الخميس، 18 يناير 2024

11.سورة هود كلها.{123.مكية}

 

 11.سورة هود .كاملة {123.مكية}

سورة هود

مقدمة السورة

أسماء السورة:

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسورةِ (هود)

، ولم يُعرَفْ لها اسمٌ سِواه.

فعن عُقبةَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قلتُ: يا رَسولَ الله، أَقْرِئْني سورةَ هودٍ، وسورةَ يوسفَ ... الحديثَ))

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ هودٍ مكِّيَّةٌ

، وحُكي الإجماعُ على ذلك 


مقاصد السورة:

 

مِن أهمِّ مَقاصدِ سورةِ هودٍ:

 

- تثبيتُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَسلِيتُه

موضوعات السورة:

 

من أهمِّ الموضوعاتِ التي اشتملَتْ عليها سورةُ هودٍ:

1- التَّنويهُ بشأنِ القُرآنِ، وإقامةُ الأدلَّةِ على أنَّه مِن عندِ اللَّهِ.

2- بيانُ أنَّ اللَّهَ سُبحانَه مُطَلِّعٌ على سَرائرِ الخَلقِ وضَمائرِهم، وأنَّه ضَمِنَ الأرزاقَ للمَخلوقاتِ.

3- إثباتُ البَعثِ والجزاءِ.

4- بيانُ أحوالِ النَّاسِ في الشِّدَّةِ والرَّخاءِ.

5- تثبيتُ النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، وتَسليتُه عمَّا يقولُه المُشرِكونَ وما يَقتَرحونَه مِن آياتٍ.

6- بيانُ حالِ فريقِ الكافرينَ، وفريقِ المؤمنينَ، وضربُ المَثَلِ لهما.

7- ذِكرُ بَعضِ قَصصِ الأنبياءِ، وتفصيلُ بعضِ أحداثِها، وما جرَى لهم مع أقوامِهم، ومِن ذلك قِصَّةُ نوحٍ، وهودٍ، وصالحٍ، وإبراهيمَ، ولوطٍ، وشعيبٍ، وموسَى- عليهم صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُه.

8- الإرشادُ إلى ما  يُوجِبُ السَّعادةَ؛ كالاستقامةِ على الدِّينِ، وعَدَمِ الرُّكونِ إلى الظَّالمينَ، وإقامةِ الصَّلاةِ.

9- بيانُ الفائدةِ مِنَ القَصَصِ، وذكْرِ أنباءِ الرُّسُلِ؛ مِن تثبيتِ قلبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

10- خُتِمت السورةُ بالأمرِ بالتوكُّلِ على اللهِ في كلِّ حالٍ.

=================

غريب الكلمات

المعنى الإجمالي

تفسير الآيات

الفوائد التربوية

الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيات

 ===

سورة هود

 

الآيات (كاملة)

سورة هود مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم

الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۚ إِنَّنِي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ (2) وَأَنِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُمَتِّعۡكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى وَيُؤۡتِ كُلَّ ذِي فَضۡلٖ فَضۡلَهُۥۖ وَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ كَبِيرٍ (3) إِلَى ٱللَّهِ مَرۡجِعُكُمۡۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ (4) أَلَآ إِنَّهُمۡ يَثۡنُونَ صُدُورَهُمۡ لِيَسۡتَخۡفُواْ مِنۡهُۚ أَلَا حِينَ يَسۡتَغۡشُونَ ثِيَابَهُمۡ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (5) ۞وَمَا مِن دَآبَّةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ رِزۡقُهَا وَيَعۡلَمُ مُسۡتَقَرَّهَا وَمُسۡتَوۡدَعَهَاۚ كُلّٞ فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ (6) وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۗ وَلَئِن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡمَوۡتِ لَيَقُولَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ (7) وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (8) وَلَئِنۡ أَذَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِنَّا رَحۡمَةٗ ثُمَّ نَزَعۡنَٰهَا مِنۡهُ إِنَّهُۥ لَيَـُٔوسٞ كَفُورٞ (9) وَلَئِنۡ أَذَقۡنَٰهُ نَعۡمَآءَ بَعۡدَ ضَرَّآءَ مَسَّتۡهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّـَٔاتُ عَنِّيٓۚ إِنَّهُۥ لَفَرِحٞ فَخُورٌ (10) إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٞ كَبِيرٞ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكُۢ بَعۡضَ مَا يُوحَىٰٓ إِلَيۡكَ وَضَآئِقُۢ بِهِۦ صَدۡرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ كَنزٌ أَوۡ جَآءَ مَعَهُۥ مَلَكٌۚ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٞۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ وَكِيلٌ (12) أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ فَأۡتُواْ بِعَشۡرِ سُوَرٖ مِّثۡلِهِۦ مُفۡتَرَيَٰتٖ وَٱدۡعُواْ مَنِ ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ (13) فَإِلَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلۡمِ ٱللَّهِ وَأَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ (14) مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ (15) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَيۡسَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (16) أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّهِۦ وَيَتۡلُوهُ شَاهِدٞ مِّنۡهُ وَمِن قَبۡلِهِۦ كِتَٰبُ مُوسَىٰٓ إِمَامٗا وَرَحۡمَةًۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۚ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ مِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ فَٱلنَّارُ مَوۡعِدُهُۥۚ فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُۚ إِنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ (17) وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًاۚ أُوْلَٰٓئِكَ يُعۡرَضُونَ عَلَىٰ رَبِّهِمۡ وَيَقُولُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ هَٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمۡۚ أَلَا لَعۡنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ (18) ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ كَٰفِرُونَ (19) أُوْلَٰٓئِكَ لَمۡ يَكُونُواْ مُعۡجِزِينَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَۘ يُضَٰعَفُ لَهُمُ ٱلۡعَذَابُۚ مَا كَانُواْ يَسۡتَطِيعُونَ ٱلسَّمۡعَ وَمَا كَانُواْ يُبۡصِرُونَ (20) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ (22) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَأَخۡبَتُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ (23) ۞مَثَلُ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ وَٱلۡبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِۚ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦٓ إِنِّي لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٌ (25) أَن لَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّا ٱللَّهَۖ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ أَلِيمٖ (26) فَقَالَ ٱلۡمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوۡمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرٗا مِّثۡلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمۡ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ ٱلرَّأۡيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمۡ عَلَيۡنَا مِن فَضۡلِۭ بَلۡ نَظُنُّكُمۡ كَٰذِبِينَ (27) قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ (28) وَيَٰقَوۡمِ لَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مَالًاۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۚ وَمَآ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۚ إِنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَلَٰكِنِّيٓ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمٗا تَجۡهَلُونَ (29) وَيَٰقَوۡمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمۡۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٞ وَلَآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزۡدَرِيٓ أَعۡيُنُكُمۡ لَن يُؤۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيۡرًاۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِيٓ أَنفُسِهِمۡ إِنِّيٓ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (31) قَالُواْ يَٰنُوحُ قَدۡ جَٰدَلۡتَنَا فَأَكۡثَرۡتَ جِدَٰلَنَا فَأۡتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأۡتِيكُم بِهِ ٱللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ (33) وَلَا يَنفَعُكُمۡ نُصۡحِيٓ إِنۡ أَرَدتُّ أَنۡ أَنصَحَ لَكُمۡ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغۡوِيَكُمۡۚ هُوَ رَبُّكُمۡ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ (34) أَمۡ يَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰهُۖ قُلۡ إِنِ ٱفۡتَرَيۡتُهُۥ فَعَلَيَّ إِجۡرَامِي وَأَنَا۠ بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُجۡرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ (36) وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ (37) وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ (38) فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيۡهِ عَذَابٞ مُّقِيمٌ (39) حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ (40) ۞وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡر۪ىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ (41) وَهِيَ تَجۡرِي بِهِمۡ فِي مَوۡجٖ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (42) قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ (44) وَنَادَىٰ نُوحٞ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَٰكِمِينَ (45) قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّيٓ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَيۡسَ لِي بِهِۦ عِلۡمٞۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِي وَتَرۡحَمۡنِيٓ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ (47) قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهۡبِطۡ بِسَلَٰمٖ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيۡكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٖ مِّمَّن مَّعَكَۚ وَأُمَمٞ سَنُمَتِّعُهُمۡ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ (48) تِلۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهَآ إِلَيۡكَۖ مَا كُنتَ تَعۡلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوۡمُكَ مِن قَبۡلِ هَٰذَاۖ فَٱصۡبِرۡۖ إِنَّ ٱلۡعَٰقِبَةَ لِلۡمُتَّقِينَ (49) وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥٓۖ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُفۡتَرُونَ (50) يَٰقَوۡمِ لَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (51) وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡاْ مُجۡرِمِينَ (52) قَالُواْ يَٰهُودُ مَا جِئۡتَنَا بِبَيِّنَةٖ وَمَا نَحۡنُ بِتَارِكِيٓ ءَالِهَتِنَا عَن قَوۡلِكَ وَمَا نَحۡنُ لَكَ بِمُؤۡمِنِينَ (53) إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعۡتَرَىٰكَ بَعۡضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوٓءٖۗ قَالَ إِنِّيٓ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ وَٱشۡهَدُوٓاْ أَنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ (54) مِن دُونِهِۦۖ فَكِيدُونِي جَمِيعٗا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (56) فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُم مَّآ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَيَسۡتَخۡلِفُ رَبِّي قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّونَهُۥ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ (57) وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا هُودٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَنَجَّيۡنَٰهُم مِّنۡ عَذَابٍ غَلِيظٖ (58) وَتِلۡكَ عَادٞۖ جَحَدُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَعَصَوۡاْ رُسُلَهُۥ وَٱتَّبَعُوٓاْ أَمۡرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٖ (59) وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ أَلَآ إِنَّ عَادٗا كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّعَادٖ قَوۡمِ هُودٖ (60) ۞وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمۡ صَٰلِحٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٞ مُّجِيبٞ (61) قَالُواْ يَٰصَٰلِحُ قَدۡ كُنتَ فِينَا مَرۡجُوّٗا قَبۡلَ هَٰذَآۖ أَتَنۡهَىٰنَآ أَن نَّعۡبُدَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكّٖ مِّمَّا تَدۡعُونَآ إِلَيۡهِ مُرِيبٖ (62) قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي مِنۡهُ رَحۡمَةٗ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ ٱللَّهِ إِنۡ عَصَيۡتُهُۥۖ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيۡرَ تَخۡسِيرٖ (63) وَيَٰقَوۡمِ هَٰذِهِۦ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمۡ ءَايَةٗۖ فَذَرُوهَا تَأۡكُلۡ فِيٓ أَرۡضِ ٱللَّهِۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوٓءٖ فَيَأۡخُذَكُمۡ عَذَابٞ قَرِيبٞ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمۡ ثَلَٰثَةَ أَيَّامٖۖ ذَٰلِكَ وَعۡدٌ غَيۡرُ مَكۡذُوبٖ (65) فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا صَٰلِحٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَمِنۡ خِزۡيِ يَوۡمِئِذٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ ٱلۡقَوِيُّ ٱلۡعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ (67) كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَآ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفَرُواْ رَبَّهُمۡۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّثَمُودَ (68) وَلَقَدۡ جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجۡلٍ حَنِيذٖ (69) فَلَمَّا رَءَآ أَيۡدِيَهُمۡ لَا تَصِلُ إِلَيۡهِ نَكِرَهُمۡ وَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۚ قَالُواْ لَا تَخَفۡ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمِ لُوطٖ (70) وَٱمۡرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٞ فَضَحِكَتۡ فَبَشَّرۡنَٰهَا بِإِسۡحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسۡحَٰقَ يَعۡقُوبَ (71) قَالَتۡ يَٰوَيۡلَتَىٰٓ ءَأَلِدُ وَأَنَا۠ عَجُوزٞ وَهَٰذَا بَعۡلِي شَيۡخًاۖ إِنَّ هَٰذَا لَشَيۡءٌ عَجِيبٞ (72) قَالُوٓاْ أَتَعۡجَبِينَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۖ رَحۡمَتُ ٱللَّهِ وَبَرَكَٰتُهُۥ عَلَيۡكُمۡ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِۚ إِنَّهُۥ حَمِيدٞ مَّجِيدٞ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنۡ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلرَّوۡعُ وَجَآءَتۡهُ ٱلۡبُشۡرَىٰ يُجَٰدِلُنَا فِي قَوۡمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّٰهٞ مُّنِيبٞ (75) يَٰٓإِبۡرَٰهِيمُ أَعۡرِضۡ عَنۡ هَٰذَآۖ إِنَّهُۥ قَدۡ جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَإِنَّهُمۡ ءَاتِيهِمۡ عَذَابٌ غَيۡرُ مَرۡدُودٖ (76) وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَا لُوطٗا سِيٓءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعٗا وَقَالَ هَٰذَا يَوۡمٌ عَصِيبٞ (77) وَجَآءَهُۥ قَوۡمُهُۥ يُهۡرَعُونَ إِلَيۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ هَٰٓؤُلَآءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡۖ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَيۡفِيٓۖ أَلَيۡسَ مِنكُمۡ رَجُلٞ رَّشِيدٞ (78) قَالُواْ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنۡ حَقّٖ وَإِنَّكَ لَتَعۡلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوۡ أَنَّ لِي بِكُمۡ قُوَّةً أَوۡ ءَاوِيٓ إِلَىٰ رُكۡنٖ شَدِيدٖ (80) قَالُواْ يَٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوٓاْ إِلَيۡكَۖ فَأَسۡرِ بِأَهۡلِكَ بِقِطۡعٖ مِّنَ ٱلَّيۡلِ وَلَا يَلۡتَفِتۡ مِنكُمۡ أَحَدٌ إِلَّا ٱمۡرَأَتَكَۖ إِنَّهُۥ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمۡۚ إِنَّ مَوۡعِدَهُمُ ٱلصُّبۡحُۚ أَلَيۡسَ ٱلصُّبۡحُ بِقَرِيبٖ (81) فَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا جَعَلۡنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمۡطَرۡنَا عَلَيۡهَا حِجَارَةٗ مِّن سِجِّيلٖ مَّنضُودٖ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَۖ وَمَا هِيَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ بِبَعِيدٖ (83) ۞وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَۖ إِنِّيٓ أَرَىٰكُم بِخَيۡرٖ وَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ مُّحِيطٖ (84) وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَۚ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيۡكُم بِحَفِيظٖ (86) قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ أَصَلَوٰتُكَ تَأۡمُرُكَ أَن نَّتۡرُكَ مَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُنَآ أَوۡ أَن نَّفۡعَلَ فِيٓ أَمۡوَٰلِنَا مَا نَشَٰٓؤُاْۖ إِنَّكَ لَأَنتَ ٱلۡحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ (87) قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنۡهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنۡ أُخَالِفَكُمۡ إِلَىٰ مَآ أَنۡهَىٰكُمۡ عَنۡهُۚ إِنۡ أُرِيدُ إِلَّا ٱلۡإِصۡلَٰحَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُۚ وَمَا تَوۡفِيقِيٓ إِلَّا بِٱللَّهِۚ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ أُنِيبُ (88) وَيَٰقَوۡمِ لَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شِقَاقِيٓ أَن يُصِيبَكُم مِّثۡلُ مَآ أَصَابَ قَوۡمَ نُوحٍ أَوۡ قَوۡمَ هُودٍ أَوۡ قَوۡمَ صَٰلِحٖۚ وَمَا قَوۡمُ لُوطٖ مِّنكُم بِبَعِيدٖ (89) وَٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِۚ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٞ وَدُودٞ (90) قَالُواْ يَٰشُعَيۡبُ مَا نَفۡقَهُ كَثِيرٗا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفٗاۖ وَلَوۡلَا رَهۡطُكَ لَرَجَمۡنَٰكَۖ وَمَآ أَنتَ عَلَيۡنَا بِعَزِيزٖ (91) قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَهۡطِيٓ أَعَزُّ عَلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذۡتُمُوهُ وَرَآءَكُمۡ ظِهۡرِيًّاۖ إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ (92) وَيَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَٰمِلٞۖ سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ وَمَنۡ هُوَ كَٰذِبٞۖ وَٱرۡتَقِبُوٓاْ إِنِّي مَعَكُمۡ رَقِيبٞ (93) وَلَمَّا جَآءَ أَمۡرُنَا نَجَّيۡنَا شُعَيۡبٗا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ بِرَحۡمَةٖ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلصَّيۡحَةُ فَأَصۡبَحُواْ فِي دِيَٰرِهِمۡ جَٰثِمِينَ (94) كَأَن لَّمۡ يَغۡنَوۡاْ فِيهَآۗ أَلَا بُعۡدٗا لِّمَدۡيَنَ كَمَا بَعِدَتۡ ثَمُودُ (95) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَا وَسُلۡطَٰنٖ مُّبِينٍ (96) إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِيْهِۦ فَٱتَّبَعُوٓاْ أَمۡرَ فِرۡعَوۡنَۖ وَمَآ أَمۡرُ فِرۡعَوۡنَ بِرَشِيدٖ (97) يَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَأَوۡرَدَهُمُ ٱلنَّارَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡوِرۡدُ ٱلۡمَوۡرُودُ (98) وَأُتۡبِعُواْ فِي هَٰذِهِۦ لَعۡنَةٗ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ بِئۡسَ ٱلرِّفۡدُ ٱلۡمَرۡفُودُ (99) ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّهُۥ عَلَيۡكَۖ مِنۡهَا قَآئِمٞ وَحَصِيدٞ (100) وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡۖ فَمَآ أَغۡنَتۡ عَنۡهُمۡ ءَالِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖ لَّمَّا جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَمَا زَادُوهُمۡ غَيۡرَ تَتۡبِيبٖ (101) وَكَذَٰلِكَ أَخۡذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ ٱلۡقُرَىٰ وَهِيَ ظَٰلِمَةٌۚ إِنَّ أَخۡذَهُۥٓ أَلِيمٞ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّمَنۡ خَافَ عَذَابَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ ذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّجۡمُوعٞ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّشۡهُودٞ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُۥٓ إِلَّا لِأَجَلٖ مَّعۡدُودٖ (104) يَوۡمَ يَأۡتِ لَا تَكَلَّمُ نَفۡسٌ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ (105) فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيقٌ (106) خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ (107) ۞وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلۡجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۖ عَطَآءً غَيۡرَ مَجۡذُوذٖ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرۡيَةٖ مِّمَّا يَعۡبُدُ هَٰٓؤُلَآءِۚ مَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعۡبُدُ ءَابَآؤُهُم مِّن قَبۡلُۚ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمۡ نَصِيبَهُمۡ غَيۡرَ مَنقُوصٖ (109) وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ فَٱخۡتُلِفَ فِيهِۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ (110) وَإِنَّ كُلّٗا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمۡ رَبُّكَ أَعۡمَٰلَهُمۡۚ إِنَّهُۥ بِمَا يَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ (111) فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ (112) وَلَا تَرۡكَنُوٓاْ إِلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنۡ أَوۡلِيَآءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ (114) وَٱصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (115) فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡۗ وَٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتۡرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجۡرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ بِظُلۡمٖ وَأَهۡلُهَا مُصۡلِحُونَ (117) وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ (119) وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ وَجَآءَكَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَقُّ وَمَوۡعِظَةٞ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ (120) وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنَّا عَٰمِلُونَ (121) وَٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ (123)

غريب الكلمات:

 

فُصِّلَتْ: أي: بُيِّنتْ، وأصلُ (فصل): يدلُّ على تَمييزِ الشَّيءِ مِن الشَّيءِ، وإبانتِه عنه

.

لَدُنْ: أي: عندَ، أو لدَى، لكن (لدن) أخصُّ مِن (عند) .

يَثْنُونَ: أي: يَطوونَ ويُخفونَ .

يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ: أي: يَستَتِرونَ بها، ويُغَطُّونَ رُؤوسَهم، وأصلُ (غشي): يدلُّ على تَغطيةِ شيءٍ بِشَيءٍ

المعنى الإجمالي:

 

افتَتَحَ اللهُ هذه السورةَ العظيمةَ بالحُروفِ المُقطَّعةِ؛ لبيانِ إعجازِ القُرآنِ، إذ إنَّها تشيرُ إلى الحالةِ التي كان عليها العربُ مِن العجزِ عن مُعارضتِه بالإتيانِ بِشيءٍ مِن مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ من هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها، ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ هذا الكتابَ الذي أنزَلَه على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُحكِمَت آياتُه، فلا خَللَ فيها ولا باطِلَ، ثم بُيِّنَت بالأمرِ والنَّهيِ والأخبارِ الصادقةِ مِن عندِ اللهِ، الحكيمِ بتدبيرِ الأمورِ، الخبيرِ بما تؤولُ إليه عواقِبُها، وكان ذلك لأجلِ أن لا تعبُدوا إلَّا اللهَ وَحدَه لا شريكَ له، ثمَّ أمر اللهُ تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ للنَّاسِ: إنَّني لكم نذيرٌ مِن عندِ اللهِ أُنذِرُكم عقابَه، وبشيرٌ أُبشِّرُكم بثوابِه، واسألوه أن يغفِرَ لكم ذنوبَكم، ثمَّ ارجِعوا إليه نادمينَ، يُمَتِّعْكم في دُنياكم متاعًا حسنًا بالحياةِ الطيِّبةِ فيها إلى أن يحينَ أجَلُكم، ويُعطِ كلَّ ذي فضلٍ مِن قولٍ أو عمَلٍ جزاءَ فَضلِه كاملًا لا نقصَ فيه، وإن تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه؛ فإنِّي أخشَى عليكم عذابَ يومٍ شَديدٍ، وهو يومُ القيامةِ، إلى اللهِ رُجوعُكم بعد موتِكم فاحذَروا عقابَه، وهو سُبحانه قادِرٌ على بَعثِكم وحَشرِكم وجَزائِكم، ألا إنَّ هؤلاء المُشرِكينَ يُضمِرونَ في صدورِهم الكُفرَ؛ ظنًّا منهم أنَّه يخفَى على الله ما تُضمِرُه نفوسُهم، ألا يَعلمونَ حينَ يُغطُّونَ أجسادَهم بثيابِهم أنَّ اللهَ لا يخفى عليه سِرُّهم وعلانيتُهم؟ إنَّه عليمٌ بكُلِّ ما تُكِنُّه صُدورُهم من النيَّاتِ والضَّمائرِ والسَّرائرِ.

تفسير الآيات:

 

الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1).

الَر

تقدَّمَ الكلامُ عن هذه الحروفِ المقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سورةِ البَقَرةِ

.

كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ

أي: هذا القُرآنُ أتقَنَ اللهُ آياتِه فلا خللَ فيها ولا باطِلَ ولا تَناقُضَ، ثمَّ بُيِّنَتْ بالأخبارِ الصَّادقةِ، والأحكامِ العادلةِ مِن أوامِرَ ونواهٍ .

كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 55] .

وقال سُبحانه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام: 114-115] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 52] .

وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الكهف: 54] .

مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.

أي: أُحكِمَت آياتُ القرآنِ ثمَّ فُصِّلَت من عند حكيمٍ في تدبيرِ الأشياءِ وتقديرِها، فيضعُ كُلَّ شيءٍ في مَوضِعِه اللَّائقِ به، خبيرٍ مُطَّلِعٍ على الظَّواهرِ والبواطِنِ، وعواقبِ الأمورِ وأحوالِ عبادِه وما يُصلِحُهم .

أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا تفسيرٌ أو بيانٌ لأوَّلِ ما أُحكِمَت وفُصِّلَت به وله الآياتُ، وهو أن تَجعلوا عبادتَكم له وَحْدَه، لا تُشرِكوا به شيئًا .

أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ .

أي: أُحكِمَت آياتُ القُرآنِ ثم فُصِّلَت؛ لئلَّا تَعبُدوا- أيُّها النَّاسُ- إلَّا اللهَ وَحدَه، ولا تُشِركوا به شيئًا .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .

وقال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] .

إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- للنَّاسِ: إنَّني لكم من عندِ اللهِ نذيرٌ؛ أُخَوِّفُكم عقابَه في الدُّنيا والآخرةِ، إن كَفَرتُم به وعَصَيْتُموه، وبشيرٌ؛ أُبَشِّرُكم بثوابِ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ، إن آمَنتُم به وأطعتُموه .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سبأ: 28] .

وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها عطفٌ على جملةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وهو تفسيرٌ ثانٍ يَرجِعُ إلى ما في الجُملةِ الأُولَى مِن لفظِ التَّفصيلِ، فهذا ابتداءُ التَّفصيلِ؛ لأنَّه بيانٌ وإرشادٌ لوسائلِ نَبذِ عبادةِ ما عدا اللهَ تعالى، ودلائِلُ على ذلك وأمثالٌ ونُذُرٌ .

وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ.

أي: وأنِ استَغفِروا ربَّكم- أيُّها النَّاسُ- فاطلُبوا منه سَترَ ذُنوبِكم، والتَّجاوُزَ عن مؤاخَذتِكم بها، ثمَّ توبوا إليه فيما تَستَقبِلونه من أعمارِكم، بالرُّجوعِ إلى عبادتِه وَحْدَه، وطاعتِه، وتَرْكِ مَعصِيتِه .

عن الأغرِّ المُزَنيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا أيُّها النَّاسُ توبوا إلى اللهِ؛ فإنِّي أتوبُ في اليومِ إليه مئةَ مَرَّةٍ )) .

وعن شَدَّادِ بنِ أوسٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سَيِّدُ الاستغفارِ أن تقولَ: اللهمَّ أنت ربِّي لا إلهَ إلَّا أنت، خَلقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عَهدِك ووَعدِك ما استطعْتُ، أعوذُ بك مِن شَرِّ ما صنَعتُ، أبوءُ لك بنِعمَتِك عليَّ، وأبوءُ لك بذَنبي، فاغفِرْ لي؛ فإنَّه لا يَغفِرُ الذُّنوبَ إلَّا أنت، قال: مَن قالها مِن النَّهارِ مُوقِنًا بها، فمات مِن يَومِه قبل أن يُمسيَ، فهو من أهلِ الجنَّةِ، ومن قالَها من اللَّيلِ وهو موقِنٌ بها، فمات قبل أن يُصبِحَ، فهو من أهلِ الجنَّةِ )) .

يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى.

أي: فإنَّكم إن استَغفَرتُم ربَّكم ثمَّ تُبتُم إليه، يُمتِّعْكم في الدُّنيا بسَعةِ الرِّزقِ ورَغَدِ العَيشِ، وحصولِ العافيةِ إلى حُضورِ أجَلِكم .

كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] .

وقال سُبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ [الزمر: 10] .

وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ.

أي: ويُعطِ كلَّ ذي إحسانٍ وبِرٍّ- بقَولِه أو بفِعلِه، أو قُوَّتِه أو مالِه، أو غيرِ ذلك- أجْرَه وثوابَه .

كما قال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 245] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ [الشورى: 23] .

وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا انقضى التَّبشيرُ مجزومًا به، أتبَعَه التَّحذيرَ مخوفًا منه؛ لطفًا بالعبادِ، فقال تعالى :

وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ.

أي: وإن تُعرِضوا عمَّا دَعَوتُكم إليه، من إخلاصِ العِبادةِ لله تعالى وَحدَه، والاستغفارِ والتَّوبةِ إليه؛ فإنِّي أخاف عليكم عذابَ يومٍ كَبِيرٍ شأنُه، عظيمٍ هولُه .

إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا خوَّفَ تعالى المُنذَرينَ باليومِ الكبيرِ، كانوا كأنَّهم قالوا: ما هذا اليومُ؟ فكان الجوابُ: يومَ يُرجعونَ إليه .

إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ.

أي: إلى اللهِ وَحْدَه مَصيرُكم بعدَ مَوتِكم، فيُجازيكم بأعمالِكم، فاحذَروه .

كما قال تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة: 105] .

وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أي: واللهُ على كلِّ شَيءٍ قادِرٌ، فلا يُعجِزُه بعثُ عبادِه بعدَ مَوتِهم، ومُجازاتُهم على أعمالِهم .

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا قال الله تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا يعني: عن عبادتِه وطاعتِه فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ؛ بيَّن بعده أنَّ التَّولِّيَ عن ذلك باطنًا كالتَّولِّي عنه ظاهِرًا .

وأيضًا لَمَّا قال: وَإِنْ تَوَلَّوْا عن عبادةِ اللهِ وطاعتِه؛ بيَّن بَعده صِفةَ ذلك التولِّي

وأيضًا فهذا الكلامَ قد نشأ عن قَولِه تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لِمُناسبةِ أنَّ المرجوعَ إليه لَمَّا كان مَوصوفًا بتمامِ القُدرةِ على كلِّ شَيءٍ، هو أيضًا مَوصوفٌ بإحاطةِ عِلمِه بكُلِّ شَيءٍ؛ للتَّلازُمِ بين تمامِ القُدرةِ وتمامِ العِلمِ .

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ.

أي: ألا إنَّ المُشرِكينَ يَعطِفونَ صُدورَهم ويَطوونَها على الشِّركِ والشَّكِّ في الحَقِّ، وعداوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ، يَظنُّونَ- جَهلًا منهم باللهِ- أنَّ ثَنيَ صُدورِهم يَحجُبُ عن علمِ اللهِ ما يُخفونَه فيها !

أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ.

أي: ألا إنَّ اللهَ- حين يتغطَّى المُشرِكونَ بثِيابِهم- يَعلَمُ ما يُسرُّونَه وما يُعلِنونَه، من الأقوالِ والأفعالِ، لا يخفَى عليه شيءٌ مِن سرائرِ عبادِه وعلانِيتِهم .

إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.

أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بما تُخفي صدورُ عِبادِه، من العقائدِ والإراداتِ، والأفكارِ والوساوسِ مِن خيرٍ وشَرٍّ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ أشارت الآيةُ إلى أنَّ الاستغفارَ والتَّوبةَ سبَبُ السَّعةِ، وأنَّ الإعراضَ سبَبُ الضِّيقِ، وقَولُه: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ إشارةٌ إلى ثوابِ الآخرةِ، فالتَّوبةُ سببُ طِيبِ العَيشِ في الدُّنيا والآخرةِ

.

2- قال الله تعالى: يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى سمَّى منافِعَ الدُّنيا بالمتاعِ؛ لأجلِ التَّنبيهِ على حَقارتِها وقِلَّتِها، ونبَّهَ على كونِها مُنقَضيةً بِقَولِه تعالى: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فصارت هذه الآيةُ دالَّةً على كَونِها حقيرةً خَسيسةً مُنقَضيةً ، ووصفُ المتاعِ بالحسَنِ إنَّما هو لطِيبِ عَيشِ المؤمِنِ برَجائِه في اللهِ عزَّ وجلَّ، وفي ثَوابِه وفرَحِه بالتَّقرُّبِ إليه بِمَفروضاتِه، والسُّرورِ بمَواعيدِه، والكافِرُ ليس في شيءٍ مِن هذا .

3- قَولُ الله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ فيه إعلامٌ بتَفاوُتِ الدَّرَجاتِ في الآخرةِ، وترغيبٌ في العَمَلِ لها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- دلَّ قولُه تعالى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ على أنَّ القرآنَ كلامُ الله مُنَزَّلٌ غيرُ مخلوقٍ، منه بَدأ، فلم يبتدئْ مِن غيره مِن الموجوداتِ، وإليه يعودُ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ بناه للمَفعولِ؛ بيانًا لأنَّ إحكامَه أمرٌ قد فُرِغَ منه على أيسَرِ وَجهٍ عنده سبحانه، وأُتقِنَ إتقانًا لا مزيدَ عليه .

3- العُمرُ يطولُ، والرِّزقُ يُبسَطُ بالتَّوبةِ، والاستغفارِ، والعَمَلِ الصَّالحِ؛ قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَقَالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من أحبَّ أَن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسأَ له في أثره ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَه )) .

4- قَولُ الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فيه عُطِف الأمرُ بالتوبةِ على الاستغفارِ بحرفِ التراخي (ثمَّ)، وذلك لأنَّ مرتبةَ العَمَلِ متأخِّرةٌ عن مرتبةِ القَولِ؛ فكم من مستغفِرٍ، وهو مصِرٌّ على الذَّنبِ ، فالتَّائِبُ يستغفِرُ أوَّلًا، ثمَّ يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنبِ المُستغفَرِ منه ، وأيضًا فإنَّه أشار بأداة التَّراخي إلى علوِّ رُتبةِ التَّوبةِ، وأنْ لا سبيلَ إلى طلَبِ الغُفرانِ إلَّا بها .

5- قَولُ الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فيه سؤالٌ: أنَّنا نجِدُ من لم يستغفِرِ اللهَ ولم يتُب يُمَتِّعه الله متاعًا حَسنًا إلى أجَلِه، أي: يَرزُقه ويوسِّع عليه، أو يُعمِّره، فما فائدةُ التقييدِ بالاستغفارِ والتَّوبةِ؟

الجواب: أنَّ المتاعَ الحَسَن- المقيَّد بالاستغفارِ والتَّوبةِ- هو الحياةُ في الطاعةِ والقَناعةِ، ولا يكونانِ إلَّا للمُستغفِرِ التَّائبِ

6- قول الله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا لَمَّا كان التَّمتيعُ- وهو المتاعُ البالغُ فيه حتى لا يكونَ فيه كدَرٌ- لا يكونُ إلَّا في الجنَّة، جعل المصدرَ مَتَاعًا ووَضَعَ موضِعَ (تَمتيعًا) هذا المصدرَ، ووَصفَه بِقَولِه: حَسَنًا؛ ليدُلَّ على أنَّه أنهى ما يليقُ بهذه الدَّارِ .

7- قَولُ الله تعالى: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ في التَّعبيرِ عن العملِ بالفَضلِ إشارةٌ إلى أنَّه لم يقَع التكليفُ إلَّا بما في الوُسعِ؛ لأنَّ الفَضلَ في الأصلِ ما فضَلَ عن الإنسانِ من كريمِ الشَّمائلِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ

- قولُه: أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ فيه طِباقٌ حَسنٌ؛ لأنَّ معنى أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ: أحكَمَها حكيمٌ، وفصَّلَها- أي: بيَّنَها وشرَحها- خبيرٌ عالِمٌ بكَيفيَّاتِ الأمورِ، ولَفظةُ ثُمَّ جاءت لِتَرتيبِ الأخبارِ، لا لِتَرتيبِ الوقوعِ في الزَّمانِ

.

- وفي بناءِ أُحْكِمَتْ ووَفُصِّلَتْ للمفعولِ، ثمَّ إيرادِ الفاعلِ بعنوانِ الحِكمةِ البالغةِ والإحاطةِ بجَلائلِها ودَقائِقها مُنكَّرًا بالتَّنكيرِ التَّفخيميِّ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، ورَبطِهما به لا على النَّهجِ المعهودِ في إسنادِ الأفاعيلِ إلى قَواعدِها، مع رِعايةِ حُسنِ الطِّباقِ- مِن الجَزالةِ، والدَّلالةِ على فَخامتِهما، وكونِهما على أكمَلِ ما يكونُ، ما لا يُكتَنَهُ كُنهُه .

2- قوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ

- جُملةُ: إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَجُمْلَةِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وهو اعتراضٌ للتَّحذيرِ مِن مُخالَفةِ النَّهيِ، والتَّحريضِ على امتِثالِه .

- ولَمَّا كان إرسالُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رحمةً للعالَمينَ، قدَّمَ ضَميرَهم، فقال: لَكُمْ مِنْهُ أي: خاصَّةً .

- قولُه: نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ فيه تقديمُ النَّذيرِ؛ لأنَّ الخطابَ وُجِّه أوَّلًا إلى المشركينَ ، ولأنَّ التخويفَ أهمُّ إذ يحصُل به الانزجارُ .

3- قوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ

- في قولِه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ تقدَّم أمْرانِ بينَهما تراخٍ، ورُتِّب عليهما جَوابان بينَهما تَراخٍ؛ ترتَّب على الاستغفارِ التَّمتيعُ المتاعَ الحسَنَ في الدُّنيا، كما قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا الآياتِ [نوح: 10-11] ، وتَرتَّب على التَّوبةِ إيتاءُ الفضلِ في الآخِرةِ، وناسَب كلُّ جوابٍ لِما وقَع جوابًا له؛ لأنَّ الاستغفارَ مِن الذَّنبِ أوَّلُ حالِ الرَّاجعِ إلى اللهِ، فناسَب أن يُرتَّبَ عليه حالُ الدُّنيا، والتَّوبةُ هي المنجِّيةُ من النَّارِ، والَّتي تُدخِلُ الجنَّةَ، فناسَبَ أن يُرتَّب عليها حالُ الآخِرةِ .

- قولُه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ فيه تأكيدُ جملةِ الجزاءِ: فَإِنِّي أَخَافُ بـ (إنَّ)، وبكونِ المسنَدِ إليه فيها (الضَّميرِ) اسمًا مُخبَرًا عنه بالجُملَةِ الفِعليَّةِ أَخَافُ؛ لِقَصدِ شدَّةِ تأكيدِ تَوقُّعِ العذابِ .

- قولُه: يَوْمٍ كَبِيرٍ فيه تنكيرُ (يومٍ)؛ للتَّهويلِ؛ لِتَذهَبَ نفوسُهم إلى الاحتمالِ الممكِنِ أن يَكونَ يومًا في الدُّنيا أو في الآخِرَةِ؛ لأنَّهم كانوا يُنكِرون الحشرَ، فتَخْويفُهم بعذابِ الدُّنيا أوقَعُ في نُفوسِهم، ووَصفُه بالكبيرِ؛ لزِيادةِ تَهويلِه .

- وقَدَّم بِشارةَ المُؤمِنينَ، وأخَّرَ إنذارَ الكافرينَ المُصرِّينَ؛ تأليفًا لهم، لأنَّ تواليَ الإنذارِ مُنفِّرٌ من الاستماعِ، مُغرٍ بالتَّولِّي والإعراضِ .

4- قوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

- قولُه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، جملةٌ في موضعِ التَّعليلِ للخَوفِ عليهم؛ فلذلك فُصِلَت، أي:لم تُعطَفْ بالواوِ على الَّتي قبلَها .

وتضَمَّنَت هذه الجملةُ تهديدًا عظيمًا، حيثُ صرَّح بالبعثِ، وذكَر أنَّ قُدرتَه عامَّةٌ لجميعِ ما يَشاءُ- ومِن ذلك البعثُ- فهو لا يُعجِزُه ما شاء مِن عَذابِهم .

- وفي قولِه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ تقديمُ المجرورِ إِلَى اللَّهِ على عامِلِه: مَرْجِعُكُمْ؛ للاهتمامِ والتَّقوِّي، وليس المرادُ منه الحَصْرَ؛ إذ هم لا يَحسَبون أنَّهم مُرجَعون بعدَ الموتِ، فضلًا عن أن يَرجِعوا إلى غيرِه .

- قولُه: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقريرٌ لِما سلَف مِن كِبَرِ اليومِ، وتعليلٌ للخوفِ .

5- قولُه تعالى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ

- قولُه: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، فيه افتِتاحُ الكلامِ بحَرفِ التَّنبيهِ: أَلَا؛ للاهتمامِ بمَضمونِه؛ لِغَرابةِ أمْرِهم المحكيِّ، وللعنايةِ بتَعليمِ إحاطةِ عِلمِ اللهِ تعالى ، وإشعارًا بأنَّ ما يَعقُبها مِن هَناتِهم أمرٌ يَجِبُ أن يُفهَمَ، ويُتعجَّبَ منه؛ لأنه لَمَّا أُلقيَ إليهم فحْوَى الكِتابِ على لِسانِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسِيق إليهم ما يَنبغي أن يُساقَ من التَّرغيب والتَّرهيبِ، وقَعَ في ذِهنِ السَّامعِ أنَّهم بعدَ سماعِهم مِثلَ هذا المقالِ الذي تخِرُّ له صُمُّ الجبالِ؛ هل قابَلُوه بالإقبالِ أم تَمادَوْا فيما كانُوا عليهِ من الإعراضِ والضلالِ؛ فقيل لذلك: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ مُصدَّرًا بكلمة التَّنبيهِ ؛ ليتأمَّلَ السَّامِعُ حالَ المشركينَ، وصِفتَهم عندَ تبليغِهم الدَّعوةَ، وإقامة الحجَّة، ويتصوَّرَها في صِفتِها الغَريبةِ الدَّالَّةِ على أعراضِ الحَيرةِ والعَجزِ، ومنتهى الجَهلِ .

- وأيضًا في قولِه: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ... تمثيلٌ لحالةِ إضمارِهم العداوَةَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في نُفوسِهم، وتمويهُ ذلك عليه وعلى المؤمِنين به بحالِ مَن يَثْني صَدرَه لِيُخفِيَه، ومَن يَستَغْشي ثوبَه على ما يُريد أن يَستُرَه به . وذلك على أحدِ أوجُهِ تأويلِ الآيةِ.

- قولُه: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ فيه تقديمُ السِّرِّ على العلَنِ؛ نعيًا عليهم مِن أوَّلِ الأمرِ ما صنَعوا، وإيذانًا بافتِضاحِهِم ووقوعِ ما يَحذَرونه، وتحقيقًا للمُساواةِ بين العِلْمَين على أبلَغِ وجهٍ؛ فكأنَّ عِلمَه بما يُسِرُّونه أقدَمُ منه بما يُعلِنونه .

- قولُه: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تعليلٌ لما سبَق، وتقريرٌ له، وفي صِيغةِ الفَعِيلِ عَلِيمٌ، وتَحْليةِ الصُّدُورِ بلامِ الاستغراقِ، والتَّعبيرِ عن الضَّمائرِ بعنوانِ صاحِبيَّتِها- فالضمائرُ لا تكادُ تفارقُ الصدورَ بل تلازمُها وتصاحبُها-: منَ البراعةِ ما لا يَصِفُه الواصِفون، كأنَّه قيلَ: إنَّه مبالِغٌ في الإحاطةِ بمُضمَراتِ جميعِ النَّاسِ، وأسرارِهم الخفيةِ المستكنَّةِ في صُدورِهِم، بحيثُ لا تُفارِقُها أصلًا؛ فكيف يَخْفى عليه ما يُسِرُّون وما يُعلِنونَ ؟!

===============================================

 

سورة هود

الآيتان (6-7)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

 

مُسْتَقَرَّهَا: أي: مأواها الذي تأوي إليه ليلًا أو نهارًا، وأصلُ (قرر): يدلُّ على تمكُّنٍ

.

وَمُسْتَوْدَعَهَا: أي: الموضِعَ الذي يُودِعُها، إمَّا بِمَوتِها فيه، أو دَفنِها، وأصلُ (ودع): يدُلُّ على تَركٍ وتخليةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ الله تعالى أنَّه ما من حيٍّ يدِبُّ على الأرضِ إلَّا على الله تعالى غِذاؤُه ومَعاشُه، فضلًا منه سبحانه، وكَرمًا، ويعلَمُ مكان استقرارِ كلِّ دابَّةٍ، والموضِعَ الذي تموتُ فيه، كلُّ ذلك مكتوبٌ في كتابٍ عندَ الله مُبِينٍ عن جميعِ ذلك، ثمَّ يخبرُ سُبحانه أنَّه هو الذي خلقَ السَّمَواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ، وكان عرشُه على الماءِ قبل ذلك؛ لِيَختبرَ النَّاسَ أيُّهم أحسَنُ له طاعةً وعَملًا. وخاطَب نبيَّه قائلًا له: ولَئِن قلتَ- أيُّها الرَّسولُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: إنَّكم مبعوثونَ أحياءً بعدَ مَوتِكم، لَسارعوا إلى التَّكذيبِ، وقالوا: ما هذا القرآنُ الذي تَتلوه علينا إلَّا سِحرٌ بيِّنٌ.

تفسير الآيتين:

 

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ في الآيةِ الأولى أنَّه يَعلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعلِنونَ، أردَفَه بما يدُلُّ على كونِه تعالى عالِمًا بجميعِ المعلوماتِ، فبيَّن أنَّ رِزقَ كُلِّ حَيوانٍ إنَّما يَصِلُ إليه مِنَ الله تعالى، فلو لم يكُنْ عالِمًا بجميعِ المعلوماتِ لَما حصَلَت هذه الـمُهِمَّات

.

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا.

أي: وما مِن دابةٍ تدبُّ على الأرضِ- مِن آدميٍّ، أو حيوانٍ؛ بريٍّ أو بحريٍّ، أو طائرٍ أو زاحفٍ، أو كبيرٍ أو صغيرٍ- إلَّا وقد تكفَّل اللهُ بقُوتِها وغِذائِها .

كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت: 60] .

وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا.

أي: ويَعلَمُ اللهُ مَأوى كُلِّ دابَّةٍ في اللَّيلِ أو في النَّهارِ، ويَعلَمُ المَوضِعَ الذي تموتُ فيه أو تُدفَنُ .

كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.

أي: كلُّ الدوابِّ مُثبَتٌ تفاصيلُ أحوالِها- في أرزاقِها ومستَقَرِّها ومُستَودَعِها- في اللَّوحِ المَحفوظِ المُظهرِ لكلِّ ما قدَّره اللهُ لجَميعِ الخَلقِ بالتَّفصيلِ .

كما قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .

وقال سُبحانه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70] .

وقال جلَّ جلالُه: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 75] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كتبَ اللهُ مَقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ بخَمسينَ ألفَ سنةٍ) ) .

وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا أثبت بالدَّليلِ المتقَدِّمِ كَونَه عالِمًا بالمعلوماتِ؛ أثبَتَ بهذا الدَّليلِ كونَه تعالى قادرًا على كلِّ المَقدوراتِ .

وأيضًا لَمَّا كان خلقُ ما منه الرِّزقُ أعظمَ مِن خَلقِ الرِّزقِ وتوزيعِه في شمولِ العِلمِ والقدرةِ معًا؛ تلاه بقَولِه تعالى :

وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.

أي: واللهُ هو الذي خلق السَّمواتِ السَّبعَ والأرضَ في ستَّةِ أيامٍ .

وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء.

أي: وكان عَرشُ اللهِ على الماءِ قبل أن يخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ .

عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((دخلتُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعقَلتُ ناقَتي بالبابِ، فأتاه ناسٌ مِن بني تميمٍ، فقال: اقبَلوا البُشرى يا بني تميمٍ، قالوا: قد بشَّرْتَنا فأعْطِنا- مَرَّتينِ- ثمَّ دخل عليه ناسٌ مِن أهلِ اليَمَنِ، فقال: اقبَلوا البُشرى يا أهلَ اليَمَنِ إذ لم يَقبَلْها بنو تميمٍ، قالوا: قد قَبِلْنا يا رسولَ اللهِ، قالوا: جِئناك نسألُك عن هذا الأمرِ؟ قال: كان اللهُ ولم يكنْ شَيءٌ غَيرُه، وكان عرشُه على الماءِ، وكتب في الذِّكرِ كلَّ شَيءٍ، وخلَقَ السَّمواتِ والأرضَ )) .

وعن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((كتَب الله مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماءِ )) .

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.

أي: خلقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، وخَلقَكم- أيُّها النَّاسُ- ليَختبِرَكم، فينظُرَ أيُّكم أحسَنُ طاعةً للهِ بالإخلاصِ له، واتِّباعِ شَريعتِه .

كما قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] .

وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.

مناسبتُها لما قبلَها:

ولما كان الابتلاءُ يتضمَّنُ حديثَ البعثِ؛ أتبَع ذلك بذكرِه .

القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:

في قوله تعالى: سِحْرٌ قراءتان:

1- قراءةُ سَاحِرٌ على أنَّ مرادَهم بذلك: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم .

2- قراءةُ سِحْرٌ على أنَّ مرادَهم بذلك: القرآنُ الكريمُ .

وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.

أي: ولَئنْ قُلتَ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنَّ اللهَ سَيبعَثُكم يومَ القيامةِ أحياءً بعد مَوتِكم، فتَلَوتَ عليهم القرآنَ بذلك؛ لَيقولُنَّ تكذيبًا وعنادًا: ما هذا القرآنُ الذي تَتلوه علينا إلَّا سِحرٌ واضِحٌ، يَظهَرُ لِمَن يستمِعُه أنَّه سِحرٌ

 

!!

الفوائد التربوية :

 

1- قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثمَّ بيَّن الحكمةَ، فقال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وقال تعالى في أولِ سورةِ الكهفِ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ثمَّ بَيَّن الحكمةَ، فقال: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال في أولِ سورةِ الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، ثمَّ بيَّن الحكمةَ، فقال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ولم يقُلْ: أكثرُ عملًا، فإذا عَرَف العبدُ أنَّه خُلِق لأجلِ أن يُختبَرَ في إحسانِ العملِ كان حريصًا على الحالةِ التي ينجحُ بها في هذا الاختبارِ؛ لأنَّ اختبارَ ربِّ العالمينَ يومَ القيامةِ مَنْ لم ينجَحْ فيه جُرَّ إلى النَّارِ، فعدمُ النجاحِ فيه مهلكةٌ

، ففي ذلك الحثُّ على محاسنِ الأعمالِ، والترقِّي دائمًا في مراتبِ الكمالِ .

2- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ مِن حِكمةِ خَلقِ الأرضِ صدورَ الأعمالِ الفاضلةِ مِن أشرَفِ المخلوقاتِ فيها، ثمَّ إنَّ ذلك يقتضي الجزاءَ على الأعمالِ؛ إكمالًا لمُقتضى الحِكمةِ؛ ولذلك أُعقِبَت بقَولِه تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ .

3- قال تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قال الفضيلُ بنُ عياضٍ: أخلصُه وأصوبُه. والخالصُ أن يكونَ لله، والصوابُ أن يكونَ على السنةِ، وهما أصلانِ عظيمانِ: أحدُهما: أن لا نعبدَ إلا الله، والثاني: أن لا نعبدَه إلا بما شرَع، لا نعبدُه بعبادةٍ مبتدعةٍ، وهذان الأصلانِ هما تحقيقُ شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله .

4- قال تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والعملُ الأحسنُ هو الأخلصُ والأصوبُ، وهو الموافقُ لمرضاتِه ومحبتِه، دونَ الأكثرِ الخالي مِن ذلك، فهو سبحانَه وتعالى يحبُّ أن يتعبدَ له بالأرضَى له، وإن كان قليلًا دونَ الأكثرِ الذي لا يُرضيه، والأكثرِ الذي غيرُه أرضَى له منه، ولهذا يكونُ العملانِ في الصورةِ واحدًا، وبينَهما في الفضلِ، بل بينَ قليلِ أحدِهما وكثيرِ الآخرِ في الفضلِ أعظمُ مما بينَ السماءِ والأرضِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَالم يقُل (على الأرضِ)، مع أنَّه أنسَبُ بتَفسيرِ الدابَّةِ لغةً- لأنَّها ما يدِبُّ على الأرضِ- لأنَّ (في) أعمُّ مِن (على)؛ لأنَّها تتناوَلُ من الدوابِّ ما على ظَهرِ الأرضِ، وما في بَطنِها

.

2- الرِّزقُ مَقسومٌ لكلِّ أحَدٍ مِن بَرٍّ وفاجرٍ، ومؤمنٍ وكافرٍ؛ كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا هذا مع ضَعفِ كَثيرٍ مِن الدوابِّ، وعَجزِها عن السَّعيِ في طلَبِ الرِّزقِ؛ قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] فما دام العبدُ حيًّا، فرِزقُه على اللهِ، وقد يُيَسِّرُه الله له بكَسبٍ وبِغَيرِ كَسبٍ .

3- قَولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ظاهِرٌ في الوجوبِ، بينما رِزقُ اللهِ لكُلِّ ما دبَّ على الأرضِ هو تفَضُّلٌ، وللعُلماءِ في التَّوفيقِ بين ذلك وجوهٌ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه لَمَّا ضَمِنَ تعالى أن يتفضَّلَ به عليهم، أبرَزَه في حيِّزِ الوُجوبِ . فكأنَّه لضمانتِه، وعدمِ تخلُّفِه كأنَّه واجبٌ عليه.

الوجه الثاني: أنَّ المرادَ بالوجوبِ هنا وجوبُ اختيارٍ، لا وجوبُ إلزامٍ، كقولِ الإنسانِ لصاحِبِه: حقُّك واجِبٌ عليَّ.

الوجه الثالث: أنَّ (على) بمعنى (مِن)، كما في قَولِه تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين: 2] .

4- قولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا رُدَّ به على المُعتزلةِ في قولِهم: (إنَّ الحرامَ ليس برزقٍ)؛ لأنَّه يلزمُ عليه أنَّ من تغذَّى طولَ عُمُرِه بالحرامِ لم يرزُقْه اللهُ، وهو خلافُ ما في الآيةِ؛ لأنَّه تعالى لا يترُكُ ما أخبَرَ بأنَّه عليه .

5- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه سؤالٌ: كيف قيل: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأعمالُ المؤمنينَ هي التي تتفاوتُ إلى حسَنٍ وأحسَنَ، فأمَّا أعمالُ المؤمنينَ والكافرينَ فتفاوُتُها إلى حَسَنٍ وقبيحٍ؟

الجوابُ: أنَّ الذين هم أحسَنُ عملًا هم المتَّقونَ، وهم الذين استَبَقوا إلى تحصيلِ ما هو مقصودُ اللهِ مِن عبادِه، فخَصَّهم بالذِّكرِ، واطَّرَح ذِكرَ مَن وراءَهم؛ تشريفًا لهم، وتنبيهًا على مكانِهم منه، وليكون ذلك تيقُّظًا للسَّامعينَ، وتَرغيبًا في حيازةِ فَضلِهم ، وأيضًا للتَّحريضِ على أحاسِنِ المَحاسنِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فيه أنَّ العَرشَ ذاتٌ مَخلوقةٌ فوق السَّمَواتِ، وذلك يقتضي أنَّ العَرشَ مخلوقٌ قبل السَّمَواتِ والأرضِ، وكذلك الماءُ فالله تعالى أخْبَر أنَّ عرشَه كان على الماءِ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ، وثَبَت ذلك في ((صحيحِ البخاريِّ)) عن عِمرانَ بنِ حُصينٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال: ((كان اللَّهُ ولا شيءَ غيرُه، وكان عرشُه على الماءِ، وكَتَب في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ، ثُمَّ خَلَق السَّمواتِ والأرضَ )) .

7- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا دلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ لِيبتليَ عبادَه بأمْرهِ ونَهيِه، وهذا مِن الحَقِّ الذي خلَقَ به خلْقَه .

8- في قَولِه تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ قال أهل المعاني: وفي وقوفِ العَرشِ على الماءِ- والماءُ غيرُ قرارٍ- أعظَمُ الاعتبارِ لأهلِ الأفكارِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ

- قولُه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا فيه زيادةُ قولِه: فِي الْأَرْضِ تأكيدًا لمعنَى دَابَّةٍ؛ للتَّنصيصِ على أنَّ العُمومَ مُسْتَعملٌ في حقيقتِه

.

- وتقديمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ رِزْقُهَا؛ لإفادةِ القَصْرِ؛ أي: على اللهِ لا على غيرِه، وأيضًا التَّركيبُ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا يُفيدُ معنى أنَّ اللهَ تكفَّل برِزْقِها ولم يُهْمِلْه .

2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ

- قَولُ الله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أنَّ الحِكمةَ في خَلقِ ذلك أنَّه يَخْتَبِركم، ودلَّ على شِدَّةِ الاهتمامِ بذلك بسَوقِه مَساقَ الاستفهامِ في قَولِه: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا .

- قولُه: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.. فيه تأكيدُ الجملةِ باللَّام الموطِّئةِ للقَسَمِ في وَلَئِنْ وما يَتْبَعُه مِن نونِ التوَّكيدِ في لَيَقُولَنَّ؛ لِتَنزيلِ السَّامعِ مَنزِلةَ المتردِّدِ في صُدورِ هذا القولِ مِنهم؛ لِغَرابةِ صُدورِه مِن العاقلِ؛ فيكونُ التَّأكيدُ القويُّ والتَّنزيلُ مُستعمَلًا في التَّعجُّبِ مِن حالِ الَّذين كفَروا أن يُحِيلوا إعادةَ الخلقَ، وقد شاهَدوا آثارَ بدْءِ الخلقِ، وهو أعظَمُ وأبدَعُ .

=======

 

سورة هود

الآيات (8-11)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ

غريب الكلمات:

 

أُمَّةٍ: الأُمَّةُ: الحينُ والزمانُ

.

يَحْبِسُهُ: أي: يَمنَعُه أو يؤخِّرُه، وأصلُ (حبس): يدلُّ على المَنعِ .

وَحَاقَ بِهِمْ: أي: نزل بهم وأصابَهم، وأصلُ (حيق): يدلُّ على نزولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُقسِمُ الله تعالى قائلًا: ولئن أخَّرْنا عن هؤلاء المُشرِكينَ العذابَ إلى أجَلٍ معلومٍ فاستبطَؤوه، ليقولُنَّ استهزاءً وتكذيبًا: أيُّ شيءٍ يمنَعُ هذا العذابَ مِن الوقوعِ إن كان حقًّا؟ ألا يومَ يأتيهم ذلك العذابُ لا يستطيعُ أن يَصرِفَه عنهم صارِفٌ، ولا يَدفَعَه دافِعٌ، وأحاط بهم مِن كُلِّ جانبٍ العذابُ الذي كانوا يَستَهزئونَ به قبلَ وقوعِه بهم، ولَئِن أعطَينا الإنسانَ مِنَّا نِعمةً مِن صِحَّةٍ وأمنٍ وغَيرِهما، ثمَّ سَلَبْناها منه؛ إنَّه لَشديدُ اليأسِ مِن رَحمةِ الله، جَحودٌ بالنِّعَمِ التي أنعَمَ اللهُ بها عليه، ولَئِن بسَطْنا للإنسانِ في دُنياه، ووسَّعْنا عليه في رِزقِه بعد ضِيقٍ مِن العَيشِ، ليقولَنَّ عند ذلك: ذهب الضِّيقُ عني، وزالت الشَّدائِدُ، إنَّه لشديدُ الفَرحِ بالنِّعَمِ، مُبالِغٌ في الفَخرِ والتَّعالي على النَّاسِ بها، لكنِ الذين صبَروا وعَمِلوا الصَّالحاتِ شُكرًا لله على نِعَمِه، هؤلاء لهم مغفرةٌ لذُنوبِهم، وأجرٌ كبيرٌ في الآخرةِ.

تفسير الآيات:

 

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان ما تقدَّم عن المُشركينَ مِن الأفعالِ، ومضَى مِن الأقوالِ مَظِنَّةً لِمُعاجلتِهم بالأخذِ، وكان الواقِعُ أنَّه تعالى يعامِلُهم بالإمهالِ فَضلًا منه وكَرَمًا- حكَى مقالتَهم في مُقابَلةِ رَحمتِه تعالى لهم

.

وأيضًا فمُناسبةُ هذه الآيةِ لِما قَبْلَها: أنَّ في كِلتَيهما وَصْفَ فَنٍّ مِن أفانينِ عِنادِ المُشرِكينَ وتهَكُّمِهم بالدَّعوةِ الإسلاميَّةِ؛ فإذا خبَّرهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالبَعثِ، وأنَّ شِركَهم سبَبٌ لتَعذيبِهم، جعلوا كلامَه سِحرًا، وإذا أنذَرَهم بعقوبةِ العَذابِ على الإشراكِ، استَعَجلوه، فإذا تأخَّر عنهم إلى أجَلٍ اقتَضَتْه الحِكمةُ الرَّبانيَّةُ، استَفهَموا عن سبَبِ حَبسِه عنهم استِفهامَ تهكُّمٍ؛ ظنًّا أنَّ تأخُّرَه عَجزٌ .

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ.

أي: ولَئِنْ أخَّرْنا عن هؤلاءِ المُشرِكينَ- يا مُحمَّدُ- العذابَ إلى مُدَّةٍ معلومةٍ، فلم نُعجِّلْه لهم؛ لَيقولُنَّ تكذيبًا واستهزاءً: أيُّ شيءٍ يحبِسُ عنَّا نزولَ العذابِ ؟!

أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ.

أي: ألَا يومَ يأتيهم ذلك العذابُ- الذي كذَّبوا به- لا يَرُدُّه شَيءٌ، فلا يَصرِفُه عنهم صارِفٌ، ولا يدفَعُه عنهم دافِعٌ .

وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ.

أي: ونزل بالمُشرِكينَ وأحاط بهم العذابُ الذي كانوا يستهزِئونَ به، ويَستعجِلونَه .

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا وما بَعدَه بيانٌ لحالِ الإنسانِ في اختبارِ اللهِ له في قَولِه تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] .

وأيضًا فإنَّ هذه الآيةَ عَطفٌ على جملةِ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ؛ فإنَّه لَمَّا ذكرَ تعالى عن المُشرِكينَ أنَّ ما هم فيه متاعٌ إلى أجَلٍ مَعلومٍ عنده، وأنَّهم بَطِروا نعمةَ التَّمتيعِ، فسَخِروا بتأخيرِ العذابِ، فبَيَّنَت هذه الآيةُ أنَّ أهلَ الضَّلالةِ راسِخونَ في ذلك؛ لأنَّهم لا يفَكِّرونَ في غيرِ اللَّذَّاتِ الدُّنيويَّةِ، فتجري انفعالاتُهم على حسَبِ ذلك دونَ رجاءٍ لتغيُّرِ الحالِ، ولا يتفكَّرونَ في أسبابِ النَّعيمِ والبُؤسِ، وتصَرُّفاتِ خالقِ النَّاسِ، ومُقَدِّرِ أحوالِهم، ولا يتَّعِظونَ بتقَلُّباتِ أحوالِ الأمَمِ، فشأنُ أهلِ الضَّلالةِ أنَّهم إن حلَّت بهم الضَّراءُ بعد النِّعمةِ ملَكَهم اليأسُ مِن الخيرِ، ونَسُوا النِّعمةَ فجَحَدوها وكَفَروا مُنعِمَها، فإنَّ تأخيرَ العذابِ رَحمةٌ، وإتيانَ العذابِ نَزعٌ لتلك الرَّحمةِ .

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9).

أي: ولَئِن أعطَينا الإنسانَ منَّا نِعمةً- كالعافيةِ وسَعةِ الرِّزقِ وطِيبِ العَيشِ- فوجدَ لذَّتَها، ثمَّ سَلَبْناها منه؛ يظلُّ شديدَ اليأسِ مِن حصولِ الخَيرِ له في المُستقبَلِ، جَحُودًا نِعَمَ اللهِ عليه، قَلِيلَ الشُّكرِ لرَبِّه .

كما قال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36].

وقال سُبحانه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ [الشورى: 48] .

وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذه الجُملةَ تَتميمٌ للتي قَبلَها؛ لأنَّها حكَت حالةً ضِدَّ الحالةِ في التي قَبلَها .

وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي.

أي: ولَئِن أذَقْنا الإنسانَ نِعمةً بعدَ ضيقٍ كان فيه، ليقولَنَّ غِرَّةً باللهِ عزَّ وجلَّ، وجرأةً عليه، وجهلًا بإنعامِه: ذهبَ الضِّيقُ والشِّدَّةُ والمكروهُ عنِّي، ولن يُصيبَني بعد ذلك سوءٌ !!

كما قال الله سبحانَه: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 49-51] .

إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ.

أي: إنَّه لشديدُ الفرحِ بنِعَم اللهِ عليه، فخورٌ على غيرِه بها، ولا يشكُرُ اللهَ عليها، وينسى تقلُّباتِ أحوالِ الدُّنيا ونكَدَها، وينسى طلَبَ النَّعيمِ الباقي، والسُّرورِ الدَّائِمِ في الآخرةِ .

كما قال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا [الروم: 36].

وقال سُبحانه: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا [الشورى: 48] .

إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).

أي: إلَّا الذين صَبَروا عند الضَّرَّاءِ، ونزولِ الشدائدِ والمكارِه، وعَمِلوا الصَّالحاتِ فِي السرَّاءِ، وحلولِ الرَّخاءِ والعافيةِ؛ شكرًا لله على نعمائِه، أولئك لهم مَغفِرةٌ من اللهِ لِذُنوبِهم، ولهم جزاءٌ عظيمٌ .

كما قال سُبحانه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1-3] .

وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأبي هريرةَ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما يُصيبُ المُسلِمَ مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ، ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوكةُ يُشاكُها، إلَّا كفَّرَ اللهُ بها مِن خَطايا ه)) .

وعن صُهَيبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عجبًا لأمرِ المُؤمِنِ، إنَّ أمْرَه كُلَّه خَيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلَّا للمؤمِنِ؛ إن أصابَته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له) )

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ لفظُ الإذاقةِ والذَّوقِ يفيدُ أقَلَّ ما يوجَدُ به الطَّعمُ، فكان المرادُ أنَّ الإنسانَ بوِجدانِ أقَلِّ القليلِ مِن الخيراتِ العاجلةِ يقَعُ في التمَرُّدِ والطُّغيانِ، وبإدراكِ أقَلِّ القليلِ مِن المِحنةِ والبَليَّةِ يقَعُ في اليأسِ والقُنوطِ والكُفرانِ، فالدُّنيا في نَفسِها قليلةٌ، والحاصِلُ منها للإنسانِ الواحدِ قَليلٌ، والإذاقةُ من ذلك المقدارِ خَيرٌ قليلٌ، ثمَّ إنَّه في سرعةِ الزَّوالِ يُشبِهُ أحلامَ النَّائمينَ، وخَيالاتِ المُوَسوِسينَ، فهذه الإذاقةُ مِن قليلٍ، ومع ذلك فإنَّ الإنسانَ لا طاقةَ له بتحَمُّلِها، ولا صَبرَ له على الإتيانِ بالطَّريقِ الحَسَنِ معها

.

2- قال الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ بيَّن سُبحانه وتعالى في هذه الآيةِ أنَّ أحوالَ الدُّنيا غيرُ باقيةٍ، بل هي أبدًا في التغَيُّرِ والزَّوالِ والتحوُّلِ والانتقالِ؛ فإنَّ الإنسانَ إمَّا أن يتحوَّلَ مِن النِّعمةِ إلى المِحنة، ومن اللَّذَّاتِ إلى الآفاتِ كالقِسمِ الأوَّلِ، وإمَّا أن يكونَ بالعَكسِ مِن ذلك، وهو أن ينتَقِلَ مِن المكروهِ إلى المَحبوبِ كالقِسمِ الثَّاني

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- اليومُ قد يعبَّرُ به عن الوقتِ قَلَّ أو كثُرَ، كما قال تعالى: أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ والمرادُ: وقتُ مَجيءِ العذابِ، وقد يكونُ ليلًا ويكون نهارًا، وقد يستمِرُّ وقد لا يستَمِرُّ

.

2- قولُ الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي لم يُسنِدِ (المسَّ) إليه سبحانَه، كما فعل في (النَّعماءِ)؛ تعليمًا للأدبِ . وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ في اختلافِ الفِعلينِ- وهما أذقناه ومَسَّتْه- من حيث الإسنادُ إليه تعالى في الأوَّلِ، وإلى الضَّرَّاء في الثَّاني؛ نكتةً: وهي أنَّ النِّعمةَ صادرةٌ مِن اللهِ تعالى تفضُّلًا منه، وأمَّا الضَّررُ فالسَّببُ فيه هو العبدُ باجتلابِه إيَّاه بالمعاصي غالبًا، ولا ينافي ذلك قَولَه تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] ؛ فإنَّ الكُلَّ منه إيجادًا، غيرَ أنَّ الحَسَنةَ إحسانٌ وامتحانٌ، والسَّيِّئةَ مُجازاةٌ وانتقامٌ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

- قولُه: مَا يَحْبِسُهُ استفهامٌ، غرَضُهم منه إنكارُ المجيءِ والحبْسِ رأسًا، لا الاعترافُ به والاستفسارُ عن حابِسِه؛ كأنَّهم يَقولونَه بطريقِ الاستعجالِ؛ استِهْزاءً

.

- قولُه: أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ استئنافٌ بيانيٌّ واقعٌ موقِعَ الجوابِ عن كلامِهم؛ إذ يَقولون: ما يَحبِسُ عنَّا العذابَ؟ فلذلك فُصِلَتْ- لم تُعطَف- كما تُفصَلُ المحاوَرةُ، وفيه تهديدٌ وتخويفٌ بأنَّه لا يُصرَفُ عنهم، ولكنَّه مؤخَّرٌ .

- وافتُتِح الكلامُ بحرفِ التَّنبيهِ أَلَا؛ للاهتمامِ بالخبَرِ؛ لتحقيقِه، وإدخالِ الرَّوعِ في ضَمائرِهم .

- وتقديمُ الظَّرفِ يَوْمَ؛ للإيماءِ بأنَّ إتيانَ العذابِ لا شكَّ فيه حتَّى إنَّه يوقَّتُ بوقتٍ .

- قولُه: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فيه التَّعبيرُ بالماضي وَحَاقَ، والمعنى: (ويَحيقُ بهم)، إلَّا أنَّه جاء على عادةِ اللهِ في أخبارِه؛ لأنَّها في تَحقُّقِها وتَيَقُّنِها بمنزلةِ الكائنةِ الموجودةِ، وفي ذلك مِن الفَخامةِ والدَّلالةِ على عُلوِّ شأنِ المخبِرِ، وتقريرِ وقوعِ المخبَرِ به ما لا يَخْفى .

- وفي قولِه: بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قدَّمَ الظَّرفَ (به)؛ إشارةً إلى شدَّةِ إقبالِهم على الهُزءِ به، حتى كأنَّهم لا يَهزؤونَ بغَيرِه .

