطاعةِ والقَناعةِ، ولا يكونانِ إلَّا للمُستغفِرِ التَّائبِ

6- قول الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا لَمَّا كان التَّمتيعُ- وهو المتاعُ البالغُ فيه حتى لا يكونَ فيه كدَرٌ- لا يكونُ إلَّا في الجنَّة، جعل المصدرَ مَتَاعًا ووَضَعَ موضِعَ (تَمتيعًا) هذا المصدرَ، ووَصفَه بِقَولِه: حَسَنًا؛ ليدُلَّ على أنَّه أنهى ما يليقُ بهذه الدَّارِ .

7- قَولُ الله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ في التَّعبيرِ عن العملِ بالفَضلِ إشارةٌ إلى أنَّه لم يقَع التكليفُ إلَّا بما في الوُسعِ؛ لأنَّ الفَضلَ في الأصلِ ما فضَلَ عن الإنسانِ من كريمِ الشَّمائلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ

- قولُه: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ فيه طِباقٌ حَسنٌ؛ لأنَّ معنى أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ: أحكَمَها حكيمٌ، وفصَّلَها- أي: بيَّنَها وشرَحها- خبيرٌ عالِمٌ بكَيفيَّاتِ الأمورِ، ولَفظةُ ثُمَّ جاءت لِتَرتيبِ الأخبارِ، لا لِتَرتيبِ الوقوعِ في الزَّمانِ

.

- وفي بناءِ أُحْكِمَتْ ووَفُصِّلَتْ للمفعولِ، ثمَّ إيرادِ الفاعلِ بعنوانِ الحِكمةِ البالغةِ والإحاطةِ بجَلائلِها ودَقائِقها مُنكَّرًا بالتَّنكيرِ التَّفخيميِّ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، ورَبطِهما به لا على النَّهجِ المعهودِ في إسنادِ الأفاعيلِ إلى قَواعدِها، مع رِعايةِ حُسنِ الطِّباقِ- مِن الجَزالةِ، والدَّلالةِ على فَخامتِهما، وكونِهما على أكمَلِ ما يكونُ، ما لا يُكتَنَهُ كُنهُه .

2- قوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ

- جُملةُ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَجُمْلَةِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وهو اعتراضٌ للتَّحذيرِ مِن مُخالَفةِ النَّهيِ، والتَّحريضِ على امتِثالِه .

- ولَمَّا كان إرسالُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رحمةً للعالَمينَ، قدَّمَ ضَميرَهم، فقال: لَكُمْ مِنْهُ أي: خاصَّةً .

- قولُه: نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ فيه تقديمُ النَّذيرِ؛ لأنَّ الخطابَ وُجِّه أوَّلًا إلى المشركينَ ، ولأنَّ التخويفَ أهمُّ إذ يحصُل به الانزجارُ .

3- قوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ

- في قولِه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ تقدَّم أمْرانِ بينَهما تراخٍ، ورُتِّب عليهما جَوابان بينَهما تَراخٍ؛ ترتَّب على الاستغفارِ التَّمتيعُ المتاعَ الحسَنَ في الدُّنيا، كما قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا الآياتِ [نوح: 10-11] ، وتَرتَّب على التَّوبةِ إيتاءُ الفضلِ في الآخِرةِ، وناسَب كلُّ جوابٍ لِما وقَع جوابًا له؛ لأنَّ الاستغفارَ مِن الذَّنبِ أوَّلُ حالِ الرَّاجعِ إلى اللهِ، فناسَب أن يُرتَّبَ عليه حالُ الدُّنيا، والتَّوبةُ هي المنجِّيةُ من النَّارِ، والَّتي تُدخِلُ الجنَّةَ، فناسَبَ أن يُرتَّب عليها حالُ الآخِرةِ .

- قولُه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ فيه تأكيدُ جملةِ الجزاءِ: فَإِنِّي أَخَافُ بـ (إنَّ)، وبكونِ المسنَدِ إليه فيها (الضَّميرِ) اسمًا مُخبَرًا عنه بالجُملَةِ الفِعليَّةِ أَخَافُ؛ لِقَصدِ شدَّةِ تأكيدِ تَوقُّعِ العذابِ .

- قولُه: يَوْمٍ كَبِيرٍ فيه تنكيرُ (يومٍ)؛ للتَّهويلِ؛ لِتَذهَبَ نفوسُهم إلى الاحتمالِ الممكِنِ أن يَكونَ يومًا في الدُّنيا أو في الآخِرَةِ؛ لأنَّهم كانوا يُنكِرون الحشرَ، فتَخْويفُهم بعذابِ الدُّنيا أوقَعُ في نُفوسِهم، ووَصفُه بالكبيرِ؛ لزِيادةِ تَهويلِه .

- وقَدَّم بِشارةَ المُؤمِنينَ، وأخَّرَ إنذارَ الكافرينَ المُصرِّينَ؛ تأليفًا لهم، لأنَّ تواليَ الإنذارِ مُنفِّرٌ من الاستماعِ، مُغرٍ بالتَّولِّي والإعراضِ .

4- قوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

- قولُه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، جملةٌ في موضعِ التَّعليلِ للخَوفِ عليهم؛ فلذلك فُصِلَت، أي:لم تُعطَفْ بالواوِ على الَّتي قبلَها .

وتضَمَّنَت هذه الجملةُ تهديدًا عظيمًا، حيثُ صرَّح بالبعثِ، وذكَر أنَّ قُدرتَه عامَّةٌ لجميعِ ما يَشاءُ- ومِن ذلك البعثُ- فهو لا يُعجِزُه ما شاء مِن عَذابِهم .

- وفي قولِه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ تقديمُ المجرورِ إِلَى اللَّهِ على عامِلِه: مَرْجِعُكُمْ؛ للاهتمامِ والتَّقوِّي، وليس المرادُ منه الحَصْرَ؛ إذ هم لا يَحسَبون أنَّهم مُرجَعون بعدَ الموتِ، فضلًا عن أن يَرجِعوا إلى غيرِه .

- قولُه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقريرٌ لِما سلَف مِن كِبَرِ اليومِ، وتعليلٌ للخوفِ .

5- قولُه تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

- قولُه: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، فيه افتِتاحُ الكلامِ بحَرفِ التَّنبيهِ: أَلَا؛ للاهتمامِ بمَضمونِه؛ لِغَرابةِ أمْرِهم المحكيِّ، وللعنايةِ بتَعليمِ إحاطةِ عِلمِ اللهِ تعالى ، وإشعارًا بأنَّ ما يَعقُبها مِن هَناتِهم أمرٌ يَجِبُ أن يُفهَمَ، ويُتعجَّبَ منه؛ لأنه لَمَّا أُلقيَ إليهم فحْوَى الكِتابِ على لِسانِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسِيق إليهم ما يَنبغي أن يُساقَ من التَّرغيب والتَّرهيبِ، وقَعَ في ذِهنِ السَّامعِ أنَّهم بعدَ سماعِهم مِثلَ هذا المقالِ الذي تخِرُّ له صُمُّ الجبالِ؛ هل قابَلُوه بالإقبالِ أم تَمادَوْا فيما كانُوا عليهِ من الإعراضِ والضلالِ؛ فقيل لذلك: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ مُصدَّرًا بكلمة التَّنبيهِ ؛ ليتأمَّلَ السَّامِعُ حالَ المشركينَ، وصِفتَهم عندَ تبليغِهم الدَّعوةَ، وإقامة الحجَّة، ويتصوَّرَها في صِفتِها الغَريبةِ الدَّالَّةِ على أعراضِ الحَيرةِ والعَجزِ، ومنتهى الجَهلِ .

- وأيضًا في قولِه: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ... تمثيلٌ لحالةِ إضمارِهم العداوَةَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نُفوسِهم، وتمويهُ ذلك عليه وعلى المؤمِنين به بحالِ مَن يَثْني صَدرَه لِيُخفِيَه، ومَن يَستَغْشي ثوبَه على ما يُريد أن يَستُرَه به . وذلك على أحدِ أوجُهِ تأويلِ الآيةِ.

- قولُه: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ فيه تقديمُ السِّرِّ على العلَنِ؛ نعيًا عليهم مِن أوَّلِ الأمرِ ما صنَعوا، وإيذانًا بافتِضاحِهِم ووقوعِ ما يَحذَرونه، وتحقيقًا للمُساواةِ بين العِلْمَين على أبلَغِ وجهٍ؛ فكأنَّ عِلمَه بما يُسِرُّونه أقدَمُ منه بما يُعلِنونه .

- قولُه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تعليلٌ لما سبَق، وتقريرٌ له، وفي صِيغةِ الفَعِيلِ عَلِيمٌ، وتَحْليةِ الصُّدُورِ بلامِ الاستغراقِ، والتَّعبيرِ عن الضَّمائرِ بعنوانِ صاحِبيَّتِها- فالضمائرُ لا تكادُ تفارقُ الصدورَ بل تلازمُها وتصاحبُها-: منَ البراعةِ ما لا يَصِفُه الواصِفون، كأنَّه قيلَ: إنَّه مبالِغٌ في الإحاطةِ بمُضمَراتِ جميعِ النَّاسِ، وأسرارِهم الخفيةِ المستكنَّةِ في صُدورِهِم، بحيثُ لا تُفارِقُها أصلًا؛ فكيف يَخْفى عليه ما يُسِرُّون وما يُعلِنونَ ؟!

===============================================

 

سورة هود

الآيتان (6-7)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

 

مُسْتَقَرَّهَا: أي: مأواها الذي تأوي إليه ليلًا أو نهارًا، وأصلُ (قرر): يدلُّ على تمكُّنٍ

.

وَمُسْتَوْدَعَهَا: أي: الموضِعَ الذي يُودِعُها، إمَّا بِمَوتِها فيه، أو دَفنِها، وأصلُ (ودع): يدُلُّ على تَركٍ وتخليةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ الله تعالى أنَّه ما من حيٍّ يدِبُّ على الأرضِ إلَّا على الله تعالى غِذاؤُه ومَعاشُه، فضلًا منه سبحانه، وكَرمًا، ويعلَمُ مكان استقرارِ كلِّ دابَّةٍ، والموضِعَ الذي تموتُ فيه، كلُّ ذلك مكتوبٌ في كتابٍ عندَ الله مُبِينٍ عن جميعِ ذلك، ثمَّ يخبرُ سُبحانه أنَّه هو الذي خلقَ السَّمَواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ، وكان عرشُه على الماءِ قبل ذلك؛ لِيَختبرَ النَّاسَ أيُّهم أحسَنُ له طاعةً وعَملًا. وخاطَب نبيَّه قائلًا له: ولَئِن قلتَ- أيُّها الرَّسولُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: إنَّكم مبعوثونَ أحياءً بعدَ مَوتِكم، لَسارعوا إلى التَّكذيبِ، وقالوا: ما هذا القرآنُ الذي تَتلوه علينا إلَّا سِحرٌ بيِّنٌ.

تفسير الآيتين:

 

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ في الآيةِ الأولى أنَّه يَعلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعلِنونَ، أردَفَه بما يدُلُّ على كونِه تعالى عالِمًا بجميعِ المعلوماتِ، فبيَّن أنَّ رِزقَ كُلِّ حَيوانٍ إنَّما يَصِلُ إليه مِنَ الله تعالى، فلو لم يكُنْ عالِمًا بجميعِ المعلوماتِ لَما حصَلَت هذه الـمُهِمَّات

.

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا.

أي: وما مِن دابةٍ تدبُّ على الأرضِ- مِن آدميٍّ، أو حيوانٍ؛ بريٍّ أو بحريٍّ، أو طائرٍ أو زاحفٍ، أو كبيرٍ أو صغيرٍ- إلَّا وقد تكفَّل اللهُ بقُوتِها وغِذائِها .

كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت: 60] .

وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا.

أي: ويَعلَمُ اللهُ مَأوى كُلِّ دابَّةٍ في اللَّيلِ أو في النَّهارِ، ويَعلَمُ المَوضِعَ الذي تموتُ فيه أو تُدفَنُ .

كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.

أي: كلُّ الدوابِّ مُثبَتٌ تفاصيلُ أحوالِها- في أرزاقِها ومستَقَرِّها ومُستَودَعِها- في اللَّوحِ المَحفوظِ المُظهرِ لكلِّ ما قدَّره اللهُ لجَميعِ الخَلقِ بالتَّفصيلِ .

كما قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .

وقال سُبحانه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70] .

وقال جلَّ جلالُه: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 75] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كتبَ اللهُ مَقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ بخَمسينَ ألفَ سنةٍ) ) .

وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا أثبت بالدَّليلِ المتقَدِّمِ كَونَه عالِمًا بالمعلوماتِ؛ أثبَتَ بهذا الدَّليلِ كونَه تعالى قادرًا على كلِّ المَقدوراتِ .

وأيضًا لَمَّا كان خلقُ ما منه الرِّزقُ أعظمَ مِن خَلقِ الرِّزقِ وتوزيعِه في شمولِ العِلمِ والقدرةِ معًا؛ تلاه بقَولِه تعالى :

وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.

أي: واللهُ هو الذي خلق السَّمواتِ السَّبعَ والأرضَ في ستَّةِ أيامٍ .

وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء.

أي: وكان عَرشُ اللهِ على الماءِ قبل أن يخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ .

عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((دخلتُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعقَلتُ ناقَتي بالبابِ، فأتاه ناسٌ مِن بني تميمٍ، فقال: اقبَلوا البُشرى يا بني تميمٍ، قالوا: قد بشَّرْتَنا فأعْطِنا- مَرَّتينِ- ثمَّ دخل عليه ناسٌ مِن أهلِ اليَمَنِ، فقال: اقبَلوا البُشرى يا أهلَ اليَمَنِ إذ لم يَقبَلْها بنو تميمٍ، قالوا: قد قَبِلْنا يا رسولَ اللهِ، قالوا: جِئناك نسألُك عن هذا الأمرِ؟ قال: كان اللهُ ولم يكنْ شَيءٌ غَيرُه، وكان عرشُه على الماءِ، وكتب في الذِّكرِ كلَّ شَيءٍ، وخلَقَ السَّمواتِ والأرضَ )) .

وعن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((كتَب الله مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماءِ )) .

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.

أي: خلقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، وخَلقَكم- أيُّها النَّاسُ- ليَختبِرَكم، فينظُرَ أيُّكم أحسَنُ طاعةً للهِ بالإخلاصِ له، واتِّباعِ شَريعتِه .

كما قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] .

وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.

مناسبتُها لما قبلَها:

ولما كان الابتلاءُ يتضمَّنُ حديثَ البعثِ؛ أتبَع ذلك بذكرِه .

القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:

في قوله تعالى: سِحْرٌ قراءتان:

1- قراءةُ سَاحِرٌ على أنَّ مرادَهم بذلك: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم .

2- قراءةُ سِحْرٌ على أنَّ مرادَهم بذلك: القرآنُ الكريمُ .

وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.

أي: ولَئنْ قُلتَ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنَّ اللهَ سَيبعَثُكم يومَ القيامةِ أحياءً بعد مَوتِكم، فتَلَوتَ عليهم القرآنَ بذلك؛ لَيقولُنَّ تكذيبًا وعنادًا: ما هذا القرآنُ الذي تَتلوه علينا إلَّا سِحرٌ واضِحٌ، يَظهَرُ لِمَن يستمِعُه أنَّه سِحرٌ

 

!!

الفوائد التربوية :

 

1- قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثمَّ بيَّن الحكمةَ، فقال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وقال تعالى في أولِ سورةِ الكهفِ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ثمَّ بَيَّن الحكمةَ، فقال: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال في أولِ سورةِ الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، ثمَّ بيَّن الحكمةَ، فقال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ولم يقُلْ: أكثرُ عملًا، فإذا عَرَف العبدُ أنَّه خُلِق لأجلِ أن يُختبَرَ في إحسانِ العملِ كان حريصًا على الحالةِ التي ينجحُ بها في هذا الاختبارِ؛ لأنَّ اختبارَ ربِّ العالمينَ يومَ القيامةِ مَنْ لم ينجَحْ فيه جُرَّ إلى النَّارِ، فعدمُ النجاحِ فيه مهلكةٌ

، ففي ذلك الحثُّ على محاسنِ الأعمالِ، والترقِّي دائمًا في مراتبِ الكمالِ .

2- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ مِن حِكمةِ خَلقِ الأرضِ صدورَ الأعمالِ الفاضلةِ مِن أشرَفِ المخلوقاتِ فيها، ثمَّ إنَّ ذلك يقتضي الجزاءَ على الأعمالِ؛ إكمالًا لمُقتضى الحِكمةِ؛ ولذلك أُعقِبَت بقَولِه تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ .

3- قال تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قال الفضيلُ بنُ عياضٍ: أخلصُه وأصوبُه. والخالصُ أن يكونَ لله، والصوابُ أن يكونَ على السنةِ، وهما أصلانِ عظيمانِ: أحدُهما: أن لا نعبدَ إلا الله، والثاني: أن لا نعبدَه إلا بما شرَع، لا نعبدُه بعبادةٍ مبتدعةٍ، وهذان الأصلانِ هما تحقيقُ شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله .

4- قال تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والعملُ الأحسنُ هو الأخلصُ والأصوبُ، وهو الموافقُ لمرضاتِه ومحبتِه، دونَ الأكثرِ الخالي مِن ذلك، فهو سبحانَه وتعالى يحبُّ أن يتعبدَ له بالأرضَى له، وإن كان قليلًا دونَ الأكثرِ الذي لا يُرضيه، والأكثرِ الذي غيرُه أرضَى له منه، ولهذا يكونُ العملانِ في الصورةِ واحدًا، وبينَهما في الفضلِ، بل بينَ قليلِ أحدِهما وكثيرِ الآخرِ في الفضلِ أعظمُ مما بينَ السماءِ والأرضِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَالم يقُل (على الأرضِ)، مع أنَّه أنسَبُ بتَفسيرِ الدابَّةِ لغةً- لأنَّها ما يدِبُّ على الأرضِ- لأنَّ (في) أعمُّ مِن (على)؛ لأنَّها تتناوَلُ من الدوابِّ ما على ظَهرِ الأرضِ، وما في بَطنِها

.

2- الرِّزقُ مَقسومٌ لكلِّ أحَدٍ مِن بَرٍّ وفاجرٍ، ومؤمنٍ وكافرٍ؛ كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا هذا مع ضَعفِ كَثيرٍ مِن الدوابِّ، وعَجزِها عن السَّعيِ في طلَبِ الرِّزقِ؛ قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] فما دام العبدُ حيًّا، فرِزقُه على اللهِ، وقد يُيَسِّرُه الله له بكَسبٍ وبِغَيرِ كَسبٍ .

3- قَولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ظاهِرٌ في الوجوبِ، بينما رِزقُ اللهِ لكُلِّ ما دبَّ على الأرضِ هو تفَضُّلٌ، وللعُلماءِ في التَّوفيقِ بين ذلك وجوهٌ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه لَمَّا ضَمِنَ تعالى أن يتفضَّلَ به عليهم، أبرَزَه في حيِّزِ الوُجوبِ . فكأنَّه لضمانتِه، وعدمِ تخلُّفِه كأنَّه واجبٌ عليه.

الوجه الثاني: أنَّ المرادَ بالوجوبِ هنا وجوبُ اختيارٍ، لا وجوبُ إلزامٍ، كقولِ الإنسانِ لصاحِبِه: حقُّك واجِبٌ عليَّ.

الوجه الثالث: أنَّ (على) بمعنى (مِن)، كما في قَولِه تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين: 2] .

4- قولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا رُدَّ به على المُعتزلةِ في قولِهم: (إنَّ الحرامَ ليس برزقٍ)؛ لأنَّه يلزمُ عليه أنَّ من تغذَّى طولَ عُمُرِه بالحرامِ لم يرزُقْه اللهُ، وهو خلافُ ما في الآيةِ؛ لأنَّه تعالى لا يترُكُ ما أخبَرَ بأنَّه عليه .

5- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه سؤالٌ: كيف قيل: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأعمالُ المؤمنينَ هي التي تتفاوتُ إلى حسَنٍ وأحسَنَ، فأمَّا أعمالُ المؤمنينَ والكافرينَ فتفاوُتُها إلى حَسَنٍ وقبيحٍ؟

الجوابُ: أنَّ الذين هم أحسَنُ عملًا هم المتَّقونَ، وهم الذين استَبَقوا إلى تحصيلِ ما هو مقصودُ اللهِ مِن عبادِه، فخَصَّهم بالذِّكرِ، واطَّرَح ذِكرَ مَن وراءَهم؛ تشريفًا لهم، وتنبيهًا على مكانِهم منه، وليكون ذلك تيقُّظًا للسَّامعينَ، وتَرغيبًا في حيازةِ فَضلِهم ، وأيضًا للتَّحريضِ على أحاسِنِ المَحاسنِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فيه أنَّ العَرشَ ذاتٌ مَخلوقةٌ فوق السَّمَواتِ، وذلك يقتضي أنَّ العَرشَ مخلوقٌ قبل السَّمَواتِ والأرضِ، وكذلك الماءُ فالله تعالى أخْبَر أنَّ عرشَه كان على الماءِ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ، وثَبَت ذلك في ((صحيحِ البخاريِّ)) عن عِمرانَ بنِ حُصينٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال: ((كان اللَّهُ ولا شيءَ غيرُه، وكان عرشُه على الماءِ، وكَتَب في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ، ثُمَّ خَلَق السَّمواتِ والأرضَ )) .

7- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا دلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ لِيبتليَ عبادَه بأمْرهِ ونَهيِه، وهذا مِن الحَقِّ الذي خلَقَ به خلْقَه .

8- في قَولِه تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ قال أهل المعاني: وفي وقوفِ العَرشِ على الماءِ- والماءُ غيرُ قرارٍ- أعظَمُ الاعتبارِ لأهلِ الأفكارِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ

- قولُه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا فيه زيادةُ قولِه: فِي الْأَرْضِ تأكيدًا لمعنَى دَابَّةٍ؛ للتَّنصيصِ على أنَّ العُمومَ مُسْتَعملٌ في حقيقتِه

.

- وتقديمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ رِزْقُهَا؛ لإفادةِ القَصْرِ؛ أي: على اللهِ لا على غيرِه، وأيضًا التَّركيبُ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا يُفيدُ معنى أنَّ اللهَ تكفَّل برِزْقِها ولم يُهْمِلْه .

2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ

- قَولُ الله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أنَّ الحِكمةَ في خَلقِ ذلك أنَّه يَخْتَبِركم، ودلَّ على شِدَّةِ الاهتمامِ بذلك بسَوقِه مَساقَ الاستفهامِ في قَولِه: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا .

- قولُه: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.. فيه تأكيدُ الجملةِ باللَّام الموطِّئةِ للقَسَمِ في وَلَئِنْ وما يَتْبَعُه مِن نونِ التوَّكيدِ في لَيَقُولَنَّ؛ لِتَنزيلِ السَّامعِ مَنزِلةَ المتردِّدِ في صُدورِ هذا القولِ مِنهم؛ لِغَرابةِ صُدورِه مِن العاقلِ؛ فيكونُ التَّأكيدُ القويُّ والتَّنزيلُ مُستعمَلًا في التَّعجُّبِ مِن حالِ الَّذين كفَروا أن يُحِيلوا إعادةَ الخلقَ، وقد شاهَدوا آثارَ بدْءِ الخلقِ، وهو أعظَمُ وأبدَعُ .

=======

 

سورة هود

الآيات (8-11)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ

غريب الكلمات:

 

أُمَّةٍ: الأُمَّةُ: الحينُ والزمانُ

.

يَحْبِسُهُ: أي: يَمنَعُه أو يؤخِّرُه، وأصلُ (حبس): يدلُّ على المَنعِ .