- وفيه الإتيانُ بالموصولِ مَا كَانُوا به يَسْتَهْزِئُونَ في مَوضِعِ الضَّميرِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ استِهْزاءَهم كان مِن أسبابِ غضَبِ اللهِ عليهم، وتَقْديرِه إحاطةَ العذابِ بهم؛ بحيثُ لا يَجِدون منه مَخلَصًا ، والمرادُ بقولِه: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ العذابُ الَّذي كانوا به يَستعجِلون، وإنَّما وضَعَ يَسْتَهْزِئُونَ موضِعَ (يَستعجِلون)؛ لأنَّ استِعْجالَهم كان على جِهَةِ الاستهزاءِ .

2- قولُه تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ

- فيه تأكيدُ الجملةِ باللَّامِ الموطِّئةِ للقَسَمِ في وَلَئِنْ وبـ (إنَّ) واللَّامِ في جُملةِ جوابِ القَسَمِ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ؛ لقصْدِ تحقيقِ مَضمونِها، وأنَّه حقيقةٌ ثابتةٌ، لا مُبالَغةَ فيها ولا تَغليبَ .

- واخْتِيرَتْ مادَّةُ الإذاقةِ في أَذَقْنَا؛ لِمَا تُشعِرُ به من إدراكِ أمرٍ محبوبٍ؛ لأنَّ المرْءَ لا يَذوقُ إلَّا ما يَشتَهيه ، ومادَّةُ النَّزْعِ في نَزَعْنَاهَا؛ للإشعارِ بشِدَّةِ تَعلُّقِ الإنسانِ بها وحِرْصِه عليها .

- ولَمَّا كانت النِّعمُ عَواريَّ مِن اللهِ يمنَحُها مَن شاء مِن عِبادِه، قدَّمَ الصِّلةَ دليلًا على العاريَّةِ، فقال: مِنَّا رَحْمَةً .

- وفي قولِه: إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ إشارةٌ إلى أنَّ النَّزْعَ إنَّما كان بسَببِ كُفْرانِهم بما كانوا يتَقلَّبون فيه مِن نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ .

3- قولُه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ

- قولُه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ عبَّر عن مُلابَسةِ الرَّحمةِ والنَّعماءِ بالذَّوقِ أَذَقْنَاهُ المؤذِنِ بلَذَّتِهما، وكَونِهما مِمَّا يُرغَبُ فيه، وعن مُلابَسةِ الضَّرَّاءِ بالمَسِّ مَسَّتْهُ المشعِرِ بكونِها في أدنى ما يُطلَقُ عليه اسْمُ الملاقاةِ مِن مَراتِبِها ؛ فاختيارُ فعلِ المسِّ في مَسَّتْهُ فيه إيماءٌ إلى أنَّ إصابةَ الضَّرَّاءِ أخَفُّ مِن إصابةِ النَّعْماءِ، وأنَّ لُطْفَ اللهِ شاملٌ لعبادِه في كلِّ حالٍ .

- وجعَل جوابَ القسَمِ (القَوْلَ) في لَيَقُولَنَّ؛ للإشارةِ إلى أنَّه تبَجُّحٌ وتَفاخُرٌ؛ فالخبَرُ في قولِه: ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي مُستعمَلٌ في الازْدِهاءِ والإعجابِ؛ وذلك هو مُقتَضى زيادةِ عَنِّي مُتعلِّقًا بـ ذَهَبَ؛ للإشارةِ إلى اعْتِقادِ كلِّ واحدٍ أنَّه حَقيقٌ بأن تَذهَبَ عنه السَّيِّئاتُ غُرورًا منه بنَفسِه، كما في قولِه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت: 50] .

- وجملةُ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للتَّعجُّبِ مِن حالِه، وفَرِحٌ وفَخُورٌ مِن أوزانِ المبالَغةِ، أي: لَشَديدُ الفرَحِ، شَديدُ الفَخرِ .

- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا في سورةِ هودٍ: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 10] ، وقال في سورةِ فُصِّلَت: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [فصلت: 50] ؛ ففيه زيادةُ (مِنَّا) وزيادةُ (مِن) في سورةِ فُصِّلَت عمَّا في سورةِ هودٍ؛ ووجهُ ذلك أنَّه لم يَرِد في هودٍ ما يَستَدعي تلك الزِّيادةَ، وأمَّا سورةُ فُصِّلَت فتقدَّم فيها قولُه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي [فصلت: 47] ؛ قَطعًا بهم، وتَنبيهًا على سوءِ مُرتَكَبِهم، وقد عايَنوا الحقَّ، وضلَّ عنهم ما كانوا يَدَّعون مِن قَبلُ مِن شُركاءِ اللهِ سبحانه، وأيقَنوا وعَلِموا أنَّه لا مَحيصَ لهم ولا مَفرَّ؛ فلمَّا تَقدَّم ذِكْرُ الشُّرَكاءِ قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا [فصلت: 50] ، فنَبَّه تعالى بقولِه: مِنَّا على أنْ لا شَريكَ له، ولا مُعطِيَ غيرُه، وأنَّه لا يأتي العبدَ شيءٌ مِن أحَدٍ سِواه سُبحانه. ولَمَّا لم يتَقدَّمْ في سورةِ هودٍ ذِكرٌ لذلك لم يَرِد فيها التَّنبيهُ بقولِه: مِنَّا. وأمَّا زيادةُ: (مِن) في قولِه: مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ [فصلت: 50] ؛ فمُناسِبٌ لإطنابِ هذا الغرَضِ في هذه السُّورةِ؛ فناسَب ذلك الزِّيادةَ، ولإيجازِ هذا القصدِ في سورةِ هودٍ ناسَبَه سُقوطُ (مِن)؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ .

وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه في سورةِ فُصِّلَت بيَّن تعالى جِهةَ الرَّحمةِ، بقولِه: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ [فصلت: 49] ؛ فناسَب ذِكْرُ مِنَّا، وحَذَفَه هنا اكتفاءً بقولِه قبلُ: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً [هود: 9] ، وزاد (مِن) في سورةِ فُصِّلَت؛ لأنَّه لَمَّا حدَّ الرَّحمةَ وجِهَتَها حدَّ الظَّرْفَ بعْدَها؛ لِيَتَشاكَلا في التَّحديدِ، وهنا لَمَّا لم يَذكُرِ الأوَّلَ، لم يَذكُرِ الثَّانيَ لِيَتَشاكَلا .

=================================

 

سورة هود

الآيات (12-14)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: فلعلَّك- أيُّها الرَّسولُ- تارِكٌ بعضَ ما يُوحَى إليك ممَّا أنزَلَه اللهُ عليك، وأمَرَك بتبليغِه، وضائِقٌ به صَدرُك؛ خَشيةَ أن يطلُبوا منك بعضَ المَطالبِ على وجهِ التَّعنُّتِ، كأنْ يقولوا: لولا أُنزِلَ عليه مالٌ كثيرٌ، أو جاء معه ملَكٌ يصَدِّقُه في رسالتِه، فبَلِّغْهم ما أوحيتُه إليك؛ فإنَّه ليس عليك إلَّا الإنذارُ بما أُوحيَ إليك، واللهُ على كلِّ شَيءٍ حَفيظٌ، يدَبِّرُ جميعَ شُؤونِ خَلقِه. بل أيقولُ هؤلاء المُشرِكونَ: إنَّ مُحمدًا قد افترى هذا القُرآنَ؟ قلْ لهم: إن كان الأمرُ كما تَزعمونَ، فأْتُوا بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُفتَرَياتٍ، وادعُوا من استطعتُم مِن جميعِ خَلقِ الله؛ لِيُساعِدوكم على الإتيانِ بهذه السُّوَر العَشرِ، إنْ كنتُم صادقينَ في دَعواكم. فإن لم يَأتوا بمُعارضةِ ما دَعَوْتُموهم إليه، فأيقِنوا أنَّما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِ الله، مشتملًا على عِلْمه، ومُتَضَمِّنًا أمرَه وَنَهْيَه، وأيقِنوا أنْ لا إلهَ يُعبَدُ بحَقٍّ إلَّا اللهُ، فهل أنتم- بعد قيامِ هذه الحُجَّةِ عليكم- مُسلِمونَ مُنقادونَ لله ورَسولِه؟

تفسير الآيات:

 

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا تفريعٌ على قَولِه تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ إلى قَولِه يَسْتَهْزِئُونَ مِن ذِكرِ تَكذيبِهم وعِنادِهم، ويشيرُ هذا التَّفريعُ إلى أنَّ مَضمونَ الكلامِ المفَرَّعِ عليه سببٌ لِتَوجيهِ هذا التوقُّعِ؛ لأنَّ مِن شأنِ المفَرَّعِ عليه اليأسُ من ارعوائِهم لتكَرُّرِ التَّكذيبِ والاستهزاءِ يأسًا قد يبعَثُ على تَركِ دُعائِهم

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا استثنى اللهُ تعالى مِن الجارينَ مع الطَّبعِ، الطَّائِشينَ في الهَوى، مَن تحلَّى برَزانةِ الصَّبرِ النَّاشئِ عن وَقارِ العِلمِ، المُثمرِ لصالحِ العمَلِ، وكان صلَّى الله عليه وسلم رأسَ الصَّابرينَ، وكان ما مضى مِن أقوالِهم وأفعالِهم ربَّما كان مَظِنَّةً لرَجائِهم تَرْكَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعضَ ما يُوحى إليه؛ مِن عَيبِ آلهتِهم، وتضليلِ آبائِهم، وتسفيهِ أحلامِهم، وغيرِ ذلك ممَّا يشُقُّ عليهم؛ طمعًا في إقبالِهم أو خوفًا من إدبارِهم- قال تعالى مسبِّبًا عن ذلك، ناهيًا في صيغةِ الخَبِر :

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ.

أي: فلعلَّك- يا مُحمَّدُ- تاركٌ تبليغَ قَومِك بعضَ ما أوحَى اللهُ إليك مِن القُرآنِ، وضائِقٌ صَدرُك بما أمَرَك اللهُ أن تبَلِّغَهم؛ كراهةَ أن يقولَ المُشرِكونَ: لولا أنزَلَ اللهُ عليه كنزًا، أو جاء معه ملَكٌ؛ لنؤمِنَ بأنَّه رَسولُ الله، فاصبِرْ على تكذيبهِم، واستمِرَّ في دَعوتِهم .

كما قال تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 2] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر: 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] .

وقال جلَّ جلاله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 73-74] .

وقال تبارك وتعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90-93] .

وقال عزَّ من قائل: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا [الفرقان: 7-9] .

وقال سبحانه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60] .

إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ.

أي: إنَّما أنت- يا محمَّدُ- نذيرٌ لقَومِك تُنذِرُهم عِقابي، وليس عليك أن تأتيَهم بما يقتَرِحونَه مِن الآياتِ .

وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

أي: واللهُ على كُلِّ شَيءٍ قيِّمٌ، بِيَدِه تدبيرُ الأمورِ، وهو حافِظٌ يحفَظُ أعمالَ عبادِه، ويُجازيهم بها .

كما قال تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر: 62] .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ القَومَ لَمَّا طَلَبوا من النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُعجِزَ؛ قال: مُعجزي هذا القُرآنُ، ولَمَّا حصل المُعجِزُ الواحِدُ، كان طلَبُ الزيادةِ بَغيًا وجهلًا، ثم قرَّرَ كَونَه مُعجِزًا بأنْ تحدَّاهم بالمُعارَضةِ .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.

أي: بل أيقولُ المُشرِكونَ: افترى محمَّدٌ القُرآنَ، وليس هو مِن عندِ اللهِ ؟!

قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ.

أي: قل لهم- يا مُحمَّدُ-: فإن كنتُ افتريتُ القُرآنَ كما تَزعُمونَ، فأْتُوا أنتم بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُختَلَقاتٍ مِن عندِ أنفُسِكم .

وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.

أي: وادعُوا- أيُّها المُشرِكونَ- مَنْ تستَطيعونَ دَعوتَه، من الإنسِ والجِنِّ، وآلهتِكم المزعومةِ؛ لِيُعينَكم على اختلاقِ عَشرِ سُوَرٍ مِن القُرآنِ، إن كنتُم صادقينَ في أنِّي افتريتُ هذا القُرآنَ .

فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا كان أدنَى دَرَجاتِ الافتراءِ إتيانَ الإنسانِ بكلامِ غَيرِه من غيرِ عِلمِه، وكان عَجزُهم عن المُعارَضةِ دليلًا قاطعًا على أنَّهم لم يَصِلوا إلى شيءٍ مِن كَلامِه تعالى بغيرِ عِلمِه، ولا وجَدوا مُكافِئًا له يأتيهم بمِثلِه- ثبت قطعًا أنَّ هذا القرآنَ غيرُ مُفترًى، فقال تعالى مُخاطبًا للجميعِ إشارةً إلى وضوحِ الأمرِ- لا سيَّما في الافتراءِ عند كلِّ أحدٍ- وأنَّ المُشرِكينَ قد وصَلوا من ذلِّ التَّبكيتِ بالتَّحدِّي مَرَّةً بعد مَرَّة، وزورِهم لأنفُسِهم في ذلك المضمارِ كَرَّةً في إثرِ كَرَّة، إلى حدٍّ مِن العَجزِ لا يَقدِرونَ معه على النُّطقِ في ذلك ببِنتِ شَفةٍ ، قال:

فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ.

أي: فإن لم يَأتوا بمُعارضةِ ما دَعَوْتُموهم إليه فاعْلَموا وأيقِنوا أنَّما أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عندِ الله، مشتملًا على عِلْمه، ومُتَضَمِّنًا أمرَه وَنَهْيَه، واعلَموا أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ وَحدَه .

كما قال تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] .

فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ.

أي: فهل أنتم- أيُّها المُشرِكونَ- مُستَسلِمونَ لله بالتَّوحيدِ، مُنقادونَ له بالطَّاعةِ، بعد ثُبوتِ الحُجَّةِ عليكم بعَجزِكم عن الإتيانِ بمِثلِ هذا القرآنِ، وتحَقُّقِكم أنَّه مِن عندِ الله

 

؟

كما قال الله سبحانه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] .

الفوائد التربوية :

 

قال الله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ في هذه الآياتِ إرشادٌ إلى أنَّه لا ينبغي للدَّاعي إلى اللهِ أن يَصُدَّه اعتراضُ المُعتَرضينَ، ولا قَدحُ القادحينَ- خصوصًا إذا كان القَدحُ لا مُستنَدَ له، ولا يَقدَحُ فيما دعا إليه- وأنَّه لا يَضيقُ صَدرُه، بل يطمئِنُّ بذلك، ماضيًا على أمرِه، مُقبِلًا على شأنِه، وأنَّه لا يجِبُ إجابةُ اقتراحاتِ المُقتَرحينَ للأدلَّةِ التي يختارونَها؛ بل يكفي إقامةُ الدَّليلِ السَّالمِ عن المُعارِضِ، على جميعِ المَسائلِ والمَطالبِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ لَمَّا كان المُوحَى به قد صار معلومًا لهم- وإن نازعوا فيه- بنى للمَفعولِ قَولَه: يُوحَى إِلَيْكَ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ بَنَوه للمَفعولِ؛ لأنَّ المَقصودَ مُطلَقُ حُصولِه .

3- في قَولِه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ إلى قَولِه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ دلالةٌ على ثبوتِ الرِّسالةِ والقُرآنِ والتَّوحيدِ، ووجهُ ذلك: أنَّه لَمَّا تحدَّاهم سُبحانه بالإتيانِ بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه مُفتَرياتٍ- هم وجميعَ مَن يستطيعونَ مِن دونِه- فكان في مضمونِ تحدِّيه أنَّ هذا لا يقْدِرُ أحدٌ على الإتيان بمِثلِه مِن دونِ اللهِ، كما قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وحينئذٍ فَعُلِمَ أنَّ ذلك مِن خصائصِ مَن أَرسلَه اللهُ، وما كان مختصًّا بنوعٍ فهو دليلٌ عليه؛ فإنَّه مُستلزِمٌ له، وكلُّ مَلزومٍ دليلٌ على لازِمِه- كآياتِ الأنبياء كلِّها؛ فإنَّها مختصَّةٌ بجِنسِهم- وهذا القرآنُ مختصُّ بجِنسِهم، ومِن بينِ الجنسِ خاتَمُهم ،لا يمكِنُ أن يأتيَ به غيرُه، وكان ذلك برهانًا بَيِّنًا على أنَّ اللهَ أنزله؛ وأنَّه نَزلَ بعِلمِ الله، فهو الذي أخبرَ بخبَرِه، وأمرَ بما أمرَ به، كما قال سُبحانه: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] ، وثبوتُ الرسالةِ ملزومٌ لثبوتِ التَّوحيدِ؛ وأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، مِن جهة أنَّ الرسولَ أخبرَ بذلك، ومِن جهةِ أنَّه لا يقدِرُ أحدٌ على الإتيانِ بهذا القرآنِ إلَّا اللهُ، فإنَّ مِن العِلمِ ما لا يعلَمُه إلَّا اللهُ .

4- في قَولِه تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ لم يُكَلِّفْهم نَفْسَ الإحداثِ، بل طالَبَهم بالإتيانِ بمِثلِه، إمَّا إحداثًا، وإمَّا تبليغًا عن اللهِ أو عن مخلوقٍ. والإتيانُ بالشَّيءِ: جَلبُه، سواءٌ كان بالاسترفادِ مِن الغَيرِ أم بالاختراعِ مِن الجالبِ، وهذا توسِعةٌ عليهم في التَّحدِّي؛ ليُظْهِرَ عجزَهم مِن جميعِ الجِهاتِ .

5- قَولُ الله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ وَصفٌ لـ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ونكتةُ ذِكرِ هذا الوَصفِ: التَّذكيرُ بأنَّهم أنكَروا أن يكونَ مِن عندِ اللهِ، فلمَّا عمَّم لهم في الاستعانةِ بمَن استطاعوا، أكَّدَ أنَّهم دونَ اللهِ تعالى، فإن عَجَزوا عن الإتيانِ بعَشرِ سُورٍ مِثلهِ- مع تمكُّنِهم من الاستعانةِ بكُلِّ مَن عدا اللهَ- تبيَّن أنَّ هذا القرآنَ مِن عندِ الله تعالى .

6- قول الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فيه أنَّ هذا القُرآنَ مُعجِزٌ بنَفسِه، لا يَقدِرُ أحدٌ مِن البَشَرِ أن يأتيَ بمِثلِه، ولا بعَشرِ سُوَرٍ مِن مِثلِه، بل ولا بسُورةٍ مِن مِثلِه؛ لأنَّ الأعداءَ البُلَغاءَ الفُصَحاءَ تحدَّاهم اللهُ بذلك، فلم يُعارِضوه؛ لعِلمِهم أنَّهم لا قُدرةَ فيهم على ذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.

- قولُه تعالى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، التَّوقُّعُ المستَفادُ مِن (لعلَّ) مُستعمَلٌ في تحذيرِ مَن شأنُه التَّبليغُ، وعلى القول بتَقديرِ استِفْهامٍ حُذِفَت أداتُه، والتَّقديرُ: ألَعلَّك تارِكٌ؟! فيكونُ الاستفهامُ مُستعمَلًا في النَّفْيِ للتَّحذيرِ

.

- قولُه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ... فيه اختيارُ التَّعبيرِ بـ ضَائِقٌ بدلَ (ضيِّقٌ)؛ لِمُوافَقةِ قولِه قبلَه: تَارِكٌ، ولِيَدُلَّ على أنَّه ضِيقٌ عارِضٌ لا ثابتٌ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم كان أوْسَعَ النَّاسِ صدرًا، ونظيرُه قولُ القائِلِ: زيدٌ سائدٌ وجائدٌ، يُريدُ به أنَّه حَدَثَ فيه السِّيادةُ والجودُ، فإنْ أُرِيدَ وصْفُه بثُبوتِهما، قيل: زيدٌ سيِّدٌ وجَوَادٌ .

- قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ في موقِعِ العِلَّةِ للتَّحذيرِ مِن ترْكِه بعْضَ ما يُوحى إليه، وضِيقِ صَدْرِه مِن مَقالَتِهم؛ فكأنَّه قيل: لا تَترُكْ إبلاغَهم بعْضَ ما يُوحَى إليك، ولا يَضِقْ صدْرُك مِن مَقالِهم؛ لأنَّك نذيرٌ، لا وكيلٌ على تَحصيلِ إيمانِهم؛ حتَّى يتَرتَّبَ على يَأسِك مِن إيمانِهم ترْكُ دعوتِهم .

- والقَصْرُ فيه بـ إِنَّمَا قصرٌ إضافيٌّ؛ أي: أنتَ نذيرٌ، لا موكَّلٌ بإيقاعِ الإيمانِ في قُلوبِهم؛ إِذْ ليس ذلك إليكَ بل هو للَّه .

- واقتصَرَ على النِّذارةِ؛ لأنَّ المقامَ يقتضيها؛ من أجلِ أنَّهم أهلٌ لها .

- وجملةُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ تذييلٌ لقولِه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ، وهي مَعطوفةٌ على جملةِ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ؛ لِما اقتَضاه القَصرُ مِن إبطالِ أن يَكونَ وَكيلًا على إلجائِهم للإيمانِ، ومِمَّا شَمِلَه عُمومُ كُلِّ شَيْءٍ أنَّ اللهَ وكيلٌ على قلوبِ المكذِّبين، وهم المقصودُ، وإنَّما جاء الكلامُ بصِيغةِ العُمومِ؛ لِيَكونَ تَذييلًا، وإتيانًا للغرَضِ بما هو كالدَّليلِ .

- ولَمَّا كان السِّياقُ لإحاطتِه سُبحانه، قدَّمَ قولَه: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ .

2- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ

- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الاستفهامُ إنكاريٌّ  للتَّوبيخِ والإنكارِ والتَّعجُّبِ، والتَّقديرُ: بل أيَقولون: افتَراه؟! والإضرابُ بقولِه: أَمْ إضرابٌ انتِقاليٌّ في قُوَّةِ الاستئنافِ الابتدائيِّ، فلِلجُملَةِ حُكمُ الاستئنافِ، والمناسَبةُ ظاهرةٌ؛ لأنَّ الكلامَ في إبطالِ مَزاعِمِ المشرِكين- فإنَّهم قالوا: هذا كلامٌ مُفتَرًى- وقَرْعِهم بالحُجَّةِ .

- قولُه: بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ، مِثْلِه أي: أمثالِه، وعُبِّر بالمُفردِ إمَّا باعتبارِ مُماثَلةِ كلِّ واحدٍ منها، أو لأنَّ المطابقةَ ليسَت بشَرطٍ حتَّى يُوصَف المثنَّى بالمفرَدِ، كما في قولِه تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا، أو للإيماءِ إلى أنَّ وجهَ الشَّبَهِ ومَدارَ المماثلةِ في الجميعِ شيءٌ واحدٌ؛ هو البلاغةُ المؤدِّيةُ إلى مَرتَبةِ الإعجازِ، فكأنَّ الجميعَ واحدٌ .

- وقولُه: مُفْتَرَيَاتٍ صِفةٌ أُخرَى لـ سُوَرٍ، وأُخِّرَت عن وصْفِها بالمماثَلةِ لِما يُوحَى؛ لأنَّ المماثلةَ هي الصِّفةُ المقصودةُ بالتَّكليفِ؛ إذْ بها يَظهَرُ عجزُهم وقُعودُهم عن المعارَضةِ، وأمَّا وصفُ الافتراءِ فلا يتَعلَّقُ به غرَضٌ يَدورُ عليه شيءٌ في مَقامِ التَّحدِّي، وإنَّما ذُكِر على نَهْجِ المُساهَلةِ، وإرخاءِ العِنانِ، ولأنَّه لو عُكِس التَّرتيبُ لرُبَّما تُوُهِّم أنَّ المرادَ هو المماثلةُ في الافتراءِ .

- وجوابُ الشَّرطِ في قولِه: إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ المذكورِ عليه، وهو قولُه: فَأْتوا بعَشْرِ سُوَرٍ، ووجهُ الملازَمةِ بينَ الشَّرطِ وجَزائِه أنَّه إذا كان الافتراءُ يأتي بهذا القرآنِ؛ فما لكم لا تَفتَرون أنتم مِثلَه، فتَنهَضَ حُجَّتُكم ؟!

3- قولُه تعالى: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

- قولُه: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ تفريعٌ على وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، والاستجابةُ: الإجابةُ، والسِّينُ والتَّاءُ فيه للتَّأكيدِ .

- قولُه: لَكُمْ فَاعْلَمُوا فيه جمعُ الخطابِ بعدَ إفرادِه في قولِه: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ؛ إشارةً إلى أنَّ مَعْناه: فإنْ لَم يَستَجيبوا لك وللمُؤمِنين؛ لأنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم والمؤمنين كانوا يَتَحَدَّوْنهم ، أو لأنَّهم أتباعٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأمْرِ بالتَّحدِّي، وفيه تنبيهٌ لطيفٌ على أنَّ حقَّهم أنْ لا يَنفَكُّوا عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُناصِبوا معه لِمُعارَضةِ المعارِضينَ كما كان يَفعَلونه في الجِهادِ، وإرشادٌ إلى أنَّ ذلك ممَّا يُفيدُ الرُّسوخَ في الإيمانِ، والطُّمأنينةَ في الإيقانِ، ولذلك رُتِّب عليه قولُه عزَّ وجلَّ: فَاعْلَمُوا... .

- وعلى القول بأنَّ المعنى: فإن لم تستَجِبْ لكم آلهتُكم، وسائرُ مَنْ إليهم تَجْأَرون في مُهِمَّاتِكم ومُلِمَّاتِكم إلى المعاوَنةِ والمظاهَرَةِ؛ فاعلَموا أنَّ ذلك خارِجٌ عن دائرةِ قُدْرةِ البشَرِ، وأنَّه مُنزَّلٌ مِن خالِقِ القُوى والقُدَرِ؛ فيكونُ إيرادُ كَلِمةِ الشَّكِّ حينَئذٍ مع الجزْمِ بعدَمِ الاستجابةِ من جِهَةِ آلهتِكم تَهكُّمًا بهم، وتَسجيلًا عليهم بكمالِ سَخافةِ العقلِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا بحَذفِ النُّونِ والجَمعِ، وأمَّا في سورةِ القَصصِ فقال: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ [القصص: 50] على الواحِدِ؛ ووجهُ جمعِ الخِطابِ هاهنا وتوحيدِه في القصَصِ: أنَّ ما في هذه السُّورةِ خِطابٌ للرَّسولِ وللمؤمنِينَ، ويجوز أنْ يكون الجمعُ لتَعظيمِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: لأنَّه خِطابٌ للكفَّارِ، والفعلَ يَعودُ لـ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ- على أحد أوجه التفسير- وأمَّا ما في القَصصِ فهو خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، والفِعلُ للكفَّارِ .

- والفاءُ في فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ للتَّفْريعِ على فَاعْلَمُوا، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في الحثِّ على الفعلِ وعدَمِ تأخيرِه، والمعنى: فهل تُسْلِمون بعدَ تَحقُّقِكم أنَّ هذا القرآنَ مِن عندِ اللهِ ؟ وقيل: قَولُ الله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: أسلِموا، وفي مثلِ هذا الاستفهامِ إيجابٌ بليغٌ؛ لِما فيه مِن معنى الطَّلَبِ، والتنبيهِ على قيامِ المُوجِبِ، وزوالِ العُذرِ .

- وجِيءَ بالجملةِ الاسميَّةِ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ الدَّالةِ على دَوامِ الفعلِ وثَباتِه؛ لِتَأكيدِ الطَّلَبِ لهذا الوصفِ؛ فإنَّ الجملةَ الاسميَّةَ أدَلُّ على حُصولِ المطلوبِ وثُبوتِه، وهو أدَلُّ على طلَبِه، ولَم يَقُلْ: (فهَل تُسلِمون)؛ لأنَّ حالةَ عدَمِ الاستجابةِ تُكسِبُ اليقينَ بصِحَّةِ الإسلامِ، فتَقْتَضي تَمكُّنَه مِن النُّفوسِ، وذلك التَّمكُّنُ تَدُلُّ عليه الجملةُ الاسميَّةُ .

==================================================

 

سورة هود

الآيات (15-17)

ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

 

نُوَفِّ إِلَيْهِمْ: أي: نُوصِلْها إليهم وافيةً كاملةً، وأصلُ (وفي): يدلُّ على إكمالٍ وإتمامٍ

.

يُبْخَسُونَ: أي: يُنقصونَ، والبخسُ: نقصُ الشيءِ على سبيلِ الظُّلم، وأصلُ (بخس): النَّقصُ .

مِرْيَةٍ: أي: شكٍّ، وقيل: المريةُ: التردُّدُ في الأمرِ، وهو أخصُّ مِن الشكِّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ سُبحانه سوءَ مَصيرِ الذين لا يُريدونَ بأقوالِهم وأعمالِهم وجهَ اللهِ تعالى، فيقولُ: من كان يُريدُ بعَمَلِه الحياةَ الدُّنيا ومُتَعَها، نُعطِهم ما قُسِمَ لهم مِن ثوابِ أعمالِهم في الحياةِ الدُّنيا، كاملًا غيرَ مَنقوصٍ، أولئك ليس لهم في الآخرةِ إلَّا نارُ جهنَّمَ، يُقاسونَ حَرَّها، وذهَب عنهم نَفْعُ ما عَمِلوه، وباطلٌ ما كانوا يعملون مِن الخيرِ؛ لأنَّه لم يكُن لِوَجهِ الله.

ثم يقولُ تعالى: أفمَن كان على بينةٍ مِن رَبِّه، ويَتْبَعُه شاهِدٌ آخَرُ مِن اللهِ، يوافِقُ هذه البينةَ ويَتْبَعُها- وهو القُرآن- وشاهِدٌ آخَرُ مِن قَبلِ القرآنِ، وهو التَّوراةُ- الكتابُ الذي أُنزِلَ على موسى إمامًا ورحمةً لِمَن آمن به- كمن كان همُّه الحياةَ الفانيةَ بزِينتِها؟ أولئك يصدِّقونَ بهذا القُرآنِ، ويَعمَلونَ بأحكامِه، ومَن يكفُرْ بهذا القرآنِ مِن الذين تحزَّبوا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فجزاؤه النَّارُ يَرِدُها لا محالةَ، فلا تكُنْ- أيُّها الرَّسولُ- في شَكٍّ مِن أمرِ القُرآنِ، وكَونِه مِن عندِ الله تعالى بعد ما شَهِدَت بذلك الأدلَّةُ والحُجَجُ، واعلَمْ أنَّ هذا القرآنَ هو الحَقُّ مِن ربِّك، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمنونَ بأنَّه حَقٌّ مِن عندِ الله؛ عنادًا واستكبارًا.

تفسير الآيات:

 

مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان ما سبق فيه مِن الحَثِّ على الثَّباتِ على الإسلامِ والدُّخولِ فيه، والوعيدِ على التقاعُسِ عنه ما مِن حَقِّ السَّامِعِ أن يُبادِرَ إليه، وكان حقُّ المُسلِمِ الإعراضَ عن الدُّنيا؛ لسُوءِ عاقِبتِها، وكان أعظَمُ الموانِعِ للمُشرِكينَ مِن التَّصديقِ استيلاءَ أحوالِ الدُّنيا عليهم، ولذلك تعنَّتوا بالكَنزِ- أشار هنا إلى عواقبِ ذلك

.

وأيضًا فإنَّه بعدَ أن قامت الحُجَّةُ القَطعيَّةُ على إعجازِ القُرآنِ، وحقِّيَّةِ دعوةِ الإسلامِ، بما يقطَعُ ألسِنةَ المُفتَرينَ، ويُبطِلُ مَعاذيرَهم؛ بيَّن لهم في هذه الآيةِ والتي تليها الصَّارِفَ النَّفسيَّ لهم عنه، وكونَه شَرًّا لهم لا خيرًا، وهو أنَّه لا حَظَّ لهم من حياتِهم إلَّا شَهواتُ الدُّنيا وزِينتُها، والإسلامُ يَدعوهم إلى إيثارِ الآخرةِ على الأُولَى .

مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا.

أي: من كان يَقصِدُ بسَعيِه وأعمالِه الصَّالحةِ الحياةَ الدُّنيا وزِينَتَها، نُعطِه ثوابَ أعمالِه فيها كامِلًا، كسَعةِ الرِّزقِ، ودَفعِ المَكارِه وغيرِ ذلك .

كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء: 18] .

وقال سُبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] .

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يَظلِمُ مُؤمِنًا حَسَنةً؛ يُعطَى بها في الدُّنيا، ويُجزَى بها في الآخرةِ، وأمَّا الكافِرُ فيُطعَمُ بحَسَناتِ ما عَمِلَ بها لله في الدُّنيا، حتى إذا أفضَى إلى الآخرةِ لم تكُن له حَسَنةٌ يُجزى بها) ) .

وعن أبي هريرة رضي اللهُ عنه، أنَّ رسول اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ أولَ الناسِ يُقضى يومَ القيامَةِ عليه، رجُلٌ استُشهِد، فأتى به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فِيكَ حتى استُشهِدتُ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ قاتَلتَ لِأَنْ يُقالَ: جَريءٌ. فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه حتى أُلقِيَ في النارِ. ورجُلٌ تعلَّم العِلمَ وعلَّمه، وقرَأ القرآنَ، فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه، وقرَأتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ تعلَّمتَ العِلمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقرَأتَ القُرآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقِي في النارِ. ورجُلٌ وسَّع اللهُ عليه، وأعطاه مِن أصنافِ المالِ كلِّه، فأتَى به فعرَّفه نِعَمَه فعرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: ما ترَكتُ مِن سبيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلَّا أنفَقتُ فيها لكَ، قال: كذَبتَ، ولكنَّكَ فعَلتَ لِيُقالَ هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أمَر به فسُحِب على وجهِه، ثم أُلقِي في النارِ )) .

وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ.

أي: ولا يَنقُصُهم اللهُ ثوابَ أعمالِهم الصَّالحةِ في الدُّنيا .

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى حال من يريدُ الحياةَ الدُّنيا في الدُّنيا؛ بيَّنَ حالَهم في الأُخرَى ، فقال:

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ.

أي: أولئك الذين يُريدونَ بأعمالِهم الصَّالحةِ الحياةَ الدُّنيا وزِينتَها، لا يكونُ لهم في الآخرةِ إلَّا النَّارُ، فيصلَونَها .

عن أُبيِّ بنِ كعبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بشِّرْ هذه الأُمَّةَ بالسَّناءِ والرِّفعةِ، والدِّينِ والنَّصرِ، والتَّمكينِ في الأرضِ، فمَن عَمِلَ منهم عمَلَ الآخرةِ للدُّنيا، لم يكُن له في الآخرةِ نَصيبٌ )) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من تعلَّم عِلمًا ممَّا يُبتَغَى به وجهُ الله، لا يتعلَّمُه إلَّا ليُصيبَ به عرَضًا منَ الدُّنيا؛ لم يجِدْ عَرْفَ الجنَّةِ يومَ القيامةِ)) يعني: رِيحَها .

وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا.

أي: وذهبَ وبطَلَ ما عَمِلوا من الأعمالِ الصَّالحةِ في الدُّنيا، فلا يُثابون عليها في الآخرةِ .

وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.

أي: وباطلٌ ما كانوا يعملونَه مِن الخيرِ لغَيرِ اللهِ، فلا ينفَعُهم عندَ الله .

عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه، قال: سمعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّةِ، وإنَّما لامرئٍ ما نوى، فمن كانت هِجرتُه إلى اللهِ ورَسولِه فهِجرتُه إلى الله ورسولِه، ومن كانت هِجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأةٍ يتزَوَّجُها فهِجرتُه إلى ما هاجرَ إليه )) .

أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

تعَلُّقُ هذه الآيةِ بما قَبلَها ظاهِرٌ، فالتَّقديرُ: أفمَن كان على بيِّنةٍ مِن ربِّه، كمَن يريدُ الحياةَ الدُّنيا وزينَتَها وليس لهم في الآخرةِ إلَّا النَّارُ، إلَّا أنَّه حُذِف الجوابُ لِظُهورِه .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى حالَ من يريدُ الحياةَ الدُّنيا، ذكَرَ حالَ مَن يريدُ وَجهَ اللهِ تعالى بأعمالِه الصَّالحةِ .

وأيضًا لَمَّا اتَّضَحت الحُجَجُ، وانتهَضَت الدَّلائلُ، كان ذلك موضِعَ الإنكارِ على مَن يُسَوِّي بينَ المُهتَدي والمُعتَدي .

أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ.

أي: أفمَن كان على بيَّنةٍ مِن رَبِّه، ويَتبَعُه شاهِدٌ آخَرُ مِن اللهِ يوافِقُ هذه البينةَ ويَتْبَعُها، وهو القرآنُ الذي شَهِدَ اللهُ فيه بِمْثلِ ما عليه المؤمِنُ من بيِّنةٍ .

وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً.

أي: وشاهدٌ آخَرُ مِن قَبلِ القُرآنِ، وهو التَّوراةُ التي أنزَلَها اللهُ على نبيِّه موسى إمامًا لبني إسرائيلَ؛ يَأْتمُّونَ بها ويَتَّبِعونها، ورحمةً مِن الله بهم .

أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ.

أي: أولئك الذين على بيِّنةٍ من ربِّهم يُؤمِنونَ بالقُرآنِ حقًّا .

كما قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ [الأنعام: 92] .

وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ.

أي: ومَن يكفُرْ بالقُرآنِ مِن أهلِ المِلَلِ كُلِّها، فالنَّارُ مَوعِدُه يومَ القيامةِ، فيكونُ مِن أهلِها .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((والذي نفسُ محمَّدٍ بِيَدِه، لا يسمَعُ بي أحدٌ مِن هذه الأمَّةِ يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ، ثمَّ يموتُ ولم يؤمِنْ بالذي أُرسِلتُ به، إلَّا كان من أصحابِ النَّارِ) ) .

فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ.

أي: فلا تكنْ في شكٍّ- يا محمَّدُ- مِن أنَّ القرآنَ مُنزَّلٌ مِن عندِ اللهِ، وأنَّ مَن كذَّب به فالنَّارُ مَوعِدُه .

كما قال تعالى: الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة: 1-2] .

إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ.

أي: إنَّ القرآنَ الذي أنزَلْناه إليك- يا محمَّدُ- حقٌّ من عندِ رَبِّك، لا شكَّ في ذلك .

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بأنَّ القُرآنَ حقٌّ مِن عندِ اللهِ، إمَّا جهلًا وتقليدًا للمَتبوعينَ، وإمَّا عِنادًا واستكبارًا

 

.

كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] .

وقال سُبحانَه: المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1] .

الفوائد التربوية :

 

1- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ دَلالةٌ على أنَّ مَن كانتِ الدُّنيا مُرادَه ولها يَعمَلُ، وهي غايةُ كَدْحِه؛ لم يكنْ له في الآخرةِ نَصيبٌ، ومَن كانتِ الآخرةُ مرادَه ولها عمَلُه، وهي غايةُ سَعيِه؛ فهي له

.

2- في قَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ دَلالةٌ على أنَّ الناويَ الجازِمَ، الآتيَ بما يُمكِنُه؛ فإنَّه بمنزلةِ الفاعلِ التَّامِّ، وقد دلَّ قولُه: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا، وقولُه: وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ على أنَّه كان لهم أعمالٌ بطلتْ، وعُوقِبوا على أعمالٍ أُخرَى عمِلوها، وأنَّ الإرادةَ هنا مستلزمةٌ للعملِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- لما كان الذي يمنعُ الإنسانَ مِن اتباعِ الرسولِ شيئانِ: إمَّا الجهلُ، وإمَّا فسادُ القصدِ؛ ذكَر ما يزيلُ الجهلَ، وهو الآياتُ الدالةُ على صدقِه، بقولِه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه... ثمَّ ذكَر أهلَ فسادِ القصدِ بقولِه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ... فهؤلاء أهلُ فسادِ القصدِ، فهذان الأمرانِ هما المانعانِ للخلقِ مِن اتباعِ هذا الرسولِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ قال بعضُ العُلَماءِ: معنى هذه الآيةِ قَولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّاتِ )) ، وفيها دلالةٌ على أنَّ مَن صام في رمضانَ لا عن رمضانَ، لا يقَعُ عن رَمَضانَ، وعلى أنَّ من توضَّأَ للتبَرُّدِ والتنظُّفِ، لا يقَعُ قُربةً عن جهةِ الصَّلاةِ، وهكذا كلُّ ما كان في معناه .

3- قولُه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ بَيِّنَةٍ أي: هُدَى الإيمانِ، وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ أي: القرآنُ شاهدٌ مِن الله يُوافقُ الإيمانَ ويتبعُه؛ لذا قال: (يَتْلُوهُ)؛ لأنَّ الإيمانَ هو المقصودُ؛ لأنَّه إنَّما يُراد بإنزالِ القرآنِ الإيمانُ وزيادتُه، ولهذا كان الإيمانُ بدونِ قراءةِ القرآنِ ينفعُ صاحبَه، ويدخلُ به الجنةَ، والقرآنُ بلا إيمانٍ لا ينفعُ في الآخرةِ، بل صاحبُه منافقٌ .

4- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً لَمَّا كان كتابُ موسى سببًا للرَّحمةِ، أطلَق اسمَ الرَّحمةِ عليه إطلاقًا لاسم ِالمُسبَّبِ على السَّبَبِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ قال بعضُ العُلَماءِ: لَمَّا دلَّت الآيةُ على أنَّ من يكفُر به كانت النَّارُ مَوعِدَه، دلَّ على أنَّ مَن لا يكفُر به كانت الجنَّةُ مَوعِدَه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ

- قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا فيه إدخالُ (كان) عليه؛ للدَّلالةِ على استِمْرارِها منهم بحيثُ لا يَكادون يُريدون الآخِرةَ أصلًا

، وفِعلُ الشَّرطِ في المَقامِ الخِطابيِّ يُفيدُ اقتِصَارَ الفاعِلِ على ذلك الفِعْلِ، فالمعنى: مَن كان يُريدُ الحياةَ الدُّنْيا فقَط؛ بقرينةِ قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ؛ إذْ حصَر أمْرَهم في استحقاقِ النَّارِ، وهو مَعْنى الخلودِ ، وهذا على أحدِ القولينِ في الآيةِ.

- قولُه تعالى: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا فيه إطلاقُ الأعمالِ في أَعْمَالَهُمْ وإرادةُ ثَمراتِها؛ فالمعنى: نُوصِلُ إليهم ثَمراتِ أعمالِهم في الحياةِ الدُّنيا كامِلةً .

- وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ فيه التَّعبيرُ عن النَّقصِ بالبَخْسِ- حيث قال: لَا يُبْخَسُونَ بدَلَ (لا يُنقَصون)- وإنَّما عبَّر عن ذلك بالبَخْسِ الَّذي هو نَقْصُ الحقِّ، مع أنَّه ليس لهم شائِبةُ حقٍّ فيما أُوتوه، كما عبَّر عن إعطائِه بالتَّوْفيَةِ الَّتي هي إعطاءُ الحقوقِ، مع أنَّ أعمالَهم بمَعزِلٍ عن كونِها مُستوجِبةً لذلك؛ بِناءً للأمرِ على ظاهرِ الحالِ، ومُحافَظةً على صُوَرِ الأعمالِ، ومُبالَغةً في نفْيِ النَّقْصِ؛ كأنَّ ذلك نقصٌ لحُقوقِهم، فلا يَدخُلُ تحتَ الوُقوعِ والصُّدورِ عن الكريمِ أصلًا .

- وكرَّرَ لفظَ (فيها) للتَّأكيدِ والإعلامِ بأنَّ الآخرةَ ليست كالدُّنيا في وفاءِ كَيلِ الجزاءِ وفي بَخسِه؛ فإنَّه فيها مَنوطٌ بأمرينِ: كسبُ الإنسانِ، ونِظامُ الأقدارِ، وقد يتعارضانِ، وأمَّا جزاءُ الآخرةِ فهو بفِعلِ اللهِ تعالى مباشرةً: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .

2- قوله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

- جملةُ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ مُستأنَفةٌ، ولكنَّ اسْمَ الإشارةِ أُولَئِكَ يَربِطُ بينَ الجُملتَينِ، وأُتي باسْمِ الإشارةِ؛ لِتَمييزِهم بتلك الصِّفاتِ المذكورةِ قبْلَ اسْمِ الإشارةِ. وأيضًا في اسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ تنبيهٌ على أنَّ المشارَ إليه استَحقَّ ما يُذكَرُ بعدَه مِن الحُكْمِ، مِن أجْلِ الصِّفاتِ الَّتي ذُكِرت قبلَ اسْمِ الإشارةِ .

- وأيضًا في قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ التَّعبيرُ باسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ، وما فيه مِن مَعنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنزِلَتِهم في سوءِ الحالِ، أي: أولئك المُريدون للحياةِ الدُّنيا وزينَتِها المُوَفَّوْن فيها ثَمراتِ أعمالِهم مِن غَيرِ بَخْسٍ .

- وفي زِيادةِ (كان) في الثاني وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ دونَ الأوَّلِ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا إيماءٌ إلى أنَّ صُدورَ أعمالِ البرِّ منهم وإنْ كان لغَرَضٍ فاسدٍ، ليس في الاستمرارِ والدَّوامِ كصُدورِ الأعمالِ التي هي مِن مُقدِّماتِ مَطالبِهم الدَّنيَّة .

3- قوله: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ

- قولُه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فيه إيرادُ الفاءِ بعدَ الهمزةِ في أَفَمَنْ؛ لإنكارِ تَرتُّبِ توهُّمِ المماثَلةِ على ما ذُكِرَ مِن صِفاتِهم وعُدِّد مِن هَنَاتِهم؛ كأنَّه قيل: أبَعْدَ ظُهورِ حالِهم في الدُّنيا والآخِرَةِ كما وُصِف يُتَوهَّمُ المماثَلةُ بينَهم وبينَ مَن كان على أحسَنِ ما يكونُ في العاجلِ والآجلِ ؟!

- قولُه: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى فيه تخصيصُ التَّوراةِ بالذِّكْرِ؛ قيل: وذلك لأنَّ المِلَّتَين (اليَهودَ والنَّصارى) مُجتمِعتانِ على أنَّها مِن عندِ اللهِ، والإنجيلُ يُخالِفُ فيه اليهودُ؛ فكان الاستِشهادُ بما تقومُ به الحُجَّةُ على الفَريقين أَوْلى ، وأيضًا لأنَّ التوراةَ هي الأصلُ، والإنجيلُ تبعٌ لها في كثيرٍ مِن الأحكامِ، وإن كان مغايرًا لبعضِها .

- وذكرُ اسمِ الإشارةِ في قوله: أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يُشبِهُ ذكرَ ضَميرِ الفصلِ، وفيه تَنبيهٌ على أنَّ ما بعدَه من الخبرِ مُسبَّبٌ على ما قبل اسمِ الإشارةِ من الأوصافِ، وهي كونُهم على بيِّنةٍ مِن ربِّهم مُعضَّدةٍ بشواهدَ من الإنجيلِ والتوراةِ .

- قولُه: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ تفريعٌ على جُملةِ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، والخطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، والنَّهيُ مُستعمَلٌ كنايةً تَعريضيَّةً بالكافِرين بالقُرآنِ؛ لأنَّ النَّهيَ يَقْتَضي فَسادَ المنهيِّ عنه ونَقْصَه، فمِن لَوازِمِه ذَمُّ المتلبِّسِ بالمنهيِّ عنه، ولَمَّا كان المخاطَبُ غيرَ مَظِنَّةٍ للتَّلبُّسِ بالمنهيِّ عنه فيُطلَبَ مِنه تَرْكُه، ويَكونُ النَّهيُ طلَبَ تَحصيلِ الحاصلِ، تَعيَّنَ أن يَكونَ النَّهيُ غيرَ مُرادٍ به الكَفُّ والإقلاعُ عن المنهيِّ عنه، فيكونُ مُستعمَلًا في لازِمِ ذلك بقرينةِ المَقامِ .

- قولُه: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مُستَأنَفٌ تأكيدًا لِما دَلَّت عليه جُملةُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، مِن أنَّه لِوُضوحِ حَقيقتِه لا يَنبَغي أن يُمتَرى في صِدْقِه، وحَرفُ التَّأكيدِ يقومُ مقامَ الأمرِ باعتقادِ حَقيَّتِه؛ لِمَا يَدُلُّ عليه التَّأكيدُ مِن الاهتمامِ .

- وفي قولِه: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، اخْتِيرَ النَّهيُ عن المِرْيَةِ دونَ النَّهيِ عن اعتِقادِ أنَّه كذِبٌ، كما هو حالُ المشرِكين؛ لأنَّ النَّهيَ عنِ الامْتِراءِ فيه يقتَضي النَّهيَ عن الجزْمِ بالكذِبِ بالأَوْلى، وفيه تعريضٌ بأنَّ ما فيه المشرِكون مِن اليقينِ بكَذِبِ القرآنِ أشَدُّ ذمًّا وشَناعةً .

- وتعريفُ الْحَقِّ؛ لإفادةِ قَصْرِ جِنْسِ الحقِّ على القرآنِ، وهو قَصرُ مُبالَغةٍ لكمالِ جِنسِ الحقِّ فيه، حتَّى كأنَّه لا يوجَدُ حقٌّ غيرُه، مثلَ قولِك: حاتِمٌ الجَوَادُ .

- وقولُه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ استدراكٌ ناشئٌ على حُكمِ الحصْرِ؛ فإنَّ الحصْرَ يَقتَضي أن يُؤمِنَ به كلُّ مَن بلَغَه، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يؤمنون، وحذَف مُتعلِّقَ يُؤْمِنُونَ؛ لأنَّ المرادَ انتفاءُ حقيقةِ الإيمانِ عنهم في كلِّ ما طُلِب الإيمانُ به مِن الحقِّ .

- قولُه تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود: 17] ، فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال في آخِرِ هذه السُّورةِ- بعدَ قولِه: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] -: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ [هود: 109] ، وقال في سورةِ السَّجدةِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ [السجدة: 23] ، بإثباتِ نونِ (تَكُنْ)، وحذْفِها في آيَتَيْ سورةِ هودٍ، ومناسَبةُ هذا الاختلافِ: أنَّ العرَبَ تصرَّفَت في (يَكونُ) عِندَ دُخولِ الجازِمِ عليها تَصرُّفًا لم تَفعَلْه في نَظائِرِها وما يُشبِهُها، فيَكونُ الوجهُ في (يكونُ) عندَ دخولِ الجازمِ عليها تَسْكينَ النُّونِ؛ فتُحذَفُ الواوُ عندَ الْتِقاءِ السَّاكِنَينِ كما ورَد في سورةِ السَّجدةِ، إلَّا أنَّ حذْفَ النُّونِ في (يكونُ) مِن فَصيحِ كَلامِهم ما لم تَكُنْ مُتحرِّكةً، فإن كانت مُتحرِّكةً لم تُحذَفْ لِقُوَّتِها بالحرَكةِ، وإن كانت عارِضةً كقولِه تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة: 1] ، ولا تُحذَفُ هذه إلَّا في الشِّعرِ؛ فورَد في سورةِ هودٍ على ما اعتَمَدوه مِن تخفيفِ هذا اللَّفظِ؛ لِيُناسِبَ بذلك إيجازَ الكلامِ المتعلِّقِ بقولِه: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [هود: 17] ، والمتَّصِلِ به تَمامُه تمامُ مَعنى المقصودِ، وذلك قولُه: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ، وكذلك قولُه في آخِرِ السُّورةِ: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ [هود: 109] إلى قولِه: غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود: 109] . وورَد في سورةِ السَّجدةِ على أصْلِ الكلمةِ قبلَ حذْفِها، فقيل: فَلَا تَكُنْ؛ لِيَجري ذلك مع ما ورَد في هذه السُّورةِ مِن طولِ الكلامِ المتعلِّقِ بقولِه: فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ [السجدة: 23] ؛ فنُوسِبَ الإيجازُ بالإيجازِ والطُّولُ بالطُّولِ

======================

 

سورة هود

الآيات (18-24)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

 

يَصُدُّونَ: أي: يُعرِضون وينصرَفون، أو يصرفون غيرَهم، والصدودُ والصَّدُّ قد يكونُ انصرافًا عن الشَّيء وامتناعًا؛ إذا كان لازمًا غير مُتعدٍّ، وقد يكونُ صرفًا ومنعًا؛ إذا كان مُتعدِّيًا بمعنى يصَدُّون غيرَهم، وأصلُ (صدد): إعراضٌ وعدولٌ

.

عِوَجًا: أي: زيغًا وتحريفًا وضلالًا، واعوجاجًا في الدِّين، وأصل (عوج): الميلُ في الشيءِ .

لا جَرَمَ: أي: حقًّا، وأصلُ (جرم): قطع .

وَأَخْبَتُوا: أي: تواضَعوا، وخَضَعوا، والإخباتُ: التواضُعُ واللِّينُ، وأصلُ (خبت): يدلُّ على خُشوعٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ

لَا جَرَمَ: كلمةُ جزمٍ ويقينٍ جَرَت مجرى المَثَل. وفي هذا التَّركيبِ أقوالٌ: أحدها: أنَّ لَا جَرَمَ بمعنى (لا بُدَّ ولا محالةَ)، فـ (لا) نافيةٌ للجِنسِ، و(جَرَم) اسمُها مبنيٌّ على الفَتحِ في محلِّ نَصبٍ، والمصدرُ المؤوَّلُ من أنَّ ومعمولَيها في محلِّ جَرٍّ بحَرفِ جَرٍّ محذوفٍ، فيصيرُ المعنى: لا بدَّ مِن خُسرانِهم ولا محالةَ فيه. الثاني: أنَّ لَا جَرَمَ كلمةٌ واحِدةٌ مرَكَّبةٌ تركيبَ خَمسةَ عشَرَ، وبعد الترَّكيبِ صار معناها معنى فعلٍ، وهو (حَقَّ) ، والمصدرُ المؤوَّلُ من أنَّ ومعمولَيها فاعِلٌ لمَجموعِ لَا جَرَمَ لتأويله بالفعلِ (حقَّ)، وقيل: مُؤَوَّلٌ بمصدرٍ قائمٍ مقامَه، وهو (حَقًّا) فيصيرُ المعنى: حَقَّ ووجَبَ خُسرانُهم. الثالث: أنَّ (لا) نافيةٌ لكلامٍ سابقٍ مُقَدَّرٍ، والوقفُ على (لا) تامٌّ، ثم قال: (جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ)، أي: حَقَّ ووجب خُسرانُهم، وعليه فالمصدرُ المؤَوَّلُ مِن أنَّ ومَعمولَيها في محلِّ رَفعٍ فاعِلٌ لـ جَرَمَ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ تعالى أنَّه لا أحدَ أظلَمُ ممَّن اختلقَ على اللهِ كذبًا، وأنَّ أولئك سيُعرَضونَ على ربِّهم يومَ القيامةِ؛ ليُحاسِبَهم على أعمالِهم، ويقولُ الأشهادُ مِن الملائكةِ والنبيِّينَ والمُؤمِنينَ: هؤلاء الذين كَذَبوا على ربِّهم في الدُّنيا، ألا لعنةُ اللهِ على هؤلاء الظَّالِمينَ الذين يَمنَعونَ النَّاسَ عن دينِ الله، ويُريدونَ أن يكونَ مائلًا، وهم كافرونَ بالآخرةِ، لا يُؤمِنونَ ببعثٍ ولا جزاءٍ. أولئك الكافرونَ لم يكونوا لِيَفوتوا اللهَ في الدُّنيا هَربًا، وما كان لهم مِن أنصارٍ يَمنَعونَهم مِن عِقابِه، يُضاعَفُ لهم العذابُ في جهنَّمَ؛ فقد كانوا لا يَستطيعونَ أن يسمَعوا القرآنَ سَماعَ مُنتَفِعٍ، أو يُبصِروا آياتِ اللهِ في هذا الكونِ إبصارَ مُهتَدٍ. أولئك الذين خَسِروا أنفُسَهم بافترائِهم على اللهِ، وذهب عنهم ما كانوا يفترونَ مِن الآلهةِ التي يدَّعونَ أنَّها تشفَعُ لهم. حقًّا أنَّهم في الآخرةِ أخسَرُ النَّاسِ صَفقةً؛ لأنَّهم استبدلوا الدَّرَكاتِ بالدَّرَجاتِ، فكانوا في جهنَّم، وذلك هو الخُسرانُ المُبينُ.

إنَّ الذين آمنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ، وخَضَعوا لله وخَشَعوا، أولئك هم أهلُ الجنَّة، لا يموتونَ فيها، ولا يُخرجونَ منها أبدًا.

ثمَّ ضرَب الله مَثلًا لفريقِ الكافرينَ ولفريقِ المؤمنينَ، فقال: مثَلُ فريقَي الكُفرِ والإيمانِ كمَثَلِ الأعمى الذي لا يرى، والأصَمِّ الذي لا يسمَعُ، والبصيرِ والسَّميعِ: ففريقُ الكُفرِ لا يُبصِرُ الحَقَّ فيَتَّبِعَه، ولا يسمَعُ داعيَ اللهِ فيهتديَ به، أمَّا فريقُ الإيمانِ فقد أبصر الحَقَّ، وسَمِعَ داعيَ اللهِ فأجابه، هل يستوي هذان الفَريقانِ؟ أفلا تَعتَبِرونَ وتتفَكَّرونَ؟

تفسير الآيات:

 

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الكُفَّارَ كانت لهم عاداتٌ كثيرةٌ، وطُرُقٌ مُختَلِفةٌ، فمنها شِدَّةُ حِرصِهم على الدُّنيا، ورغبتُهم في تَحصيلِها، وقد أبطلَ اللهُ هذه الطَّريقةَ بقَولِه تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا... [هود: 15] ، ومنها أنَّهم كانوا يُنكِرونَ نبُوَّةَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويَقدَحونَ في مُعجِزاتِه، وقد أبطلَ اللهُ تعالى ذلك بِقَولِه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ... [هود: 17] ، ومنها أنَّهم كانوا يَزعُمونَ في الأصنامِ أنَّها شُفَعاؤهم عند الله، وقد أبطل اللهُ تعالى ذلك بهذه الآيةِ؛ وذلك لأنَّ هذا الكلامَ افتراءٌ على اللهِ تعالى، فلمَّا بيَّنَ وعيدَ المُفتَرينَ على الله، فقد دخل فيه هذا الكلامُ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا سبق قَولُهم: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ذكَرَ أنَّه لا أحدَ أظلَمُ ممَّن افترى على اللهِ كَذِبًا، وهم المُفتَرون الذين نَسَبوا إلى اللهِ الولَدَ، واتَّخَذوا معه آلهةً، وحَرَّموا وحَلَّلوا من غيرِ شَرعِ اللهِ .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا.

أي: لا أحدَ أظلَمُ ممَّن اختلقَ على اللهِ الكَذِبَ، كمن زعم أنَّ لله ولدًا، أو شريكًا في العبادةِ أو التَّشريعِ، أو نسَبَ القُرآنَ لِغَيرِ اللهِ، أو ادَّعى النبُوَّةَ .

كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93] .

وقال سُبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف: 7] .

أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ.

أي: أولئك- الذين يَفتَرونَ على اللهِ الكَذِبَ- يُعرَضونَ يومَ القيامةِ على اللهِ، فيُحاسِبُهم على أعمالِهم، ويُجازيهم بظُلمِهم .

وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ.

أي: ويقولُ الملائكةُ والأنبياءُ والمُؤمنونَ يومَ القيامةِ: هؤلاء الذين كَذَبوا في الدُّنيا على ربِّهم .

عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُدنَى المؤمِنُ يومَ القيامةِ مِن رَبِّه عزَّ وجلَّ، حتى يضعَ عليه كنَفَه ، فيقَرِّرُه بذُنوبِه، فيقولُ: هل تَعرِفُ؟ فيقولُ: أي ربِّ، أعرِفُ. قال: فإنِّي قد سَترتُها عليك في الدُّنيا، وإنِّي أغفِرُها لك اليومَ، فيُعطَى صحيفةَ حَسَناتِه، وأمَّا الكُفَّارُ والمُنافِقونَ فيُنادَى بهم على رؤوسِ الخلائقِ: هؤلاء الذين كَذَبوا على اللهِ )) .

أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.

أي: ألا سخَطُ اللهِ الدَّائمُ وإبعادُه مِن رَحمتِه، على المُعتَدينَ الذين وَضَعوا العبادةَ في غيرِ مَوضِعِها .

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الكافرينَ كما ظَلَموا أنفُسَهم بالتزامِ الكُفرِ والضَّلالِ، فقد أضافوا إليه المَنعَ مِن الدِّينِ الحَقِّ، وإلقاءَ الشُّبُهاتِ، وتعويجَ الدَّلائلِ المُستَقيمةِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَر تعالى الظَّالمين، وصَفَ ظُلمَهم، فقال :

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا.

أي: الذين يَردُّونَ النَّاسَ عن دينِ اللهِ، ويمنعونَهم مِن الدخولِ فيه، ويُريدونَ أن يكونَ دينُ اللهِ مائلًا زائغًا عن الحَقِّ، ويُنفِّرونَ النَّاسَ عنه، ويُزيِّنون لهم الباطِلَ .

وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ.

أي: والحالُ أنَّهم مكذبونَ بيَومِ القِيامةِ، منكرونَ لوقوعِه، لا يُؤمنون بالبَعثِ بعد الموتِ .

أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا هدَّد تعالى الكافرينَ بأمورِ الآخرةِ، أشار إلى بيانِ قُدرتِه على ذلك في الدَّارينِ .

أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ.

أي: أولئك الكُفَّارُ لا يُعجِزونَ اللهَ في الأرضِ بالهَرَبِ إن أراد عذابَهم في الدُّنيا؛ فهم في مُلكِه، وتحتَ قَهرِه وتَصَرُّفِه .

وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء.

أي: ولم يكُنْ لهم- إذا جاءهم العذابُ- أنصارٌ مِن دونِ اللهِ ينصُرونَهم، ويَدفَعونَ عنهم عذابَه .

يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ.

أي: يُزادُ في عذابِهم، ويُغلَّظُ عليهم .

كما قال تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 38] .

وقال سُبحانه: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] .

مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ.

أي: ما كانوا يستطيعونَ سَماعَ الحَقِّ سَماعَ انتفاعٍ به، ولا يُبصِرونَه إبصارَ مُهتَدٍ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6- 7] .

وقال سُبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ [يونس: 42- 43] .

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (21).

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ.

أي: هؤلاء- الذين تلك صفاتُهم- همُ الذينَ أضاعوا حظَّ أنفُسِهم من الثَّوابِ، وأهلَكوها بالعَذابِ .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15] .

وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ.

أي: اضمحلَّ دينُهم الذي كانوا يَدعونَ إليه، وبطَل كَذِبُهم وفريتُهم على الله بادِّعائِهم له شُركاءَ، وذَهَبتْ عنهم آلهتُهم التي عبَدوها مِن دونِ الله، ولم تُغنِ عنهم شيئًا .

كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] .

وقال سُبحانه: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6] .

لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22).

أي: حقًّا وصِدقًا أنَّهم يومَ القيامةِ هم أخسَرُ النَّاسِ؛ لاستبدالِهم دَركاتِ النَّارِ بمنازلِ الجنَّةِ .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى حالَ الأشقياءِ، ثنَّى بذِكرِ السُّعَداءِ، فقال تعالى :

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ.

أي: إنَّ الذين آمَنوا بما وجَب عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ- فأتَوا بالطَّاعاتِ، وتَرَكوا المُنكَراتِ- وتواضَعوا لله وخَشَعوا واطمأنُّوا إليه .

كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج: 34-35] .

أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

أي: أولئك أهلُ الجنَّةِ، هم فيها لابِثونَ أبدًا، لا يُخرَجونَ منها ولا يَموتونَ .

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعدَ أن تبيَّنَ الاختلافُ بينَ حالِ المُشرِكينَ المُفتَرينَ على اللهِ كَذِبًا، وبين حالِ الذين آمنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ في منازِلِ الآخرةِ؛ أعقبَ ببيانِ التَّنظيرِ بين حالَي الفَريقَينِ: المُشرِكينَ والمؤمنينَ، بطريقةِ تَمثيلِ ما تستحِقُّه مِن ذَمٍّ ومدحٍ .

مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ.

أي: مثَلُ الكافرينَ والمؤمنينَ كمَن لا يرى ولا يسمَعُ، ومَن يرَى ويسمَعُ؛ فالكافِرُ لا يرى الحقَّ فيهتديَ به، ولا يسمَعُ الحقَّ سماعًا ينتَفِعُ به، والمؤمِنُ يرى الحقَّ ويتَّبِعُه، ويَسمَعُه، وينتَفِعُ به .

هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.

أي: هل يستوي هذان الفَريقانِ عندكم، أيُّها النَّاسُ؟! فكذلك الكافِرُ والمؤمِنُ، لا يستويان عند اللهِ، أفلا تَعتَبِرونَ وتتفَكَّرونَ في حالِ الكافرينَ والمؤمنينَ، فتترُكوا الكُفرَ والعِصيانَ، وتُؤمِنوا باللهِ وتَعمَلوا الصَّالحاتِ

 

؟

كما قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [فاطر: 19-22] .

وقال سُبحانه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20] .

وقال عزَّ وجَلَّ: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم: 35-36] .

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، قَولُه تعالى: وَأَخْبَتُوا فيه إشارةٌ إلى أعمالِ القُلوبِ، وهي الخُشوعُ والخضوعُ لله تعالى، وأنَّ هذه الأعمالَ الصَّالحةَ لا تنفَعُ في الآخرةِ إلَّا بحُصولِ أعمالِ القَلبِ، وهي الخُشوعُ والخُضوعُ

.

2- قال الله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ عدَمُ هذه الاستطاعةِ كان بتَفريطِه وعُدوانِه، ومَن كان تَركُه للمأمورِ بذَنبٍ منه، أو صَيرورتُه إلى المحظورِ بذَنبٍ منه؛ لم يكُن ذلك مانعًا مِن ذَمِّه وعقابِه .

3- قال الله تعالى: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ وعدمُ الاستطاعةِ هنا- على أحدِ الأوجهِ- إنَّما هو للختمِ على قلوبِهم وأسماعِهم، والغشاوةِ التي جُعِلت على أبصارِهم، وذلك الخَتمُ والأكِنَّةُ على القلوبِ جزاءٌ مِن اللهِ تعالى لهم على مبادَرتِهم إلى الكُفِر، وتكذيبِ الرُّسُلِ باختيارِهم ومَشيئتِهم، كما دلَّت عليه آياتٌ كثيرةٌ، كقولِه تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ، وقوله: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ، وقولِه تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] ، وقولِه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 125] ، وقَولِه تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ .

4- قَولُ الله تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ جاء أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ليُنَبِّهَ على أنَّه يمكِنُ زوالُ هذا العمَى وهذا الصَّمَم، فيجبُ على العاقِلِ أن يتذكَّرَ ما هو فيه، ويسعَى في هدايةِ نَفسِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فيه دَلالةٌ على أنَّ الافتراءَ على اللهِ تعالى أعظَمُ أنواعِ الظُّلمِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ خَصَّهم بهذا العَرضِ- وإن كان العَرضُ عامًّا في كلِّ العِبادِ- لأنَّهم يُعرَضونَ فيُفتَضَحونَ بأنْ يقولَ الأشهادُ عند عَرضِهم: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ فيلحَقُهم مِن الخزيِ والنَّكالِ ما لا مَزيدَ عليه .

3- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا .... هذه الآياتُ، وإن كانت في حَقِّ المُشرِكينَ والكُفَّارِ، فإنَّها مُتَناوِلةٌ لِمَن كذَبَ على اللهِ في توحيدِه ودينِه وأسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه، ولا تتناوَلُ المُخطِئَ المأجورَ إذا بذَل جُهدَه، واستفرغَ وُسعَه في إصابةِ حُكمِ اللهِ وشَرعِه؛ فإنَّ هذا هو الذي فرَضَه اللهُ عليه، فلا يتناوَلُ المطيعَ للهِ وإن أخطأ .

4- في قَولِه تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ الفائِدةُ في إخبارِ الأشهادِ بما اللهُ يَعلَمُه: تعظيمُ الأمرِ على المشهودِ عليه، وحَسمُ طَمَعِه مِن أن يَجِدَ سبيلًا إلى التخلُّصِ، بمُجاحَدةٍ أو مُدافعةٍ، وقيل: هو توبيخٌ لهم مِن الشُّهَداءِ، وهَتكُ سِترِهم، وإظهارُ فَضيحتِهم .

5- الكَذِبُ على الله أشدُّ مِن الكَذِبِ على المَخلوقينَ؛ لِقَولِه تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ .

6- أهلُ العِلمِ يَختارونَ فيمن عُرِفَ بالظُّلمِ ونَحوِه مع أنَّه مُسلِمٌ له أعمالٌ صالحةٌ في الظَّاهرِ- كالحجَّاج بنِ يوسفَ وأمثالِه - أنَّهم لا يَلعَنونَ أحدًا منهم بعَينِه، بل يقولونَ كما قال الله تعالى: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهُ عَلَى الظَّالِمِينَ فيَلعنونَ مَن لعَنَه اللهُ ورسولُه عامًّا، ولا يلعنونَ المعَيَّنَ، فقد ثبَت: ((أنَّ رَجُلًا كان يُدعَى حمارًا، وكان يشرَبُ الخمرَ، وكان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يجلِدُه، فأُتيَ به مرَّةً فلَعَنَه رجلٌ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تلعَنْه؛ فإنَّه يحِبُّ اللهَ ورَسولَه)) ؛ وذلك لأنَّ اللَّعنةَ مِن بابِ الوعيدِ، والوعيدُ العامُّ لا يُقطَعُ به للشَّخصِ المُعَيَّن؛ لأحدِ الأسبابِ المذكورةِ: من توبةٍ، أو حسَناتٍ ماحيةٍ، أو مصائِبَ مُكَفِّرةٍ، أو شفاعةٍ مَقبولةٍ، وغيرِ ذلك .

7- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ الأرضُ: الدُّنيا، وفائدةُ ذِكرِها أنَّهم لا ملجأَ لهم مِن اللهِ لو أراد الانتقامَ منهم، فلا يجِدونَ مَوضِعًا من الأرضِ يَستَعصِمونَ به، فهذا نفيٌ للملاجئِ والمعاقِلِ التي يستعصِمُ فيها الهارِبُ .

8- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ذكَرَ المؤمنينَ، ووصَفَهم بالإيمانِ، والعَمَلِ الصَّالحِ، والإخباتِ إلى ربِّهم، فوصَفَهم بعبوديَّةِ الظَّاهِرِ والباطِنِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ

- جملةُ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ مُستأنَفةٌ، وتصديرُها باسمِ الإشارةِ أُولئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أَحْرِياءُ بما سَيَرِدُ بعدَ اسْمِ الإشارةِ مِن الخبَرِ؛ بسبَبِ ما قبْلَ اسْمِ الإشارةِ مِن الوصفِ

، وفيه أيضًا أنَّ عَرْضَهم على ربِّهم عرضُ زجرٍ وانتقامٍ؛ وذلك لِمَا يُؤْذِنُ به اسْمُ الإشارةِ مِن مَعنى تعليلِ ما قَبْلَه فيما بعدَه .

- وقولُه: هَؤُلَاءِ فيه إشارةٌ إلى تَحقيرِهم وإصغارِهم بسوءِ مُرتَكَبِهم .

- قولُه: وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ في الإتيانِ بالموصولِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ في الخبَرِ عنهم: إيماءٌ إلى سبَبيَّةِ ذلك الوصفِ الَّذي في الصِّلَةِ- وهو الكَذِبُ على ربِّهم- فيما يَرِدُ عليهم من الحُكمِ، وهو أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ .

- قولُه: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فيه الافتتاحُ بحرفِ التَّنبيهِ أَلَا؛ وذلك مُناسَبَةً لِمَقامِ التَّشهيرِ، والخبرُ هنا مُستعمَلٌ في الدُّعاءِ؛ خِزيًا وتَحقيرًا لهم .

2- قولُه تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ

- فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ اختُصَّتْ هذه الآيةُ على نَظيرَتِها في الأعرافِ، وهي قولُه: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ [الأعراف: 45] - بزِيادَةِ (هُمْ) في قولِه: هُمْ كَافِرُونَ، وهو توكيدٌ يُفيدُ تَقوِّيَ الحُكْمِ؛ لأنَّ المقامَ هنا مقامُ تسجيلِ إنكارِهم البَعْثَ وتَقريرِه؛ إشعارًا بما يتَرقَّبُهم مِن العقابِ المناسِبِ؛ فحُكي به مِن كَلامِ الأشهادِ ما يُناسِبُ هذا، وما في سورةِ الأعرافِ حكايةٌ لِمَا قيل في شأنِ قومٍ أُدخِلوا النَّارَ، وظهَر عِقابُهم، فلا غرَضَ لحِكايةِ ما فيه تأكيدٌ مِن كلامِ الأشهادِ، وكِلا المَقالَين واقعٌ؛ وإنَّما يَحكي البليغُ فيما يَحْكيه ما له مُناسَبةٌ لِمَقامِ الحِكايةِ .

3- قولُه تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ

- قولُه: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ استِئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عن الاقتِصَارِ في تَهْديدِهم على وصْفِ بعضِ عِقابِهم في الآخِرَةِ؛ فإنَّ ذلك يُثيرُ في نَفْسِ السَّامعِ أن يَسأَلَ: هل هم سالِمون مِن عذابِ الدُّنيا؟ فأُجيبَ بأنَّهم لم يَكونوا مُعجِزين في الدُّنيا، أي: لا يَخرُجون عن مَقدِرةِ اللهِ على تَعذيبِهم في الدُّنيا إذا اقتَضَتْ حِكمتُه تَعجيلَ عَذابِهم .

- وإعادةُ الإشارةِ إليهم بقولِه: أُولَئِكَ بعدَ أن أُشيرَ إليهم بقولِه: أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ [هود: 18] ؛ لتقريرِ فائدةِ اسمِ الإشارةِ السَّابقِ .

- وقولُه: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ كنايةٌ عن عدَمِ قَبولِهم للحَقِّ، ونفيُ الاستطاعةِ أعرَقُ في العَيبِ، وأدَلُّ على النَّقصِ، وأنكى مِن نفيِ السَّمعِ؛ لأنَّهم قد يَحمِلونَه على الإجابةِ .

- قولُه: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ فيه تشبيهٌ تمثيليٌّ؛ لأنَّه تشبيهُ مركَّبٍ بمركَّبٍ، شبَّهَهم في فرْطِ تَصامِّهم عن استماعِ الحقِّ، ونُبُوِّ أسماعِهم عنه بمَن لا يَستَطيعُ السَّمعَ، وفي إعراضِهم عن نُذُرِ الآياتِ بأنَّ أبصارَهم لم تَنفَعْهم، فكأنَّهم لم يُبصِروا .

- ولمَّا كان قُبحُ حالِهم في عدم إذعانِهم للقرآن الذي طريقُ تلقِّيه السمعُ أشدَّ منه في عدم قَبولِهم لسائرِ الآياتِ المنوطةِ بالإبصارِ؛ بالغَ في نفْي الأولِ عنهم حيثُ نفَى عنهم الاستطاعةَ، واكتفَى في الثاني بنَفْي الإبصارِ . وقيل: لأنَّ الإبصارَ المنفىَّ هو النظرُ في المصنوعاتِ الدالةِ على الوحدانيةِ، أي: ما كانوا يُوجِّهون أنظارَهم إلى المصنوعاتِ توجيهَ تأملٍ واعتبارٍ، ولذلك لم يقلْ هنا: (وما كانوا يَسْتطيعونَ أن يُبْصِروا)؛ لأنَّهم كانوا يُبصرونَها، ولكنَّ مجرَّدَ الإبصارِ غيرُ كافٍ في حُصولِ الاستِدْلالِ حتَّى يُضَمَّ إليه عمَلُ الفِكْرِ، بخلافِ السَّمعِ في قولِه: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ .

- والإتيانُ بأفعالِ الكَوْنِ في هذه الجُمَلِ أربَعَ مرَّاتٍ ابتِداءً مِن قولِه: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ إلى قولِه: وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ؛ لإفادةِ ما يَدُلُّ عليه فعلُ الكَونِ مِن تَمكُّنِ الحدَثِ المخبَرِ به؛ فقولُه: لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ آكَدُ مِن: (لا يُعجِزون)، وكذلك أخَواتُه .

4- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ استِئْنافٌ، واسمُ الإشارةِ أُولِئَكَ هنا تأكيدٌ ثانٍ لاسمِ الإشارةِ في قولِه: أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ [هود: 18] .

- قولُه تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ فيه إسنادُ الضَّلالِ إلى الأصنامِ؛ تَهكُّمًا على أصحابِها، حيث شُبِّهَت أصنامُهم بمن سلَك طَريقًا لِيَلحَقَ بمَن استَنْجَد به، فضَلَّ في طَريقِه .

5- قولُه: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ جملةٌ مُستأنَفةٌ، وهي فَذْلَكةٌ ونَتيجةٌ للجُمَلِ المتقدِّمةِ مِن قولِه: أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ؛ لأنَّ ما جُمِع لهم مِن الزَّجِّ للعُقوبةِ، ومِن افتِضاحِ أمْرِهم، ومِن إعراضِهم عَن استِماعِ النُّذُرِ، وعن النَّظَرِ في دَلائلِ الوحدانيَّةِ يُوجِبُ اليَقينَ بأنَّهم الأخسَرون في الآخِرةِ .

- والضَّميرُ في هُمُ الْأَخْسَرُونَ ضميرُ فصْلٍ يُفيدُ القَصْرَ، وهو قصرٌ ادِّعائيٌّ ؛ لأنَّهم بلَغوا الحَدَّ الأقصى في الخَسارةِ، فكأنَّهم انفَرَدوا بالأخسَريَّةِ .

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ [هود: 22] ، وقال في سورةِ النَّحلِ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [النحل: 109] ؛ فخَصَّ سورةَ هودٍ بـ(الأَخْسَرون)، وسورةَ النَّحلِ بـ (الخاسِرون)، ووجهُ هذا الاختلافِ: أنَّ الآيةَ الَّتي في سورةِ هودٍ قد تَقدَّمَها قولُه: وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ [هود: 20] ، وإنَّما قال: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ؛ لأنَّه خبَرٌ عن قومٍ أخبَرَ عنهم بالفِعلِ الَّذي استَحَقُّوا به مُضاعَفةَ العذابِ في قولِه تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [هود: 19] ، فإذا صُدُّوا هم عن الدِّينِ صُدودًا، وصَدُّوا غيرَهم عنه صَدًّا استحَقُّوا مُضاعَفةَ العذابِ؛ لأنَّهم ضَلُّوا وأضَلُّوا، فهذا لـ(الأَخْسرون) دونَ (الخاسِرون) مِن طريقِ المعنى، وهاهنا ما يُضامُّه من طريقِ اللَّفظِ، وهو أنَّ ما قبْلَه مِن الفَواصِلِ يُبْصِرُونَ [هود: 20] ، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [هود: 21] ؛ فاجتِماعُ المعنى والتَّوفِقَةِ بينَ الفواصِلِ أوْجَبَا اختِيَارَ (الأَخْسَرون) في هذا الموضِعِ على (الخاسِرون). وأمَّا في سورةِ النَّحْلِ فإنَّ الآيةَ لم يُخبِرْ فيها عن الكفَّارِ بأنَّهم معَ ضَلالِهم أضَلُّوا مَن سِواهم، وإنَّما قال فيهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل: 107] ، فلم يَذكُرْ ما يُوجِبُ مُضاعَفةَ العذابِ، ثمَّ كانت الفَواصِلُ الَّتي حُمِلَت هذه عليها وِزانَ (الكافِرِينَ) و(الغافِلِينَ)؛ فاقتَضى هذانِ الشَّيئانِ أن يُقالَ: هُمُ الْخَاسِرُونَ، كما اقْتَضى السَّبَبانِ في الأُولَى المخالِفان للسَّببَينِ هُنا أنْ قال: الْأَخْسَرُونَ .

وفيه وجهٌ آخَرُ: وهو أنَّ آيةَ هودٍ تَقدَّمَها ما يُفهِمُ المفاضَلةَ؛ فقولُه تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ... الآيةَ [هود: 17] ، يُفهَمُ مِنه: أفَمَن كان على بيِّنةٍ مِن ربِّه كمَن كفَر وجحَد وكذَّب الرُّسلَ؟ ثمَّ أتبَعَ هذا بقولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [هود: 18] ؛ فهذا صَريحُ مُفاضَلةٍ، ثمَّ استَمرَّتِ الآياتُ في وصْفِ مَن ذُكِر، واستَمرَّ ذِكرُهم إلى قولِه: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ؛ فناسَب لَفْظُ (الأَخْسَرون) بصيغةِ التَّفْضيلِ، ولو ورَد هنا الْخَاسِرُونَ مَكانَ الأَخْسَرونَ لتَنافَى النَّظْمُ، وتَبايَنَ السِّياقُ ولم يتَناسَبْ. وأمَّا آيةُ النَّحلِ فلم يقَعْ قَبْلَها (أفعَلُ) الَّتي للمُفاضَلةِ والتَّفاوُتِ، ولا ما يُفهِمُهما، وإنَّما قَبْلَها: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النحل: 104-105] ، وبعدَ هذا: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [النحل: 107] ، وبعدَ هذا: وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [النحل: 108] ؛ فجاءت هذه الفَواصِلُ مُتَّفِقةً في اسْمِ الفاعِلِ المجموعِ جمْعَ السَّلامةِ، إلى أن خَتَم وصْفَهم وما قصَد مِن ذِكْرِهم بقولِه: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [النحل: 109] ؛ فتناسبَت الآيُ في السِّياقِ والفَواصلِ، وخُتِمَت بمِثلِ ما به بُدِئَت، ولم يَكُن ليناسِبَ ما ورَد هنا لفْظُ المفاضلةِ؛ إذ ليس في الكلامِ ما يَستَدْعي ذلك لا مِن لَفْظِه ولا مَعناه .

6- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ النُّفوسَ تَشرئِبُّ عندَ سماعِ حُكمِ الشَّيءِ إلى معرفةِ حُكمِ ضِدِّه، وجملةُ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مُستأنَفةٌ لبيانِ ما قبلَها؛ فمَنزِلتُها منزلةُ عطفِ البيانِ، ولا تُعرَبُ في موضِعِ خبَرٍ ثانٍ عن اسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ .

- تعديةُ (الخَبْتِ)- وهو التَّواضُعُ- بـ (إلى) في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تَضمينٌ لمعنى الطُّمأنينةِ والإنابةِ والسُّكونِ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ .

7- قولُه تعالى: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

- الجملةُ فَذلكةٌ لما تقدَّم مِن بيانِ الاختلافِ بينَ حالِ المشركينَ والمؤمنينَ في منازلِ الآخرةِ، وتحصيلٌ له، وللتَّحذيرِ مِن مُواقعةِ سَبَبِه .

- فيه تشبيهٌ؛ حيثُ شبَّه حالَ الفَريقَين- المشرِكين والمؤمِنين- بحالِ الأعمى الأصمِّ مِن جهةٍ، وحالِ البصيرِ السَّميعِ من الجهةِ الأخرى؛ فَشَبَّه حالَ فريقِ الكفَّارِ في عدَمِ الانتفاعِ بالنَّظرِ في دلائلِ وَحْدانيَّةِ اللهِ الواضحةِ مِن مَخلوقاتِه بحالِ الأعمى، وشَبَّههم في عدَمِ الانتفاعِ بأدلَّةِ القرآنِ بحالِ مَن هو أصَمُّ، وشبَّه حالَ فَريقِ المؤمِنين في ضدِّ ذلك بحالِ مَن كان سَليمَ البصَرِ، سَليمَ السَّمعِ؛ فهو في هُدًى ويقينٍ مِن مُدرَكاتِه، وترتيبُ الحالَين المشبَّهِ بهِما في الذِّكْرِ على ترتيبِ ذِكْرِ الفَريقين فيما تقدَّم- يُنبِئُ بالمرادِ من كلِّ فريقٍ على طَريقةِ النَّشرِ المرتَّبِ ، فشبَّه فريقَ الكافرِين بالأعمَى والأصَمِّ، وفريقَ المؤمِنين بالبصيرِ والسَّميعِ، وهو مِن اللَّفِّ والطِّباقِ، ومِن بابِ تَشْبيهِ اثنَينِ باثنَين؛ فقُوبِلَ الأعمى بالبصيرِ وهو طباقٌ، وقوبِلَ الأصَمُّ بالسَّميعِ وهو طِباقٌ أيضًا، والعَمى والصَّمَمُ آفَتان تَمنَعانِ مِن البصَرِ والسَّمعِ، وليسَتا بضِدَّينِ؛ لأنَّه لا تَعاقُبَ بينَهما، ويحتملُ أن يَكونَ مِن تشبيهِ واحدٍ بوصفَيْهِ بواحدٍ بوصْفَيه، فيكونَ مِن عطْفِ الصِّفاتِ، ولم يَجِئ التَّركيبُ: (كالأَعْمى والبصيرِ، والأصَمِّ والسَّميعِ)، فيكونُ مُقابَلةً في لفظِ الأعمَى وضدِّه، وفي لفظةِ الأصَمِّ وضدِّه؛ لأنَّه تعالى لَمَّا ذكَر انْسِدادَ العينِ؛ أتْبَعَه بانسدادِ السَّمعِ، ولَمَّا ذكَرَ انفِتاحَ البصَرِ أتْبعَه بانفِتاحِ السَّمعِ؛ وذلك هو الأسلوبُ في المقابَلةِ، والأتَمُّ في الإعجازِ .

- وجملةُ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا واقعةٌ مَوقِعَ البيانِ للغرَضِ مِن التَّشبيهِ، وهو نفْيُ استِواءِ حالِهما، والاستِفْهامُ فيها إنكاريٌّ .

- وجملةُ: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فيها استفهامٌ غرَضُه إنكارُ انتِفاءِ تَذكُّرِهم، واستِمْرارِهم في ضَلالِهم .

.=========================

 

سورة هود

الآيات (25-31)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ

غريب الكلمات:

 

أَرَاذِلُنَا: أي: سَفِلَتُنا وأخِسَّاؤُنا، والرَّذلُ: المرغوبُ عنه لرَداءتِه، والدُّونُ مِن كلِّ شَيءٍ في مَنظَرِه وحالاتِه

.

بَادِيَ الرَّأْيِ: أي: في ظاهِرِ الرَّأيِ والنَّظَرِ؛ مِن قَولِهم: بدا الشَّيءُ يَبدو: إذا ظهرَ، وأصلُ (بدو): يدلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ .

فَعُمِّيَتْ: أي: أُخفِيَت، وأصلُ (عمي): يدلُّ على سَترٍ وتَغطيةٍ .

تَزْدَرِي: أي: تحتَقِر وتَعيبُ، وأصلُ (زري): يدلُّ على احتقارِ الشَّيءِ، والتَّهاوُنِ به

 

.

مشكل الإعراب:

 

1- قَولُه تعالى: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ

بَادِيَ الرَّأيِ بادِيَ: ظرفُ زَمانٍ منَصوبٌ، والعامِلُ فيه اتَّبَعَكَ أي: اتَّبَعوك في أوَّلِ الرأيِ، أو فيما ظهَرَ منه مِن غَيرِ أن يَبحَثوا. أو العاملُ فيه أَرَاذِلُنَا أي: هم أراذِلُنا بظاهِرِ الرَّأيِ نَعلَمُ ذلك. وإضافةُ (بادي) إلى (الرأيِ) مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، أي: في الرأيِ البادي. وقيل: بَادِيَ حالٌ مِن مفعولِ «اتَّبَعَكَ»، أي: اتَّبَعوك وأنت مكشوفُ الرأيِ، لا حصافةَ لك. وقيل غير ذلك

.

2- قَولُه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ

وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ جملةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ، معطوفةٌ على قولِه: وَلَا أَقُولُ، كأنَّه أخبَرَ عن نفسِه بهذه الجُمَل، وليس معطوفًا على قَولِه: عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ؛ لأنَّه يؤدِّي إلى أن يصيرَ التَّقديرُ: ولا أقولُ لكم لا أَعْلَمُ الغيبَ، فيَفسُد المعنى

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُقسِمُ تعالى أنَّه أرسلَ نوحًا إلى قومِه، فقال لهم: إنِّي نذيرٌ لكم مِن عذابِ الله، مُبيِّنٌ ما أُرسِلتُ به إليكم مِن أمرِ اللهِ ونَهيِه، بألَّا تعبدُوا إلَّا اللهَ، إنِّي أخافُ عليكم- إن لم تُفرِدوا اللهَ وحْدَه بالعبادةِ- عذابَ يومٍ مُوجِعٍ، فقال رؤساءُ الكُفرِ مِن قَومِه: ما نراك- يا نوحُ- إلَّا بشرًا  مِثلَنا، ولستَ بمَلَكٍ، فكيف أُوحِيَ إليك مِن دُونِنا؟! وما نراك اتَّبَعَك إلَّا الذين هم أسافِلُنا، وإنَّما اتَّبَعوك مِن غيرِ تفَكُّرٍ ولا رويَّةٍ، وما نرَى لكم مِن شَرَفٍ ومزيَّةٍ علينا حينَ دخَلتُم في دينِكم، فنَتَّبِعَكم، بل نعتَقِدُ أنَّكم كاذبونَ فيما تدَّعونَ، قال نوحٌ: يا قومي أرأيتُم إن كنتُ على حُجَّةٍ ظاهرةٍ مِن ربِّي فيما جئتُكم به، وآتاني رحمةً مِن عندِه- وهي النبوَّةُ والرِّسالةُ- فأخفاها عليكم عقابًا لكم، أنُلزِمُكم إيَّاها بالإكراهِ، وأنتم جاحِدونَ بها؟ لا نفعَلُ ذلك، ولكِنْ نَكِلُ أمرَكم إلى اللهِ حتى يقضيَ في أمرِكم ما يشاءُ.

قال نوحٌ عليه السَّلامُ لِقَومِه: يا قومِ لا أسألُكم على دَعوتِكم لتوحيدِ اللهِ مالًا، ولكِن ثوابُ نُصحي لكم على اللهِ وَحدَه، وليس مِن شأني أن أطرُدَ المُؤمِنينَ؛ فإنَّهم مُلاقو ربِّهم يومَ القيامةِ، ولكِنِّي أراكم قومًا تَجهَلونَ؛ إذ تأمرونَني بطَردِ أولياءِ اللهِ، وإبعادِهم عنِّي، ويا قومِ مَن يمنَعُني مِن عِقابِ الله إن عاقَبَني على طَردي المؤمنينَ؟ أفلا تتدبَّرونَ الأمورَ فتَنتَهوا عن جهلِكم وضَلالِكم؟ ولا أقولُ لكم: إنِّي أملِكُ التصرُّفَ في خزائنِ اللهِ، ولا أدَّعي علمَ الغَيبِ، ولستُ بمَلَكٍ مِن الملائكةِ، ولا أقولُ لهؤلاء الذين تحتَقِرونَ مِن ضُعَفاءِ المؤمنينَ لن يؤتِيَهم اللهُ ثوابًا على إيمانِهم؛ فاللهُ وَحدَه أعلَمُ بما في قلوبِهم، ولئن فعلتُ ذلك إنِّي إذًا لَمِنَ الظَّالمينَ لأنفُسِهم ولغَيرِهم.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه قد جَرَت العادةُ بأنَّ اللهَ تعالى إذا أوردَ على الكافِرِ أنواعَ الدَّلائلِ أتبَعَها بالقَصَصِ؛ ليصيرَ ذِكرُها مُؤَكِّدًا لتلك الدَّلائلِ، وفي هذه السُّورةِ ذَكرَ أنواعًا مِن القَصَصِ؛ القِصَّةُ الأولى قِصَّةُ نوحٍ عليه السَّلامُ

.

وأيضًا فإنَّ هذا انتِقالٌ مِن إنذارِ المُشرِكينَ ووَصفِ أحوالِهم وما ناسبَ ذلك، إلى مَوعِظتِهم بما أصاب المكَذِّبينَ قَبلَهم من المصائبِ، وفي ذلك تسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما لاقاه الرُّسُلُ عليهم السَّلامُ قَبلَه مِن أقوامِهم .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25).

أي: ولقد بعَثْنا نبيَّنا نوحًا إلى قَومِه المُشرِكينَ، فقال لهم: إنِّي نذيرٌ لكم، أُخوَفِّكم عذابَ اللهِ إن عبَدتُم غيرَه، وأُبيِّنُ لكم ما أرسَلَني اللهُ به مِن أمرِه ونَهيِه .

أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26).

أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ.

أي: أرسَلْناه إلى قَومِه بأنْ لا تعبُدوا إلَّا اللهَ وَحْدَه .

إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ.

أي: إنِّي أخافُ عليكم- يا قَومِ- إن لم توحدوا اللهَ، وتَتركوا عِبادةَ الأصنامِ- أن يُعَذِّبَكم عذابًا مُؤلِمًا مُوجعًا يومَ القيامةِ .

فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عن نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه دعا قَومَه إلى عبادةِ الله تعالى؛ حكَى عنهم أنَّهم طَعَنوا في نبوَّتِه بثلاثةِ أنواعٍ مِن الشُّبُهاتِ .

فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا.

أي: فقال الأشرافُ والكُبَراءُ الكافرونَ مِن قَومِ نُوحٍ: ما نراك- يا نوحُ- إلَّا آدميًّا مِثلَنا، ولستَ مِن الملائكةِ، فكيف يُرسِلُك اللهُ مِن دُوننا ؟!

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 23-24] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] .

وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ بَادِئَ بهَمزةٍ في آخِرِه، أي: ابتداءَ الرَّأيِ، والمعنى: اتَّبَعوك ابتداءَ الرَّأيِ مِن غيرِ أن يتدَبَّروا ما قُلتَ، ولم يتفَكَّروا فيه، ولو تفَكَّروا وتدَبَّروا لم يتَّبِعوك .

2- قراءةُ بَادِيَ بغيرِ همزٍ. مِن: بدا يبدو: إذا ظهَرَ، والمعنى: لم يتَّبِعْك إلَّا الذين هم أراذِلُنا فيما يظهرُ لنا ولا يخفَى على أحدٍ. وقيل: المعنى: اتَّبَعوك في الظَّاهِرِ وباطِنُهم على خلافِ ذلك، أي: أنَّهم أظهَروا الإسلامَ، وأبطَنوا الكُفرَ. وقيل: المعنى: اتَّبَعوك في ظاهرِ الرَّأيِ، ولم يتدَبَّروا ما قلتَ، ولم يتفَكَّروا فيه، فتكونُ بمعنى القراءةِ الأولى .

وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى.

أي: قال الكُبَراءُ مِن قَومِ نُوحٍ: وما نراك اتَّبَعَك على دينِك إلَّا الضُّعَفاءُ الذين هم سَفِلَتُنا فيما يظهَرُ لنا ولِغَيرِنا .

كما قال تعالى: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الشعراء: 111-115] .

وعن أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ رَضِيَ الله عنه، في حديثِ هِرقلَ الطَّويلِ، عندَما سأله عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه: (قال: وسألتُك عن أتباعِه: أضُعفاؤُهم أم أشرافُهم؟ فقُلتَ: بل ضُعَفاؤُهم، وهم أتباعُ الرُّسُلِ) .

وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ.

أي: قال الكُبَراءُ مِن قَومِ نُوحٍ له ولأتباعِه المُؤمِنينَ: وما نرى أنَّه حصل لكم شَرَفٌ ومزيَّةٌ علينا حين دخَلتُم في دينِكم هذا، فتَستحقُّوا اتباعَنا لكم .

بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ.

أي: بل نظُنُّكم كاذبينَ فيما تدَّعونَه .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها جوابٌ عن شُبهةِ قَومِ نُوحٍ الأولى، والمعنى: أنَّ حُصولَ المُساواة في البَشَريَّةِ لا يمنَعُ مِن حُصولِ المُفارَقةِ في صِفةِ النبوَّةِ والرِّسالةِ، وذكَرَ الطَّريقَ الدَّالَّ على إمكانِه، وهو كونُه على بيِّنةٍ مِن ربِّه .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ.

أي: قال نوحٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لِقَومِه: يا قومِ أخبِروني إن كنتُ على يقينٍ وعلمٍ مِن اللهِ، وبُرهانٍ على صحَّةِ نبوَّتي ، وبما يجِبُ عليَّ من إخلاصِ العبادةِ له وَحْدَه سُبحانَه .

وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ فَعُمِّيَتْ بضَمِّ العينِ وتشديدِ الميمِ بالبناءِ للمَفعولِ، بمعنى: أُخفِيَت، أي: أخفاها اللهُ عليكم وخَذَلكم؛ عقوبةً لكم .

2- قراءةُ فَعَمِيَتْ بفَتحِ العَينِ وتخفيفِ الميمِ، بمعنى: فعَمِيَت عليكم، فلم تهتَدوا إليها .

وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.

أي: ورَزَقني اللهُ النبوَّةَ، فخَفِيَت عليكم، ومنَعَكم اللهُ معرفةَ الحَقِّ عقوبةً لكم، فلم تهتَدوا إلى اتِّباعي .

أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ.

أي: أنغصِبُكم، ونُكرِهُكم على التَّصديقِ بها واتِّباعِها، والحالُ أنَّكم تَكرهونَها، وتنَفِرونَ منها ؟!

وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا هو الجوابُ عن الشُّبهةِ الثَّانيةِ، وهي قَولُهم: لا يتَّبِعُك إلَّا الأراذِلُ مِن النَّاسِ، وتقريرُ ذلك من وجوهٍ:

الوجه الأول: أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: أنا لا أطلبُ على تبليغِ دَعوةِ الرِّسالةِ مالًا حتى يتفاوتَ الحالُ بسبَبِ كَونِ المُستَجيبِ فقيرًا أو غنيًّا، وإنَّما أَجْري على هذه الطَّاعةِ الشَّاقَّةِ على ربِّ العالَمينَ، وإذا كان الأمرُ كذلك فسواءٌ كانوا فُقَراءَ أو أغنياءَ، لم يتفاوتِ الحالُ في ذلك.

الوجه الثاني: كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال لهم: إنَّكم لَمَّا نَظَرتُم إلى ظواهرِ الأمورِ وَجَدتُموني فقيرًا، وظَنَنتُم أنِّي إنما اشتغلتُ بهذه الحِرفةِ؛ لأتوسَّلَ بها إلى أخذِ أموالِكم، وهذا الظنُّ منكم خطأٌ؛ فإنِّي لا أسألُكم على تبليغِ الرِّسالةِ أجرًا؛ إنْ أجريَ إلَّا على ربِّ العالَمينَ، فلا تَحرِموا أنفُسَكم من سعادةِ الدِّينِ؛ بسبب هذا الظَّنِّ الفاسدِ.

الوجه الثالث: أنَّهم قالوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا إلى قَولهم: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فهو عليه السَّلامُ بيَّنَ أنَّ اللهَ تعالى أعطاه أنواعًا كثيرةً توجِبُ فَضلَه عليهم؛ ولذلك لم يسْعَ في طلَبِ الدُّنيا، وإنَّما يسعى في طلَبِ الدِّينِ، والإعراضُ عن الدُّنيا من أُمَّهاتِ الفضائِلِ باتِّفاقِ الكُلِّ، فلعلَّ المرادَ تقريرُ حُصولِ الفَضيلةِ مِن هذا الوَجهِ .

وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ.

أي: ويا قَومِ لا أطلُبُ منكم مالًا أجرةً لي على تبليغي رسالةَ اللهِ، ما أجري على نَصيحَتي ودَعوتي لكم إلَّا على اللهِ الذي أرسَلَني، فهو الذي يُثيبُني .

وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ.

أي: وما أنا بمُقْصٍ الضُّعَفاءَ المُؤمنينَ مِن قُربي وجواري؛ لاحتقارِكم لهم .

كما قال الله تعالى لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم ناهيًا إيَّاه أن يطرُدَ جماعةً من ضُعَفاءِ المؤمنينَ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 52] .

إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ.

أي: إنَّ هؤلاء المُؤمِنينَ الضُّعَفاءَ صائِرونَ إلى اللهِ يومَ القيامةِ، فيسألُهم عن أعمالِهم، لا عن شَرَفِهم وحسَبِهم، ويُثيبُهم عليها، ويُجازي مَن ظَلَمَهم .

وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ.

أي: ولكِنِّي أراكم قومًا تجهلونَ كُلَّ ما تنبغي مَعرِفتُه؛ ومن ذلك عَظَمةُ اللهِ وتَوحيدُه، ومَنزلةُ المؤمنينَ عِندَه، فمِن جَهْلِكم سألتُموني طَردَهم، وهم خيرٌ منكم .

وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (30).

وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ.

أي: قال نوح عليه الصَّلاة والسَّلام: ويا قَومِ مَن يمنَعُني مِن عذابِ اللهِ إن طَردتُ المؤمنينَ فعاقَبَني ؟

أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.

أي: أفلا تتَفَكَّرونَ وتتَّعظونَ، فتَنزَجِروا عمَا تقولونَ، وتَنتَهوا عن جَهلِكم وضَلالِكم ؟!

وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا تفصيلٌ لِما رَدَّ به نوحٌ عليه السَّلامُ مقالةَ قَومِه إجمالًا؛ فهم استدَلُّوا على نفيِ نُبوَّتِه بأنَّهم لم يَرَوا له فضلًا عليهم، فجاء هو في جوابِهم بالقَولِ بالمُوجِبِ أنَّه لم يدَّعِ فَضلًا غيرَ الوحيِ إليه .

وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ.

أي: ولا أقولُ لكم: عندي خزائِنُ رِزقِ اللهِ، أتصرَّفُ فيها بالإعطاءِ والمَنعِ، فأدعوكم إلى اتِّباعي عليها .

وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ.

أي: ولا أدَّعي أنِّي أعلَمُ ما غاب وخَفِيَ من السَّرائِرِ، وغير ذلك ممَّا لا يعلَمُه إلَّا اللهُ وَحْدَه .

وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ.

أي: ولا أقولُ لكم: إنِّي مَلَكٌ مِن الملائكةِ، بل أنا بشَرٌ مِثلُكم أبلِّغُكم ما أرسَلَني اللهُ به .

وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا.

أي: ولا أقولُ عن المؤمنينَ الذين تحتَقِرُهم أعيُنُكم: لن يُعطِيَهم اللهُ أجورَهم وثوابَهم على إيمانِهم .

اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ.

أي: اللهُ أعلَمُ بما في قلوبِ أولئك المُؤمِنينَ مِن اعتقاداتٍ ونيَّاتٍ .

إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ.

أي: إنِّي- إن ادَّعيتُ أنَّ اللهَ لن يؤتيَ المؤمنينَ خَيرًا، وحكمتُ بأنَّهم يُظهِرونَ غيرَ ما يُبطنِونَ في نفوسِهم وطَرَدتُهم- لَمِنَ المُعتَدينَ ما أمَرَهم اللهُ به، القائلينَ ما لا عِلمَ لهم به، الفاعلينَ ما ليس لهم فِعلُه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ الله تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ قَولُهم هذا قَولُ مَن يعرِفُ الحَقَّ بالرِّجالِ، ولا يَعرِفُ الرِّجالَ بالحَقِّ؛ وذلك أنَّه يستدِلُّ على كونِ الشَّيءِ حَقًّا بعَظَمةِ مُتَّبِعه في الدُّنيا، وعلى كونِه باطلًا بحَقارتِه فيها

.

2- قولُهم: بَادِيَ الرَّأْي ليس بمذمةٍ ولا عيبٍ؛ لأنَّ الحقَّ إذا وضَح لا يبقَى للتروِّي ولا للفكرِ مجالٌ- وهذا على أحدِ القولين في التفسيرِ- بل لا بدَّ مِن اتباعِ الحقِّ- والحالة هذه- لكلِّ ذي زكاءٍ وذكاءٍ، ولا يفكِّر وينزوي هاهنا إلا عييٌّ أو غبيٌّ، والرسلُ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما جاءوا بأمرٍ جليٍّ واضحٍ .

3- إنَّ العَقلُ والشَّرعُ تطابقا على أنَّه لا بُدَّ مِن تعظيمِ المؤمِنِ البَرِّ التقيِّ، وإهانةِ الفاجرِ الكافرِ، فلو عُكِسَت القضيةُ، فقُرِّبَ الكافِرُ الفاجِرُ على سبيلِ التَّعظيمِ، وطُرِدَ المؤمِنُ التَّقيُّ على سبيلِ الإهانةِ، كان ذلك على ضِدِّ أمرِ الله تعالى، وعلى عَكسِ حُكمِه مِن إيصالِ الثَّوابِ إلى المحقِّينِ، والعِقابِ إلى المُبطِلينَ، قال تعالى حكايةً عن نوحٍ عليه السلامُ: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- ذكَر الله سبحانَه قصصَ الأنبياءِ عليهم السَّلام للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تنبيهًا له على ملازمةِ الصبرِ على أذَى الكفارِ إلى أن يكفيَه الله أمرَهم، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ...

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ بادرَ الملأُ- أي: الأشرافُ والزُّعَماءُ الذين كَفَروا مِن قَومِه- إلى الجوابِ؛ لِيكونَ الدَّهْماءُ تَبعًا لهم كعادَتِهم، واقتَرَن جوابُهم هنا بـ (الفاء)؛ لأنَّه هو الأصلُ في الرَّدِّ السَّريعِ .

3- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ كرَّرَ نوحٌ عليه السَّلامُ هذه اللَّفظةَ كُلَّ قليلٍ؛ تذكيرًا لهم أنَّه منهم؛ لِتُعَطِّفَهم الأرحامُ، وتَرُدَّهم القَراباتُ عن حَسَدِه أو اتِّهامِه، إلى قَبولِ ما يُلقي إليهم مِن الكلامِ .

4- عُطِفَت جُملةُ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينِ آمَنُوا على جملةِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا؛ لأنَّ مَضمونَها كالنَّتيجةِ لِمَضمونِ المَعطوفِ عليها، لأنَّ نَفيَ طَمَعِه في المُخاطَبينَ يَقتَضي أنَّه لا يُؤذي أتباعَه لأجلِ إرضاءِ هؤلاء .

5- صِفاتُ الكَمالِ تَرجِعُ إلى ثلاثةٍ: العلمِ والقُدرةِ والغِنَى، وهذه الثَّلاثةُ لا تَصلحُ على وجهِ الكَمالِ إلَّا لله وَحدَه؛ فإنَّه الذي أحاط بكُلِّ شَيءٍ عِلمًا، وهو على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وهو غنيٌّ عن العالَمين، وقد أُمِرَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يبرأَ مِن دعوى هذه الثَّلاثةِ بقَولِه: قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام: 50] ، وكذلك قال نوحٌ عليه السَّلامُ: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فهذا أوَّلُ أولي العَزمِ وأوَّلُ رَسولٍ بَعَثَه الله تعالى إلى أهلِ الأرضِ، وهذا خاتَمُ الرُّسُلِ وخاتَمُ أولي العَزمِ، كِلاهما يتبَرَّأُ من ذلك .

6- دلَّ قولُه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ على أنَّه ليس مِن شَرْطِ الرَّسولِ أن يَعلمَ كلَّ ما يكونُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ

- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فيه تأكيدُ الجملَةِ بلامِ القسَمِ و(قَدْ)؛ لأنَّ المخاطَبين لَمَّا غفَلوا عَن الحذَرِ ممَّا بِقَومِ نوحٍ مَع مُماثَلةِ حالِهم؛ نُزِّلوا مَنزِلةَ المنكِرِ لوقوعِ رِسالتِه

.

- قولُه: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ اقتَصر على النذارةِ دونَ البشارةِ؛ لأنَّ دعوتَه كانت لمجردِ الإنذارِ، أو لكونِهم لم يعمَلوا بما بشَّرهم به .

2- قولُه تعالى: أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ

- جملةُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ تَعليليَّةٌ لِمُوجِبِ النَّهيِ المستَفادِ مِن أَلَّا تَعْبُدُوا، والمعنى: نَهيتُكم عن عبادةِ غيرِ اللهِ؛ لأنِّي أخافُ عليكم، وفيها تَحقيقٌ لِمَعنى الإنذارِ .

- وقولُه: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فيه وصفُ اليومِ بالأليمِ؛ لِوُقوعِ الألَمِ فيه، وهو أبلَغُ مِن أن يُوصَفَ العذابُ بالأليمِ .

3- قولُه تعالى: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ

- قولُه: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ فيه عطْفُ قولِ الملَأِ مِن قومِه بالفاءِ على فِعْلِ أَرْسَلْنَا؛ للإشارةِ إلى أنَّهم بادَروه بالتَّكذيبِ والمُجادَلةِ الباطلةِ لَمَّا قال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ... [هود: 25] إلى آخِرِه، ولَم تقَعْ حِكايةُ ابتداءِ مُحاوَرتِهم إيَّاه بـ (قال) مجرَّدًا عن الفاءِ، كما وقَع في سورةِ الأعرافِ؛ لأنَّ ابتداءَ مُحاوَرتِه إيَّاهم هنا لم يقَعْ بلَفظِ القولِ؛ فلم يَحْكِ جَوابَهم بطَريقةِ المُحاوَراتِ بخِلافِ آيةِ الأعرافِ .

- قولُه: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا فيه تعريضٌ مِنهم بأنَّهم أحَقُّ منه بالنُّبوَّةِ، وأنَّ اللهَ لو أراد أن يَجعَلَها في أحَدٍ مِن البشَرِ لجعَلَها فيهم .

- وقولُه: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا مُبالَغةٌ في الإخبارِ، وكأنَّه مُؤْذِنٌ بتَأكيدِ حَصْرِ مَن اتَّبَعه، وأنَّهم هم الأراذِلُ لم يَشرَكْهم شَريفٌ في ذلك ، وعُبِّر عنهم بالموصولِ والصِّلةِ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا دونَ أن يُقالَ: (إلَّا أراذِلُنا)؛ لحِكايةِ أنَّ في كلامِ الَّذين كفَروا إيماءً إلى شُهرَةِ أتباعِ نوحٍ عليه السَّلامُ بينَ قومِهم بوصفِ الرَّذالةِ والحَقارةِ، وكان أتباعُ نوحٍ عليه السَّلامُ مِن ضُعفاءِ القومِ، ولكنَّهم مِن أَزْكياءِ النُّفوسِ ممَّن سبَق لهم الهُدى .

- وقولُهم: وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فيه جمعُ الضَّميرِ في لَكُمْ؛ لأنَّهم لَمَّا وصَفوا كلَّ فَريقٍ مِن التَّابعِ والمتبوعِ بما يَنْفي سِيادةَ المَتْبوعِ، وتَزْكيةَ التَّابعِ- جمَعوا الوَصْفَ الشَّاملَ لهما، وهو المقصودُ مِن الوَصْفَينِ المفرَّقَين، فنَفَوْا أن يَكونَ لنوحٍ عليه السَّلامُ وأتباعِه فضلٌ على الَّذين لم يُؤمِنوا به حتَّى يكونَ نوحٌ عليه السَّلامُ سيِّدًا لهم، ويَكونَ أتباعُه مُفضَّلين بسِيَادةِ مَتْبوعِهم .

4- قولُه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ

- فُصِلَت جملةُ قَالَ يَا قَوْمِ عن الَّتي قبْلَها- أي: لم تُعطَفْ عليها- على طريقةِ حِكايَةِ الأقوالِ في المحاوَراتِ، كما في قولِه تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] ؛ فلمَّا وقَعَت هذه الجملةُ مُقابِلًا لكَلامٍ مَحْكيٍّ يُقالُ، فُصِلَت الجملةُ ولم تُعطَفْ، بخلافِ ما تقدَّم آنِفًا في قولِه: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [هود: 27] .

- قولُه: قالَ يَا قَوْمِ فيه افتِتاحُ مُراجَعتِه عليه السَّلامُ بالنِّداءِ؛ لِطلَبِ إقبالِ أَذْهانِهم لوَعْيِ كلامِه، واختيارِ استِحْضارِهم بعُنوانِ قومِه؛ لاستِنْزالِ طَائرِ نُفورِهم؛ تَذكيرًا لهم بأنَّه مِنهم فلا يُريدُ لهم إلَّا خيرًا .

- قولًه: أَرَأَيْتُمْ استِفهامٌ تقريريٌّ، وهو بمعنى: أَخبِروني .

- قولُه: عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي فيه اختيارُ وَصْفِ الرَّبِّ دونَ اسْمِ الجَلالةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ إعطاءَه البيِّنةَ والرَّحمةَ فضلٌ مِن اللهِ، أراد به إظْهارَ رِفْقِه، وعِنايَتِه به .

- قولُه: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ فيه عطفُ فِعْلِ (عُمِّيَت) بفاءِ التَّعقيبِ؛ إيماءً إلى عدَمِ الفترةِ بينَ إيتائِه البيِّنةَ والرَّحمةَ وبينَ خَفائِها عليهم، وهو تعريضٌ لهم بأنَّهم بادَروا بالإنكارِ قبلَ التَّأمُّلِ .

- عُدِّي فِعلُ (عُمِّيَت) بحرفِ (عَلى)؛ لِتَضْمينِه مَعنى: الخَفاءِ .

- ومِن بَديعِ هذا الاستِعْمالِ هنا أنَّ فيه طِباقًا؛ لِمُقابَلةِ قولِهم في مُجادَلتِهم: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَرًا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ، فقابَل نوحٌ عليه السَّلامُ كَلامَهم مُقابَلةً بالمعنى واللَّفظِ؛ إذ جعَل عدَمَ رُؤيتِهم مِن قَبيلِ العَمى .

- قولُه: أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ، الاستِفْهامُ إنكاريٌّ، أي: ما كان لنا ذلك؛ لأنَّ اللهَ لم يَأمُرْه بإكْراهِهم إعراضًا عن العنايةِ بهم، فتُرِك أمْرُهم إلى اللهِ، وذلك أشَدُّ في تَوقُّعِ العقابِ العظيمِ .

- وفي قولِه: أَنُلْزِمُكُمُوهَا، جيءَ بضَميرِ المتكلِّمِ المشارِكِ هنا، فلم يَقُلْ: (أَأُلْزِمُكُموها)؛ للإشارةِ إلى أنَّ الإلزامَ لو فُرِض وُقوعُه لكان له أعوانٌ عليه وهم أتباعُه؛ فأراد ألَّا يُهمِلَ ذِكْرَ أتباعِه، وأنَّهم أنصارٌ له، لو شاء أن يُهِيبَ بهم، والقَصْدُ مِن ذلك التَّنويهُ بشَأنِهم في مُقابَلةِ تَحقيرِ الآخَرين إيَّاهم .

- وتَقْديمُ المجرورِ لَهَا على كَارِهُونَ؛ لرِعايةِ الفاصِلَةِ مع الاهتمامِ بشَأنِها، والمقصودُ مِن كَلامِه بَعْثُهم على إعادةِ التَّأمُّلِ في الآياتِ، وتَخفيضِ نُفوسِهم، واستِنْزالِهم إلى الإنصافِ، وليس المقصودُ مَعذِرَتَهم بما صنَعوا، ولا العُدولَ عن تَكْريرِ دَعوَتِهم .

- والتعبيرُ في قَولِ الله تعالى: وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ بالجُملةِ الاسميَّةِ واسمِ الفاعلِ إشارةٌ إلى أنَّ أفعالَهم أفعالُ مَن كراهتُه لها ثابِتةٌ مُستحكمةٌ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا في قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ [هود: 28] ، وقال في قصَّةِ صالحٍ عليه السَّلامُ في هذه السُّورةِ: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً [هود: 63] ؛ فتَساوَيا في اللَّفْظَين، واختَلفا في تقديمِ المفعولِ الثَّاني في الآيةِ الأولى على الجارِّ والمجرورِ، حيث قال: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وتأخيرِه عَنهما في الآيةِ الثَّانيةِ حيث قال: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً؛ ووجهُ ذلك: أنَّ قومَ صالحٍ عليه السَّلامُ بالَغوا في إساءةِ الجوابِ حينَ قالوا: يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هود: 62] ، فرَمَوا مَقامَه النَّبويَّ بِحَطِّ مَرتَبتِه عنهم، فلمَّا بالَغوا في إساءةِ الجوابِ ردَّ عليهم عليه السَّلامُ ردًّا لِمَقالِهم الشَّنيعِ بقولِه: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فخاطَبهم على ما يَجْري في مُناظَرةِ مَن فَرَض ما لا يَعتَقِدُه المناظِرُ على حسَبِ نُطقِه، ولكنَّه يَستنزِلُ بذلك مُناظِرَه؛ لِيُقيمَ الحُجَّةَ عليه، فيَقولُ: هَبْ كذا على ما تَقولُه، فعلى هذا جَرى قولُ النَّبيِّ الكريمِ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، أي: كيف ترَون إنْ كنتُ على واضحةٍ وعلى يقينٍ مِن ربِّي، وآتاني مِنه رحمةً فعَصَيتُه بمُوافَقتِكم، فإن فعَلتُ ذلك فمَن يَنصُرُني ويَمنَعُني مِن عَذابِه، وأكَّد بتَقدُّمِ المجرورِ في قولِه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً؛ لِمَا يُحْرِزُ تَقديمُه مِن التَّأكُّدِ، ويَعِيه مَفهومُه مِن أنَّ الرَّحمةَ مِنه سُبحانه لا يُشرَكُ فيها غيرُه، فهو مخصوصٌ لا يَحصُلُ مع تأخيرِه، فلمَّا بالَغُوا في قُبْحِ الجوابِ بالَغ عليه السَّلامُ في ردِّ مَقالِهم؛ فقَدَّم المجرورَ لتأكيدِ أنَّ الرَّحمةَ مِن عندِ اللهِ تعالى: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً. ولَمَّا لم يَكُنْ في مُراجَعةِ قومِ نوحٍ مثلُ هذا في شَناعةِ الجوابِ؛ لأنَّ أقصى المفهومِ مِن قولِهم: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، إلحاقُه بهم، ومُماثلتُه إيَّاهم، وكلُّهم يقولُ: لو كُنتَ رسولًا لكنتَ مِن الملائكةِ ولم تَكُنْ لِتُماثِلَنا، فلم يَكُنْ في قولِ هؤلاء ما في قولِ قومِ صالحٍ، فجرَى جَوابُه عليه السَّلامُ على نِسْبةِ ذلك، فقال: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، فأتى بالمجرورِ مؤخَّرًا في مَحلِّه على ما يَجِبُ، حيث لا يُقصَدُ في إحرازِ المفهومِ ما قُصِد في الآيةِ الأخرى؛ فورَد كلٌّ على ما يُلائِمُ .

- وأيضًا مِن حُسْنِ المناسَبةِ قولُ اللهِ تعالى: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وبعدَه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً [هود: 23] ، وبعدَهما: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا [هود: 88] ، فقال في الأَوَّلَيْن وَآتَانِي، وفي الثَّالثِ: وَرَزَقَنِي؛ ووجهُ ذلك: أنَّ الثَّالِثَ تَقدَّمه ذِكرُ الأموالِ، وتأخَّر عنه قولُه: رِزْقًا حَسَنًا، وهُما خاصَّان؛ فناسَبَهما قولُه: وَرَزَقَنِي، بِخِلافِ الأوَّلَين؛ فإنَّه تَقدَّمَهما أمورٌ عامَّةٌ، فناسَبها قولُه: وَآتَانِي .

- وأيضًا ناسبَ قولُه تعالى هنا: وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ، وبعدَه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً [هود: 23] ، وبعدَهما: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا [هود: 88] ؛ لأنَّ عِنْدِهِ وإن كان ظرفًا فهو اسمٌ، فذَكَر الأُولى بالتَّصريحِ والثَّانيةَ والثَّالثةَ بالكنايةِ؛ لِتَقدُّمِ ذِكْرِه، فلمَّا كَنَى عنه قدَّمَه؛ لأنَّ الكنايةَ يتَقدَّمُ عليها الظَّاهرُ نحوُ: ضرَب زيدٌ عَمْرًا، فإنْ كَنَيتَ عن عَمْرٍو قدَّمتَه، نحوُ: عَمرٌو ضرَب زيدًا، وكذلك: زيدٌ أعطاني دِرْهَمًا مِن مالِه، فإن كنَيْتَ عن المالِ قلتَ: المالُ زيدٌ أَعْطاني منه دِرهَمًا .

5- قولُه تعالى: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ

- قولُه: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا في إعادةِ الخِطابِ بـ يَا قَوْمِ تأكيدٌ لِمَا في الخطابِ به أوَّلَ مرَّةٍ مِن المعاني، وعُطِف النِّداءُ بالواوِ- مع أنَّ المخاطَبَ به واحدٌ، وشأنُ عطفِ النِّداءِ أن يَكونَ عندَ اختلافِ المنادَى، فأمَّا إذا اتَّحد المنادى فالشَّأنُ عدَمُ العطفِ، فتَعيَّن هنا أن يَكونَ العطفُ مِن مَقولِ نوحٍ عليه السَّلامُ لا مِن حكايةِ اللهِ عنه، ويجوزُ أن يَكونَ تَنبيهًا على اتِّصالِ النِّداءاتِ بعضِها ببعضٍ، وأنَّ أحَدَها لا يُغْني عن الآخَرِ، ولا يكونُ ذلك مِن قَبيلِ الوصْلِ؛ لأنَّ النِّداءَ افتِتاحُ كلامٍ، فجُملتُه ابتدائيَّةٌ، وعَطفُها إذا عُطِفَت مجرَّدُ عطفٍ لفظيٍّ، ويجوز أيضًا أن يكونَ ذلك تَفنُّنًا عربيًّا في الكلامِ عندَ تَكرُّرِ النِّداءِ؛ استِحْسانًا للمُخالَفةِ بينَ التَّأكيدِ والمؤكَّدِ .

- جملةُ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احتِراسٌ؛ لأنَّه لَمَّا نفى أن يَسأَلَهم مالًا، والمالُ أجرٌ، نشَأ توهُّمٌ أنَّه لا يَسأَلُ جَزاءً على الدَّعوةِ؛ فجاء بجملةِ: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ احْتِرَاسًا .

- وفيه المُخالَفةُ بينَ العِبارتَينِ في قولِه: مَالًا وأَجْرِيَ؛ لإفادةِ أنَّه لا يَسْأَلُ مِن اللهِ مالًا، ولكنَّه يَسأَلُ ثَوابًا .

- قولُه: وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا فيه التَّعبيرُ عن أَتْباعِه بطريقِ الموصوليَّةِ: الَّذِينَ آمَنُوا؛ لِمَا يُؤْذِنُ به الموصولُ مِن تغليظِ قومِه في تعريضِهم له بأن يَطرُدَهم بما أنَّهم لا يُجالِسون أمثالَهم؛ إيذانًا بأنَّ إيمانَهم يوجِبُ تَفضيلَهم على غيرِهم الَّذين لم يُؤمِنوا به، والرَّغبةَ فيهم؛ فكيف يَطرُدُهم؟! وفيه أيضًا إبطالٌ لِما اقتَضاه قولُهم: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [هود: 27] مِن التَّعريضِ بأنَّهم لا يُماثِلونهم في مُتابَعتِه .

- وجملةُ: إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ في مَوضِعِ التَّعليلِ لِنَفْيِ أن يَطرُدَهم؛ بأنَّهم صائِرُون إلى اللهِ في الآخِرةِ، فمُحاسِبٌ مَن يَطرُدُهم ،، وتأكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) لِرَدِّ إنكارِ قومِه البَعْثَ، أو للاهتمامِ بذلك اللِّقاءِ، وقد زِيدَ هذا التَّأكيدُ تأكيدًا بجُملَةِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ .

- قولُه: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ استدراكٌ، وموقِعُ هذا الاستدراكِ هو أنَّ مضمونَ الجُملةِ ضدُّ مَضمونِ التي قبَلَها، وهي جملةُ إِنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ، أي: لا ريبَ في ذلك، ولكنَّكم تَجهلونَ فتَحسَبونَهم لا حُضرةَ لهم، وأنْ لا تَبِعةَ في طَرْدِهم .

- وزيادةُ لفظةِ قَوْمًا في قولِه: وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ جَهْلَهم صفةٌ لازمةٌ لهم؛ كأنَّها مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم، وحذَفَ مفعولَ تَجْهَلُونَ؛ للعِلْمِ به، أي: تَجهَلون ذلك .

- وفي تَعبيرِه بـ تَجْهَلُونَ دون (جاهلينَ) إشارةٌ إلى أنَّ الجَهلَ مُتجَدِّدٌ لهم، وهو غيرُ عادتِهم؛ استعطافًا لهم إلى الحِلمِ .

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا في قصَّةِ نوحٍ: وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ [هود: 29] ، وقاله بعدُ- حِكايةً عن هودٍ- بلفظِ: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا [هود: 51] ؛ وذلك لأنَّه في قصَّةِ نوحٍ وقَعَ بعدَها خَزَائِنُ ولفظُ المالِ بالخزائنِ ألْيَقُ ، أو يكونُ هذا الاختلافُ توسِعةً في التَّعبيرِ عن المرادِ بمُتساوِيَيْن .

- ومِن حُسْنِ المناسَبةِ كذلك قولُه أيضًا هنا: وَيَا قَوْمِ بالواوِ، وفي الثَّانيةِ: يَا قَوْمِ [هود:51] بدُونِها؛ وذلك لطولِ الكلامِ الواقعِ بين النِّداءَينِ في قصَّةِ نوحٍ، وقِصَرِ ما بينَهما في قصَّةِ هودٍ، فناسَب ذِكْرُ الواوِ في الأوَّلِ؛ لِتَوصيلِ ما بَعدَها بما قبلَها .

6- قولُه تعالى: وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ

- قولُه: خَزَائِنُ اللَّهِ إضافةُ خَزائِنَ إلى اللهِ لاختِصاصِ اللهِ بها .

- قولُه: وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ فيه إعادةُ فِعلِ القولِ؛ لأنَّه نفيٌ لِشُبهةِ قولِهم: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا، وإبطالُ دَعْوى أُخرَى ألصَقُوها به، وتأكيدُه بـ (إنَّ) لأنَّه قولٌ لا يَقولُه قائلُه إلَّا مؤكَّدًا؛ لشِدَّةِ إنكارِه لو ادَّعاه مُدَّعٍ؛ فلمَّا نَفاه نفَى صيغةَ إثباتِه .

- قولُه: وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا إبطالٌ لقولِهم: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بطريقةِ التَّغليطِ؛ لأنَّهم جعَلوا ضعْفَهم وفَقْرَهم سببًا لانتِفاءِ فَضْلِهم، فأبطَلَه بأنَّ ضعْفَهم ليس بحائِلٍ بينَهم وبينَ الخيرِ مِن اللهِ؛ إذْ لا ارتِبَاطَ بينَ الضَّعفِ في الأمورِ الدُّنيَويَّةِ مِن فقرٍ وقلَّةٍ، وبينَ الحرمانِ مِن نَوالِ الكمالاتِ النَّفْسانيَّةِ والدِّينيَّةِ .

- وقولُه: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا فيه الإتيانُ بحرفِ النَّفيِ لَنْ الدَّالِّ على تأكيدِ نفْيِ الفعلِ في المستقبَلِ؛ تَعْريضًا بقومِه؛ لأنَّهم جعَلوا ضعْفَ أتباعِ نوحٍ عليه السَّلامُ وفَقْرَهم دليلًا على انتِفاءِ الخيرِ عنهم؛ فاقتَضى دَوامَ ذلك ما داموا ضُعَفاءَ فُقراءَ، فلِسانُ حالِهم يقولُ: لن يَنالوا خيرًا، فكان ردُّه عليهم بأنَّه لا يَقولُ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا .

- وجملةُ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا في أَنْفُسِهِمْ تعليلٌ لنَفْيِ أن يَقولَ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا؛ ولذلك فُصِلَت عن الجُملةِ قبْلَها، ولم تُعطَفْ عليها .

- وجملةُ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ تعليلٌ ثانٍ لِنَفيِ أن يقولَ: لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا، وقد أكَّدها بثلاثِ مؤكِّداتٍ: (إنَّ)، ولامِ الابتِداءِ، وحَرْفِ الجزاءِ إِذًا؛ تحقيقًا لِظُلمِ الَّذين رمَوُا المؤمِنين بالرَّذالةِ، وسَلَبوا الفضْلَ عنهم؛ لأنَّه أرادَ التَّعريضَ بقومِه في ذلك، وقولُه: لَمِنَ الظَّالِمِينَ أبلَغُ في إثباتِ الظُّلمِ مِن: (إنِّي ظالمٌ)

 

=======

 

سورة هود

الآيات (32-35)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ

غريب الكلمات:

 

يُغْوِيَكُمْ: أي: يُضِلَّكم، وقيل: يُهْلِكَكم؛ لأنَّ الإضلالَ يُفْضي إلى الهلاكِ، وأصلُ (غوي): يدُلُّ على خِلافِ الرُّشدِ، وإظلامِ الأمرِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ الله تعالى عن قومِ نُوحٍ أنَّهم قالوا له: يا نوحُ قد حاجَجْتَنا فأكثَرتَ مُحاجَّتَنا، فأْتِنا بما تَعِدُنا مِن العذابِ إن كنتَ مِن الصَّادقينَ في دعواك، فقال لهم نوحٌ: إنَّ اللهَ وَحدَه هو الذي يأتيكم بالعذابِ إن شاء، ولَستُم بفائِتِيه إذا أراد أن يعَذِّبَكم؛ لأنَّه سُبحانَه لا يُعجِزُه شَيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ، ولا ينفَعُكم نُصحي واجتهادي في دَعوتِكم للإيمانِ، إن كان اللهُ يريدُ أن يُضِلَّكم، هو سبحانَه مالِكُكم، وإليه تُرجَعونَ في الآخرةِ للحِسابِ والجزاءِ.

بل أيقولُ مُشرِكو قَومِك- يا مُحمَّدُ: إنَّك اختلقتَ القُرآنَ، واختلقتَ قِصَّةَ نُوحٍ مِن تِلقاءِ نَفسِك؟! قلْ لهم: إن كنتُ قد افتريتُ ذلك على اللهِ، فعليَّ وحدي إثمُ ذلك، وإذا كنتُ صادقًا فأنتم المُجرِمونَ الآثِمونَ، وأنا بريءٌ مِن كُفرِكم وتَكذيبِكم وإجرامِكم.

تفسير الآيات:

 

 

قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا.

أي: قال المُشرِكونَ مِن قَومِ نوحٍ: يا نوحُ، قد حاجَجتَنا وخاصَمتَنا، فأكثَرْتَ محاجَّتَنا وخُصومَتَنا، وبالغْتَ فيها

.

فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.

أي: فعجِّلْ لنا- يا نوحُ- الذي تَعِدُنا به من العَذابِ، إن كنتَ من الصَّادقينَ في أقوالِك ودعواك أنَّك رسولُ اللهِ حقًّا .

قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33).

قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء.

أي: قال نوحٌ لِقَومِه: إنَّما يأتيكم بالعَذابِ ويُعجِّلُه لكم اللهُ وَحْدَه، إن أراد أن يُهلِكَكم .

وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ.

أي: ولستُم بفائتينَ اللهَ بالهَرَبِ من عقابه، ولا قدرةَ لكم على دَفعِ عَذابِه .

وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ نوحٌ عليه السَّلامُ أنَّهم إنَّما هم في قَبضتِه تعالى؛ زاد في بيانِ عَظَمتِه، وأنَّ إرادتَه تضمحِلُّ معها كلُّ إرادةٍ، في سياقٍ دالٍّ على أنَّه بذلك ناصِحٌ لهم، وأنَّ نُصحَه خاصٌّ بهم .

وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ.

أي: ولا ينفَعُكم ما أبذُلُه لكم مِن نُصحٍ إن كان اللهُ يشاءُ أن يُضِلَّكم ويَخذُلَكم،  ويُوقِعَ الغَوايةَ في قلوبِكم .

هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

أي: الله هو ربُّكم المتصَرِّفُ في أمورِكم بما يشاءُ، فإليه وحده الهِدايةُ والغَوايةُ، وإليه وَحدَه تصيرونَ بعد هلاكِكم، فيُجازيكم على أعمالِكم .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها جُملةٌ مُعتَرِضةٌ بينَ جملةِ أجزاءِ القِصَّةِ، وليست مِن القِصَّةِ، ومناسَبةُ هذا الاعتراضِ أنَّ تفاصيلَ القِصَّةِ التي لا يَعلَمُها المُخاطَبونَ تفاصيلُ عَجيبةٌ تدعو المُنكِرينَ إلى أن يتذكَّروا إنكارَهم، ويُعيدوا ذِكرَه. وكونُ ذلك مطابقًا لِما حصلَ في زَمَنِ نوحٍ عليه السَّلامُ، وشاهِدةً به كُتُبُ بني إسرائيلَ، يدُلُّ على صِدقِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ عِلمَه بذلك مع أميَّتِه وبُعدِ قَومِه عن أهلِ الكِتابِ، آيةٌ على أنَّه وَحيٌ مِن اللهِ لا يأتيه الباطِلُ مِن بين يَدَيه ولا مِن خَلْفِه .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.

أي: أم يقولُ مُشرِكو قَومِك- يا مُحمَّدُ: اختلقَ محمَّدٌ هذا القُرآنَ، واختلق قِصَّةَ نوحٍ مِن تِلقاءِ نَفسِه ؟

قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ.

أي: قل- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إن اختلقْتُ القُرآنَ وافتعلتُه- كما تَزعمونَ- فعلَيَّ وحدي إثمي في كَذِبي على اللهِ، وأنا بريءٌ ممَّا تُذنِبونَ مِن الكُفرِ والكَذِب على اللهِ، والتَّكذيبِ بالحَقِّ

 

.

الفوائد التربوية :

 

في قَولِه تعالى: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا دَلالةٌ على المُجادلةِ المَشروعةِ- وقد تجبُ وقد تُستحَبُّ- وأمَّا المذمومةُ شَرعًا فهي: الجَدلُ بالباطِلِ، والجدلُ بغيرِ عِلمٍ، والجدلُ في الحقِّ بعد ما تبيَّن

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا سَمَّوه (وَعْدًا) سُخريةً به، أي: أنَّ هذا الذي جعلْتَه وعيدًا هو عندنا وعدٌ حسَنٌ سارٌّ، باعتبارِ أنَّا نحِبُّ حُلولَه، فالمعنى: أنَّك لستَ قادرًا على ذلك، ولا أنت صادِقٌ فيه، فإن كان حقًّا فائْتِنا به

.

2- قال الله تعالى: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الإغواءَ بإرادةِ الله، وهي بذلك تدُلُّ على بُطلانِ مَذهَبِ المُعتَزلةِ والقَدَريَّةِ ومَن وافَقَهما؛ إذ زعموا أنَّ الله تعالى لا يُريدُ أن يَعصيَ العاصي، ولا يكفُرَ الكافِرُ، ولا يغويَ الغاوي، فرَدَّ الله عليهم بقَولِه تعالى: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، فأضاف إغواءَهم إلى اللهِ سبحانه وتعالى؛ إذ هو الهادي والمُضِلُّ، سبحانه عمَّا يقولُ الجاحِدونَ والظَّالِمونَ عُلُوًّا كبيرًا .

3- في قَولِه تعالى: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ بيانُ نوعِ الإرادةِ الكونيَّةِ- وهي الإرادةُ المُستَلزِمةُ لوقوعِ المُرادِ- ويُقابِلُها الإرادةُ الدينيَّةُ الشَّرعيَّةُ- وهي محبَّةُ المرادِ ورِضاه، ومحبَّةُ أهلِه والرِّضا عنهم، وجزاؤُهم بالحُسنى- كقَولِه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ

 

[البقرة: 185] .

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ

- قولُهم: فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا خبَرٌ مستعمَلٌ في التَّذمُّرِ والتَّضْجيرِ والتَّأييسِ مِن الاقتناعِ

.

2- قولُه تعالى: قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

- قولُه: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ فيه قَصْرُ قَلْبٍ ، بِناءً على ظاهِرِ طلَبِهم؛ حَملًا لِكلامِهم على ظاهِرِه، على طَريقةِ مُجاراةِ الخَصْمِ في المناظَرةِ، وإلَّا فإنَّهم جازِمون بتَعذُّرِ أن يأتِيَهم بما وعَدهم؛ لأنَّهم يَحسَبونه كاذِبًا، وهم جازِمون بأنَّ اللهَ لم يتَوعَّدْهم، ولعلَّهم كانوا لا يُؤمِنون بوجودِ اللهِ .

- وقولُه: إِنْ شَاءَ احتراسٌ راجعٌ إلى حَملِ العذابِ على عذابِ الدُّنيا .

3- قولُه تعالى: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

- قولُه: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ فيه تعريضٌ بتَحْميقِهم، وتسفيهِ آرائِهم؛ حيث كَرِهوا النُّصْحَ الَّذي هو نفْعٌ لهم .

- وجملةُ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ابتدائيَّةٌ لِتَعليمِهم أنَّ اللهَ ربُّهم؛ إن كانوا لا يُؤمِنون بوجودِ اللهِ، أو لِتَذكيرِهم بذلك إن كانوا يُؤمِنون بوجودِه، ويُشرِكون معه وَدًّا وسُواعًا ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرًا .

- وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ في وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؛ للاهتمامِ، ولرِعايةِ الفاصلةِ .

4- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ

- لفظةُ أَمْ هنا للإضرابِ للانتقالِ مِن غرَضٍ إلى غرضٍ، والاستفهامُ الذي يُؤْذِنُ به حرفُ أَمْ استفهامٌ إنكاريٌّ، وموقعُ الإنكارِ بديعٌ؛ لِتَضمُّنِه الحُجَّةَ عليهم .

- قولُه: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيَّ، وهو مُؤذِنٌ بالقَصْرِ، أي: إجرامي عليَّ لا علَيكم؛ فلماذا تُكثِرون ادِّعاءَ الافتِراءِ كأنَّكم ستُؤاخَذون بتَبِعَتِه؟! وهذا جارٍ على طريقةِ الاستِدْراجِ لهم، والكلامِ المنصِفِ

=======

 

سورة هود

الآيات (36-39)

ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ

غريب الكلمات :

 

فَلَا تَبْتَئِسْ: أي: لا تَحْزَن، مِن البُؤسِ: وهو الضُّرُّ والشِّدَّةُ

.

وَوَحْيِنَا: أي: أمرِنا وتعليمِنا، والوحيُ: الإشارةُ، وأيضًا: الكتابُ والرسالةُ، وكلُّ ما ألقيتَه إلى غيرِك حتى علِمه فهو وحيٌ كيف كان، وأصلُ (وحي): يدلُّ على إلقاءِ علمٍ في إخفاءٍ .

مُقِيمٌ: أي: دائمٌ سرمديٌّ أبديٌّ، وأصلُ (قوم): انْتِصابٌ أو عَزْمٌ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه أوحَى إلى نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه لن يؤمِنَ باللهِ مِن قومِك إلا مَن قد آمنَ مِن قبلُ، فلا تَحزَنْ على ما كانوا يفعلونَ، واصنَعِ السفينةَ بمرأًى منَّا وبأمْرِنا لك تحتَ حِفظنا وكِلاءَتِنا، ولا تطلُبْ مني العفوَ عن هؤلاء الذين ظَلَموا أنفُسَهم من قومِك بكُفرِهم؛ فإنَّهم مُغرَقون بالطُّوفانِ.