وَحَاقَ بِهِمْ: أي: نزل بهم وأصابَهم، وأصلُ (حيق): يدلُّ على نزولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُقسِمُ الله تعالى قائلًا: ولئن أخَّرْنا عن هؤلاء المُشرِكينَ العذابَ إلى أجَلٍ معلومٍ فاستبطَؤوه، ليقولُنَّ استهزاءً وتكذيبًا: أيُّ شيءٍ يمنَعُ هذا العذابَ مِن الوقوعِ إن كان حقًّا؟ ألا يومَ يأتيهم ذلك العذابُ لا يستطيعُ أن يَصرِفَه عنهم صارِفٌ، ولا يَدفَعَه دافِعٌ، وأحاط بهم مِن كُلِّ جانبٍ العذابُ الذي كانوا يَستَهزئونَ به قبلَ وقوعِه بهم، ولَئِن أعطَينا الإنسانَ مِنَّا نِعمةً مِن صِحَّةٍ وأمنٍ وغَيرِهما، ثمَّ سَلَبْناها منه؛ إنَّه لَشديدُ اليأسِ مِن رَحمةِ الله، جَحودٌ بالنِّعَمِ التي أنعَمَ اللهُ بها عليه، ولَئِن بسَطْنا للإنسانِ في دُنياه، ووسَّعْنا عليه في رِزقِه بعد ضِيقٍ مِن العَيشِ، ليقولَنَّ عند ذلك: ذهب الضِّيقُ عني، وزالت الشَّدائِدُ، إنَّه لشديدُ الفَرحِ بالنِّعَمِ، مُبالِغٌ في الفَخرِ والتَّعالي على النَّاسِ بها، لكنِ الذين صبَروا وعَمِلوا الصَّالحاتِ شُكرًا لله على نِعَمِه، هؤلاء لهم مغفرةٌ لذُنوبِهم، وأجرٌ كبيرٌ في الآخرةِ.

تفسير الآيات:

 

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان ما تقدَّم عن المُشركينَ مِن الأفعالِ، ومضَى مِن الأقوالِ مَظِنَّةً لِمُعاجلتِهم بالأخذِ، وكان الواقِعُ أنَّه تعالى يعامِلُهم بالإمهالِ فَضلًا منه وكَرَمًا- حكَى مقالتَهم في مُقابَلةِ رَحمتِه تعالى لهم

.

وأيضًا فمُناسبةُ هذه الآيةِ لِما قَبْلَها: أنَّ في كِلتَيهما وَصْفَ فَنٍّ مِن أفانينِ عِنادِ المُشرِكينَ وتهَكُّمِهم بالدَّعوةِ الإسلاميَّةِ؛ فإذا خبَّرهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالبَعثِ، وأنَّ شِركَهم سبَبٌ لتَعذيبِهم، جعلوا كلامَه سِحرًا، وإذا أنذَرَهم بعقوبةِ العَذابِ على الإشراكِ، استَعَجلوه، فإذا تأخَّر عنهم إلى أجَلٍ اقتَضَتْه الحِكمةُ الرَّبانيَّةُ، استَفهَموا عن سبَبِ حَبسِه عنهم استِفهامَ تهكُّمٍ؛ ظنًّا أنَّ تأخُّرَه عَجزٌ .

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ.

أي: ولَئِنْ أخَّرْنا عن هؤلاءِ المُشرِكينَ- يا مُحمَّدُ- العذابَ إلى مُدَّةٍ معلومةٍ، فلم نُعجِّلْه لهم؛ لَيقولُنَّ تكذيبًا واستهزاءً: أيُّ شيءٍ يحبِسُ عنَّا نزولَ العذابِ ؟!

أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ.

أي: ألَا يومَ يأتيهم ذلك العذابُ- الذي كذَّبوا به- لا يَرُدُّه شَيءٌ، فلا يَصرِفُه عنهم صارِفٌ، ولا يدفَعُه عنهم دافِعٌ .

وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ.

أي: ونزل بالمُشرِكينَ وأحاط بهم العذابُ الذي كانوا يستهزِئونَ به، ويَستعجِلونَه .

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا وما بَعدَه بيانٌ لحالِ الإنسانِ في اختبارِ اللهِ له في قَولِه تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] .

وأيضًا فإنَّ هذه الآيةَ عَطفٌ على جملةِ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ؛ فإنَّه لَمَّا ذكرَ تعالى عن المُشرِكينَ أنَّ ما هم فيه متاعٌ إلى أجَلٍ مَعلومٍ عنده، وأنَّهم بَطِروا نعمةَ التَّمتيعِ، فسَخِروا بتأخيرِ العذابِ، فبَيَّنَت هذه الآيةُ أنَّ أهلَ الضَّلالةِ راسِخونَ في ذلك؛ لأنَّهم لا يفَكِّرونَ في غيرِ اللَّذَّاتِ الدُّنيويَّةِ، فتجري انفعالاتُهم على حسَبِ ذلك دونَ رجاءٍ لتغيُّرِ الحالِ، ولا يتفكَّرونَ في أسبابِ النَّعيمِ والبُؤسِ، وتصَرُّفاتِ خالقِ النَّاسِ، ومُقَدِّرِ أحوالِهم، ولا يتَّعِظونَ بتقَلُّباتِ أحوالِ الأمَمِ، فشأنُ أهلِ الضَّلالةِ أنَّهم إن حلَّت بهم الضَّراءُ بعد النِّعمةِ ملَكَهم اليأسُ مِن الخيرِ، ونَسُوا النِّعمةَ فجَحَدوها وكَفَروا مُنعِمَها، فإنَّ تأخيرَ العذابِ رَحمةٌ، وإتيانَ العذابِ نَزعٌ لتلك الرَّحمةِ .

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9).

أي: ولَئِن أعطَينا الإنسانَ منَّا نِعمةً- كالعافيةِ وسَعةِ الرِّزقِ وطِيبِ العَيشِ- فوجدَ لذَّتَها، ثمَّ سَلَبْناها منه؛ يظلُّ شديدَ اليأسِ مِن حصولِ الخَيرِ له في المُستقبَلِ، جَحُودًا نِعَمَ اللهِ عليه، قَلِيلَ الشُّكرِ لرَبِّه .

كما قال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36].

وقال سُبحانه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ [الشورى: 48] .

وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذه الجُملةَ تَتميمٌ للتي قَبلَها؛ لأنَّها حكَت حالةً ضِدَّ الحالةِ في التي قَبلَها .

وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي.

أي: ولَئِن أذَقْنا الإنسانَ نِعمةً بعدَ ضيقٍ كان فيه، ليقولَنَّ غِرَّةً باللهِ عزَّ وجلَّ، وجرأةً عليه، وجهلًا بإنعامِه: ذهبَ الضِّيقُ والشِّدَّةُ والمكروهُ عنِّي، ولن يُصيبَني بعد ذلك سوءٌ !!

كما قال الله سبحانَه: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 49-51] .

إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ.

أي: إنَّه لشديدُ الفرحِ بنِعَم اللهِ عليه، فخورٌ على غيرِه بها، ولا يشكُرُ اللهَ عليها، وينسى تقلُّباتِ أحوالِ الدُّنيا ونكَدَها، وينسى طلَبَ النَّعيمِ الباقي، والسُّرورِ الدَّائِمِ في الآخرةِ .

كما قال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا [الروم: 36].

وقال سُبحانه: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا [الشورى: 48] .

إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).

أي: إلَّا الذين صَبَروا عند الضَّرَّاءِ، ونزولِ الشدائدِ والمكارِه، وعَمِلوا الصَّالحاتِ فِي السرَّاءِ، وحلولِ الرَّخاءِ والعافيةِ؛ شكرًا لله على نعمائِه، أولئك لهم مَغفِرةٌ من اللهِ لِذُنوبِهم، ولهم جزاءٌ عظيمٌ .

كما قال سُبحانه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1-3] .

وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأبي هريرةَ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما يُصيبُ المُسلِمَ مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ، ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوكةُ يُشاكُها، إلَّا كفَّرَ اللهُ بها مِن خَطايا ه)) .

وعن صُهَيبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عجبًا لأمرِ المُؤمِنِ، إنَّ أمْرَه كُلَّه خَيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلَّا للمؤمِنِ؛ إن أصابَته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له) )

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ لفظُ الإذاقةِ والذَّوقِ يفيدُ أقَلَّ ما يوجَدُ به الطَّعمُ، فكان المرادُ أنَّ الإنسانَ بوِجدانِ أقَلِّ القليلِ مِن الخيراتِ العاجلةِ يقَعُ في التمَرُّدِ والطُّغيانِ، وبإدراكِ أقَلِّ القليلِ مِن المِحنةِ والبَليَّةِ يقَعُ في اليأسِ والقُنوطِ والكُفرانِ، فالدُّنيا في نَفسِها قليلةٌ، والحاصِلُ منها للإنسانِ الواحدِ قَليلٌ، والإذاقةُ من ذلك المقدارِ خَيرٌ قليلٌ، ثمَّ إنَّه في سرعةِ الزَّوالِ يُشبِهُ أحلامَ النَّائمينَ، وخَيالاتِ المُوَسوِسينَ، فهذه الإذاقةُ مِن قليلٍ، ومع ذلك فإنَّ الإنسانَ لا طاقةَ له بتحَمُّلِها، ولا صَبرَ له على الإتيانِ بالطَّريقِ الحَسَنِ معها

.

2- قال الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ بيَّن سُبحانه وتعالى في هذه الآيةِ أنَّ أحوالَ الدُّنيا غيرُ باقيةٍ، بل هي أبدًا في التغَيُّرِ والزَّوالِ والتحوُّلِ والانتقالِ؛ فإنَّ الإنسانَ إمَّا أن يتحوَّلَ مِن النِّعمةِ إلى المِحنة، ومن اللَّذَّاتِ إلى الآفاتِ كالقِسمِ الأوَّلِ، وإمَّا أن يكونَ بالعَكسِ مِن ذلك، وهو أن ينتَقِلَ مِن المكروهِ إلى المَحبوبِ كالقِسمِ الثَّاني

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- اليومُ قد يعبَّرُ به عن الوقتِ قَلَّ أو كثُرَ، كما قال تعالى: أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ والمرادُ: وقتُ مَجيءِ العذابِ، وقد يكونُ ليلًا ويكون نهارًا، وقد يستمِرُّ وقد لا يستَمِرُّ

.

2- قولُ الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي لم يُسنِدِ (المسَّ) إليه سبحانَه، كما فعل في (النَّعماءِ)؛ تعليمًا للأدبِ . وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ في اختلافِ الفِعلينِ- وهما أذقناه ومَسَّتْه- من حيث الإسنادُ إليه تعالى في الأوَّلِ، وإلى الضَّرَّاء في الثَّاني؛ نكتةً: وهي أنَّ النِّعمةَ صادرةٌ مِن اللهِ تعالى تفضُّلًا منه، وأمَّا الضَّررُ فالسَّببُ فيه هو العبدُ باجتلابِه إيَّاه بالمعاصي غالبًا، ولا ينافي ذلك قَولَه تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] ؛ فإنَّ الكُلَّ منه إيجادًا، غيرَ أنَّ الحَسَنةَ إحسانٌ وامتحانٌ، والسَّيِّئةَ مُجازاةٌ وانتقامٌ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

- قولُه: مَا يَحْبِسُهُ استفهامٌ، غرَضُهم منه إنكارُ المجيءِ والحبْسِ رأسًا، لا الاعترافُ به والاستفسارُ عن حابِسِه؛ كأنَّهم يَقولونَه بطريقِ الاستعجالِ؛ استِهْزاءً

.

- قولُه: أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ استئنافٌ بيانيٌّ واقعٌ موقِعَ الجوابِ عن كلامِهم؛ إذ يَقولون: ما يَحبِسُ عنَّا العذابَ؟ فلذلك فُصِلَتْ- لم تُعطَف- كما تُفصَلُ المحاوَرةُ، وفيه تهديدٌ وتخويفٌ بأنَّه لا يُصرَفُ عنهم، ولكنَّه مؤخَّرٌ .

- وافتُتِح الكلامُ بحرفِ التَّنبيهِ أَلَا؛ للاهتمامِ بالخبَرِ؛ لتحقيقِه، وإدخالِ الرَّوعِ في ضَمائرِهم .

- وتقديمُ الظَّرفِ يَوْمَ؛ للإيماءِ بأنَّ إتيانَ العذابِ لا شكَّ فيه حتَّى إنَّه يوقَّتُ بوقتٍ .

- قولُه: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فيه التَّعبيرُ بالماضي وَحَاقَ، والمعنى: (ويَحيقُ بهم)، إلَّا أنَّه جاء على عادةِ اللهِ في أخبارِه؛ لأنَّها في تَحقُّقِها وتَيَقُّنِها بمنزلةِ الكائنةِ الموجودةِ، وفي ذلك مِن الفَخامةِ والدَّلالةِ على عُلوِّ شأنِ المخبِرِ، وتقريرِ وقوعِ المخبَرِ به ما لا يَخْفى .

- وفي قولِه: بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قدَّمَ الظَّرفَ (به)؛ إشارةً إلى شدَّةِ إقبالِهم على الهُزءِ به، حتى كأنَّهم لا يَهزؤونَ بغَيرِه .

- وفيه الإتيانُ بالموصولِ مَا كَانُوا به يَسْتَهْزِئُونَ في مَوضِعِ الضَّميرِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ استِهْزاءَهم كان مِن أسبابِ غضَبِ اللهِ عليهم، وتَقْديرِه إحاطةَ العذابِ بهم؛ بحيثُ لا يَجِدون منه مَخلَصًا ، والمرادُ بقولِه: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ العذابُ الَّذي كانوا به يَستعجِلون، وإنَّما وضَعَ يَسْتَهْزِئُونَ موضِعَ (يَستعجِلون)؛ لأنَّ استِعْجالَهم كان على جِهَةِ الاستهزاءِ .

2- قولُه تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ

- فيه تأكيدُ الجملةِ باللَّامِ الموطِّئةِ للقَسَمِ في وَلَئِنْ وبـ (إنَّ) واللَّامِ في جُملةِ جوابِ القَسَمِ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ؛ لقصْدِ تحقيقِ مَضمونِها، وأنَّه حقيقةٌ ثابتةٌ، لا مُبالَغةَ فيها ولا تَغليبَ .

- واخْتِيرَتْ مادَّةُ الإذاقةِ في أَذَقْنَا؛ لِمَا تُشعِرُ به من إدراكِ أمرٍ محبوبٍ؛ لأنَّ المرْءَ لا يَذوقُ إلَّا ما يَشتَهيه ، ومادَّةُ النَّزْعِ في نَزَعْنَاهَا؛ للإشعارِ بشِدَّةِ تَعلُّقِ الإنسانِ بها وحِرْصِه عليها .

- ولَمَّا كانت النِّعمُ عَواريَّ مِن اللهِ يمنَحُها مَن شاء مِن عِبادِه، قدَّمَ الصِّلةَ دليلًا على العاريَّةِ، فقال: مِنَّا رَحْمَةً .

- وفي قولِه: إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ إشارةٌ إلى أنَّ النَّزْعَ إنَّما كان بسَببِ كُفْرانِهم بما كانوا يتَقلَّبون فيه مِن نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ .

3- قولُه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ

- قولُه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ عبَّر عن مُلابَسةِ الرَّحمةِ والنَّعماءِ بالذَّوقِ أَذَقْنَاهُ المؤذِنِ بلَذَّتِهما، وكَونِهما مِمَّا يُرغَبُ فيه، وعن مُلابَسةِ الضَّرَّاءِ بالمَسِّ مَسَّتْهُ المشعِرِ بكونِها في أدنى ما يُطلَقُ عليه اسْمُ الملاقاةِ مِن مَراتِبِها ؛ فاختيارُ فعلِ المسِّ في مَسَّتْهُ فيه إيماءٌ إلى أنَّ إصابةَ الضَّرَّاءِ أخَفُّ مِن إصابةِ النَّعْماءِ، وأنَّ لُطْفَ اللهِ شاملٌ لعبادِه في كلِّ حالٍ .

- وجعَل جوابَ القسَمِ (القَوْلَ) في لَيَقُولَنَّ؛ للإشارةِ إلى أنَّه تبَجُّحٌ وتَفاخُرٌ؛ فالخبَرُ في قولِه: ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي مُستعمَلٌ في الازْدِهاءِ والإعجابِ؛ وذلك هو مُقتَضى زيادةِ عَنِّي مُتعلِّقًا بـ ذَهَبَ؛ للإشارةِ إلى اعْتِقادِ كلِّ واحدٍ أنَّه حَقيقٌ بأن تَذهَبَ عنه السَّيِّئاتُ غُرورًا منه بنَفسِه، كما في قولِه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت: 50] .

- وجملةُ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للتَّعجُّبِ مِن حالِه، وفَرِحٌ وفَخُورٌ مِن أوزانِ المبالَغةِ، أي: لَشَديدُ الفرَحِ، شَديدُ الفَخرِ .

- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا في سورةِ هودٍ: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 10] ، وقال في سورةِ فُصِّلَت: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [فصلت: 50] ؛ ففيه زيادةُ (مِنَّا) وزيادةُ (مِن) في سورةِ فُصِّلَت عمَّا في سورةِ هودٍ؛ ووجهُ ذلك أنَّه لم يَرِد في هودٍ ما يَستَدعي تلك الزِّيادةَ، وأمَّا سورةُ فُصِّلَت فتقدَّم فيها قولُه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي [فصلت: 47] ؛ قَطعًا بهم، وتَنبيهًا على سوءِ مُرتَكَبِهم، وقد عايَنوا الحقَّ، وضلَّ عنهم ما كانوا يَدَّعون مِن قَبلُ مِن شُركاءِ اللهِ سبحانه، وأيقَنوا وعَلِموا أنَّه لا مَحيصَ لهم ولا مَفرَّ؛ فلمَّا تَقدَّم ذِكْرُ الشُّرَكاءِ قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا [فصلت: 50] ، فنَبَّه تعالى بقولِه: مِنَّا على أنْ لا شَريكَ له، ولا مُعطِيَ غيرُه، وأنَّه لا يأتي العبدَ شيءٌ مِن أحَدٍ سِواه سُبحانه. ولَمَّا لم يتَقدَّمْ في سورةِ هودٍ ذِكرٌ لذلك لم يَرِد فيها التَّنبيهُ بقولِه: مِنَّا. وأمَّا زيادةُ: (مِن) في قولِه: مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ [فصلت: 50] ؛ فمُناسِبٌ لإطنابِ هذا الغرَضِ في هذه السُّورةِ؛ فناسَب ذلك الزِّيادةَ، ولإيجازِ هذا القصدِ في سورةِ هودٍ ناسَبَه سُقوطُ (مِن)؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ .

وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه في سورةِ فُصِّلَت بيَّن تعالى جِهةَ الرَّحمةِ، بقولِه: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ [فصلت: 49] ؛ فناسَب ذِكْرُ مِنَّا، وحَذَفَه هنا اكتفاءً بقولِه قبلُ: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً [هود: 9] ، وزاد (مِن) في سورةِ فُصِّلَت؛ لأنَّه لَمَّا حدَّ الرَّحمةَ وجِهَتَها حدَّ الظَّرْفَ بعْدَها؛ لِيَتَشاكَلا في التَّحديدِ، وهنا لَمَّا لم يَذكُرِ الأوَّلَ، لم يَذكُرِ الثَّانيَ لِيَتَشاكَلا .

=================================

 

سورة هود

الآيات (12-14)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: فلعلَّك- أيُّها الرَّسولُ- تارِكٌ بعضَ ما يُوحَى إليك ممَّا أنزَلَه اللهُ عليك، وأمَرَك بتبليغِه، وضائِقٌ به صَدرُك؛ خَشيةَ أن يطلُبوا منك بعضَ المَطالبِ على وجهِ التَّعنُّتِ، كأنْ يقولوا: لولا أُنزِلَ عليه مالٌ كثيرٌ، أو جاء معه ملَكٌ يصَدِّقُه في رسالتِه، فبَلِّغْهم ما أوحيتُه إليك؛ فإنَّه ليس عليك إلَّا الإنذارُ بما أُوحيَ إليك، واللهُ على كلِّ شَيءٍ حَفيظٌ، يدَبِّرُ جميعَ شُؤونِ خَلقِه. بل أيقولُ هؤلاء المُشرِكونَ: إنَّ مُحمدًا قد افترى هذا القُرآنَ؟ قلْ لهم: إن كان الأمرُ كما تَزعمونَ، فأْتُوا بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُفتَرَياتٍ، وادعُوا من استطعتُم مِن جميعِ خَلقِ الله؛ لِيُساعِدوكم على الإتيانِ بهذه السُّوَر العَشرِ، إنْ كنتُم صادقينَ في دَعواكم. فإن لم يَأتوا بمُعارضةِ ما دَعَوْتُموهم إليه، فأيقِنوا أنَّما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِ الله، مشتملًا على عِلْمه، ومُتَضَمِّنًا أمرَه وَنَهْيَه، وأيقِنوا أنْ لا إلهَ يُعبَدُ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، فهل أنتم- بعد قيامِ هذه الحُجَّةِ عليكم- مُسلِمونَ مُنقادونَ لله ورَسولِه؟

تفسير الآيات:

 

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا تفريعٌ على قَولِه تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ إلى قَولِه يَسْتَهْزِئُونَ مِن ذِكرِ تَكذيبِهم وعِنادِهم، ويشيرُ هذا التَّفريعُ إلى أنَّ مَضمونَ الكلامِ المفَرَّعِ عليه سببٌ لِتَوجيهِ هذا التوقُّعِ؛ لأنَّ مِن شأنِ المفَرَّعِ عليه اليأسُ من ارعوائِهم لتكَرُّرِ التَّكذيبِ والاستهزاءِ يأسًا قد يبعَثُ على تَركِ دُعائِهم

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا استثنى اللهُ تعالى مِن الجارينَ مع الطَّبعِ، الطَّائِشينَ في الهَوى، مَن تحلَّى برَزانةِ الصَّبرِ النَّاشئِ عن وَقارِ العِلمِ، المُثمرِ لصالحِ العمَلِ، وكان صلَّى الله عليه وسلم رأسَ الصَّابرينَ، وكان ما مضى مِن أقوالِهم وأفعالِهم ربَّما كان مَظِنَّةً لرَجائِهم تَرْكَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ ما يُوحى إليه؛ مِن عَيبِ آلهتِهم، وتضليلِ آبائِهم، وتسفيهِ أحلامِهم، وغيرِ ذلك ممَّا يشُقُّ عليهم؛ طمعًا في إقبالِهم أو خوفًا من إدبارِهم- قال تعالى مسبِّبًا عن ذلك، ناهيًا في صيغةِ الخَبِر :

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ.

أي: فلعلَّك- يا مُحمَّدُ- تاركٌ تبليغَ قَومِك بعضَ ما أوحَى اللهُ إليك مِن القُرآنِ، وضائِقٌ صَدرُك بما أمَرَك اللهُ أن تبَلِّغَهم؛ كراهةَ أن يقولَ المُشرِكونَ: لولا أنزَلَ اللهُ عليه كنزًا، أو جاء معه ملَكٌ؛ لنؤمِنَ بأنَّه رَسولُ الله، فاصبِرْ على تكذيبهِم، واستمِرَّ في دَعوتِهم .

كما قال تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 2] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر: 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] .

وقال جلَّ جلاله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 73-74] .

وقال تبارك وتعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90-93] .

وقال عزَّ من قائل: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان: 7-9] .

وقال سبحانه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60] .

إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ.

أي: إنَّما أنت- يا محمَّدُ- نذيرٌ لقَومِك تُنذِرُهم عِقابي، وليس عليك أن تأتيَهم بما يقتَرِحونَه مِن الآياتِ .

وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

أي: واللهُ على كُلِّ شَيءٍ قيِّمٌ، بِيَدِه تدبيرُ الأمورِ، وهو حافِظٌ يحفَظُ أعمالَ عبادِه، ويُجازيهم بها .

كما قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62] .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ القَومَ لَمَّا طَلَبوا من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُعجِزَ؛ قال: مُعجزي هذا القُرآنُ، ولَمَّا حصل المُعجِزُ الواحِدُ، كان طلَبُ الزيادةِ بَغيًا وجهلًا، ثم قرَّرَ كَونَه مُعجِزًا بأنْ تحدَّاهم بالمُعارَضةِ .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.

أي: بل أيقولُ المُشرِكونَ: افترى محمَّدٌ القُرآنَ، وليس هو مِن عندِ اللهِ ؟!

قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ.

أي: قل لهم- يا مُحمَّدُ-: فإن كنتُ افتريتُ القُرآنَ كما تَزعُمونَ، فأْتُوا أنتم بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُختَلَقاتٍ مِن عندِ أنفُسِكم .

وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.

أي: وادعُوا- أيُّها المُشرِكونَ- مَنْ تستَطيعونَ دَعوتَه، من الإنسِ والجِنِّ، وآلهتِكم المزعومةِ؛ لِيُعينَكم على اختلاقِ عَشرِ سُوَرٍ مِن القُرآنِ، إن كنتُم صادقينَ في أنِّي افتريتُ هذا القُرآنَ .

فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا كان أدنَى دَرَجاتِ الافتراءِ إتيانَ الإنسانِ بكلامِ غَيرِه من غيرِ عِلمِه، وكان عَجزُهم عن المُعارَضةِ دليلًا قاطعًا على أنَّهم لم يَصِلوا إلى شيءٍ مِن كَلامِه تعالى بغيرِ عِلمِه، ولا وجَدوا مُكافِئًا له يأتيهم بمِثلِه- ثبت قطعًا أنَّ هذا القرآنَ غيرُ مُفترًى، فقال تعالى مُخاطبًا للجميعِ إشارةً إلى وضوحِ الأمرِ- لا سيَّما في الافتراءِ عند كلِّ أحدٍ- وأنَّ المُشرِكينَ قد وصَلوا من ذلِّ التَّبكيتِ بالتَّحدِّي مَرَّةً بعد مَرَّة، وزورِهم لأنفُسِهم في ذلك المضمارِ كَرَّةً في إثرِ كَرَّة، إلى حدٍّ مِن العَجزِ لا يَقدِرونَ معه على النُّطقِ في ذلك ببِنتِ شَفةٍ ، قال:

فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ.

أي: فإن لم يَأتوا بمُعارضةِ ما دَعَوْتُموهم إليه فاعْلَموا وأيقِنوا أنَّما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِ الله، مشتملًا على عِلْمه، ومُتَضَمِّنًا أمرَه وَنَهْيَه، واعلَموا أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ وَحدَه .

كما قال تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] .

فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ.

أي: فهل أنتم- أيُّها المُشرِكونَ- مُستَسلِمونَ لله بالتَّوحيدِ، مُنقادونَ له بالطَّاعةِ، بعد ثُبوتِ الحُجَّةِ عليكم بعَجزِكم عن الإتيانِ بمِثلِ هذا القرآنِ، وتحَقُّقِكم أنَّه مِن عندِ الله

 

؟

كما قال الله سبحانه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] .

الفوائد التربوية :

 

قال الله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ في هذه الآياتِ إرشادٌ إلى أنَّه لا ينبغي للدَّاعي إلى اللهِ أن يَصُدَّه اعتراضُ المُعتَرضينَ، ولا قَدحُ القادحينَ- خصوصًا إذا كان القَدحُ لا مُستنَدَ له، ولا يَقدَحُ فيما دعا إليه- وأنَّه لا يَضيقُ صَدرُه، بل يطمئِنُّ بذلك، ماضيًا على أمرِه، مُقبِلًا على شأنِه، وأنَّه لا يجِبُ إجابةُ اقتراحاتِ المُقتَرحينَ للأدلَّةِ التي يختارونَها؛ بل يكفي إقامةُ الدَّليلِ السَّالمِ عن المُعارِضِ، على جميعِ المَسائلِ والمَطالبِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ لَمَّا كان المُوحَى به قد صار معلومًا لهم- وإن نازعوا فيه- بنى للمَفعولِ قَولَه: يُوحَى إِلَيْكَ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ بَنَوه للمَفعولِ؛ لأنَّ المَقصودَ مُطلَقُ حُصولِه .

3- في قَولِه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إلى قَولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ دلالةٌ على ثبوتِ الرِّسالةِ والقُرآنِ والتَّوحيدِ، ووجهُ ذلك: أنَّه لَمَّا تحدَّاهم سُبحانه بالإتيانِ بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُفتَرياتٍ- هم وجميعَ مَن يستطيعونَ مِن دونِه- فكان في مضمونِ تحدِّيه أنَّ هذا لا يقْدِرُ أحدٌ على الإتيان بمِثلِه مِن دونِ اللهِ، كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وحينئذٍ فَعُلِمَ أنَّ ذلك مِن خصائصِ مَن أَرسلَه اللهُ، وما كان مختصًّا بنوعٍ فهو دليلٌ عليه؛ فإنَّه مُستلزِمٌ له، وكلُّ مَلزومٍ دليلٌ على لازِمِه- كآياتِ الأنبياء كلِّها؛ فإنَّها مختصَّةٌ بجِنسِهم- وهذا القرآنُ مختصُّ بجِنسِهم، ومِن بينِ الجنسِ خاتَمُهم ،لا يمكِنُ أن يأتيَ به غيرُه، وكان ذلك برهانًا بَيِّنًا على أنَّ اللهَ أنزله؛ وأنَّه نَزلَ بعِلمِ الله، فهو الذي أخبرَ بخبَرِه، وأمرَ بما أمرَ به، كما قال سُبحانه: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] ، وثبوتُ الرسالةِ ملزومٌ لثبوتِ التَّوحيدِ؛ وأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، مِن جهة أنَّ الرسولَ أخبرَ بذلك، ومِن جهةِ أنَّه لا يقدِرُ أحدٌ على الإتيانِ بهذا القرآنِ إلَّا اللهُ، فإنَّ مِن العِلمِ ما لا يعلَمُه إلَّا اللهُ .

4- في قَولِه تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ لم يُكَلِّفْهم نَفْسَ الإحداثِ، بل طالَبَهم بالإتيانِ بمِثلِه، إمَّا إحداثًا، وإمَّا تبليغًا عن اللهِ أو عن مخلوقٍ. والإتيانُ بالشَّيءِ: جَلبُه، سواءٌ كان بالاسترفادِ مِن الغَيرِ أم بالاختراعِ مِن الجالبِ، وهذا توسِعةٌ عليهم في التَّحدِّي؛ ليُظْهِرَ عجزَهم مِن جميعِ الجِهاتِ .

5- قَولُ الله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ وَصفٌ لـ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ونكتةُ ذِكرِ هذا الوَصفِ: التَّذكيرُ بأنَّهم أنكَروا أن يكونَ مِن عندِ اللهِ، فلمَّا عمَّم لهم في الاستعانةِ بمَن استطاعوا، أكَّدَ أنَّهم دونَ اللهِ تعالى، فإن عَجَزوا عن الإتيانِ بعَشرِ سُورٍ مِثلهِ- مع تمكُّنِهم من الاستعانةِ بكُلِّ مَن عدا اللهَ- تبيَّن أنَّ هذا القرآنَ مِن عندِ الله تعالى .

6- قول الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فيه أنَّ هذا القُرآنَ مُعجِزٌ بنَفسِه، لا يَقدِرُ أحدٌ مِن البَشَرِ أن يأتيَ بمِثلِه، ولا بعَشرِ سُوَرٍ مِن مِثلِه، بل ولا بسُورةٍ مِن مِثلِه؛ لأنَّ الأعداءَ البُلَغاءَ الفُصَحاءَ تحدَّاهم اللهُ بذلك، فلم يُعارِضوه؛ لعِلمِهم أنَّهم لا قُدرةَ فيهم على ذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

- قولُه تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، التَّوقُّعُ المستَفادُ مِن (لعلَّ) مُستعمَلٌ في تحذيرِ مَن شأنُه التَّبليغُ، وعلى القول بتَقديرِ استِفْهامٍ حُذِفَت أداتُه، والتَّقديرُ: ألَعلَّك تارِكٌ؟! فيكونُ الاستفهامُ مُستعمَلًا في النَّفْيِ للتَّحذيرِ

.

- قولُه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ... فيه اختيارُ التَّعبيرِ بـ ضَائِقٌ بدلَ (ضيِّقٌ)؛ لِمُوافَقةِ قولِه قبلَه: تَارِكٌ، ولِيَدُلَّ على أنَّه ضِيقٌ عارِضٌ لا ثابتٌ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم كان أوْسَعَ النَّاسِ صدرًا، ونظيرُه قولُ القائِلِ: زيدٌ سائدٌ وجائدٌ، يُريدُ به أنَّه حَدَثَ فيه السِّيادةُ والجودُ، فإنْ أُرِيدَ وصْفُه بثُبوتِهما، قيل: زيدٌ سيِّدٌ وجَوَادٌ .

- قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ في موقِعِ العِلَّةِ للتَّحذيرِ مِن ترْكِه بعْضَ ما يُوحى إليه، وضِيقِ صَدْرِه مِن مَقالَتِهم؛ فكأنَّه قيل: لا تَترُكْ إبلاغَهم بعْضَ ما يُوحَى إليك، ولا يَضِقْ صدْرُك مِن مَقالِهم؛ لأنَّك نذيرٌ، لا وكيلٌ على تَحصيلِ إيمانِهم؛ حتَّى يتَرتَّبَ على يَأسِك مِن إيمانِهم ترْكُ دعوتِهم .

- والقَصْرُ فيه بـ إِنَّمَا قصرٌ إضافيٌّ؛ أي: أنتَ نذيرٌ، لا موكَّلٌ بإيقاعِ الإيمانِ في قُلوبِهم؛ إِذْ ليس ذلك إليكَ بل هو للَّه .

- واقتصَرَ على النِّذارةِ؛ لأنَّ المقامَ يقتضيها؛ من أجلِ أنَّهم أهلٌ لها .

- وجملةُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ تذييلٌ لقولِه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، وهي مَعطوفةٌ على جملةِ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ؛ لِما اقتَضاه القَصرُ مِن إبطالِ أن يَكونَ وَكيلًا على إلجائِهم للإيمانِ، ومِمَّا شَمِلَه عُمومُ كُلِّ شَيْءٍ أنَّ اللهَ وكيلٌ على قلوبِ المكذِّبين، وهم المقصودُ، وإنَّما جاء الكلامُ بصِيغةِ العُمومِ؛ لِيَكونَ تَذييلًا، وإتيانًا للغرَضِ بما هو كالدَّليلِ .

- ولَمَّا كان السِّياقُ لإحاطتِه سُبحانه، قدَّمَ قولَه: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ .

2- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الاستفهامُ إنكاريٌّ  للتَّوبيخِ والإنكارِ والتَّعجُّبِ، والتَّقديرُ: بل أيَقولون: افتَراه؟! والإضرابُ بقولِه: أَمْ إضرابٌ انتِقاليٌّ في قُوَّةِ الاستئنافِ الابتدائيِّ، فلِلجُملَةِ حُكمُ الاستئنافِ، والمناسَبةُ ظاهرةٌ؛ لأنَّ الكلامَ في إبطالِ مَزاعِمِ المشرِكين- فإنَّهم قالوا: هذا كلامٌ مُفتَرًى- وقَرْعِهم بالحُجَّةِ .

- قولُه: بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، مِثْلِه أي: أمثالِه، وعُبِّر بالمُفردِ إمَّا باعتبارِ مُماثَلةِ كلِّ واحدٍ منها، أو لأنَّ المطابقةَ ليسَت بشَرطٍ حتَّى يُوصَف المثنَّى بالمفرَدِ، كما في قولِه تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا، أو للإيماءِ إلى أنَّ وجهَ الشَّبَهِ ومَدارَ المماثلةِ في الجميعِ شيءٌ واحدٌ؛ هو البلاغةُ المؤدِّيةُ إلى مَرتَبةِ الإعجازِ، فكأنَّ الجميعَ واحدٌ .

- وقولُه: مُفْتَرَيَاتٍ صِفةٌ أُخرَى لـ سُوَرٍ، وأُخِّرَت عن وصْفِها بالمماثَلةِ لِما يُوحَى؛ لأنَّ المماثلةَ هي الصِّفةُ المقصودةُ بالتَّكليفِ؛ إذْ بها يَظهَرُ عجزُهم وقُعودُهم عن المعارَضةِ، وأمَّا وصفُ الافتراءِ فلا يتَعلَّقُ به غرَضٌ يَدورُ عليه شيءٌ في مَقامِ التَّحدِّي، وإنَّما ذُكِر على نَهْجِ المُساهَلةِ، وإرخاءِ العِنانِ، ولأنَّه لو عُكِس التَّرتيبُ لرُبَّما تُوُهِّم أنَّ المرادَ هو المماثلةُ في الافتراءِ .

- وجوابُ الشَّرطِ في قولِه: إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ المذكورِ عليه، وهو قولُه: فَأْتوا بعَشْرِ سُوَرٍ، ووجهُ الملازَمةِ بينَ الشَّرطِ وجَزائِه أنَّه إذا كان الافتراءُ يأتي بهذا القرآنِ؛ فما لكم لا تَفتَرون أنتم مِثلَه، فتَنهَضَ حُجَّتُكم ؟!

3- قولُه تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

- قولُه: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ تفريعٌ على وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، والاستجابةُ: الإجابةُ، والسِّينُ والتَّاءُ فيه للتَّأكيدِ .

- قولُه: لَكُمْ فَاعْلَمُوا فيه جمعُ الخطابِ بعدَ إفرادِه في قولِه: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ؛ إشارةً إلى أنَّ مَعْناه: فإنْ لَم يَستَجيبوا لك وللمُؤمِنين؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم والمؤمنين كانوا يَتَحَدَّوْنهم ، أو لأنَّهم أتباعٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأمْرِ بالتَّحدِّي، وفيه تنبيهٌ لطيفٌ على أنَّ حقَّهم أنْ لا يَنفَكُّوا عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُناصِبوا معه لِمُعارَضةِ المعارِضينَ كما كان يَفعَلونه في الجِهادِ، وإرشادٌ إلى أنَّ ذلك ممَّا يُفيدُ الرُّسوخَ في الإيمانِ، والطُّمأنينةَ في الإيقانِ، ولذلك رُتِّب عليه قولُه عزَّ وجلَّ: فَاعْلَمُوا... .

- وعلى القول بأنَّ المعنى: فإن لم تستَجِبْ لكم آلهتُكم، وسائرُ مَنْ إليهم تَجْأَرون في مُهِمَّاتِكم ومُلِمَّاتِكم إلى المعاوَنةِ والمظاهَرَةِ؛ فاعلَموا أنَّ ذلك خارِجٌ عن دائرةِ قُدْرةِ البشَرِ، وأنَّه مُنزَّلٌ مِن خالِقِ القُوى والقُدَرِ؛ فيكونُ إيرادُ كَلِمةِ الشَّكِّ حينَئذٍ مع الجزْمِ بعدَمِ الاستجابةِ من جِهَةِ آلهتِكم تَهكُّمًا بهم، وتَسجيلًا عليهم بكمالِ سَخافةِ العقلِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا بحَذفِ النُّونِ والجَمعِ، وأمَّا في سورةِ القَصصِ فقال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ [القصص: 50] على الواحِدِ؛ ووجهُ جمعِ الخِطابِ هاهنا وتوحيدِه في القصَصِ: أنَّ ما في هذه السُّورةِ خِطابٌ للرَّسولِ وللمؤمنِينَ، ويجوز أنْ يكون الجمعُ لتَعظيمِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: لأنَّه خِطابٌ للكفَّارِ، والفعلَ يَعودُ لـ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ- على أحد أوجه التفسير- وأمَّا ما في القَصصِ فهو خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، والفِعلُ للكفَّارِ .

- والفاءُ في فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ للتَّفْريعِ على فَاعْلَمُوا، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في الحثِّ على الفعلِ وعدَمِ تأخيرِه، والمعنى: فهل تُسْلِمون بعدَ تَحقُّقِكم أنَّ هذا القرآنَ مِن عندِ اللهِ ؟ وقيل: قَولُ الله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: أسلِموا، وفي مثلِ هذا الاستفهامِ إيجابٌ بليغٌ؛ لِما فيه مِن معنى الطَّلَبِ، والتنبيهِ على قيامِ المُوجِبِ، وزوالِ العُذرِ .

- وجِيءَ بالجملةِ الاسميَّةِ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ الدَّالةِ على دَوامِ الفعلِ وثَباتِه؛ لِتَأكيدِ الطَّلَبِ لهذا الوصفِ؛ فإنَّ الجملةَ الاسميَّةَ أدَلُّ على حُصولِ المطلوبِ وثُبوتِه، وهو أدَلُّ على طلَبِه، ولَم يَقُلْ: (فهَل تُسلِمون)؛ لأنَّ حالةَ عدَمِ الاستجابةِ تُكسِبُ اليقينَ بصِحَّةِ الإسلامِ، فتَقْتَضي تَمكُّنَه مِن النُّفوسِ، وذلك التَّمكُّنُ تَدُلُّ عليه الجملةُ الاسميَّةُ .

==================================================

 

سورة هود

الآيات (15-17)

ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

 

نُوَفِّ إِلَيْهِمْ: أي: نُوصِلْها إليهم وافيةً كاملةً، وأصلُ (وفي): يدلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ

.

يُبْخَسُونَ: أي: يُنقصونَ، والبخسُ: نقصُ الشيءِ على سبيلِ الظُّلم، وأصلُ (بخس): النَّقصُ .

مِرْيَةٍ: أي: شكٍّ، وقيل: المريةُ: التردُّدُ في الأمرِ، وهو أخصُّ مِن الشكِّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ سُبحانه سوءَ مَصيرِ الذين لا يُريدونَ بأقوالِهم وأعمالِهم وجهَ اللهِ تعالى، فيقولُ: من كان يُريدُ بعَمَلِه الحياةَ الدُّنيا ومُتَعَها، نُعطِهم ما قُسِمَ لهم مِن ثوابِ أعمالِهم في الحياةِ الدُّنيا، كاملًا غيرَ مَنقوصٍ، أولئك ليس لهم في الآخرةِ إلَّا نارُ جهنَّمَ، يُقاسونَ حَرَّها، وذهَب عنهم نَفْعُ ما عَمِلوه، وباطلٌ ما كانوا يعملون مِن الخيرِ؛ لأنَّه لم يكُن لِوَجهِ الله.

ثم يقولُ تعالى: أفمَن كان على بينةٍ مِن رَبِّه، ويَتْبَعُه شاهِدٌ آخَرُ مِن اللهِ، يوافِقُ هذه البينةَ ويَتْبَعُها- وهو القُرآن- وشاهِدٌ آخَرُ مِن قَبلِ القرآنِ، وهو التَّوراةُ- الكتابُ الذي أُنزِلَ على موسى إمامًا ورحمةً لِمَن آمن به- كمن كان همُّه الحياةَ الفانيةَ بزِينتِها؟ أولئك يصدِّقونَ بهذا القُرآنِ، ويَعمَلونَ بأحكامِه، ومَن يكفُرْ بهذا القرآنِ مِن الذين تحزَّبوا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجزاؤه النَّارُ يَرِدُها لا محالةَ، فلا تكُنْ- أيُّها الرَّسولُ- في شَكٍّ مِن أمرِ القُرآنِ، وكَونِه مِن عندِ الله تعالى بعد ما شَهِدَت بذلك الأدلَّةُ والحُجَجُ، واعلَمْ أنَّ هذا القرآنَ هو الحَقُّ مِن ربِّك، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمنونَ بأنَّه حَقٌّ مِن عندِ الله؛ عنادًا واستكبارًا.

تفسير الآيات:

 

مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان ما سبق فيه مِن الحَثِّ على الثَّباتِ على الإسلامِ والدُّخولِ فيه، والوعيدِ على التقاعُسِ عنه ما مِن حَقِّ السَّامِعِ أن يُبادِرَ إليه، وكان حقُّ المُسلِمِ الإعراضَ عن الدُّنيا؛ لسُوءِ عاقِبتِها، وكان أعظَمُ الموانِعِ للمُشرِكينَ مِن التَّصديقِ استيلاءَ أحوالِ الدُّنيا عليهم، ولذلك تعنَّتوا بالكَنزِ- أشار هنا إلى عواقبِ ذلك

.

وأيضًا فإنَّه بعدَ أن قامت الحُجَّةُ القَطعيَّةُ على إعجازِ القُرآنِ، وحقِّيَّةِ دعوةِ الإسلامِ، بما يقطَعُ ألسِنةَ المُفتَرينَ، ويُبطِلُ مَعاذيرَهم؛ بيَّن لهم في هذه الآيةِ والتي تليها الصَّارِفَ النَّفسيَّ لهم عنه، وكونَه شَرًّا لهم لا خيرًا، وهو أنَّه لا حَظَّ لهم من حياتِهم إلَّا شَهواتُ الدُّنيا وزِينتُها، والإسلامُ يَدعوهم إلى إيثارِ الآخرةِ على الأُولَى .

مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا.

أي: من كان يَقصِدُ بسَعيِه وأعمالِه الصَّالحةِ الحياةَ الدُّنيا وزِينَتَها، نُعطِه ثوابَ أعمالِه فيها كامِلًا، كسَعةِ الرِّزقِ، ودَفعِ المَكارِه وغيرِ ذلك .

كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 18] .

وقال سُبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] .

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يَظلِمُ مُؤمِنًا حَسَنةً؛ يُعطَى بها في الدُّنيا، ويُجزَى بها في الآخرةِ، وأمَّا الكافِرُ فيُطعَمُ بحَسَناتِ ما عَمِلَ بها لله في الدُّنيا، حتى إذا أفضَى إلى الآخرةِ لم تكُن له حَسَنةٌ يُجزى بها) ) .

وعن أبي هريرة رضي اللهُ عنه، أنَّ رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أولَ الناسِ يُقضى يومَ القيامَةِ عليه، رجُلٌ استُشهِد، فأتى به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فِيكَ حتى استُشهِدتُ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ قاتَلتَ لِأَنْ يُقالَ: جَريءٌ. فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه حتى أُلقِيَ في النارِ. ورجُلٌ تعلَّم العِلمَ وعلَّمه، وقرَأ القرآنَ، فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه، وقرَأتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ تعلَّمتَ العِلمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقرَأتَ القُرآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقِي في النارِ. ورجُلٌ وسَّع اللهُ عليه، وأعطاه مِن أصنافِ المالِ كلِّه، فأتَى به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: ما ترَكتُ مِن سبيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلَّا أنفَقتُ فيها لكَ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ فعَلتَ لِيُقالَ هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه، ثم أُلقِي في النارِ )) .

وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ.

أي: ولا يَنقُصُهم اللهُ ثوابَ أعمالِهم الصَّالحةِ في الدُّنيا .

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى حال من يريدُ الحياةَ الدُّنيا في الدُّنيا؛ بيَّنَ حالَهم في الأُخرَى ، فقال:

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ.

أي: أولئك الذين يُريدونَ بأعمالِهم الصَّالحةِ الحياةَ الدُّنيا وزِينتَها، لا يكونُ لهم في الآخرةِ إلَّا النَّارُ، فيصلَونَها .