ثمَّ أخبَر تعالى أنَّ نوحًا عليه السلامُ شرع يَصنَعُ السفينةَ كما أُمِر، وكلَّما مرَّ عليه جماعةٌ مِن كُبَراءِ قَومِه سَخِروا منه، قال لهم نوحٌ رادًّا عليهم: إن تسخَروا منَّا اليومَ لجَهلِكم بصِدقِ وعدِ اللهِ، فإنَّا نسخَرُ منكم كما تسخرونَ منَّا، فسوف تعلمون مَن الذي يأتيه في الدُّنيا عذابُ اللهِ الذي يُهينُه، ويَنزِلُ به في الآخرةِ عذابٌ دائِمٌ لا انقِطاعَ له؟

تفسير الآيات:

 

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36).

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ.

أي: وأوحَى اللهُ إلى نبيِّه نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه لن يؤمِنَ باللهِ ويتَّبِعَك من قومِك إلَّا مَن سبق أن آمَن مِن قَبلُ

.

فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ.

أي: فلا تَحزَنْ- يا نوحُ- بما كان يفعَلُ قَومُك من الكُفرِ والتكذيبِ، ولا يُهمَّنَّك أمرُهم؛ فإنِّي مُهلِكُهم .

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان نهيُه تعالى نوحًا عليه السَّلامُ عن الابتئاسِ بفِعلِهم- مع شِدَّةِ جُرمِهم- مؤذِنًا بأنَّ الله ينتَصِرُ له؛ أعقَبَه بالأمرِ بصُنعِ الفُلكِ؛ لتهيئةِ نجاتِه، ونجاةِ مَن قد آمنَ به من العذابِ الذي قدَّرَه الله لِقَومِه .

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا.

أي: واصنَعِ السَّفينةَ بمرأًى منَّا، وتحت حِفْظنا، وبتعليمِنا لك كيفيَّةَ صِناعتِها .

وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ.

أي: ولا تسألْني- يا نوحُ- العفوَ عن قَومِك المُشرِكينَ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكفرِ؛ إنَّهم محكومٌ عليهم بالغَرَقِ بالطوفانِ، فلا سبيلَ إلى طلَبِ الشفاعةِ لهم .

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38).

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ.

أي: وطَفِقَ نوحٌ يصنَعُ السَّفينةَ، وكلَّما مرَّ عليه جماعةٌ من كُبَراءِ قَومِه المشركينَ ورأَوْا ما يصنَعُ هَزِئوا منه .

قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ.

أي: قال نوحٌ لِقَومِه: إن تستَهزِئوا بنا عند بناءِ السَّفينةِ، فإنَّا نستهزِئُ بكم كما تستَهزِئونَ بنا .

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39).

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ.

أي: قال نوحٌ مهدِّدًا قومَه: فسوف تعلمونَ إذا نزل بكم عِقابُ اللهِ مَن يأتيه عذابٌ يُهينُه في الدُّنيا .

وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ.

أي: ومَن يَنزِلُ به في الآخرةِ عذابٌ دائِمٌ لا ينقَطِعُ

 

.

الفوائد التربوية :

 

قال الله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ في إسنادِ (العِلمِ) إلى ضَميرِ المخاطَبين دونَ الضَّميرِ المشارِكِ- بأن يُقالَ: (فسوف نَعلَمُ)- إيماءٌ إلى أنَّ المخاطَبين هم الأحَقُّ بعِلْمِ ذلك، وهذا يُفيدُ أدَبًا شَريفًا بأنَّ الواثِقَ بأنَّه على الحَقِّ لا يُزَعزِعُ ثِقتَه مُقابَلةُ السُّفهاءِ أعمالَه النَّافعةَ بالسُّخريةِ، وأنَّ عليه وعلى أتباعِه أن يَسْخَروا مِن السَّاخِرين

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ الله تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ يدلُّ على إثباتِ القضاءِ والقَدَرِ؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ بأنَّهم لا يؤمنونَ بعدَ ذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ

- قولُه: وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، الهاءُ في أَنَّهُ ضميرُ الشَّأنِ، وهو دالٌّ على أنَّ الجُملةَ بعدَه أمْرُها خطيرٌ؛ لأنَّها تأييسٌ له مِن إيمانِ بقيَّةِ قومِه، وذلك شديدٌ عليه؛ ولذلك عُقِّب بتَسْليتِه بجملةِ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ؛ فالفاءُ لِتَفريعِ التَّسليةِ على الخبَرِ المحزِنِ

.

- قولُه: مَنْ قَدْ آمَنَ فيه تأكيدُ الفعلِ بـ قَدْ؛ للتَّنصيصِ على أنَّ المرادَ مَن حصَل مِنهم الإيمانُ يَقينًا دونَ الَّذين ترَدَّدوا .

2- قولُه تعالى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ

- قوله: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ جملةُ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تعليليَّةٌ للنَّهيِ في وَلَا تُخَاطِبْنِي؛ عَلَّل منْعَ مُخاطَبتِه بأنَّه حَكَم عليهم بالغرَقِ في قولِه: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وفيها إخبارٌ بما سيَقَعُ، وبيانٌ لِسَببِ الأمرِ بصُنعِ الفُلكِ .

- وقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فيه مجيءُ الخبرِ إنكاريًّا مؤكَّدًا بـ (إنَّ) تأكيدًا للكلام، وتنزيلًا للسَّامِعِ مَنزلةَ المتردِّد؛ لأنَّه للنَّفسِ اليقْظَى مَظِنَّةُ التردُّدِ في حُكمِ الخَبرِ ومَؤونةِ الطَّلبِ له؛ فقال أولًا: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، أي: لا تَدْعُني يا نوحُ في استدفاعِ العذابِ عنهم، ثم قال: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ؛ لأنَّ الكلامَ مَظِنَّةُ أنْ يَتردَّدَ نوحٌ بأنَّه هلْ يُصيبُهم بأسٌ، بل بأنَّهم هل هم مُغرَقون بملاحظةِ ما تَقدَّم من قولِه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ؛ فأوردَ الخبرَ مؤكَّدًا، فقال: إنَّهم محكومٌ عليهم بالإغراقِ .

3- قولُه تعالى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ

فيه التَّعبيرُ عن صُنعِه الفُلْكَ بصيغةِ المضارِعِ في وَيَصْنَعُ؛ وذلك لاستِحْضارِ الحالةِ؛ لِتَخْييلِ السَّامِعِ أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ بصَدَدِ العمَلِ .

- وجَمْعُ الضَّميرِ في قولِه: مِنَّا يُشيرُ إلى أنَّهم يَسْخَرون مِنه في عمَلِ السَّفينةِ، ومِن الَّذين آمَنوا به؛ إذ كانوا حوْلَه واثِقين بأنَّه يَعمَلُ عَملًا عَظيمًا، وكذلك جمعُه في قولِه: فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ .

-  قولُه: كَمَا تَسْخَرُونَ فيه تشبيهٌ، ووجهُه أنَّه تشبيهٌ في السَّببِ الباعثِ على السُّخريةِ، وإن كان بينَ السَّببَينِ بَوْنٌ، ويجوزُ أن تكونَ كافُ التَّشبيهِ مُفيدةً معنى التَّعليلِ كالَّتي في قولِه تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة: 198] ؛ فيُفيدُ التَّفاوُتَ بينَ السُّخرِيَتينِ؛ لأنَّ السُّخريَةَ المعلَّلَةَ أحَقُّ مِن الأُخرَى؛ فالكُفَّارُ سَخِروا مِن نوحٍ عليه السَّلامُ لِعَملٍ يَجهَلون غايتَه، ونوحٌ عليه السَّلامُ وأتباعُه سَخِروا مِن الكفَّارِ؛ لعِلْمِهم بأنَّهم جاهِلون في غُرورٍ .

4- قولُه تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ

- قولُه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ تفريعٌ على جملةِ فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ، أي: سيَظهَرُ مَن هو الأحَقُّ بأن يُسخَرَ منه

=======

 

سورة هود

الآيات (40-44)

ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ

غريب الكلمات:

 

التَّنُّورُ: هو الكانونُ (الموْقِدُ) الذي يُخبَزُ فيه

.

مَجْرَاهَا: أي: مَسيرُها، وأصلُ (جري): يدلُّ على انسياحِ شَيءٍ .

وَمُرْسَاهَا: أي: رُسُوُّها، وانتهاءُ سَيرِها، وأصلُ (رسو): يدلُّ على ثباتٍ .

مَعْزِلٍ: أي: مكانٍ مُنقَطعٍ، وأصلُ (عزل): يدلُّ على تَنحيةٍ وإمالةٍ .

سَآوِي: أي: أَرجِعُ وألجأُ، وأصلُ (أوى): يدلُّ على تَجمُّعٍ .

أَقْلِعِي: أي: أمسِكي عن المَطَر، وأصلُ (قلع): يدلُّ على انتزاعِ شَيءٍ مِن شَيءٍ .

وَغِيضَ الْمَاءُ: أي: غارَ في الأرضِ ونضَبَ، وأصلُ (غيض): يدلُّ على نُقصانٍ في شَيءٍ وقِلَّةٍ .

الْجُودِيِّ: هو اسمُ جَبَلٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ

إِلَّا مَنْ رَحِمَ في هذا الاستثناءِ وَجهانِ؛ أحدهما: أنَّه مُنقَطِعٌ، ومَنْ رَحِمَ بمعنى (المرحوم)، أي: لكِنْ مَن رَحِمَه اللهُ مَعصومٌ. وعليه فـ مَنْ فِي مَحلِّ نصبٍ على الاستِثناءِ المُنقَطِع. الثاني: أنَّه استِثناءٌ متَّصِلٌ، ومَن رَحِم بمعنى (الرَّاحِم)، وهو اللهُ تعالى، أي: لا عاصِمَ إلَّا الرَّاحمُ؛ فـ مَنْ فِي مَوضِع رفعٍ على البدَلِ من محلِّ عَاصِمَ. وقيل: إنَّ عَاصِمَ بمعنى (معصوم)، أي: لا معصومَ إلَّا المرحومُ. والاستثناءُ متَّصِلٌ أيضًا. وخبرُ لا محذوفٌ تقديرُه (مانِعٌ)، وكلٌّ مِن الْيَوْمَ ومِنْ أَمْرِ اللهِ متعلِّقٌ بالخبرِ المحذوفِ، والتَّقديرُ: لا عاصِمَ مانِعٌ اليومَ مِن أَمرِ اللهِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: حتى إذا جاء أمرُنا بإهلاكِ قومِ نوحٍ، كما وَعدْنا نوحًا بذلك، ونبَعَ الماءُ بقُوَّةٍ مِن التنُّورِ- وهو المكانُ الذي يُخبَزُ فيه- علامةً على مجيءِ العَذابِ؛ قُلنا لنوحٍ: احمِلْ في السَّفينةِ مِن كُلِّ نَوعٍ مِن أنواعِ المَخلوقاتِ ذكرًا وأُنثَى، واحمِلْ فيها أهلَ بَيتِك إلَّا مَن سبَق عليهم القَولُ بالعذابِ، واحمِلْ فيها مَن آمن معك مِن قَومِك، وما آمن معه إلَّا قليلٌ.

وقال نوحٌ لِمن آمن معه: اركبُوا في السَّفينةِ، باسمِ اللهِ يكونُ جَريُها على وجهِ الماءِ، وباسمِ اللهِ يكونُ مُنتهَى سَيرِها ورُسُوُّها، إنَّ ربِّي لَغفورٌ رحيمٌ.

ثمَّ وصَف الله تعالى جريانَ السفينةِ، فقال: وهي تجري بهم في موجٍ يعلو ويرتَفِعُ حتى يصيرَ كالجبالِ، ونادى نوحٌ ابنَه- وكان في ناحيةٍ بعيدةٍ عن السفينةِ- فقال له: يا بُنَيَّ اركبْ معنا في السَّفينةِ، ولا تكُنْ مع الكافرينَ باللهِ فتَغرقَ.

فقال له ابنُه: سألجأُ إلى جبلٍ أتحصَّنُ به من الماءِ، فيَمنَعُني من الغَرَقِ، فأجابه نوحٌ: لا مانعَ اليومَ مِن أمرِ اللهِ وقَضائِه الذي قد نزل بالخَلقِ من الغَرَقِ والهلاكِ إلَّا الرَّاحِمُ، وهو اللهُ تعالى، وحال الموجُ المُرتَفِعُ بين نوحٍ وابنِه، فكان من المُغرَقينَ الهالكينَ، وقال اللهُ للأرضِ- بعد هلاكِ قَومِ نُوحٍ: يا أرضُ اشرَبي ماءَك، ويا سَماءُ أمسِكي عن المَطَر، وغار الماءُ ونَضَب، وقُضِيَ أمرُ اللهِ بهَلاكِ قَومِ نُوحٍ، ونجاةِ المؤمنينَ، ورَسَت السَّفينةُ على جَبَلِ الجُوديِّ، وقيل: هلاكًا وبُعدًا للقَومِ الظَّالمينَ.

تفسير الآيات:

 

حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40).

حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ.

أي: حتى إذا جاء أمرُ الله بعذابِ قَومِ نوحٍ وهلاكِهم بالطوفانِ، ونبَعَ الماءُ بشِدَّةٍ مِن الموضعِ الذي يُخبزُ فيه؛ علامةً على مجيءِ العذابِ

.

قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.

أي: قُلنا لنوحٍ عليه الصلاةُ والسَّلامُ حين جاء موعِدُ هلاكِ قَومِه: احمِلْ في السَّفينةِ مِن كُلِّ صنفٍ من أصنافِ المخلوقاتِ ذكَرًا وأنثى .

وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ.

أي: واحمِلْ أيضًا في السفينةِ أهلَ بَيتِك إلَّا من قدَّر اللهُ هلاكَه لكُفرِه .

كما قال تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون: 27] .

وَمَنْ آمَنَ.

أي: واحملْ في السفينةِ أيضًا مَن آمنَ بالله واتَّبَعَك .

وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ.

وما آمنَ مع نوحٍ عليه السلامُ إلَّا نفرٌ قليلٌ مِن قَومِه .

وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41).

وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا.

أي: وقال نوحٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لِمَن معه: اركَبوا في السفينةِ باسمِ الله يكونُ مسِيرُها السَّريعُ على وجهِ الماءِ، وباسمِ اللهِ يكونُ مُنتَهى سيرِها ورسوُّها على الشَّاطئِ، فهي تجري وتقِفُ بتسخيرِ اللهِ وأمْرِه .

إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ.

أي: إنَّ ربِّي لَساتِرٌ ذنوبَ من تاب إليه من أصحابِ السَّفينةِ وغَيرِهم، مُتجاوِزٌ عن مؤاخَذتِهم بها، رحيمٌ بهم حيث نجَّاهم من عذابِه، ومِن القومِ الظَّالمينَ .

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42).

وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ.

أي: والسَّفينةُ تجري بنوحٍ ومَن رَكِبَ معه بإذنِ اللهِ وحِفظِه في أمواجٍ مُرتَفعةٍ كالجبالِ .

كما قال تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة: 11] .

وقال سُبحانه: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 13 - 15].

وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ.

أي: ونادى نوحٌ ابنَه الكافِرَ وكان في ناحيةٍ بعيدةٍ عن السَّفينةِ قائلًا له: يا بُنيَّ اركَبْ معنا السفينةَ، ولا تكنْ مع الكافرينَ فتَغرَقَ مِثلَهم .

قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43).

قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء.

أي: قال ابنُ نوحٍ عليه السلامُ: سألجأُ إلى جبلٍ عالٍ أتحصَّنُ به، يمنَعُني من  الماءِ، فلا أغرَقُ .

قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ.

أي: قال نوحٌ لابنِه: لا مانِعَ اليومَ مِن عذابِ اللهِ إلَّا الرَّاحِمُ، وهو اللهُ الذي يرحَمُ من يشاءُ فيُنَجِّيه من الغَرَقِ .

وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.

أي: وحال بين نوحٍ وابنِه موجُ الماءِ، فكان ممَّن أهلَكَهم الله بالغَرَقِ من قومِ نوحٍ الكافرينَ .

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا ذكرَ الله تعالى وقوعَ الغَرَقِ الموعودِ به على وجهِ الإيجازِ؛ انتقل الكلامُ إلى انتهاءِ الطُّوفانِ .

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي.

أي: وأمَرَ الله الأرضَ بعد غَرَقِ قَومِ نُوحٍ: أنْ يا أرضُ تشرَّبي الماءَ الذي على وَجهِك، ويا سَماءُ أمسِكي عن الإمطارِ .

وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ.

أي: نقصَ الماءُ الذي على الأرضِ حتى نضبَ، وفُرِغ من هلاكِ قَومِ نُوحٍ الكافرينَ، وإنجاءِ المؤمنينَ .

وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ.

أي: ورَسَت السفينةُ، واستقرَّت بمن فيها على جبلِ الجُوديِّ .

وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.

أي: وقيل : بُعدًا وسُحقًا مِن رحمةِ اللهِ لِلقومِ الكافرينَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- في قَولِه تعالى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إشارةٌ إلى أنَّ الإنسانَ لا ينبغي أن يَشرعَ في أمرٍ من الأمورِ إلَّا ويكونُ في وقتِ الشُّروعِ فيه ذاكِرًا لاسمِ الله تعالى بالأذكارِ المشروعة؛ حتى يكون- ببَرَكةِ ذلك الذِّكرِ- سببًا لتمام ذلك المقصودِ

.

2- الواجِبُ ربطُ الهِمَّة، وتعليقُ القلبِ بفَضلِ الله تعالى، والبراءةُ عن الحَولِ والقوَّةِ، وقطعُ النَّظَرِ عن الأسبابِ، يُرشِدُ إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا .

3- قال تعالى: وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ولم يقلْ: (معَ المغرقينَ) إشارةً إلى أنَّ مَن له عقلٌ وهمَّةٌ ينبغي أن يكونَ تحفُّظُه على صونِ دينِه آكدَ مِن تحفظِه على صونِ نفسِه؛ لأنَّ حفظَ الأديانِ آكدُ مِن حفظِ النُّفوسِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ احتُجَّ به في إثباتِ القَضاءِ اللازمِ والقدَرِ الواجبِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مُشعِرٌ بأنَّ كلَّ من سبق عليه القَولُ، فإنَّه لا يتغيَّرُ عن حالِه

.

2- قولُه: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ اعتبارُ المعيَّةِ في إيمانِهم للإيماءِ إلى المعيَّةِ في مَقرِّ الأمانِ والنَّجاةِ .

3- قال الله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا في هذه الآيةِ دليلٌ على ذِكرِ البسملةِ عند ابتداءِ كُلِّ فِعلٍ .

4- كلُّ مَقامٍ يُقصَدُ فيه التيمُّنُ والانتسابُ إلى الربِّ الواحدِ يُعدَّى فيه الفعلُ إلى لفظِ اسمِ الله، كقوله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، وكذلك المقامُ الذي يُقصَدُ فيه ذِكرُ اسمِ الله تعالى، كقولِه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي: قل: سُبحانَ الله، وكلُّ مَقامٍ يُقصَدُ فيه طلبُ التَّيسيرِ والعَونِ مِن الله تعالى يعَدَّى الفعلُ المسؤولُ إلى عَلَمِ الذَّاتِ باعتبارِ ما له من صفاتِ الخَلقِ والتَّكوينِ، كما في قولِه تعالى: فَاسْجُدْ لَهُ [الإنسان: 26] وقولِه في الحديث: ((اللهمَّ بك أصبحنا وبك أمسينا)) أي: بقُدرتِك ومَشيئتِك، وكذلك المقامُ الذي يُقصَدُ فيه توجُّهُ الفعلِ إلى اللهِ تعالى، كقَولِه تعالى: فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ أي: نَزِّهْ ذاتَه وحقيقتَه عن النقائصِ .

5- حيلولةُ الموجِ بينَ نوحٍ عليه السلامُ وابنِه في آخِرِ المُحاوَرةِ يُشيرُ إلى سُرعةِ فيَضانِ الماءِ في حينِ المُحاوَلةِ، قال تعالى: وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ .

6- قال الله تعالى: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ يُقالُ: أكرمَ الله ثلاثةَ جبالٍ بثلاثةِ نَفَرٍ: الجُوديَّ بنوحٍ، وطورَ سيناءَ بموسى، وحِراءَ بمحمَّدٍ صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعينَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ

- قولُه: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فيه إيجازٌ بديعٌ؛ فـ(حتَّى) غايةٌ لـ يَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: 38] ، أي: يَصنَعُه إلى زمَنِ مَجيءِ أمْرِنا، فـ(إذا) ظرفٌ مضمَّنٌ معنى الشَّرطِ؛ ولذلك جيءَ له بجوابٍ، وهو جملةُ قُلْنَا احْمِلْ، وإضافةُ الأمرِ إلى (نَا العَظَمةِ) في أَمْرُنَا؛ لِتَهويلِه بأنَّه فوقَ ما يَعرِفون

.

- قولُه: إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيث جيءَ بـ (على)؛ لكونِ السَّابِقِ ضارًّا لهم، بينَما جيءَ باللَّامِ فيما هو نافِعٌ لهم مِن قولِه عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 171] ، وقولِه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء: 101] . ويُمكن أنْ يكونَ فيها معنى العُلوِّ؛ وذلك أنَّ المقضيَّ نازلٌ بِهم لا مَناصَ لهم منه.

- وجملةُ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ اعتراضٌ لِتَكميلِ الفائدةِ مِن القصَّةِ في قلَّةِ الصَّالِحين .

2- قولُه تعالى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

- قوله تعالى: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا (في) للتَّأكيدِ كقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] وفائدةُ (في) أنَّهم أُمِروا أن يكونوا في جَوفِها لا على ظَهرِها ، وقيل: تعدِيَةُ فِعْلِ اركَبوا بـ (في)؛ جَرْيًا على الفَصيحِ؛ فإنَّه يُقالُ: رَكِب الدَّابَّةَ إذا عَلاها، وأمَّا رُكوبُ الفُلْكِ فيُعَدَّى بـ (في) لأنَّه جُلوسٌ واستقرارٌ؛ فلا يُقالُ: رَكِب السَّفينةَ، فأرادوا التَّفرقةَ بينَ الرُّكوبِ الحقيقيِّ والرُّكوبِ المشابِهِ له، وهي تفرِقةٌ حسَنةٌ .

- وجملةُ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَعليليَّةٌ للأمرِ بالرُّكوبِ المقيَّدِ بالملابَسةِ لذَكْرِ اسْمِ اللهِ تعالى، ففي التَّعليلِ بالمغفرةِ والرَّحمةِ رمزٌ إلى أنَّ اللهَ وعَدَه بنَجاتِهم؛ وذلك مِن غُفرانِه ورَحمتِه، وأكِّد بـ (إنَّ) ولامِ الابتداءِ تَحقيقًا لأتباعِه بأنَّ اللهَ رَحِمَهم بالإنجاءِ مِن الغرَقِ .

- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وفي سورةِ المؤمنونَ قال: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [المؤمنون: 27] ، فقال في سورةِ (هودٍ): قُلْنَا احْمِلْ، وفي سورة (المؤمنونَ): فَاسْلُكْ؛ ووجهُ ذلك الاختلافِ:

أنَّ آيةَ سورةِ (هُودٍ) حَكَتْ ما خاطَبه اللَّهُ به عندَ حدوثِ الطُّوفانِ وذلك وقتٌ ضَيِّقٌ، فأُمِرَ بأنْ يَحمِلَ في السَّفينةِ مَنْ أراد اللَّهُ إبقاءَهم، فأُسنِدَ الحملُ إِلى نوحٍ تمثيلًا للإسراعِ بإركابِ ما عُيِّن له في السَّفِينَةِ حتَّى كأنَّ حالَه في إدخالِه إيَّاهم حالُ مَنْ يحملُ شيئًا لِيضعَه في مَوضعٍ، وآيَةُ سورةِ (المؤمنون) حَكَتْ ما خاطَبه اللَّهُ به مِن قبلِ حُدوثِ الطُّوفانِ إنباءً بما يفعلُه عندَ حُدوثِ الطُّوفانِ، فأمَره بأنَّه حينئذٍ يُدْخِلُ في السَّفِينَةِ مَنْ عَيَّنَ اللَّهُ إدخالَهم، معَ ما في ذلك مِنَ التَّفَنُّنِ في حكايةِ القِصَّة .

3- قولُه تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ

- قولُه: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ جملةٌ مُعترِضةٌ، دعا إلى اعتِراضِها هنا ذِكرُ (مَجْرَاهَا)؛ إتمامًا للفائدةِ، ووَصْفًا لعِظَمِ اليومِ، وعجيبِ صُنعِ اللهِ تعالى في تَيْسيرِ نَجاتِهم، وقدَّم المسنَدَ إليه (هِيَ) على الخبَرِ الفعليِّ (تَجْري) ؛ لِتَقوِّي الحكْمِ وتَحقيقِه .

- قولُه: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ فيه عُدولٌ عن الفعلِ الماضي إلى المضارِعِ في تَجْرِي؛ لاستِحْضارِ الحالةِ ، وقولُه: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ اتَّصَل بمحذوفٍ دلَّ عليه الأمرُ بالرُّكوبِ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ، أي: فرِكِبوا فيها مُسمِّين، وهي تَجرِي مُلتبسةً لهم، كأنَّه قيل: فرَكِبوا فيها يَقولون: بِسْمِ اللهِ، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ، أي: تَجْري وهم فيها في موجٍ كالجبالِ .

- وقولُه: فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ فيه تشبيهُ موجِ الطُّوفانِ بالجبالِ؛ شَبَّه كلَّ موجةٍ منه بالجبَلِ في تَراكُمِها وارتِفاعِها وضَخامتِها .

- وقولُه عليه السَّلامُ: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا عبَّر بـ (بُنَيَّ) وهو تصغيرُ (ابنٍ) مُضافًا إلى ياءِ المتكلِّمِ، وتصغيرُه هنا تصغيرُ شفَقةٍ؛ بحيث يُجعَلُ كالصَّغيرِ في كونِه مَحَلَّ الرَّحمةِ والشَّفقةِ .

- وجُمْلَةُ ارْكَبْ مَعَنَا فيها كِنايةٌ عن دَعوَتِه ابْنَه إلى الإيمانِ بطَريقةِ العَرْضِ والتَّحذيرِ .

- وجملةُ وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ معطوفةٌ على جملةِ ارْكَبْ مَعَنَا؛ لإعلامِه بأنَّ إعراضَه عن الرُّكوبِ يَجعَلُه في صفِّ الكفَّارِ؛ إذ لا يَكونُ إعراضُه عن الرُّكوبِ إلَّا أثَرًا لِتَكذيبِه بوُقوعِ الطُّوفانِ .

4- قولُه تعالى: قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ

- وجملةُ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ يحتملُ أن تَكونَ صِفةً لـ(جَبَلٍ)، أي: جبَلٍ عالٍ، ويحتملُ أن تَكونَ استِئْنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّه استَشعَر أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ يَسأَلُ: لماذا يَأْوي إلى جبَلٍ؟ حيث ظنَّ ابنُ نوحٍ أنَّ أرفَعَ الجِبالِ لا يَبلُغُه الماءُ، وأنَّ أباه ما أراد إلَّا بُلوغَ الماءِ إلى غالِبِ المرتفَعاتِ دونَ الجبالِ الشَّامخاتِ؛ ولذلك أجابه نوحٌ عليه السَّلامُ بأنَّه لا عاصِمَ اليومَ مِن أمرِ اللهِ- وهو الطُّوفانُ- إلَّا مَن رَحِم .

- قولُه: قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، أي: (لا عَاصِمَ... إلَّا اللهُ)، وإنَّما قيلَ: إِلَّا مَن رَحِمَ؛ تفخيمًا لشأنِه الجَليلِ سبحانه وتعالى بالإبهامِ ثمَّ التَّفسيرِ، وبالإجمالِ ثمَّ التَّفصيلِ، وإشعارًا بعِلِّيَّة رَحْمتِه في ذلك بمُوجِبِ سَبْقِها على غضَبِه .

- قولُه: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فيه إيجازٌ بديعٌ، حيث أفاد أنَّه غَرِق، وغَرِق معَه مَن توَعَّده بالغرَقِ ، وفي إيرادِ الفِعْلِ (كَان) دونَ (صارَ) مبالَغةٌ في كَونِه منهم .

5- قولُه تعالى: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

- هذه الآيةُ بلَغَت مِن أسرارِ الإعجازِ غايَتَها، وحَوَتْ مِن بَدائِعِ الفرائدِ نِهايَتَها، واشتَمَلَت على وُجوهٍ كثيرةٍ مِن جوانبِ البلاغةِ، والفصاحةِ المعنويَّةِ، والفَصاحةِ اللَّفظيَّةِ، وقد اهتمَّ عُلماءُ البيانِ لإيضاحِ نُخَبٍ مِن لَطائِفِها؛ فهي نَظْمٌ للمَعاني لطيفٌ، وتأديةٌ لها مُلخَّصةٌ مُبِينةٌ، لا تَعقيدَ يُعْثِرُ الفِكرَ في طلَبِ المرادِ، ولا الْتِواءَ يُشِيكُ الطَّريقَ إلى المُرْتادِ، بل إذا جرَّبتَ نفْسَك عندَ استِماعِها، وجَدْتَ ألْفاظَها تُسابِقُ مَعانيَها، ومَعانِيَها تُسابِقُ ألْفاظَها؛ فما مِن لفظةٍ في تركيبِ الآيةِ ونَظْمِها تَسبِقُ إلى أُذنِك، إلَّا ومَعْناها أسبَقُ إلى قَلبِك.

وأمَّا النَّظرُ فيها مِن جانبِ الفصاحةِ اللَّفظيَّةِ: فألفاظُها على ما نَرى عرَبيَّةٌ، مُستعمَلةٌ جاريةٌ على قَوانينِ اللُّغةِ، سَليمةٌ مِن التَّنافُرِ، بعيدةٌ عن البَشاعةِ، عَذْبةٌ سَلِسةٌ، كلٌّ مِنها كالماءِ في السَّلاسةِ، وكالعسَلِ في الحلاوةِ، وكالنَّسيمِ في الرِّقَّةِ.

ومن حيث البلاغةُ والمناسبةُ، فقد اخْتِير (يا) دونَ سائرِ أخَواتِها؛ لِكَونِها أكثَرَ في الاستِعْمالِ وأنَّها دالَّةٌ على بُعْدِ المنادَى الذي يَسْتَدعيه مَقامُ إظهارِ العظَمةِ، وهو تَبْعيدُ المنادى المؤْذِنُ بالتَّهاوُنِ به، واخْتِيرَ ابْلَعِي على (ابتَلِعي)؛ لكونِه أخْصَرَ، ولِمَجيءِ حظِّ التَّجانُسِ بينَه وبينَ أقْلِعي أوفَرَ، وقيل: مَاءَكِ بالإفرادِ دونَ الجمْعِ لِمَا كان في الجمْعِ مِن صورةِ الاستِكْثارِ المتأتِّي عنها مَقامُ إظهارِ الكبرياءِ والجبَروتِ، وإنَّما لم يَقُلِ: (ابْلَعي) فقَط بدونِ المفعولِ؛ حتَّى لا يَستَلزِمَ تَرْكُه ما ليسَ بمُرادٍ مِن تعميمِ الابتلاعِ للجِبالِ والتِّلالِ والبحارِ وساكناتِ الماءِ بأَسْرِهنَّ؛ نظَرًا إلى مَقامِ وُرودِ الأمرِ الَّذي هو مَقامُ عظَمةٍ وكِبْرياءٍ، ثمَّ لَمَّا تبَيَّن المرادُ اختَصَر الكلامَ فقال: أَقْلِعِي فقط؛ احتِرازًا عن الحَشْوِ المستغنَى عنه، وهو الوجهُ في أنَّه لم يَقُلْ: (قيلَ يا أرضُ ابلَعي ماءَكِ فبَلَعَت، ويا سماءُ أقلِعي فأقلَعَت)، وقيل: الْمَاءُ، دون أن يُقالَ: (ماءُ طُوفانِ السَّماءِ)، وكذا قيل: وَقُضِيَ الْأَمْرُ دونَ أن يُقالَ: (أمرُ نوحٍ)؛ لقصْدِ الاختِصارِ، والاستِغْناءِ بحَرْفِ التَّعريفِ عن ذلك. ولم يَقُلْ: (سُوِّيَتْ على الجوديِّ) على نحوِ: (قيلَ) و(غِيضَ) و(قُضِي) في البناءِ للمفعولِ؛ اعتِبارًا لبِناءِ الفِعلِ للفاعلِ معَ السَّفينةِ في قولِه: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ، مع قصْدِ الاختصارِ في اللَّفظِ، ثمَّ قيل: بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ دونَ أن يُقالَ: لِيَبْعُدِ القومُ؛ طلَبًا للتَّأكيدِ معَ الاختصارِ، وهو نزولُ بُعْدًا مَنزِلةَ (لِيَبعُدوا بُعدًا)، مع فائدةٍ أُخْرى، وهي استِعمالُ اللَّامِ مع بُعْدًا الدَّالُّ على معنى أنَّ البُعدَ يَحِقُّ لهم، ثمَّ أطلَقَ الظُّلمَ؛ لِيَتناوَلَ كلَّ نوعٍ حتَّى يَدخُلَ فيه ظُلمُهم أنفُسَهم؛ لزِيادَةِ التَّنبيهِ على فَظاعةِ سوءِ اختِيارِهم في تكذيبِ الرُّسلِ.

ومن حيث التَّرتيبُ؛ فقد قدَّم أمْرَ الأرضِ على أمرِ السَّماءِ، وابتُدِئ به لابتِداءِ الطُّوفانِ مِنها، وبِنُزولِها لذلك في القصَّةِ مَنزِلةَ الأصلِ، والأصلُ بالتَّقديمِ أولَى، ثمَّ أتبَعَها قولَه: وَغِيضَ الْمَاءُ؛ لاتِّصالِه بقِصَّةِ الماءِ، وأخْذِه بحُجْزَتِها. ألَا تَرى أصْلَ الكلامِ: (قيلَ: يا أرضُ ابلَعي ماءَكِ، فبَلَعَت ماءَها، ويا سماءُ أقلِعي عن إرسالِ الماءِ، فأقلَعَت عن إرسالِه، وغِيضَ الماءُ النَّازلُ مِن السَّماءِ، فغاضَ)، ثمَّ أتبَعَه ما هو مقصودٌ مِن القصَّةِ، وهو قولُه: وَقُضِيَ الْأَمْرُ، أي: أُنجِزَ الموعودُ مِن إهلاكِ الكفَرةِ، وإنجاءِ نوحٍ ومَن معَه في السَّفينةِ، ثمَّ أتبَعَه حديثَ السَّفينةِ، وهو قولُه: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، ثمَّ خُتِمَت القصَّةُ بما خُتِمَت .

وجاء بِناءُ الأفعالِ وَقِيلَ وَغِيضَ وَقُضِيَ وَقِيلَ للمَفعولِ، وهو أبلَغُ في التَّعظيمِ والجبَروتِ، وأخْصَرُ، وأيضًا في مَجيءِ أخبارِه تعالى على الفعلِ المبنيِّ للمفعولِ: دَلالةٌ على الجلالِ والكبرياءِ، وأنَّ تلك الأمورَ العِظامَ لا تَكونُ إلَّا بفِعْلِ فاعلٍ قادرٍ، وتكوينِ مُكوِّنٍ قاهرٍ، وأنَّ فاعِلَها فاعلٌ واحدٌ لا يُشارَكُ في أفعالِه سبحانه؛ فلا يَذهَبُ الوَهْمُ إلى أن يَقولَ غيرُه: يا أرضُ ابلَعي ماءَكِ، ويا سَماءُ أقلِعي، ولا أن يَقضِيَ ذلك الأمْرَ الهائلَ غيرُه، ولا أن تَستوِيَ السَّفينةُ على مَتْنِ الجوديِّ، وتستقِرَّ عليه إلَّا بتَسْويتِه وإقرارِه .

- وفي قولِه: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ تقديمُ الأمرِ بالبلعِ؛ لأنَّه السَّببُ الأعظمُ لِغَيضِ الماءِ .

- قولُه: وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فيه كِنايةٌ عن تَحْقيرِهم وكَراهيَتِهم؛ فالبُعْدُ كنايةٌ عَن التَّحقيرِ بِلازِمِ كراهيَةِ الشَّيءِ؛ فلذلك يُقالُ: بَعُدَ أو نحوُه لِمَن فُقِد، إذا كان مَكْروهًا كما هنا .

- والتَّعرُّضُ لوَصفِ الظُّلمِ لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ؛ للإشعارِ بعِلِّيَّتِه للهلاكِ، ولِتَذكيرِه ما سبَقَ مِن قولِه تعالى: وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ

=======

 

سورة هود

الآيات (45-49)

ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّ نوحًا عليه السَّلامُ ناداه، فقال: ربِّ إنَّك وعَدْتني أن تُنجِّيَني وأهلي من الغَرَقِ والهلاكِ، وإنَّ ابني هذا من أهلي، وإنَّ وَعدَك الحَقُّ الذي لا خُلْفَ فيه، وأنت أحكَمُ الحاكمينَ وأعدَلُهم.

قال الله: يا نوحُ إنَّ ابنَك الذي هلك ليس مِن أهلِك الذين وَعَدتُك أن أُنجيَهم؛ لأنَّه صاحبُ عملٍ غيرِ صالحٍ وهو الكفرُ، وإنِّي أنهاك أن تسألَني أمرًا لا عِلمَ لك به، إنِّي أعِظُك أن تكونَ مِن الجاهلينَ في مسألتِك إيَّاي عن ذلك.

قال نوحٌ: يا رَبِّ إنِّي أعتَصِمُ وأستجيرُ بك أن أسألَك ما ليس لي به عِلمٌ، وإنْ لم تغفِرْ لي ذنبي، وترحَمْني برَحمتِك، أكنْ مِن الهالكينَ. قال الله: يا نوحُ اهبِطْ مِن السَّفينةِ إلى الأرضِ بأمنٍ وسَلامةٍ منَّا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ مِن ذُرِّيةِ المؤمنينَ الذين معك في السَّفينةِ، ومنهم أمَمٌ وجَماعاتٌ مِن أهلِ الشَّقاءِ سنُمَتِّعُهم في الحياةِ الدُّنيا إلى أن يبلُغوا آجالَهم، ثمَّ ينالُهم منَّا العذابُ المُوجِعُ يومَ القيامةِ.

تلك القِصَّةُ التي قصَصْناها عليك- يا مُحمَّدُ- عن نوحٍ وقَومِه، هي من أخبارِ الغَيبِ السَّابقةِ، نوحيها إليك، ما كنتَ تَعلَمُها أنت ولا قَومُك مِن قبلِ هذا البَيانِ، فاصبِرْ على تكذيبِ قَومِك وإيذائِهم لك، كما صبَرَ الأنبياءُ مِن قَبلُ؛ إنَّ العاقِبةَ الطَّيِّبةَ في الدُّنيا والآخرةِ للمُتَّقينَ.

تفسير الآيات:

 

وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45).

وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ.

أي: ونادى نوحٌ ربَّه فقال: يا ربِّ، إنَّ ابني من أهلي الذين وعدْتَني أن تنجِّيَهم من الغَرَقِ، وإنَّ وَعْدَك الصِّدقُ الذي لا يُخلَفُ

.

وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.

أي: وأنت- يا ربِّ- أعدَلُ الحاكمينَ، لا ظُلمَ في حُكمِك، ولا خطأَ .

قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46).

قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.

أي: قال الله: يا نوحُ، إنَّ ابنَك ليس مِن أهلِك المؤمنينَ الذين أمرتُك بحَملِهم، ووعَدتُك بأن أنجِّيَهم .

إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ.

القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه تعالى: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ قراءتان:

1- قراءةُ عَمِلَ غَيْرَ بجَعلِ (عَمِلَ) فعلًا ماضيًا، والفاعلُ ضميرٌ مُستترٌ عائدٌ على ابنِ نوحٍ، والتقدير: إنه عَمِلَ عملًا غيرَ صالحٍ، مِن الكفرِ والتَّكذيبِ .

2- قراءةُ عَمَلٌ غَيْرُ بجَعْلِ (عَمَلٌ) اسمًا، فالتقديرُ: إنَّ ابنَك ذو عملٍ غيرِ صالحٍ، وقيل معناه: إنَّ سؤالَك إيَّاي أن أنجيَ كافرًا ليس مِن أهلِك عملٌ غيرُ صالحٍ، وقيل غيرُ ذلك .

إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ.

أي: إنَّ ابنَك يا نوحُ ليسَ مِن أهلِك؛ لأنَّه صاحبُ عملٍ غيرِ صالحٍ، وهو الكفرُ باللهِ تعالى؛ فلم يستحقَّ لذلك النجاةَ مِن الهلاكِ .

فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.

أي: إنِّي يا نوحُ قد أخبَرتُك عن سؤالِك سببَ إهلاكي ابنَك، فلا تسألْني بعدَها عن أسبابِ أفعالي التي لا عِلمَ لك بها، ولا تطلُبْ مني شيئًا لا تعلمُ جوازَ مسألتِه، ولا تعلمُ يقينًا أنَّ حصولَه خيرٌ وموافِقٌ للحِكمةِ .

إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.

أي: إني أحذِّرُك- يا نوحُ- من السُّؤالِ عمَّا لا تعلمُ؛ لئلَّا تكونَ من الجاهلينَ .

قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47).

قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ.

أي: قال نوحٌ: يا ربِّ، إني أستجيرُ بك أن أسألَك بعد الآن ما لا عِلمَ لي بصحَّتِه .

وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ.

أي: وإنْ لم تغفِرْ لي- يا ربِّ- ما وقع مني من السؤالِ عمَّا لا أعلمُ، وترحمْني بقبولِ توبتي؛ أكنْ من الخاسرينَ أنفُسَهم وأعمالَهم .

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48).

قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا.

أي: قيل عند استقرارِ السَّفينةِ على جبلِ الجُوديِّ: يا نوحُ، انزِلْ من السَّفينةِ إلى الأرضِ بسلامةٍ وأمنٍ منَّا لك ولأتباعِك المؤمنينَ .

وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ.

أي: وبركاتٍ ثابتةٍ عليك، وعلى أُمَمٍ كثيرةٍ ستأتي من ذريَّةِ المؤمنينَ الذين معك في السَّفينة .

كما قال تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء: 3] .

وقال سبحانه: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 77-79] .

ثمَّ أخبر الله تعالى نوحًا عمَّا هو فاعلٌ بأهلِ الشقاءِ مِن ذرِّيتِه، فقال له :

وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ.

أي: وأُمَمٌ كثيرةٌ سنُمَتِّعُهم في الدُّنيا، ثم نُذيقُهم منا في الآخرةِ عذابًا مُؤلِمًا مُوجِعًا .

تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49).

تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ.

أي: تلك- قصَّة نوحٍ- من أخبار الغيوبِ السَّابقةِ، نوحيها إليك- يا محمَّدُ- لتَعلَمَها .

مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا.

أي: ما كنتَ تعلمُ قِصَّةَ نوحٍ، ولا يعلَمُها أيُّ أحدٍ من قومِك من قبلِ هذا القرآنِ .

فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.

أي: فاصبرْ- يا محمَّدُ- على الدَّعوةِ إلى اللهِ، وتبليغِ رِسالتِه، وتحمَّلْ تكذيبَ قَومِك المشركينَ وأذاهم، كما صبر نوحٌ على قومِه؛ إنَّ العاقِبةَ المحمودةَ في الدُّنيا والآخرةِ للذينَ يتَّقونَ الله تعالى، فامتثَلوا أوامِرَه، واجتنَبوا نواهِيَه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُه تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ يدلُّ على أنَّ الاتِّفاقَ في الدينِ أقوَى مِن النَّسَبِ

. فقد قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي: في الدينِ والحرمةِ لا في النسبِ، ولهذا قِيل: أُخوَّةُ الدِّينِ أثبتُ مِن أُخوَّةِ النَّسبِ؛ فإنَّ أُخوةَ النسبِ تنقطعُ بمخالفةِ الدِّينِ، وأُخوةُ الدينِ لا تنقطعُ بمخالفةِ النسبِ .

2-  فالكفرُ يقطعُ الموالاةَ بين المؤمنينَ والكافرين، كما نقولُ: إنَّ أبا لهبٍ ليس مِن آلِ محمَّدٍ ولا مِن أهلِ بيتِه- وإنْ كان مِن أقاربِه- فلا يدخلُ في قولِنا: (اللهمَ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ) .

3- إنَّ الإيمانَ والصَّلاحَ لا علاقةَ له بالوِراثةِ والأنسابِ، وقد يختلِفُ باختلافِ استعدادِ الأفراد، وما يحيطُ بهم من الأسبابِ، وما يكونونَ عليه من الآراءِ والأعمالِ؛ يبيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ .

4- إنَّ الله تعالى يَجزي النَّاسَ في الدُّنيا والآخرةِ بإيمانهم وأعمالِهم لا بأنسابِهم، ولا يُحابي أحدًا منهم لأجلِ آبائِه وأجدادِه الصالحينَ، وإن كانوا من الأنبياءِ المُرسَلين؛ قال الله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ .

5- قال الله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ هذا النهيُ يدلُّ على أنَّه يُشتَرَطُ في الدُّعاءِ أن يكونَ بما هو جائزٌ في شرعِ الله وسُنَنِه في خَلقِه، فلا يجوزُ سؤالُ ما هو محرَّمٌ، وما هو مخالِفٌ لسُنَنِ الله القطعيَّةِ بما يقتضي تبديلَها، أو تحويلَها، وقلبَ نظامِ الكونِ لأجلِ الدَّاعي .

6- قال الله تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ في هذه الآيةِ تَسليةٌ للخَلقِ في فسادِ أبنائِهم، وإن كانوا صالحينَ .

7- قَولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فيه أنَّ حقيقةَ التَّوبةِ تقتضي أمرينِ: أحدهما في المستقبلِ، وهو العزمُ على التَّركِ، وإليه الإشارةُ بقَولِه: إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، والثاني في الماضي، وهو النَّدمُ على ما مضى، وإليه الإشارةُ بقَولِه: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ .

8- قال الله تعالى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ لَمَّا ذكر تعالى أحوالَ المؤمنينَ، لم يذكُرِ البتَّةَ أنَّه يُعطيهم الدُّنيا أم لا، ولَمَّا ذكر أحوالَ الكافرينَ ذكَرَ أنَّه يُعطيهم الدنيا، وهذا تنبيهٌ عظيمٌ على خساسةِ الدُّنيا، وخساسةِ السَّعادات الجُسمانيَّة، والترغيب في المقامات الرُّوحانيَّة .

9- قال الله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فيه تنبيهٌ على أنَّ الصَّبرَ عاقبتُه النَّصرُ والظَّفَرُ، والفرَحُ والسُّرورُ .

10- سنَّةُ اللهِ في رُسُلِه وأقوامِهم أن تكونَ العاقبةُ بالفوزِ والنَّجاةِ للمُتَّقينَ؛ قال الله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- لما نهَى الله تعالى نوحًا عليه السلام عن سؤالِهِ، حكَى عنه أنَّه قال: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ، والمعنى أنَّه تعالى لما قال له: فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فقال عندَ ذلك: قبلتُ يا ربِّ هذا التكليفَ، ولا أعودُ إليه، إلَّا أنِّي لا أقدرُ على الاحترازِ منه إلا بإعانتِك وهدايتِك، فلهذا بدأ أولًا بقولِه: إِنِّي أَعُوذُ

.

2- في قولِ الله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ نسبَ نوحٌ النَّقصَ والذَّنبَ إلى نفسِه؛ تأدُّبًا مع ربِّه تعالى لَمَّا قال: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي، أي: ما فرطَ من سؤالي، وَتَرْحَمْنِي بفَضلِك .

3- في قوله تعالى: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ دَلالةٌ على أنَّ مَن لم يتفضَّلِ اللهُ عليه بمغفرةِ ذُنوبِه؛ أوبقَتْه خطاياه في الآخرةِ .

4- في قولِه تعالى: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ دلالةٌ على أنَّ السؤالَ والطلبَ قد يكون بصيغةِ الشَّرطِ .

5- إنَّ الطَّالبَ السائلَ تارةً يَسألُ بصيغةِ الطَّلبِ، وتارةً يَسألُ بصيغةِ الخبَرِ؛ إمَّا بوصفِ حالِه، وإمَّا بوصفِ حالِ المسؤولِ، وإمَّا بوصفِ الحالَينِ، وقولُ نوحٍ عليه السلامُ: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ليس صيغةَ طلَبٍ، وإنما هو إخبارٌ عن الله أنَّه إنْ لم يَغْفِرْ له ويرحمْه خَسِرَ، ولكنَّ هذا الخبَرَ يتضمَّنُ سؤالَ المغفرةِ، كما في قَوْلِ يونسَ عليه السلامُ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] ، فإنَّه اعترافٌ بالذَّنبِ، وهو يَتَضَمَّنُ طلبَ المغفرَةِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي استُدِلَّ به على أنَّ الابنَ مِن الأهلِ، فمَنْ وصَّى لأهلِه دخَل ابنُه في الوصيَّةِ هو ومن يضُمُّه منزِلُه مِن عيالِه .

7- قولُ الله تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ يشيرُ إلى اجتهادِ الأنبياءِ، وجوازِ الخطأِ فيه . وأنَّ أحدَهم لو سَأَل دُعاءً لا يَصلحُ له لا يُقَرُّ عليه؛ فإنَّهم مَعصومونَ أنْ يُقرُّوا على ذلك .

8- في قولِه تعالى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ إلى قولِه تعالى: إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ دلالةٌ على أنَّ العاقبةَ للمتَّقينَ، وأنَّ غيرَ المتَّقينَ لهم العاجلةُ دون العاقبةِ، وأنَّ العاقبةَ- وإنْ كانت في الآخرة- فتكونُ في الدُّنيا أيضًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ

- قولُه: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي خبَرٌ مُستعمَلٌ في الاعتذارِ والتَّمهيدِ؛ لأنَّه يُريدُ أن يَسأَلَ سُؤالًا لا يَدْري قَبولَه، ولكنَّه اقتَحَمه لأنَّ المسؤولَ له مِن أهلِه، فله عُذرُ الشَّفقةِ عليه، وتأكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ)؛ للاهتمامِ به، وكذلك جُملَةُ: وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ خبَرٌ مُستعمَلٌ في لازِمِ الفائدةِ، وهو: أنَّه يَعلَمُ أنَّ وعْدَ اللهِ حقٌّ

.

- وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ بالفاءِ في فَقَالَ رَبِّ، وقال في سورةِ مريمَ في قصَّةِ زَكريَّا: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ [مريم: 3، 4] بلا فاءٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه أريدَ بالنِّداءِ هنا في سورةِ هودٍ إرادتُه؛ فهي سببٌ له؛ فناسَبَتِ الفاءُ الدَّالَّةُ على السَّببيَّةِ، وهناك لم يُرِدْ ذلك؛ فناسَب ترْكُ الفاءِ ؛ فجملةُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي بيانٌ للنِّداءِ، ومُقتَضى الظَّاهرِ ألَّا تُعطَفَ بفاءِ التَّفريعِ كما لم يُعطَفِ البيانُ في قولِه تعالى: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 3، 4]، وخولِفَ ذلك هنا؛ ووجْهُ اقتِرانِه بالفاءِ أنَّ فِعلَ نَادَى مُستعمَلٌ في إرادةِ النِّداءِ، أي: مِثْلُ فِعْلِ قُمْتُمْ في قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] الآيةَ، وذلك إخراجٌ للكَلامِ على خِلافِ مُقتضَى الظَّاهرِ؛ فإنَّ وُجودَ الفاءِ في الجملةِ الَّتي هي بيانٌ للنِّداءِ قرينةٌ على أنَّ فِعْلَ نَادَى مُستَعارٌ لمعنى إرادةِ النِّداءِ، أي: أراد نِداءَ ربِّه فأعقَبَ إرادتَه بإصدارِ النِّداءِ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه أراد النِّداءَ فتردَّد في الإقدامِ عليه؛ لِمَا عَلِم مِن قولِه تعالى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [هود: 40] ؛ فلم يَطُلْ تَردُّدُه لَمَّا غلَبَتْه الشَّفَقةُ على ابنِه، فأقدَم على نداءِ ربِّه؛ ولذلك قدَّم الاعتِذارَ بقولِه: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي .

2- قولُه تعالى: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ

- قولُه عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فيه تَعْريضٌ بالمطلوبِ؛ لأنَّه لم يَذكُرْه، بل اقتَصَر على هذه الجُمَلِ الثَّلاثِ في مَقامِ الدُّعاءِ، وذلك ضَرْبٌ مِن ضُروبِ التَّأدُّبِ، والتَّردُّدِ في الإقدامِ على المسؤولِ؛ استِغْناءً بعِلْمِ المسؤولِ، كأنَّه يَقولُ: أسأَلُك أم أترُكُ .

- قولُه تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ  فيه نَفْيُ أن يَكونَ ابنُه مِن أهلِ دينِه، وتأكيدُه بـ (إنَّ) لِتَحقيقِه؛ إعلامًا بأنَّ قَرابةَ الدِّينِ بالنِّسبةِ لأهلِ الإيمانِ هي القَرابةُ .

- وجملةُ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ تعليلٌ لِمَضمونِ جملةِ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ .

- وعَمَلٌ مصدرٌ أُخبِرَ به للمُبالَغةِ؛ حيث جَعَل ابنَه نَفْسَ العمَلِ؛ مبالغةً في ذَمِّه .

- وإيثارُ غَيْرُ صَالِحٍ على (فاسِدٌ)؛ إمَّا لأنَّ الفاسِدَ ربَّما يُطلَقُ على ما فسَدَ ومِن شَأنِه الصَّلاحُ؛ فلا يَكونُ نَصًّا فيما هو مِن قَبيلِ الفاسِدِ المَحْضِ، كالقَتلِ والْمَظالِمِ، وإمَّا للتَّلويحِ بأنَّ نجاةَ مَن نَجا إنَّما هي لِصَلاحِه .

- وفي قوله: وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ على القول بأنَّ هذا النِّداءِ كان قبلَ غرقِ ابنِه؛ فيكون أُخِّرَ عن حِكايةِ الأمرِ الوارِدِ على الأرضِ والسَّماءِ، وما يَتْلوه مِن زَوالِ الطُّوفانِ، وقَضاءِ الأمْرِ، واستِواءِ الفُلْكِ على الجُوديِّ، والدُّعاءِ بالهَلاكِ على الظَّالِمين، مع أنَّ حقَّه أن يُذْكَرَ عَقِيبَ قولِه تعالى: فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ حسَبَما وقَع في الخارِجِ؛ إذ حينَئذٍ يُتَصوَّرُ الدُّعاءُ بالإنجاءِ لا بَعْدَ العلمِ بالهلاكِ، ووجهُ هذا التَّأخيرِ: أنَّ ذِكْرَ هذا النِّداءِ مُستَدْعٍ لذِكْرِ الجوابِ المستدعي لذِكْرِ ما مرَّ مِن تَوبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المؤدِّي ذِكْرُها إلى ذِكْرِ قَبولِها في ضِمْنِ الأمرِ الوارِدِ بنُزولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن الفُلْكِ بالسَّلامِ والبَرَكاتِ الفائضةِ عليه وعلى المؤمنين، وهذه المعاني آخِذٌ بعضُها بحُجْزةِ بعضٍ بحيثُ لا يَكادُ يُفرَّقُ الآياتُ الكريمةُ المنطوِيَةُ عليها بعضُها مِن بَعضٍ، وأنَّ ذلك إنَّما يَتِمُّ بتَمامِ القِصَّةِ، وذلك إنَّما يكونُ بتمامِ الطُّوفانِ؛ فاقتَضى الحالُ ذِكرَ تمامِها قبلَ هذا النِّداءِ؛  ولهذه النُّكتةِ ازدادَ حُسْنُ موقعِ الإيجازِ البليغِ.

وفيه فائدةٌ أخرى: وهي التَّصريحُ بهَلاكِ ابْنِه الكافِرِ مِن أوَّلِ الأمرِ، ولو ذُكِر النِّداءُ الثَّاني عَقيبَ قولِه تعالى: فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ لَرُبَّما تُوُهِّم مِن أوَّلِ الأمرِ إلى أن يَرِدَ قولُه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أنَّه يَنْجو بدُعائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فنُصَّ على هَلاكِه مِن أوَّلِ الأمرِ، ثمَّ ذُكِرَ الأمرُ الوارِدُ على الأرضِ والسَّماءِ مِن الغَيْضِ والإقلاعِ، وبيَّنَ بُلوغَ أمرِ اللهِ مَحلَّه، وجريانَ قَضائِه ونُفوذَ حُكمِه عليهم بهَلاكِ مَن هلَك ونَجاةِ مَن نجا بتَمامِ ذلك الطُّوفانِ، واستواءِ الفُلْكِ على الجوديِّ؛ فقُصَّتِ القِصَّةُ إلى هذه المرتَبةِ وبُيِّن ذلك أيَّ بيانٍ، ثمَّ تَعرَّضَ لِمَا وقعَ في تَضاعيفِ ذلكَ ممَّا جَرى بينَ نوحٍ عليه السَّلامُ وبينَ ربِّ العِزَّةِ جلَّتْ حِكمَتُه، فذَكَر بعدَ توبَتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قَبولَها بقَولِه: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ... .

3- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ

- قولُه: وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ فيه حُسنُ تَرتيبٍ، حيث قدَّم طلَبَ المغفرةِ ابتداءً؛ لأنَّ التَّخْليَةَ مُقدَّمةٌ على التَّحْليةِ، ثمَّ أعقَبَها بطلَبِ الرَّحمةِ؛ لأنَّه إذا كان بمحَلِّ الرِّضا مِن اللهِ كان أهلًا للرَّحمةِ .

4- قوله تعالى: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ

- فُصِلَتِ الجُملَةُ ولم تُعطَفْ؛ لِوُقوعِها في سِياقِ المُحاوَرةِ بينَ نوحٍ عليه السَّلامُ وربِّه؛ فإنَّ نوحًا عليه السَّلامُ لَمَّا أجابَ بقَولِه: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ إلى آخِرِه [هود: 47] خاطَبَه ربُّه إتمامًا للمُحاوَرةِ بما يُسَكِّنُ جَأْشَه، وكان مُقتَضى الظَّاهِرِ أن يَقولَ: (قال: يا نوحُ اهبِطْ)، ولكنَّه عدَل عنه إلى بناءِ الفِعْلِ للنَّائبِ؛ لِيَجيءَ على وَتيرةِ حِكايةِ أجزاءِ القِصَّةِ المتقدِّمةِ مِن قولِه: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي... وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] ؛ فحصَل بذلك البِناءِ قَضاءُ حَقِّ الإشارةِ إلى جُزءِ القصَّةِ، كما حصَل بالفَصْلِ قَضاءُ حقِّ الإشارةِ إلى أنَّ ذلك القوْلَ جزءُ المحاوَرةِ .

- وقولُه هنا: اهْبِطْ بِسَلَامٍ نَظيرُ قولِه: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ [الحجر: 46] ؛ فإنَّ السَّلامَ ظاهِرٌ في التَّحيَّةِ لِتَقييدِه بـ (آمِنِينَ)، ولو كان السَّلامُ مُرادًا به السَّلامةُ لكان التَّقييدُ بـ (آمِنِينَ) توكيدًا وهو خِلافُ الأصلِ، ومِنَّا تأكيدٌ لتوجيهِ السَّلامِ إليه؛ لأنَّ (مِن) ابتِدائيَّةٌ، فالمعنى: بسَلامٍ ناشئٍ مِن عِندِنا، كقَولِه: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] . وذلك كثيرٌ في كَلامِهم، وهذا التَّأكيدُ يُرادُ به زيادةُ الصِّلةِ والإكرامِ؛ فهو أشَدُّ مُبالَغةً مِن الَّذي لا تُذكَرُ معَه (مِن) .

- وتنكيرُ (أُمَمٍ) في قولِه: وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ؛ لأنَّه لم يُقصَدْ به التَّعميمُ؛ تَمهيدًا لقولِه: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ .

- وجُملةُ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ... إلخ، عطفٌ على جُملةِ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا إلى آخِرِها، وهي استِئْنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّها تَبْيينٌ لِمَا أفادَه التَّنكيرُ في قولِه: وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ مِن الاحتِرازِ عن أُممٍ آخَرينَ .

- وفي وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ حُذِفُ الخبر، أي: ومنهم؛ لدَلالةِ ما سبق عليه، والتقدير: (وممَّن معَك أُممٌ سنُمتِّعهم)؛ وإنَّما حذف لأنَّ قوله: مِمَّنْ مَعَكَ يدلُّ عليه، والمعنى: أنَّ السَّلامَ منَّا والبركاتِ عليك وعلى أُممٍ مؤمنين يَنشؤُون ممَّن معك؛ فإنَّ إيرادَ الأممِ المبارَكِ عليهم المتَشعِّبةِ منهم نَكِرةً يَدُلُّ على أنَّ بعضَ مَنْ يتشعَّبُ منهم لَيْسوا على صِفَتِهم، أي: ليس جَميعُ مَن تشعَّب منهم مُسلِمًا ومُبارَكًا عليه، بل مِنهم أممٌ مُمتَّعون في الدُّنيا، مُعذَّبون في الآخرةِ، وعلى هذا لا يَكونُ الكائِنون معَ نوحٍ عليه السَّلامُ مُسلَّمًا ومُبارَكًا عليهم صَريحًا، وإنَّما يُفهَمُ ذلك مِن كَونِهم مع نُوحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومِن كونِ ذُرِّيَّاتِهم كذلك، بدَلالةِ النَّصِّ، ويَجوزُ أن تَكونَ (مِن) بَيانيَّةً، أي: وعلى أُمَمِ هم الَّذين معَك، وإنَّما سُمُّوا أممًا؛ لأنَّهم أممٌ مُتحزِّبةٌ، وجماعاتٌ مُتفرِّقةٌ، أو لأنَّ جميعَ الأممِ إنَّما تشعَّبَت منهم؛ فحينَئذٍ يكونُ المرادُ بالأممِ المشارِ إليهم في قولِه تعالى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ بعضَ الأممِ المتشعِّبةِ منهم، وهي الأممُ الكافرةُ المتناسِلةُ منهم إلى يومِ القيامةِ، ويَبْقى أمرُ الأممِ المؤمنةِ النَّاشئةِ مِنهم مُبهَمًا، غيرَ مُتعرَّضٍ له، ولا مَدلولٍ عليه مع ذلك؛ ففي دَلالةِ المذكورِ على خبَرِه المحذوفِ خَفاءٌ؛ لأنَّ (مِن) المذكورةَ بيانيَّةٌ، والمحذوفةَ تبعيضيَّةٌ أو ابتدائيَّةٌ .

- قولُه: وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه تنبيهٌ على الإيمانِ بأنَّ المتَّصِفين به مِن اللهِ عليهم سلامٌ وبرَكةٌ، وعلى الكفرِ بأنَّ المتَّصِفين به يُمَتَّعون في الدُّنيا، ثمَّ يُعذَّبون في الآخرةِ، وذلك مِن بابِ الكِنايةِ، كقَولِهم: فُلانٌ طَويلُ النِّجادِ، كَثيرُ الرَّمادِ .

5- قولُه تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

- قولُه: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ إلى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ استِئْنافٌ أُريدَ به الامتنانُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والموعظةُ والتَّسليةُ؛ فالامتِنانُ من قولِه: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا، والموعظةُ مِن قولِه: فَاصْبِرْ، والتَّسليةُ مِن قولِه: إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ .

- وقولُه: تِلْكَ إشارةٌ إلى ما قُصَّ مِن قِصَّةِ نوحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ إمَّا لكونِها بتَقَضِّيها في حُكْمِ البعيدِ، أو الدَّلالةِ على بُعْدِ مَنزِلَتِها .

- قولُه: نُوحِيهَا إِلَيْكَ فيه التَّعبيرُ بصيغةِ المضارِعِ نُوحِيهَا؛ لاستحضارِ الصُّورةِ، أو هو حالٌ مِنْ أَنباءِ الغيبِ، أي: مُوحاةً إليك .

- قولُه: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ في ذِكْرِ جَهْلِهم تنبيهٌ على أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَم يتَعلَّمْه إذ لم يُخالِطْ غيرَهم، وأنَّهم مع كثرَتِهم لَمَّا لم يَعلَموه؛ فكيف بواحدٍ منهم ؟!

- وعَطْفُ وَلَا قَوْمُكَ من التَّرقِّي؛ لأنَّ في قومِه مَن خالَطَ أهْلَ الكتابِ، ومَن كان يَقرَأُ ويَكتُبُ، ولا يَعلَمُ أحَدٌ مِنهم كثيرًا مِمَّا أوحي إليه مِن هذه القصَّةِ .

- قولُه: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ فيه تفريعُ أمرِ الرَّسولِ بالصَّبرِ على هذه القصَّةِ، ووجهُه أنَّ فيها قياسَ حالِه معَ قومِه على حالِ نوحٍ عليه السَّلامُ معَ قومِه؛ فكما صبَر نوحٌ عليه السَّلامُ؛ فكانت العاقبةُ له، كذلك تَكونُ العاقبةُ لك على قومِك .

- وجملةُ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ عِلَّةٌ للصَّبرِ المأمورِ به؛ أي: اصبِرْ؛ لأنَّ داعِيَ الصَّبرِ قائمٌ، وهو أنَّ العاقِبةَ الحَسَنةَ تَكونُ للمُتَّقين، فستَكونُ لك وللمُؤمِنين معَك .

- واللَّامُ في لِلْمُتَّقِينَ للاختصاصِ والمِلْكِ؛ فيَقْتَضي مِلْكَ المتَّقينَ لجِنْسِ العاقبةِ الحسَنةِ، فهي ثابتةٌ لهم، لا تَفوتُهم، وهي مُنتَفِيَةٌ عن أضدادِهم

=======

 

سورة هود

الآيات (50-60)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات:

 

مُفْتَرُونَ: أي: كاذِبونَ، والافتِراءُ: اختِلاقُ الكَذِبِ، وأصلُه مِن: (فَرْيِ الأديمِ)، وهو: قَطْعُهُ، فقيل للكَذِبِ: افتراءٌ؛ لأنَّ الكاذِبَ يقطَعُ به على التَّقديرِ، مِن غيرِ تحقيقٍ

.

فَطَرَنِي: أي: خَلَقَني، وأصلُ (فطر): يدلُّ على الشَّقِّ، فكُلُّ من أظهَرَ أمرًا اختَرَعه على غيرِ مِثالٍ، يُقال: قد فطَرَه .

مِدْرَارًا: أي: مُتتابعًا غزيرًا، وأصلُ (درر): يدلُّ على تولُّدِ شَيءٍ عن شيءٍ .

اعْتَرَاكَ: أي: أصابَك، أو ألمَّ بك، وأصلُ (عرو): يدلُّ على ثَباتٍ ومُلازمةٍ وغِشيانٍ .

بِنَاصِيَتِهَا: النَّاصِيةُ: شَعرُ مُقَدَّمِ الرَّأسِ، وأصلُ (نصو): يدُلُّ على عُلُوٍّ، وسُمِّيَت النَّاصِية؛ لارتفاعِ مَنبَتِها

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى أنَّه أرسَلَ إلى عادٍ أخاهم هودًا، فقال لهم: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم مِن إلهٍ يستحِقُّ العبادةَ غيرُه جلَّ وعلا، فأخلِصوا له العبادةَ، فما أنتم إلَّا كاذِبونَ في إشراكِكم باللهِ، ويا قومِ لا أسألُكم على ما أدعوكم إليه- مِن إخلاصِ العِبادةِ لله، وتَركِ عبادةِ الأوثانِ- أجرًا، ما أجري على دَعوتي لكم إلَّا على اللهِ الذي خلَقَني، أفلا تَعقِلونَ فتُمَيِّزوا بين الحَقِّ والباطلِ؟! ويا قوم اطلُبوا مَغفِرةَ الله، ثمَّ تُوبوا إليه مِن ذُنوبِكم؛ يُرسِلِ المطَرَ عليكم مُتتابعًا كثيرًا، فتَكثُرْ خَيراتُكم، ويَزِدْكم قُوَّةً إلى قُوَّتِكم، بكَثرةِ ذُرِّيَّاتِكم، وتتابُعِ النِّعَمِ عليكم، ولا تُعرِضوا عمَّا دعَوتُكم إليه، مُصِرِّينَ على إجرامِكم.

قالوا: يا هودُ ما جِئتَنا بحُجَّةٍ واضحةٍ على صِحَّةِ ما تَدعونا إليه، وما نحن بتاركي آلهَتِنا مِن أجلِ قَولِك، وما نحن بمصَدِّقينَ لك فيما تدَّعيه، ما نقولُ إلَّا أنَّ بعضَ آلهتِنا أصابك بجُنونٍ؛ بسبَبِ نَهيِك عن عبادتِها. قال لهم: إني أُشهِدُ اللهَ على ما أقولُ، واشهَدوا أنَّني بريءٌ ممَّا تُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ؛ من الأندادِ والأصنامِ، فاجتَهِدوا أنتم ومَن زعَمتُم من آلهتِكم في إلحاقِ الضَّرَرِ بي، ثمَّ لا تؤخِّروا ذلك طرفةَ عَينٍ؛ إنِّي توكلَّتُ على اللهِ ربِّي وربِّكم، مالكِ كُلِّ شَيءٍ، والمتصَرِّفِ فيه، فلا يصيبُني شيءٌ إلَّا بأمرِه تعالى، وهو القادِرُ على كلِّ شَيءٍ، فليس من شيءٍ يدِبُّ على هذه الأرضِ إلَّا واللهُ مالِكُه، وهو في سُلطانِه وتصَرُّفِه، إنَّ رَبِّي عَدلٌ في قَضائِه وشَرعِه وأمرِه، يُجازي المحسِنَ بإحسانِه، والمُسيءَ بإساءتِه، فإن تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه مِن توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العبادةِ له؛ فقد أبلغتُكم رسالةَ رَبِّي إليكم، وقامت عليكم الحُجَّةُ، وحيث لم تُؤمِنوا بالله فسيُهلِكُكم، ويأتي بقومٍ آخرينَ يَخلُفونَكم في ديارِكم وأموالِكم، ويُخلِصونَ لله العبادةَ، ولا تَضُرُّونَه شيئًا؛ إنَّ ربِّي على كلِّ شَيءٍ حفيظٌ، فهو الذي يحفَظُني من أن تنالوني بسُوءٍ.