عن أُبيِّ بنِ كعبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بشِّرْ هذه الأُمَّةَ بالسَّناءِ والرِّفعةِ، والدِّينِ والنَّصرِ، والتَّمكينِ في الأرضِ، فمَن عَمِلَ منهم عمَلَ الآخرةِ للدُّنيا، لم يكُن له في الآخرةِ نَصيبٌ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من تعلَّم عِلمًا ممَّا يُبتَغَى به وجهُ الله، لا يتعلَّمُه إلَّا ليُصيبَ به عرَضًا منَ الدُّنيا؛ لم يجِدْ عَرْفَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ)) يعني: رِيحَها .

وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا.

أي: وذهبَ وبطَلَ ما عَمِلوا من الأعمالِ الصَّالحةِ في الدُّنيا، فلا يُثابون عليها في الآخرةِ .

وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.

أي: وباطلٌ ما كانوا يعملونَه مِن الخيرِ لغَيرِ اللهِ، فلا ينفَعُهم عندَ الله .

عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه، قال: سمعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّةِ، وإنَّما لامرئٍ ما نوى، فمن كانت هِجرتُه إلى اللهِ ورَسولِه فهِجرتُه إلى الله ورسولِه، ومن كانت هِجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأةٍ يتزَوَّجُها فهِجرتُه إلى ما هاجرَ إليه )) .

أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

تعَلُّقُ هذه الآيةِ بما قَبلَها ظاهِرٌ، فالتَّقديرُ: أفمَن كان على بيِّنةٍ مِن ربِّه، كمَن يريدُ الحياةَ الدُّنيا وزينَتَها وليس لهم في الآخرةِ إلَّا النَّارُ، إلَّا أنَّه حُذِف الجوابُ لِظُهورِه .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى حالَ من يريدُ الحياةَ الدُّنيا، ذكَرَ حالَ مَن يريدُ وَجهَ اللهِ تعالى بأعمالِه الصَّالحةِ .

وأيضًا لَمَّا اتَّضَحت الحُجَجُ، وانتهَضَت الدَّلائلُ، كان ذلك موضِعَ الإنكارِ على مَن يُسَوِّي بينَ المُهتَدي والمُعتَدي .

أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ.

أي: أفمَن كان على بيَّنةٍ مِن رَبِّه، ويَتبَعُه شاهِدٌ آخَرُ مِن اللهِ يوافِقُ هذه البينةَ ويَتْبَعُها، وهو القرآنُ الذي شَهِدَ اللهُ فيه بِمْثلِ ما عليه المؤمِنُ من بيِّنةٍ .

وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً.

أي: وشاهدٌ آخَرُ مِن قَبلِ القُرآنِ، وهو التَّوراةُ التي أنزَلَها اللهُ على نبيِّه موسى إمامًا لبني إسرائيلَ؛ يَأْتمُّونَ بها ويَتَّبِعونها، ورحمةً مِن الله بهم .

أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.

أي: أولئك الذين على بيِّنةٍ من ربِّهم يُؤمِنونَ بالقُرآنِ حقًّا .

كما قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الأنعام: 92] .

وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ.

أي: ومَن يكفُرْ بالقُرآنِ مِن أهلِ المِلَلِ كُلِّها، فالنَّارُ مَوعِدُه يومَ القيامةِ، فيكونُ مِن أهلِها .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((والذي نفسُ محمَّدٍ بِيَدِه، لا يسمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمَّةِ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثمَّ يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرسِلتُ به، إلَّا كان من أصحابِ النَّارِ) ) .

فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ.

أي: فلا تكنْ في شكٍّ- يا محمَّدُ- مِن أنَّ القرآنَ مُنزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، وأنَّ مَن كذَّب به فالنَّارُ مَوعِدُه .

كما قال تعالى: الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 1-2] .

إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ.

أي: إنَّ القرآنَ الذي أنزَلْناه إليك- يا محمَّدُ- حقٌّ من عندِ رَبِّك، لا شكَّ في ذلك .

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بأنَّ القُرآنَ حقٌّ مِن عندِ اللهِ، إمَّا جهلًا وتقليدًا للمَتبوعينَ، وإمَّا عِنادًا واستكبارًا

 

.

كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] .

وقال سُبحانَه: المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1] .

الفوائد التربوية :

 

1- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ دَلالةٌ على أنَّ مَن كانتِ الدُّنيا مُرادَه ولها يَعمَلُ، وهي غايةُ كَدْحِه؛ لم يكنْ له في الآخرةِ نَصيبٌ، ومَن كانتِ الآخرةُ مرادَه ولها عمَلُه، وهي غايةُ سَعيِه؛ فهي له

.

2- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ دَلالةٌ على أنَّ الناويَ الجازِمَ، الآتيَ بما يُمكِنُه؛ فإنَّه بمنزلةِ الفاعلِ التَّامِّ، وقد دلَّ قولُه: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا، وقولُه: وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ على أنَّه كان لهم أعمالٌ بطلتْ، وعُوقِبوا على أعمالٍ أُخرَى عمِلوها، وأنَّ الإرادةَ هنا مستلزمةٌ للعملِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- لما كان الذي يمنعُ الإنسانَ مِن اتباعِ الرسولِ شيئانِ: إمَّا الجهلُ، وإمَّا فسادُ القصدِ؛ ذكَر ما يزيلُ الجهلَ، وهو الآياتُ الدالةُ على صدقِه، بقولِه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه... ثمَّ ذكَر أهلَ فسادِ القصدِ بقولِه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ... فهؤلاء أهلُ فسادِ القصدِ، فهذان الأمرانِ هما المانعانِ للخلقِ مِن اتباعِ هذا الرسولِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ قال بعضُ العُلَماءِ: معنى هذه الآيةِ قَولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ )) ، وفيها دلالةٌ على أنَّ مَن صام في رمضانَ لا عن رمضانَ، لا يقَعُ عن رَمَضانَ، وعلى أنَّ من توضَّأَ للتبَرُّدِ والتنظُّفِ، لا يقَعُ قُربةً عن جهةِ الصَّلاةِ، وهكذا كلُّ ما كان في معناه .

3- قولُه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ بَيِّنَةٍ أي: هُدَى الإيمانِ، وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ أي: القرآنُ شاهدٌ مِن الله يُوافقُ الإيمانَ ويتبعُه؛ لذا قال: (يَتْلُوهُ)؛ لأنَّ الإيمانَ هو المقصودُ؛ لأنَّه إنَّما يُراد بإنزالِ القرآنِ الإيمانُ وزيادتُه، ولهذا كان الإيمانُ بدونِ قراءةِ القرآنِ ينفعُ صاحبَه، ويدخلُ به الجنةَ، والقرآنُ بلا إيمانٍ لا ينفعُ في الآخرةِ، بل صاحبُه منافقٌ .

4- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً لَمَّا كان كتابُ موسى سببًا للرَّحمةِ، أطلَق اسمَ الرَّحمةِ عليه إطلاقًا لاسم ِالمُسبَّبِ على السَّبَبِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ قال بعضُ العُلَماءِ: لَمَّا دلَّت الآيةُ على أنَّ من يكفُر به كانت النَّارُ مَوعِدَه، دلَّ على أنَّ مَن لا يكفُر به كانت الجنَّةُ مَوعِدَه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ

- قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا فيه إدخالُ (كان) عليه؛ للدَّلالةِ على استِمْرارِها منهم بحيثُ لا يَكادون يُريدون الآخِرةَ أصلًا

، وفِعلُ الشَّرطِ في المَقامِ الخِطابيِّ يُفيدُ اقتِصَارَ الفاعِلِ على ذلك الفِعْلِ، فالمعنى: مَن كان يُريدُ الحياةَ الدُّنْيا فقَط؛ بقرينةِ قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ؛ إذْ حصَر أمْرَهم في استحقاقِ النَّارِ، وهو مَعْنى الخلودِ ، وهذا على أحدِ القولينِ في الآيةِ.

- قولُه تعالى: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا فيه إطلاقُ الأعمالِ في أَعْمَالَهُمْ وإرادةُ ثَمراتِها؛ فالمعنى: نُوصِلُ إليهم ثَمراتِ أعمالِهم في الحياةِ الدُّنيا كامِلةً .

- وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ فيه التَّعبيرُ عن النَّقصِ بالبَخْسِ- حيث قال: لَا يُبْخَسُونَ بدَلَ (لا يُنقَصون)- وإنَّما عبَّر عن ذلك بالبَخْسِ الَّذي هو نَقْصُ الحقِّ، مع أنَّه ليس لهم شائِبةُ حقٍّ فيما أُوتوه، كما عبَّر عن إعطائِه بالتَّوْفيَةِ الَّتي هي إعطاءُ الحقوقِ، مع أنَّ أعمالَهم بمَعزِلٍ عن كونِها مُستوجِبةً لذلك؛ بِناءً للأمرِ على ظاهرِ الحالِ، ومُحافَظةً على صُوَرِ الأعمالِ، ومُبالَغةً في نفْيِ النَّقْصِ؛ كأنَّ ذلك نقصٌ لحُقوقِهم، فلا يَدخُلُ تحتَ الوُقوعِ والصُّدورِ عن الكريمِ أصلًا .

- وكرَّرَ لفظَ (فيها) للتَّأكيدِ والإعلامِ بأنَّ الآخرةَ ليست كالدُّنيا في وفاءِ كَيلِ الجزاءِ وفي بَخسِه؛ فإنَّه فيها مَنوطٌ بأمرينِ: كسبُ الإنسانِ، ونِظامُ الأقدارِ، وقد يتعارضانِ، وأمَّا جزاءُ الآخرةِ فهو بفِعلِ اللهِ تعالى مباشرةً: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .

2- قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

- جملةُ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ مُستأنَفةٌ، ولكنَّ اسْمَ الإشارةِ أُولَئِكَ يَربِطُ بينَ الجُملتَينِ، وأُتي باسْمِ الإشارةِ؛ لِتَمييزِهم بتلك الصِّفاتِ المذكورةِ قبْلَ اسْمِ الإشارةِ. وأيضًا في اسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ تنبيهٌ على أنَّ المشارَ إليه استَحقَّ ما يُذكَرُ بعدَه مِن الحُكْمِ، مِن أجْلِ الصِّفاتِ الَّتي ذُكِرت قبلَ اسْمِ الإشارةِ .

- وأيضًا في قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ التَّعبيرُ باسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ، وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنزِلَتِهم في سوءِ الحالِ، أي: أولئك المُريدون للحياةِ الدُّنيا وزينَتِها المُوَفَّوْن فيها ثَمراتِ أعمالِهم مِن غَيرِ بَخْسٍ .

- وفي زِيادةِ (كان) في الثاني وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ دونَ الأوَّلِ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا إيماءٌ إلى أنَّ صُدورَ أعمالِ البرِّ منهم وإنْ كان لغَرَضٍ فاسدٍ، ليس في الاستمرارِ والدَّوامِ كصُدورِ الأعمالِ التي هي مِن مُقدِّماتِ مَطالبِهم الدَّنيَّة .

3- قوله: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ

- قولُه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فيه إيرادُ الفاءِ بعدَ الهمزةِ في أَفَمَنْ؛ لإنكارِ تَرتُّبِ توهُّمِ المماثَلةِ على ما ذُكِرَ مِن صِفاتِهم وعُدِّد مِن هَنَاتِهم؛ كأنَّه قيل: أبَعْدَ ظُهورِ حالِهم في الدُّنيا والآخِرَةِ كما وُصِف يُتَوهَّمُ المماثَلةُ بينَهم وبينَ مَن كان على أحسَنِ ما يكونُ في العاجلِ والآجلِ ؟!

- قولُه: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى فيه تخصيصُ التَّوراةِ بالذِّكْرِ؛ قيل: وذلك لأنَّ المِلَّتَين (اليَهودَ والنَّصارى) مُجتمِعتانِ على أنَّها مِن عندِ اللهِ، والإنجيلُ يُخالِفُ فيه اليهودُ؛ فكان الاستِشهادُ بما تقومُ به الحُجَّةُ على الفَريقين أَوْلى ، وأيضًا لأنَّ التوراةَ هي الأصلُ، والإنجيلُ تبعٌ لها في كثيرٍ مِن الأحكامِ، وإن كان مغايرًا لبعضِها .

- وذكرُ اسمِ الإشارةِ في قوله: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يُشبِهُ ذكرَ ضَميرِ الفصلِ، وفيه تَنبيهٌ على أنَّ ما بعدَه من الخبرِ مُسبَّبٌ على ما قبل اسمِ الإشارةِ من الأوصافِ، وهي كونُهم على بيِّنةٍ مِن ربِّهم مُعضَّدةٍ بشواهدَ من الإنجيلِ والتوراةِ .

- قولُه: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ تفريعٌ على جُملةِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، والخطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، والنَّهيُ مُستعمَلٌ كنايةً تَعريضيَّةً بالكافِرين بالقُرآنِ؛ لأنَّ النَّهيَ يَقْتَضي فَسادَ المنهيِّ عنه ونَقْصَه، فمِن لَوازِمِه ذَمُّ المتلبِّسِ بالمنهيِّ عنه، ولَمَّا كان المخاطَبُ غيرَ مَظِنَّةٍ للتَّلبُّسِ بالمنهيِّ عنه فيُطلَبَ مِنه تَرْكُه، ويَكونُ النَّهيُ طلَبَ تَحصيلِ الحاصلِ، تَعيَّنَ أن يَكونَ النَّهيُ غيرَ مُرادٍ به الكَفُّ والإقلاعُ عن المنهيِّ عنه، فيكونُ مُستعمَلًا في لازِمِ ذلك بقرينةِ المَقامِ .

- قولُه: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مُستَأنَفٌ تأكيدًا لِما دَلَّت عليه جُملةُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، مِن أنَّه لِوُضوحِ حَقيقتِه لا يَنبَغي أن يُمتَرى في صِدْقِه، وحَرفُ التَّأكيدِ يقومُ مقامَ الأمرِ باعتقادِ حَقيَّتِه؛ لِمَا يَدُلُّ عليه التَّأكيدُ مِن الاهتمامِ .

- وفي قولِه: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، اخْتِيرَ النَّهيُ عن المِرْيَةِ دونَ النَّهيِ عن اعتِقادِ أنَّه كذِبٌ، كما هو حالُ المشرِكين؛ لأنَّ النَّهيَ عنِ الامْتِراءِ فيه يقتَضي النَّهيَ عن الجزْمِ بالكذِبِ بالأَوْلى، وفيه تعريضٌ بأنَّ ما فيه المشرِكون مِن اليقينِ بكَذِبِ القرآنِ أشَدُّ ذمًّا وشَناعةً .

- وتعريفُ الْحَقِّ؛ لإفادةِ قَصْرِ جِنْسِ الحقِّ على القرآنِ، وهو قَصرُ مُبالَغةٍ لكمالِ جِنسِ الحقِّ فيه، حتَّى كأنَّه لا يوجَدُ حقٌّ غيرُه، مثلَ قولِك: حاتِمٌ الجَوَادُ .

- وقولُه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ استدراكٌ ناشئٌ على حُكمِ الحصْرِ؛ فإنَّ الحصْرَ يَقتَضي أن يُؤمِنَ به كلُّ مَن بلَغَه، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يؤمنون، وحذَف مُتعلِّقَ يُؤْمِنُونَ؛ لأنَّ المرادَ انتفاءُ حقيقةِ الإيمانِ عنهم في كلِّ ما طُلِب الإيمانُ به مِن الحقِّ .

- قولُه تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود: 17] ، فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال في آخِرِ هذه السُّورةِ- بعدَ قولِه: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] -: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ [هود: 109] ، وقال في سورةِ السَّجدةِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ [السجدة: 23] ، بإثباتِ نونِ (تَكُنْ)، وحذْفِها في آيَتَيْ سورةِ هودٍ، ومناسَبةُ هذا الاختلافِ: أنَّ العرَبَ تصرَّفَت في (يَكونُ) عِندَ دُخولِ الجازِمِ عليها تَصرُّفًا لم تَفعَلْه في نَظائِرِها وما يُشبِهُها، فيَكونُ الوجهُ في (يكونُ) عندَ دخولِ الجازمِ عليها تَسْكينَ النُّونِ؛ فتُحذَفُ الواوُ عندَ الْتِقاءِ السَّاكِنَينِ كما ورَد في سورةِ السَّجدةِ، إلَّا أنَّ حذْفَ النُّونِ في (يكونُ) مِن فَصيحِ كَلامِهم ما لم تَكُنْ مُتحرِّكةً، فإن كانت مُتحرِّكةً لم تُحذَفْ لِقُوَّتِها بالحرَكةِ، وإن كانت عارِضةً كقولِه تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة: 1] ، ولا تُحذَفُ هذه إلَّا في الشِّعرِ؛ فورَد في سورةِ هودٍ على ما اعتَمَدوه مِن تخفيفِ هذا اللَّفظِ؛ لِيُناسِبَ بذلك إيجازَ الكلامِ المتعلِّقِ بقولِه: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [هود: 17] ، والمتَّصِلِ به تَمامُه تمامُ مَعنى المقصودِ، وذلك قولُه: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ، وكذلك قولُه في آخِرِ السُّورةِ: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ [هود: 109] إلى قولِه: غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: 109] . وورَد في سورةِ السَّجدةِ على أصْلِ الكلمةِ قبلَ حذْفِها، فقيل: فَلَا تَكُنْ؛ لِيَجري ذلك مع ما ورَد في هذه السُّورةِ مِن طولِ الكلامِ المتعلِّقِ بقولِه: فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ [السجدة: 23] ؛ فنُوسِبَ الإيجازُ بالإيجازِ والطُّولُ بالطُّولِ

======================

 

سورة هود

الآيات (18-24)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

 

يَصُدُّونَ: أي: يُعرِضون وينصرَفون، أو يصرفون غيرَهم، والصدودُ والصَّدُّ قد يكونُ انصرافًا عن الشَّيء وامتناعًا؛ إذا كان لازمًا غير مُتعدٍّ، وقد يكونُ صرفًا ومنعًا؛ إذا كان مُتعدِّيًا بمعنى يصَدُّون غيرَهم، وأصلُ (صدد): إعراضٌ وعدولٌ

.

عِوَجًا: أي: زيغًا وتحريفًا وضلالًا، واعوجاجًا في الدِّين، وأصل (عوج): الميلُ في الشيءِ .

لا جَرَمَ: أي: حقًّا، وأصلُ (جرم): قطع .

وَأَخْبَتُوا: أي: تواضَعوا، وخَضَعوا، والإخباتُ: التواضُعُ واللِّينُ، وأصلُ (خبت): يدلُّ على خُشوعٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ

لَا جَرَمَ: كلمةُ جزمٍ ويقينٍ جَرَت مجرى المَثَل. وفي هذا التَّركيبِ أقوالٌ: أحدها: أنَّ لَا جَرَمَ بمعنى (لا بُدَّ ولا محالةَ)، فـ (لا) نافيةٌ للجِنسِ، و(جَرَم) اسمُها مبنيٌّ على الفَتحِ في محلِّ نَصبٍ، والمصدرُ المؤوَّلُ من أنَّ ومعمولَيها في محلِّ جَرٍّ بحَرفِ جَرٍّ محذوفٍ، فيصيرُ المعنى: لا بدَّ مِن خُسرانِهم ولا محالةَ فيه. الثاني: أنَّ لَا جَرَمَ كلمةٌ واحِدةٌ مرَكَّبةٌ تركيبَ خَمسةَ عشَرَ، وبعد الترَّكيبِ صار معناها معنى فعلٍ، وهو (حَقَّ) ، والمصدرُ المؤوَّلُ من أنَّ ومعمولَيها فاعِلٌ لمَجموعِ لَا جَرَمَ لتأويله بالفعلِ (حقَّ)، وقيل: مُؤَوَّلٌ بمصدرٍ قائمٍ مقامَه، وهو (حَقًّا) فيصيرُ المعنى: حَقَّ ووجَبَ خُسرانُهم. الثالث: أنَّ (لا) نافيةٌ لكلامٍ سابقٍ مُقَدَّرٍ، والوقفُ على (لا) تامٌّ، ثم قال: (جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)، أي: حَقَّ ووجب خُسرانُهم، وعليه فالمصدرُ المؤَوَّلُ مِن أنَّ ومَعمولَيها في محلِّ رَفعٍ فاعِلٌ لـ جَرَمَ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ تعالى أنَّه لا أحدَ أظلَمُ ممَّن اختلقَ على اللهِ كذبًا، وأنَّ أولئك سيُعرَضونَ على ربِّهم يومَ القيامةِ؛ ليُحاسِبَهم على أعمالِهم، ويقولُ الأشهادُ مِن الملائكةِ والنبيِّينَ والمُؤمِنينَ: هؤلاء الذين كَذَبوا على ربِّهم في الدُّنيا، ألا لعنةُ اللهِ على هؤلاء الظَّالِمينَ الذين يَمنَعونَ النَّاسَ عن دينِ الله، ويُريدونَ أن يكونَ مائلًا، وهم كافرونَ بالآخرةِ، لا يُؤمِنونَ ببعثٍ ولا جزاءٍ. أولئك الكافرونَ لم يكونوا لِيَفوتوا اللهَ في الدُّنيا هَربًا، وما كان لهم مِن أنصارٍ يَمنَعونَهم مِن عِقابِه، يُضاعَفُ لهم العذابُ في جهنَّمَ؛ فقد كانوا لا يَستطيعونَ أن يسمَعوا القرآنَ سَماعَ مُنتَفِعٍ، أو يُبصِروا آياتِ اللهِ في هذا الكونِ إبصارَ مُهتَدٍ. أولئك الذين خَسِروا أنفُسَهم بافترائِهم على اللهِ، وذهب عنهم ما كانوا يفترونَ مِن الآلهةِ التي يدَّعونَ أنَّها تشفَعُ لهم. حقًّا أنَّهم في الآخرةِ أخسَرُ النَّاسِ صَفقةً؛ لأنَّهم استبدلوا الدَّرَكاتِ بالدَّرَجاتِ، فكانوا في جهنَّم، وذلك هو الخُسرانُ المُبينُ.

إنَّ الذين آمنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ، وخَضَعوا لله وخَشَعوا، أولئك هم أهلُ الجنَّة، لا يموتونَ فيها، ولا يُخرجونَ منها أبدًا.

ثمَّ ضرَب الله مَثلًا لفريقِ الكافرينَ ولفريقِ المؤمنينَ، فقال: مثَلُ فريقَي الكُفرِ والإيمانِ كمَثَلِ الأعمى الذي لا يرى، والأصَمِّ الذي لا يسمَعُ، والبصيرِ والسَّميعِ: ففريقُ الكُفرِ لا يُبصِرُ الحَقَّ فيَتَّبِعَه، ولا يسمَعُ داعيَ اللهِ فيهتديَ به، أمَّا فريقُ الإيمانِ فقد أبصر الحَقَّ، وسَمِعَ داعيَ اللهِ فأجابه، هل يستوي هذان الفَريقانِ؟ أفلا تَعتَبِرونَ وتتفَكَّرونَ؟

تفسير الآيات:

 

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الكُفَّارَ كانت لهم عاداتٌ كثيرةٌ، وطُرُقٌ مُختَلِفةٌ، فمنها شِدَّةُ حِرصِهم على الدُّنيا، ورغبتُهم في تَحصيلِها، وقد أبطلَ اللهُ هذه الطَّريقةَ بقَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا... [هود: 15] ، ومنها أنَّهم كانوا يُنكِرونَ نبُوَّةَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويَقدَحونَ في مُعجِزاتِه، وقد أبطلَ اللهُ تعالى ذلك بِقَولِه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ... [هود: 17] ، ومنها أنَّهم كانوا يَزعُمونَ في الأصنامِ أنَّها شُفَعاؤهم عند الله، وقد أبطل اللهُ تعالى ذلك بهذه الآيةِ؛ وذلك لأنَّ هذا الكلامَ افتراءٌ على اللهِ تعالى، فلمَّا بيَّنَ وعيدَ المُفتَرينَ على الله، فقد دخل فيه هذا الكلامُ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا سبق قَولُهم: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ذكَرَ أنَّه لا أحدَ أظلَمُ ممَّن افترى على اللهِ كَذِبًا، وهم المُفتَرون الذين نَسَبوا إلى اللهِ الولَدَ، واتَّخَذوا معه آلهةً، وحَرَّموا وحَلَّلوا من غيرِ شَرعِ اللهِ .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا.

أي: لا أحدَ أظلَمُ ممَّن اختلقَ على اللهِ الكَذِبَ، كمن زعم أنَّ لله ولدًا، أو شريكًا في العبادةِ أو التَّشريعِ، أو نسَبَ القُرآنَ لِغَيرِ اللهِ، أو ادَّعى النبُوَّةَ .

كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف: 7] .

أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ.

أي: أولئك- الذين يَفتَرونَ على اللهِ الكَذِبَ- يُعرَضونَ يومَ القيامةِ على اللهِ، فيُحاسِبُهم على أعمالِهم، ويُجازيهم بظُلمِهم .

وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ.

أي: ويقولُ الملائكةُ والأنبياءُ والمُؤمنونَ يومَ القيامةِ: هؤلاء الذين كَذَبوا في الدُّنيا على ربِّهم .

عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُدنَى المؤمِنُ يومَ القيامةِ مِن رَبِّه عزَّ وجلَّ، حتى يضعَ عليه كنَفَه ، فيقَرِّرُه بذُنوبِه، فيقولُ: هل تَعرِفُ؟ فيقولُ: أي ربِّ، أعرِفُ. قال: فإنِّي قد سَترتُها عليك في الدُّنيا، وإنِّي أغفِرُها لك اليومَ، فيُعطَى صحيفةَ حَسَناتِه، وأمَّا الكُفَّارُ والمُنافِقونَ فيُنادَى بهم على رؤوسِ الخلائقِ: هؤلاء الذين كَذَبوا على اللهِ )) .

أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.

أي: ألا سخَطُ اللهِ الدَّائمُ وإبعادُه مِن رَحمتِه، على المُعتَدينَ الذين وَضَعوا العبادةَ في غيرِ مَوضِعِها .

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الكافرينَ كما ظَلَموا أنفُسَهم بالتزامِ الكُفرِ والضَّلالِ، فقد أضافوا إليه المَنعَ مِن الدِّينِ الحَقِّ، وإلقاءَ الشُّبُهاتِ، وتعويجَ الدَّلائلِ المُستَقيمةِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَر تعالى الظَّالمين، وصَفَ ظُلمَهم، فقال :

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا.

أي: الذين يَردُّونَ النَّاسَ عن دينِ اللهِ، ويمنعونَهم مِن الدخولِ فيه، ويُريدونَ أن يكونَ دينُ اللهِ مائلًا زائغًا عن الحَقِّ، ويُنفِّرونَ النَّاسَ عنه، ويُزيِّنون لهم الباطِلَ .

وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.

أي: والحالُ أنَّهم مكذبونَ بيَومِ القِيامةِ، منكرونَ لوقوعِه، لا يُؤمنون بالبَعثِ بعد الموتِ .

أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا هدَّد تعالى الكافرينَ بأمورِ الآخرةِ، أشار إلى بيانِ قُدرتِه على ذلك في الدَّارينِ .

أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ.

أي: أولئك الكُفَّارُ لا يُعجِزونَ اللهَ في الأرضِ بالهَرَبِ إن أراد عذابَهم في الدُّنيا؛ فهم في مُلكِه، وتحتَ قَهرِه وتَصَرُّفِه .

وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء.

أي: ولم يكُنْ لهم- إذا جاءهم العذابُ- أنصارٌ مِن دونِ اللهِ ينصُرونَهم، ويَدفَعونَ عنهم عذابَه .

يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ.

أي: يُزادُ في عذابِهم، ويُغلَّظُ عليهم .

كما قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 38] .

وقال سُبحانه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] .

مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ.

أي: ما كانوا يستطيعونَ سَماعَ الحَقِّ سَماعَ انتفاعٍ به، ولا يُبصِرونَه إبصارَ مُهتَدٍ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6- 7] .

وقال سُبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ [يونس: 42- 43] .

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (21).

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ.

أي: هؤلاء- الذين تلك صفاتُهم- همُ الذينَ أضاعوا حظَّ أنفُسِهم من الثَّوابِ، وأهلَكوها بالعَذابِ .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15] .

وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ.

أي: اضمحلَّ دينُهم الذي كانوا يَدعونَ إليه، وبطَل كَذِبُهم وفريتُهم على الله بادِّعائِهم له شُركاءَ، وذَهَبتْ عنهم آلهتُهم التي عبَدوها مِن دونِ الله، ولم تُغنِ عنهم شيئًا .

كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] .

وقال سُبحانه: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6] .

لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22).

أي: حقًّا وصِدقًا أنَّهم يومَ القيامةِ هم أخسَرُ النَّاسِ؛ لاستبدالِهم دَركاتِ النَّارِ بمنازلِ الجنَّةِ .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى حالَ الأشقياءِ، ثنَّى بذِكرِ السُّعَداءِ، فقال تعالى :

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ.

أي: إنَّ الذين آمَنوا بما وجَب عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ- فأتَوا بالطَّاعاتِ، وتَرَكوا المُنكَراتِ- وتواضَعوا لله وخَشَعوا واطمأنُّوا إليه .

كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج: 34-35] .

أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

أي: أولئك أهلُ الجنَّةِ، هم فيها لابِثونَ أبدًا، لا يُخرَجونَ منها ولا يَموتونَ .

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعدَ أن تبيَّنَ الاختلافُ بينَ حالِ المُشرِكينَ المُفتَرينَ على اللهِ كَذِبًا، وبين حالِ الذين آمنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ في منازِلِ الآخرةِ؛ أعقبَ ببيانِ التَّنظيرِ بين حالَي الفَريقَينِ: المُشرِكينَ والمؤمنينَ، بطريقةِ تَمثيلِ ما تستحِقُّه مِن ذَمٍّ ومدحٍ .

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ.

أي: مثَلُ الكافرينَ والمؤمنينَ كمَن لا يرى ولا يسمَعُ، ومَن يرَى ويسمَعُ؛ فالكافِرُ لا يرى الحقَّ فيهتديَ به، ولا يسمَعُ الحقَّ سماعًا ينتَفِعُ به، والمؤمِنُ يرى الحقَّ ويتَّبِعُه، ويَسمَعُه، وينتَفِعُ به .

هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.

أي: هل يستوي هذان الفَريقانِ عندكم، أيُّها النَّاسُ؟! فكذلك الكافِرُ والمؤمِنُ، لا يستويان عند اللهِ، أفلا تَعتَبِرونَ وتتفَكَّرونَ في حالِ الكافرينَ والمؤمنينَ، فتترُكوا الكُفرَ والعِصيانَ، وتُؤمِنوا باللهِ وتَعمَلوا الصَّالحاتِ

 

؟

كما قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [فاطر: 19-22] .

وقال سُبحانه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20] .

وقال عزَّ وجَلَّ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35-36] .

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، قَولُه تعالى: وَأَخْبَتُوا فيه إشارةٌ إلى أعمالِ القُلوبِ، وهي الخُشوعُ والخضوعُ لله تعالى، وأنَّ هذه الأعمالَ الصَّالحةَ لا تنفَعُ في الآخرةِ إلَّا بحُصولِ أعمالِ القَلبِ، وهي الخُشوعُ والخُضوعُ

.

2- قال الله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ عدَمُ هذه الاستطاعةِ كان بتَفريطِه وعُدوانِه، ومَن كان تَركُه للمأمورِ بذَنبٍ منه، أو صَيرورتُه إلى المحظورِ بذَنبٍ منه؛ لم يكُن ذلك مانعًا مِن ذَمِّه وعقابِه .

3- قال الله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ وعدمُ الاستطاعةِ هنا- على أحدِ الأوجهِ- إنَّما هو للختمِ على قلوبِهم وأسماعِهم، والغشاوةِ التي جُعِلت على أبصارِهم، وذلك الخَتمُ والأكِنَّةُ على القلوبِ جزاءٌ مِن اللهِ تعالى لهم على مبادَرتِهم إلى الكُفِر، وتكذيبِ الرُّسُلِ باختيارِهم ومَشيئتِهم، كما دلَّت عليه آياتٌ كثيرةٌ، كقولِه تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ، وقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ، وقولِه تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] ، وقولِه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 125] ، وقَولِه تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ .

4- قَولُ الله تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ جاء أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ليُنَبِّهَ على أنَّه يمكِنُ زوالُ هذا العمَى وهذا الصَّمَم، فيجبُ على العاقِلِ أن يتذكَّرَ ما هو فيه، ويسعَى في هدايةِ نَفسِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فيه دَلالةٌ على أنَّ الافتراءَ على اللهِ تعالى أعظَمُ أنواعِ الظُّلمِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ خَصَّهم بهذا العَرضِ- وإن كان العَرضُ عامًّا في كلِّ العِبادِ- لأنَّهم يُعرَضونَ فيُفتَضَحونَ بأنْ يقولَ الأشهادُ عند عَرضِهم: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ فيلحَقُهم مِن الخزيِ والنَّكالِ ما لا مَزيدَ عليه .

3- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا .... هذه الآياتُ، وإن كانت في حَقِّ المُشرِكينَ والكُفَّارِ، فإنَّها مُتَناوِلةٌ لِمَن كذَبَ على اللهِ في توحيدِه ودينِه وأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، ولا تتناوَلُ المُخطِئَ المأجورَ إذا بذَل جُهدَه، واستفرغَ وُسعَه في إصابةِ حُكمِ اللهِ وشَرعِه؛ فإنَّ هذا هو الذي فرَضَه اللهُ عليه، فلا يتناوَلُ المطيعَ للهِ وإن أخطأ .

4- في قَولِه تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ الفائِدةُ في إخبارِ الأشهادِ بما اللهُ يَعلَمُه: تعظيمُ الأمرِ على المشهودِ عليه، وحَسمُ طَمَعِه مِن أن يَجِدَ سبيلًا إلى التخلُّصِ، بمُجاحَدةٍ أو مُدافعةٍ، وقيل: هو توبيخٌ لهم مِن الشُّهَداءِ، وهَتكُ سِترِهم، وإظهارُ فَضيحتِهم .

5- الكَذِبُ على الله أشدُّ مِن الكَذِبِ على المَخلوقينَ؛ لِقَولِه تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ .

6- أهلُ العِلمِ يَختارونَ فيمن عُرِفَ بالظُّلمِ ونَحوِه مع أنَّه مُسلِمٌ له أعمالٌ صالحةٌ في الظَّاهرِ- كالحجَّاج بنِ يوسفَ وأمثالِه - أنَّهم لا يَلعَنونَ أحدًا منهم بعَينِه، بل يقولونَ كما قال الله تعالى: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهُ عَلَى الظَّالِمِينَ فيَلعنونَ مَن لعَنَه اللهُ ورسولُه عامًّا، ولا يلعنونَ المعَيَّنَ، فقد ثبَت: ((أنَّ رَجُلًا كان يُدعَى حمارًا، وكان يشرَبُ الخمرَ، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يجلِدُه، فأُتيَ به مرَّةً فلَعَنَه رجلٌ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تلعَنْه؛ فإنَّه يحِبُّ اللهَ ورَسولَه)) ؛ وذلك لأنَّ اللَّعنةَ مِن بابِ الوعيدِ، والوعيدُ العامُّ لا يُقطَعُ به للشَّخصِ المُعَيَّن؛ لأحدِ الأسبابِ المذكورةِ: من توبةٍ، أو حسَناتٍ ماحيةٍ، أو مصائِبَ مُكَفِّرةٍ، أو شفاعةٍ مَقبولةٍ، وغيرِ ذلك .

7- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ الأرضُ: الدُّنيا، وفائدةُ ذِكرِها أنَّهم لا ملجأَ لهم مِن اللهِ لو أراد الانتقامَ منهم، فلا يجِدونَ مَوضِعًا من الأرضِ يَستَعصِمونَ به، فهذا نفيٌ للملاجئِ والمعاقِلِ التي يستعصِمُ فيها الهارِبُ .

8- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ذكَرَ المؤمنينَ، ووصَفَهم بالإيمانِ، والعَمَلِ الصَّالحِ، والإخباتِ إلى ربِّهم، فوصَفَهم بعبوديَّةِ الظَّاهِرِ والباطِنِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ

- جملةُ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ مُستأنَفةٌ، وتصديرُها باسمِ الإشارةِ أُولئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أَحْرِياءُ بما سَيَرِدُ بعدَ اسْمِ الإشارةِ مِن الخبَرِ؛ بسبَبِ ما قبْلَ اسْمِ الإشارةِ مِن الوصفِ

، وفيه أيضًا أنَّ عَرْضَهم على ربِّهم عرضُ زجرٍ وانتقامٍ؛ وذلك لِمَا يُؤْذِنُ به اسْمُ الإشارةِ مِن مَعنى تعليلِ ما قَبْلَه فيما بعدَه .

- وقولُه: هَؤُلَاءِ فيه إشارةٌ إلى تَحقيرِهم وإصغارِهم بسوءِ مُرتَكَبِهم .

- قولُه: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ في الإتيانِ بالموصولِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ في الخبَرِ عنهم: إيماءٌ إلى سبَبيَّةِ ذلك الوصفِ الَّذي في الصِّلَةِ- وهو الكَذِبُ على ربِّهم- فيما يَرِدُ عليهم من الحُكمِ، وهو أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ .

- قولُه: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فيه الافتتاحُ بحرفِ التَّنبيهِ أَلَا؛ وذلك مُناسَبَةً لِمَقامِ التَّشهيرِ، والخبرُ هنا مُستعمَلٌ في الدُّعاءِ؛ خِزيًا وتَحقيرًا لهم .

2- قولُه تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ

- فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ اختُصَّتْ هذه الآيةُ على نَظيرَتِها في الأعرافِ، وهي قولُه: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ [الأعراف: 45] - بزِيادَةِ (هُمْ) في قولِه: هُمْ كَافِرُونَ، وهو توكيدٌ يُفيدُ تَقوِّيَ الحُكْمِ؛ لأنَّ المقامَ هنا مقامُ تسجيلِ إنكارِهم البَعْثَ وتَقريرِه؛ إشعارًا بما يتَرقَّبُهم مِن العقابِ المناسِبِ؛ فحُكي به مِن كَلامِ الأشهادِ ما يُناسِبُ هذا، وما في سورةِ الأعرافِ حكايةٌ لِمَا قيل في شأنِ قومٍ أُدخِلوا النَّارَ، وظهَر عِقابُهم، فلا غرَضَ لحِكايةِ ما فيه تأكيدٌ مِن كلامِ الأشهادِ، وكِلا المَقالَين واقعٌ؛ وإنَّما يَحكي البليغُ فيما يَحْكيه ما له مُناسَبةٌ لِمَقامِ الحِكايةِ .

3- قولُه تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ

- قولُه: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ استِئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عن الاقتِصَارِ في تَهْديدِهم على وصْفِ بعضِ عِقابِهم في الآخِرَةِ؛ فإنَّ ذلك يُثيرُ في نَفْسِ السَّامعِ أن يَسأَلَ: هل هم سالِمون مِن عذابِ الدُّنيا؟ فأُجيبَ بأنَّهم لم يَكونوا مُعجِزين في الدُّنيا، أي: لا يَخرُجون عن مَقدِرةِ اللهِ على تَعذيبِهم في الدُّنيا إذا اقتَضَتْ حِكمتُه تَعجيلَ عَذابِهم .

- وإعادةُ الإشارةِ إليهم بقولِه: أُولَئِكَ بعدَ أن أُشيرَ إليهم بقولِه: أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ [هود: 18] ؛ لتقريرِ فائدةِ اسمِ الإشارةِ السَّابقِ .

- وقولُه: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ كنايةٌ عن عدَمِ قَبولِهم للحَقِّ، ونفيُ الاستطاعةِ أعرَقُ في العَيبِ، وأدَلُّ على النَّقصِ، وأنكى مِن نفيِ السَّمعِ؛ لأنَّهم قد يَحمِلونَه على الإجابةِ .

- قولُه: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ فيه تشبيهٌ تمثيليٌّ؛ لأنَّه تشبيهُ مركَّبٍ بمركَّبٍ، شبَّهَهم في فرْطِ تَصامِّهم عن استماعِ الحقِّ، ونُبُوِّ أسماعِهم عنه بمَن لا يَستَطيعُ السَّمعَ، وفي إعراضِهم عن نُذُرِ الآياتِ بأنَّ أبصارَهم لم تَنفَعْهم، فكأنَّهم لم يُبصِروا .

- ولمَّا كان قُبحُ حالِهم في عدم إذعانِهم للقرآن الذي طريقُ تلقِّيه السمعُ أشدَّ منه في عدم قَبولِهم لسائرِ الآياتِ المنوطةِ بالإبصارِ؛ بالغَ في نفْي الأولِ عنهم حيثُ نفَى عنهم الاستطاعةَ، واكتفَى في الثاني بنَفْي الإبصارِ . وقيل: لأنَّ الإبصارَ المنفىَّ هو النظرُ في المصنوعاتِ الدالةِ على الوحدانيةِ، أي: ما كانوا يُوجِّهون أنظارَهم إلى المصنوعاتِ توجيهَ تأملٍ واعتبارٍ، ولذلك لم يقلْ هنا: (وما كانوا يَسْتطيعونَ أن يُبْصِروا)؛ لأنَّهم كانوا يُبصرونَها، ولكنَّ مجرَّدَ الإبصارِ غيرُ كافٍ في حُصولِ الاستِدْلالِ حتَّى يُضَمَّ إليه عمَلُ الفِكْرِ، بخلافِ السَّمعِ في قولِه: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ .

- والإتيانُ بأفعالِ الكَوْنِ في هذه الجُمَلِ أربَعَ مرَّاتٍ ابتِداءً مِن قولِه: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ إلى قولِه: وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ؛ لإفادةِ ما يَدُلُّ عليه فعلُ الكَونِ مِن تَمكُّنِ الحدَثِ المخبَرِ به؛ فقولُه: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ آكَدُ مِن: (لا يُعجِزون)، وكذلك أخَواتُه .

4- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ استِئْنافٌ، واسمُ الإشارةِ أُولِئَكَ هنا تأكيدٌ ثانٍ لاسمِ الإشارةِ في قولِه: أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ [هود: 18] .

- قولُه تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ فيه إسنادُ الضَّلالِ إلى الأصنامِ؛ تَهكُّمًا على أصحابِها، حيث شُبِّهَت أصنامُهم بمن سلَك طَريقًا لِيَلحَقَ بمَن استَنْجَد به، فضَلَّ في طَريقِه .

5- قولُه: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ جملةٌ مُستأنَفةٌ، وهي فَذْلَكةٌ ونَتيجةٌ للجُمَلِ المتقدِّمةِ مِن قولِه: أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ؛ لأنَّ ما جُمِع لهم مِن الزَّجِّ للعُقوبةِ، ومِن افتِضاحِ أمْرِهم، ومِن إعراضِهم عَن استِماعِ النُّذُرِ، وعن النَّظَرِ في دَلائلِ الوحدانيَّةِ يُوجِبُ اليَقينَ بأنَّهم الأخسَرون في الآخِرةِ .

- والضَّميرُ في هُمُ الْأَخْسَرُونَ ضميرُ فصْلٍ يُفيدُ القَصْرَ، وهو قصرٌ ادِّعائيٌّ ؛ لأنَّهم بلَغوا الحَدَّ الأقصى في الخَسارةِ، فكأنَّهم انفَرَدوا بالأخسَريَّةِ .

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ [هود: 22] ، وقال في سورةِ النَّحلِ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [النحل: 109] ؛ فخَصَّ سورةَ هودٍ بـ(الأَخْسَرون)، وسورةَ النَّحلِ بـ (الخاسِرون)، ووجهُ هذا الاختلافِ: أنَّ الآيةَ الَّتي في سورةِ هودٍ قد تَقدَّمَها قولُه: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] ، وإنَّما قال: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ؛ لأنَّه خبَرٌ عن قومٍ أخبَرَ عنهم بالفِعلِ الَّذي استَحَقُّوا به مُضاعَفةَ العذابِ في قولِه تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [هود: 19] ، فإذا صُدُّوا هم عن الدِّينِ صُدودًا، وصَدُّوا غيرَهم عنه صَدًّا استحَقُّوا مُضاعَفةَ العذابِ؛ لأنَّهم ضَلُّوا وأضَلُّوا، فهذا لـ(الأَخْسرون) دونَ (الخاسِرون) مِن طريقِ المعنى، وهاهنا ما يُضامُّه من طريقِ اللَّفظِ، وهو أنَّ ما قبْلَه مِن الفَواصِلِ يُبْصِرُونَ [هود: 20] ، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [هود: 21] ؛ فاجتِماعُ المعنى والتَّوفِقَةِ بينَ الفواصِلِ أوْجَبَا اختِيَارَ (الأَخْسَرون) في هذا الموضِعِ على (الخاسِرون). وأمَّا في سورةِ النَّحْلِ فإنَّ الآيةَ لم يُخبِرْ فيها عن الكفَّارِ بأنَّهم معَ ضَلالِهم أضَلُّوا مَن سِواهم، وإنَّما قال فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل: 107] ، فلم يَذكُرْ ما يُوجِبُ مُضاعَفةَ العذابِ، ثمَّ كانت الفَواصِلُ الَّتي حُمِلَت هذه عليها وِزانَ (الكافِرِينَ) و(الغافِلِينَ)؛ فاقتَضى هذانِ الشَّيئانِ أن يُقالَ: هُمُ الْخَاسِرُونَ، كما اقْتَضى السَّبَبانِ في الأُولَى المخالِفان للسَّببَينِ هُنا أنْ قال: الْأَخْسَرُونَ .

وفيه وجهٌ آخَرُ: وهو أنَّ آيةَ هودٍ تَقدَّمَها ما يُفهِمُ المفاضَلةَ؛ فقولُه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ... الآيةَ [هود: 17] ، يُفهَمُ مِنه: أفَمَن كان على بيِّنةٍ مِن ربِّه كمَن كفَر وجحَد وكذَّب الرُّسلَ؟ ثمَّ أتبَعَ هذا بقولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [هود: 18] ؛ فهذا صَريحُ مُفاضَلةٍ، ثمَّ استَمرَّتِ الآياتُ في وصْفِ مَن ذُكِر، واستَمرَّ ذِكرُهم إلى قولِه: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ؛ فناسَب لَفْظُ (الأَخْسَرون) بصيغةِ التَّفْضيلِ، ولو ورَد هنا الْخَاسِرُونَ مَكانَ الأَخْسَرونَ لتَنافَى النَّظْمُ، وتَبايَنَ السِّياقُ ولم يتَناسَبْ. وأمَّا آيةُ النَّحلِ فلم يقَعْ قَبْلَها (أفعَلُ) الَّتي للمُفاضَلةِ والتَّفاوُتِ، ولا ما يُفهِمُهما، وإنَّما قَبْلَها: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل: 104-105] ، وبعدَ هذا: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل: 107] ، وبعدَ هذا: وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [النحل: 108] ؛ فجاءت هذه الفَواصِلُ مُتَّفِقةً في اسْمِ الفاعِلِ المجموعِ جمْعَ السَّلامةِ، إلى أن خَتَم وصْفَهم وما قصَد مِن ذِكْرِهم بقولِه: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [النحل: 109] ؛ فتناسبَت الآيُ في السِّياقِ والفَواصلِ، وخُتِمَت بمِثلِ ما به بُدِئَت، ولم يَكُن ليناسِبَ ما ورَد هنا لفْظُ المفاضلةِ؛ إذ ليس في الكلامِ ما يَستَدْعي ذلك لا مِن لَفْظِه ولا مَعناه .

6- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ النُّفوسَ تَشرئِبُّ عندَ سماعِ حُكمِ الشَّيءِ إلى معرفةِ حُكمِ ضِدِّه، وجملةُ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مُستأنَفةٌ لبيانِ ما قبلَها؛ فمَنزِلتُها منزلةُ عطفِ البيانِ، ولا تُعرَبُ في موضِعِ خبَرٍ ثانٍ عن اسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ .

- تعديةُ (الخَبْتِ)- وهو التَّواضُعُ- بـ (إلى) في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تَضمينٌ لمعنى الطُّمأنينةِ والإنابةِ والسُّكونِ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ .

7- قولُه تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

- الجملةُ فَذلكةٌ لما تقدَّم مِن بيانِ الاختلافِ بينَ حالِ المشركينَ والمؤمنينَ في منازلِ الآخرةِ، وتحصيلٌ له، وللتَّحذيرِ مِن مُواقعةِ سَبَبِه .

- فيه تشبيهٌ؛ حيثُ شبَّه حالَ الفَريقَين- المشرِكين والمؤمِنين- بحالِ الأعمى الأصمِّ مِن جهةٍ، وحالِ البصيرِ السَّميعِ من الجهةِ الأخرى؛ فَشَبَّه حالَ فريقِ الكفَّارِ في عدَمِ الانتفاعِ بالنَّظرِ في دلائلِ وَحْدانيَّةِ اللهِ الواضحةِ مِن مَخلوقاتِه بحالِ الأعمى، وشَبَّههم في عدَمِ الانتفاعِ بأدلَّةِ القرآنِ بحالِ مَن هو أصَمُّ، وشبَّه حالَ فَريقِ المؤمِنين في ضدِّ ذلك بحالِ مَن كان سَليمَ البصَرِ، سَليمَ السَّمعِ؛ فهو في هُدًى ويقينٍ مِن مُدرَكاتِه، وترتيبُ الحالَين المشبَّهِ بهِما في الذِّكْرِ على ترتيبِ ذِكْرِ الفَريقين فيما تقدَّم- يُنبِئُ بالمرادِ من كلِّ فريقٍ على طَريقةِ النَّشرِ المرتَّبِ ، فشبَّه فريقَ الكافرِين بالأعمَى والأصَمِّ، وفريقَ المؤمِنين بالبصيرِ والسَّميعِ، وهو مِن اللَّفِّ والطِّباقِ، ومِن بابِ تَشْبيهِ اثنَينِ باثنَين؛ فقُوبِلَ الأعمى بالبصيرِ وهو طباقٌ، وقوبِلَ الأصَمُّ بالسَّميعِ وهو طِباقٌ أيضًا، والعَمى والصَّمَمُ آفَتان تَمنَعانِ مِن البصَرِ والسَّمعِ، وليسَتا بضِدَّينِ؛ لأنَّه لا تَعاقُبَ بينَهما، ويحتملُ أن يَكونَ مِن تشبيهِ واحدٍ بوصفَيْهِ بواحدٍ بوصْفَيه، فيكونَ مِن عطْفِ الصِّفاتِ، ولم يَجِئ التَّركيبُ: (كالأَعْمى والبصيرِ، والأصَمِّ والسَّميعِ)، فيكونُ مُقابَلةً في لفظِ الأعمَى وضدِّه، وفي لفظةِ الأصَمِّ وضدِّه؛ لأنَّه تعالى لَمَّا ذكَر انْسِدادَ العينِ؛ أتْبَعَه بانسدادِ السَّمعِ، ولَمَّا ذكَرَ انفِتاحَ البصَرِ أتْبعَه بانفِتاحِ السَّمعِ؛ وذلك هو الأسلوبُ في المقابَلةِ، والأتَمُّ في الإعجازِ .

- وجملةُ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا واقعةٌ مَوقِعَ البيانِ للغرَضِ مِن التَّشبيهِ، وهو نفْيُ استِواءِ حالِهما، والاستِفْهامُ فيها إنكاريٌّ .

- وجملةُ: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فيها استفهامٌ غرَضُه إنكارُ انتِفاءِ تَذكُّرِهم، واستِمْرارِهم في ضَلالِهم .

.=========================

 

سورة هود

الآيات (25-31)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ

غريب الكلمات:

 

أَرَاذِلُنَا: أي: سَفِلَتُنا وأخِسَّاؤُنا، والرَّذلُ: المرغوبُ عنه لرَداءتِه، والدُّونُ مِن كلِّ شَيءٍ في مَنظَرِه وحالاتِه

.

بَادِيَ الرَّأْيِ: أي: في ظاهِرِ الرَّأيِ والنَّظَرِ؛ مِن قَولِهم: بدا الشَّيءُ يَبدو: إذا ظهرَ، وأصلُ (بدو): يدلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ .

فَعُمِّيَتْ: أي: أُخفِيَت، وأصلُ (عمي): يدلُّ على سَترٍ وتَغطيةٍ .

تَزْدَرِي: أي: تحتَقِر وتَعيبُ، وأصلُ (زري): يدلُّ على احتقارِ الشَّيءِ، والتَّهاوُنِ به

 

.

مشكل الإعراب:

 

1- قَولُه تعالى: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ

بَادِيَ الرَّأيِ بادِيَ: ظرفُ زَمانٍ منَصوبٌ، والعامِلُ فيه اتَّبَعَكَ أي: اتَّبَعوك في أوَّلِ الرأيِ، أو فيما ظهَرَ منه مِن غَيرِ أن يَبحَثوا. أو العاملُ فيه أَرَاذِلُنَا أي: هم أراذِلُنا بظاهِرِ الرَّأيِ نَعلَمُ ذلك. وإضافةُ (بادي) إلى (الرأيِ) مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، أي: في الرأيِ البادي. وقيل: بَادِيَ حالٌ مِن مفعولِ «اتَّبَعَكَ»، أي: اتَّبَعوك وأنت مكشوفُ الرأيِ، لا حصافةَ لك. وقيل غير ذلك

.

2- قَولُه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ

وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ جملةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ، معطوفةٌ على قولِه: وَلَا أَقُولُ، كأنَّه أخبَرَ عن نفسِه بهذه الجُمَل، وليس معطوفًا على قَولِه: عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى أن يصيرَ التَّقديرُ: ولا أقولُ لكم لا أَعْلَمُ الغيبَ، فيَفسُد المعنى

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُقسِمُ تعالى أنَّه أرسلَ نوحًا إلى قومِه، فقال لهم: إنِّي نذيرٌ لكم مِن عذابِ الله، مُبيِّنٌ ما أُرسِلتُ به إليكم مِن أمرِ اللهِ ونَهيِه، بألَّا تعبدُوا إلَّا اللهَ، إنِّي أخافُ عليكم- إن لم تُفرِدوا اللهَ وحْدَه بالعبادةِ- عذابَ يومٍ مُوجِعٍ، فقال رؤساءُ الكُفرِ مِن قَومِه: ما نراك- يا نوحُ- إلَّا بشرًا  مِثلَنا، ولستَ بمَلَكٍ، فكيف أُوحِيَ إليك مِن دُونِنا؟! وما نراك اتَّبَعَك إلَّا الذين هم أسافِلُنا، وإنَّما اتَّبَعوك مِن غيرِ تفَكُّرٍ ولا رويَّةٍ، وما نرَى لكم مِن شَرَفٍ ومزيَّةٍ علينا حينَ دخَلتُم في دينِكم، فنَتَّبِعَكم، بل نعتَقِدُ أنَّكم كاذبونَ فيما تدَّعونَ، قال نوحٌ: يا قومي أرأيتُم إن كنتُ على حُجَّةٍ ظاهرةٍ مِن ربِّي فيما جئتُكم به، وآتاني رحمةً مِن عندِه- وهي النبوَّةُ والرِّسالةُ- فأخفاها عليكم عقابًا لكم، أنُلزِمُكم إيَّاها بالإكراهِ، وأنتم جاحِدونَ بها؟ لا نفعَلُ ذلك، ولكِنْ نَكِلُ أمرَكم إلى اللهِ حتى يقضيَ في أمرِكم ما يشاءُ.

قال نوحٌ عليه السَّلامُ لِقَومِه: يا قومِ لا أسألُكم على دَعوتِكم لتوحيدِ اللهِ مالًا، ولكِن ثوابُ نُصحي لكم على اللهِ وَحدَه، وليس مِن شأني أن أطرُدَ المُؤمِنينَ؛ فإنَّهم مُلاقو ربِّهم يومَ القيامةِ، ولكِنِّي أراكم قومًا تَجهَلونَ؛ إذ تأمرونَني بطَردِ أولياءِ اللهِ، وإبعادِهم عنِّي، ويا قومِ مَن يمنَعُني مِن عِقابِ الله إن عاقَبَني على طَردي المؤمنينَ؟ أفلا تتدبَّرونَ الأمورَ فتَنتَهوا عن جهلِكم وضَلالِكم؟ ولا أقولُ لكم: إنِّي أملِكُ التصرُّفَ في خزائنِ اللهِ، ولا أدَّعي علمَ الغَيبِ، ولستُ بمَلَكٍ مِن الملائكةِ، ولا أقولُ لهؤلاء الذين تحتَقِرونَ مِن ضُعَفاءِ المؤمنينَ لن يؤتِيَهم اللهُ ثوابًا على إيمانِهم؛ فاللهُ وَحدَه أعلَمُ بما في قلوبِهم، ولئن فعلتُ ذلك إنِّي إذًا لَمِنَ الظَّالمينَ لأنفُسِهم ولغَيرِهم.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه قد جَرَت العادةُ بأنَّ اللهَ تعالى إذا أوردَ على الكافِرِ أنواعَ الدَّلائلِ أتبَعَها بالقَصَصِ؛ ليصيرَ ذِكرُها مُؤَكِّدًا لتلك الدَّلائلِ، وفي هذه السُّورةِ ذَكرَ أنواعًا مِن القَصَصِ؛ القِصَّةُ الأولى قِصَّةُ نوحٍ عليه السَّلامُ

.

وأيضًا فإنَّ هذا انتِقالٌ مِن إنذارِ المُشرِكينَ ووَصفِ أحوالِهم وما ناسبَ ذلك، إلى مَوعِظتِهم بما أصاب المكَذِّبينَ قَبلَهم من المصائبِ، وفي ذلك تسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما لاقاه الرُّسُلُ عليهم السَّلامُ قَبلَه مِن أقوامِهم .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25).

أي: ولقد بعَثْنا نبيَّنا نوحًا إلى قَومِه المُشرِكينَ، فقال لهم: إنِّي نذيرٌ لكم، أُخوَفِّكم عذابَ اللهِ إن عبَدتُم غيرَه، وأُبيِّنُ لكم ما أرسَلَني اللهُ به مِن أمرِه ونَهيِه .

أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26).

أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ.

أي: أرسَلْناه إلى قَومِه بأنْ لا تعبُدوا إلَّا اللهَ وَحْدَه .

إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ.

أي: إنِّي أخافُ عليكم- يا قَومِ- إن لم توحدوا اللهَ، وتَتركوا عِبادةَ الأصنامِ- أن يُعَذِّبَكم عذابًا مُؤلِمًا مُوجعًا يومَ القيامةِ .

فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عن نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه دعا قَومَه إلى عبادةِ الله تعالى؛ حكَى عنهم أنَّهم طَعَنوا في نبوَّتِه بثلاثةِ أنواعٍ مِن الشُّبُهاتِ .

فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا.

أي: فقال الأشرافُ والكُبَراءُ الكافرونَ مِن قَومِ نُوحٍ: ما نراك- يا نوحُ- إلَّا آدميًّا مِثلَنا، ولستَ مِن الملائكةِ، فكيف يُرسِلُك اللهُ مِن دُوننا ؟!

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 23-24] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] .

وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ بَادِئَ بهَمزةٍ في آخِرِه، أي: ابتداءَ الرَّأيِ، والمعنى: اتَّبَعوك ابتداءَ الرَّأيِ مِن غيرِ أن يتدَبَّروا ما قُلتَ، ولم يتفَكَّروا فيه، ولو تفَكَّروا وتدَبَّروا لم يتَّبِعوك .

2- قراءةُ بَادِيَ بغيرِ همزٍ. مِن: بدا يبدو: إذا ظهَرَ، والمعنى: لم يتَّبِعْك إلَّا الذين هم أراذِلُنا فيما يظهرُ لنا ولا يخفَى على أحدٍ. وقيل: المعنى: اتَّبَعوك في الظَّاهِرِ وباطِنُهم على خلافِ ذلك، أي: أنَّهم أظهَروا الإسلامَ، وأبطَنوا الكُفرَ. وقيل: المعنى: اتَّبَعوك في ظاهرِ الرَّأيِ، ولم يتدَبَّروا ما قلتَ، ولم يتفَكَّروا فيه، فتكونُ بمعنى القراءةِ الأولى .

وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى.

أي: قال الكُبَراءُ مِن قَومِ نُوحٍ: وما نراك اتَّبَعَك على دينِك إلَّا الضُّعَفاءُ الذين هم سَفِلَتُنا فيما يظهَرُ لنا ولِغَيرِنا .

كما قال تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الشعراء: 111-115] .

وعن أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ رَضِيَ الله عنه، في حديثِ هِرقلَ الطَّويلِ، عندَما سأله عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه: (قال: وسألتُك عن أتباعِه: أضُعفاؤُهم أم أشرافُهم؟ فقُلتَ: بل ضُعَفاؤُهم، وهم أتباعُ الرُّسُلِ) .

وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ.

أي: قال الكُبَراءُ مِن قَومِ نُوحٍ له ولأتباعِه المُؤمِنينَ: وما نرى أنَّه حصل لكم شَرَفٌ ومزيَّةٌ علينا حين دخَلتُم في دينِكم هذا، فتَستحقُّوا اتباعَنا لكم .

بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ.

أي: بل نظُنُّكم كاذبينَ فيما تدَّعونَه .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها جوابٌ عن شُبهةِ قَومِ نُوحٍ الأولى، والمعنى: أنَّ حُصولَ المُساواة في البَشَريَّةِ لا يمنَعُ مِن حُصولِ المُفارَقةِ في صِفةِ النبوَّةِ والرِّسالةِ، وذكَرَ الطَّريقَ الدَّالَّ على إمكانِه، وهو كونُه على بيِّنةٍ مِن ربِّه .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ.

أي: قال نوحٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لِقَومِه: يا قومِ أخبِروني إن كنتُ على يقينٍ وعلمٍ مِن اللهِ، وبُرهانٍ على صحَّةِ نبوَّتي ، وبما يجِبُ عليَّ من إخلاصِ العبادةِ له وَحْدَه سُبحانَه .

وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ فَعُمِّيَتْ بضَمِّ العينِ وتشديدِ الميمِ بالبناءِ للمَفعولِ، بمعنى: أُخفِيَت، أي: أخفاها اللهُ عليكم وخَذَلكم؛ عقوبةً لكم .

2- قراءةُ فَعَمِيَتْ بفَتحِ العَينِ وتخفيفِ الميمِ، بمعنى: فعَمِيَت عليكم، فلم تهتَدوا إليها .

وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.

أي: ورَزَقني اللهُ النبوَّةَ، فخَفِيَت عليكم، ومنَعَكم اللهُ معرفةَ الحَقِّ عقوبةً لكم، فلم تهتَدوا إلى اتِّباعي .

أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.

أي: أنغصِبُكم، ونُكرِهُكم على التَّصديقِ بها واتِّباعِها، والحالُ أنَّكم تَكرهونَها، وتنَفِرونَ منها ؟!

وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا هو الجوابُ عن الشُّبهةِ الثَّانيةِ، وهي قَولُهم: لا يتَّبِعُك إلَّا الأراذِلُ مِن النَّاسِ، وتقريرُ ذلك من وجوهٍ:

الوجه الأول: أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: أنا لا أطلبُ على تبليغِ دَعوةِ الرِّسالةِ مالًا حتى يتفاوتَ الحالُ بسبَبِ كَونِ المُستَجيبِ فقيرًا أو غنيًّا، وإنَّما أَجْري على هذه الطَّاعةِ الشَّاقَّةِ على ربِّ العالَمينَ، وإذا كان الأمرُ كذلك فسواءٌ كانوا فُقَراءَ أو أغنياءَ، لم يتفاوتِ الحالُ في ذلك.

الوجه الثاني: كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال لهم: إنَّكم لَمَّا نَظَرتُم إلى ظواهرِ الأمورِ وَجَدتُموني فقيرًا، وظَنَنتُم أنِّي إنما اشتغلتُ بهذه الحِرفةِ؛ لأتوسَّلَ بها إلى أخذِ أموالِكم، وهذا الظنُّ منكم خطأٌ؛ فإنِّي لا أسألُكم على تبليغِ الرِّسالةِ أجرًا؛ إنْ أجريَ إلَّا على ربِّ العالَمينَ، فلا تَحرِموا أنفُسَكم من سعادةِ الدِّينِ؛ بسبب هذا الظَّنِّ الفاسدِ.

الوجه الثالث: أنَّهم قالوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا إلى قَولهم: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فهو عليه السَّلامُ بيَّنَ أنَّ اللهَ تعالى أعطاه أنواعًا كثيرةً توجِبُ فَضلَه عليهم؛ ولذلك لم يسْعَ في طلَبِ الدُّنيا، وإنَّما يسعى في طلَبِ الدِّينِ، والإعراضُ عن الدُّنيا من أُمَّهاتِ الفضائِلِ باتِّفاقِ الكُلِّ، فلعلَّ المرادَ تقريرُ حُصولِ الفَضيلةِ مِن هذا الوَجهِ .

وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ.

أي: ويا قَومِ لا أطلُبُ منكم مالًا أجرةً لي على تبليغي رسالةَ اللهِ، ما أجري على نَصيحَتي ودَعوتي لكم إلَّا على اللهِ الذي أرسَلَني، فهو الذي يُثيبُني .

وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ.

أي: وما أنا بمُقْصٍ الضُّعَفاءَ المُؤمنينَ مِن قُربي وجواري؛ لاحتقارِكم لهم .

كما قال الله تعالى لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ناهيًا إيَّاه أن يطرُدَ جماعةً من ضُعَفاءِ المؤمنينَ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 52] .

إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ.

أي: إنَّ هؤلاء المُؤمِنينَ الضُّعَفاءَ صائِرونَ إلى اللهِ يومَ القيامةِ، فيسألُهم عن أعمالِهم، لا عن شَرَفِهم وحسَبِهم، ويُثيبُهم عليها، ويُجازي مَن ظَلَمَهم .

وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ.

أي: ولكِنِّي أراكم قومًا تجهلونَ كُلَّ ما تنبغي مَعرِفتُه؛ ومن ذلك عَظَمةُ اللهِ وتَوحيدُه، ومَنزلةُ المؤمنينَ عِندَه، فمِن جَهْلِكم سألتُموني طَردَهم، وهم خيرٌ منكم .

وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (30).

وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ.

أي: قال نوح عليه الصَّلاة والسَّلام: ويا قَومِ مَن يمنَعُني مِن عذابِ اللهِ إن طَردتُ المؤمنينَ فعاقَبَني ؟

أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.

أي: أفلا تتَفَكَّرونَ وتتَّعظونَ، فتَنزَجِروا عمَا تقولونَ، وتَنتَهوا عن جَهلِكم وضَلالِكم ؟!

وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا تفصيلٌ لِما رَدَّ به نوحٌ عليه السَّلامُ مقالةَ قَومِه إجمالًا؛ فهم استدَلُّوا على نفيِ نُبوَّتِه بأنَّهم لم يَرَوا له فضلًا عليهم، فجاء هو في جوابِهم بالقَولِ بالمُوجِبِ أنَّه لم يدَّعِ فَضلًا غيرَ الوحيِ إليه .

وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ.

أي: ولا أقولُ لكم: عندي خزائِنُ رِزقِ اللهِ، أتصرَّفُ فيها بالإعطاءِ والمَنعِ، فأدعوكم إلى اتِّباعي عليها .

وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ.

أي: ولا أدَّعي أنِّي أعلَمُ ما غاب وخَفِيَ من السَّرائِرِ، وغير ذلك ممَّا لا يعلَمُه إلَّا اللهُ وَحْدَه .

وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ.

أي: ولا أقولُ لكم: إنِّي مَلَكٌ مِن الملائكةِ، بل أنا بشَرٌ مِثلُكم أبلِّغُكم ما أرسَلَني اللهُ به .

وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا.

أي: ولا أقولُ عن المؤمنينَ الذين تحتَقِرُهم أعيُنُكم: لن يُعطِيَهم اللهُ أجورَهم وثوابَهم على إيمانِهم .

اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ.

أي: اللهُ أعلَمُ بما في قلوبِ أولئك المُؤمِنينَ مِن اعتقاداتٍ ونيَّاتٍ .

إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ.

أي: إنِّي- إن ادَّعيتُ أنَّ اللهَ لن يؤتيَ المؤمنينَ خَيرًا، وحكمتُ بأنَّهم يُظهِرونَ غيرَ ما يُبطنِونَ في نفوسِهم وطَرَدتُهم- لَمِنَ المُعتَدينَ ما أمَرَهم اللهُ به، القائلينَ ما لا عِلمَ لهم به، الفاعلينَ ما ليس لهم فِعلُه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ الله تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَولُهم هذا قَولُ مَن يعرِفُ الحَقَّ بالرِّجالِ، ولا يَعرِفُ الرِّجالَ بالحَقِّ؛ وذلك أنَّه يستدِلُّ على كونِ الشَّيءِ حَقًّا بعَظَمةِ مُتَّبِعه في الدُّنيا، وعلى كونِه باطلًا بحَقارتِه فيها

.

2- قولُهم: بَادِيَ الرَّأْي ليس بمذمةٍ ولا عيبٍ؛ لأنَّ الحقَّ إذا وضَح لا يبقَى للتروِّي ولا للفكرِ مجالٌ- وهذا على أحدِ القولين في التفسيرِ- بل لا بدَّ مِن اتباعِ الحقِّ- والحالة هذه- لكلِّ ذي زكاءٍ وذكاءٍ، ولا يفكِّر وينزوي هاهنا إلا عييٌّ أو غبيٌّ، والرسلُ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما جاءوا بأمرٍ جليٍّ واضحٍ .

3- إنَّ العَقلُ والشَّرعُ تطابقا على أنَّه لا بُدَّ مِن تعظيمِ المؤمِنِ البَرِّ التقيِّ، وإهانةِ الفاجرِ الكافرِ، فلو عُكِسَت القضيةُ، فقُرِّبَ الكافِرُ الفاجِرُ على سبيلِ التَّعظيمِ، وطُرِدَ المؤمِنُ التَّقيُّ على سبيلِ الإهانةِ، كان ذلك على ضِدِّ أمرِ الله تعالى، وعلى عَكسِ حُكمِه مِن إيصالِ الثَّوابِ إلى المحقِّينِ، والعِقابِ إلى المُبطِلينَ، قال تعالى حكايةً عن نوحٍ عليه السلامُ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- ذكَر الله سبحانَه قصصَ الأنبياءِ عليهم السَّلام للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تنبيهًا له على ملازمةِ الصبرِ على أذَى الكفارِ إلى أن يكفيَه الله أمرَهم، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ...