ولَمَّا جاء أمرُنا بعذابِ قَومِ هودٍ؛ نجَّينا هُودًا والمؤمنينَ بفَضلٍ منَّا عليهم ورحمةٍ، ونجَّيناهم من عذابٍ شديدٍ؛ عذابِ يومِ القيامةِ، وتلك عادٌ كَفَروا بآياتِ اللهِ، وعصَوا رسُلَه، وأطاعوا أمرَ كُلِّ مُستكبِرٍ على اللهِ، لا يقبَلُ الحَقَّ ولا يُذْعِنُ له، وأُتبِعوا في هذه الدُّنيا لعنةً مِن اللهِ، وسَخَطًا منه يومَ القيامةِ، ألا إنَّ عادًا جَحَدوا ربَّهم، ألا بُعْدًا وهَلاكًا لعادٍ قَومِ هُودٍ.

تفسير الآيات:

 

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50).

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا.

أي: وأرسَلْنا إلى قبيلةِ عادٍ أخاهم في النَّسَبِ هودًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ

.

قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ.

أي: قال لهم: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غيرُ اللهِ، فلا تُشرِكوا به شيئًا .

إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ.

أي: ما أنتم في عبادتِكم غيرَ اللهِ إلَّا كاذِبونَ على اللهِ .

يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (51).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعدما أوضحَ لهم وجوبَ عبادةِ اللهِ، وفسادَ عبادةِ ما سواه؛ ذكَرَ عدمَ المانعِ لهم من الانقيادِ، فقال: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا أي: غرامةً مِن أموالِكم، على ما دعوتُكم إليه، فتقولوا: هذا يريدُ أن يأخذَ أموالَنا .

يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي.

أي: يا قَومِ لا أطلبُ منكم أُجرةً على تبليغي رسالةَ اللهِ، ما ثوابي على دعوتي لكم إلَّا على اللهِ الذي خلقَني .

أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.

أي: أفلا تعقِلونَ أنِّي أدعوكم لمصلَحتِكم في الدُّنيا والآخرةِ مِن غيرِ أُجرةٍ؟! فلو كنتُ أبتغي بدعوتِكم إلى اللهِ غيرَ النَّصيحةِ لكم، لطلبتُ منكم أجرًا على ذلك .

وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ (52).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا هو النَّوعُ الثَّاني من التَّكاليفِ التي ذكَرَها هودٌ عليه السَّلامُ لِقومِه؛ وذلك لأنَّه في المقامِ الأوَّلِ دعاهم إلى التَّوحيدِ، وفي هذا المقامِ دعاهم إلى الاستغفارِ ثمَّ إلى التوبةِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا دعا هودٌ قَومَه مُشيرًا إلى ترهيبِهم مستدِلًّا على الصِّدقِ بنفي الغَرَضِ؛ رغَّبَهم في إدامةِ الخوفِ ممَّا مضى .

وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا.

أي: ويا قومِ اطلُبوا من رَبِّكم سَترَ ذُنوبِكم الماضيةِ، والتَّجاوُزَ عن المؤاخَذةِ بها، ثمَّ توبوا إليه فيما تستقبِلونَه، وذلك بالتَّوبةِ النَّصوحِ، والرُّجوعِ إلى عبادتِه وَحدَه وطاعتِه؛ فإنَّكم إن فعلتُم ذلك يُرسِلِ المطرَ عليكم كثيرًا مُتتابعًا، فتُخصِب الأرضُ، ويكثُر خَيرُها .

كما حكى الله تعالى عن نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 13] .

وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ.

أي: ويَزِدْكم اللهُ- إن استغفَرتُم وتُبتُم- شِدَّةً مُضافةً إلى شِدَّتِكم، وأموالًا وأولادًا .

وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ.

أي: ولا تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه من توحيدِ اللهِ وعبادتِه، وتُصِرُّوا على الكُفرِ والعِصيانِ .

قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53).

قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ.

أي: قال قومُ هودٍ: يا هودُ، ما أتيتَنا ببُرهانٍ وحُجَّةٍ واضحةٍ تشهَدُ على صِحَّةِ ما تدعونا إليه !

وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ.

أي: وما نحنُ- يا هودُ- بتاركي عبادةِ آلهَتِنا بمُجَرَّدِ نَهيِك لنا عن عبادتِهم، دونَ بُرهانٍ على صحَّةِ ما تقولُ .

وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.

أي: وما نحنُ لك بما تدَّعي من النبوَّةِ والرِّسالةِ بمُصَدِّقينَ ومقرِّين ومنقادين ومُذْعِنين.

إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54).

إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ.

أي: ما نقولُ إلَّا أصابَك بعضُ أصنامِنا بجُنونٍ؛ بسبَبِ نهيِك عن عبادتِها، وذمِّك لها .

قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ.

أي: قال هودٌ لهم: إنِّي أُشهِدُ اللهَ على نفسي، وأُشهِدُكم أنِّي بَريءٌ مِن عبادتِكم للأصنامِ مِن دونِ اللهِ تعالى .

فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55).

مُناسَبتُها لما قَبلَها:

لَمَّا كانت البراءةُ من الشُّرَكاءِ تقتضي اعتقادَ عَجزِها عن إلحاقِ إضرارٍ به؛ فرَّع على البراءةِ هذه الجملةَ ، فقال:

فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55).

أي: فاحْتالوا أنتم وجميعُ آلهتِكم لتضرُّوني، ثمَّ لا تُمهِلوني، ولا تؤخِّروا ذلك .

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56).

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم.

أي: إنِّي اعتمدتُ على اللهِ مالكي ومالِكِكم، ومدبِّرِ أمورِ خَلقِه؛ ليمنَعَني منكم، فلا تصيبوني بسُوءٍ .

مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا.

أي: ما من شيءٍ يدِبُّ على الأرضِ إلَّا وهو في قبضةِ اللهِ، وتحت قَهرِه وسُلطانِه، يُصرِّفُه كيف يشاءُ، ويمنَعُه ممَّا يشاءُ، فلا تَصِلونَ إلى إلحاقِ الضَّررِ بي .

عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمُرُنا إذا أخذْنا مضجَعَنا أن نقول: اللهمَّ رَبَّ السَّمواتِ، وربَّ الأرضِ، وربَّ العرشِ العظيمِ، ربَّنا ورَبَّ كُلِّ شيءٍ، فالقَ الحَبِّ والنَّوى، ومُنزِلَ التَّوراةِ والإنجيلِ والفُرقانِ، أعوذُ بك من شَرِّ كُلِّ شَيءٍ أنت آخِذٌ بناصيتِه، اللهمَّ أنت الأوَّلُ فليس قبلَك شيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظَّاهرُ فليس فوقَك شيءٌ، وأنت الباطِنُ فليس دونك شيءٌ، اقضِ عنَّا الدَّينَ، وأغنِنا مِن الفَقرِ) ) .

إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.

أي: إنَّ ربِّي على طريقِ الحَقِّ والعَدلِ لا يظلِمُ أحدًا، ولا تخرجُ أقوالُه وأفعالُه عن الصَّوابِ والحِكمةِ في شَرعِه وقضائِه .

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا استوفَى تشييدَه أمْرَه، وهدمَ قَولِهم؛ أخَذ يحَذِّرُهم، فقال :

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ.

أي: فإن تُعرِضُوا عمَّا أدعوكم إليه من عبادةِ اللهِ وحدَه، فقد قامت عليكم الحُجَّةُ بإبلاغي إيَّاكم رسالةَ اللهِ، ولم تبقَ عليَّ تَبِعَةٌ من شأنِكم .

وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا.

أي: ويَستبدِلُ ربِّي قومًا غيرَكم يُطيعونَه ويعبُدونَه وَحدَه بعد أن يُهلِكَكم، ولا تضُرُّونَ اللهَ شيئًا بكُفرِكم .

إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ.

أي: إنَّ ربِّي ذو حِفظٍ لكُلِّ شَيءٍ، حافِظٌ لأقوالِ عبادِه وأفعالِهم، ويجزيهم عليها، ويحفَظُني من أن تنالوني بسوءٍ .

وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58).

وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا.

أي: ولَمَّا أتَى عذابُنا، وأهلكْنا جميعَ الكافرينَ، نجَّيْنا هودًا والمؤمنينَ معه برَحمتِنا، وبفضلٍ منَّا عليهم .

عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لن يُدخِلَ أحدًا منكم عملُه الجنَّةَ، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟! قال: ولا أنا، إلَّا أن يتغمَّدَني اللهُ منه بفضلٍ ورحمةٍ )) .

وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ.

أي: ونجَّيْنا المؤمنينَ من عذابِ يومِ القيامةِ .

وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59).

وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ.

أي: وتلك عادٌ- الذين أوقعَ اللهُ بهم ما أوقعَ- كذَّبوا بالمُعجزاتِ التي أيَّد اللهُ بها الرسُلَ، وأنكَروا ما أنزل اللهُ عليهم من الحُجَجِ والبراهينِ، وعَصَوا رسُلَ اللهِ بعصيانِهم لرَسولِهم هودٍ عليه وعليهم السَّلامُ .

وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.

أي: واتَّبَعوا كلَّ متكَبِّرٍ مِن كبَرائِهم ورؤسائِهم، متسَلِّطٍ على الخلقِ، طاغيةٍ معاندٍ، لا يقبَلُ الحَقَّ .

وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكر أوصافَ قَومِ عادٍ، ذكر بعد ذلك أحوالَهم ، فقال تعالى:

وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ.

أي: وألحقَ اللهُ بقومِ هودٍ في هذه الدُّنيا لعنةً مِنه ومِن المؤمنينَ، وتلحَقُهم لعنةٌ أُخرَى يومَ القيامةِ .

أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ.

أي: ألا إنَّ عادًا كفروا بربِّهم الذي خلَقَهم ورزَقَهم وربَّاهم، وعَصَوه .

أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ.

أي: ألا أبعَدَ اللهُ عادًا قومَ هودٍ عن كلِّ خَيرٍ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- خاطَب نوحٌ عليه السلامُ قومَه قائلًا: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ خاطبَهم بذلك إزالةً للتُّهمةِ، وتمحيضًا للنَّصيحةِ؛ فإنَّها لا تَنجَعُ ما دامت مَشوبةً بالمطامِعِ

.

2- في قَولِه تعالى: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ دلالةٌ مِن كلامِ المرسَلينَ أنَّه بتوكُّلِهم على اللهِ يُدفَعُ شرُّ عدوِّهم عنهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا أرسلَ اللهُ إليهم أخاهم في النَّسَبِ هوداً ليتَمَكَّنوا من الأخذِ عنه، والعلم بصِدقِه

.

2- قولُ الله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا فيه سؤالٌ: وصفَ تعالى هودًا بأنَّه أخوهم، ومعلومٌ أنَّ تلك الأخوَّةَ ما كانت في الدِّينِ، وإنَّما كانت في النَّسَبِ، وقد قال تعالى في ابنِ نوحٍ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، فبيَّن أنَّ قَرابةَ النَّسَبِ لا تُفيدُ إذا لم تحصُلْ قَرابةُ الدِّينِ، وهاهنا أثبتَ هذه الأخُوَّةَ مع الاختلافِ في الدِّينِ، فما الفرقُ بينهما؟

الجواب: أنَّ المرادَ مِن هذا الكلامِ استمالةُ قَومِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ قَومَه كانوا يستبعِدونَ في محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مع أنَّه واحِدٌ من قبيلتِهم- أن يكونَ رسولًا إليهم من عندِ الله، فذكرَ الله تعالى أنَّ هودًا كان واحدًا مِن عاد؛ لإزالةِ هذا الاستِبعاد .

3- دلَّ قولُه تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ على أنَّ هؤلاء المعبودينَ مِن دونِ اللهِ إنَّما هم آلهةٌ في نفوسِ المُشرِكينَ، ليسوا آلهةً في نفسِ الأمرِ؛ ولهذا كان ما في قلوبِهم مِن الشِّركِ إفكًا .

4- دلَّ قولُه تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ على أنَّ الأفعالَ قَبْلَ الرِّسالةِ منها الحسَنُ ومنها القبيحُ، إلَّا أنَّهم لا يستَحِقُّونَ العذابَ إلَّا بعد مجيءِ الرَّسولِ إليهم، فقد جعل هودٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قومَه مُفتَرينَ قبلَ أن يحكُمَ بحُكمٍ يُخالِفونَه؛ لِكونِهم جعلوا مع الله إلهًا آخرَ .

5- في قَولِه تعالى عن هودٍ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ بيانُ أنَّ عبادةَ اللهِ وحدَه هي أوَّلُ الواجباتِ، وهي مِفتاحُ دعوةِ المُرسَلينَ كلِّهم .

6- قولُ الله تعالى: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ هذا غايةُ ما يُرادُ مِن السَّعاداتِ الدنيوية: كثرةُ النعمِ، وكمالُ القوةِ للاستمتاعِ بها؛ فقولُه تعالى: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا إشارةٌ إلى تكثيرِ النِّعَم؛ لأنَّ مادةَ حُصولِ النِّعَمِ هي الأمطارُ المُوافِقة، وقولُه: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ إشارةٌ إلى كمالِ حالِ القُوى التي بها يمكِنُ الانتفاعُ بتلك النِّعمةِ .

7- (ثمَّ) في قولِه: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ للتَّرتيبِ الرُّتْبيِّ؛ لأنَّ الدَّوامَ على الإقلاعِ أهَمُّ مِن طلَبِ العفْوِ عمَّا سلَف .

8- كثيرًا ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبةِ، كما في قولِهِ تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، فيكونُ الاستغفارُ حينئذٍ عبارةً عن طلبِ المغفرةِ باللسانِ، والتوبةُ عبارةٌ عن الإقلاع عن الذنوبِ بالقلوبِ والجوارح .

9- قولُه تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقتضي أنَّه- سُبحانَه- لا يقولُ إلَّا الحقَّ، ولا يأمرُ إلَّا بالعدلِ، ولا يفعلُ إلَّا ما هو مصلحةٌ ورحمةٌ وحكمةٌ وعَدْلٌ؛ فهو على الحقِّ في أقوالِه وأفعالِه، فلا يقضي على العبدِ بما يكونُ ظالِمًا له به، ولا يأخذُه بغير ذنبِه، ولا يَنقُصُه مِن حسناتِه شيئًا، ولا يَحمِلُ عليه مِن سيِّئاتِ غَيرِه- التي لم يعملْها ولم يتسبَّبْ إليها- شيئًا، ولا يؤاخِذُ أحدًا بذنبِ غيرِه، ولا يفعلُ قطُّ ما لا يُحمَدُ عليه، ويُثنَى به عليه، ويكونُ له فيه العواقبُ الحميدةُ والغاياتُ المطلوبةُ؛ فإنَّ كونَه على صراطٍ مُستقيمٍ يأبى ذلك كلَّه .

10- قولُه تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ فيه تأنيثُ اسمِ الإشارةِ تِلْكَ على تأويلِ الأُمَّةِ، أو أنَّث اسْمَ الإشارةِ باعتبارِ القَبيلةِ، أو لأنَّ الإشارةَ إلى قُبورِهم وآثارِهِم .

11-  دلَّ قولُه تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ على إطلاقِ مَعصيةِ الرُّسُلِ عُمومًا على مَن عصى نبيَّه، فأطلقَ معصيتَهم للرُّسُلِ- بأنَّهم عصَوا هودًا- مَعصيةَ تكذيبٍ لجنسِ الرُّسُلِ، فكانت المعصيةُ لجنسِ الرُّسُلِ كمعصيةِ مَن قال: فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: 9] ، وكمعصيةِ مَن كذَّبَ وتوَلَّى في قولِه تعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 15- 16] .

12- قولُ الله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ فيه الردُّ على الذين يصَوِّبونَ جميعَ المِلَل- وخَصُّوا عادًا هذه؛ لكونِها أغناهم بأن قالوا: إنَّهم من المقرَّبينَ إلى اللهِ، وإنَّهم بعينِ الرِّضا منه- وهم أتباعُ ابنِ عرَبي الكافرِ العنيدِ، أهلُ الاتِّحادِ، المُجاهِرونَ بعَظيمِ الإلحادِ، المستخِفُّونَ برَبِّ العبادِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ

- قولُه تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا فيه تقديمُ المجرورِ وَإِلَى عَادٍ على المنصوبِ أَخَاهُمْ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ العطْفَ مِن عَطْفِ المفرَداتِ لا مِن عطْفِ الجُمَلِ؛ لأنَّ الجارَّ لا بدَّ له مِن متعلِّق، وقضاءً لحقِّ الإيجازِ؛ لِيَحضُرَ ذِكرُ عادٍ مرَّتَينِ بلَفْظِه ثمَّ بضَميرِه

.

- قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ فيه افتِتاحُ دَعوتِه بنِداءِ قومِه؛ لاستِرْعاءِ أَسْماعِهم؛ إشارةً إلى أهمِّيَّةِ ما سيُلْقي إليهم، ووَجْهُ التَّصريحِ بفِعْلِ القولِ؛ لأنَّ فِعْلَ أَرْسَلْنَا محذوفٌ؛ فلو بُيِّن بجملةِ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا دون (قال) كما بُيِّن في قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود: 25] ، لكان بَيانًا لمعدومٍ، وهو غيرُ جَلِيٍّ .

- قولُه: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ استِئْنافٌ يَجْري مَجْرى البيانِ للعِبادةِ المأمورِ بها، والتَّعليلِ للأمْرِ بها، كأنَّه قيل: خُصُّوه بالعبادةِ وَلا تُشْرِكوا بِه شَيئًا؛ إذْ ليس لكم مِن إلهٍ سِواه .

- وجملةُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ بيانٌ لِجُملَةِ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وفيها توبيخٌ وإنكارٌ لهم .

2- قولُه: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ

- جملةُ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا فيه إعادةُ النِّداءِ في أثناءِ الكلامِ، والتَّكريرُ للأهَمِّيَّةِ، ويُقصَدُ به تَهْويلُ الأمْرِ، واستِرْعاءُ السَّمْعِ اهتِمامًا بما يَستَسمِعونَه، والنِّداءُ هو الرَّابِطُ بين الجُملتَين .

- قولُه: إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ فيه التَّعبيرُ بالموصولِ وصِلَتِه الَّذِي فَطَرَنِي دونَ الاسْمِ العلَمِ (فَاطِرٌ)؛ لزيادةِ تحقيقِ أنَّه لا يَسأَلُهم على الإرشادِ أجْرًا بأنَّه يَعلَمُ أنَّ الَّذي خلَقَه يَسوقُ إليه رِزقَه؛ لأنَّ إظْهارَ المتكلِّمِ عِلْمَه بالأسبابِ يُكْسِبُ كلامَه على المسبِّباتِ قوَّةً وتحقيقًا .

- قولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ استفهامٌ إنكاريٌّ عن عدَمِ تَعقُّلِهم، أي: تأمُّلِهم في دَلالةِ حالِه على صِدْقِه فيما يُبلِّغُ، ونُصْحِه لهم فيما يَأمُرُهم .

3- قولُه تعالى: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ

- قولُه: إِلَى قُوَّتِكُمْ مُتعلِّقٌ بـ يَزِدْكُمْ، وإنَّما عُدِّي بـ (إلى) لِتَضمينِه مَعْنى يَضُمُّ، وهذا وعْدٌ لهم بصَلاحِ الحالِ في الدُّنيا، وعُطِفَ عليه وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ؛ تحذيرًا مِن الرُّجوعِ إلى الشِّركِ .

4- قولُه تعالى: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ

- قولُه: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ فيه افتِتاحُ كَلامِهم بالنِّداءِ، وهو يُشيرُ إلى الاهتمامِ بما سيَقولونَه، وأنَّه جديرٌ بأن يُتَنبَّهَ له؛ لأنَّهم نَزَّلوه مَنزِلةَ البعيدِ لِغَفلتِه فنادَوْه؛ فهو مُستعمَلٌ في معناه الكِنائيِّ .

- قولُهم: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ، عَنْ قَوْلِكَ للتَّعليلِ كقولِه تعالى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، فتَتعلَّقُ بِتَارِكِي، كأنَّه قيل: لِقَولِك .

- قولُه: وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أفادت الجملةُ الاسميةُ وزيادةُ الباءِ وتقديمُ المسندِ إليه المفيدِ للتقوِّي أنَّهم لا يُرجَى منهم الإيمانُ بأيِّ وجهٍ .

5- قولُه تعالى: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ

- إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ استِئْنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ قولَهم: وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مِن شأنِه أن يُثيرَ للسَّامعِ ومَن معَه في أنفُسِهم أن يَقولوا: إن لم تُؤمِنوا بما جاء به أنَّه مِن عندِ اللهِ؛ فماذا تَعُدُّون دَعوتَه فيكم؟ ، وقد جعَلوا ذلك مِن فِعْلِ بعضِ الآلهةِ؛ تهديدًا للنَّاسِ بأنَّه لو تَصدَّى له جميعُ الآلهةِ لَدَكُّوه دَكًّا .

- والتَّنكيرُ في (سُوءٍ) للتَّقليلِ؛ كأنَّهم لم يُبالِغوا في السُّوءِ، كما يُنْبِئُ عنه نِسبةُ ذلك إلى بعضِ آلهتِهم دونَ كُلِّها .

- قولُه: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ جملةُ أُشْهِدُ اللَّهَ إنشاءٌ لإشهادِ اللهِ بصيغةِ الإخبارِ؛ لأنَّ كلَّ إنشاءٍ لا يَظهَرُ أثَرُه في الخَلْقِ مِن شأنِه أن يقَعَ بصيغةِ الخبَرِ؛ لِمَا في الخبَرِ مِن قصْدِ إعلامِ السَّامعِ بما يُضمِرُه المتكلِّمُ، وقال: أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا، ولم يَقُل: (وأُشْهِدُكم) لِيَكون مُوازِنًا له وبمعناه؛ لأنَّ إشهادَه اللهَ على البراءةِ مِن الشِّركِ صحيحٌ ثابتٌ، وأمَّا إشهادُهم فما هو إلَّا تَهاوُنٌ بدِينِهم، ودَلالةٌ على قِلَّةِ المبالاةِ بهم؛ ولذلك عَدَل به عن لَفْظِ الأوَّلِ؛ لاخْتِلافِ ما بَينَهما، وجيءَ به على لفْظِ الأمْرِ؛ تَهكُّمًا بهم واستِهانَةً بحالِهم؛ هذا مِن جِهَةٍ، ومِن جهةٍ ثانيةٍ: عدَل إلى صيغةِ الأمرِ وَاشْهَدُوا عن صيغةِ الخبَرِ؛ للتَّمييزِ بينَ خِطابِه اللهَ تعالى وخِطابِه إيَّاهم؛ بأن يُعبِّرَ عن خِطابِ اللهِ تعالى بصيغةِ الخبَرِ الَّتي هي أجَلُّ وأشرَفُ وأوقَرُ للمُخاطَبِ مِن صِيغةِ الأمرِ .

6- قولُه تعالى: مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ

- الفاءُ في فَكِيدُونِي؛ لِتَفْريعِ الأمْرِ على زَعْمِهم في قدرةِ آلهتِهم على ما قالوا، وعلى البراءةِ كِلَيهِما ، والأمرُ بـ (كِيدُونِي) مُستعمَلٌ في الإباحةِ؛ كِنايةً عن التَّعجيزِ بالنِّسبةِ للأصنامِ وبالنِّسبةِ لقومِه، وجَعَل الخطابَ لقومِه؛ لِئَلَّا يكونَ خِطابُه لِمَا لا يَعقِلُ ولا يَسمَعُ، فأمَر قومَه بأن يَكِيدوه، وأدخَلَ في ضَميرِ الكائِدين أصنامَهم؛ مُجاراةً لاعتِقادِهم، واستِقْصاءً لِتَعجيزِهم.

و(ثُمَّ) في ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ للتَّراخي الرُّتْبيِّ؛ تَحدَّاهم بأن يَكِيدوه، ثمَّ ارتَقى في رُتبَةِ التَّعجيزِ والاحتقارِ، فنَهاهم عن التَّأخيرِ بكَيدِهم إيَّاه، وذلك نِهايةُ الاستِخْفافِ بأصنامِهم وبهم، وكنايةٌ عن كَونِهم لا يَصِلون إلى ذلك .

7- قولُه تعالى: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

- قولُه: إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ تعليلٌ لمضمونِ فَكِيدُونِي، وهو للتَّعجيزِ والاحتقارِ ، وإنَّما جِيءَ بلفظِ الماضي تَوَكَّلْتُ؛ لِكَونِه أدَلَّ على الإنشاءِ المناسِبِ للمقامِ .

- قولُه: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا الأخْذُ بالنَّاصيةِ هنا تَمثيلٌ للتَّمكُّنِ، تَشْبيهًا بهيئةِ إمساكِ الإنسانِ مِن ناصيتِه حيث يَكونُ رأسُه بيَدِ آخِذِه فلا يَستَطيعُ إفلاتًا، وإنَّما كان تَمثيلًا؛ لأنَّ دَوابَّ كثيرةً لا نَواصِيَ لها، فلا يَلتَئِمُ الأخْذُ بالنَّاصيةِ مع عُمومِ مَا مِنْ دَابَّةٍ، ولكنَّه لَمَّا صار مثَلًا صار بِمَنزلةِ: ما مِن دابَّةٍ إلَّا هو مُتصرِّفٌ فيها، ومِن بَديعِ هذا المثَلِ أنَّه أشَدُّ اختِصاصًا بالنَّوعِ المقصودِ مِن بينِ عُمومِ الدَّوابِّ، وهو نوعُ الإنسانِ، والمقصودُ مِن ذلك أنَّه المالِكُ القاهِرُ لِجَميعِ ما يَدِبُّ على الأرضِ؛ فكونُه مالِكًا للكُلِّ يَقتَضي ألَّا يَفوتَه أحَدٌ منهم، وكونُه قاهِرًا لهم يَقتَضي ألَّا يُعجِزَه أحَدٌ منهم .

- قولُه: آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا فيه تخصيصُ النَّاصيةِ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ العرَبَ إذا وصَفَتْ إنسانًا بالذِّلَّةِ والخُضوعِ قالت: ما ناصِيَةُ فُلانٍ إلَّا بيَدِ فُلانٍ، أي: إنَّه مُطيعٌ له، يصرفُه كيف يَشاءُ .

- وجملةُ إِنَّ رَبِّي عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تعليلٌ لِجُملةِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أي: توكَّلتُ عليه؛ لأنَّه أهلٌ لِتَوكُّلي عليه، لأنَّه متَّصِفٌ بإجراءِ أفعالِه على طريقِ العَدْلِ والتَّأييدِ لرُسلِه .

8- قولُه تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ

- قولُه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ جُعل جوابُ شرطِ التَّولِّي قولَه: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ، مع أنَّ الإبلاغَ سابقٌ على التَّولِّي المجعولِ شَرطًا؛ لأنَّ المقصودَ بهذا الجوابِ هو لازمُ ذلك الإبلاغِ، وهو انتِفاءُ تَبِعَةِ تَولِّيهم عنه، وبَراءتُه مِن جُرْمِهم؛ لأنَّه أدَّى ما وجَب عليه مِن الإبلاغِ .

- وشَيْئًا مَصدرٌ مؤكِّدٌ للفعلِ تَضُرُّونَهُ المنفيِّ، وتنكيرُه للتَّقليلِ، والمقصودُ مِن التَّأكيدِ: التَّنصيصُ على العُمومِ بنَفْيِ الضُّرِّ؛ لأنَّه نَكِرةٌ في حيِّزِ النَّفْيِ، أي: فاللهُ يُلْحِقُ بكم الاستِئْصالَ، وهو أعظَمُ الضُّرِّ، ولا تَضُرُّونه أقلَّ ضُرٍّ .

- وجملةُ إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ تعليلٌ لِجُملةِ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا؛ فموقِعُ (إنَّ) فيها موقِعُ فاءِ التَّفريعِ .

- ولما كان الأهمُّ في هذا السياقِ بيانَ استعلائِه تعالى وقدرتِه، قدَّم قولَه: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ .

9- قولُه تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ

- قولُه: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا الأمرُ هنا كِنايةٌ عن العذابِ، أو عن القضاءِ بهَلاكِهم .

- وفي قولِه: نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ تَكرَّرَت التَّنْجيَةُ على سَبيلِ التَّوكيدِ، ولِقَلَقِ (مِنْ) في قولِه: مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ لوْ لاصَقَتْ (مِنَّا) في بِرَحْمَةٍ مِنَّا- حيثُ يكون: (بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)-؛ فأُعيدَت التَّنجيةُ، وهي التَّنجيةُ الأُولى؛ فمَعْنى التَّكريرِ أنَّه سبحانه ذكَر أوَّلًا أنَّه حينَ أهْلَك عدُوَّهم نَجَّاهم، ثمَّ قال: وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ، على معنى: وكانتِ التَّنْجيةُ مِن عذابٍ غليظٍ. أو تَكونُ هذه التَّنْجيةُ هي مِن عذابِ الآخرةِ، ولا عذابَ أغلَظُ منه؛ فأُعيدَتْ لأجلِ اختِلافِ مُتَعلِّقَيها .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في قصَّةِ هودٍ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وقال في قصَّةِ شُعيبٍ عليه السَّلامُ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 94] ؛ فعُطِفَت (لَمَّا) على ما قَبْلَها بواوِ العَطْفِ في هذَينِ الموضِعَين، وخالَفَت قصَّةُ صالحٍ وقصَّةُ لوطٍ عليهما السَّلامُ في الحرفِ المعطوفِ به هذه الجملةُ المصدَّرةُ بحرفِ الوجوبِ؛ فقيل في قصَّةِ صالِحٍ عليه السَّلامُ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 66] ، وفي قصَّةِ لوطٍ عليه السَّلامُ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [هود: 82] ، بعَطْفِ لَمَّا على ما قَبْلَها مِن هاتَين الآيتَين بفاءِ التَّعقيبِ، ووجْهُ ذلك: أنَّ العذابَ في قصَّةِ هودٍ وشُعيبٍ تأخَّر عن وقْتِ الوعيدِ، فإنَّ في قصَّةِ هودٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ [هود: 57] ، وفي قصَّةِ شُعيبٍ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [هود: 93] ، والتَّخويفُ قارَنَه التَّسويفُ، فجاء بالواوِ. وفي قصَّةِ صالحٍ ولوطٍ وقَع العذابُ عَقِيبَ الوعيدِ؛ فإنَّ في قصَّةِ صالحٍ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] ، وفي قصَّةِ لوطٍ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: 81] ؛ فجاء الفاءُ للتَّعجيلِ والتَّعقيبِ .

وفيه وجهٍ آخَرَ: أنَّ آيَتَيْ صالِحٍ ولوطٍ ورَد فيهما ما يَقتَضي مَعْناه أن يَربِطَ بالفاءِ المقتَضِيَةِ التَّعقيبَ، أمَّا قصَّةُ صالِحٍ مِنهُما فتَقدَّمَها قولُه تعالى: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] ، فكأنْ قد قيل: فلمَّا انقَضَتْ، فالموضوعُ للفاءِ لمقصودِ التَّعقيبِ، ومِثلُ هذا مِن غيرِ فَرْقٍ قولُه تعالى في قصَّةِ لوطٍ عليه السَّلامُ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود: 81] ، ولا شَكَّ أنَّ المعنى يَستَدْعي تَقْديرَ (فلَمَّا أصبَح)؛ تَحقيقًا لصِدْقِ الوعيدِ، وإعقابًا لا يتَحصَّلُ بغيرِ الفاءِ؛ فهذا يوجِبُ خُصوصَ الفاءِ بهَذَينِ الموضِعَينِ. وأمَّا قصَّةُ هودٍ عليه السَّلامُ، فلم يَرِدْ فيها ما يَسْتَدعي تَعْقيبًا، بل قَبْلَها ما يَقتَضي أن يُنسَّقَ ما بعدَه عليه بواوِ العطفِ، وذلك قولُه تعالى مُخبِرًا عن قومِ هودٍ: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا [هود: 57] ، ثمَّ قال: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا [هود: 58] ، فعطَف هذه الجُمَلَ بَعْضَها على بعضٍ بما يُعْطي ذلك، ويُناسِبُ العطفُ بالواوِ، وعلى هذا ورَدَت آيةُ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ؛ فورَد قبْلَها: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ [هود: 93] ، ثمَّ بعْدَ ذلك: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [هود: 93] ، وليس هذا ما يَقْتَضي تَعقيبًا، بل بابُه حَمْلُ الآياتِ بعضِها على بعضٍ بحَرْفِ التَّشْريكِ وهو الواوُ؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ .

10- قولُه تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ

- جملةُ جَحَدُوا وما بعْدَها تمهيدٌ للمَعطوفِ، وهو وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ [هود: 60] ؛ لزيادةِ تَسْجيلِ التَّمهيدِ بالأَجْرامِ السَّابقةِ، وهو الَّذي اقتَضاه اسمُ الإشارةِ؛ لأنَّ جميعَ ذلك مِن أسبابِ جَمْعِ العَذابَينِ لهم .

- وجمَعَ الرُّسُلَ في قولِه: وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وإنَّما عَصَوْا رَسولًا واحدًا، وهو هودٌ عليه السَّلامُ؛ لأنَّ المرادَ ذِكْرُ إجرامِهم؛ فناسَب أن يُناطَ الجُرْمُ بعِصْيانِ جِنْسِ الرُّسلِ؛ لأنَّ تَكْذيبَهم هودًا لم يَكُنْ خاصًّا بشَخْصِه؛ لأنَّهم قالوا له: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ؛ فكلُّ رسولٍ جاء بأمرِ ترْكِ عبادةِ الأصنامِ فهُم مُكذِّبون به. ومِثلُه قولُه تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123] .

11- قولُه تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ

- قولُه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً، أي: أصابتهم إصابةً عاجِلةً دونَ تأخيرٍ كما يُتْبَعُ الماشي بمَن يَلْحَقُه، وعُبِّر عن ذلك بالتَّبعِيَّةِ للمُبالَغةِ؛ فكَأنَّها لا تُفارِقُهم وإن ذهَبوا كلَّ مذهَبٍ، بل تَدورُ معَهم حيثُما داروا، مع ما في ذلك مِن المشارَكةِ ومِن مُماثَلةِ العقابِ للجُرْمِ؛ لأنَّهم اتَّبَعوا الملعونِينَ فأُتْبِعُوا باللَّعنةِ؛ جَزاءً لِصَنيعِهم جَزاءً وِفاقًا .

- وبُني فِعْلُ (أُتْبِعُوا) للمفعولِ؛ إذ لا غرَضَ في بيانِ الفاعلِ، ولم يُسنَدِ الفعلُ إلى اللَّعنةِ؛ لِيَدُلَّ على أنَّ إتْباعَها لهم كان بأمرِ فاعلٍ؛ للإشعارِ بأنَّها تَبِعَتْهم عِقابًا مِن اللهِ لا مُجرَّدَ مُصادَفةٍ .

- وفي قولِه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً قَرَنَ الدُّنْيَا باسْمِ الإشارةِ هَذِهِ؛ لِقَصْدِ تَهْوينِ أمْرِها بالنِّسبةِ إلى لَعْنةِ الآخِرَةِ .

- قولُه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، أي: أُتبِعوا يومَ القيامةِ أيضًا لعنةً، وحُذِفَت لِدَلالةِ الأُولى عليها، وللإيذانِ بكَوْنِ كلٍّ مِن اللَّعنتَين نوعًا برأسِه، لم تُجمَعا في قَرَنٍ واحدٍ؛ بأن يُقالَ: (وأُتبِعوا في هذه الدُّنيا ويومَ القيامةِ لَعنةً)، كما في قولِه تعالى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ [الأعراف: 156] ؛ إيذانًا باختِلافِ نوعَيِ الحسَنَتينِ؛ فإنَّ المرادَ بالحسنَةِ الدُّنيَويَّةِ نحْوُ الصِّحَّةِ والكَفافِ والتَّوفيقِ للخيرِ، وبالحسنَةِ الأُخرَويَّةِ الثَّوابُ والرَّحمةُ .

- وجملةُ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ، افتُتِحَت بحرفِ التَّنبيهِ أَلَا؛ لِتَهويلِ الخبَرِ، وأُكِّدَت بحرفِ (إنَّ)؛ لإفادةِ التَّعليلِ بجُملَةِ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ تعريضًا بالمشرِكين؛ لِيَعتَبِروا بما أصاب عادًا .

- ونبَّه على علَّةِ إتْباعِ اللَّعنةِ لهم في الدَّارَين بأنَّهم كَفَرُوا رَبَّهُمْ؛ فالكفرُ هو الموجِبُ للَّعنةِ .

- قولُه: أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ جملةٌ ابتدائيَّةٌ؛ لإنشاءِ ذمٍّ لهم .

- وأيضًا في قولِه: أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ تكريرُ حرْفِ الَّتنبيهِ أَلَا وإعادةُ (عَادٍ) في الدُّعاءِ عليهم؛ تَهْويلًا لأمرِهم، وتَفْظيعًا له، وبَعْثًا على الاعتِبارِ بهم، والحذَرِ مِن مِثلِ حالِهم، والحثِّ على الاعتبارِ بقِصَّتِهم .

- وقَوْمِ هُودٍ عطفُ بيانٍ لـ(عَادٍ)، وفائدةُ هذا البيانِ- مع أنَّ البيانَ حاصِلٌ بدونِه-: أنْ يُوسَموا بهذه الدَّعْوةِ وَسْمًا، وتُجعَلَ فيهم أمرًا مُحقَّقًا لا شُبهَةَ فيه بوَجْهٍ مِن الوجوهِ، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ له أثرًا في الذَّمِّ بإعراضِهم عن طاعةِ رسولِهم، والإيماءُ إلى أنَّ استِحْقاقَهم للبُعْدِ بسبَبِ ما جرَى بينَهم وبينَ هودٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهم قومُه؛ فيكونُ تَعريضًا بالمشرِكين من العرَبِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في قصَّةِ سورةِ (هودٍ) عليه السَّلامُ وذِكْرِ قومِه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ [هود: 60] ، وقال في قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ في هذه السُّورةِ، وإرسالِه إلى فرعونَ ومَلَئِه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود: 99] ؛ فحَذَف (الدُّنيا) مِن الآيةِ الثَّانيةِ، وأثبَتَها في الأولى، ووجهُ ذلك: أنَّ قِصَّةَ هودٍ عليه السَّلامُ في هذه السُّورةِ أكثَرُ استيفاءً مِن قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ بكَثيرٍ؛ فناسَب الطُّولُ الطُّولَ، والإيجازُ الإيجازَ، ولا يَليقُ العَكْسُ؛ فالوارِدُ عليه كلٌّ مِن الآيتَينِ لا يَحسُنُ خِلافُه ولا يُناسِبُ .

وقيل: وجهُ ذلك أنَّ الأُولى أتى فيها بالموصوفِ والصِّفةِ جَميعًا، وهو الأصلُ الأوَّلُ، ثمَّ اكتَفى بالصِّفةِ عن الموصوفِ بعْدَه؛ لقيامِ الدَّلالةِ على الموصوفِ، فيَجوزُ لذلك حَذْفُه، وإقامةُ الصِّفةِ مَقامَه، ولَمَّا جاءَتِ الآيَتان في سورةٍ واحدةٍ وُفِّيَت الأُولى ما هو بها أَوْلى مِن الإجراءِ على الأصلِ، والإتيانِ بالموصوفِ والوصفِ، فقال تعالى: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، واكتَفى في الثَّانيةِ لَمَّا قامَتِ الدَّلالةُ على الموصوفِ بالصِّفةِ وحْدَها، فقال: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً؛ فورَد الأوَّلُ على الأصلِ مِن الجمْعِ بينَ التَّابعِ نَعْتًا أو عَطْفَ بيانٍ وبينَ مَتْبوعِه، وجاء في قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً على حَذْفِ الوصفِ؛ للاكتفاءِ باسْمِ الإشارةِ، وكلٌّ فَصيحٌ، فجيءَ بما هو في الأصلِ أوَّلًا، ثمَّ جيءَ ثانيًا بما هو ثانٍ عنه على ما يَنبَغي، ولا يَحسُنُ العكسُ؛ لأنَّ ذلك شِبْهُ التَّفسيرِ، وبابُه أن يتَقدَّمَ

=====

 

سورة هود

الآيات (61-68)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غريب الكلمات:

 

وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيها: أي: جعَلَكم عُمَّارَها، وأصلُ (عمر): يدُلُّ على بقاءٍ، وامتدادِ زَمانٍ

.

فَعَقَرُوهَا: أي: فنَحَروها، وأصلُ (عقر): يدلُّ على جَرْحٍ .

الصَّيْحَةُ: المرَّةُ من الصَّوتِ الشَّديدِ، وهي صاعِقةُ العذابِ، وأصلُ (صيح): يدلُّ على الصَّوتِ العالي .

جَاثِمِينَ: أي: خامِدينَ، لاصقينَ بالأرضِ على رُكَبِهم ووُجوهِهم، وأصلُ (جثم): يدُلُّ على تجمُّعِ شَيءٍ .

يَغْنَوْا: أي: يَعيشوا، أو يُقيموا، وغَنِيَ القومُ في دارِهم: أقاموا، كأنَّهم استغنَوْا بها، وأَصْلُ (غني): يدُلُّ على الكِفايةِ، والاسْتغناءِ عن الغَيرِ .

مَرْجُوًّا: أي: نُؤَمِّلُ فيك أن تكونَ لنا سَيِّدًا، وأصلُ (رجا): يدُلُّ على الأمَلِ .

مُرِيبٍ: أي: مُوقِعٍ للتُّهمةِ، والريبةُ: التهمةُ، وهي ظنُّ السوءِ، فهي قسمٌ مِن الشكِّ، والريبةُ: قَلَقُ النَّفسِ، وانتفاءُ الطُّمأْنينةِ، وأصلُ (ريب): يدُلُّ على شَكٍّ .

تَخْسِيرٍ: أي: نقصانٍ، أو: هلكةٍ، أو: تضليلٍ وإبعادٍ مِن الخيرِ، وأصل (خسر): يَدُلُّ عَلَى النَّقْصِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه أرسلَ إلى ثمودَ أخاهم صالحًا، فقال لهم: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم من إلهٍ يستحِقُّ العبادةَ غيرُه جلَّ وعلا، فأخلِصوا له العبادةَ، هو الذي بدأ خَلقَكم من الأرضِ بخَلقِ أبيكم آدمَ منها، وجعَلَكم عُمَّارًا لها، فاسألوه أن يغفِرَ لكم ذُنوبَكم، وارجِعوا إليه بالتَّوبةِ النَّصوحِ؛ إنَّ ربي قريبٌ لِمَن أخلصَ، ورَغِبَ إليه في التَّوبةِ، مُجيبٌ له إذا دعاه.

فقال قومُ صالحٍ له: لقد كنَّا نرجو أن تكونَ فينا صاحبَ مكانةٍ، سيِّدًا مُطاعًا قبل هذا القَولِ الذي قُلتَه لنا، أتَنهانا أن نعبُدَ الآلهةَ التي كان يعبُدُها آباؤنا؟ وإنَّنا لفي شكٍّ مُريبٍ مِن دعوتِك لنا إلى عبادةِ اللهِ وَحدَه، فقال لهم: يا قومِ أخبِروني إن كنتُ على برهانٍ مِن اللهِ، وآتاني منه النبوَّةَ والحِكمةَ؛ فمَن الذي يدفَعُ عني عِقابَ اللهِ تعالى لو استجبتُ لكم وعصيتُه؛ فلم أبلِّغِ الرِّسالةَ، وأنصحْ لكم؟ فما تزيدونَني غيرَ تَضليلٍ، وإبعادٍ عن الخيرِ، ويا قومِ هذه ناقةُ اللهِ جعَلَها لكم حُجَّةً وعلامةً تدُلُّ على صِدقي فيما أدعوكم إليه، فاترُكوها تأكُلْ في أرضِ الله؛ فليس عليكم رِزقُها، ولا تمَسُّوها بسُوءٍ من عَقرٍ أو غيرِه؛ فإنَّكم إن فعلتُم ذلك يأخُذْكم من اللهِ عذابٌ قريبٌ مِن وَقتِ إيذائِكم للنَّاقة، فكذَّبوه ونَحَروا النَّاقةَ، فقال لهم صالحٌ: استمتِعوا بحياتِكم في بلَدِكم ثلاثةَ أيَّامٍ؛ فإنَّ العذابَ نازِلٌ بكم بعدَها، وذلك وَعْدٌ مِن الله غيرُ مَكذوبٍ، لا بدَّ مِن وقوعِه.

فلمَّا جاء أمرُنا بهلاكِ ثمودَ نَجَّينا صالحًا والذين آمَنوا معه من الهلاكِ برَحمةٍ مِنَّا، ونجَّيناهم مِن هوانِ ذلك اليومِ وذِلَّتِه، إنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- هو القَويُّ العزيزُ، وأخذَتِ الصَّيحةُ القويَّةُ ثَمودَ الظَّالمينَ، فأصبحوا في ديارِهم موتى ساقطينَ على وُجوهِهم، كأنَّهم في سرعةِ زَوالِهم وفنائِهم لم يَعيشوا فيها، ألا إنَّ ثَمودَ كفروا بربهم وجَحَدوا بآياتِه وحُجَجِه، ألا بُعْدًا لثمودَ وطردًا لهم مِن رَحمةِ اللهِ.

تفسير الآيات:

 

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا انقَضَت قِصَّةُ عادٍ على ما أراد سُبحانه، أتبَعَها قِصَّةَ من كانوا عَقِبَهم في الزَّمَنِ، ومِثلَهم في سُكنَى أرضِ العَرَبِ، وعبادةِ الأوثانِ

.

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا.

أي: وأرسَلْنا إلى قبيلةِ ثَمودَ أخاهم في النَّسَبِ صالِحًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ.

أي: قال لهم: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم معبودٌ يستَحِقُّ العبادةَ غيرُ اللهِ، فلا تُشرِكوا به شيئًا .

هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا.

أي: اللهُ هو الذي ابتدأَ خَلْقَكم من الأرضِ بخَلقِ أبيكم آدَمَ منها، وجعَلَكم تسكُنونَها وتَعمُرونَها وتستغِلُّون خيراتِها .

فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ.

أي: فاطلُبوا من اللهِ سَترَ ذُنوبِكم الماضِيةِ، والتَّجاوُزَ عن مؤاخَذتِكم بها، ثمَّ توبوا إلى اللهِ توبةً نَصوحًا فيما تستَقبِلونَه، بالرُّجوعِ إلى عبادتِه وَحدَه وطاعتِه .

إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ.

أي: إنَّ رَبِّي قريبٌ ممَّن أطاعَه مخلِصًا له، وتابَ إليه،  مُجيبٌ له إذا دعاه .

كما قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة: 186] .

قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62).

قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا.

أي: قال قومُ صالحٍ عليه السلامُ له: يا صالِحُ قد كنَّا نرجو فيك الخيرَ، وكَمالَ العقلِ، ونُؤمِّلُ أن تكونَ فينا سيِّدًا قبل هذا القولِ الذي تدَّعي فيه النبُوَّةَ، وتَدعُونا إلى تَركِ عِبادةِ غيرِ الله .

أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا.

أي: أتنهانا- يا صالِحُ- أن نعبُدَ الأصنامَ التي كان يعبُدُها أسلافُنا ؟!

وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ.

أي: وإنَّنا لفي شكٍّ كبيرٍ مِن صِحَّةِ ما تدعُونا إليه مِن توحيدِ اللهِ، شَكًّا يُوجِب تُهمَتَك .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63).

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً.

أي: قال  صالحٌ عليه الصلاةُ والسلامُ: يا قومِ أخبِروني إن كنتُ على بُرهانٍ من اللهِ قد عَلِمتُه وأيقَنتُه، ورَزَقني مِن عندِه النبوَّةَ والرِّسالةَ رَحمةً للخلقِ .

فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ.

أي: فمَن يمنَعُني من عذابِ اللهِ إنْ عصيتُه، فتَرَكتُ دَعْوتَكم للحقِّ، وعبادةِ اللهِ وَحدَه، بعد أنْ أنعَمَ عليَّ بالنُّبوَّةِ ؟!

فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ.

أي: لو تابعتُكم فتَرَكتُ تبليغَكم رِسالةَ اللهِ وعبادتَه وَحدَه، فلن تَزيدوني غيرَ الخَسارةِ والضَّرَرِ والتَّضليلِ، والإبعادِ مِن الخَيرِ .

وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ العادةَ فيمن يدَّعي النبوَّةَ عند قومٍ يَعبُدونَ الأصنامَ أن يبتدئَ بالدَّعوةِ إلى عبادةِ اللهِ، ثمَّ يُتبِعَه بدَعوَى النبوَّةِ، لا بدَّ أن يَطلُبوا منه المعجزةَ، وأمرُ صالحٍ عليه السَّلامُ هكذا كان .

وَيَا قَوْمِ هَـذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً.

أي: ويا قَومِ هذه ناقةُ اللهِ حُجَّةً وعلامةً ودَلالةً لكم على صِدقِ نبوَّتي، وصِحَّةِ ما أدعوكم إليه .

فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ.

أي: فاترُكوا هذه النَّاقةَ تأكُلْ ممَّا شاءت في أرضِ اللهِ؛ فليس عليكم رِزقُها ولا مُؤنَتُها .

وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ.

أي: ولا تَنالوا النَّاقةَ بشَيءٍ مِن الأذى- مِن عَقرٍ أو غيرِه- فيُصيبَكم كلَّكم عذابٌ قريبُ النُّزولِ، عَاجِلٌ لَا يَتَأَخَّرُ عن إيذائِكم للنَّاقةِ .

فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65).

فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ.

أي: فقتل الكُفَّارُ النَّاقةَ، فقال لهم نبيُّهم صالحٌ: استمتِعوا بالحياةِ والعَيشِ في دارِكم ثلاثةَ أيَّامٍ قبل نزولِ العذابِ بكم .

ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ.

أي: نُزولُ العَذابِ بكم بعدَ ثلاثةِ أيَّامٍ وعدٌ صادِقٌ، لا بدَّ مِن وُقوعِه .

فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66).

فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ.

أي: فلمَّا جاء عذابُنا نجَّينا صالحًا والمؤمنينَ معه بنعمةٍ وفَضلٍ منَّا عليهم، ونجَّيناهم من هوانِ ذلك اليومِ وذُلِّ عذابِه الذي أصاب الكافرينَ .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ.

أي: إنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- هو القويُّ في بَطشِه، القادِرُ على إنجاءِ المُؤمِنينَ، وإهلاكِ الكافرينَ، العزيزُ القاهِرُ الذي لا يَغلِبُه شَيءٌ .

وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بيَّن تعالى إيقاعَه بأعدائِه بعد إنجائِه لأوليائِه، فقال :

وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ.

أي: وأصاب الذين ظَلموا أنفُسَهم بالكُفرِ، وعَقرِ النَّاقةِ، الصيحةُ العَظيمةُ .

فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ.

أي: فصار الكُفَّارُ في ديارِهم ساقطينَ على ركبِهم ووُجوهِهم، موتَى خامِدينَ .

كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ (68).

كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا.

أي: كأنَّ الكفَّارَ لَمَّا جاءهم العذابُ لم يعيشُوا في ديارِهم، ولم يتمتَّعوا فيها .

ثمَّ نبَّه على ما استحَقُّوا به ذلك بقَولِه :

أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ.

أي: ألَا إنَّ ثمودَ- قومَ صالحٍ- كفروا بربِّهم، وجَحَدوا وحدانيتَه، وكَفَروا بآياتِه .

أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ.

أي: ألا أبعدَ اللهُ ثمودَ عن كلِّ خَيرٍ وأهلَكَهم

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ الله تعالى: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا يدُلُّ على أنَّ اللهَ يُريدُ عِمارةَ الأرضِ، لا التخلِّيَ والتبتُّلَ

.

2- في قَولِه تعالى: فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ دَلالةٌ على أنَّ قُربَه سُبحانه مَقرونٌ بالتَّوبةِ والاستغفارِ، وأراد به: قريبٌ مُجِيْبٌ لاستغفارِ المُستَغفرينَ التَّائبينَ إليه، وقد قُرِنَ القريبُ بالمُجيبِ؛ ومعلومٌ أنَّه لا يُقالُ: إنه مُجِيْبٌ لكلِّ موجودٍ، وإنَّما الإجابةُ لِمَن سألَه ودعاه؛ فكذلك قُربُه سُبحانه وتعالى ، فهو سبحانه قريبٌ ممَّن دعاه دعاءَ مَسألةٍ، أو دعاءَ عبادةٍ، يُجيبُه بإعطائِه سُؤلَه، وقَبولِ عِبادتِه، وإثابتِه عليها أجلَّ الثَّوابِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قربُ الله تعالى نوعانِ: عامٌّ، وخاصٌّ، فالقربُ العامُّ: قربُه بعلمِه مِن جميعِ الخلقِ، والقربُ الخاصُّ: قربُه مِن عابديه، وسائليه، ومحبِّيه، وهو المذكورُ في قولِه تعالى: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ، وفي قولِه تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وهذا النوعُ قربٌ يقتضي إلطافَه تعالى، وإجابتَه لدعواتِهم، وتحقيقَه لمراداتِهم، ولهذا يقرنُ باسمِه (القريبِ) اسمَه (المجيبَ)

.

2- قَولُ الله تعالى: فَعَقَرُوهَا نُسِبَ إلى جميعِهم- وإن كان العاقِرُ واحدًا- لأنَّه كان برِضًا منهم وتَمالُؤٍ .

3- قَولُ الله تعالى: قَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عبَّر عن الحياةِ بالتمتعِ؛ لأنَّ التمتُّع لا يحصُلُ إلَّا للحَيِّ، فالحيُّ يكونُ متمتعًا بالحواسِّ .

4- قولُ الله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ استُدِلَّ به في إمهالِ الخَصمِ ونَحوِه ثلاثةً، وفيه دليلٌ على أنَّ للثَّلاثةِ نَظرًا في الشَّرعِ؛ ولهذا شُرِعَت في الخِيارِ ونَحوِه .

5- قَولُ الله تعالى: بِرَحْمَةٍ مِنَّا بيَّن أنَّ إحسانَه سُبحانَه لا يكونُ إلَّا فَضلًا منه .

6- قولُه تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ مُتعلِّقُ نَجَّيْنَا مَحذوفٌ، وعُطِف وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ على مُتعلِّقِ نَجَّيْنَا المحذوفِ، أي: نجَّينا صالِحًا عليه السَّلامُ ومَن معَه مِن عذابِ الاستئصالِ، ومِن الخزْيِ المكيَّفِ به العذابُ؛ فإنَّ العذابَ يكونُ على كَيفيَّاتٍ، بعضُها أخزَى مِن بعضٍ؛ فالمقصودُ مِن العطفِ عطفُ مِنَّةٍ على مِنَّةٍ، لا عطْفُ إنجاءٍ على إنجاءٍ؛ ولذلك عطَفَ المتعلِّقَ، ولم يَعطِفِ الفِعلَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ

- قولُه: هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا في موضِعِ التَّعليلِ للأمْرِ بعبادةِ اللهِ، ونَفْيِ إلهيَّةِ غيرِه في قولِه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وكأنَّهم كانوا مِثْلَ مُشرِكي قُريشٍ، لا يَدَّعُون لأصنامِهم خَلْقًا ولا رِزْقًا؛ فلذلك كانت الحُجَّةُ عليهم ناهِضةً واضحةً

.

- وَفَرَّعَ على التَّذْكيرِ بهذه النِّعَمِ أَمْرَهم باستغفارِه وَالتَّوْبَةِ إليه، أَيْ طَلَبِ مغْفرَة إجرامِهم، والإقلاعِ عمَّا لا يرضاه مِنَ الشِّركِ والفسادِ. ومِن تفنُّنِ الأسلوبِ أنْ جُعلت هذه النعم علةً لأمرِهم بعبادةِ اللَّهِ وَحْدَه بطريقِ جملةِ التَّعليلِ، وَجُعِلَتْ عِلَّةً أيضًا للأمرِ بالاستغفارِ والتَّوبةِ بطريقِ التَّفْريعِ .

- وجعَلَ الخبَرينِ عن الضَّميرِ هُوَ فِعْلَين (أَنْشَأَكُمْ- اسْتَعْمَرَكُمْ)؛ لإفادةِ القَصْرِ، أي: لم يُنشِئْكم مِن الأرضِ إلَّا هو، ولم يَستعمِرْكم فيها غيرُه .

- قولُه: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ استئنافٌ بيانيٌّ، كأنَّهم استَعظَموا أن يَكونَ جُرْمُهم ممَّا يَقبَلُ الاستغفارَ عنه، فأُجيبوا بأنَّ اللهَ قريبٌ مُجيبٌ، وبذلك ظهَر أنَّ الجملةَ ليسَت بتَعليلٍ، وحرفُ (إنَّ) فيها للتَّأكيدِ؛ تَنْزيلًا لهم في تَعْظيمِ جُرمِهم منزِلةَ مَن يَشُكُّ في قَبولِ استغفارِه .

2- قولُه تعالى: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ

- قولُه: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا فيه افتتاحُ الكلامِ بالنِّداءِ؛ لِقَصْدِ التَّوبيخِ، وهو مُستَفادٌ مِن قولَهم: قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا؛ فإنَّه تَعريضٌ بخَيبةِ رَجائِهم فيه؛ فهو تَعْنيفٌ، وحُذِفَ مُتعلَّقُ مَرْجُوًّا لِدَلالةِ فِعْلِ الرَّجاءِ على أنَّه ترقُّبُ الخيرِ، أي: مرجُوًّا للخيرِ .

- وجملةُ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا بيانٌ لجُملَةِ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا باعتِبارِ دَلالتِها على التَّعنيفِ، والاستفهامُ فيها: للإنكارِ والتَّوبيخِ .

- قولُهم: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فيه العُدولُ إلى صيغةِ المضارِعِ يَعْبُدُ لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ، كأنَّ آباءَهم مَوجودُونَ؛ فلا تُمكِنُ مُخالفتُهم؛ إجلالًا لهم .

- وفي قولِهم: مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا عَبَّروا عن أصنامِهم بالموصولِ مَا؛ لِمَا في الصِّلَةِ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِن الدَّلالةِ على استِحْقاقِ تلك الأصنامِ أن يَعبُدوها في زَعْمِهم اقتِداءً بآبائِهم؛ لأنَّهم أُسْوةٌ لهم، وذلك مِمَّا يَزيدُ الإنكارَ اتِّجاهًا في اعتِقادِهم .

- وجملةُ وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ تُفيدُ شَكَّهم في صِدْقِ أنَّه مُرسَلٌ إليهم، ولتأكيد ذلك زِيدَ حرف التَّأكيدِ (إنَّ) مع إثباتِ نونِ (إنَّ) مع نونِ ضَميرِ الجمعِ؛ زِيادةَ إظهارٍ لحَرْفِ التَّوكيدِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في قِصَّةِ صالِحٍ عليه السَّلامُ: قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، وقال في سورةِ (إبراهيمَ) عليه السَّلامُ: وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [إبراهيم: 9] . فقال في الأُولى: وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ على الأصلِ، ومِمَّا تَدْعُونَا بنونٍ واحدةٍ، وقال في الثَّانيةِ: وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ على التَّخفيفِ، بحذفِ إحدى النُّوناتِ وهي المتوسِّطةُ، ثمَّ جاء بعْدَه: تَدْعُونَنَا بنونَينِ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ تَدْعُونَا في الأولى وتَدْعُونَنَا في الثَّانيةِ لا يَصِحُّ مَكانَهما غَيرُهما؛ فلا يَجوزُ في الأولى إلَّا (نونٌ) واحدةٌ ولا يَجوزُ في الثَّانيةِ إلَّا (نونانِ) اثنَتانِ؛ لأنَّ الأولى خِطابٌ لصالِحٍ عليه السَّلامُ، و(النُّونُ) معَ (الألِفِ) ضَميرُ المتكلِّمِ، و(تَدْعو) فِعْلٌ واحدٌ، لا (نونَ) فيه، وليس كذلك تَدْعُونَنَا الثَّانيةُ؛ لأنَّه خطابٌ للرُّسلِ وهم جَماعةٌ، ولا يُقالُ لهم في حالِ الجمعِ إلَّا تَدْعُونَنَا عِندَ الرَّفْعِ .

3- قولُه تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ

- قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي... جوابٌ عن كَلامِهم؛ فلِذلك لَم تُعطَفْ جملةُ قَالَ، وهو الشَّأنُ في حكايةِ المُحاوَراتِ، وابتداءُ الجوابِ بالنِّداءِ يَا قَوْمِ؛ لِقَصدِ التَّنبيهِ إلى ما سيَقولُه اهتِمامًا بشأنِه .

- وفي قولِه: إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي صَدَّر كلامَه بالحرْفِ المفيدِ للشَّكِّ إِنْ مع أنَّ هذه الأمورَ محقَّقةُ الوُقوعِ؛ اعتبارًا لحالِ المخاطَبين، ورِعايةً لِحُسنِ المحاوَرةِ؛ لاستِنْزالِهم عن المُكابَرةِ ، فخِطابُ المُخالِفِ على هذا الوَجهِ أقرَبُ إلى القَبولِ .

- قولُه: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ فيه العدولُ إلى الإظهارِ في موضِعِ الإضمارِ- حيث لَم يَقُلْ: (فمَنْ يَنصُرُني مِنه)-؛ لِزِيادةِ التَّهويلِ، والفاءُ لِتَرتيبِ إنكارِ النُّصرةِ على ما سبَق مِن إيتاءِ النُّبوَّةِ، وكونِه على بَيِّنَةٍ مِن رَبِّه على تقديرِ العِصْيانِ .

- وفي قولِه: وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قدَّم الجارَّ والمجرورَ مِنْهُ على المفعولِ رَحْمَةً هنا، بينَما تأخَّر مِنْ عِنْدِهِ عن رَحْمَةً في قصَّةِ نوحٍ السَّابقةِ، ووجهُ ذلك: أنَّ ذلك معَ ما فيه مِن التَّفنُّنِ بعدَمِ الْتِزامِ طريقةٍ واحدةٍ في إعادةِ الكلامِ المتماثِلِ، هو أيضًا أسعَدُ بالبيانِ في وُضوحِ الدَّلالةِ، ودَفْعِ اللَّبْسِ؛ فلمَّا كان مجرورُ (مِن) الابتدائيَّةِ ظرْفًا وهو (عِنْدَ) كان صَريحًا في وصْفِ الرَّحمةِ بصِفَةٍ تَدُلُّ على الاعتناءِ الرَّبَّانيِّ بها وبمَن أُوتِيَها، ولَمَّا كان المجرورُ هنا ضميرَ الجلالةِ كان الأحسَنُ أن يقَعَ عَقِبَ فِعْلَ آتَانِي لِيَكونَ تَقْييدُ الإيتاءِ بأنَّه مِن اللهِ مُشيرًا إلى إيتاءٍ خاصٍّ ذي عِنايةٍ بالمؤتَى؛ إذ لولا ذلك لكان كونُه مِن اللهِ تَحصيلًا لِما أُفيدَ مِن إسنادِ الإيتاءِ إليه؛ فتَعيَّن أن يَكونَ المرادُ إيتاءً خاصًّا، ولو أُوقِعَ مِنه عَقِبَ رَحْمَةً لتَوهَّم السَّامِعُ أنَّ ذلك عِوَضٌ عن الإضافةِ، أي: عن أن يُقالَ: وآتاني رَحمتَه، كقولِه: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا [مريم: 21] ، أي: ورَحمتَنا لهم، أي: لِنَعِظَهم ونَرحَمَهم .

4- قولُه تعالى: وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ

- قولُه: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ الإضافةُ في نَاقَةُ اللَّهِ للتَّشريفِ، والتَّنبيهِ على أنَّها مُفارِقةٌ لِسائرِ ما يُجانِسُها من حيث الخِلْقةُ، ومِن حيثُ الطبعُ .

- قولُه: وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فيه المبالغةُ في النَّهيِ عن التَّعرُّضِ لها بما يَضُرُّها؛ حيث نَهى عن المسِّ الَّذي هو مِن مَبادِئِ الإصابةِ، ونَكَّر السُّوءَ؛ أي: لا تَضْرِبوها ولا تَطرُدوها، ولا تَقْرَبوها بشَيءٍ مِن السُّوءِ، فَضلًا عن عَقْرِها وقَتْلِها .

5- قولُه تعالى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ

- قولُه: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ فيه التَّعبيرُ عن ثَمودَ بـ الَّذِينَ ظَلَمُوا؛ للإيماءِ بالموصولِ إلى عِلَّةِ تَرتُّبِ الحُكمِ، أي: لِظُلمِهم، وهو ظلمُ الشِّركِ، وفيه تعريضٌ بمُشرِكي أهْلِ مكَّةِ بالتَّحذيرِ مِن أن يُصيبَهم مِثلُ ما أصاب أولئك؛ لأنَّهم ظالِمون أيضًا .

- وقولُه: أَلَا إِنَّ ثَمُودَ وُضِعَ موضِعَ الضَّميرِ لزيادةِ البيانِ .

- قولُه: أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ فيه التَّصريحُ بكُفْرِهم مع كَونِه مَعلومًا ممَّا سبَق مِن أحوالِهم؛ تَقْبيحًا لحالِهم، وتَعليلًا لاستِحْقاقِهم بالدُّعاءِ عليهم بالبُعْدِ والهلاكِ .

- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال تعالى هنا في قصَّةِ صالِحٍ عليه السَّلامُ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ، وقال في هذه السُّورةِ في قصَّةِ شُعيبٍ عليه السَّلامُ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 94] ؛ فاختَلَف الفِعْلان في اتِّصالِ عَلامةِ التَّأنيثِ بأحَدِهما، وسُقوطِها مِن الآخَرِ، مع أنَّ الفاعِلَ في الموضِعَين شيءٌ واحدٌ، وهو الصَّيْحَةُ مع أنَّ الحاجِزَ بين الفعلِ والفاعلِ في المكانَينِ حاجِزٌ واحدٌ، وهو الَّذِينَ ظَلَمُوا، وهذا إذا جاء في كلامِ العرَبِ سَهُلَ الكلامُ فيه؛ لأنَّه يُقالُ: حُمِل على المعنى، والصَّيحةُ بمعنى الصِّياحِ، إلَّا أنَّ تَخْصيصَ قصَّةِ شُعيبٍ بـ أَخَذَتِ إنَّما هو لفائدةٍ ليستْ في قِصَّةِ صالحٍ عليه السَّلامُ، وهي: أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ عن العذابِ الَّذي أهلَكَ به قومَ شُعيبٍ عليه السَّلامُ بثلاثةِ ألفاظٍ: مِنها (الرَّجْفةُ) في سورةِ الأعرافِ في قولِه: وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا [الأعراف: 90 - 92] ، وذكَر ذلك قبْلَه في مكانٍ آخَرَ، ومنها (الصَّيحةُ) في سورةِ (هودٍ) في قولِه تعالى: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 94] ، ومنها (الظُّلَّةُ) في سورةِ الشُّعراءِ في قولِه تعالى: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [الشعراء: 189] ؛ فلمَّا اجتمَعَتْ ثلاثةُ أشياءَ مُؤنَّثةِ الألفاظِ في العبارةِ عن العَذابِ الَّذي أُهلِكوا به، غُلِّب التَّأنيثُ في هذا المكانِ على المكانِ الَّذي لم تتَوالَ فيه هذه المؤنَّثاتُ؛ فلذلك جاء في قِصَّةِ شُعَيبٍ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 94] . وقيل: وجهُ ذلك أنَّ التَّذكيرَ والتَّأنيثَ حَسَنانِ، لكنَّ التَّذكيرَ أخَفُّ في وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ بحذْفِ حرفٍ منه، وفي الأُخرَى وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 94] ، حيث وافَقَ ما بَعْدَها، وهو كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود: 95] .

=====

 

سورة هود

الآيات (69-76)

ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

 

حَنِيذٍ: أي: مَشويٍّ، وأصلُ (حنذ): يدلُّ على إنضاجِ شَيءٍ

.

نَكِرَهُمْ: أي: أنكَرَهم، وأصلُ (نكر): يدُلُّ على خِلافِ المَعرفةِ .

بَعْلِي: بَعْل المرأةِ زَوجُها .

الرَّوْعُ: أي: الفَزَعُ والخَوفُ، وأصلُ (روع): يدلُّ على فَزَعٍ .

أَوَّاهٌ: أي: كثيرُ التضَرُّعِ والتأوُّهِ شَفَقًا وفَرَقًا، وأصلُها يدُلُّ على التحَزُّنِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ

سَلَامًا: مفعولٌ به منصوبٌ بـ قَالُوا، أو مفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ مَحذوفٍ تقديرُه: نُسَلِّمُ، وذلك الفِعلُ في محلِّ نصبٍ بالقَوْلِ، تقديرُه: قالوا: نُسَلِّمُ سلامًا. سَلَامٌ: مبتدأٌ وخبَرُه محذوفٌ، أي: سلامٌ عليكم. أو خبَرُ مبتدأٍ مَحذوفٍ، أي: أمري أو قَولي سلامٌ.

أَنْ جَاءَ: في محلِّ نَصبٍ أو جرٍّ على نَزعِ الخافِضِ، تقديرُه: فما تأخَّرَ إبراهيمُ عن أن جاء. وقيل: في محَلِّ رفعٍ فاعِلُ لَبِثَ والتَّقديرُ:  فما لَبِثَ مجيئُه، أي: ما أبطأَ ولا تأخَّرَ مجيئُه بعِجلٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبرُ اللهُ تعالى أنَّه قد جاءت الملائكةُ إبراهيمَ يُبَشِّرونَه هو وزوجَه سارَة بإسحاقَ، ويعقوبَ مِن بَعدِه، قالوا: سلامًا، فقال ردًّا على تحيَّتِهم: سلامٌ، فذهبَ سريعًا، وجاءَهم بعِجلٍ مَشويٍّ ليأكلوا منه، فلمَّا رأى إبراهيمُ عليه السَّلامُ أيديَهم لا تَصِل إلى العِجلِ الذي أتاهم به، ولا يأكلونَ منه، أنكرَ ذلك منهم، وأحسَّ في نفسِه خيفةً وأضمَرَها، فقالت الملائكةُ لَمَّا رأت ما بإبراهيمَ مِن الخَوفِ: لا تَخَفْ؛ إنَّا ملائكةُ رَبِّك أُرسِلْنا إلى قومِ لُوطٍ لإهلاكِهم، وامرأةُ إبراهيمَ سارَّةُ كانت قائمةً مِن وراءِ السِّترِ تَسمعُ الكلامَ، فضَحِكَت تعجُّبًا ممَّا سَمِعَت، فبَشَّرْناها على ألسِنةِ الملائكةِ بأنَّها ستلِدُ مِن زوجِها إبراهيمَ ولدًا يُسمَّى إسحاقَ، وسيعيشُ ولَدُها، وسيكونُ لها بعد إسحاقَ حفيدٌ منه، وهو يعقوبُ، عليهم السَّلامُ.

قالت سارَةُ لَمَّا بُشِّرَت بإسحاقَ مُتعجِّبةً: يا ويلتا، كيف يكونُ لي ولدٌ وأنا عجوزٌ، وهذا زوجي في حالِ الشَّيخوخةِ والكِبَرِ؟! إنَّ إنجابَ الولَدِ مِن مِثلي ومِثلِ زَوجي مع كِبَرِ السِّنِّ لَشيءٌ عجيبٌ، فقالت الرسُلُ لها: أتعجَبينَ مِن أمرِ الله وقضائِه؟ رحمةُ اللهِ وبَركاتُه عليكم معشرَ أهلِ بيتِ النبُوَّةِ؛ إنَّه سبحانه وتعالى حميدُ الصِّفاتِ والأفعالِ، ذو مَجدٍ وعظمةٍ فيها. فلمَّا ذهب عن إبراهيمَ الخَوفُ، وجاءته البُشرى بإسحاقَ ويعقوبَ؛ أخذ يجادِلُ رُسُلَنا فيما أرسَلْناهم به من عقابِ قَومِ لوطٍ وإهلاكِهم؛ إنَّ إبراهيمَ كثيرُ الحِلمِ لا يحِبُّ المُعاجَلة بالعِقابِ، كثيرُ التضَرُّعِ إلى اللهِ والدُّعاءِ له، رجَّاعٌ إلى اللهِ في أمورِه كُلِّها. فقالت الملائكةُ لإبراهيمَ عليه السَّلامُ: يا إبراهيمُ أعرِضْ عن هذا الجِدالِ في أمرِ قَومِ لوطٍ، والتِماسِ الرَّحمةِ لهم؛ فإنه قد حَقَّ عليهم العذابُ، وجاء أمرُ رَبِّك الذي قدَّرَه عليهم بهلاكِهم، وإنَّهم نازِلٌ بهم عذابٌ مِن اللهِ، غيرُ مصروفٍ عنهم ولا مَدفوعٍ.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا انقَضَت القِصَّةُ السَّابقةُ على هذا الوجهِ الرَّائع، أتبَعَها قصةَ لوطٍ عليه السَّلامُ؛ إذ كانت أشهرَ الوقائعِ بعدَها، وقَدَّمَ عليها ما يتعلَّقُ بها مِن أمرِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ وذِكرِ بُشْراه؛ لِما في ذلك كلِّه مِن التَّنبيهِ لِمن تعنَّتَ بطَلبِ إنزالِ الملائكةِ في قَولِهم: أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود:12] ، هذا مع ما في ذلك مِن مُناسبةِ أمرِ هذا الولَدِ لأمرِ النَّاقةِ، في تكوينِ كُلٍّ منهما بخارِقٍ للعادةِ؛ إشارةً إلى تمامِ القُدرةِ وكَمالِ العِلمِ المبنيِّ عليه أمرُ السُّورةِ في إحكامِ الكِتابِ وتَفصيلِه، وتَناسُب جِدالَي نوحٍ وإبراهيمَ عليهما السَّلامُ؛ فكلٌّ منهما كان مُشفِقًا على الكافرينَ، يرجو نجاتَهم من العذابِ

.

وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى.

أي: ولقد جاءت رسُلُنا مِن الملائكةِ نبيَّنا إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالبِشارةِ بالولَدِ .

قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ.

أي: سلَّمَ الملائكةُ على إبراهيمَ سَلامًا، فقال إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم: سلامٌ عليكم .

كما قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات: 24- 25].

فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ.

أي: فما تأخَّرَ إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن المجيءِ مِن بَيتِه بعِجلٍ مَشويٍّ لضُيوفِه .

كما قال تعالى: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ [الذاريات: 26- 27].

فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70).

فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً.

أي: فلمَّا رأى إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أيديَ ضُيوفِه لا تصِلُ إلى العِجلِ المشويِّ الذي أتاهم به، أنكَرَهم، وأضمرَ في نَفسِه خوفًا منهم .

قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ.

أي: قالت الملائكةُ لإبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: لا تخَفْ منَّا؛ فإنَّا ملائِكةٌ أرسَلَنا اللهُ إلى قومِ لوطٍ لإهلاكِهم بالعذابِ .

كما قال تعالى: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28].

وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71).

وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ.

أي: وامرأةُ إبراهيمَ قائمةٌ فضَحِكَت .

فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ.

أي: فبشَّرنا امرأةَ إبراهيمَ بإسحاقَ ابنًا لها، ووَهْبنا لها مِن بعدِ إسحاقَ يعقوبَ ابنًا لابنِها .

قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72).

قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـذَا بَعْلِي شَيْخًا.

أي: قالت امرأةُ إبراهيمَ متَعَجِّبةً: يا ويلتَى أيكونُ لي ولدٌ، وأنا عجوزٌ لا يلِدُ مثلي، وهذا زوجي إبراهيمُ شَيخًا كبيرًا، لا يُولَدُ لِمِثلِه ؟!

كما قال تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الذاريات: 29- 30].

إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ.

أي: قالت امرأةُ إبراهيمَ: إنَّ ولادتي وأنا وزوجي على السِّنِّ التي نحن بها، لشيءٌ غريبٌ، لم تجرِ به العادةُ !

قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73).

قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ.

أي: قالت الملائكةُ لها: أتعجَبينَ مِن شَيءٍ قضاه الله بمشيئَتِه وقُدرتِه ؟!

رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.

أي: رَحمةُ اللهِ وإحسانه وخَيراتُه النَّامِيةُ المُتكاثِرةُ عليكم يا أهلَ بيتِ إبراهيمَ عليه السلامُ .

إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ.

أي: إنَّ اللهَ محمودٌ في جميعِ صِفاتِه وأفعالِه وأقوالِه، ذو عَظَمةٍ وسَعةٍ في صفاتِ كمالِه .

عن أبي حُمَيدٍ السَّاعديِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّهم قالوا: ((يا رسولَ اللهِ كيف نصلِّي عليك؟ فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وأزواجِه وذرِّيَّتِه، كما صلَّيتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ وأزواجِه وذرِّيَّتِه، كما باركتَ على آلِ إبراهيمَ؛ إنَّك حميدٌ مَجيدٌ )) .

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74).

أي: فلمَّا زال عن إبراهيمَ الخَوفُ مِن رُسُلِنا حين لم يأكُلوا، وجاءَتْه البُشرى منهم بإسحاقَ فطابت نفسُه، وأعلَموه بهلاكِ قَومِ لوطٍ- أخذ يحاجِجُ الملائكةَ في إهلاكِ قَومِ لوطٍ .

كما قال تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [العنكبوت: 31- 32] .

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75).

أي: إنَّ إبراهيمَ لبطيءُ الغضَبِ، واسِعُ الصَّدرِ، متذلِّلٌ إلى ربِّه، كثيرُ التضَرُّعِ إليه بالدُّعاءِ، رجَّاعٌ إلى اللهِ بطاعتِه ومَعرفتِه ومحبَّتِه، ورجَّاعٌ في جميعِ أمورِه إلى اللهِ .

يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا كان أكثَرُ مُجادَلةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لِما عِندَه من الشَّفَقةِ على عبادِ اللهِ؛ لِما له مِن هذه الصِّفاتِ الجليلةِ- أعلَمَه اللهُ أنَّ الأمرَ قد حُسِم؛ بقَولِه حكايةً على لسانِ الرُّسُلِ :

يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا.

أي: قالت الملائِكةُ لإبراهيمَ: يا إبراهيمُ، اترُكِ الجِدالَ في أمرِ قَومِ لوطٍ .

إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ.

أي: إنَّه قد أتى أمرُ رَبِّك بهلاكِ قَومِ لوطٍ، فلا فائدةَ في جِدالِك عنهم .

وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ.

أي: وإنَّ قومَ لوطٍ نازِلٌ بهم عذابٌ غيرُ مَدفوعٍ عنهم، ولا مَصروفٍ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فيه مشروعيَّةُ الضِّيافةِ والمبادرة إليها، واستحبابُ مبادرةِ الضَّيفِ بالأكلِ منها

. وفيه تَقديمُ ما يتيسَّرُ من الموجودِ في الحالِ، ثمَّ يُتبِعُه بغَيرِه إن كان له جِدَةٌ، ولا يتكَلَّف ما يضُرُّ به .

2- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى وقَولِه تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ دَلالةٌ على استحبابِ بِشارةِ مَن وُلِدَ له وَلَدٌ، وتهنِئتِه .

3- قولُ الله تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فيه أنَّ السَّلامَ قبلَ الكلامِ .

4- قولُ الله تعالى: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فيه مشروعيَّةُ السَّلامِ، وأنَّه لم يزَلْ مِن ملَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ يدلُّ على أنَّ تحيَّةَ الملائكةِ (السلام)، كتحيَّةِ بني آدمَ

.

2- قولُ الله تعالى: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فيه أنَّ ردَّ السلامِ واجبٌ، وبدأه سنةٌ، وذلك لأنَّ التعبيرَ بالمصدرِ مرفوعًا هو سبيلُ الواجباتِ، والتعبيرُ به منصوبًا هو سبيلُ المندوباتِ؛ فالجملةُ الاسميةُ أثبتُ وآكدُ مِن الجملةِ الفعليةِ .

3- قَولُ الله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرنَاهَا بِإِسْحَاقَ إنَّما بَشَّروها دونَ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّ المرأةَ أعجَلُ فَرَحًا بالولَدِ، ولأنَّ إبراهيمَ قد بشَّروه وأمَّنوه مِن خوفِه، فأتبَعوا بِشارتَه ببشارتِها. وفيه وجه آخر: أنَّها خُصَّت بالبِشارةِ؛ حيث لم يكنْ لها ولَدٌ، وكان لإبراهيمَ عليه السَّلامُ ولَدُه إسماعيلُ .

4- قَولُ الله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرنَاهَا بِإِسْحَاقَ يدلُّ على أنَّ إسماعيلَ هو الذَّبيحُ؛ لأنَّ سارَةَ حين أخدَمَها المَلِكُ الجبَّارُ هاجَرَ أُمَّ إسماعيلَ كانت شابَّةً جميلةً، فاتَّخذَ إبراهيمُ هاجرَ سُرِّيَّةً، فغارت منها سارَةُ، فخرج بها وبابنِها إسماعيلَ مِن الشَّامِ إلى مكَّة، ثمَّ كانت البِشارةُ بإسحاقَ وسارَةُ عجوزٌ .

5- قَولُ الله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قد يُستدَلُّ به على جوازِ مُراجعةِ المرأةِ .

6- في قولِه تعالى: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ دلالةٌ على أنَّ الذَّبيحَ ليس هو إسحاقَ، فكيف يأمرُ بعد ذلك بذَبحِه؛ والبشارةُ بيعقوبَ تقتضي أنَّ إسحاقَ يعيشُ ويُولدُ له يعقوبُ .

7- في قولِه تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ دلالةٌ على أنَّ الرجُلَ يدخُلُ في أهلِ بيتِه، كما دخل إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في قولِ الملائكةِ: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ .

8- قَوله تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ يُستدلُّ به على جوازِ الدُّعاءِ بالرَّحمةِ للنبيِّ .

9- قَولُ الله تعالى: قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ خِطابُ الملائكةِ إيَّاها بقَولِهم: أَهْلَ الْبَيْتِ دليلٌ على اندراجِ الزَّوجةِ في أهلِ البَيتِ ؛ لأنَّ الملائكةَ خاطبوا سارَةَ بأهلِ البيتِ، وسَمَّوها أهلَ بيتِ إبراهيم، وفي هذا دليلٌ على أنَّ أزواجَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أهلِ بيتِه؛ تكذيبًا لِمن أنكرَ ذلك، فعائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها وغيرُها مِن جملةِ أهلِ بيتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ممَّن قال اللهُ فيهم: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ

- قولُه: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى فيه تأكيدُ الخبَرِ بحَرْفِ (قَدْ)؛ للاهتِمام به

.

- وقُدِّمَت قِصَّةُ إبراهيمَ؛ لأنَّ الغرَضَ مِن هذه القِصَّةِ الموعظةُ بمَصيرِ قومِ لوطٍ؛ إذ عصَوْا رسولَ ربِّهم، فحَلَّ بهم العذابُ، ولم تُغْنِ عنهم مُجادَلةُ إبراهيمَ، وللتَّنويهِ بمَقامِه عِندَ ربِّه على وجْهِ الإدماجِ؛ ولذلك غيَّر أسلوبَ الحكايةِ في القَصصِ الَّتي قَبْلَها والَّتي بعدَها نحوُ وَإِلَى عَادٍ... [هود: 50] .

- قولُه: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، أسنَد إليهم مُطلَقَ المَجيءِ بالبُشْرى دونَ الإرسالِ؛ لأنَّهم لم يَكونوا مُرسَلين إليه عليه السَّلامُ، بل إلى قومِ لوطٍ؛ لقولِه تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وإنَّما جاؤوه لِداعيةِ البُشْرى .

- وجملةُ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ في موضعِ البَيانِ للبُشْرى؛ لأنَّ قولَهم ذلك مَبدَأُ البُشْرى، وإنَّ ما اعتَرَض بينَها حكايةُ أحوالٍ، وقد انتَهى إليها في قولِه: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ إلى قولِه: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .

- والمخالَفةُ بينَ (سلامًا، وسلامٌ) في قولِه: قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ؛ للدَّلالةِ على أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ ردَّ السَّلامَ بعبارةٍ أحسَنَ مِن عبارةِ الرُّسلِ؛ زِيادةً في الإكرامِ؛ وذلك لأنَّ سَلَامًا الَّتي هي مِن قولِ الملائكةِ: مفعولٌ مُطلَقٌ وقَع بدَلًا مِن الفِعْلِ، والتَّقديرُ: سلَّمْنا سَلامًا؛ فجُملَتُه فِعليَّةٌ، وسَلَامٌ الَّتي هي مِن قولِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: خبَرٌ لِمُبتدَأٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: أَمْري سَلامٌ، فجملتُه اسميَّةٌ، ورَفْعُ المصدَرِ أبلَغُ مِن نَصْبِه؛ فهو أدَلُّ على الدَّوامِ والثَّباتِ؛ لِكَونِ جُملَتِه اسميَّةً؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ السَّلامِ، كأنَّه قصَد أنْ يُحيِّيَهم بأحسَنَ مِمَّا حيَّوْه به؛ أخذًا بأدَبِ اللهِ تعالى، وهذا أيضًا مِن إكْرامِه لهم؛ فحيَّا الخليلُ بأحسَنَ ممَّا حُيِّي به؛ نظَرًا إلى الأدَبِ الإلهيِّ الَّذي عَلَّمَه اللهُ عزَّ وجلَّ لنا في القرآنِ بقولِه: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء: 86] ، وقَولُه: سَلَامٌ أكملُ من قولِه: (السلام)؛ لأنَّ التنكيرَ يفيدُ الكمالَ والمبالغةَ والتَّمامَ .

وهناك وجهٌ آخرُ وهو: أنَّ النُّكتةُ في نَصْبِ سلامِ الملائكةِ، ورَفْعِ سلامِ إبراهيمَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّ قولَه تعالى عن الملائكة: سَلَامًا لم يُقصدْ به حكايةُ سلامِ الملائكة! وإنما هو مفعولُ القولِ المفردِ، كأنه قيل: قالوا قولًا سلامًا؛ وقالوا سدادًا وصوابًا ونحو ذلك؛ فإنَّ القولَ إنما تُحكى به الجملُ، وأمَّا المُفردُ فلا يكون محكيًّا به، بل منصوبًا به انتصابَ المفعول به، وسُمِّيَ القولُ سلامًا؛ لأنَّه يؤدِّي معنى السلامِ ويتضمَّنُه، مِن رَفْعِ الوَحْشَةِ، وحصولِ الاستئناسِ، وأمَّا سلامُ إبراهيم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأتى به على لفْظِه مرفوعًا بالابتداءِ، مَحْكِيًّا بالقول، ولولا قَصْدُ الحكايةِ لقال: (سلامًا) بالنصب؛ لأنَّ ما بعدَ القولِ إذا كان مرفوعًا فعلى الحكايةِ ليس إلَّا، فحصَل مِن الفَرْقِ بين الكلامينِ في حكايةِ سلامِ إبراهيم ورفْعِهِ؛ ونَصْبِ سلامِ الملائكةِ: إشارةٌ إلى معنىً لطيفٍ جدًّا، وهو أنَّ قولَه (سلامٌ عليكم) هو مِن دين الإسلامِ المُتلقَّى عن إمامِ الحنفاءِ وأبي الأنبياءِ؛ وأنَّه مِن مِلَّةِ إبراهيمَ التي أَمَرَ اللهُ بها وباتِّبَاعِها، فحكَى لنا قولَه؛ ليَحْصُلَ الاقتداءُ به، والاتِّبَاعُ له، ولم يحكِ قولَ أضيافِه، وإنما أخْبَر به على الجملةِ دونَ التفصيلِ .

- والفاءُ في قولِه: فَمَا لَبِثَ؛ للدَّلالةِ على التَّعقيبِ؛ إسراعًا في إكرامِ الضَّيفِ؛ ظنَّهم إبراهيمُ عليه السَّلامُ ناسًا، فبادَرَ إلى قِرَاهم .

2- قولُه تعالى: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ

- قولُه: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فيه تأخيرُ المفعولِ الصَّريحِ خِيفَةً عن الجارِّ والمجرورِ مِنْهُمْ؛ لأنَّ المرادَ الإخبارُ بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوجَسَ مِن جِهَتِهم شيئًا هو الخِيفةُ، لا أنَّه أوجَسَ الخِيفةَ مِن جِهَتِهِم، لا مِن جهةِ غيرِهم؛ وتأخيرُ ما حَقُّه التَّقديمُ يوجِبُ تَرقُّبَ النَّفسِ إليه، فيَتمَكَّنُ عِندَ وُرودِه عليها فَضْلَ تمَكُّنٍ .

- وجُملةُ قَالُوا لَا تَخَفْ جاءتْ مفصولةً عمَّا قبلَها، أي: لم تُعطَفْ عليها؛ لأنَّها أشبَهَتِ الجوابَ؛ لأنَّه لَمَّا أوجَس مِنهم خِيفةً ظهَر أثَرُها على مَلامِحِه، فكان ظهورُ أثَرِها بمنزلةِ قولِه: (إنِّي خِفتُ مِنكم)؛ ولذلك أجابوا ما في نفْسِه بقولِهم: لَا تَخَفْ، فحُكي ذلك عنهم بالطَّريقةِ الَّتي تُحْكَى بها المحاوَراتُ، أو هو جوابُ كلامٍ مقدَّرٍ دلَّ عليه قولُه: وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً، أي: وقال لهم: إنِّي خفتُ منكم، كما حُكي في سورةِ الحِجْرِ: قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر: 52] ، ومِن شأنِ النَّاسِ إذا امتَنَع أحَدٌ مِن قَبولِ طَعامِهم أن يَقولوا له: لعلَّك غادِرٌ أو عدُوٌّ، وقد كانوا يَقولون للوافِدِ: أحَرْبٌ أم سِلْمٌ .

- وقولُهم: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ استئنافٌ مبيِّنٌ لسبَبِ مَجيئِهم ، وحُذِفَ مُتعلَّقُ أُرْسِلْنَا إيجازًا؛ لِظُهورِه مِن هذه القصَّةِ وغيرِها، وعبَّر عن الأقوامِ المرادِ عَذابُهم بطَريقِ الإضافةِ قَوْمِ لُوطٍ؛ إذ لم يَكُنْ لأولئك الأقوامِ اسمٌ يَجمَعُهم، ولا يَرجِعون إلى نسَبٍ، بل كانوا خَليطًا مِن فَصائِلَ عُرِفوا بأسماءِ قُراهم .

3- قوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ

- جملةُ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ تفريعٌ على جملةِ فَضَحِكَتْ باعتبارِ المعطوفِ، وهو وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ؛ لأنَّها ما ضَحِكَت إلَّا بَعْدَ أنْ بَشَّرَها الملائكةُ بابنٍ- وذلك على أحدِ الأقوالِ- فلمَّا تعجَّبَت مِن ذلك بشَّروها بابنِ الابنِ؛ زِيادةً في البُشْرى، والتَّعجُّبُ بأن يُولَدَ لها ابنٌ ويَعيشَ، وتَعيشَ هي حتَّى يُولَدَ لابْنِها ابنٌ، وذلك أدخَلُ في العجَبِ .

- وقد اختُصِرَت هذِه القِصَّةُ هنا اختِصارًا بَديعًا؛ لِوُقوعِها في خلالِ الحوارِ بينَ الرُّسلِ وإبراهيمَ عليه السَّلامُ، وحكايةُ ذلك الحِوَارِ اقتَضَتْ إتمامَه بحكايةِ قولِهم: لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] ، وأمَّا البُشْرى فقد حصَلَت قبلَ أن يُخبِروه بأنَّهم أُرسِلوا إلى قومِ لوطٍ، كما في آيةِ سورةِ الذَّارياتِ: فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28]؛ فلمَّا اقتَضى ترتيبُ المحاوَرةِ تقديمَ جملةِ قَالُوا لَا تَخَفْ؛ حُكِيَت قصَّةُ البُشْرى وما تَبِعَها مِن المحاوَرةِ بطريقةِ الحالِ؛ لأنَّ الحالَ تَصلُحُ للقَبْليَّةِ وللمقارَنةِ وللبَعْديَّةِ، وهي الحالُ المقدَّرةُ .

4- قوله تعالى: قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ

- قولُه: قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا الاستِفْهامُ في أَأَلِدُ مستعمَلٌ في التَّعجُّبِ .

- وكِلْتا الجُملتَين: وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا وقعَتْ حالًا مِن الضَّميرِ في أَأَلِدُ؛ لِتَقريرِ ما فيه مِن الاستِبْعادِ وتَعليلِه، أي: أَأَلِدُ وكِلانا على حالةٍ مُنافِيَةٍ لذلك؟! وإنَّما قَدَّمَت بيانَ حالِها على بيانِ حالِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لأنَّ مُبايَنةَ حالِها لِمَا ذُكِرَ مِن الولادةِ أكثرُ؛ إذ رُبَّما يُولَدُ للشُّيوخِ مِن الشَّوابِّ، أمَّا العَجائزُ دَاؤُهن عَقامُ، ولأنَّ البِشارةَ مُتوجِّهةٌ إليها صَريحًا، ولأنَّ العكْسَ في البيانِ ربَّما يُوهِمُ مِن أوَّلِ الأمرِ نِسبةَ المانِعِ من الولادةِ إلى جانبِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفيه ما لا يَخفْى مِن المحذورِ، واقتِصارُها الاستبعادَ على ولادتِها مِن غيرِ تَعرُّضٍ لحالِ النَّافلةِ؛ لأنَّها المستبعَدُ، وأمَّا وِلادةُ ولَدِها فلا يتَعلَّقُ بها استِبعادٌ .

- قولُها: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ جملةٌ مؤكِّدةٌ لِصِيغةِ التَّعجُّبِ؛ فلذلك فُصِلَت عن الَّتي قبْلَها- أي: لم تُعطَفْ عليها- لكمالِ الاتِّصالِ ، وهذه الجملةُ أيضًا لِتَعليلِ الاستبعادِ بطريقِ الاستِئْنافِ التَّحقيقيِّ، ومَقصِدُها استعظامُ نِعمةِ اللهِ تعالى عليها في ضِمْنِ الاستعجابِ العاديِّ، لا استِبْعادُ ذلك بالنِّسبةِ إلى قُدرتِه سبحانه وتعالى .

5- قوله تعالى: قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ كلامٌ مُستأنَفٌ عُلِّل به إنكارُ التَّعجُّبِ، كأنَّه قيل: إيَّاكِ والتَّعجُّبَ؛ فإنَّ أمثالَ هذه الرَّحمةِ والبرَكةِ مُتكاثِرةٌ مِن اللهِ عليكم .

- والاستفهامُ في أَتَعْجَبِينَ استفهامُ إنكارٍ لعَجَبِها .

- وجُمْلَةُ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ تعليلٌ لإنكارِ تعجُّبِها؛ لأنَّ الإنكارَ في قوَّةِ النَّفيِ، فصار المعنى: لا عجَبَ مِن أمْرِ اللهِ؛ لأنَّ إعطاءَكِ الوَلَدَ رَحمةٌ مِن اللهِ وبرَكةٌ، فلا عجَبَ في تَعلُّقِ قُدرةِ اللهِ بها، وأنتم أهلٌ لتِلكَ الرَّحمةِ والبَرَكةِ، فلا عجَبَ في وُقوعِها عندَكم .

- وتعريفُ الْبَيْتِ تعريفُ حُضورٍ، وهو البيتُ الحاضِرُ بينَهم الَّذي جَرى فيه هذا التَّحاوُرُ، أي: بَيْتُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، والمعنى: أهلَ هذا البيتِ .

- وفيه صرْفُ الخطابِ مِن صيغةِ الواحدةِ: أَتَعْجَبِينَ إلى جمْعِ المذكَّرِ: عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؛ لِتَعميمِ حُكمِه لإبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أيضًا؛ لِيَكونَ جَوابُهم لها جَوابًا له أيضًا إنْ خطَر بِبَالِه مِثلُ ما خطَر ببالِها .

- وجملةُ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ تَعليلٌ لِتَوجُّهِ رحمتِه وبرَكاتِه إليهم؛ بأنَّ اللهَ يَحمَدُ مَن يُطيعُه، وبأنَّه مَجيدٌ، أي: عَظيمُ الشَّأنِ، لا حَدَّ لنِعَمِه، فلا يَعظُمُ عليه أن يُعطِيَها ولَدًا، وفي اختيارِ وصْفِ الحميدِ مِن بينِ الأسماءِ الحُسْنى كِنايةٌ عن رِضا اللهِ تعالى على إبراهيمَ عليه السَّلامُ وأهلِه .

6- قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ

- قولُه: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ الفاءُ لِرَبْطِ بعضِ أحوالِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ ببعضٍ، إثْرَ انفِصالِها بما ليس بأجنَبيٍّ مِن كلِّ وجهٍ، بل له مَدْخلٌ تامٌّ في السِّباقِ والسِّياقِ .

- وفي قولِه: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ تأخيرُ الفاعلِ الرَّوْعُ عن الجارِّ والمجرورِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ لأنَّه مَصَبُّ الفائدةِ؛ فإنَّ بِتَأخيرِ ما حَقُّه التَّقديمُ تَبْقى النَّفسُ مُنتظِرةً إلى وُرودِه، فيتَمكَّنُ فيها عِندَ وُرودِه إليها فضْلَ تَمكُّنٍ .

- والتَّعريفُ في الرَّوْعُ وفي البُشْرَى تعريفُ العهْدِ الذِّكْريِّ، وهما المذكورانِ آنفًا .

- وقولُه: يُجَادِلُنَا هو جوابُ فَلَمَّا، وصِيغَ بصيغةِ المضارِعِ؛ لاستحضارِ الحالةِ العجيبةِ .

- قولُه: لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (الأوَّاهُ) فيه كنايةٌ عن شِدَّةِ اهتمامِه عليه السَّلامُ بهُمومِ النَّاسِ، وأصلُه الَّذي يُكثِرُ التَّأوُّهَ .

7- قوله: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ

- جملةُ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا مَقولُ مَحذوفٍ دلَّ عليه المقامُ، وهو مِن بَديعِ الإيجازِ، وهو وَحيٌ مِن اللهِ إلى إبراهيمَ عليه السَّلامُ، أو جوابُ الملائكةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ فإذا كان مِن كلامِ اللهِ فقولُه: أَمْرُ رَبِّكَ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لإدخالِ الرَّوْعِ في ضميرِ السَّامعِ .

=====

 

سورة هود

الآيات (77-83)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ

غريب الكلمات:

 

سِيءَ بِهِمْ: أي: ساءَه مَجيئُهم، مِن السُّوءِ: وهو كُلُّ ما يَغُمُّ الإنسانَ مِن الأمورِ الدُّنيويَّةِ والأُخرويَّةِ

.

وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا: ذَرعُ الإنسانِ: مُنتهى طاقتِه التي يحمِلُها بمشَقَّةٍ. يُقالُ: ضاق بهذا الأمرِ ذَرعًا: إذا تكلَّفَ أكثَرَ ممَّا يُطيقُ فعجَزَ، وأصلُ (ذرع): يدُلُّ على امتدادٍ، وتحَرُّكٍ إلى قُدُمٍ .

عَصِيبٌ: أي: شَديدٌ شَرُّه، عظيمٌ بلاؤه، كأنه قد عُصِب به الشرُّ والبلاءُ، أي: شدُّ به، مأخوذٌ مِن العصابةِ التي تُشدُّ بها الرأسُ، وأصلُ (عصب): يدلُّ على ربطِ شَيءٍ بشيءٍ .

يُهْرَعُونَ: أي: يُسرِعونَ، وأصلُ (هرع): يدلُّ على حركةٍ واضطرابٍ .

رُكْنٍ: أي: عشيرةٍ، ورُكْنُ الشَّيءِ: جانِبُه الأقوى، وأصلُ (ركن): يدلُّ على قوَّةٍ .

بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ: أي: ببقيَّةٍ تبقَى مِن آخِرِه، أو بقِطعةٍ منه، وأصلُ (قطع): يدلُّ على صَرمٍ، وإبانةِ شَيءٍ مِن شَيءٍ .

سِجِّيلٍ: أي: طينٍ مُتحَجِّرٍ، وقيل: أصلُها فارسيٌّ (سَنكِ وكِل) أَي: الحَجَر والطِّين .

مَنْضُودٍ: مَوضوعٍ بعضُه على بعضٍ، أو مُتَتابعٍ، وأصلُ (نضد): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ إلى شيءٍ في اتِّساقٍ وجَمعٍ .

مُسَوَّمَةً: أي: مُعَلَّمةً؛ من السِّيماءِ: أي: العلَامةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

تُبَيِّنُ لنا الآياتُ حالَ لوطٍ عليه السَّلامُ لَمَّا جاءته الملائِكةُ؛ أنَّه ساءه مجيئُهم واغتمَّ لذلك؛ خوفًا عليهم مِن قَومِه، وقال: هذا يومُ بلاءٍ وشِدَّةٍ، وأنَّ قومَه جاؤوه يُسرِعونَ المشيَ إليه لطلَبِ الفاحشةِ، وكانوا مِن قبلِ مجيئِهم يأتونَ الرِّجالَ شَهوةً مِن دونِ النِّساءِ، فقال لوطٌ لهم: هؤلاء نِساءُ أمَّتي تَزَوَّجوهنَّ؛ فهنَّ أطهَرُ لكم ممَّا تُريدونَ، فاخشَوُا اللهَ واحذروا عقابَه، ولا تفضَحوني بالاعتداءِ على ضيفي، أليس منكم رجلٌ ذو رَشَدٍ ينهى من أراد ركوبَ الفاحشةِ، فيَحولُ بينهم وبين ذلك؟ فقالوا له: لقد علمتَ من قبلُ أنَّه ليس لنا في النِّساءِ مِن حاجةٍ أو رغبةٍ، وإنَّك لَتعلَمُ ما نريدُ، فقال لهم حين أبَوا إلَّا فعلَ الفاحشةِ: لو أنَّ لي بكم قوَّةً وأنصارًا معي، أو أركَنُ إلى عشيرةٍ تمنَعُني منكم!

قالت الملائكةُ: يا لوطُ إنَّا رسُلُ ربِّك أرسَلَنا لإهلاكِ قَومِك، وإنَّهم لن يصِلوا إليك، فاخرُجْ أنت وأهلُك ببقيَّةٍ من اللَّيلِ، ولا يلتَفِتْ منكم أحدٌ وراءَه إلَّا امرأتَك فلا تخرج معكم؛ لأنه سيُصيبُها ما أصاب قومَك من الهلاكِ، إنَّ مَوعِدَ هلاكِهم الصُّبحُ، وهو موعِدٌ قريبُ الحُلولِ. فلمَّا جاء أمرُنا بهلاكِ قَومِ لوطٍ جعَلْنا عاليَ قراهم- التي كانوا يعيشونَ فيها- سافِلَها، فقَلَبْناها، وأمطَرْنا عليهم حجارةً مِن طينٍ متصَلِّبٍ، قد صُفَّ بعضُه إلى بعضٍ، مُعلَّمةً عند اللهِ بعلامةٍ مَعروفةٍ لا تُشاكِلُ حِجارةَ الأرضِ، وما هذه الحِجارةُ- التي أمطَرَها اللهُ على قَومِ لوطٍ- مِن الظالمين ببعيدٍ أن يُمْطَروا بمِثلِها.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ

إِلَّا امْرَأَتَكَ قُرِئَ امْرَأَتَكَ بالنَّصبِ والرَّفعِ؛ أمَّا النَّصبُ: فعلى أنَّه مُستثنًى متَّصِلٌ مِن (أهلك) في قَولِه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، والمعنى: لا تَسْرِ بها. وجُملةُ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ مُعتَرِضةٌ بين المُستثنَى والمُستثنَى منه. وأمَّا الرَّفعُ: فعلى أنَّ (امْرَأَتُكَ) بدلٌ مِن أَحَدٌ الواقِعُ في سياقِ النَّهيِ وَلَا يَلْتَفِتْ، وهو في معنى النَّفيِ. وقيل: إنَّ الاستثناءَ على كِلتا القِراءتَينِ مُنقَطِعٌ مِن جُملةِ الأمرِ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، بِدَليلِ سُقوطِ جُملةِ النَّهيِ وَلَا يلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ في قِراءةِ ابنِ مَسعودٍ، ويكونُ النَّصبُ فيها على الاستثناءِ المُنقَطِعِ، والرَّفعُ على أَنَّ (امْرَأَتُكَ) مبتدأٌ، وإِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ جملةُ الخَبَر، وجملةُ المبتدأِ وخبَرِه في محلِّ نَصبٍ على الاستثناءِ المُنقَطِع، ويقوِّي كونَ الاستثناءِ مُنقَطِعًا أنَّ مثلَ هذه الآيةِ جاءت في سورةِ الحِجرِ، وليس فيها استثناءٌ البتَّةَ؛ قال تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65] . وقيل غيرُ ذلك

 

.

تفسير الآيات:

 

وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا انقضى أمرُ إنبائِهم ببِشارةِ الأولياءِ، وهلاكِ الأعداءِ، وعُلِمَ من ذلك أنَّهم لا يَنزِلونَ إلَّا للأمورِ الهائلةِ، والأحوالِ المُعجِبةِ؛ أخذَ يقُصُّ أمرَهم مع لوطٍ عليه السَّلامُ

.

وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا.

أي: ولَمَّا جاءت الملائكةُ نبيَّنا لوطًا عليه السَّلامُ- ولم يعلَمْ أنَّهم ملائِكةٌ- ساءه مجيئُهم، وضاقتْ نفسُه غَمًّا بحُضورِهم؛ خوفًا عليهم مِن قَومِه .

وَقَالَ هَـذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ.

أي: وقال لوطٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا عَلِمَ أنَّه سيحتاجُ إلى مُدافعةِ قَومِه عن أضيافِه: هذا يومٌ شديدٌ شَرُّه، عظيمُ البَلاءِ .

وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78).

وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ.

أي: وجاء لوطًا قومُه يُسرِعونَ إليه !

كما قال تعالى: وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ * قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ [الحجر: 67 - 69] .

وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ.

أي: ومن قبلِ مجيءِ الرُّسُلِ إلى لوطٍ كانوا على عادتِهم يأتونَ الرِّجالَ في أدبارِهم، فجاؤوا إلى الأضيافِ لذلك .

قَالَ يَا قَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ.

أي: قال لوطٌ مُدافِعًا عن أضيافِه: يا قومِ هؤلاء نِساءُ أُمَّتي فانكِحوهنَّ؛ فهذا أطهَرُ لكم مِن إتيانِ الذُّكورِ .

كما قال تعالى حاكيًا قولَ لوطٍ لِقَومِه: قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [الحجر: 71] .

فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي.

أي: فاخشَوُا اللهَ، واحذَروا عقابَه، ولا تُذِلُّوني وتُهينوني بانتهاكِ حُرمةِ ضُيوفي بفِعلِ الفاحشةِ بهم .

أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ.

أي: أليسَ منكُم رجلٌ ذو رَشَدٍ وخيرٍ، فينهاكم عن طلَبِ الفاحِشةِ بضُيوفي ؟!

قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79).

أي: قالوا له: لقد علمتَ- يا لوطُ- ما لنا في النِّساءِ مِن حاجةٍ أو رغبةٍ وإنَّك لتعلَمُ أنَّنا نريدُ الرِّجالَ دون النِّساءِ .

قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80).

قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً.

أي: قال لوطٌ لَمَّا رأى إصرارَ قَومِه على طلَبِ الفاحشةِ مِن ضُيوفِه، وعَجَزَ عن ردِّهم: ليتَ لي أنصارًا وأعوانًا يُعينونَني على رَدِّكم .

أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ.

أي: أو ألجأُ وأنضَمُّ إلى عشيرةٍ تمنَعُني وتعصِمُني منكم، فأحولُ بينكم وبين ما تريدونَ مِن ضيوفي .

عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَرحَمُ الله لوطًا؛ لقد كان يأوي إلى رُكنٍ شَديدٍ )) .

قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81).

قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ.

أي: قالت الملائِكةُ للوطٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا اشتدَّ به الكَربُ: إنَّا ملائِكةُ رَبِّك، أرسَلَنا لإهلاكِ قَومِك؛ فلن يَصِلوا إليك بمكروهٍ، فاطمئِنَّ وهوِّنْ على نفسِك .

كما قال تعالى: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت: 33- 34] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [القمر: 37].

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ.

أي: فاخرُجْ أنت وأهلُك مِن أرضِ قَومِك بعد مُضيِّ وقتٍ مِن اللَّيلِ .

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ * وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 61-65] .

وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: امْرَأَتَكَ قراءتانِ:

1- امْرَأَتُكَ بضمِّ التاءِ، قيل: الاستثناءُ منقطعٌ مِن جُملةِ الأمرِ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ، وامْرَأَتُكَ مبتدأٌ خبرُه إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ، وقيل: معنى: وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ أي: لا يتخلَّفْ منكم أحدٌ إلا امرأتُك، وقيل غيرُ ذلك .

2- امْرَأَتَكَ بفتحِ التاءِ، أي: فأسْرِ بأهلِك إلَّا امرأتَك، على أن لوطًا أُمِر أن يسريَ بأهلِه سوَى زوجتِه، فإنَّه نُهِي أن يسريَ بها .

وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ.

أي: ولا ينظُرْ أحدٌ منكم وراءَه، واستَمِرُّوا ذاهبينَ، إلَّا امرأتَك، فلا تُخرِجْها معكم .

إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ.

أي: إنَّه مُصيبٌ امرأتَك- يا لوطُ- العذابُ الذي أصاب قومَك .

كما قال تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ [النمل: 57] .

إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.

أي: إنَّ مَوعِدَ إهلاكِ قَومِك- يا لوطُ- الصُّبحُ بعد انقضاءِ هذه اللَّيلةِ، أليس وقتُ الصبحِ بقريبٍ لنُزولِ العذابِ بهم ؟!

كما قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر: 66] .

وقد بيَّن الله تعالى أنَّ صبيحةَ العذابِ وقَعتْ عليهم وقتَ الإشراقِ، وهو وقتُ طلوعِ الشمسِ ، وذلك في قولِه: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر: 73] .

فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82).

فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا.

أي: فلمَّا جاء أمرُنا بهلاكِ قومِ لُوطٍ، جَعَلْنا عاليَ قراهم أسفَلَها .

كما قال تعالى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: 74] .

وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ.

أي: وأرسَلْنا على قرى قَومِ لوطٍ حِجارةً مِن طينٍ، شديدِ القوةِ، قد ضُمَّ بعضُه إلى بعضٍ، فصار حجارةً .

كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [النمل: 58] .

مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83).

مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ.

أي: حجارةً مُعلَّمةً عند اللهِ بعلاماتٍ .

وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.

أي: وما هذه الحِجارةُ- التي أُمطِرَت على قومِ لوطٍ- ببعيدةٍ مِن الظالمين الفاعلينَ مثلَ فِعلِهم ؛ فلْيَحذروا أن يُصيبَهم ما أصابَهم

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُه تعالى: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ تضمَّن البيانَ عمَّا يُوجبُه حالُ المؤمنِ إذا رأى مُنكَرًا لا يقدِرُ على إزالتِه؛ أنَّه يتحَسَّرُ على فَقدِ قوة أو مُعينٍ على دَفعِه؛ لحرصِه على طاعةِ ربِّه، وجَزَعِه مِن مَعصيتِه

.

2- في قولِه تعالى: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ فيه أنَّ المؤمنَ إذا رأَى منكَرًا لا يقدِرُ على إزالته أنْ عليه أن يُنكِرَ بلسانه ثم بقلبه إذا لم يُطِقِ الدفعَ .

3- قَولُ الله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ التَّعبيرُ بصفةِ الظَّالِمِينَ وكون العقوبةِ آيةً مُرادةً لا مُصادفةً؛ يجعَلُ العبارةَ عِبرةً لكُلِّ الأقوامِ الظَّالِمةِ في كلِّ زمانٍ، وإن كان العذابُ يختَلِفُ باختلافِ الأحوالِ مِن أنواعِ الظُّلمِ وكَثرتِه وعُمومِه وما دونَهما

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قول الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ أي: حصَلَت له المَساءةُ بسببِ مجيئِهم إلى قريتِه؛ لِما يعلَمُ مِن لُؤمِ أهلِها، والتَّعبيرُ عن هذا المعنى بالمبنيِّ للمفعولِ أوقَعُ في النَّفسِ وأرشَقُ

.

2- في قَولِه تعالى: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ سؤالٌ: وهو أن يقالَ: إنَّ قولَه هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ من باب أفعل التَّفضيلِ، فيقتضي أن يكونَ الذي يطلبونَه من الرِّجالِ طاهرًا، ومعلومٌ أنَّه مُحرَّمٌ فاسِدٌ نَجِسٌ، لا طهارةَ فيه البتَّةَ، فكيف قال: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ؟!

والجوابُ: أنَّ صيغةَ التفضيلِ قد تُطلق في القرآنِ واللغةِ مرادًا بها الاتصافُ، لا تفضيلُ شيءٍ على شيءٍ ، وأيضًا فهذا جارٍ مجرى قولِه تعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات: 62] ، ومعلومٌ أنَّ شَجرةَ الزَّقُّومِ لا خيرَ فيها، وكقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا قيل يومَ أحُدٍ: اعلُ هُبَلُ، قال: ((اللهُ أعلى وأجَلُّ) ) ؛ إذ لا مماثلةَ بين اللهِ- عزَّ وجلَّ- والصَّنمِ، وإنَّما هو كلامٌ خرجَ مَخرجَ المقابلةِ .

3- قولُه: وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أي: لا تَجعَلوني مَخْزيًّا عِندَ ضَيْفي؛ إذ يَلحَقُهم أذًى في ضِيافَتي؛ لأنَّ الضِّيافةَ جِوارٌ عندَ ربِّ المنزِلِ، فإذا لَحِقَت الضَّيفَ إهانةٌ كانت عارًا على ربِّ المنزِلِ .

4- قال الله تعالى: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يحتمل أن سِرَّ النَّهيِ عن الالتفاتِ- إذا كان بمعنى النَّظَرِ إلى وراءٍ- هو أن يجِدُّوا في السَّيرِ؛ فإنَّ من يلتَفِتُ إلى ورائِه لا يخلو عن أدنى وَقفةٍ، أو ألَّا يَرَوا ما ينزِلُ بقَومِهم من العذابِ فيَرِقُّوا لهم ، ويحتملُ أنَّ سببَ النَّهيِ عن الالْتِفاتِ التَّقصِّي في تحقيقِ معنى الهجرةِ غضَبًا لحُرماتِ اللهِ، بحيث يَقطَعُ التَّعلُّقَ بالوطَنِ، ولو تَعلُّقَ الرُّؤيةِ، وكان تَعْيينُ اللَّيلِ للخُروجِ؛ كَيْلا يُلاقِيَ مُمانَعةً مِن قومِه أو مِن زَوْجِه فيَشُقَّ عليه دِفاعُهم .

5- قولُ الله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ فيه أنَّ المرأةَ والأولادَ مِن الأهلِ .

6- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ابتدأ الملائِكةُ خِطابَهم لوطًا عليه السَّلامُ بالتَّعريفِ بأنفُسِهم؛ لتعجيلِ الطُّمأنينةِ إلى نفسِه، لأنَّه إذا علمَ أنَّهم ملائِكةٌ علِمَ أنَّهم ما نزلوا إلَّا لإظهارِ الحَقِّ .

7- صرَف اللهُ الكفَّارَ عن لُوطٍ عليه السَّلامُ، فرَجَعوا مِن حيثُ أتَوْا، ولو أزال عَن الملائكةِ التَّشكُّلَ بالأجسادِ البشَريَّةِ فأخفاهم عن عُيونِ الكُفَّارِ لحَسِبوا أنَّ لوطًا عليه السَّلامُ أخْفاهم، فكانوا يُؤْذون لوطًا عليه السَّلامُ؛ ولذلك قال له الملائكةُ: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، ولم يَقولوا: لن يَنالوا؛ لأنَّ ذلك معلومٌ؛ فإنَّهم لَمَّا أعلَموا لوطًا عليه السَّلامُ بأنَّهم ملائكةٌ ما كان يَشُكُّ في أنَّ الكفَّارَ لا يَنالونَهم، ولكنَّه يَخْشى سَوْرتَهم أن يتَّهِموه بأنَّه أخْفاهم .

8- في قولِه تعالى: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ... في هذه القِصَّةِ إثباتُ الملائكةِ، وأنَّهم أحياءٌ، ناطِقونَ، مُنفَصِلونَ عن الآدميِّينَ، يخاطِبونَهم ويرونَهم في صورِ الآدميِّينَ أحيانًا- الأنبياءُ وغيرُ الأنبياءِ- كما رأتْهم سارَةُ امرأةُ الخليلِ عليه السَّلامُ، وكما كان الصَّحابةُ يَرَون جبريلَ إذا جاء، لَمَّا جاء في صورةِ أعرابيٍّ ، وتارةً في صورةِ دِحيةَ الكَلبيِّ .

9- قال الله تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ لعلَّ جَعْلَ الصُّبحِ ميقاتًا لهلاكِهم؛ لِكونِ النُّفوسِ فيه أسكنَ وأودعَ، والرَّاحةُ فيه أجمَعُ ، فيَكونُ حُلولُ العذابِ حينَئذٍ أفظَعَ، ولأنَّه أنسَبُ بكَوْنِ ذلك عِبرةً للنَّاظِرين .

10- لما قلَب قومُ لوطٍ الأوضاعَ بإتيانِ الذُّكورِ دونَ الإناثِ؛ كان جزاؤُهم مِن جنسِ عملِهم، فقلَب الله عليهم قُراهم، قال الله تعالى: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا .

11- قولُ الله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً استدلَّ به من قال بِرَجمِ الفاعلِ والمفعولِ به في اللُّواطِ أُحصِنا أو لا .

12- قولُ الله تعالى: مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ عبَّرَ بالرِّبِّ إشارةً إلى كثرةِ إحسانِه إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه إنَّما أمَرَه بالإنذارِ رحمةً لأمَّتِه التي جعَلَها خيرَ الأُمَم، وسيجعَلُها أكثَرَ الأمَمِ، ولا يُهلِكُها كما أهلَكَهم .

13- في قولِه: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ جُرِّد (بَعِيد) عن تاءِ التَّأنيثِ مع كونِه خبَرًا عن الحجارةِ، وهي مؤنَّثٌ لفْظًا، ومع كونِ (بَعِيد) هنا بمَعْنى (فاعِلٍ) لا بمَعْنى (مفعولٍ)؛ فالشَّأنُ أن يُطابِقَ مَوصوفَه في تأنيثِه، ولكنَّ العرَبَ قد يُجْرون (فَعيلًا) الَّذي بمَعْنى (فاعٍل) مَجْرى الَّذي بمَعْنى (مفعولٍ) إذا جَرى على مؤنَّثٍ غيرِ حقيقيِّ التَّأنيثِ زيادةً في التَّخفيفِ، كقولِه تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] ، وقولِه: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب: 63] . وقيل: إنَّ (بَعِيد) صفةٌ لِمَحذوفٍ، أي: بِمَكانٍ بعيدٍ، أو بشيءٍ بعيدٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ

- قولُه: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ فيه حذْفُ ما دَلَّ عليه المقامُ إيجازًا قرآنيًّا بديعًا، والتَّقديرُ: ففارَقوا إبراهيمَ، وذهَبوا إلى لوطٍ عليهما السَّلامُ، فلمَّا جاؤوا لوطًا... إلخ

.

- ومِن بَديعِ تَرتيبِ هذه الجُمَلِ أنَّها جاءتْ على تَرتيبِ حُصولِها في الوجودِ؛ فإنَّ أوَّلَ ما يَسبِقُ إلى نَفْسِ الكارِهِ للأمْرِ أن يُساءَ به، ويَتَطَلَّبَ المخلَصَ من هذا الأمْرِ؛ وذلك قولُه: سِيءَ بِهِمْ، فإذا عَلِم أنَّه لا مَخلَصَ مِنه ضاق به ذَرْعًا، وذلك قولُه: وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، ثمَّ يُصدِرُ- تعبيرًا عن المعاني، وترتيبًا عنه- كلامًا يُريحُ به نفْسَه، وذلك قولُه عليه السَّلامُ: هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ .

- قولُه: وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا كنايةٌ عن شدَّةِ الانقِباضِ؛ للعجْزِ عن مُدافَعةِ المكروهِ والاحتيالِ فيه .

- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ (هودٍ): وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ، وفي سورةِ (العنكبوتِ) قال: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ [العنكبوت: 33] ، فورَدَت آيةُ (العنكبوتِ) بزيادةِ (أنْ) بعد (لَمَّا) بخِلافِ آيةِ هودٍ، ووجهُ ذلك: أنَّ (أنْ) هذه الخفيفةَ كثيرًا ما تُزادُ، وزيادتُها على ضَرْبَين؛ بقياسٍ، وغيرِ قياسٍ؛ فأمَّا الَّتي تُزادُ بقياسٍ فبعدَ (لَمَّا)، ولَمَّا ورَد في آيةِ (هودٍ) قولُه تعالى: وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا، ثمَّ ورَد هذا اللَّفظُ بجُملَتِه في سورةِ (العَنكَبوتِ) مُتكرِّرًا بعَينِه، ورَد أوَّلًا بغيرِ (أنْ) على الأصلِ، وورَد ثانيًا بزيادةِ (أنْ) على الثَّاني؛ لِيَحصُلَ التَّوارُدُ بينَ ما يَرفَعُ تَثاقُلَ اللَّفْظِ المذكورِ مع تَباعُدِ ما بينَ الآيتَينِ؛ وذلك لأنَّه لَمَّا كان اللَّفظُ هو اللَّفْظَ، وكان زيادةُ (أنْ) وعدَمُ زيادتِها هنا هيِّنًا فصيحًا جيء بالجائِزَين معًا، وتأخَّرَت الزِّيادةُ؛ إذ هي غيرُ الأصلِ إلى المتأخِّرِ مِن الآيتَينِ .

2- قولُه تعالى: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ

- قولُه: وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ فيه إسنادُ الفِعلِ إلى القَبيلةِ إذْ فعَله بعضُها؛ إذ التَّقديرُ: جاءه بعضُ قومِه، وإنَّما أُسنِد المجيءُ إلى القومِ؛ لأنَّ مِثلَ ذلك المجيءِ دَأبُهم وقد تَمالَؤوا على مِثلِه، فإذا جاء بعضُهم فسَيَعقُبُه مَجيءُ بعضٍ آخَرَ في وقتٍ آخَرَ .

- قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ جملةُ قَالَ يَا قَوْمِ... مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بيانيًّا ناشئًا عن جملةِ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ؛ إذ قد عَلِم السَّامعُ غرَضَهم مِن مَجيئِهم، فهو بحيث يَسأَلُ عمَّا تلَقَّاهم به .

- وفي افتِتاحِ الكَلامِ بالنِّداءِ وبأنَّهم قومُه بقولِه: يَا قَوْمِ ترقيقٌ لنُفوسِهم عليه؛ لأنَّه يَعلَمُ تَصلُّبَهم في عادَتِهم الفَظيعةِ .

- قولُه: هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ الإشارةُ بـ هَؤُلَاءِ مُستعمَلةٌ في العرْضِ،  وهُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ تعليلٌ للعَرْضِ، وهَؤُلَاءِ إشارةٌ إلى جمعٍ؛ إذ بُيِّن بقولِه: بَنَاتِي، وإطلاقُ البناتِ هنا؛ قيل: هو مِن قَبيلِ التَّشبيهِ البليغِ- لِمَا رُوِي أنَّه لم يَكُنْ له إلَّا ابنَتان- أي: هؤلاءِ نِساؤُهنَّ كبَناتي، وأرادَ نِساءً مِن قومِه بعدَدِ القومِ الَّذين جاؤوا يُهْرَعون إليه فإنَّ قومَه الَّذين حضَروا عِندَه كثيرون، فيكونُ المعنى: هؤلاءِ النِّساءُ فتَزوَّجوهنَّ .

- واسمُ التَّفضيلِ أَطْهَرُ مسلوبُ المفاضَلةِ؛ قُصِد به قوَّةُ الطَّهارةِ .

- قولُه: أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ الاستفهامُ في أَلَيْسَ... للإنكارِ والتَّوبيخِ؛ لأنَّ إهانةَ الضَّيفِ مَسبَّةٌ لا يَفعَلُها إلَّا أهلُ السَّفاهةِ، وقولُه: مِنْكُمْ بمَعنى بَعْضِكم؛ أنكَر عليهم تَمالُؤَهم على الباطِلِ، وانعِدامَ رجُلٍ رَشيدٍ مِن بَينِهم، وهذا إغراءٌ لهم على التَّعقُّلِ؛ لِيَظهَرَ فيهم مَن يتَفطَّنُ إلى فَسادِ ما هم فيه فيَنْهاهم، فإنَّ ظُهورَ الرَّشيدِ في الفئةِ الضَّالَّةِ يَفتَحُ بابَ الرَّشادِ لهم، وبالعَكْسِ تَمالُؤهم على الباطلِ يَزِيدُهم ضَراوةً به .

3- قولُه تعالى: قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ

- جملةُ قَالُوا... فُصِلَت عن الَّتي قبْلَها، ولم تُعْطَفْ علَيها؛ لِوُقوعِها موقِعَ المحاوَرةِ مع لوطٍ عليه السَّلامُ .

- وجملةُ: لَقَدْ عَلِمْتَ... تأكيدٌ لكونِه يَعلَمُ؛ بتَنْزيلِه مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ أنَّه يَعلَمُ؛ لأنَّ حالَه في عرْضِه بَناتِه عليهم كحالِ مَن لا يَعلَمُ خُلقَهم، وكذلك التَّوكيدُ في وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ .

4- قولُه تعالى: قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ

- وجملةُ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ مُبيِّنةٌ لإجمالِ جملةِ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ؛ فلذلك فُصِلَت فلم تُعطَفْ على الَّتي قَبْلَها؛ لأنَّها بمَنزِلَةِ عطْفِ البيانِ، وهي موضِّحةٌ للَّتي قبْلَها؛ لأنَّهم إذا كانوا رسُلَ اللهِ لم يَصِلوا إليه، ولم يَقْدِروا على ضَررِه، وجيءَ بحرْفِ تأكيدِ النَّفْيِ (لَن)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم خاطَبوه بما يُزيلُ الشَّكَّ مِن نفْسِه .

- قولُه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الفاءُ لِتَرتيبِ الأمْرِ بالإسراءِ على الإخبارِ برِسالَتِهم، المؤْذِنَةِ بوُرودِ الأمرِ والنَّهْيِ مِن جَنابِه عزَّ وجلَّ إليه عليه السَّلامُ ، وتَفْريعُ الأمْرِ بالسُّرَى على جُملةِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ؛ لِمَا في حرْفِ (لَن) مِن ضَمانِ سَلامتِه في المستقبَلِ؛ فلمَّا رأى ابتِداءَ سَلامتِه منهم بانصِرافِهم؛ حَسُن أن يُبيِّنَ له وجْهَ سَلامتِه في المستقبَلِ منهم باستِئْصالِهم وبِنَجاتِه، فذلك موقِعُ فاءِ التَّفريعِ .

- جملةُ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ استئنافٌ بيانيٌّ ناشِئٌ عن الاستثناءِ مِن الكلامِ المقدَّرِ، وفيه استِعْمالُ فِعْلِ المضِيِّ مَا أَصَابَهُمْ في مَعْنى الحالِ، ومُقتَضى الظَّاهرِ أن يُقالَ: (ما يُصيبُهم)؛ فاستِعْمالُ فِعلِ المُضِيِّ لِتَقريبِ زمَنِ الماضي مِن الحالِ، أو في مَعْنى الاستقبالِ؛ تَنْبيهًا على تَحقُّقِ وُقوعِه، نحوُ قولِه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] .

- وأيضًا في جُملَةِ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ تَفْخيمُ شأنِ ما أصابَهم؛ إذِ الضَّميرُ في إِنَّهُ للشَّأنِ، وقولُه تعالى: مُصِيبُهَا خبرٌ، وقولُه: مَا أَصَابَهُمْ مُبتدَأٌ، والجملةُ خبَرٌ لـ(إِنَّ) الَّذي اسمُه ضميرُ الشَّأنِ .

- وجملةُ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ، قُطِعَت عن الَّتي قبْلَها- أي: فُصِلَت ولم تُعْطَفْ عليها-؛ اهتِمامًا وتَهويلًا .

- قولُه: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ جملةُ استِئْنافٍ بيانيٍّ؛ صدَر مِن الملائكةِ جَوابًا عن سُؤالٍ يَجيشُ في نفْسِه مِن استِبْطاءِ نُزولِ العذابِ، والاستفهامُ في قولِه: أَلَيْسَ تقريريٌّ؛ ولذلك يقَعُ في مِثلِه التَّقريرُ على النَّفيِ إرخاءً للعِنانِ مع المخاطَبِ المقرَّرِ؛ لِيَعرِفَ خطَأَه .

- وأيضًا هذه الجملةُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فيها إرسالُ المثَلِ أو التَّمثيلِ، وهو فَنٌّ يُمكِنُ تَعريفُه بأن يَكونَ ما يُخرِجُه المتكلِّمُ سارِيًا مَسيرَ الأمثالِ السَّائرةِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ (هودٍ): قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ، وقال في سورةِ (الحِجْرِ): فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65] ؛ فاستَثْنى في سورةِ (هودٍ) مِن قولِه تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قولَه: إِلَّا امْرَأَتَكَ، ولم يَستَثنِ ذلك في سورةِ (الحِجرِ)، ووجهُ هذه المناسَبةِ: أنَّ الاستِثْناءَ في سورةِ (الحِجْرِ) أغْنى مِنه قولُه تعالى فيما حَكى عن الرُّسلِ: إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [الحجر: 58 - 60] ، فهذا الاستثناءُ الَّذي لم يقَعْ مِثلُه في سورةِ (هودٍ) أغنى عن الاستثناءِ في قولِه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ .

- ومِن المناسبةِ أيضًا، أنَّه قال في سورةِ الحجرِ: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ [الحجر: 65] ، وترَكه هنا في سُورةِ هودٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه لَمَّا اقتَصَّ في هذه السُّورةِ بعضَ ما اقتَصَّ في الأُخرَى؛ فذَكَر أنَّ الرُّسُلَ قالوا له: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، والمعنى: لن يَصِلوا إليك وإلى المؤمِنين مِن أهلِك، قيَّد ذلك في قولِه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ بأنْ أمَروه بإخراجِ أهلِه مِن بينِ أظهُرِهم ليلًا مِن غيرِ أن يُعرِّجَ أحدٌ منهم على شيءٍ خلْفَه يَعُوقُه عن المضيِّ إلى حيث ما أُمِر به، ولَمَّا قال في سورةِ الحجرِ: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ [الحجر: 59-60] إخبارًا عن الرُّسلِ أنَّهم خاطَبوا إبراهيمَ عليه السَّلامُ به، ثمَّ أخبَر عن مُخاطَبتِهم لوطًا في هذه السُّورةِ بما يُضاهي قولَهم لإبراهيمَ عليه السَّلامُ، حيث أردَفوا قولَهم له: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقولِهم: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ [الحجر: 65] ؛ لأنَّه إذا ساقَهم وكان مِن وَرائِهم، كان تحقيقًا لِخبَرِهم أنَّهم مُنجُّوهم أجمَعين، فزِيدَ: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ؛ لِتُجاوِبَ مُخاطبَتُهم له مُخاطبَتَهم لإبراهيمَ عليه السَّلامُ بسبَبِه .

- وأيضًا قال في سورةِ (الحِجْرِ): وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65] ، ولم يَذكُرْه في سورةِ (هودٍ)؛ وذلك أنَّ قولَه في سورةِ (الحِجْرِ): وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ [الحجر: 65] زيادةُ إخبارٍ بما ليس في سورةِ هودٍ، وقد تأخَّرَت سورةُ الحجرِ عنها؛ فوَفَّت بما لم يُذكَرْ في سورةِ هودٍ .

5- قولُه تعالى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ

- قولُه: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا فيه الاقتِصارُ على ذِكْرِ جَعْل العالي سافِلًا، حيث جُعل عالِيها مَفعولًا أوَّلَ للجَعْلِ، وسافِلُها مَفعولًا ثانيًا له، وإنْ تَحقَّق القلبُ بالعَكْسِ أيضًا؛ لأنَّه أَدخَلُ في الإهانةِ، وأيضًا لِتَهويلِ الأمرِ، وتفظيعِ الخَطْبِ؛ لأنَّ جَعْلَ عالِيها- الَّذي هو مَقارُّهم ومَساكِنُهم- سَافِلَها أشَدُّ عليهم وأشَقُّ مِن جَعْلِ سافِلِها عالِيَها، وإن كان مُستلزِمًا له .

- وفي قولِه: جَعَلْنَا ووَأَمْطَرْنَا إسنادُ الجَعْلِ والإمطارِ إلى ضَميرِه سبحانه باعتبارِ أنَّه المسبِّبُ لِتَفخيمِ الأمرِ، وتَهويلِ الخطْبِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ (هودٍ): فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، وفي سورةِ (الحِجْرِ) قال: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: 74] ؛ ففي الأُولَى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهَا، والضَّميرُ للقريةِ، والمرادُ أهلُها، وفي الثَّانيةِ: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ، والضَّميرُ لِقَومِ لوطٍ، فاختَلَف الضَّميرُ مع اتِّحادِ المقصودِ، ووجهُ ذلك: أنَّ كُلًّا مِن الموضوعَين مُراعًى فيه مُناسَبةُ ما تَقدَّمَه؛ فلمَّا تقدَّم آيةَ (الحِجْرِ) قولُه تعالى: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الحجر: 58] ، فذكَر قومَ لوطٍ موصوفِين بالإجرامِ الموجِبِ لِهَلاكِهم، فرُوعِيَ هذا المتقدِّمُ، فقيل: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ [الحجر: 74] ، ونَظيرُ هذا قولُه تعالى في سورةِ (الذَّارياتِ): قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: 32- 33]، فقيل: عَلَيْهِمْ لَمَّا تَقدَّم قولُه: إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، وأمَّا آيةُ (هودٍ) فلم يتَقدَّمْ فيها مثلُ هذا، فاكتَفى بضَميرِ القَريةِ، فقيل: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا [هود: 82] ، وأغنى ذلك عن ذِكْرِ المهلَكين؛ إذ هم المقصودون بالعذابِ؛ فورَد كلٌّ على ما يُناسِبُ .

======

 

سورة هود

الآيات (84-86)

ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات:

 

تَبْخَسُوا: أي: تَنْقُصُوا، وتَظْلِموا، والبَخْسُ: نقص الشيء على سبيل الظلم، وأصلُ (بخس): نقص

.

تَعْثَوْا: العثوُّ أشدُّ الفَسادِ، وأصلُ (عثي): يدُلُّ على فَسادٍ .

بَقِيَّتُ اللَّهِ: أي: ما يُبقيه اللهُ لكم، وأصلُ (بقي): يدلُّ على دَوامٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبرُ اللهُ تعالى أنَّه أرسلَ إلى مَدْينَ أخاهم في النَّسَبِ شُعَيبًا، فقال: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم مِن إلهٍ يستحِقُّ العبادةَ غيرُه جلَّ وعلا، فأخلِصوا له العبادةَ، ولا تنقُصوا النَّاسَ حُقوقَهم في مَكاييلِهم ومَوازينِهم، إنِّي أراكم في سَعَةِ عَيشٍ، وإنِّي أخاف عليكم- بسبَبِ شِركِكم، وإنقاصِكم المكيالَ والميزانَ- عذابَ يومٍ يُحيطُ بكم، ويا قومِ أتِمُّوا المكيالَ والميزانَ بالعَدلِ، ولا تَنقُصوا النَّاسَ حَقَّهم، ولا تَسيروا في الأرضِ تَعملونَ فيها بمعاصي اللهِ ونَشرِ الفَسادِ، إنَّ ما يبقَى لكم بعدَ إيفاءِ الكَيلِ والميزانِ مِن الرِّبحِ الحلالِ خيرٌ لكم ممَّا تأخذونَه بالتَّطفيفِ ونَحوِه من الكَسبِ الحَرامِ، إن كُنتُم تؤمِنونَ باللهِ حَقًّا، فامتَثِلوا أمْرَه، وما أنا عليكم برقيبٍ أُحصي عليكم أعمالَكم.

تفسير الآيات:

 

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا انتَهَت قصَّةُ لوطٍ عليه السَّلامُ مُعلِمةً لِما قام به مِن أمرِ اللهِ غيرَ وانٍ فيه لرغبةٍ ولا رهبةٍ، وبما في إنزالِ الملائكةِ مِن الخطَرِ- أُتِبَعت أقربَ القصَصِ الشَّهيرةِ إليها في الزَّمَن

.

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا.

أي: وأرسَلْنا إلى أهلِ مَدينَ أخاهم في النَّسَبِ شُعَيبًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ.

أي: قال: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه لا شريكَ له، ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غيرُه .

وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا دعا إلى العدلِ فيما بينَهم وبينَ الله، دعاهم إلى العدلِ فيما بينَهم وبينَ عَبيدِه في أقبَحِ ما كانوا قد اتَّخَذوه بعدَ الشِّركِ دَيدنًا، فقال :

وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ.

أي: ولا تنقُصوا النَّاسَ حُقوقَهم في الكَيلِ والوَزنِ لهم .

إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ .

أي: إنِّي أراكم في سَعةٍ مِن الرِّزقِ، وكثرةِ نِعَمٍ، وخَيرٍ في معيشتِكم، فاشكُروا الله على ذلك .

وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ.

أي: وإنِّي أخافُ عليكم- بسبَبِ شِركِكم، وبَخسِكم حقوقَ النَّاسِ- أن يَنزِلَ بكم عذابُ يومٍ يحيطُ بكم، فلا يُفلِتُ منه أحدٌ .

وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان عدمُ النَّقصِ قد يُفهَمُ منه التَّقريبُ، أتبَعَه بما ينفي هذا الاحتمالَ، وللتَّنبيهِ على أنَّه لا يكفي الكفُّ عن تعمُّدِ التَّطفيفِ، بل يلزمُ السَّعيُ في الإيفاءِ، ولو بزيادةٍ لا يتأتَّى بدونِها .

وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ.

أي: ويا قومِ أتمُّوا للنَّاسِ حُقوقَهم في الكَيلِ والوَزنِ لهم بالعَدلِ، مِن غيرِ نَقصٍ .

وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ.

أي: ولا تَنقُصوا النَّاسَ مِن حُقوقِهم شَيئًا .

وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ.

أي: ولا تَسيروا في الأرض ِبمَعصيةِ اللهِ، والإضرارِ بالخَلقِ .

بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86).

بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.

أي: قال شُعَيبٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لِقَومِه: ما يُبقيه اللهُ لكم بعد أن تُوَفُّوا النَّاسَ حُقوقَهم خيرٌ لكم من الحرامِ الذي تَجمَعونَه بظُلمِ النَّاسِ، شريطةَ أن تكونوا مؤمنينَ بما جئتُكم به .

كما قال تعالى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة: 100] .

وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ.

أي: وما أنا برقيبٍ عليكم عند كيلِكم ووَزنِكم، وليس عليَّ حفظُ أعمالِكم، وإنَّما عليَّ إبلاغُكم رسالةَ اللهِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- الأنبياءُ عليهم السَّلامُ يَشرَعونَ في أوَّلِ الأمرِ بالدَّعوةِ إلى التوحيدِ؛ فلهذا قال شعيبٌ عليه السَّلامُ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ثمَّ إنَّهم بعد الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ، يَشرَعونَ في الأهمِّ ثمَّ الأهمِّ، ولَمَّا كان المعتادُ مِن أهلِ مَدْينَ البَخسَ في المكيالِ والميزانِ، دعاهم إلى تركِ هذه العادةِ في قولِه: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ

.

2- قولُ الله تعالى: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ سلكَ شعيبٌ عليه السَّلامُ في نهيِهم عن الفَسادِ مَسلَك التدرُّجِ، وهذا من أساليبِ الحِكمةِ في تهيئةِ النُّفوسِ بقَبولِ الإرشادِ والكَمالِ، فابتدأ بنَهيِهم عن نوعٍ مِن الفسادِ فاشٍ فيهم، وهو التَّطفيفُ، ثمَّ ارتقَى فنهاهم عن جِنسِ ذلك النَّوعِ، وهو: أكلُ أموالِ النَّاسِ، ثمَّ ارتقَى فنهاهم عن الجِنسِ الأعلى للفَسادِ الشَّاملِ لجميعِ أنواعِ المفاسدِ، وهو: الإفسادُ في الأرضِ كُلُّه .

3- قولُ الله تعالى: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ أي: فلا تتَسَبَّبوا إلى زوالِه بفِعلِكم، ففيه أنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العمَلِ، فمَن بخسَ أموالَ النَّاسِ، يريدُ زيادةَ مالِه؛ عوقِبَ بنقيضِ ذلك، وكان سببًا لزوالِ الخيرِ الذي عندَه مِن الرِّزقِ .

4- قولُ الله تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ فيه أنَّ على العبدِ أن يقنَعَ بما آتاه اللهُ، ويقنعَ بالحلالِ عن الحرامِ، وبالمكاسبِ المُباحةِ عن المكاسبِ المحرَّمةِ، وأنَّ ذلك خيرٌ له؛ ففي ذلك من البَرَكةِ، وزيادةِ الرِّزقِ ما ليس في التكالُبِ على الأسبابِ المحرَّمةِ مِنَ المَحْقِ، وضِدِّ البَرَكةِ .

5- قولُ الله تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه أنَّ القناعةَ بالحلالِ عن الحرامِ، وبالمكاسبِ المباحةِ عن المكاسبِ المحرمةِ مِن لوازمِ الإيمانِ وآثارِه؛ فإنَّه رتَّبَ العملَ به على وجودِ الإيمانِ، فدَلَّ على أنَّه إذا لم يوجَدِ العمَلُ، فالإيمانُ ناقِصٌ أو معدومٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ دعاءُ شُعَيبٍ إلى عبادةِ اللهِ يقتضي أنَّهم كانوا يعبُدونَ الأوثانَ، وذلك بيِّنٌ مِن قَولِهم فيما بعدُ، وكُفرُهم هو الذي استوجَبوا به العذابَ لا معاصيهم؛ فإنَّ الله لم يعذِّبْ قطُّ أُمَّةً (عذابَ استئصالٍ عامٍّ) إلَّا بالكُفرِ، فإن انضافَت إلى ذلك معصيةٌ كانت تابعةً

.

2- قولُ الله تعالى: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ هذا النَّهيُ يتضمَّنُ الأمرَ بالإيفاءِ، وصرَّحَ به بعدُ في قولِه: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وهو يتضمَّنُ النَّهيَ عن النَّقصِ، ففي ذلك تأكيدٌ على الحَثِّ على عدمِ البَخسِ، وعلى الحثِّ على العدلِ .

3- قولُ الله تعالى: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ فيه أنَّ نَقصَ المكاييلِ والموازينِ مِن كبائرِ الذُّنوبِ، وتُخشَى العقوبةُ العاجلةُ على مَن تعاطَى ذلك، وأنَّ ذلك مِن سَرِقةِ أموالِ النَّاسِ، وإذا كانت سَرِقتُهم في المكاييلِ والموازينِ مُوجِبةً للوعيدِ، فسَرِقتُهم على وجهِ القَهرِ والغَلَبةِ مِن بابِ أَولَى وأحرَى .

4- قولُ الله تعالى: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ فيه أنَّ الكفَّارَ كما يُعاقَبونَ ويُخاطَبونَ بأصلِ الإسلامِ، فكذلك بشَرائِعِه وفروعِه؛ لأنَّ شُعَيبًا عليه السَّلامُ دعا قومَه إلى التَّوحيدِ، وإلى إيفاءِ المكيالِ والميزانِ، وجعلَ الوعيدَ مُرَتَّبًا على مجموعِ ذلك .

5- في قولِه تعالى: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بيَّن أنَّ ما فعلوه كان بَخسًا للنَّاسِ أشياءَهم؛ وأنَّهم كانوا عاثينَ في الأرضِ مُفسِدينَ قبل أن ينهاهم، بخلافِ قولِ «المُجْبرةِ» أنَّ ظُلمَهم ما كان سيِّئةً إلَّا لَمَّا نهاهم، وأنه قَبلَ النَّهيِ كان بمنزلةِ سائرِ الأفعالِ مِن الأكلِ والشُّربِ وغيرِ ذلك، كما يقولونَ في سائرِ ما نهت عنه الرسُلِ مِن الشِّركِ والظُّلمِ والفواحشِ .

6- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قيَّدَه بقَصدِ الإفسادِ؛ لأنَّ بعضَ ما هو إفسادٌ في الظَّاهرِ قد يرادُ به الإصلاحُ، أو دَفعُ أخَفِّ الضَّرَرينِ، كالذي يقعُ في الحربِ مِن قَطعِ الأشجارِ، أو فَتحِ سُدودِ الأنهارِ، أو إحراقِ بعضِ الأشياءِ بالنَّارِ، ومنه خَرقُ الخَضِر للسَّفينةِ التي كانت لمساكينَ يعمَلونَ في البَحرِ؛ لِمنعِ المَلِك الظَّالمِ الذي وراءَهم .

7- قولُ الله تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ لفظُ بَقِيَّتُ كلمةٌ جامعةٌ لمعانٍ في كلامِ العرَبِ، منها: الدَّوامُ، ومُؤذِنةٌ بضِدِّه وهو: الزَّوالُ، فأفادت أنَّ ما يقتَرِفونَه متاعٌ زائِلٌ، وما يَدعوهم إليه حظٌّ باقٍ غيرُ زائلٍ، وبقاؤُه دُنيويٌّ وأخرويٌّ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ

- قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا استِئْنافٌ وقَع جَوابًا عن سؤالٍ نشَأ عن صدرِ الكلامِ، فكأنَّه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل: قال كما قال مَنْ قبلَه مِن الرُّسلِ عليهم السَّلامُ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ

.

- قولُه: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ تحقيقٌ للتَّوحيدِ، وتعليلٌ للأمرِ به .

- قال تعالى: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ...، ثم قال بعد ذلك: وَيَا قَوْمِ أوْفُوا المِكْيالَ والمِيزَانَ بِالقِسْطِ فقدَّمَ النَّهيَ على الأمرِ؛ لأنَّ دفْعَ المفاسدِ آكَدُ مِن جلْبِ المصالحِ .

- قولُه: إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ: جملةٌ تعليليَّةٌ للنَّهيِ عن نقْصِ المكيالِ والميزانِ، أي: إنَّكم في غِنًى عن هذا التَّطفيفِ بما أُوتيتُم مِن النِّعمةِ والثَّرْوةِ، وهذا التَّعليلُ يَقْتَضي قُبحَ ما يَرتكِبونه مِن التَّطفيفِ في نظَرِ أهْلِ المُروءةِ، ويَقطَعُ مِنهم العُذرَ في ارتِكابِه، وهذا حَثٌّ على وسيلةِ بَقاءِ النِّعمةِ ؛ ونبَّه بقولِه: بِخَيْرٍ على العلَّةِ المقتضِيَةِ للوفاءِ لا للنَّقصِ .

- قولُه: عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ فيه وصْفُ اليومِ بالإحاطةِ، وهو أبلَغُ مِن وصْفِ العذابِ به؛ لأنَّ اليومَ زَمانٌ يَشتمِلُ على الحوادثِ، فإذا أحاط بعَذابِه فقد اجتمَع للمُعذَّبِ ما اشتمَل عليه منه، كما إذا أحاط بنَعيمِه ، وفيه أيضًا ارتِقاءٌ في تعليلِ النَّهيِ بأنَّه يَخافُ عليهم عَذابًا يَحِلُّ بهم؛ إمَّا يومَ القيامةِ وإمَّا في الدُّنيا، ولِصُلوحيَّتِه للأمْرَينِ أجمَلَه بقولِه: عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، وهذا تحذيرٌ مِن عَواقِبِ كُفْرانِ النِّعمةِ، وعِصْيانِ واهِبِها .

2- قولُه تعالى: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

- قولُه: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ فيه إعادةُ النِّداءِ في جُملةِ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ؛ لزِيادةِ الاهتمامِ بالجُمْلةِ، والتَّنبيهِ لِمَضمونِها، وهو الأمرُ بإيفاءِ المكيالِ والميزانِ .

- قولُه: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ فيه تصريحٌ بالأمرِ بالإِيفاءِ بعدَ النَّهيِ عن ضدِّه، وهو قولُه: وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ؛ مبالَغةً وتنبيهًا على أنَّه لا يَكْفيهم الكفُّ عن تَعمُّدِهم التَّطفيفَ، بل يَلزَمُهم السَّعيُ في الإِيفاءِ؛ فهذا الأمرُ تأكيدٌ للنَّهيِ عن نَقصِهما، والشَّيءُ يُؤكَّدُ بنفيِ ضدِّه؛ لزيادةِ التَّرغيبِ في الإيفاءِ بطلَبِ حُصولِه بعدَ النَّهيِ عن ضدِّه، كقولِه تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه: 79] .

- وعبَّر بقولِه: بِالْقِسْطِ؛ لِيَكونَ الإيفاءُ على جِهَةِ العدلِ والتَّسويةِ وهو الواجبُ؛ لأنَّ ما جاوزَ العدلَ فضلٌ، وأمرٌ مندوبٌ إليه .

- قولُه: مُفْسِدِينَ حالٌ مُؤكِّدةٌ لِعامِلِها تَعْثَوْا؛ مُبالَغةً في النَّهيِ عن الفسادِ .

- وأيضًا في قولِه: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حصَل النَّهيُ عن الأعَمِّ بعدَ النَّهيِ عن العامِّ، وبه حصَلَت خَمسةُ مُؤكِّداتٍ: أوَّلُها: الأمرُ بعدَ النَّهيِ عن الفسادِ الخاصِّ، ثانيها: التَّعميمُ بعدَ التَّخصيصِ، ثالِثُها: زيادةُ التَّعميمِ، رابعًا: تأكيدُ التَّعميمِ الأعَمِّ بتعميمِ المكانِ، خامِسُها: تأكيدُه بالمؤكِّدِ اللَّفظيِّ .

3- قوله تعالى: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ

- قولُه: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، أي: افْعَلوا ذلك باختيارِكم؛ لأنَّه لِصَلاحِكم، ولَسْتُ مُكْرِهَكم على فِعْلِه، والمقصودُ من ذلك استِنْزالُ طائرِهم لئلَّا يَشمئِزُّوا مِن الأمرِ، وهذا استقصاءٌ في التَّرغيبِ، وحُسْنِ الجدالِ .

- قولُه: بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه إضافةُ بَقِيَّتُ إلى اسْمِ الجلالةِ على المعاني كلِّها جَمْعًا وتفريقًا، إضافةَ تَشريفٍ وتيَمُّنٍ، وهي إضافةٌ على معنى اللَّامِ؛ لأنَّ البقيَّةَ مِن فضْلِه أو ممَّا أمَر به .

- وفي قولِه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ جاء باسْمِ الفاعلِ مُؤْمِنِينَ الَّذي هو حقيقةٌ في الاتِّصافِ بالفعلِ في زَمانِ الحالِ؛ تقريبًا لإيمانِهم بإظهارِ الحِرْصِ على حُصولِه في الحالِ، واستعجالًا بإيمانِهم؛ لِئَلَّا يَفْجَأَهمُ العذابُ فيَفُوتَ التَّدارُكُ .

======

 

سورة هود

الآيات (87-90)

ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ

غريب الكلمات:

 

يَجْرِمَنَّكُمْ: يَحمِلنَّكم أو يُكسِبنَّكم، وأصلُ (جرم): يدلُّ على قَطعٍ

.

شِقَاقِي: أي: عداوتي، أو مُخالفتي، وأصلُ (شقق): يدُلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ

أَنْ نَفْعَلَ: مصدرٌ مُؤَوَّلٌ في محلِّ نَصبٍ عطفًا على (ما) في مَا يَعْبُدُ، والتَّقديرُ: أصلاتُك تأمُرُك أن نترُكَ ما يعبُدُ آباؤُنا، أو أن نترُكَ أن نفعَلَ في أموالِنا ما نشاءُ، وليس بمعطوفٍ على أَنْ نَتْرُكَ؛ إذ ليس المعنى: أصلاتُك تأمُرُك أن نفعَلَ في أموالِنا ما نشاءُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

تُبَيِّنُ الآياتُ ما ردَّ به قومُ شُعَيبٍ عليه، فقالوا له: يا شُعَيبُ أهذه الصَّلاةُ التي تُداوِمُ عليها تأمُرُك بأن نترُكَ ما يعبُدُ آباؤنا من الأصنامِ والأوثانِ، أو أن نترُكَ التصَرُّفَ في كَسبِ أموالِنا بما نستطيعُ مِن احتيالٍ ومكرٍ؟ وقالوا- استهزاءً به-: إنَّك لأنت الحليمُ الرَّشيدُ، فقال لهم: يا قومِ أرأيتُم إن كنتُ على طريقٍ واضحٍ مِن ربِّي فيما أدعوكم إليه مِن إخلاصِ العِبادةِ له، وفيما أنهاكم عنه مِن ظُلمِ النَّاسِ، ورزَقَني منه رِزقًا واسِعًا حلالًا طَيِّبًا، أفأضِلُّ كما ضَلَلتُم؟ وما أريدُ أن أخالِفَكم فأرتكِبَ أمرًا نهيتُكم عنه، وما أريدُ فيما آمُرُكم به وأنهاكم عنه إلَّا إصلاحَكم قَدْرَ طاقتي واستطاعَتي، وما توفيقي- في إصابةِ الحَقِّ، ومحاولةِ إصلاحِكم- إلَّا باللهِ، على اللهِ وَحْدَه توكَّلتُ، وإليه أرجِعُ بالتَّوبةِ والإنابةِ، ويا قومِ لا تحمِلنَّكم عداوتي وبُغضي ومُخالفتي في ديني على العنادِ والإصرارِ على ما أنتم عليه من الكُفرِ باللهِ، فيُصيبَكم مثلُ ما أصاب قومَ نوحٍ أو قومَ هودٍ أو قومَ صالحٍ مِن الهلاكِ، وما قومُ لوطٍ- الذين حلَّ بهم العذابُ- ببَعيدٍ منكم لا في الدَّارِ ولا في الزَّمانِ، واطلُبوا من ربِّكم المغفرةَ لذُنوبِكم، ثمَّ ارجِعوا إلى طاعتِه واستمِرُّوا عليها؛ إنَّ ربِّي رحيمٌ كثيرُ المودَّةِ والمحبَّةِ لِمَن تاب إليه وأناب.

تفسير الآيات:

 

قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87).

قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا.

أي: قال قومُ شُعَيبٍ مُستهزئينَ بنبيِّهم: يا شُعيبُ، أصلاتُك

تأمُرُك أن نترُكَ ما يعبُدُ آباؤُنا من الأوثانِ والأصنامِ ؟!

أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء.

أي: أو تأمُرُك صلاتُك أن نترُكَ فِعلَ ما نريدُ في أموالِنا من التَّطفيفِ في الكَيلِ والميزانِ ؟!

إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ.

أي: قال قومُ شُعَيبٍ مُستهزئينَ بنبيِّهم: إنَّك- يا شُعَيبُ- لأنت الحليمُ الرَّشيدُ في أمرِك لنا بتَركِ عبادةِ الأصنامِ، وتَركِ بَخسِ النَّاسِ، يعنونَ بذلك وصفَه عليه السَّلامُ بالسَّفَهِ والجَهلِ !

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا اتَّهمَ قومُ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ شُعَيبًا بأنه يأمرهم بالقطيعةِ لآبائهم واتهموه بالسَّفَهِ، وعَنوا بقولِهم: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ نسبتَه إلى السفهِ والغيِّ على طريقِ التهكمِ؛ شرعَ في إبطالِ ما قالوا، ونَفيِ التُّهمةِ فيه .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا.

أي: قال شُعَيبٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: يا قومِ أخبِروني إن كنتُ على يقينٍ وعلمٍ مِن الله فيما أمَرَني أن أدعوَكم إليه من توحيدِه، وفيما أنهاكم عنه مِن ظُلمِ النَّاسِ، وأعطاني اللهُ مِن فَضلِه مالًا حلالًا طيِّبًا، أفأتَّبِعُ الضَّلالَ، وأضِلُّ كما ضَلَلتُم ؟

وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ.

أي: وما أريدُ أن أنهاكم عن شيءٍ ثمَّ أفعلَ خِلافَه .

عن أسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((يُؤْتَى بالرَّجُلِ يومَ القيامةِ فيُلقى في النَّارِ، فتندلِقُ أقتابُ بَطنِه ، فيدورُ بها كما يدورُ الحِمارُ بالرَّحى، فيَجتَمِعُ إليه أهلُ النَّارِ، فيقولونَ: يا فلانُ، ما لك؟! ألم تكُن تأمُرُ بالمعروفِ وتنهى عن المُنكَر؟! فيقولُ: بلى، قد كنتُ آمُرُ بالمعروفِ ولا آتيه، وأنهى عن المُنكَرِ وآتيه )) .

إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ.

أي: ما أُريدُ بنصيحتي لكم إلَّا إصلاحَ أمورِكم وأحوالِكم، ونَفْعَكم في دُنياكم وآخِرتِكم بقَدرِ جُهدِي .

وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان الكلامُ السَّابِقُ فيه نوعُ تَزكيةٍ للنَّفسِ، دفَعَ هذا بقولِه :

وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ.

أي: وما إصابتي الحَقَّ فيما أريدُه، وتيسُّرُ الخيرِ لي، إلَّا بإعانةِ اللهِ وَحدَه .

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.

أي: على اللهِ اعتمَدتُ، وفوَّضتُ إليه جميعَ أموري، وإليه وَحْدَه أرجِعُ بالتَّوبةِ والطَّاعةِ والدُّعاءِ .

وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (89).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا بيَّن شُعَيبٌ عليه السَّلامُ لِقَومِه عُذرَه بما انتَفَت به تُهمتُه، أتبَعَه بما يدُلُّهم على أنَّ الحَقَّ وضَحَ لهم وضوحًا لم يبقَ معه إلَّا المُعاندةُ، فحَذَّرَهم عواقِبَها، وذكَّرَهم أمرَ مَن ارتكَبَها .

وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ.

أي: قال شُعيبٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لِقَومِه: ويا قومِ لا تحمِلَنَّكم مُخالفتي في ديني، وبُغضُكم لي، على الإصرارِ على الكُفرِ، وظُلمِ النَّاسِ، فيُصيبَكم مِن عذابِ اللهِ مثلُ ما أصاب قومَ نُوحٍ مِن الغرَقِ، أو قومَ هُودٍ مِن الرِّيحِ، أو قومَ صالحٍ مِن الرَّجفةِ .

وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ.

أي: وما قومُ لوطٍ ببعيدٍ مِنكم، بل هم قريبٌ مِن ديارِكم، وأهلَكَهم اللهُ في زمانٍ قريبٍ مِن زمانِكم، فاعتَبِروا بهم .

وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا رهَّبَ شُعَيبٌ عليه السَّلامُ قَومَه، أتبَعَه التَّرغيبَ في سياقٍ مُؤذِنٍ بأنَّهم إن لم يبادِروا إلى المَتاب، بادَرَهم بالعذاب .

وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ.

أي: واستَغفِروا ربَّكم- يا قومِ- فاطلُبوا منه سَترَ ذُنوبِكم السَّالفةِ مِن الكُفرِ وظُلمِ النَّاسِ، والتَّجاوُزَ عن مؤاخَذتِكم بذلك، ثم توبُوا إلى ربِّكم فيما تَستَقبِلونَه؛ بالتَّوبةِ النَّصوحِ، والرُّجوعِ إلى طاعتِه، وامتثالِ أمرِه، وتَركِ مَعصيتِه .

إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ.

أي: إنَّ ربِّي رحيمٌ بمن رجع إليه، محِبٌّ لعبادِه المُنيبينَ التَّائبينَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قولُ الله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ نبَّهَت هذه الأجوبةُ الثَّلاثةُ على أنَّ العاقِلَ يجِبُ أن يُراعيَ في كلِّ ما يأتي ويذَرُ أحدَ حُقوقٍ ثلاثةٍ؛ أهمُّها وأعلاها: حقُّ اللهِ، وثانيها: حقُّ النَّفسِ، وثالثُها: حقُّ العبادِ، على وجهِ الإخلاصِ في الكُلِّ

.

2- في قولِه تعالى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إشارةٌ إلى أنَّ الواعظَ إذا أراد أن يُقبَلَ منه الأمرُ والنَّهيُ، فلا بدَّ له إذا أَمَرَ بشيءٍ أن يكونَ أوَّلَ الفاعلينَ له المُؤتَمِرينَ به، وإذا نهى عن شيءٍ أن يكونَ أوَّلَ المُنتهينَ عنه؛ لأنَّ النُّفوسَ مَجبولةٌ على عدمِ الانتفاعِ بكلامِ مَن لا يعملُ بعلمِه، ولا يَنتَفِعُ به .

3- قولُ الله تعالى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ فيه ما يدُلُّ على أنَّ المُنتَقدينَ قِسمانِ: قسِمٌ ينتَقِدُ الشَّيءَ، ويقِفُ عند حدِّ النَّقدِ دون ارتقاءٍ إلى بيانِ ما يُصلِحُ المَنقودَ، وقِسمٌ ينتقِدُ ليبيِّنَ وجهَ الخطأ، ثم يُعقِبُه ببيان ما يُصلِحُ خَطأَه .

4- قولُ الله تعالى: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ هذه الصيغةُ تفيدُ الحصرَ، فلا ينبغي للإنسانِ أن يتوكَّلَ على أحدٍ إلَّا على الله تعالى .

5- قَولُ الله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ فيه دليلٌ على أنَّ النَّدمَ على فِعلِ الفَسادِ والظُّلمِ- بالتَّوبةِ واستغفارِ الرَّبِّ تعالى- من أسبابِ خيرِ الدُّنيا والآخرةِ .

6- في قَولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ بيانُ أنَّ وُدَّه سُبحانه هو لِمَن تابَ إليه وأنابَ، فلا يَستوحِش أهلُ الذُّنوبِ، ويَنفَرِونَ منه؛ فإنَّه ودودٌ رحيمٌ بالمؤمنينَ، يحبُّ التَّوابين ويحِبُّ المتطهِّرينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ سمَّوه باسمِه جفاءً وغِلظةً

.

2- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا لَمَّا كانت الصلاةُ أخَصَّ أعمالِه المُخالفةِ لمُعتادِهم، جعلوها المُشيرةَ عليه بما بلَّغَه إليهم من أمورٍ مُخالِفةٍ لمُعتادِهم .

3- قال الله تعالى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ المقصودُ: بيانُ أنَّه مأمورٌ بذلك أمرًا يعُمُّ الأُمَّةَ وإيَّاه، وذلك شأنُ الشَّرائعِ، فخِطابُ الأمَّةِ يشمَلُ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ما لم يدُلَّ دليلٌ على تخصيصِه بخلافِ ذلك، ففي هذا إظهارُ أنَّ ما نهاهم عنه ينهى أيضًا نفسَه عنه .

4- في قولِه تعالى: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ دلالةٌ على أنَّه يُشترطُ فيمَن يَختارُ الإمامُ لمنصبِ الحِسْبَةِ أنْ يكونَ مُخلِصًا متجرِّدًا للنُّصحِ، فلا تكونُ له مصلحةٌ شخصيَّةٌ فيما يأمرُ أو يَنهى عنه، وإنَّما تكونُ غايتُه الإصلاحَ .

5- جَمَعَ قولُه تعالى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ بين الأصلينِ: التوكُّلِ (وهو الوسيلةُ)، وبين الإنابةِ (وهي الغايةُ)؛ فإنَّ العبدَ لا بُدَّ له مِن غايةٍ مطلوبةٍ، ووسيلةٍ مُوصلةٍ إلى تلك الغايةِ، فأشرفُ غاياتِه التي لا غايةَ له أَجَلُّ منها: عبادةُ ربِّه والإنابةُ إليه، وأعظمُ وسائلِه التي لا وسيلةَ له غيرُها البتَّةَ: التوكُّلُ على اللهِ والاستعانةُ به ، وهذان الأصلانِ يجمعانِ الدِّينَ كلَّه .

6- في قولِه تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ إثباتُ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ لله تعالى، ووجهُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى يحِبُّ أصحابَ هذه الأعمالِ، فهو يحبُّ التَّوابينَ، وإنَّما يكونون توَّابينَ بعد الذَّنبِ، ففي هذه الحالِ يحبُّهم .

7- في قولِه تعالى: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ بعد قولِه: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ بيانُ مودَّتِه سُبحانه للمُذنِبِ إذا تاب إليه .

8- قال شعيبٌ عليه السَّلامُ: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ما ألطَفَ اقترانَ اسمِ الودودِ بالرَّحيمِ وبالغفورِ؛ فإنَّ الرجُلَ قد يغفِرُ لِمَن أساء إليه ولا يحِبُّه، وكذلك قد يرحَمُ من لا يحِبُّ، والرَّبُّ تعالى يغفِرُ لعبدِه إذا تاب إليه، ويرحَمُه ويحِبُّه مع ذلك؛ فإنَّه يحِبُّ التوَّابينَ، وإذا تاب إليه عبدُه أحبَّه، ولو كان منه ما كان

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ

- جملةُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ فيه وصْفُهم لِشُعيبٍ عليه السَّلامُ بالوَصْفَين على طريقةِ التَّهكُّمِ، وإنَّما أرادوا بذلك وصْفَه بضِدَّيْهما

.

- وقد جاءت الجملةُ مؤكَّدةً بحرفِ (إِنَّ)- في: إِنَّكَ- ولامِ القسَمِ، وبصيغةِ القَصْرِ في جُملةِ: لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ، وهي تعريفُ الجُزأَين (أنتَ- الحليمُ)؛ فاشتمَلَت على أربعةِ مؤكِّداتٍ .

- وفي جملة إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ما يُعرَفُ بالتمكينِ أو ائتلافِ الفاصلةِ، ويُسمِّيه بعضُهم المُلاءَمَة ؛ وذلك أنَّه لَمَّا تقدَّم في الآية ذِكرُ العبادةِ، وتلاه ذِكرُ التصرُّفِ في الأموالِ في قولِه: قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء؛ اقتضَى ذلك ذِكرَ الحِلمِ والرُّشدِ على الترتيبِ؛ لأنَّ الحِلمَ العقلُ الذي يَصِحُّ به تكليفُ العباداتِ ويَحضُّ عليها، والرشدَ حُسنُ التصرُّفِ في الأموالِ؛ فكان آخِرُ الآيةِ مُناسِبًا لأوَّلِها مُناسَبةً معنويَّةً .

2- قوله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ

- قولُه: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي... فيه مُراجَعةٌ لطيفةٌ، واستِنْزالٌ حسَنٌ، واستِدْعاءٌ رقيقٌ، وهو ما يُسمَّى باستِدْراجِ المخاطَبِ؛ للبُلوغِ إلى الغرَضِ .

- وحُذِف جوابُ أَرَأَيْتُمْ ولَم يُثبَتْ كما أُثبِتَ في قصَّةِ نوحٍ ولوطٍ؛ لأنَّ إثباتَه في القِصَّتَين دلَّ على مَكانِه، ومعنى الكلامِ يُنادي عليه .

- قولُه: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي فيه إيرادُ حرْفِ الشَّرطِ إِنْ معَ جَزْمِ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ بكَونِه على ما هو عليه مِن البيِّناتِ والحُجَجِ؛ لاعتبارِ حالِ المخاطَبين ومُراعاةِ حُسنِ المحاورةِ معَهم .

- قولُه: وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا على القول بأنَّ المرادَ بالرِّزقِ الحسَنِ هنا هو نِعمةُ النُّبوَّة؛ ففيه تعبيرُ شُعيبٍ عليه السَّلامُ عَن النُّبوَّةِ بالرِّزقِ؛ على وجْهِ التشبيهِ مُشاكَلةً لقولِهم: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ؛ لأنَّ الأموالَ أرزاقٌ .

- قولُه: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ بيانٌ لقولِه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ؛ لأنَّ انتِفاءَ إرادةِ المخالَفةِ إلى ما نَهاهم عنه مُجمَلٌ فيما يُريدُ إثباتَه مِن أضدادِ المنفيِّ، فبيَّنه بأنَّ الضِّدَّ المرادَ إثباتُه هو: الإصلاحُ في جميعِ أوقاتِ استِطاعتِه بتَحْصيلِ الإصلاحِ؛ فالقَصْرُ قَصرُ قَلبٍ ، وأفادَت صيغةُ القصرِ (إنْ... إلَّا) تأكيدَ ذلك؛ لأنَّ القَصْرَ قد كان يَحصُلُ بمجرَّدِ الاقتصارِ على النَّفيِ والإثباتِ، نحوُ أن يَقولَ: (ما أريدُ أن أُخالِفَكم، أُريدُ الإصلاحَ) .

- قولُه: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فيه إيثارُ صيغةِ الاستقبالِ أُنِيبُ على الماضي الأنسَبِ للتَّقرُّرِ والتَّحقُّقِ كما في تَوَكَّلْتُ؛ لاستحضارِ الصُّورةِ والدَّلالةِ على الاستمرارِ .

- وقولُه تعالى: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ يفيدُ الحصرَ، فيدُلُّ على أنَّه لا مآبَ للخَلقِ إلَّا إلى اللهِ تعالى .

3- قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ

- قولُه: إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ جملةٌ تعليليَّةٌ للأمرِ بالاستغفارِ والتَّوبةِ .

- ولفظةُ: وَدُودٌ بِناءُ مُبالَغةٍ مِن وَدَّ الشَّيءَ، أي: أحَبَّه وآثرَه .

- وقولُه: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وإِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ فيه تَفنُّنٌ في إضافةِ الرَّبِّ إلى ضميرِ نفسِه مرَّةً، وإلى ضميرِ قومِه أخرى؛ لِتَذكيرِهم بأنَّه ربُّهم؛ كَيْلا يَستمِرُّوا على الإعراضِ، وللتَّشرُّفِ بانتِسابِه إلى مَخلوقيَّتِه .

======

 

سورة هود

الآيات (91-95)

ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات:

 

مَكَانَتِكُمْ: أي: طَريقتِكم التي أنتم عليها، تقولُ للرَّجُلِ إذا أمَرْتَه أن يَثبُتَ على حالِه: على مكانَتِك، أي: اثبُتْ على ما أنت عليه

.

نَفْقَهُ: أي: نفهمُ، ويقال: فقهتُ الكلام إذا فهمتَه حقَّ فهمِه، والفقهُ: هو التوصلُ إلى علمٍ غائبٍ بعلمٍ شاهدٍ، وأصلُ (فقه): يدلُّ على إدراكِ الشيءِ، والعلمِ به .

رَهْطُكَ: أي: عشيرتُك وقومُك، وأصلُ (رهط): يدلُّ على تجمُّعٍ في النَّاسِ وغيرِهم .

لَرَجَمْنَاكَ: أي: لقتلناك رميًا بالحجارةِ، أو لَسَبَبْناك، وأصلُ (رجم): رميٌ بالحجارةِ .

ظِهْرِيًّا: الظِّهْريُّ: كلُّ شَيءٍ تجعَلُه بظَهرٍ، أي: تَنساه، كأنَّك قد جعلتَه خلفَ ظَهرِك؛ إعراضًا عنه وتركًا له، وأصلُ (ظهر): يدلُّ على قوَّةٍ وبُروزٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى عن قومِ شُعَيبٍ أنَّهم قالوا له: يا شُعَيبُ لا نفهم كثيرًا ممَّا تقولُ، وإنَّنا لَنراك فينا ضعيفًا، ولولا مُراعاةُ عَشيرتِك- الذين هم من أهلِ مِلَّتِنا- لرجمناك، وليس لك قَدْرٌ أو مكانةٌ في نفوسِنا. قال: يا قومِ أعشيرتي أعزُّ وأكرَمُ عليكم من اللهِ؟ وجعلتُموه خلفَ ظُهورِكم، لا تأتَمِرونَ بأمره، ولا تنتَهونَ بنهيِه، إنَّ ربِّي بما تَعملونَ مُحيطٌ، لا يخفى عليه من أعمالِكم مِثقالُ ذَرَّةٍ، وسيُجازيكم عليها.

ويا قومِ اعمَلوا على طريقتِكم وحالتِكم، إنِّي عاملٌ مُثابِرٌ على طريقتي ودِيني، سوف تعلمونَ مَن مِنَّا يأتيه عذابٌ يذلُّه، ومَن منَّا كاذبٌ في قولِه، أنا أم أنتم؟ وانتَظِروا ما سيَحُلُّ بكم، إنِّي معكم من المُنتَظرينَ، ولَمَّا جاء أمرُنا بإهلاكِ قَومِ شُعَيبٍ نجَّينا رسولَنا شُعيبًا والذين آمنوا معه برحمةٍ منَّا، وأخذتِ الذين ظلَموا الصَّيحةُ من السَّماءِ فأهلكَتْهم، فأصبحوا في ديارِهم باركينَ على رُكَبِهم، مُنكبِّينَ على وُجوهِهم؛ ميِّتينَ، لا حِرَاك بهم، كأنْ لم يُقيموا في ديارِهم وقتًا من الأوقاتِ، ألا بُعدًا لـمَدينَ- إذ أهلَكها اللهُ وأخزاها- كما بَعِدَت قبلَهم  ثمودُ.

تفسير الآيات:

 

قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا رأى قومُ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ أنَّه لا يَنزِعُ عنهم، ولم يَقدِروا لكلامِه على جوابٍ؛ أيأسُوه من الرُّجوعِ إليه بأن أنزَلوا أنفُسَهم- عنادًا في الفَهمِ لهذا الكلامِ الواضحِ جِدًّا- إلى عِدادِ البهائمِ، وهَدَّدوه

.

قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ.

أي: قال قومُ شُعَيبٍ: يا شُعَيبُ لا نفهَمُ كثيرًا ممَّا تَعِظُنا وتُخبِرُنا به .

وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا.

أي: وإنَّا لنراك فينا ضعيفًا، لا قُوَّةَ لك تقدِرُ بها على أنْ تمنعَ نفسَكَ مِنَّا .

وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ.

أي: ولولا معَزَّتُنا لِعَشيرتِك وجماعتِك- الذين هم على دينِنا- لرجمناك .

وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ.

أي: وما أنت علينا بكَريمٍ، ولا مَعَزَّةَ لك عندنا ولا قدْرَ، ولا نُبالي بإذلالِك .

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92).

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ.

أي: قال شعيبٌ لقومِه: يا قومِ أعشيرتي أعظَمُ مِن اللهِ في قُلوبِكم وأعَزُّ عليكم منه، فتركتُم رجمي لأجلِ عَشيرتي وليس لله عزَّ وجلَّ ؟!

وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا.

أي: وجعلتُم اللهَ خلفَ ظُهورِكم مُستخِفِّينَ به، لا تخافونَ منه، ولا تُطيعونَه، ولا تعَظِّمونَه !

إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.

أي: إنَّ ربِّي مُحيطٌ عِلمًا بجميعِ أعمالِكم، وسيُجازيكم عليها .

وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93).

مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا يئِسَ نبيُّ الله شُعيبٌ مِن استجابةِ قَومِه له، وأعيَوه، وعجَزَ عنهم، قال :

وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ.

أي: ويا قومِ، اعمَلوا على حالِكم وطريقتِكم التي أنتم عليها، إنِّي عامِلٌ على طريقتي وديني .

كما قال سُبحانَه لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 135] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا [الإسراء: 84] .

وقال تبارك وتعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 1 - 6] .

سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ.

أي: سوفَ تعلمونَ مَن يأتيه عذابٌ من اللهِ يُذِلُّه، ومَن هو كاذِبٌ منا، أنا أم أنتم ؟

وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ.

أي: وانتَظِروا نزولَ العذابِ، إنِّي معكم مُنتَظِرٌ نُزولَه بكم .

وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94).

وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا.

أي: ولَمَّا أتى عذابُنا نجَّينا شُعَيبًا والمؤمنينَ معه بفَضلٍ منَّا عليهم .

وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ.

أي: وأصابت الصَّيحةُ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ، فصاروا في مَنازِلِهم لاصقينَ بالأرضِ على رُكَبِهم، ومُنكَبِّينَ على وُجوهِهم صَرْعى، خامِدينَ لا حياةَ فيهم .

كما قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [الأعراف: 91] .

وقال سُبحانه: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 189] .

كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95).

كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا.

أي: كأنَّ قومَ شُعَيبٍ لَمَّا جاءهم العذابُ لم يعيشُوا في ديارِهم، ولم يتمتَّعوا فيها .

أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ.

أي: ألا أبعدَ اللهُ مَدْيَنَ مِن رحمتِه، كما بَعِدَت مِن قَبلِهم ثمودُ

 

.

كما قال تعالى عن ثمود: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ *كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [هود: 66 - 68] .

الفوائد التربوية :

 

1- المُتَمسِّكَ بدينِه قد يعينُه اللهُ، ويُعِزُّه بنُصرةِ قريبِه الكافرِ، كما بيَّن اللَّهُ تعالى بقولِه حكايةً عن قَومِ شُعَيبٍ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ فمنَعه اللَّهُ مِن الكُفَّارِ، وأعزَّ جانبَه بسَببِ العواطفِ العَصَبيَّةِ، والأواصِرِ النَّسبيَّةِ مِن قومِه الذين هم كُفَّارٌ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا فيه أنَّه تعالى إنَّما خَلَّصَه من ذلك العذابِ لِمَحضِ رحمتِه؛ تنبيهًا على أنَّ كُلَّ ما يصِلُ إلى العبدِ، فليس إلَّا بفَضلِ اللهِ ورَحمتِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ، وقولُه تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت: 5] من يتدَبَّرْ ما ذكَرَه اللهُ عن أعداءِ الرُّسُلِ مِن نفيِ فِقهِهم وتكذيبِهم، يجِدْ بعضَ ذلك فيمن أعرَضَ عن ذِكرِ اللهِ وعن تدبُّرِ كتابِه، واتَّبَع ما تتلوه الشَّياطينُ، وما تُوحيه إلى أوليائِها

.

2- قولُ الله تعالى: وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ فيه أنَّ اللهَ يَدفَعُ عن المؤمنينَ بأسبابٍ كثيرةٍ قد يعلمونَ بعضَها، وقد لا يعلمونَ شَيئًا منها، وربَّما دفع عنهم بسبَبِ قَبيلتِهم أو أهلِ وَطنِهم الكُفَّارِ، وأنَّ هذه الرَّوابِطَ التي يحصُلُ بها الدَّفعُ عن الإسلامِ والمُسلمينَ لا بأسَ بالسَّعيِ فيها، بل ربَّما تعيَّنَ ذلك؛ لأنَّ الإصلاحَ مَطلوبٌ على حسَبِ القُدرةِ والإمكانِ .

3- قولُ الله تعالى: وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ الرَّجمُ: القتلُ بالحِجارةِ رَميًا- على أحدِ وجْهَي التفسيرِ- وهو قِتلةُ حَقارةٍ وخِزيٍ، وفيه دَلالةٌ على أنَّ حُكمَ من يخلعُ دينَه الرَّجمُ في عوائِدِهم .

4- قال الله تعالى: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ذكرَ هاهنا أنَّه أتَتهم صيحةٌ، وفي الأعرافِ رَجفةٌ، وفي الشُّعَراءِ عذابُ يومِ الظُّلَّة، وهم أمَّةٌ واحدةٌ ، اجتمع عليهم يومَ عذابِهم هذه النِّقَمُ كُلُّها، وإنَّما ذُكِرَ في كلِّ سياقٍ ما يُناسِبُه، ففي الأعرافِ لَمَّا قالوا: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا [الأعراف:88] ناسبَ أن يُذكَرَ هناك الرَّجفةُ، فرجَفَت بهم الأرضُ التي ظَلَموا بها، وأرادوا إخراجَ نبيِّهم منها، وهاهنا لَمَّا أساؤوا الأدبَ في مقالتِهم على نبيِّهم ناسب ذِكر الصَّيحةِ التي أسكَتَتْهم وأخمَدَتهم، وفي الشُّعَراءِ لَمَّا قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: 187] قال: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء: 189] وهذا من الأسرارِ الغريبةِ الدَّقيقةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ

- قولُه: وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا فيه تأكيدُهم للكلامِ بـ (إنَّ) ولامِ الابتداءِ؛ مُبالَغةً في تنزيلِه مَنزِلةَ مَن يَجهَلُ أنَّهم يَعلَمون ذلك فيه، أو مَن يُنكِرُ ذلك

.

- وجملةُ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ مؤكِّدةٌ لمضمونِ قولِه: وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ؛ لأنَّه إذا انتَفى كونُه قويًّا في نُفوسِهم، تَعيَّن أنَّ كَفَّهم عن رَجْمِه- مع استِحْقاقه إيَّاه في اعتقادِهم- ما كان إلَّا لأجلِ إكرامِهم رَهْطَه، لا للخوفِ منهم، وعُطِفَت هذه الجملةُ على الَّتي قبْلَها- مع أنَّ حقَّ الجملَةِ المؤكِّدةِ أنْ تُفصَلَ ولا تُعطَفَ- لأنَّها مع إفادتِها تأكيدَ مضمونِ الَّتي قبْلَها أفادَت أيضًا حُكمًا يَخُصُّ المخاطَبَ؛ فكانت بهذا الاعتبارِ جَديرةً بأن تُعطَفَ على الجُمَلِ المفيدةِ أحوالَه مِثلُ جملةِ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ والجُمَلِ بَعدَها .

2- قوله تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ

- الاستفهامُ في قولِه: أَرَهْطِي إنكاريٌّ؛ أي: اللهُ أعَزُّ مِن رَهْطي، وهو كنايةٌ عن اعتِزازِه باللهِ لا برَهْطِه، فلا يَرِيبُه عدَمُ عِزَّةِ رَهْطِه عليهم، وهذا تهديدٌ لهم بأنَّ اللهَ ناصِرُه؛ لأنَّه أرسَلَه فعِزَّتُه بعِزَّةِ مُرْسِلِه ، وإنَّما أنكَر عليهم أعَزِّيَّةِ رهطِه منه تعالى مع أنَّ ما أثبَتوه إنَّما هو مُطْلَقُ عزَّةِ رهطِه، لا أعَزِّيَّتُهم منه عزَّ وجلَّ، مع الاشتِراك في أصلِ العزَّةِ؛ لِتَثنيةِ التَّقريعِ، وتَكْريرِ التَّوبيخِ؛ حيث أنكَر عليهم أوَّلًا تَرجيحَ جَنْبةِ الرَّهطِ على جَنْبةِ اللهِ تعالى، وثانيًا بنَفْيِ العِزَّةِ بالمرَّةِ .

- قولُه: ظِهْرِيًّا فيه كِنايةٌ عن النِّسيانِ؛ لأنَّ الشَّيءَ الموضوعَ بالوَراءِ يُنْسى؛ لقِلَّةِ مُشاهَدتِه؛ فهو يُشبِهُ الشَّيءَ المجعولَ خَلْفَ الظَّهرِ في ذلك .

- قولُه: إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ استئنافٌ، أو تعليلٌ لِمَفهومِ جُملةِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ الَّذي هو تَوكُّلُه عليه واستِنْصارُه به، وفيه تعريضٌ بالتَّهديدِ .

3- قوله تعالى: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ

- قوله: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ ذَكَر عمَلَهم على مكانتِهم وعمَلَه على مكانتِه، ثم أتْبعه ذِكرَ عاقبةِ العاملينَ منه ومنهم، وكان الظاهرُ أنْ يقولَ: (مَن يأتيه عذابٌ يُخزيه ومَن هو صادقٌ)؛ حتَّى يَنصرِفَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ إلى الجاحِدين، و(مَن هو صادقٌ) إلى النبيِّ المبعوثِ إليهم؛ ولكنَّهم لَمَّا كانوا يَدْعُونه كاذبًا، قال: وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ يعني: في زعْمِكم ودَعواكم؛ تَجهيلًا لهم. وقيل: إنَّ الكَلامينِ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ جميعًا لهم؛ فالأوَّل مُضمَّنٌ ذِكرَ جُرمِهم الذي يُجازون به، وهو الكذبُ، ويكون مِن بابِ عَطف الصِّفةِ على الصِّفةِ، والموصوفُ واحدٌ، كما تقولُ لِمَن تُهدِّدُه: ستَعلمُ مَن يُهانُ ومَن يُعاقبُ، والمخاطبُ هو المقصودُ في الكلامَينِ؛ فإذا ثبَت صَرْفُ الكلامينِ إليهم كان فيه دَلالةٌ على ذِكرِ عاقبتِه هو؛ لأنَّ أحدَ الفريقين إذا كان مُبطِلًا فالآخَرُ هو المحقُّ قطعًا؛ فذِكرُه لإحْدى العاقبتَينِ صريحًا يُفهِمُ ذِكرَ الأخرى تَعريضًا، والتعريضُ في كثيرٍ مِن مواضعِه أبلغُ وأوقعُ من التصريحِ، وهذا مِنه، ويَدُلُّ على أنَّ الكَلامَين لهما أنَّ عاقِبةَ أمْرِ شُعيبٍ لم تُذكَرْ؛ استِغْناءً عنها بذِكْرِ عاقِبَتِهم، وكذلك قولُه في سورةِ الأنعامِ: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ؛ فذكَر هناك أيضًا إحْدى العاقِبَتَين؛ لأنَّ المرادَ بهذه العاقبةِ عاقبةُ الخيرِ، ومَتى أُطلِقَت فلا يُعْنى إلَّا ذلك، كقولِه: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ واستَغْنى عن ذِكْرِ مُقابِلَتِها، وهنا في آيةِ هودٍ فقد ذكَر عاقبتَهم، وهي سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ، واستَغْنى بها عن عاقِبَتِه، فلْيُتأمَّلْ هذا؛ فإنَّه تُحفةٌ لِمَن همُّه نَظمُ دُررِ الكِتابِ العزيزِ، وضَمِّ بعضِها إلى بَعضٍ .

- والأمرُ في اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ للتَّهديدِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا في سورةِ (هودٍ): وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ، وقال في (الأنعامِ): قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ [الأنعام: 135] ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [هود: 39] ، وكذلك في سورةِ (الزُّمرِ) في قولِه: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [الزمر: 39- 40] ؛ فأُفرِدَت آيةُ (هودٍ) هذه بمَجيءِ حرْفِ التَّسويفِ (سوف) بلا فاءِ التَّعقيبِ، بخلافِ الأُخرَيَينِ مع اتِّفاقِ الآياتِ الثَّلاثِ في التَّهديدِ، وحرْفِ التَّسويفِ، ووجهُ ذلك: أن قولَه: فَسَوْفَ تَعْلَمُوْنَ بالفاءِ حيثُ وقَع، وفى هودٍ: سَوْفَ تَعْلَمُوْنَ بغيرِ فاءٍ؛ لأنَّه تقدَّم فى هذه السورةِ وغيرِها قُلْ فأمَرهم أمرَ وعيدٍ بقولِه: اعْمَلُوا أَى: اعملوا فستجزَونَ، فوقَع جوابًا بالأمرِ قبْلَه، ولم يكُنْ فى (هودٍ) (قل) فصار استئنافًا؛ لأنَّه لم يتَقدَّمْه أمرٌ. وقيل: سَوْفَ تَعْلَمُوْنَ فى سورةِ (هودٍ) صفةٌ لـ عَامِلٌ، أَى: إِنِّى عاملٌ سوفَ تعلمون، فحَذَف الفاءَ .

وقيل: لم يُقرَنْ حرفُ (سَوف) في قولِه: سَوْفَ تَعْلَمُونَ في هذه الآيةِ بالفاءِ، وقُرِن في آيةِ سورةِ (الأنعامِ) بالفاءِ مِن قولِه تعالى: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 135] ؛ لأنَّ جُملةَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ هنا جُعِلَت مُستأنَفةً استئنافًا بيانيًّا؛ إذ لَمَّا فاتَحَهم بالتَّهديدِ كان ذلك يُنشِئُ سُؤالًا في نُفوسِهم عمَّا يَنشَأُ على هذا التَّهديدِ، فيُجابُ بالتَّهديدِ بـ سَوْفَ تَعْلَمُونَ؛ ولكونِه كذلك كان مُساويًا للتَّفريعِ بالفاءِ الواقِعِ في آيةِ (الأنعامِ) في المآلِ، ولكنَّه أبلَغُ في الدَّلالةِ على نَشْأةِ مَضمونِ الجملَةِ المستأنَفةِ عن مضمونِ الَّتي قبْلَها؛ ففي خِطابِ شُعيبٍ عليه السَّلامُ قومَه مِن الشِّدَّةِ ما ليس في الخِطابِ المأمورِ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سورةِ (الأنعام)؛ جَريًا على ما أرسَل اللهُ به رَسولَه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن اللِّينِ لهم: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] ، وكذلك التَّفاوُتُ بين مَعمولَيْ تَعلَمُونَ؛ فهو هنا غَليظٌ شديدٌ: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ، وهو هنالِك ليِّنٌ: مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ .

- وأيضًا مِن الفَرْقِ بينَ إدخالِ الفاءِ ونَزْعِها في سَوْفَ تَعْلَمُونَ: أنَّ إدخالَ الفاءِ وصْلٌ ظاهرٌ بحَرْفٍ موضوعٍ للوَصْلِ، ونَزْعَها وصْلٌ خفيٌّ تقديريٌّ بالاستِئْنافِ الَّذي هو جَوابٌ لسُؤالٍ مقدَّرٍ، فيَجعَلُه جوابًا عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ، والتَّقديرُ: أنَّه لَمَّا قال: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ، فكأنَّهم قالوا: فماذا يَكونُ إذا عَمِلنا نحنُ على مَكانتِنا وعَمِلتَ أنت؟ فقال: سَوْفَ تَعْلَمُونَ؛ فوصَل تارةً بالفاءِ وتارةً بالاستئنافِ؛ للتَّفنُّنِ في البلاغةِ، كما هو عادةُ البُلَغاءِ، وأقوى الوَصْلَين وأبلَغُهما الاستئنافُ، وهو بابٌ مِن أبوابِ عِلمِ البيانِ، تتَكاثَرُ مَحاسِنُه؛ فظهَر أنَّ حذْفَ حرْفِ الفاءِ هاهنا أكمَلُ في بابِ الفظاعةِ والتَّهويلِ .

- قولُه: مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ فيه وصْفُ العذابِ بالإخزاءِ؛ تَعْريضًا بما أَوعَدوا شُعيبًا عليه السَّلامُ به مِن الرَّجْمِ؛ فإنَّه مع كونِه عَذابًا فيه خِزْيٌ ظاهِرٌ، حيث لا يكون إلَّا بجنايةٍ عَظيمةٍ تُوجِبُه .

- قولُه: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ: في زيادةِ مَعَكُمْ إظهارٌ مِنه عليه السَّلامُ لكَمالِ الوُثوقِ بأمرِه .

- ولفظةُ: رَقِيبٌ على وَزْنِ فَعيلٍ؛ للمُبالَغةِ .

4- قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ

- قولُه: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا فيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث ساق قصَّةَ عادٍ وقصَّةَ مَدْيَنَ بالواوِ، وساقَ الوُسْطَيَينِ (قِصَّتَيْ صالحٍ ولوطٍ) بالفاءِ؛ لأنَّ الوُسْطَيَين وقَعَتا بعد ذِكْرِ الوعدِ، وذلك قولُه: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، وقولُه: ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ؛ فجيءَ بالفاءِ الَّذي هو للتَّسْبيبِ، كما تقولُ: وعَدتُه، فلمَّا جاء الميعادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ، وأمَّا الأُخْرَيانِ فلَم تَقَعا بتِلك المثابةِ، وإنَّما وقَعَتا مُبتدَأَتَين؛ إذْ لم يَسبِقْه ذِكْرُ وعدٍ يَجْري مَجْرى السَّببِ له؛ فكان حقُّهما أن تُعطَفا بحرفِ الجمعِ على ما قَبْلَهما، كما تُعطَفُ قصَّةٌ على قصَّةٍ .

- قولُه: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فيه وضعُ الظَّاهرِ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَوضِعَ المضمَرِ- حيث لم يَقُلْ: (وأخَذَتْهم)-؛ تسجيلًا عليهم بالظُّلمِ، وإشعارًا بأنَّ ما أخَذَهم إنَّما أخَذَهم بسَببِ ظُلمِهمُ الَّذي فُصِّل فيما سبَق .

5- قولُه تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ

- قولُه: أَلًا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ فيه العُدُولُ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ؛ لِيَكونَ أدَلَّ على طُغْيانِهم الَّذي أدَّاهم إلى هذه المرتَبةِ، ولِيَكونَ أنْسَبَ بمَنْ شُبِّهَ هَلاكُهم بهَلاكِهم وهم ثَمودُ، وإنَّما شُبِّه هَلاكُهم بهَلاكِهم؛ لأنَّهما أُهلِكَتا بنَوعٍ من العذابِ، وهو الصَّيحةُ .

- قولُه: كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ فيه تَشبيهُ (البعد) الَّذي هو انقِراضُ مَدْينَ بانقراضِ ثَمودَ، ووَجهُ الشَّبَهِ التَّماثُلُ في سبَبِ عِقابِهم بالاستئصالِ، وهو عَذابُ الصَّيحةِ، ويجوزُ أن يكونَ المقصودُ من التَّشبيهِ الاستِطْرادَ بذَمِّ ثَمودَ؛ لأنَّهم كانوا أشَدَّ جُرأَةً في مُناوَأَةِ رُسلِ اللهِ تعالى، فلمَّا تَهيَّأ المقامُ لاختِتامِ الكلامِ في قَصصِ الأممِ البائدةِ؛ ناسَب أن يُعادَ ذِكرُ أشَدِّها كُفرًا وعِنادًا، فشُبِّه هُلْكُ مَدْينَ بهُلْكِهم .

======

 

سورة هود

الآيات (96-99)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ

غريب الكلمات:

 

سُلْطَانٍ: أي: حُجَّة، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقهرُ، من التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا

.

الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ: أي: المَدخَلُ المَدخولُ، وأصلُ (ورد): يدلُّ على المُوافاةِ إلى الشَّيءِ .

الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ: أي: العطاءُ المُعطَى، والعونُ المُعانُ، وأصلُ (رفد): يدلُّ على مُعاونةٍ ومُظاهرةٍ بالعَطاءِ وغيرِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ الله تعالى أنَّه قد أرسَلَ مُوسى بحُجَجٍ مِن عندِه سُبحانَه، ومُعجزةٍ باهرةٍ ظاهرةٍ، دالَّةٍ على صِدقِه ونبُوَّتِه، إِلى فِرعَونَ وأتباعِه وأشرافِ قَومِه، فاتَّبَعوا طريقةَ فِرعَونَ، وما هو عليه مِن الكُفرِ، وتَرَكوا الإيمانَ بما جاءهم به موسى، وما طريقُ فِرعونَ وما هو عليه بسديدٍ ولا حميدِ العاقبةِ، ولا يدعو إلى خيرٍ، يَتقَدَّمُ فِرعونُ قَومَه يومَ القيامةِ حتى يُدخِلَهم النَّارَ، فكما كان قُدوتَهم في الضَّلالِ والكُفرِ في الدُّنيا، فكذلك هو قُدوتُهم وإمامُهم في النَّارِ، وقَبُحَ المَدخلُ الذي يدخُلونَه! وأتبَعَهم اللهُ في هذه الدُّنيا طردًا وبُعدًا عن الرَّحمةِ، وكذلك يومَ القيامةِ، وبِئسَ العطاءُ المُعطَى؛ حيث ترادَف عليهم لعنةٌ في الدُّنيا، ولعنةٌ في الآخرةِ.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96).

أي: ولقد أرسَلْنا نبيَّنا موسى بمُعجِزاتِنا الدَّالةِ على صِدقِه- كالعصا، واليدِ ونحوِهما من الآياتِ- وبحُجَّةٍ ظاهرةٍ؛ ليؤمِنوا بالله وحدَه

.

إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97).

إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ.

أي: أرسَلْناه إلى فِرعونَ وأشرافِ قَومِه، فاتَّبعوا مَنهجَ فِرعونَ وطَريقتَه في الغَيِّ والضَّلالِ، وكفَروا باللهِ ورَسولِه .

وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ.

أي: وما مَنهَجُ فِرعونَ بصوابٍ يهدي النَّاسَ إلى الهُدى والخيرِ والصَّلاحِ، وإنَّما هو جَهلٌ وضَلالٌ، وكُفرٌ وعِنادٌ .

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98).

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ.

أي: يتقدَّمُ فِرعونُ قَومَه يومَ القيامةِ، فيَمضي بهم إلى النَّارِ فيَدخُلونَها معه .

وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ.

أي: وبئسَ المَدخَلُ الذي يدخُلونَه .

وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ.

وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ.

أي: وأتبَعَهم اللهُ في هذه الدُّنيا- مع غَرقِهم في البحرِ- لعنةً، ويومَ القيامةِ يُلعَنونَ لَعنةً أخرى .

بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ.

أي: بئسَ ما اجتَمع لهم، وترادَف عليهم؛ حيث ترافَدَت عليهم لعنتانِ مِن اللهِ؛ لعنةُ الدُّنيا، ولَعنةُ الآخرةِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

- قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ العِبرةُ في هذه الآياتِ: أنَّه لا يزالُ يوجَدُ في البشَرِ فَراعنةٌ يَغوونَ النَّاسَ ويستخِفُّونَهم ويَستعبِدونَهم، فيُطيعونَهم، ويَذِلُّونَ لهم ذُلَّ العبدِ لسَيِّده، والحيوانِ لمالِكِه، ولم يَستفيدوا شيئًا من هدايةِ القرآنِ ورُشدِه، وتجهيلِه لقومِ فِرعونَ في اتِّباعِ أمْرِه، مع وَصفِه بقَولِه تعالى: وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ وبيانِ أنَّه كان سببًا لإتْباعِهم لعنةً في الدُّنيا ولعنةً يومَ القيامةِ، وأنَّه سيقودُهم في الآخرةِ إلى النَّارِ، كما قادهم في الدُّنيا إلى الغَيِّ والفَسادِ، ومنهم من يدَّعونَ الإسلامَ، ولم يفقَهوا قولَ الله تعالى لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في آيةِ مُبايعةِ النِّساءِ: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة: 12] ، وقولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا طاعةَ في معصيةِ اللهِ، إنَّما الطاعةُ في المعروفِ ))

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قولِه تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ دَلالةٌ على أنَّ فرعونَ مات كافرًا، ووجهُ ذلك: إخبارُه سبحانَه عن فرعونَ أنَّه يَقدُمُ قومَه- ولم يقُلْ: يَسوقُهم- وأنَّه أورَدَهم النَّارَ، ومعلومٌ أنَّ المتقَدِّمَ إذا أَوردَ المتأخِّرينَ النَّارَ، كان هو أوَّلَ مَن يَرِدُها، وإلَّا لم يكُنْ قادِمًا، بل كان سائِقًا؛ يوضِّحُ ذلك أنَّه قال سُبحانَه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ فعُلِمَ أنَّه وهُم يَرِدونَ النَّارَ؛ وأنَّهم جميعًا ملعونونَ في الدُّنيا والآخرةِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً لَمَّا كان فِرعونُ مَوصوفًا بعِظَمِ الحالِ وكَثرةِ الجُنودِ والأموالِ، وضَخامةِ المَملكةِ؛ حقَّرَ تعالى دُنياه بتَحقيرِ جميعِ الدُّنيا التي هي منها، بإسقاطِها في الذِّكرِ؛ اكتفاءً بالإشارةِ إليها

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ

- قولُه: وَلَقَدْ فيه تأكيدُ الخبَرِ بـ (قَدْ)

.

- قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فيه مُناسَبَةٌ حسَنةٌ، حيث قال في سورةِ (غافرٍ): وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر: 23- 24] ، وقال في سورةِ (الزُّخرُفِ): وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزخرف: 46] ، وقال في سورةِ (المؤمِنون): ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 45 - 47] ، وفي سورةِ (الأعرافِ): ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا [الأعراف: 103] ، وفي سورةِ (يونُسَ): ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [يونس: 75] ؛ فورَد في سورةِ (هودٍ) وفي سورةِ (المؤمِنون) وسورةِ (غافِر) زيادةُ قولِه: وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، ولم تَرِدْ هذه الزِّيادةُ في السُّوَرِ الثَّلاثِ الأُخَرِ، وورَد في سُورةِ (يونُسَ) وسورةِ (المؤمِنون) ذِكْرُ تأييدِ موسى بأخيه هارونَ عليهما السَّلامُ، ولم يَرِدْ ذلك في غيرِهما، وانفرَدَت سورةُ (المؤمِنون) بالجَمْعِ بينَ تأييدِه عليه السَّلامُ بأخيه وسُلطانٍ مُبينٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه حيث يُذكَرُ سُوءُ ردِّ المرسَلِ إليهم، وقُبْحُ جَوابِهم، يُقابَلُ أبَدًا بتأييدِه بأخيه أو تَعضيدِه بالآياتِ؛ ممَّا يَقتَضي القَهْرَ والإرغامَ، وهو المعبَّرُ عنه بـ (السُّلطانِ المبينِ)؛ فيَكونُ ذلك مُقابَلةً لِشَنيعِ مُجاوَبتِهم وسوءِ رَدِّهم بالجملةِ، فإذا اجتمَع إفصاحُهم بالتَّكذيبِ واستكبارُهم، جَمَع في التَّهديدِ المتقدِّمِ بينَ التَّأييدِ بهارونَ وسلطانٍ مبينٍ، وحيث يُصرِّحُ بالتَّكذيبِ أو ما يُعْطيه بَيانًا كقولِه في سورةِ هودٍ: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ يُقدَّمُ ذلك التَّأييدُ بـ (السُّلطانِ المبينِ)، وحيثُ تُذكَرُ صِفَتانِ مُحتوِيتَانِ على تَكذيبٍ مِن غيرِ إفصاحٍ، يُقدَّمُ ذِكْرُ التَّأييدِ بهارونَ عليه السَّلامُ، وما كان دونَ ما ذُكِر لم يُذكَرْ هارونُ ولا السُّلطانُ المبينُ. أمَّا حيثُ لم يَرِدْ ذِكرُ السُّلطانِ، فنَجِدُ جَوابَهم في ذلك دونَ ما تقدَّم مِن التَّشديدِ، كقَولِهم في سورةِ الأعرافِ: فَظَلَمُوا بِهَا [الأعراف: 103] ، وقولِه في سورةِ (الزُّخرُفِ): فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف: 47] ؛ فليس موقِعُ جَوابِهم في هاتَين السُّورتَينِ كمَوقِعِ ما تَقدَّم في الآيتينِ؛ فنُوسِبَ بينَ طرَفَيِ الادِّعاءِ والجوابِ .

وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّه لَمَّا قال في سُورةِ (هود): وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ، وقال في سورةِ غافرٍ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [غافر: 23-24] ، وقال في سورةِ (الزخرف): وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزخرف: 46] ، جاء في الآيتَينِ المتقدِّمَتين مع ذِكْرِ السُّلطانِ المبينِ، ولم يَجِئْ في الآيةِ الأخيرةِ إلَّا الآياتُ وحْدَها؛ لأنَّ الآياتِ هي الأَماراتُ الَّتي يُكتَفى بها في صِدْقِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وبها تَقومُ الحُجَّةُ على مَن تُبعَثُ إليهم، والسُّلطانُ المبينُ هو الحُججُ القاهرةُ التي تَقهَرُ القومَ، كأنواعِ العذابِ الَّتي أُنزِلَت على قومِ موسى عليه السَّلامُ وكانت عندَ قولِه؛ فلمَّا كان القصدُ في الآيتَينِ المتقدِّمتَين ذِكْرَ جُملَةِ أمْرِهم إلى مُنتَهى حالِهم مِن هلاكِ الأبَدِ، انطَوَتْ تلك الجملةُ على جَميعِ ما احتَجَّ به عليهم إلى أنْ زال التَّكليفُ عنهم، وأخبَر عن مُستقَرِّهم مِن العقابِ الدَّائمِ عليهم؛ فذكَر في الآيتَين جَميعَ ما احتجَّ به عليهم مِن الآياتِ الَّتي سَخِروا بِها عندَ رؤيتِها، والآياتِ الَّتي فَزِعوا إلى مَسألتِه عندَ مُشاهَدتِها في كَشْفِها. وأمَّا الآيةُ الثَّالثةُ الَّتي اقتصَر فيها على ذِكْرِ (آيَاتِنَا) دونَ (السُّلْطَانِ الْمُبِينِ) وهي قولُه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ [الزخرف: 46- 47] ، فلم يَكُنِ القَصدُ إلى ذِكْرِ جُملَةٍ ممَّا عُومِلوا به في الدُّنيا وانتهائِه بهم إلى عذابِ الأخرى، بل كان بعدَه: وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: 48] ؛ فاقتَصَّ ما عُومِلوا به حالًا بعدَ حالٍ إلى أن أُهلِكوا في الدُّنيا، حيث قال: فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ [الزخرف: 55- 56] .

2- قولُه تعالى: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ

- عقَّب ذِكْرَ إرسالِ موسى عليه السَّلامُ بذِكْرِ اتِّباعِ الملَأِ أمْرَ فِرعونَ؛ لأنَّ اتِّباعَهم أمْرَ فِرعَونَ حصَل بأثَرِ الإرسالِ؛ ففُهِم منه أنَّ فِرعونَ أمَرَهم بتَكْذيبِ تلك الرِّسالةِ .

- قولُه: إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ فيه تَخصيصُ مَلأِ فِرعونَ بالذِّكرِ، مع عُمومِ رِسالةِ مُوسَى عليه السَّلامِ لقَومِه كافَّةً؛ لأصالةِ هؤلاءِ الملأِ في الرأيِ، وتَدبيرِ الأمورِ واتِّباعِ غيرِهم لهم في الوُرودِ والصُّدورِ .

- واقتُصِرَ هنا على ذِكْرِ شَأنِ ملَأِ فِرعونَ- حيثُ قال: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ...- ولم يُصرِّحْ بكُفرِ فِرْعونَ بآياتِ اللهِ تعالى، وانهِماكِه فيما كان عليه مِن الضَّلالِ والإضلالِ؛ للإيذانِ بوُضوحِ حالِه؛ فكأنَّ كُفرَه وأمْرَ ملَئِه بذلك أمرٌ محقَّقُ الوُجودِ غيرُ مُحتاجٍ إلى الذِّكرِ صَريحًا، وإنَّما المحتاجُ إلى ذلك شأنُ مَلئِه المتردِّدين بينَ هادٍ إلى الحقِّ وداعٍ إلى الضَّلالِ، فنَعى عليهم سوءَ اختيارِهم .

- وفي قولِه: فَاتَّبَعُوا إيرادُ الفاءِ في اتِّباعِهم المترتِّبِ على أمرِ فِرعونَ المبنيِّ على كفرِه المسبوقِ بتَبليغِ الرِّسالةِ؛ للإشعارِ بمُفاجأَتِهم في الاتِّباعِ، ومُسارَعةِ فِرعونَ إلى الكُفرِ وأمْرِهم به؛ فكأنَّ ذلك كلَّه لم يتَراخَ عن الإرسالِ والتَّبليغِ، بل وقَع جميعُ ذلك في وقتٍ واحدٍ، فوقَع إثرَ ذلك اتِّباعُهم .