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ بادرَ الملأُ- أي: الأشرافُ والزُّعَماءُ الذين كَفَروا مِن قَومِه- إلى الجوابِ؛ لِيكونَ الدَّهْماءُ تَبعًا لهم كعادَتِهم، واقتَرَن جوابُهم هنا بـ (الفاء)؛ لأنَّه هو الأصلُ في الرَّدِّ السَّريعِ .

3- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ كرَّرَ نوحٌ عليه السَّلامُ هذه اللَّفظةَ كُلَّ قليلٍ؛ تذكيرًا لهم أنَّه منهم؛ لِتُعَطِّفَهم الأرحامُ، وتَرُدَّهم القَراباتُ عن حَسَدِه أو اتِّهامِه، إلى قَبولِ ما يُلقي إليهم مِن الكلامِ .

4- عُطِفَت جُملةُ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينِ آمَنُوا على جملةِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا؛ لأنَّ مَضمونَها كالنَّتيجةِ لِمَضمونِ المَعطوفِ عليها، لأنَّ نَفيَ طَمَعِه في المُخاطَبينَ يَقتَضي أنَّه لا يُؤذي أتباعَه لأجلِ إرضاءِ هؤلاء .

5- صِفاتُ الكَمالِ تَرجِعُ إلى ثلاثةٍ: العلمِ والقُدرةِ والغِنَى، وهذه الثَّلاثةُ لا تَصلحُ على وجهِ الكَمالِ إلَّا لله وَحدَه؛ فإنَّه الذي أحاط بكُلِّ شَيءٍ عِلمًا، وهو على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وهو غنيٌّ عن العالَمين، وقد أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يبرأَ مِن دعوى هذه الثَّلاثةِ بقَولِه: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام: 50] ، وكذلك قال نوحٌ عليه السَّلامُ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فهذا أوَّلُ أولي العَزمِ وأوَّلُ رَسولٍ بَعَثَه الله تعالى إلى أهلِ الأرضِ، وهذا خاتَمُ الرُّسُلِ وخاتَمُ أولي العَزمِ، كِلاهما يتبَرَّأُ من ذلك .

6- دلَّ قولُه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ على أنَّه ليس مِن شَرْطِ الرَّسولِ أن يَعلمَ كلَّ ما يكونُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ

- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فيه تأكيدُ الجملَةِ بلامِ القسَمِ و(قَدْ)؛ لأنَّ المخاطَبين لَمَّا غفَلوا عَن الحذَرِ ممَّا بِقَومِ نوحٍ مَع مُماثَلةِ حالِهم؛ نُزِّلوا مَنزِلةَ المنكِرِ لوقوعِ رِسالتِه

.

- قولُه: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ اقتَصر على النذارةِ دونَ البشارةِ؛ لأنَّ دعوتَه كانت لمجردِ الإنذارِ، أو لكونِهم لم يعمَلوا بما بشَّرهم به .

2- قولُه تعالى: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ

- جملةُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ تَعليليَّةٌ لِمُوجِبِ النَّهيِ المستَفادِ مِن أَلَّا تَعْبُدُوا، والمعنى: نَهيتُكم عن عبادةِ غيرِ اللهِ؛ لأنِّي أخافُ عليكم، وفيها تَحقيقٌ لِمَعنى الإنذارِ .

- وقولُه: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فيه وصفُ اليومِ بالأليمِ؛ لِوُقوعِ الألَمِ فيه، وهو أبلَغُ مِن أن يُوصَفَ العذابُ بالأليمِ .

3- قولُه تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ

- قولُه: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ فيه عطْفُ قولِ الملَأِ مِن قومِه بالفاءِ على فِعْلِ أَرْسَلْنَا؛ للإشارةِ إلى أنَّهم بادَروه بالتَّكذيبِ والمُجادَلةِ الباطلةِ لَمَّا قال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ... [هود: 25] إلى آخِرِه، ولَم تقَعْ حِكايةُ ابتداءِ مُحاوَرتِهم إيَّاه بـ (قال) مجرَّدًا عن الفاءِ، كما وقَع في سورةِ الأعرافِ؛ لأنَّ ابتداءَ مُحاوَرتِه إيَّاهم هنا لم يقَعْ بلَفظِ القولِ؛ فلم يَحْكِ جَوابَهم بطَريقةِ المُحاوَراتِ بخِلافِ آيةِ الأعرافِ .

- قولُه: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا فيه تعريضٌ مِنهم بأنَّهم أحَقُّ منه بالنُّبوَّةِ، وأنَّ اللهَ لو أراد أن يَجعَلَها في أحَدٍ مِن البشَرِ لجعَلَها فيهم .

- وقولُه: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا مُبالَغةٌ في الإخبارِ، وكأنَّه مُؤْذِنٌ بتَأكيدِ حَصْرِ مَن اتَّبَعه، وأنَّهم هم الأراذِلُ لم يَشرَكْهم شَريفٌ في ذلك ، وعُبِّر عنهم بالموصولِ والصِّلةِ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا دونَ أن يُقالَ: (إلَّا أراذِلُنا)؛ لحِكايةِ أنَّ في كلامِ الَّذين كفَروا إيماءً إلى شُهرَةِ أتباعِ نوحٍ عليه السَّلامُ بينَ قومِهم بوصفِ الرَّذالةِ والحَقارةِ، وكان أتباعُ نوحٍ عليه السَّلامُ مِن ضُعفاءِ القومِ، ولكنَّهم مِن أَزْكياءِ النُّفوسِ ممَّن سبَق لهم الهُدى .

- وقولُهم: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فيه جمعُ الضَّميرِ في لَكُمْ؛ لأنَّهم لَمَّا وصَفوا كلَّ فَريقٍ مِن التَّابعِ والمتبوعِ بما يَنْفي سِيادةَ المَتْبوعِ، وتَزْكيةَ التَّابعِ- جمَعوا الوَصْفَ الشَّاملَ لهما، وهو المقصودُ مِن الوَصْفَينِ المفرَّقَين، فنَفَوْا أن يَكونَ لنوحٍ عليه السَّلامُ وأتباعِه فضلٌ على الَّذين لم يُؤمِنوا به حتَّى يكونَ نوحٌ عليه السَّلامُ سيِّدًا لهم، ويَكونَ أتباعُه مُفضَّلين بسِيَادةِ مَتْبوعِهم .

4- قولُه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ

- فُصِلَت جملةُ قَالَ يَا قَوْمِ عن الَّتي قبْلَها- أي: لم تُعطَفْ عليها- على طريقةِ حِكايَةِ الأقوالِ في المحاوَراتِ، كما في قولِه تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] ؛ فلمَّا وقَعَت هذه الجملةُ مُقابِلًا لكَلامٍ مَحْكيٍّ يُقالُ، فُصِلَت الجملةُ ولم تُعطَفْ، بخلافِ ما تقدَّم آنِفًا في قولِه: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [هود: 27] .

- قولُه: قالَ يَا قَوْمِ فيه افتِتاحُ مُراجَعتِه عليه السَّلامُ بالنِّداءِ؛ لِطلَبِ إقبالِ أَذْهانِهم لوَعْيِ كلامِه، واختيارِ استِحْضارِهم بعُنوانِ قومِه؛ لاستِنْزالِ طَائرِ نُفورِهم؛ تَذكيرًا لهم بأنَّه مِنهم فلا يُريدُ لهم إلَّا خيرًا .

- قولًه: أَرَأَيْتُمْ استِفهامٌ تقريريٌّ، وهو بمعنى: أَخبِروني .

- قولُه: عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي فيه اختيارُ وَصْفِ الرَّبِّ دونَ اسْمِ الجَلالةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ إعطاءَه البيِّنةَ والرَّحمةَ فضلٌ مِن اللهِ، أراد به إظْهارَ رِفْقِه، وعِنايَتِه به .

- قولُه: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ فيه عطفُ فِعْلِ (عُمِّيَت) بفاءِ التَّعقيبِ؛ إيماءً إلى عدَمِ الفترةِ بينَ إيتائِه البيِّنةَ والرَّحمةَ وبينَ خَفائِها عليهم، وهو تعريضٌ لهم بأنَّهم بادَروا بالإنكارِ قبلَ التَّأمُّلِ .

- عُدِّي فِعلُ (عُمِّيَت) بحرفِ (عَلى)؛ لِتَضْمينِه مَعنى: الخَفاءِ .

- ومِن بَديعِ هذا الاستِعْمالِ هنا أنَّ فيه طِباقًا؛ لِمُقابَلةِ قولِهم في مُجادَلتِهم: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَرًا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، فقابَل نوحٌ عليه السَّلامُ كَلامَهم مُقابَلةً بالمعنى واللَّفظِ؛ إذ جعَل عدَمَ رُؤيتِهم مِن قَبيلِ العَمى .

- قولُه: أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، الاستِفْهامُ إنكاريٌّ، أي: ما كان لنا ذلك؛ لأنَّ اللهَ لم يَأمُرْه بإكْراهِهم إعراضًا عن العنايةِ بهم، فتُرِك أمْرُهم إلى اللهِ، وذلك أشَدُّ في تَوقُّعِ العقابِ العظيمِ .

- وفي قولِه: أَنُلْزِمُكُمُوهَا، جيءَ بضَميرِ المتكلِّمِ المشارِكِ هنا، فلم يَقُلْ: (أَأُلْزِمُكُموها)؛ للإشارةِ إلى أنَّ الإلزامَ لو فُرِض وُقوعُه لكان له أعوانٌ عليه وهم أتباعُه؛ فأراد ألَّا يُهمِلَ ذِكْرَ أتباعِه، وأنَّهم أنصارٌ له، لو شاء أن يُهِيبَ بهم، والقَصْدُ مِن ذلك التَّنويهُ بشَأنِهم في مُقابَلةِ تَحقيرِ الآخَرين إيَّاهم .

- وتَقْديمُ المجرورِ لَهَا على كَارِهُونَ؛ لرِعايةِ الفاصِلَةِ مع الاهتمامِ بشَأنِها، والمقصودُ مِن كَلامِه بَعْثُهم على إعادةِ التَّأمُّلِ في الآياتِ، وتَخفيضِ نُفوسِهم، واستِنْزالِهم إلى الإنصافِ، وليس المقصودُ مَعذِرَتَهم بما صنَعوا، ولا العُدولَ عن تَكْريرِ دَعوَتِهم .

- والتعبيرُ في قَولِ الله تعالى: وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ بالجُملةِ الاسميَّةِ واسمِ الفاعلِ إشارةٌ إلى أنَّ أفعالَهم أفعالُ مَن كراهتُه لها ثابِتةٌ مُستحكمةٌ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا في قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ [هود: 28] ، وقال في قصَّةِ صالحٍ عليه السَّلامُ في هذه السُّورةِ: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً [هود: 63] ؛ فتَساوَيا في اللَّفْظَين، واختَلفا في تقديمِ المفعولِ الثَّاني في الآيةِ الأولى على الجارِّ والمجرورِ، حيث قال: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وتأخيرِه عَنهما في الآيةِ الثَّانيةِ حيث قال: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً؛ ووجهُ ذلك: أنَّ قومَ صالحٍ عليه السَّلامُ بالَغوا في إساءةِ الجوابِ حينَ قالوا: يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود: 62] ، فرَمَوا مَقامَه النَّبويَّ بِحَطِّ مَرتَبتِه عنهم، فلمَّا بالَغوا في إساءةِ الجوابِ ردَّ عليهم عليه السَّلامُ ردًّا لِمَقالِهم الشَّنيعِ بقولِه: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فخاطَبهم على ما يَجْري في مُناظَرةِ مَن فَرَض ما لا يَعتَقِدُه المناظِرُ على حسَبِ نُطقِه، ولكنَّه يَستنزِلُ بذلك مُناظِرَه؛ لِيُقيمَ الحُجَّةَ عليه، فيَقولُ: هَبْ كذا على ما تَقولُه، فعلى هذا جَرى قولُ النَّبيِّ الكريمِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، أي: كيف ترَون إنْ كنتُ على واضحةٍ وعلى يقينٍ مِن ربِّي، وآتاني مِنه رحمةً فعَصَيتُه بمُوافَقتِكم، فإن فعَلتُ ذلك فمَن يَنصُرُني ويَمنَعُني مِن عَذابِه، وأكَّد بتَقدُّمِ المجرورِ في قولِه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً؛ لِمَا يُحْرِزُ تَقديمُه مِن التَّأكُّدِ، ويَعِيه مَفهومُه مِن أنَّ الرَّحمةَ مِنه سُبحانه لا يُشرَكُ فيها غيرُه، فهو مخصوصٌ لا يَحصُلُ مع تأخيرِه، فلمَّا بالَغُوا في قُبْحِ الجوابِ بالَغ عليه السَّلامُ في ردِّ مَقالِهم؛ فقَدَّم المجرورَ لتأكيدِ أنَّ الرَّحمةَ مِن عندِ اللهِ تعالى: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً. ولَمَّا لم يَكُنْ في مُراجَعةِ قومِ نوحٍ مثلُ هذا في شَناعةِ الجوابِ؛ لأنَّ أقصى المفهومِ مِن قولِهم: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، إلحاقُه بهم، ومُماثلتُه إيَّاهم، وكلُّهم يقولُ: لو كُنتَ رسولًا لكنتَ مِن الملائكةِ ولم تَكُنْ لِتُماثِلَنا، فلم يَكُنْ في قولِ هؤلاء ما في قولِ قومِ صالحٍ، فجرَى جَوابُه عليه السَّلامُ على نِسْبةِ ذلك، فقال: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، فأتى بالمجرورِ مؤخَّرًا في مَحلِّه على ما يَجِبُ، حيث لا يُقصَدُ في إحرازِ المفهومِ ما قُصِد في الآيةِ الأخرى؛ فورَد كلٌّ على ما يُلائِمُ .

- وأيضًا مِن حُسْنِ المناسَبةِ قولُ اللهِ تعالى: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وبعدَه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً [هود: 23] ، وبعدَهما: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا [هود: 88] ، فقال في الأَوَّلَيْن وَآتَانِي، وفي الثَّالثِ: وَرَزَقَنِي؛ ووجهُ ذلك: أنَّ الثَّالِثَ تَقدَّمه ذِكرُ الأموالِ، وتأخَّر عنه قولُه: رِزْقًا حَسَنًا، وهُما خاصَّان؛ فناسَبَهما قولُه: وَرَزَقَنِي، بِخِلافِ الأوَّلَين؛ فإنَّه تَقدَّمَهما أمورٌ عامَّةٌ، فناسَبها قولُه: وَآتَانِي .

- وأيضًا ناسبَ قولُه تعالى هنا: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وبعدَه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً [هود: 23] ، وبعدَهما: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا [هود: 88] ؛ لأنَّ عِنْدِهِ وإن كان ظرفًا فهو اسمٌ، فذَكَر الأُولى بالتَّصريحِ والثَّانيةَ والثَّالثةَ بالكنايةِ؛ لِتَقدُّمِ ذِكْرِه، فلمَّا كَنَى عنه قدَّمَه؛ لأنَّ الكنايةَ يتَقدَّمُ عليها الظَّاهرُ نحوُ: ضرَب زيدٌ عَمْرًا، فإنْ كَنَيتَ عن عَمْرٍو قدَّمتَه، نحوُ: عَمرٌو ضرَب زيدًا، وكذلك: زيدٌ أعطاني دِرْهَمًا مِن مالِه، فإن كنَيْتَ عن المالِ قلتَ: المالُ زيدٌ أَعْطاني منه دِرهَمًا .

5- قولُه تعالى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ

- قولُه: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا في إعادةِ الخِطابِ بـ يَا قَوْمِ تأكيدٌ لِمَا في الخطابِ به أوَّلَ مرَّةٍ مِن المعاني، وعُطِف النِّداءُ بالواوِ- مع أنَّ المخاطَبَ به واحدٌ، وشأنُ عطفِ النِّداءِ أن يَكونَ عندَ اختلافِ المنادَى، فأمَّا إذا اتَّحد المنادى فالشَّأنُ عدَمُ العطفِ، فتَعيَّن هنا أن يَكونَ العطفُ مِن مَقولِ نوحٍ عليه السَّلامُ لا مِن حكايةِ اللهِ عنه، ويجوزُ أن يَكونَ تَنبيهًا على اتِّصالِ النِّداءاتِ بعضِها ببعضٍ، وأنَّ أحَدَها لا يُغْني عن الآخَرِ، ولا يكونُ ذلك مِن قَبيلِ الوصْلِ؛ لأنَّ النِّداءَ افتِتاحُ كلامٍ، فجُملتُه ابتدائيَّةٌ، وعَطفُها إذا عُطِفَت مجرَّدُ عطفٍ لفظيٍّ، ويجوز أيضًا أن يكونَ ذلك تَفنُّنًا عربيًّا في الكلامِ عندَ تَكرُّرِ النِّداءِ؛ استِحْسانًا للمُخالَفةِ بينَ التَّأكيدِ والمؤكَّدِ .

- جملةُ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احتِراسٌ؛ لأنَّه لَمَّا نفى أن يَسأَلَهم مالًا، والمالُ أجرٌ، نشَأ توهُّمٌ أنَّه لا يَسأَلُ جَزاءً على الدَّعوةِ؛ فجاء بجملةِ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احْتِرَاسًا .

- وفيه المُخالَفةُ بينَ العِبارتَينِ في قولِه: مَالًا وأَجْرِيَ؛ لإفادةِ أنَّه لا يَسْأَلُ مِن اللهِ مالًا، ولكنَّه يَسأَلُ ثَوابًا .

- قولُه: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا فيه التَّعبيرُ عن أَتْباعِه بطريقِ الموصوليَّةِ: الَّذِينَ آمَنُوا؛ لِمَا يُؤْذِنُ به الموصولُ مِن تغليظِ قومِه في تعريضِهم له بأن يَطرُدَهم بما أنَّهم لا يُجالِسون أمثالَهم؛ إيذانًا بأنَّ إيمانَهم يوجِبُ تَفضيلَهم على غيرِهم الَّذين لم يُؤمِنوا به، والرَّغبةَ فيهم؛ فكيف يَطرُدُهم؟! وفيه أيضًا إبطالٌ لِما اقتَضاه قولُهم: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [هود: 27] مِن التَّعريضِ بأنَّهم لا يُماثِلونهم في مُتابَعتِه .

- وجملةُ: إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ في مَوضِعِ التَّعليلِ لِنَفْيِ أن يَطرُدَهم؛ بأنَّهم صائِرُون إلى اللهِ في الآخِرةِ، فمُحاسِبٌ مَن يَطرُدُهم ،، وتأكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) لِرَدِّ إنكارِ قومِه البَعْثَ، أو للاهتمامِ بذلك اللِّقاءِ، وقد زِيدَ هذا التَّأكيدُ تأكيدًا بجُملَةِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ .

- قولُه: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ استدراكٌ، وموقِعُ هذا الاستدراكِ هو أنَّ مضمونَ الجُملةِ ضدُّ مَضمونِ التي قبَلَها، وهي جملةُ إِنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ، أي: لا ريبَ في ذلك، ولكنَّكم تَجهلونَ فتَحسَبونَهم لا حُضرةَ لهم، وأنْ لا تَبِعةَ في طَرْدِهم .

- وزيادةُ لفظةِ قَوْمًا في قولِه: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ جَهْلَهم صفةٌ لازمةٌ لهم؛ كأنَّها مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم، وحذَفَ مفعولَ تَجْهَلُونَ؛ للعِلْمِ به، أي: تَجهَلون ذلك .

- وفي تَعبيرِه بـ تَجْهَلُونَ دون (جاهلينَ) إشارةٌ إلى أنَّ الجَهلَ مُتجَدِّدٌ لهم، وهو غيرُ عادتِهم؛ استعطافًا لهم إلى الحِلمِ .

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا في قصَّةِ نوحٍ: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [هود: 29] ، وقاله بعدُ- حِكايةً عن هودٍ- بلفظِ: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [هود: 51] ؛ وذلك لأنَّه في قصَّةِ نوحٍ وقَعَ بعدَها خَزَائِنُ ولفظُ المالِ بالخزائنِ ألْيَقُ ، أو يكونُ هذا الاختلافُ توسِعةً في التَّعبيرِ عن المرادِ بمُتساوِيَيْن .

- ومِن حُسْنِ المناسَبةِ كذلك قولُه أيضًا هنا: وَيَا قَوْمِ بالواوِ، وفي الثَّانيةِ: يَا قَوْمِ [هود:51] بدُونِها؛ وذلك لطولِ الكلامِ الواقعِ بين النِّداءَينِ في قصَّةِ نوحٍ، وقِصَرِ ما بينَهما في قصَّةِ هودٍ، فناسَب ذِكْرُ الواوِ في الأوَّلِ؛ لِتَوصيلِ ما بَعدَها بما قبلَها .

6- قولُه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ

- قولُه: خَزَائِنُ اللَّهِ إضافةُ خَزائِنَ إلى اللهِ لاختِصاصِ اللهِ بها .

- قولُه: وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فيه إعادةُ فِعلِ القولِ؛ لأنَّه نفيٌ لِشُبهةِ قولِهم: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، وإبطالُ دَعْوى أُخرَى ألصَقُوها به، وتأكيدُه بـ (إنَّ) لأنَّه قولٌ لا يَقولُه قائلُه إلَّا مؤكَّدًا؛ لشِدَّةِ إنكارِه لو ادَّعاه مُدَّعٍ؛ فلمَّا نَفاه نفَى صيغةَ إثباتِه .

- قولُه: وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا إبطالٌ لقولِهم: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بطريقةِ التَّغليطِ؛ لأنَّهم جعَلوا ضعْفَهم وفَقْرَهم سببًا لانتِفاءِ فَضْلِهم، فأبطَلَه بأنَّ ضعْفَهم ليس بحائِلٍ بينَهم وبينَ الخيرِ مِن اللهِ؛ إذْ لا ارتِبَاطَ بينَ الضَّعفِ في الأمورِ الدُّنيَويَّةِ مِن فقرٍ وقلَّةٍ، وبينَ الحرمانِ مِن نَوالِ الكمالاتِ النَّفْسانيَّةِ والدِّينيَّةِ .

- وقولُه: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا فيه الإتيانُ بحرفِ النَّفيِ لَنْ الدَّالِّ على تأكيدِ نفْيِ الفعلِ في المستقبَلِ؛ تَعْريضًا بقومِه؛ لأنَّهم جعَلوا ضعْفَ أتباعِ نوحٍ عليه السَّلامُ وفَقْرَهم دليلًا على انتِفاءِ الخيرِ عنهم؛ فاقتَضى دَوامَ ذلك ما داموا ضُعَفاءَ فُقراءَ، فلِسانُ حالِهم يقولُ: لن يَنالوا خيرًا، فكان ردُّه عليهم بأنَّه لا يَقولُ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا .

- وجملةُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا في أَنْفُسِهِمْ تعليلٌ لنَفْيِ أن يَقولَ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا؛ ولذلك فُصِلَت عن الجُملةِ قبْلَها، ولم تُعطَفْ عليها .

- وجملةُ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ تعليلٌ ثانٍ لِنَفيِ أن يقولَ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، وقد أكَّدها بثلاثِ مؤكِّداتٍ: (إنَّ)، ولامِ الابتِداءِ، وحَرْفِ الجزاءِ إِذًا؛ تحقيقًا لِظُلمِ الَّذين رمَوُا المؤمِنين بالرَّذالةِ، وسَلَبوا الفضْلَ عنهم؛ لأنَّه أرادَ التَّعريضَ بقومِه في ذلك، وقولُه: لَمِنَ الظَّالِمِينَ أبلَغُ في إثباتِ الظُّلمِ مِن: (إنِّي ظالمٌ)

 

=======

 

سورة هود

الآيات (32-35)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ

غريب الكلمات:

 

يُغْوِيَكُمْ: أي: يُضِلَّكم، وقيل: يُهْلِكَكم؛ لأنَّ الإضلالَ يُفْضي إلى الهلاكِ، وأصلُ (غوي): يدُلُّ على خِلافِ الرُّشدِ، وإظلامِ الأمرِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ الله تعالى عن قومِ نُوحٍ أنَّهم قالوا له: يا نوحُ قد حاجَجْتَنا فأكثَرتَ مُحاجَّتَنا، فأْتِنا بما تَعِدُنا مِن العذابِ إن كنتَ مِن الصَّادقينَ في دعواك، فقال لهم نوحٌ: إنَّ اللهَ وَحدَه هو الذي يأتيكم بالعذابِ إن شاء، ولَستُم بفائِتِيه إذا أراد أن يعَذِّبَكم؛ لأنَّه سُبحانَه لا يُعجِزُه شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، ولا ينفَعُكم نُصحي واجتهادي في دَعوتِكم للإيمانِ، إن كان اللهُ يريدُ أن يُضِلَّكم، هو سبحانَه مالِكُكم، وإليه تُرجَعونَ في الآخرةِ للحِسابِ والجزاءِ.

بل أيقولُ مُشرِكو قَومِك- يا مُحمَّدُ: إنَّك اختلقتَ القُرآنَ، واختلقتَ قِصَّةَ نُوحٍ مِن تِلقاءِ نَفسِك؟! قلْ لهم: إن كنتُ قد افتريتُ ذلك على اللهِ، فعليَّ وحدي إثمُ ذلك، وإذا كنتُ صادقًا فأنتم المُجرِمونَ الآثِمونَ، وأنا بريءٌ مِن كُفرِكم وتَكذيبِكم وإجرامِكم.

تفسير الآيات:

 

 

قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا.

أي: قال المُشرِكونَ مِن قَومِ نوحٍ: يا نوحُ، قد حاجَجتَنا وخاصَمتَنا، فأكثَرْتَ محاجَّتَنا وخُصومَتَنا، وبالغْتَ فيها

.

فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.

أي: فعجِّلْ لنا- يا نوحُ- الذي تَعِدُنا به من العَذابِ، إن كنتَ من الصَّادقينَ في أقوالِك ودعواك أنَّك رسولُ اللهِ حقًّا .

قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33).

قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء.

أي: قال نوحٌ لِقَومِه: إنَّما يأتيكم بالعَذابِ ويُعجِّلُه لكم اللهُ وَحْدَه، إن أراد أن يُهلِكَكم .

وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ.

أي: ولستُم بفائتينَ اللهَ بالهَرَبِ من عقابه، ولا قدرةَ لكم على دَفعِ عَذابِه .

وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ نوحٌ عليه السَّلامُ أنَّهم إنَّما هم في قَبضتِه تعالى؛ زاد في بيانِ عَظَمتِه، وأنَّ إرادتَه تضمحِلُّ معها كلُّ إرادةٍ، في سياقٍ دالٍّ على أنَّه بذلك ناصِحٌ لهم، وأنَّ نُصحَه خاصٌّ بهم .

وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ.

أي: ولا ينفَعُكم ما أبذُلُه لكم مِن نُصحٍ إن كان اللهُ يشاءُ أن يُضِلَّكم ويَخذُلَكم،  ويُوقِعَ الغَوايةَ في قلوبِكم .

هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

أي: الله هو ربُّكم المتصَرِّفُ في أمورِكم بما يشاءُ، فإليه وحده الهِدايةُ والغَوايةُ، وإليه وَحدَه تصيرونَ بعد هلاكِكم، فيُجازيكم على أعمالِكم .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها جُملةٌ مُعتَرِضةٌ بينَ جملةِ أجزاءِ القِصَّةِ، وليست مِن القِصَّةِ، ومناسَبةُ هذا الاعتراضِ أنَّ تفاصيلَ القِصَّةِ التي لا يَعلَمُها المُخاطَبونَ تفاصيلُ عَجيبةٌ تدعو المُنكِرينَ إلى أن يتذكَّروا إنكارَهم، ويُعيدوا ذِكرَه. وكونُ ذلك مطابقًا لِما حصلَ في زَمَنِ نوحٍ عليه السَّلامُ، وشاهِدةً به كُتُبُ بني إسرائيلَ، يدُلُّ على صِدقِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ عِلمَه بذلك مع أميَّتِه وبُعدِ قَومِه عن أهلِ الكِتابِ، آيةٌ على أنَّه وَحيٌ مِن اللهِ لا يأتيه الباطِلُ مِن بين يَدَيه ولا مِن خَلْفِه .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.

أي: أم يقولُ مُشرِكو قَومِك- يا مُحمَّدُ: اختلقَ محمَّدٌ هذا القُرآنَ، واختلق قِصَّةَ نوحٍ مِن تِلقاءِ نَفسِه ؟

قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ.

أي: قل- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إن اختلقْتُ القُرآنَ وافتعلتُه- كما تَزعمونَ- فعلَيَّ وحدي إثمي في كَذِبي على اللهِ، وأنا بريءٌ ممَّا تُذنِبونَ مِن الكُفرِ والكَذِب على اللهِ، والتَّكذيبِ بالحَقِّ

 

.

الفوائد التربوية :

 

في قَولِه تعالى: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا دَلالةٌ على المُجادلةِ المَشروعةِ- وقد تجبُ وقد تُستحَبُّ- وأمَّا المذمومةُ شَرعًا فهي: الجَدلُ بالباطِلِ، والجدلُ بغيرِ عِلمٍ، والجدلُ في الحقِّ بعد ما تبيَّن

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا سَمَّوه (وَعْدًا) سُخريةً به، أي: أنَّ هذا الذي جعلْتَه وعيدًا هو عندنا وعدٌ حسَنٌ سارٌّ، باعتبارِ أنَّا نحِبُّ حُلولَه، فالمعنى: أنَّك لستَ قادرًا على ذلك، ولا أنت صادِقٌ فيه، فإن كان حقًّا فائْتِنا به

.

2- قال الله تعالى: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الإغواءَ بإرادةِ الله، وهي بذلك تدُلُّ على بُطلانِ مَذهَبِ المُعتَزلةِ والقَدَريَّةِ ومَن وافَقَهما؛ إذ زعموا أنَّ الله تعالى لا يُريدُ أن يَعصيَ العاصي، ولا يكفُرَ الكافِرُ، ولا يغويَ الغاوي، فرَدَّ الله عليهم بقَولِه تعالى: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، فأضاف إغواءَهم إلى اللهِ سبحانه وتعالى؛ إذ هو الهادي والمُضِلُّ، سبحانه عمَّا يقولُ الجاحِدونَ والظَّالِمونَ عُلُوًّا كبيرًا .

3- في قَولِه تعالى: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ بيانُ نوعِ الإرادةِ الكونيَّةِ- وهي الإرادةُ المُستَلزِمةُ لوقوعِ المُرادِ- ويُقابِلُها الإرادةُ الدينيَّةُ الشَّرعيَّةُ- وهي محبَّةُ المرادِ ورِضاه، ومحبَّةُ أهلِه والرِّضا عنهم، وجزاؤُهم بالحُسنى- كقَولِه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ

 

[البقرة: 185] .

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

- قولُهم: فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا خبَرٌ مستعمَلٌ في التَّذمُّرِ والتَّضْجيرِ والتَّأييسِ مِن الاقتناعِ

.

2- قولُه تعالى: قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

- قولُه: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ فيه قَصْرُ قَلْبٍ ، بِناءً على ظاهِرِ طلَبِهم؛ حَملًا لِكلامِهم على ظاهِرِه، على طَريقةِ مُجاراةِ الخَصْمِ في المناظَرةِ، وإلَّا فإنَّهم جازِمون بتَعذُّرِ أن يأتِيَهم بما وعَدهم؛ لأنَّهم يَحسَبونه كاذِبًا، وهم جازِمون بأنَّ اللهَ لم يتَوعَّدْهم، ولعلَّهم كانوا لا يُؤمِنون بوجودِ اللهِ .

- وقولُه: إِنْ شَاءَ احتراسٌ راجعٌ إلى حَملِ العذابِ على عذابِ الدُّنيا .

3- قولُه تعالى: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

- قولُه: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ فيه تعريضٌ بتَحْميقِهم، وتسفيهِ آرائِهم؛ حيث كَرِهوا النُّصْحَ الَّذي هو نفْعٌ لهم .

- وجملةُ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ابتدائيَّةٌ لِتَعليمِهم أنَّ اللهَ ربُّهم؛ إن كانوا لا يُؤمِنون بوجودِ اللهِ، أو لِتَذكيرِهم بذلك إن كانوا يُؤمِنون بوجودِه، ويُشرِكون معه وَدًّا وسُواعًا ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا .

- وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ في وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ للاهتمامِ، ولرِعايةِ الفاصلةِ .

4- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ

- لفظةُ أَمْ هنا للإضرابِ للانتقالِ مِن غرَضٍ إلى غرضٍ، والاستفهامُ الذي يُؤْذِنُ به حرفُ أَمْ استفهامٌ إنكاريٌّ، وموقعُ الإنكارِ بديعٌ؛ لِتَضمُّنِه الحُجَّةَ عليهم .

- قولُه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيَّ، وهو مُؤذِنٌ بالقَصْرِ، أي: إجرامي عليَّ لا علَيكم؛ فلماذا تُكثِرون ادِّعاءَ الافتِراءِ كأنَّكم ستُؤاخَذون بتَبِعَتِه؟! وهذا جارٍ على طريقةِ الاستِدْراجِ لهم، والكلامِ المنصِفِ

=======

 

سورة هود

الآيات (36-39)

ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ

غريب الكلمات :

 

فَلَا تَبْتَئِسْ: أي: لا تَحْزَن، مِن البُؤسِ: وهو الضُّرُّ والشِّدَّةُ

.

وَوَحْيِنَا: أي: أمرِنا وتعليمِنا، والوحيُ: الإشارةُ، وأيضًا: الكتابُ والرسالةُ، وكلُّ ما ألقيتَه إلى غيرِك حتى علِمه فهو وحيٌ كيف كان، وأصلُ (وحي): يدلُّ على إلقاءِ علمٍ في إخفاءٍ .

مُقِيمٌ: أي: دائمٌ سرمديٌّ أبديٌّ، وأصلُ (قوم): انْتِصابٌ أو عَزْمٌ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه أوحَى إلى نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه لن يؤمِنَ باللهِ مِن قومِك إلا مَن قد آمنَ مِن قبلُ، فلا تَحزَنْ على ما كانوا يفعلونَ، واصنَعِ السفينةَ بمرأًى منَّا وبأمْرِنا لك تحتَ حِفظنا وكِلاءَتِنا، ولا تطلُبْ مني العفوَ عن هؤلاء الذين ظَلَموا أنفُسَهم من قومِك بكُفرِهم؛ فإنَّهم مُغرَقون بالطُّوفانِ.

ثمَّ أخبَر تعالى أنَّ نوحًا عليه السلامُ شرع يَصنَعُ السفينةَ كما أُمِر، وكلَّما مرَّ عليه جماعةٌ مِن كُبَراءِ قَومِه سَخِروا منه، قال لهم نوحٌ رادًّا عليهم: إن تسخَروا منَّا اليومَ لجَهلِكم بصِدقِ وعدِ اللهِ، فإنَّا نسخَرُ منكم كما تسخرونَ منَّا، فسوف تعلمون مَن الذي يأتيه في الدُّنيا عذابُ اللهِ الذي يُهينُه، ويَنزِلُ به في الآخرةِ عذابٌ دائِمٌ لا انقِطاعَ له؟

تفسير الآيات:

 

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36).

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ.

أي: وأوحَى اللهُ إلى نبيِّه نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه لن يؤمِنَ باللهِ ويتَّبِعَك من قومِك إلَّا مَن سبق أن آمَن مِن قَبلُ

.

فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ.

أي: فلا تَحزَنْ- يا نوحُ- بما كان يفعَلُ قَومُك من الكُفرِ والتكذيبِ، ولا يُهمَّنَّك أمرُهم؛ فإنِّي مُهلِكُهم .

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان نهيُه تعالى نوحًا عليه السَّلامُ عن الابتئاسِ بفِعلِهم- مع شِدَّةِ جُرمِهم- مؤذِنًا بأنَّ الله ينتَصِرُ له؛ أعقَبَه بالأمرِ بصُنعِ الفُلكِ؛ لتهيئةِ نجاتِه، ونجاةِ مَن قد آمنَ به من العذابِ الذي قدَّرَه الله لِقَومِه .

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا.

أي: واصنَعِ السَّفينةَ بمرأًى منَّا، وتحت حِفْظنا، وبتعليمِنا لك كيفيَّةَ صِناعتِها .

وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ.

أي: ولا تسألْني- يا نوحُ- العفوَ عن قَومِك المُشرِكينَ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكفرِ؛ إنَّهم محكومٌ عليهم بالغَرَقِ بالطوفانِ، فلا سبيلَ إلى طلَبِ الشفاعةِ لهم .

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38).

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ.

أي: وطَفِقَ نوحٌ يصنَعُ السَّفينةَ، وكلَّما مرَّ عليه جماعةٌ من كُبَراءِ قَومِه المشركينَ ورأَوْا ما يصنَعُ هَزِئوا منه .

قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ.

أي: قال نوحٌ لِقَومِه: إن تستَهزِئوا بنا عند بناءِ السَّفينةِ، فإنَّا نستهزِئُ بكم كما تستَهزِئونَ بنا .

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39).

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ.

أي: قال نوحٌ مهدِّدًا قومَه: فسوف تعلمونَ إذا نزل بكم عِقابُ اللهِ مَن يأتيه عذابٌ يُهينُه في الدُّنيا .

وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ.

أي: ومَن يَنزِلُ به في الآخرةِ عذابٌ دائِمٌ لا ينقَطِعُ

 

.

الفوائد التربوية :

 

قال الله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ في إسنادِ (العِلمِ) إلى ضَميرِ المخاطَبين دونَ الضَّميرِ المشارِكِ- بأن يُقالَ: (فسوف نَعلَمُ)- إيماءٌ إلى أنَّ المخاطَبين هم الأحَقُّ بعِلْمِ ذلك، وهذا يُفيدُ أدَبًا شَريفًا بأنَّ الواثِقَ بأنَّه على الحَقِّ لا يُزَعزِعُ ثِقتَه مُقابَلةُ السُّفهاءِ أعمالَه النَّافعةَ بالسُّخريةِ، وأنَّ عليه وعلى أتباعِه أن يَسْخَروا مِن السَّاخِرين

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ الله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ يدلُّ على إثباتِ القضاءِ والقَدَرِ؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ بأنَّهم لا يؤمنونَ بعدَ ذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ

- قولُه: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، الهاءُ في أَنَّهُ ضميرُ الشَّأنِ، وهو دالٌّ على أنَّ الجُملةَ بعدَه أمْرُها خطيرٌ؛ لأنَّها تأييسٌ له مِن إيمانِ بقيَّةِ قومِه، وذلك شديدٌ عليه؛ ولذلك عُقِّب بتَسْليتِه بجملةِ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ؛ فالفاءُ لِتَفريعِ التَّسليةِ على الخبَرِ المحزِنِ

.

- قولُه: مَنْ قَدْ آمَنَ فيه تأكيدُ الفعلِ بـ قَدْ؛ للتَّنصيصِ على أنَّ المرادَ مَن حصَل مِنهم الإيمانُ يَقينًا دونَ الَّذين ترَدَّدوا .

2- قولُه تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ

- قوله: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ جملةُ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تعليليَّةٌ للنَّهيِ في وَلَا تُخَاطِبْنِي؛ عَلَّل منْعَ مُخاطَبتِه بأنَّه حَكَم عليهم بالغرَقِ في قولِه: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وفيها إخبارٌ بما سيَقَعُ، وبيانٌ لِسَببِ الأمرِ بصُنعِ الفُلكِ .

- وقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فيه مجيءُ الخبرِ إنكاريًّا مؤكَّدًا بـ (إنَّ) تأكيدًا للكلام، وتنزيلًا للسَّامِعِ مَنزلةَ المتردِّد؛ لأنَّه للنَّفسِ اليقْظَى مَظِنَّةُ التردُّدِ في حُكمِ الخَبرِ ومَؤونةِ الطَّلبِ له؛ فقال أولًا: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، أي: لا تَدْعُني يا نوحُ في استدفاعِ العذابِ عنهم، ثم قال: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ؛ لأنَّ الكلامَ مَظِنَّةُ أنْ يَتردَّدَ نوحٌ بأنَّه هلْ يُصيبُهم بأسٌ، بل بأنَّهم هل هم مُغرَقون بملاحظةِ ما تَقدَّم من قولِه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ؛ فأوردَ الخبرَ مؤكَّدًا، فقال: إنَّهم محكومٌ عليهم بالإغراقِ .

3- قولُه تعالى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ

فيه التَّعبيرُ عن صُنعِه الفُلْكَ بصيغةِ المضارِعِ في وَيَصْنَعُ؛ وذلك لاستِحْضارِ الحالةِ؛ لِتَخْييلِ السَّامِعِ أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ بصَدَدِ العمَلِ .

- وجَمْعُ الضَّميرِ في قولِه: مِنَّا يُشيرُ إلى أنَّهم يَسْخَرون مِنه في عمَلِ السَّفينةِ، ومِن الَّذين آمَنوا به؛ إذ كانوا حوْلَه واثِقين بأنَّه يَعمَلُ عَملًا عَظيمًا، وكذلك جمعُه في قولِه: فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ .

-  قولُه: كَمَا تَسْخَرُونَ فيه تشبيهٌ، ووجهُه أنَّه تشبيهٌ في السَّببِ الباعثِ على السُّخريةِ، وإن كان بينَ السَّببَينِ بَوْنٌ، ويجوزُ أن تكونَ كافُ التَّشبيهِ مُفيدةً معنى التَّعليلِ كالَّتي في قولِه تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة: 198] ؛ فيُفيدُ التَّفاوُتَ بينَ السُّخرِيَتينِ؛ لأنَّ السُّخريَةَ المعلَّلَةَ أحَقُّ مِن الأُخرَى؛ فالكُفَّارُ سَخِروا مِن نوحٍ عليه السَّلامُ لِعَملٍ يَجهَلون غايتَه، ونوحٌ عليه السَّلامُ وأتباعُه سَخِروا مِن الكفَّارِ؛ لعِلْمِهم بأنَّهم جاهِلون في غُرورٍ .

4- قولُه تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ

- قولُه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ تفريعٌ على جملةِ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ، أي: سيَظهَرُ مَن هو الأحَقُّ بأن يُسخَرَ منه

=======

 

سورة هود

الآيات (40-44)

ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ

غريب الكلمات:

 

التَّنُّورُ: هو الكانونُ (الموْقِدُ) الذي يُخبَزُ فيه

.

مَجْرَاهَا: أي: مَسيرُها، وأصلُ (جري): يدلُّ على انسياحِ شَيءٍ .

وَمُرْسَاهَا: أي: رُسُوُّها، وانتهاءُ سَيرِها، وأصلُ (رسو): يدلُّ على ثباتٍ .

مَعْزِلٍ: أي: مكانٍ مُنقَطعٍ، وأصلُ (عزل): يدلُّ على تَنحيةٍ وإمالةٍ .

سَآوِي: أي: أَرجِعُ وألجأُ، وأصلُ (أوى): يدلُّ على تَجمُّعٍ .

أَقْلِعِي: أي: أمسِكي عن المَطَر، وأصلُ (قلع): يدلُّ على انتزاعِ شَيءٍ مِن شَيءٍ .

وَغِيضَ الْمَاءُ: أي: غارَ في الأرضِ ونضَبَ، وأصلُ (غيض): يدلُّ على نُقصانٍ في شَيءٍ وقِلَّةٍ .

الْجُودِيِّ: هو اسمُ جَبَلٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ

إِلَّا مَنْ رَحِمَ في هذا الاستثناءِ وَجهانِ؛ أحدهما: أنَّه مُنقَطِعٌ، ومَنْ رَحِمَ بمعنى (المرحوم)، أي: لكِنْ مَن رَحِمَه اللهُ مَعصومٌ. وعليه فـ مَنْ فِي مَحلِّ نصبٍ على الاستِثناءِ المُنقَطِع. الثاني: أنَّه استِثناءٌ متَّصِلٌ، ومَن رَحِم بمعنى (الرَّاحِم)، وهو اللهُ تعالى، أي: لا عاصِمَ إلَّا الرَّاحمُ؛ فـ مَنْ فِي مَوضِع رفعٍ على البدَلِ من محلِّ عَاصِمَ. وقيل: إنَّ عَاصِمَ بمعنى (معصوم)، أي: لا معصومَ إلَّا المرحومُ. والاستثناءُ متَّصِلٌ أيضًا. وخبرُ لا محذوفٌ تقديرُه (مانِعٌ)، وكلٌّ مِن الْيَوْمَ ومِنْ أَمْرِ اللهِ متعلِّقٌ بالخبرِ المحذوفِ، والتَّقديرُ: لا عاصِمَ مانِعٌ اليومَ مِن أَمرِ اللهِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: حتى إذا جاء أمرُنا بإهلاكِ قومِ نوحٍ، كما وَعدْنا نوحًا بذلك، ونبَعَ الماءُ بقُوَّةٍ مِن التنُّورِ- وهو المكانُ الذي يُخبَزُ فيه- علامةً على مجيءِ العَذابِ؛ قُلنا لنوحٍ: احمِلْ في السَّفينةِ مِن كُلِّ نَوعٍ مِن أنواعِ المَخلوقاتِ ذكرًا وأُنثَى، واحمِلْ فيها أهلَ بَيتِك إلَّا مَن سبَق عليهم القَولُ بالعذابِ، واحمِلْ فيها مَن آمن معك مِن قَومِك، وما آمن معه إلَّا قليلٌ.

وقال نوحٌ لِمن آمن معه: اركبُوا في السَّفينةِ، باسمِ اللهِ يكونُ جَريُها على وجهِ الماءِ، وباسمِ اللهِ يكونُ مُنتهَى سَيرِها ورُسُوُّها، إنَّ ربِّي لَغفورٌ رحيمٌ.

ثمَّ وصَف الله تعالى جريانَ السفينةِ، فقال: وهي تجري بهم في موجٍ يعلو ويرتَفِعُ حتى يصيرَ كالجبالِ، ونادى نوحٌ ابنَه- وكان في ناحيةٍ بعيدةٍ عن السفينةِ- فقال له: يا بُنَيَّ اركبْ معنا في السَّفينةِ، ولا تكُنْ مع الكافرينَ باللهِ فتَغرقَ.

فقال له ابنُه: سألجأُ إلى جبلٍ أتحصَّنُ به من الماءِ، فيَمنَعُني من الغَرَقِ، فأجابه نوحٌ: لا مانعَ اليومَ مِن أمرِ اللهِ وقَضائِه الذي قد نزل بالخَلقِ من الغَرَقِ والهلاكِ إلَّا الرَّاحِمُ، وهو اللهُ تعالى، وحال الموجُ المُرتَفِعُ بين نوحٍ وابنِه، فكان من المُغرَقينَ الهالكينَ، وقال اللهُ للأرضِ- بعد هلاكِ قَومِ نُوحٍ: يا أرضُ اشرَبي ماءَك، ويا سَماءُ أمسِكي عن المَطَر، وغار الماءُ ونَضَب، وقُضِيَ أمرُ اللهِ بهَلاكِ قَومِ نُوحٍ، ونجاةِ المؤمنينَ، ورَسَت السَّفينةُ على جَبَلِ الجُوديِّ، وقيل: هلاكًا وبُعدًا للقَومِ الظَّالمينَ.

تفسير الآيات:

 

حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40).

حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ.

أي: حتى إذا جاء أم