- قولُه: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ- حيث لم يَقُلْ: و(أَمْرُه)- فأظهَر اسْمَ فِرعونَ في المرَّةِ الثَّانيةِ والمرَّةِ الثَّالثةِ دونَ الضَّميرِ؛ للتَّشهيرِ بهِم، والإعلانِ بذَمِّه، وهو انتفاءُ الرُّشدِ عن أمرِه، ولزيادةِ تَقْبيحِ حالِ المتَّبِعين؛ فإنَّ فرعونَ عَلَمٌ في الفسادِ والإفسادِ، والضَّلالِ والإضلالِ؛ فاتِّباعُه لِفَرْطِ الجَهالةِ، وعدَمِ الاستبصارِ .

- قولُه: وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فيه إجراءُ وصْفِ (رَشِيدٍ) مُبالَغةً في اشتمالِ الأمرِ على ما يَقتَضي انتفاءَ الرُّشدِ؛ فكأنَّ الأمرَ هو الموصوفُ بعدَمِ الرُّشدِ، وعَدَلَ عن وصْفِ أمرِه بالسَّفيهِ إلى نَفْيِ الرُّشدِ عنه؛ تَجهيلًا للَّذين اتَّبَعوا أمرَه؛ لأنَّ شأنَ العُقلاءِ أن يتَطلَّبوا الاقتداءَ بما فيه صلاحٌ، وأنَّهم اتَّبَعوا ما ليس فيه أَمارةٌ على سَدادِه واستحقاقِه لأن يُتَّبَعَ، فماذا غرَّهم باتِّباعِه ؟!

3- قولُه تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ

- قولُه: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ فيه تهَكُّمٌ؛ حيث عبَّر بالإيرادِ عن التَّقدُّمِ بالنَّاسِ إلى العذابِ، وهو تَهكُّمٌ؛ لأنَّ الإيرادَ يَكونُ لأجلِ الانتفاعِ بالسَّقْيِ، وأمَّا التَّقدُّمُ بقومِه إلى النَّارِ؛ فهو ضدُّ ذلك .

- وجاء فَأَوْرَدَهُمْ بصيغةِ الماضي؛ للتَّنبيهِ على تَحْقيقِ وُقوعِ ذلك الإيرادِ، وإلَّا فقَرينةُ قولِه: يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدُلُّ على أنَّه لم يقَعْ في الماضي .

- وقولُه أيضًا: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ فيه تشبيهٌ لفِرعونَ بالفارِطِ الَّذي يتَقدَّمُ الوارِدةَ إلى الماءِ، وتَشبيهُ أتباعِه بالواردةِ، وتشبيهُ النَّارِ بالماءِ الَّذي يَرِدونه .

4- قوله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ

- قولُه: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ جملةٌ مُستأنَفةٌ لإنشاءِ ذَمِّ اللَّعنةِ .

- وأيضًا في قولِه: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ حَذْفُ المخصوصِ بالذَّمِّ، وهو إيجازٌ؛ لِيَكونَ الذَّمُّ متوجِّهًا لإحدى اللَّعنتَينِ لا على التَّعْيينِ؛ لأنَّ كِلتَيهِما بَئيسٌ

================

 

سورة هود

الآيات (100 - 108)

ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ

غريب الكلمات:

 

وَحَصِيدٌ: خَرابٌ قد مُحِيَ أثَرُه، وأصلُ (حصد): يدلُّ على قَطعِ شَيءٍ

.

تَتْبِيبٍ: أي: تَخسيرٍ وهلاكٍ، وأصلُ (تبب): يدلُّ على خُسرانٍ .

زَفِيرٌ: الزَّفيرُ: إخراجُ النَّفَسِ بقُوَّةٍ وشِدَّةٍ مِن الهَمِّ والكَربِ، وهو بمَنزلةِ ابتداءِ صَوتِ الحِمارِ بالنَّهيقِ، وأصلُ (زفر): يدلُّ على صَوتٍ .

وَشَهِيقٌ: الشَّهيقُ: النَّشيجُ في البُكاءِ، إذا اشتَدَّ ترَدُّدُه في الصَّدرِ، وارتفَعَ به الصَّوتُ، وهو بمنزلةِ آخرِ صَوتِ الحِمارِ، وأصلُ (شهق): يدُلُّ على عُلُوٍّ .

مَجْذُوذٍ: أي: مَقطوعٍ، وأصلُ (جذذ): يدلُّ على قَطعٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ الله تعالى نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: ذلك الذي ذكَرْناه لك- يا محمَّدُ- مِن أخبارِ القُرى التي أهلَكْنا أهلَها نُخبِرُك به، ومِن تلك القُرى ما له آثارٌ باقيةٌ، ومنها ما قد مُحِيَت آثارُه، فلم يَبقَ منه شيءٌ، وما كان إهلاكُهم بغيرِ سَبَبٍ وذنبٍ يستَحِقُّونَه، ولكِنْ ظَلَموا أنفُسَهم بشِرْكِهم، وإفسادِهم في الأرضِ، فما نفَعَتْهم آلهتُهم- التي كانوا يدعُونَها، ويطلُبونَ منها أن تدفَعَ عنهم الضُّرَّ- لـمَّا جاء أمرُ رَبِّك بعَذابِهم، وما زادَتْهم آلهتُهم غيرَ تدميرٍ وإهلاكٍ وخُسرانٍ، وكما أخذتُ أهلَ القُرى الظَّالمةِ بالعذابِ؛ لِمُخالفتِهم أمري وتكذيبِهم برُسلي، آخُذُ غيرَهم مِن أهلِ القُرى إذا ظلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي، إنَّ أخْذَ اللهِ للظَّالِمينَ لأليمٌ مُوجِعٌ شَديدٌ، إنَّ في أخْذِنا لأهلِ القُرى السَّابقةِ الظَّالِمةِ لَعِبرةً وعِظةً لِمَن خاف عقابَ اللهِ وعذابَه في الآخرةِ، ذلك اليومُ الذي يُجمَعُ له النَّاسُ جميعًا للمُحاسَبةِ والجَزاءِ، ويشهَدُه الخلائِقُ كُلُّهم، وما نُؤخِّرُ يومَ القيامةِ عنكم إلَّا لانتهاءِ مُدَّةٍ معدودةٍ في عِلمِنا، لا تزيدُ ولا تَنقُصُ عن تَقديرِنا لها بحِكمَتِنا.

يوم يأتي يومُ القيامةِ لا تتكَلَّمُ نَفسٌ إلَّا بإذنِ رَبِّها؛ فمنهم شقيٌّ مستَحِقٌّ للعذابِ، وسعيدٌ مُتفَضَّلٌ عليه بالنَّعيمِ؛ فأمَّا الذين شَقُوا فالنَّارُ مُستَقَرُّهم، لهم فيها- مِن شِدَّةِ ما هم فيه مِن العذابِ- زفيرٌ وشَهيقٌ، وهما أشنَعُ الأصواتِ وأقبَحُها، ماكثينَ في النَّارِ أبدًا ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرضُ، فلا ينقَطِعُ عذابُهم ولا ينتهي، إلَّا ما شاء ربُّك من إخراجِ عُصاةِ الموحِّدينَ بعدَ مُدَّةٍ مِن مُكثِهم في النَّارِ، إنَّ رَبَّك- أيُّها الرَّسولُ- فعَّالٌ لِما يريدُ، وأمَّا الذين رزَقَهم اللهُ السَّعادةَ فيدخُلونَ الجنَّةَ خالدينَ فيها ما دامَتِ السَّمواتُ والأرضُ، إلَّا الفريقَ الذي شاء اللهُ تأخيرَه، وهم عُصاةُ الموَحِّدينَ؛ فإنَّهم يَبقَونَ في النَّارِ مدَّةً مِن الزَّمَن، ثمَّ يخرُجونَ منها إلى الجنَّةِ بمشيئةِ اللهِ ورَحمتِه، ويُعطي ربُّك هؤلاءِ السُّعَداءَ في الجنَّةِ عطاءً غيرَ مَقطوعٍ عنهم.

تفسير الآيات:

 

ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100).

ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ.

أي: ذلك الذي قصَصْناه عليك- يا محمَّدُ- في هذه السُّورةِ مِن أخبارِ القُرى التي أهلَكْنا أهلَها نُخبِرُك به؛ لتُنذِرَ به النَّاسَ، ويكونَ آيةً على رسالتِك، وموعظةً وذِكرى للمُؤمنينَ

.

مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ.

أي: مِن تلك القرى التي قَصَصْنا عليك قُرًى عامِرٌ بُنيانُها، ومنها خَرابٌ قد تهدَّمَ بُنيانُها .

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101).

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ.

أي: وما ظَلَمْنا أهلَ تلك القرَى حينَ أهلَكْناهم، ولكنْ ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي فاستحَقُّوا العِقابَ .

فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ.

أي: فما نفعَتْهم آلهتُهم التي كانوا يعبُدونَها من دونِ اللهِ، ولم تدفَعْ عنهم شيئًا لَمَّا أتاهم عذابُ الله .

وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ.

أي: وما زادت هذه الآلهةُ عابِدِيها غيرَ تخسيرٍ وإهلاكٍ وتدميرٍ، عندَما جاءَ أمرُ اللهِ بعقابِهم .

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في كتابِه بما فعلَ بأُممِ من تقَدَّمَ مِن الأنبياءِ- لَمَّا خالفوا الرُّسُلَ وردُّوا عليهم- مِن عذابِ الاستئصالِ، وبيَّنَ أنَّهم ظَلَموا أنفُسَهم فحَلَّ بهم العذابُ في الدُّنيا- بيَّن بَعدَه أنَّ عذابَه ليس بمقتَصِرٍ على من تقدَّمَ، بل الحالُ في أخذِ كُلِّ الظالمينَ يكونُ كذلك .

وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ.

أي: وكما أهلَك ربُّك- يا محمَّدُ- أهلَ القُرى التي قصَصْنا عليك، كذلك نُهلِكُ أمثالَهم مِن الظَّالمينَ لأنفُسِهم بالكُفرِ والمعاصي .

عن أبي موسى رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملِي للظَّالمِ ، حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) .

إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.

أي: إنَّ إهلاكَ اللهِ وعِقابَه للظَّالمينَ مُوجِعٌ، شديدُ الإيلامِ .

كما قال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان ممَّا جَرَّ هذه القِصَص وهذه المواعِظَ تكذيبُ الكافرينَ لِما يُوعَدونَ مِن العذابِ النَّاشئِ عن إنكارِ البَعثِ المذكورِ في قَولِه تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؛ أشار تعالى إلى تحقُّقِ أمرِ الآخرةِ، وأنَّه ممَّا ينبغي الاهتمامُ به؛ إعلامًا بأنَّه لا فرقَ بينه وبين ما تحقَّقَ إيقاعُه من عذابِ هذه الأمَمِ في القُدرةِ عليه، بقولِه مؤكِّدًا لأجلِ جُحودِهم أن يكونَ في شيءٍ ممَّا مضى دلالةٌ عليه بوجهٍ مِن الوجوهِ .

وأيضًا فهي بَيانٌ للتَّعريضِ وتَصريحٌ بعد تلويحٍ، والمعنى: وكذلك أخذُ ربِّك فاحذَرُوه، واحذَرُوا ما هو أشدُّ منه، وهو عذابُ الآخرةِ .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ.

أي: إنَّ في إهلاكِ اللهِ للظَّالمينَ لَعِبرةً وعِظةً لِمَن يخافُ عذابَ اللهِ في الآخرةِ .

ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ.

أي: هذا اليومُ- يومُ القيامةِ- يَجمَعُ اللهُ فيه كُلَّ النَّاسِ أوَّلَهم وآخِرَهم؛ ليُجازيَهم فيه بأعمالِهم .

وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ.

أي: وهو يومٌ يشهَدُه جميعُ الخلائقِ؛ مِن الملائكةِ والإنسِ، والجِنِّ والطَّيرِ، والوُحوشِ والدوابِّ .

كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38] .

وقال سُبحانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93 - 95] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5] .

وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104).

أي: وما نؤخِّرُ مجيءَ يومِ القيامةِ إلَّا لوقتٍ مُحدَّدٍ معدودٍ عندَ الله، لا يُزادُ فيه ولا يُنقَصُ منه .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49-50] .

يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ جُملةَ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ تفصيلٌ لِمَدلولِ جُملةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] ، وبيَّنَت عظَمةَ ذلك اليومِ في الشَّرِّ والخيرِ تبعًا لذلك التَّفصيلِ. فالقصدُ الأوَّلُ من هذه الجملةِ هو قولُه تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ وما بعدَه، وأمَّا ما قَبلَه فتمهيدٌ له أفصحَ عن عظَمةِ ذلك اليومِ .

يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.

أي: حينَ يأتي يومُ القيامةِ لا تتكلَّمُ أيُّ نَفْسٍ إلَّا إذا أذِنَ اللهُ لها بذلك .

كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38] .

وعن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه في حديثِ الشَّفاعةِ الطَّويلِ: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ولا يتكَلَّمُ يومَئذٍ إلَّا الرُّسُلُ، ودعوى الرُّسُلِ يومَئذٍ: اللهُمَّ سلِّمْ سلِّمْ )) .

فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.

أي: فمِن النَّاسِ أشقياءُ يومئذٍ، وهم الكافرونَ، وسُعَداءُ، وهم المُؤمِنونَ المُتَّقون .

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106).

أي: فأمَّا الذين حصَلَت لهم الشَّقاوةُ، فهم مُنغَمِسونَ في عذابِ النَّارِ، لهم فيها زفيرٌ قبيحٌ يخرجُ مِن حُلوقِهم، وشَهيقٌ شديدٌ في صُدورِهم؛ مِن شِدَّةِ العذابِ الذي هم فيه .

خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107).

خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.

أي: لابثينَ في النَّارِ أبدًا .

إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ.

أي: إلَّا من شاء ربُّك- يا محمَّدُ- أن يُخرِجَهم من النَّارِ مِن عُصاةِ الموحِّدينَ، فيُدخِلهم الجنَّةَ برَحمتِه .

كما قال تعالى: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 128] .

وفي حديثِ الشَّفاعةِ الطَّويلِ عن أنسٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ثمَّ أعودُ الرَّابعةَ فأحمَدُه بتلك المحامدِ، ثمَّ أخِرُّ له ساجدًا، فيُقال: يا محمَّدُ، ارفَعْ رأسَك، وقُل يُسمَعْ، وسَلْ تُعطَه، واشفَعْ تُشَفَّعْ، فأقولُ: يا ربِّ، ائذَنْ لي فيمن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فيقول: وعِزَّتي وجلالي، وكبريائي وعظَمتي لأُخرجَنَّ منها من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ )) .

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَخرُجُ من النَّارِ مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وفي قَلبِه وزنُ شعيرةٍ مِن خَيرٍ، ويخرجُ من النَّارِ من قال: لا إلهَ إلَّا الله، وفي قلبِه وزنُ بُرَّةٍ مِن خيرٍ، ويخرجُ مِن النَّارِ من قال: لا إلهَ إلَّا الله، وفي قلبه وزن ذَرَّةٍ من خيرٍ)) .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللّهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُدخِلُ اللهُ أهلَ الجَنَّةِ الجنَّةَ، يُدخِلُ مَن يشاءُ برَحمَتِه، ويُدخِلُ أهلَ النَّارِ النَّارَ، ثمَّ يقولُ: انظُروا مَن وجدْتُم في قلبِه مِثقالَ حبَّةٍ مِن خردلٍ مِن إيمانٍ فأخرِجوه، فيخرجونَ منها حُمَمًا قد امْتَحَشُوا ، فيُلقَونَ في نَهرِ الحياةِ أو الحَيا، فيَنبُتونَ فيه كما تَنبُتُ الحِبَّةُ إلى جانبِ السَّيلِ، ألم تَرَوها كيف تَخرُجُ صَفراءَ مُلتَويةً؟!) ) .

وعن عمرانَ بنِ حصينٍ رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَخرجُ قومٌ مِن النارِ بشفاعةِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيدخلونَ الجنةَ، يُسمَّون الجهنَّميينَ )) .

إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ.

أي: إنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- لا يمنَعُه مانِعٌ مِن فِعلِ ما يُريدُه، بحسَبِ ما تقتَضيه حِكمتُه سُبحانه .

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108).

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.

أي: وأمَّا الذين رزَقَهم اللهُ السَّعادةَ برَحمتِه، فهم في الجنَّةِ لابثينَ فيها أبدًا .

إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ.

أي: إلَّا من شاء ربُّك- يا مُحمَّدُ- أن يُدخِلَهم النَّارَ مِن عُصاةِ الموحِّدينَ، ثمَّ يُخرِجهم إلى الجنَّةِ برَحمتِه .

عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ.

أي: عطاءً مِن اللهِ لأهلِ الجنَّةِ مُستمِرًّا غيرَ مَقطوعٍ عنهم

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ هذا الخبَرُ مِن الله تعالى ذِكرُه، وإن كان خبرًا عمَّن مضى من الأمَمِ قبلَنا، فإنَّه وعيدٌ مِن الله جلَّ ثناؤُه لنا- أيَّتُها الأمَّةُ- أنَّا إن سلَكْنا سبيلَ الأمَمِ قَبْلَنا في الخلافِ عليه وعلى رَسولِه، سلَكَ بنا سبيلَهم في العُقوبةِ، وإعلامٌ منه لنا أنَّه تعالى لا يظلِمُ أحدًا مِن خَلْقِه، وأنَّ العِبادَ هم الذين يظلِمونَ أنفُسَهم

.

2- قولُ الله تعالى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وهكذا كلُّ من التجأ إلى غيرِ اللهِ، لم ينفَعْه ذلك عند نزولِ الشَّدائدِ .

3- قولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ بيَّنَ أنَّ عذابَه تعالى ليس بمقتَصِرٍ على من تقَدَّمَ، بل الحالُ في أخذِ كلِّ الظالمينَ يكونُ كذلك، والآيةُ تدُلُّ على أنَّ من أقدَمَ على ظُلمٍ فإنَّه يجِبُ عليه أن يتدارَكَ ذلك بالتَّوبةِ والإنابةِ؛ لئلَّا يقعَ في الأخذِ الذي وصفَه الله تعالى بأنَّه أليمٌ شَديدٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ عُومِلَ زَادُوهُمْ مُعاملةَ العُقلاءِ في الإسنادِ إلى واوِ الضَّميرِ الذي هو لِمَن يعقِلُ؛ لأنَّهم نزَّلوهم منزلةَ العُقَلاءِ في اعتقادِهم أنَّها تنفَعُ، وعبادتِهم إيَّاهم

.

2- قولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ هذه آيةُ وعيدٍ تعُمُّ قُرى المؤمنينَ؛ فإنَّ (ظَالِمة) أعَمُّ مِن (كافرة)، وقد يمُهِلُ الله تعالى بعضَ الكَفَرةِ، وأمَّا الظَّلَمةُ في الغالبِ فمُعاجَلونَ . وقوله: إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فيه تحذيرٌ عظيمٌ عن الظلمِ كفرًا كان أو غيرَه، لغيرِه أو لنفسِه، ولكلِّ أهلِ قريةٍ ظالمةٍ .

3- لَمَّا ذكر سُبحانَه عقوباتِ الأُمَمِ المكَذِّبينَ للرسُلِ وما حَلَّ بهم في الدُّنيا من الخِزيِ، قال بعد ذلك: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ فأخبَرَ أنَّ عُقوباتِه للمُكذِّبينَ عِبرةٌ لِمَن خاف عذابَ الآخرةِ، وأمَّا من لا يؤمِنُ بها ولا يخافُ عذابَها، فلا يكونُ ذلك عبرةً وآيةً في حَقِّه؛ إذا سَمِعَ ذلك قال: لم يزَلْ في الدَّهرِ الخَيرُ والشَّرُّ، والنَّعيمُ والبُؤسُ، والسَّعادةُ والشَّقاوةُ، وربما أحال ذلك على أسبابٍ فلَكيَّةٍ وقُوًى نفسانيَّةٍ .

4- قَولُ الله تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أشار إلى يُسرِ البَعثِ وسُهولتِه عليه وأنَّه أمرٌ ثابِتٌ لا بدَّ منه، باسمِ المفعولِ، مِن قَولِه: مَجْمُوعٌ لَهُ .

5- قولُ الله تعالى: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فيه سُؤالٌ: كيف الجمعُ بين هذه الآيةِ وبين سائِرِ الآياتِ التي تُوهِمُ كونَها مُناقِضةً لهذه الآيةِ؛ منها قولُه تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [النحل: 111] ، ومنها أنَّهم يَكذِبونَ ويَحلِفونَ بالله عليه، وهو قولُه تعالى: قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، ومنها قولُه تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:4] ، ومنها قولُه تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35-36] .

والجوابُ من أوجهٍ:

الأولُ: أنَّه حيث ورد المنعُ مِن الكلامِ، فهو محمولٌ على الجواباتِ الصَّحيحةِ.

الثاني: أنَّ ذلك اليومَ يومٌ طويلٌ وله مواقِفُ؛ ففي بعضِها يُجادِلونَ عن أنفُسِهم، وفي بعضِها يكُفُّونَ عن الكلامِ، وفي بعضِها يُؤذَنُ لهم فيتكَلَّمون، وفي بعضِها يُختَمُ على أفواهِهم، وتتكَلَّمُ أيديهم، وتشهَدُ أرجُلُهم .

الثالثُ: أنَّهم لا ينطقونَ بما لهم فيه فائدةٌ، وما لا فائدةَ فيه كالعدمِ.

الرابعُ: أنَّهم بعدَ أن يقولَ الله لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] ينقطعُ نطقُهم، ولم يبقَ إلَّا الزَّفيرُ والشهيقُ .

6- قول الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ هذا الاستِثناءُ يُفيدُ إخراجَ أهلِ التَّوحيدِ مِن النَّارِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ يفيدُ أنَّ جُملةَ الأشقياءِ مَحكومٌ عليهم بهذا الحُكمِ، ثمَّ قَوله تعالى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ يُوجِبُ ألَّا يبقى ذلك الحُكمُ على ذلك المَجموعِ، ويكفي في زوالِ حُكمِ الخُلودِ عن المَجموعِ زوالُه عن بعضِهم، فوجبَ ألَّا يبقى حُكمُ الخلودِ لبَعضِ الأشقياءِ، ولَمَّا ثَبَت أنَّ الخُلودَ واجِبٌ للكُفَّارِ، وجَبَ أن يُقالَ: الذين زال حُكمُ الخُلودِ عنهم هم الفُسَّاقُ من أهلِ الصَّلاةِ .

7- قال الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ثمَّ عقَّبَ ذلك بقَولِه تعالى: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي: غير مقطوع؛ لئلَّا يتوهَّمَ مُتَوهِّمٌ بعد ذِكرِه المَشيئةَ أنَّ ثَمَّ انقطاعًا، أو لبسًا، أو شيئًا، بل ختَمَ له بالدَّوامِ وعدمِ الانقطاعِ، كما بيَّنَ هنا أنَّ عذابَ أهلِ النَّارِ في النَّارِ دائمًا مردودٌ إلى مشيئتِه، وأنَّه بعَدلِه وحِكمتِه عذَّبَهم؛ ولهذا قال: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ كما قال تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ، وهنا طَيَّبَ القُلوبَ وثَبَّتَ المقصودَ بقَولِه تعالى: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ .

8- في قولِه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ دلالةٌ على أبديَّةِ الجنَّةِ؛ وأنَّها لا تفنى ولا تَبيدُ .

9- دلَّ الاستثناءُ في قَولِه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ على خُلُودِ السُّعَدَاءِ في الجنَّةِ كلَّ وقتٍ؛ إلَّا وقتًا يشاءُ اللهُ ألَّا يكونوا فيها، وذلك يتناولُ وَقتَ كونِهم في الدُّنيا، وفي البَرزَخِ، وفي موقفِ يومِ القيامةِ، وعلى الصِّراطِ، وكَونِ بعضِهم في النَّارِ مُدَّةً

 

. هذا على أحدِ أوجهِ تأويلِ الآيةِ.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ

- جملةُ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ حالٌ مِن اسْمِ الإشارةِ ذَلِكَ، وعبَّر بالمضارِعِ نَقُصُّهُ مع أنَّ القَصصَ مَضى؛ لاستِحْضارِ حالةِ هذا القَصصِ البليغِ

.

- قولُه: مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ فيه تَشبيهٌ بليغٌ؛ فالقائمُ: الزَّرعُ المستقِلُّ على سُوقِه. والحَصيدُ: الزَّرعُ المحصودُ، وكِلاهما مُشبَّهٌ به للباقي مِن القرى والعافي. والمرادُ بالقائمِ ما كان مِن القرى الَّتي قصَّها اللهُ في القرآنِ قُرًى قائمًا بعضُها كآثارِ بلَدِ فِرعونَ، وقُرى بائدةً مِثلَ دِيارِ عادٍ، وقُرى قومِ لوطٍ، والمقصودُ مِن هذه الجملةِ الاعتبارُ .

- قولُه: وَحَصِيدٌ جعَل حَصْدَ الزَّرعِ كنايةً عن الفَناءِ .

2- قوله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ

- قولُه: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ تفريعٌ على قولِه: وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ؛ ووجهُ ذلك التَّفريعِ: أنَّ ظُلمَهم أنفُسَهم مَظهَرُه في عِبادتِهم الأصنامَ، والغرضُ مِن هذا التَّفريعِ التَّعريضُ بتَحذيرِ المشرِكين مِن العرَبِ من الاعتمادِ على نَفعِ الأصنامِ .

- وأُوثِرَت صيغةُ المضارِعِ في قولِه: يَدْعُونَ؛ حِكايةً للحالِ الماضيَةِ، أو دَلالةً على استمرارِ عِبادتِهم لها .

3- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ

- قولُه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ تذييلٌ فيه تعريضٌ بتهديدِ مُشرِكي العرَبِ مِن أهلِ مكَّةَ وغيرِها .

- قولُه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ فيه تشبيهٌ في الكيفيَّةِ والعاقبةِ؛ إذِ الإشارةُ بـ كَذَلِكَ إلى استِئْصالِ تلك القُرى، وهو ما يدُلُّ عليه قولُه: أَخْذُ رَبِّكَ، والتَّقديرُ: وكذلك الأخذِ الَّذي أخَذْنا به تلك القُرى أخْذُ ربِّك إذا أخَذَ القُرى .

- وقولُه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ قولُه: وَهِيَ ظَالِمَةٌ حالٌ مِن القُرى، وهي في الحقيقةِ لأهلِها، لكنَّها لَمَّا أُقيمَت مَقامَهم في الأخْذِ أُجرِيَتِ الحالُ عليها، وفائدتُها: الإشعارُ بأنَّهم إنَّما أُخِذوا بظُلمِهم؛ لِيَكونَ ذلك عِبْرةً لكلِّ ظالمٍ .

- وقولُه: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ في موضِعِ البيانِ لِمَضمونِ قولِه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ، وفيها إشارةٌ إلى وجْهِ الشَّبهِ ، وفيه ما لا يَخفْى مِن التَّهديدِ والتَّحذيرِ .

4- قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ

- قولُه: ذَلِكَ إشارةً إلى يومِ القيامةِ؛ لأنَّ عذابَ الآخِرةِ دَلَّ عليه؛ وتذكيرُ اسْمِ الإشارةِ مُراعاةً لِمَعنى الآخِرةِ .

- وأوثِرَ اسْمُ المفعولِ مَجْمُوعٌ على فِعْلِه (يُجْمَعُ)؛ لِما في اسْمِ المفعولِ مِن دَلالةٍ على ثَباتِ مَعنى الجمْعِ لليومِ، وأنَّه يومٌ لا بدَّ مِن أن يَكونَ ميعادًا مَضروبًا لجَمْعِ النَّاسِ له، وأنَّه الموصوفُ بذلك صِفةً لازِمةً، وهو أثبَتُ أيضًا لإسنادِ الجمعِ إلى النَّاسِ، وأنَّهم لا يَنفكُّون منه .

- وعَطفُ جُملةِ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ على جُملَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ له النَّاسُ؛ لزِيادةِ التَّهويلِ لليَومِ بأنَّه يُشهَدُ، وطُوِيَ ذِكْرُ الفاعلِ- فلم يُقَلْ: (يَشْهَدُه الشَّاهِدون)-؛ إذ ليس القَصْدُ إلى شاهِدِين مُعيَّنِين .

- قولُه: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ مُعتَرِضٌ بينَ قولِه: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وبينَ قولِه: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، والمقصودُ بالاعتراضِ الرَّدُّ على المنكِرين للبعثِ .

5- قولُه تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ

- قوله: نَفْسٌ يَعمُّ جميعَ النُّفوسِ؛ لوقوعِه في سِياق النَّفيِ مع كونِه نَكِرةً؛ فشَمِلَ النُّفوسَ البرَّةَ والفاجرِةَ، وشمِلَ كلامَ الشافعِ وكلامَ المجادِلِ عن نفْسِه، وقد فُصِّلَ عُمومُ النفوسِ باختلافِ أحوالِها، وهذا التَّفصيلُ مُفيدٌ تَفصيلَ النَّاسِ في قوله: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، ولكنَّه جاء على هذا النَّسْجِ لأجلِ ما تَخلَّل ذلك مِن شِبْهِ الاعتراضِ بقولِه: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود: 104] ، إلى قولِه: بِإِذْنِهِ، وذلك نسيجٌ بديعٌ .

- وقولُه: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فيه تقديمُ الشَّقيِّ على السَّعيدِ؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ تحذيرٍ وإنذارٍ ، وقد جاء نَظْمُ الكلامِ على تَقديمٍ وتأخيرٍ اقتَضاه وضْعُ الاستطرادِ بتَعظيمِ هَولِ اليومِ في موضِعِ الكلامِ المتَّصِلِ؛ لأنَّه أسعَدُ بتَناسُبِ أغراضِ الكلامِ، والظُّروفُ صالِحةٌ لاتِّصالِ الكلامِ كصَلاحيةِ الحروفِ العاطفةِ وأدواتِ الشَّرطِ .

- قولُه: وَسَعِيدٌ، أي: (ومِنْهم سَعيدٌ)؛ حُذِف الخبَرُ؛ لِدَلالة الأوَّلِ عليه .

6- قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ

خَصَّ بالذِّكرِ مِن أحوالِهم في جَهنَّمَ الزَّفيرَ والشَّهيقَ؛ تَنفيرًا مِن أسبابِ المصيرِ إلى النَّارِ؛ لِما في ذِكْرِ هاتَينِ الحالَتَينِ مِن التَّشويهِ بهم؛ وذلك أخوَفُ لهم مِن الألَمِ .

7- قولُه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ

- في قولِه: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا... الآيات: ما يُعرَفُ بالجمعِ مع التفريقِ والتقسيمِ؛ فالجمعُ في قولِه: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ لأنَّها مُتعدِّدةٌ معنًى؛ إذ النَّكرةُ في سِياقِ النفيِ تعمُّ، والتفريقُ في قولِه: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، والتقسيمُ في قولِه: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا .

.=====================

 

سورة هود

الآيات (109-115)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ

غريب الكلمات:

 

وَزُلَفًا: الزُّلَفُ: السَّاعاتُ القَريبُ بَعضُها مِن بَعضٍ، مِن أزلَفَه: إذا قَرَّبَه؛ لأنَّ كُلَّ ساعةٍ منها تَقرُبُ مِن الأخرى، وأصل (زلف): يَدُلُّ على انْدِفاعٍ، وَتَقَدُّمٍ في قُرْبٍ إلى شيءٍ

.

تَرْكَنُوا: أي: تَميلُوا أو: تَطمئِنُّوا، وتَسْكُنوا

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

كُلًّا اسم إنَّ منصوبٌ، ولَمَّا حرفُ نَفيٍ وجَزمٍ، حُذِفَ فِعلُه المجزومُ به، والتقديرُ: لَمَّا يُوَفَّوْا أعمالَهم

، ودلَّ على المحذوفِ قَولُه: لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، والجملةُ مِن (لَمَّا) ومدخولِها المحذوفِ (يُوَفَّوْا أعمالَهم) في محلِّ رفعٍ خبرُ إنَّ، وجملة: لَيُوَفِّيَنَّهمْ رَبُّكَ ... لا محلَّ لها مِن الإعرابِ، جوابُ قَسَمٍ مقدَّرٍ، والقسَمُ وجوابُه كلامٌ مُستأنَفٌ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: فلا تكُنْ- يا محمَّدُ- في شَكٍّ مِن بُطلانِ ما يعبُدُ هؤلاء المُشرِكونَ مِن قَومِك؛ ما يعبُدونَ مِن الأوثانِ إلَّا مِثلَ ما يعبُدُ آباؤهم مِن قبلُ، وإنَّا لمُوفُّوهم ما وعَدْناهم تامًّا غيرَ مَنقوصٍ، ولقد آتَينا موسى التَّوراةَ، فاختلفَ فيها قومُه؛ فآمنَ بها جماعةٌ وكفرَ بها آخرونَ، كما فعل قومُك بالقُرآنِ، ولولا كَلِمةٌ سبَقَت من ربِّك بأنَّه لا يُعجِّلُ لخَلْقِه العذابَ، لحلَّ بهم في دُنياهم قضاءُ اللهِ بإهلاكِ المكَذِّبينَ، ونجاةِ المُؤمنينَ، وإنَّ أهل الكتاب لفي شَكٍّ مِن كتابِهم، موقعٍ في الريبةِ والتهمةِ، وإنَّ كُلَّ أولئك الأقوامِ المُختَلفينَ الذين ذكَرْنا لك أخبارَهم، ليُوفِّينَّهم ربُّك جزاءَ أعمالِهم يومَ القيامةِ؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشَرٌّ، إنَّ رَبَّك بما يعملونَ خَبيرٌ.

ثمَّ يأمرُ الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم وأتباعَه بالاستقامةِ والثباتِ على هذا الدينِ، فيقولُ: فاستقِمْ- أيُّها النبيُّ- كما أمَرَك ربُّك، أنت ومن تاب معك، ولا تتَجاوَزوا ما حدَّه اللهُ لكم؛ إنَّ ربَّكم بما تَعمَلونَ مِن الأعمالِ كلِّها بصيرٌ، لا يخفى عليه شيءٌ منها، وسيُجازيكم عليها، ولا تَميلوا إلى هؤلاء الظَّلَمةِ فتُصيبَكم النَّارُ، وما لكم مِن دونِ اللهِ مِن ناصرٍ ينصُرُكم، ويتولَّى أمورَكم، وأدِّ الصَّلاةَ- أيُّها النبيُّ- على أتمِّ وجهٍ طَرَفَي النَّهارِ في الصَّباحِ والمساءِ، وفي ساعاتٍ مِن اللَّيلِ؛ إنَّ فِعْلَ الخيراتِ يكفِّرُ الذُّنوبَ السَّالفةَ، ويمحو آثارَها، ذلك الذي تقدَّم- ممَّا أمَرَكم اللهُ به ونهاكم عنه- مَوعِظةٌ لِمَن اتَّعظَ بها وتذكَّرَ، واصبِرْ- أيُّها النبيُّ- على ما أمَرَك اللهُ به وعلى ما تَلْقَى مِن الأذَى مِن مُشركي قومِك؛ فإنَّ اللهَ لا يُضيعُ ثوابَ المُحسنينَ في أعمالِهم.

تفسير الآيات:

 

فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ قصَصَ عبَدةِ الأوثانِ مِن الأمَمِ السَّالِفةِ، وأتبعَ ذلك بذِكرِ أحوالِ الأشقياءِ والسُّعَداءِ؛ شرحَ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحوالَ الكُفَّارِ مِن قَومِه، وأنَّهم متَّبِعو آبائِهم، كحالِ من تقدَّمَ مِن الأمَمِ في اتِّباعِ آبائِهم في الضَّلالِ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بوقوعِ القَضاءِ بتَمييزِ النَّاسِ في اليومِ المَشهودِ، كان ذلك كافيًا في الثَّباتِ على أمرِ اللهِ، والمضيِّ لإنفاذِ جميعِ ما أُرسِلَ به- وإن شقَّ- اعتمادًا على النُّصرةِ في ذلك اليومِ بحضرةِ تلك الجُموعِ، فكان ذلك سببًا للنَّهيِ عن القلَقِ في شيءٍ مِن الأشياءِ، وإن جَلَّ وقعُه وتعاظمَ خَطبُه .

وأيضًا فهذه الآيةُ تفريعٌ على القصَصِ الماضيةِ؛ فإنَّها تُكسِبُ سامِعَها يقينًا بباطلِ ما عليه عبَدةُ الأصنامِ، وبخَيبةِ ما أمَّلوه فيهم من الشَّفاعةِ في الدُّنيا، وأنَّ سابِقَ شَقائِهم في الدُّنيا بعذابِ الاستِئصالِ يؤذِنُ بسوءِ حالِهم في الآخرةِ؛ ففرَّعَ على ذلك نهيَ السَّامعِ أن يشُكَّ في سوءِ الشِّركِ وفَسادِه .

فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء.

أي: فلا تكُنْ- يا مُحمَّدُ- في شكٍّ ممَّا يعبُدُ مُشرِكو قومِك من الأصنامِ أنَّه باطلٌ، وضلالٌ، وشركٌ باللهِ تعالى .

مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ.

أي: ما يعبُدُ هؤلاء المُشرِكونَ إلَّا كعبادةِ آبائِهم مِن قبلُ، فهم يقلِّدونَهم بلا حجَّةٍ .

وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ.

أي: وإنَّا سنُوفِّي هؤلاء المُشرِكينَ حظَّهم ممَّا كُتِبَ لهم مِن الخيرِ في الدُّنيا، وحَظَّهم من العذابِ في الآخرةِ كاملًا بلا نقصٍ .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ الله تعالى في الآيةِ الأولى إصرارَ كفَّارِ مكَّةَ على إنكارِ التَّوحيدِ؛ بيَّن أيضًا إصرارَهم على إنكارِ نبوَّةِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتكذيبَهم بكتابِه، وبيَّن تعالى أنَّ هؤلاء الكُفَّارَ كانوا على هذه السِّيرةِ الفاسدةِ مع كلِّ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وضرب لذلك مثلًا، وهو: أنَّه لَمَّا أنزل التَّوراةَ على موسى عليه السَّلامُ اختلفوا فيه، فقَبِلَه بعضُهم، وأنكَره آخرون، وذلك يدلُّ على أنَّ عادةَ الخَلقِ هكذا .

وأيضًا لما ذكَّر اللهُ قومَ خاتَمِ النبيِّينَ وأمَّتَه أوَّلًا بالأقوامِ الذين غلَبَ عليهم الكُفرُ والجُحودُ، فلم يؤمِنْ إلَّا قليلٌ منهم، فوفَّاهم اللهُ جزاءَ أعمالِهم في الدُّنيا، وسيُوَفِّيهم إيَّاها في الآخرةِ- ذكَّرَهم في هاتينِ الآيتينِ بقَومِ موسى الذين آتاهم الكِتابَ فاختَلَفوا فيه، وكلِمَته في تأخيرِ جزائِهم إلى الآخرةِ؛ لأنَّهم لم يستحِقُّوا عذابَ الاستئصالِ في الدُّنيا، وأنَّ مَثَلَ الذين يختَلِفون من أمَّتِه في الكتابِ كمَثَلِ هؤلاء .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ.

أي: ولقد آتَينا موسَى التَّوراةَ، فاختَلَف قومُ موسى فيها، فآمنَ بها بعضُهم، ولم يؤمِنْ بها بعضٌ آخَرون فلا تحزَنْ- يا محمَّدُ- من تكذيبِ مُشركي قومِك بما آتيناك من القُرآنِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الجاثية: 16، 17].

وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.

أي: ولولا كَلِمةٌ سبَقَت من ربِّك- يا محمَّدُ- بتأخيرِهم، وعدمِ معاجلتِهم بالعذابِ، لأهلَكَهم في الحالِ، وميَّز بين أهلِ الحَقِّ بنَجاتِهم، وأهلِ الباطلِ بهلاكِهم .

كما قال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58].

وقال سُبحانه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45] .

وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ.

أي: وإنَّ المنتسبينَ إلى كتابِ موسَى عليه السلامُ لفي شكٍّ مِن أمرِ كتابِه التوراةِ، مُوقِعٍ فِي الريبةِ والتهمةِ، فلا يَدرونَ أحقٌّ هو أمْ باطِلٌ .

كما قال تعالى: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [الشورى: 14] .

وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111).

وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ.

أي: وإنَّ كلَّ المُختَلِفينَ ليُوفيَنَّهم ربُّك- يا محمَّدُ- جزاءَ أعمالِهم يومَ القيامةِ، فيُجازي كلَّ إنسانٍ بما يستحِقُّه .

إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.

أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بأعمالِهم كُلِّها، لا يخفَى عليه شيءٌ منها .

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا أخبَرَ تعالى بعدمِ استقامةِ أهلِ الكِتابِ، التي أوجَبَت اختلافَهم وافتراقَهم، أمر نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن معه مِن المؤمنينَ أن يستَقيموا كما أُمِروا، فيَسلُكوا ما شرَعَه اللهُ مِن الشَّرائع، ويعتَقِدوا ما أخبَرَ الله به من العقائدِ الصَّحيحةِ، ولا يَزيغوا عن ذلك يَمنةً ولا يَسرةً، ويَدوموا على ذلك، ولا يطغَوا بأن يتجاوَزوا ما حَدَّه اللهُ لهم من الاستقامةِ .

وأيضًا فإنَّه ترتَّبَ على التَّسليةِ التي تضَمَّنَها قولُه تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ [هود:110] وعلى التَّثبيتِ المُفادِ بقَولِه تعالى: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ [هود: 109] الحَضُّ على الدَّوامِ على التمَسُّكِ بالإسلامِ على وجهٍ قويمٍ، وعبَّرَ عن ذلك بالاستقامةِ .

وأيضًا فسياقُ هذه الآيةِ والتي تليها تفصيلٌ للأوامرِ والنَّواهي التي هي ثمرةُ الاعتبارِ بما كان مِن سيرةِ الأُمَم مع الرُّسُل؛ مَن جَحَدوا فأُهلِكوا، ومن آمَنوا ثم اختَلَفوا وتفَرَّقوا، فمن جمع بين هذا الأمرِ والنَّهيِ كَمَلَ إيمانُه، وما بعدهما تفصيلٌ لهما .

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ.

أي: فاثبُتْ- يا محمَّدُ- على الدِّينِ الذي أمَرَك الله به أنت ومَن اتَّبَعك من المؤمنينَ الذين رجَعوا معك إلى طاعةِ اللهِ .

كما قال تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت: 6] .

وعن سُفيانَ بنِ عبدِ الله الثَّقَفيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، قلْ لي في الإسلامِ قولًا، لا أسألُ عنه أحدًا بَعدَك، قال: قل: آمنتُ باللهِ، فاستَقِمْ )) .

وَلاَ تَطْغَوْاْ.

أي: ولا تتَجاوَزوا ما حدَّه اللهُ لكم من الاستقامةِ إلى ما نهاكم عنه .

إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

أي: إنَّ اللهَ بما تَعملونَ- أيُّها النَّاسُ- بصيرٌ، لا يخفَى عليه شيءٌ مِن أعمالِكم؛ خيرِها وشَرِّها، وسيُجازيكم عليها .

وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنه بعدَ أن نهاهم عن الطُّغيانِ الذي يشملُ أصولَ المفاسدِ، وكان هذا النهيُ جامعًا لأحوالِ مصادرِ الفسادِ مِن نفسِ المفسدِ، وبقِي ما يُخشَى عليه مِن عدوَى فسادِ خليطِه؛ لذا نهاهم عن التَّقارُبِ مِن الظالمينَ ، فقال:

وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ .

أي: ولا تَميلوا- أيُّها النَّاسُ- إلى الظَّلَمةِ؛ فإنكم إن مِلتُم إليهم، ووافقتُموهم على أفعالِهم ورضيتُم بها، وداهنتُموهم؛ تُصِبْكم النارُ .

وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ.

أي: ولا تَجِدونَ- إن رَكَنتُم إلى الظَّلَمةِ- أعوانًا مِن دونِ اللهِ يَنفعونَكم، ولا تَجِدونَ مَن يُخلِّصُكم مِن عذابِه .

وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذا أمرٌ بأعظَمِ العباداتِ وبأعظَمِ الأخلاقِ، اللَّذَينِ يُستَعانُ بهما على ما قَبلَهما؛ من الأمرِ بالاستقامةِ، والنَّهيِ عن الطُّغيانِ، والرُّكونِ إلى أولي الظُّلمِ؛ ولذلك عُطِفا عليهما .

سببُ النُّزُولِ:

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه: ((أنَّ رجُلًا أصاب من امرأةٍ قُبلةً، فأتى رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَرَ ذلك له، فأُنزِلَت عليه: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، قال الرَّجُل: ألي هذه؟ قال: لِمَن عَمِلَ بها مِن أُمَّتي )) .

وعن أبي اليَسَرِ كعبِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ الله عنه، قال: ((أتَتْني امرأةٌ تبتاعُ تمرًا، فقُلتُ: إنَّ في البيتِ تَمرًا أطيَبَ منه، فدخَلَت معي في البيتِ، فأهويتُ إليها فقبَّلتُها، فأتيتُ أبا بكرٍ فذكَرتُ ذلك له، قال: استُرْ على نفسِك وتُبْ، ولا تخبِرْ أحدًا، فلم أصبِرْ، فأتيتُ عُمرَ فذكَرتُ ذلك له، فقال: استُرْ على نفسِك وتُبْ، ولا تخبِرْ أحدًا، فلم أصبِرْ، فأتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَرتُ ذلك له، فقال: أخلَّفتَ غازيًا في سبيلِ اللهِ في أهلِه بمِثلِ هذا؟! حتى تمنَّى أنَّه لم يكُنْ أسلَمَ إلَّا تلك السَّاعةَ، حتى ظَنَّ أنَّه من أهلِ النَّارِ، قال: وأطرَقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طويلًا حتى أوحى اللهُ إليه: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ قال أبو اليَسَر: فأتيتُه فقَرَأها عليَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال أصحابُه: يا رسولَ اللهِ، ألهذا خاصَّةً أم للنَّاسِ عامَّةً؟ قال: بل للنَّاسِ عامَّةً )) .

وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ.

أي: وأقمِ الصلاةَ المفروضةَ، في أوَّلِ النهارِ وآخرِه، وهي صلاةُ الفجرِ والظهرِ والعصرِ .

وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ.

أي: وأقمِ الصلاةَ أيضًا في ساعاتٍ مِن الليلِ، وهي صلاةُ المغربِ والعشاءِ .

إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ.

أي: إنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ مِن الصَّلاةِ وغَيرِها تُكفِّرُ صغائِرَ الذُّنوبِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّه سَمِعَ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحَدِكم يغتَسِلُ منه كلَّ يومٍ خَمسَ مرَّاتٍ، هل يبقى مِن دَرَنِه شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى مِن دَرَنِه شيءٌ، قال: فذلك مثَلُ الصَّلواتِ الخَمسِ؛ يمحو اللهُ بهنَّ الخَطايا )) .

وعنه أيضًا رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ: ((الصَّلواتُ الخمسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعةِ، ورمضانُ إلى رَمضانَ؛ مكَفِّراتٌ ما بينهُنَّ إذا اجتَنَبَ الكبائِرَ )) .

ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ.

أي: ذلك- الذي تقدَّمَ ممَّا أمَرَكم اللهُ به ونهاكم عنه- تذكِرةٌ وعِظةٌ للمتَّعِظينَ الذين يذكُرونَ اللهَ، ويذكُرونَ وَعْدَه ووعيدَه، فيَرجونَ ثوابَه ويخافون عِقابَه .

وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

مُناسَبةُ وقوعِ الأمرِ بالصَّبرِ عَقِبَ الأمرِ بالاستقامةِ والنَّهيِ عن الرُّكونِ إلى الذين ظَلَموا: أنَّ المأموراتِ لا تخلو عن مشَقَّةٍ عَظيمةٍ، ومُخالَفةٍ لِهَوى كثيرٍ منَ النُّفوسِ، فناسب أن يكونَ الأمرُ بالصَّبرِ بعد ذلك؛ ليكونَ الصَّبرُ على الجميعِ، كلٌّ بما يناسِبُه .

وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115).

أي: واحبِسْ نفسَك على طاعةِ اللهِ، وتَرْكِ مَعصيتِه، وتحمُّلِ أذى الكفَّارِ؛ فإنَّ اللهَ لا يُضيعُ ثوابَ المُطيعينَ لله، ويُعطيهم ثوابَهم كاملًا غيرَ مَنقوصٍ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ يدُلُّ على وجوبِ اتِّباعِ النُّصوصِ في الأمورِ الدِّينيَّةِ

.

2- قولُه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ أفاد قولُه: فَاسْتَقِمْ الدَّوامَ على العمَلِ بتعاليمِ الإسلامِ دوامًا جِماعُه الاستقامةُ عليه، والحذَرُ مِن تغييرِه .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فيه التَّحذيرُ مِن الرُّكونِ إلى كلِّ ظالمٍ، والمرادُ بالرُّكونِ: المَيلُ والانضمامُ إليه بظُلمِه، وموافقتُه على ذلك، والرِّضا بما هو عليه من الظُّلمِ، وإذا كان هذا الوعيدُ في الرُّكونِ إلى الظَّلَمةِ، فكيف حالُ الظَّلَمةِ أنفُسِهم ؟! فهذه الآيةُ مِن أشدِّ الآياتِ النازلةِ في زجرِ الظلمةِ وردعِهم .

4- قَوْلُهُ: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فيه دليلٌ على المنعِ من مصادقةِ المشركين، وموالاةِ الظالمينَ، والميلِ إليهم بالمحبةِ والسُّكونِ .

5- قولُ الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ المقصودُ أن تكونَ الصَّلاةُ أوَّلَ أعمالِ المُسلِمِ إذا أصبحَ- وهي صلاةُ الصُّبحِ- وآخِرَ أعمالِه إذا أمسى- وهي صلاةُ العِشاءِ- لتكونَ السَّيِّئاتُ الحاصِلةُ فيما بين ذلك ممحُوَّةً بالحَسَناتِ الحافَّةِ بها .

6- إقامةُ الصَّلواتِ المَفروضاتِ على وجهِها يُوجِبُ مُباعدةَ الذُّنوبِ، ويُوجِبُ أيضًا إنقاءَها وتطهيرَها؛ قال الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ .

7- قال الله تعالى: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل يتقبَّلُ اللهُ عنهم أحسَنَ الذي عَمِلوا، ويجزيهم أجرَهم بأحسَنِ ما كانوا يعمَلونَ، وفي هذا ترغيبٌ عظيمٌ لِلُزومِ الصَّبرِ، بتشويقِ النَّفسِ الضَّعيفةِ إلى ثوابِ اللهِ كلَّما وَنَت وفتَرَت

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ لَمَّا كانت التَّوفيةُ قد تُطلَقُ على مجرَّدِ الإعطاءِ، وقد يكون ذلك على التَّقريبِ؛ نفَى هذا الاحتمالَ بقَولِه تعالى: غَيْرَ مَنْقُوصٍ

.

2- قولُ الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ لَمَّا كان من المقطوعِ به أنَّ الآمِرَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن له الأمرُ كُلُّه، بُني للمفعولِ قَولُه: كَمَا أُمِرْتَ .

3- قولُ الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ هذه الآيةُ أصلٌ عَظيمٌ في الشَّريعةِ؛ وذلك لأنَّ القرآنَ لَمَّا ورد بالأمرِ بأعمالِ الوُضوءِ مُرتَّبةً في اللَّفظِ، وجب اعتبارُ التَّرتيبِ فيها؛ لِقَولِه تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ، ولَمَّا ورد الأمرُ في الزَّكاةِ بأداءِ الإبِلِ مِن الإبلِ، والبقَرِ مِن البقَرِ؛ وجبَ اعتبارُها، وكذا القولُ في كلِّ ما ورد أمرُ الله تعالى به .

4- جَمَع قولُه تعالى: وَلا تَطْغَوْا وقولُه: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أصلَيِ الدِّينِ، وهما: الإيمانُ والعملُ الصَّالحُ، وقال الحسنُ: (جَعَلَ اللَّهُ الدَّين بَين لائين وَلا تَطْغَوْا، وَلَا تَرْكَنُوا) .

5- قولُ الله تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا استدَلَّ به من مَنع الاستِعانةَ بالكفَّارِ في الحربِ، ومَنع استِعمالَهم في مصالحِ المُسلمينَ .

6- قولُ الله تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ هذه الآيةُ أصلٌ في سَدِّ ذرائِعِ الفسادِ المحَقَّقةِ أو المَظنونةِ .

7- لَمَّا كان الرُّكونُ إلى الظَّالمِ -وهو الميلُ إليه، والاعتِمادُ عليه- دونَ مُشارَكتِه في الظُّلمِ؛ أخبر أنَّ العِقابَ عليه دونَ العقابِ على الظُّلمِ، فأتى بلفظِ (المسِّ) الَّذي هو دونَ الإحراقِ والاصطِلاءِ، فقال تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّار، وإنْ كان المسُّ قد يُطلقُ ويُرادُ به الإشعارُ بالعذابِ .

8- قولُ الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ لَمَّا أمر تعالى بالاستقامةِ، أردَفَه بالأمرِ بالصَّلاةِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ أعظمَ العِباداتِ- بعد الإيمانِ بالله- الصَّلاةُ .

9- تكفيرُ الصَّغائرِ يقَعُ بشَيئينِ: أحدهما: الحسَناتُ الماحيةُ، والثاني: اجتِنابُ الكبائرِ. وقد نصَّ عليها سبحانَه وتعالى فى كتابِه، فقال تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وقال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء: 31] .

10- قولُ الله تعالى: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أتى بعد أن أمَرَ بالصَّبرِ بلفظٍ عامٍّ، وهو أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ؛ ليندرِجَ فيه كلُّ من أحسَنَ بسائرِ خِصالِ الإحسانِ ممَّا يحتاجُ إلى الصَّبرِ فيه، وما قد لا يحتاجُ، كطَبعِ مَن خُلِقَ كريمًا، فلا يتكَلَّفُ الإحسانَ؛ إذ هو مركوزٌ في طبعِه .

11- قولُ الله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، أي: أجرَ أعمالِهم، عدلَ عن الضَّميرِ؛ ليكونَ كالبُرهانِ على المقصودِ، ودليلًا على أنَّ الصَّلاةَ والصَّبرَ إحسانٌ، وإيماءً بأنَّه لا يُعتَدُّ بهما دونَ الإخلاصِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ

- قوله: فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ الفاءُ لترتيبِ النَّهْيِ على ما قُصَّ من القصصِ، وبُيِّن في تَضاعيفِها مِن العَواقبِ الدُّنيَويَّةِ والأُخرَويَّةِ

.

- جُمْلَةُ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ مُستأنَفةٌ؛ تعليلًا لانتفاءِ الشَّكِّ في عاقبةِ أمرِهم في الدُّنيا .

- وعبَّر عن عبادةِ الآباءِ بالمضارِعِ يَعْبُدُ؛ للدَّلالةِ على استمرارِهم على تلك العبادةِ؛ أي: إلَّا كما اعتاد آباؤُهم عبادتَهم، والقرينةُ على المُضِيِّ قولُه: مِنْ قَبْلُ .

- وقولُه: لَمُوَفُّوهُمْ ونَصِيبَهُمْ وارِدٌ على سبيلِ التَّهكُّمِ؛ كأنَّ لهم عَطاءً يَسأَلونه فوُفُّوه .

- قولُه: غَيْرَ مَنْقُوصٍ وقَع حالًا مؤكِّدةً مِن النَّصيبِ؛ لتحقيقِ التَّوفيةِ؛ زيادةً في التَّهكُّمِ، لأنَّ مِن إكرامِ الموعودِ بالعطاءِ أن يُؤكَّدَ له الوعدُ، ويُسمَّى ذلك بالبشارةِ، والمرادُ نَصيبُهم مِن عذابِ الآخرةِ، ومِن فَوائدِه أيضًا: دفْعُ تَوهُّمِ التَّجوُّزِ وجَعلُها مُقيدةً له؛ لِدَفعِ احتِمالِ كَونِه مَنقوصًا في حَدِّ نفسِه، مبنيٌّ على الذُّهولِ عن كَونِ العاملِ هو التَّوفيةَ .

2- قولُه تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ

- قولُه: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ اعتِراضٌ لِتَثبيتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَسْليَتِه بأنَّ أهْلَ الكتابِ- وهُم أحسَنُ حالًا مِن أهلِ الشِّركِ- قد أُوتوا الكتابَ فاختَلفوا فيه، وهم أهلُ مِلَّةٍ واحدةٍ؛ فلا تأْسَ مِن اختِلافِ قومِك عليك .

- قولُه: فَاخْتُلِفَ فِيهِ هذا الاختلافُ بأنواعِه وأحوالِه يَرجِعُ إلى الاختلافِ في شيءٍ مِن الكتابِ، فجُمِعَت هذه المعاني جَمعًا بديعًا في تعديَةِ الاختلافِ بحَرْفِ (في)، وهي كالمُلابَسةِ، أي: فاختُلِف اختِلافًا يُلابِسُه، أي: يُلابِسُ الكتابَ .

- وبُني فعلُ (اختُلِف) للمجهولِ؛ إذ لا غرَضَ إلَّا في ذِكْرِ الفعلِ لا في فاعِلِه؛ لأنَّ الغرَضَ لم يَكُنْ مُتعلِّقًا ببيانِ المختلِفين ولا بذَمِّهم، بل كان للتَّحذيرِ مِن الوقوعِ في مثلِه .

3- قولُه تعالى: وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَضمَّنَت هذه الآيةُ عِدَّةَ توكيداتٍ: التَّوكيدَ بـ (إنَّ)، وبـ (كلٍّ)، وباللَّامِ في الخبَرِ وبالقسَمِ، وبـ (ما) إذا كانت زائدةً، وبنونِ التَّوكيدِ وباللَّامِ قبْلَها؛ وذلك مُبالَغةً في وعْدِ الطَّائعِ ووعيدِ العاصي، وأردَفَ ذلك بالجملةِ المؤكِّدةِ، وهي: إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، وهذا الوصفُ يَقتَضي عِلمَ ما خَفي .

- قولُه: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ استِئنافٌ وتعليلٌ للتَّوفيَةِ؛ لأنَّ إحاطةَ العلمِ بأعمالِهم مع إرادةِ جَزائِهم تُوجِبُ أن يَكونَ الجزاءُ مُطابِقًا للعمَلِ تمامَ المطابَقةِ؛ وذلك محقَّقُ التَّوفيةِ .

4- قولُه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ

- في قولِه: فَاسْتَقِمْ توجيهُ الأمرِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ تَنويهًا بشأنِه؛ لِيَبنِيَ عليه قولَه: كَمَا أُمِرْتَ؛ فيُشيرَ إلى أنَّه المتلقِّي للأوامرِ الشَّرعيَّةِ ابتِداءً، وهذا تنويهٌ له بمقامِ رسالتِه، ثمَّ أعلَم بخِطابِ أمَّتِه بذلك بقولِه: وَمَنْ تَابَ مَعَكَ .

- قولُه: كَمَا أُمِرْتَ فيه تشبيهُ الاستقامةِ المأمورِ بها بما أُمِر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِكَونِ الاستقامةِ مُماثِلةً لسائرِ ما أُمِر به، وهو تشبيهُ المجمَلِ بالمفصَّلِ في تفصيلِه بأن يَكونَ طِبْقَه، ويَؤُولُ هذا المعنى إلى أن تَكونَ الكافُ في مَعْنى (عَلى)، كما يُقالُ: كُن كَما أنت، أي: لا تَتغيَّرْ، ولْتُشْبِهْ أحوالُك المستقبَلةُ حالَتَك هذه .

- قولُه: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ في معنى التَّعليلِ للأمْرِ والنَّهيِ .

- وفي قولِه تعالى هنا: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال في مثلِ هذا السِّياقِ مِن سورةِ (الشُّورى): وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ [الشورى:14- 15] ؛ ووجهُ ذلك: أنَّه في سورةِ (هودٍ) اكتَفى بالأمرِ بالاستقامةِ على الجادَّةِ، والنَّهيِ عن الطُّغيانِ، ومنه البغيُ الَّذي يورِثُ الاختلافَ؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ العِبْرةِ العامَّةِ بقَصصِ الرُّسلِ كافَّةً، لا بحالِ قومِ موسى ومَن أورِثوا الكتابَ خاصَّةً، وأمَّا في سورةِ الشُّورى فأمَرَه أن يَدْعوَ إلى الدِّينِ الذي كان عليه الرُّسلُ في عُصورِهم، قبلَ الاختلافِ فيه الَّذي ابتُدِع مِن بَعدِهم، وأن يَستَقيمَ عليه كما أمَرَه اللهُ، وأن يُخاطِبَ أهلَ الكتابِ بما يَتبرَّأُ به مِن الاختلافِ، ومِن إثارتِه بحُججِ الجدالِ؛ فهذا فرقُ ما بين المقامَين في هذه الآياتِ المتشابِهة .

5- قولُه تعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ

- قولُه: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، قال: وَلَا تَرْكَنُوا؛ والرُّكونُ هو الْمَيلُ اليَسيرُ، وقال: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، أي: إلى الَّذين وُجِد منهم الظُّلمُ، ولم يَقُلْ: (إلى الظَّالِمين)، وهو أبلَغُ؛ فقد حُكي عن بعضِ السَّلفِ: أنَّه صلَّى خلْفَ الإمامِ فقرَأ بهذه الآيةِ فغُشي عليه، فلمَّا أفاق قيل له، فقال: هذا فيمَن ركَن إلى مَن ظلَم؛ فكيف بالظَّالمِ ؟!

- لفظةُ: فَتَمَسَّكُمْ المسُّ كنايةٌ عن الإصابةِ .

6- قولُه تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ

- جملةُ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ مَسوقةٌ مَساقَ التَّعليلِ للأمرِ بإقامةِ الصَّلواتِ، وتأكيدُ الجملةِ بحَرفِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ وتحقيقِ الخبَرِ، و(إنَّ) فيه مُفيدةٌ معنى التَّعليلِ والتَّفريعِ، وهذا التَّعليلُ مُؤْذِنٌ بأنَّ اللهَ جعَل الحسَناتِ يُذْهِبْن السَّيِّئاتِ، والتَّعليلُ مُشعِرٌ بعُمومِ أصحابِ الحسَناتِ؛ لأنَّ الشَّأنَ أن تَكونَ العِلَّةُ أعَمَّ مِن المعلولِ مع ما يَقتَضيه تعريفُ الجمعِ باللَّامِ مِن العمومِ .

- وخَصَّ الذَّاكرينَ بالذِّكرِ؛ لأنَّهم المُنتَفِعونَ بالذِّكرى .

7- قولُه تعالى: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فيه الرجوعُ إلى التَّذكيرِ بالصَّبرِ بعدَما جاء بما هو خاتِمةٌ للتَّذكيرِ، وهذا الرجوعُ لِفَضلِ خُصوصيَّةٍ ومَزيَّةٍ، وتَنبيهٌ على مَكانِ الصَّبرِ ومَحلِّه، كأنَّه قال: (وعَليك بما هو أهَمُّ ممَّا ذُكِّرتَ به، وأحَقُّ بالتَّوصيَةِ، وهو الصَّبرُ على امتِثالِ ما أُمِرتَ به والانتهاءُ عما نُهيتَ عنه)؛ فلا يَتِمُّ شيءٌ منه إلَّا به .

- قولُه: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ حرفُ التَّأكيدِ (إنَّ) مَجلوبٌ للاهتمامِ بالخبَرِ، وسُمِّي الثَّوابُ أجْرًا؛ لوُقوعِه جَزاءً على الأعمالِ ومَوعودًا به؛ فأشبَهَ الأجرَ .

======

 

سورة هود

الآيات (116-119)

ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ

غريب الكلمات:

 

أُولُو بَقِيَّةٍ: أي: ذوو فَضلٍ ودينٍ وعِلمٍ، وسُمِّى الفضلُ (بقيةً)؛ لأنَّ الرجلَ يَستَبقي مِمَّا يُخرِجُه أجوَدَه وأفضَلَه، فصار لفظُ (البقيَّةِ) مثلًا في الجَودةِ والفَضلِ، وأصلُ (بقي): يدلُّ على الدَّوامِ

.

أُتْرِفُوا: أي: أُعطوا من الأموالِ ونُعِّموا؛ مِن التَّرَف: وهو السَّعةُ والنَّعيمُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالَى: فهلَّا وُجِدَ مِن القُرونِ الماضيةِ بقايا مِن أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ، ينهونَ أهلَ الكُفرِ عن كُفرِهم، وعن الفَسادِ في الأرضِ، لم يُوجَدْ من أولئك الأقوامِ إلَّا قليلٌ ممَّن آمنَ، فنجَّاهم الله بسبَبِ ذلك مِن عذابِه حين أخذ الظَّالمينَ، واتَّبع عامَّتُهم- من الذين ظَلَموا أنفُسَهم- ما مُتِّعوا فيه مِن لذَّاتِ الدُّنيا ونعيمِها، وكانوا مُجرمينَ ظالمينَ باتِّباعِهم ما تنَعَّموا فيه، فحقَّ عليهم العذابُ.

وما كان ربُّك- يا مُحمَّدُ- لِيُهلِكَ قريةً مِن القرى وأهلُها مُصلِحونَ في الأرضِ، مُجتَنِبونَ للفَسادِ والظُّلمِ، ولو شاء ربُّك لجعل النَّاسَ كُلَّهم جماعةً واحدةً على دينٍ واحدٍ، وهو دينُ الإسلامِ، ولكنَّه سُبحانَه لم يشأْ ذلك، فلا يزالُ النَّاسُ مُختلفينَ في أديانِهم، إلَّا مَن رَحِمَ ربُّك فآمَنوا به واتَّبَعوا رُسُلَه، فإنَّهم لا يختَلِفونَ في توحيدِ اللهِ وما جاءت به الرُّسُلُ مِن عندِ الله، وقد اقتَضَت حِكمتُه سُبحانه وتعالى أنَّه خَلقَهم مُختَلفينَ: فريقٌ شَقيٌّ وفريقٌ سعيدٌ، وكلُّ ميسَّرٌ لِما خُلِق له، وبهذا يتحقَّقُ وعدُ رَبِّك في قضائِه وقَدَرِه: أنَّه سُبحانَه سيملأُ جهنَّمَ مِن الجِنِّ والإنسِ الذين اتَّبَعوا إبليسَ وجُندَه ولم يَهتَدوا للإيمانِ.

تفسير الآيات:

 

فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّ الأممَ المتقَدِّمينَ حَلَّ بهم عذابُ الاستِئصالِ؛ بيَّنَ أنَّ السَّببَ فيه أمرانِ: السَّببُ الأوَّل: أنَّه ما كان فيهم قومٌ ينهَونَ عن الفَسادِ في الأرضِ، والسَّببُ الثَّاني: قولُه: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى إهلاكَ الأُممِ المكَذِّبةِ للرُّسُل، وأنَّ أكثَرَهم مُنحَرِفونَ، حتى أهلَ الكُتُب الإلهيَّة، وذلك كلُّه يقضي على الأديانِ بالذَّهابِ والاضمحلالِ؛ ذكَرَ أنَّه لولا أنَّه جعلَ في القُرونِ الماضيةِ بقايا من أهلِ الخَيرِ يَدعُونَ إلى الهُدى، ويَنهَونَ عن الفَسادِ والرَّدَى، فحصل مِن نَفْعِهم ما بقِيَت به الأديانُ، ولكنَّهم قليلون جِدًّا، وغايةُ الأمرِ أنَّهم نَجَوا باتِّباعِهم المُرسَلين، وقيامِهم بما قاموا به مِن دينِهم، وبكونِ حُجَّةِ الله أجراها على أيديهم .

فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ.

أي: فهلَّا وُجِدَ من أهلِ القُرونِ الماضيةِ- الذين أهلَكْناهم بذُنوبِهم ممَّن قصَصْتُ عليك يا محمَّدُ نبأَهم في هذه السُّورةِ- بقايا مِن أصحابِ العُقولِ والإيمانِ والخَيرِ، يَنهَونَ النَّاسَ عن الفَسادِ في الأرضِ بالكُفرِ والمعاصي .

إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ.

أي: لكن قليلًا مِن أولئك كانوا يَنهَونَ عن الفَسادِ في الأرضِ، وهم أتباعُ الرُّسُلِ الذين أنجاهم اللهُ تعالى من الهَلاكِ .

وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ.

أي: واتَّبَعَ الذين ظَلَموا أنفُسَهم من الأمَمِ الماضيةِ ما نُعِّموا فيه من لذَّاتِ الدُّنيا، وانشغلوا به، وآثَرُوه على الآخرةِ .

وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ.

أي: وكان الظَّالِمونَ المُترَفونَ مُجرمينَ باكتسابِ الكُفرِ والمعاصي، فاستحَقُّوا عِقابَ اللهِ .

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا لاح بما مضَى أنَّ العِبرةَ في الإهلاكِ والإنجاءِ للأكثَرِ؛ قرَّرَه وأكَّدَه وبيَّنَه .

وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117).

أي: وما كان ربُّك- يا محمَّدُ- ليُهلكَ أهل القرى بظلمٍ منه لهم، والحالُ أنَّ أهلَها مُصلِحونَ في أعمالِهم؛ فاللهُ تعالى لم يُهلِكْ قَريةً إلَّا وهي ظالِمةٌ لنَفسِها .

كما قال تعالى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: 131] .

وقال سُبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .

وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا كان النَّعيُ على الأمَمِ الذين لم يقعْ فيهم من يَنهَونَ عن الفَسادِ، فاتَّبَعوا الإجرامَ، وكان الإخبارُ عن إهلاكِهم بأنَّه ليس ظُلمًا مِن اللهِ، وأنَّهم لو كانوا مُصلِحينَ لَما أُهلِكوا، لَمَّا كان ذلك كلُّه قد يثيرُ توَهُّمَ أنَّ تعاصيَ الأمَمِ عمَّا أراد اللهُ منهم خروجٌ عن قبضةِ القُدرةِ الإلهيَّةِ؛ أعقَبَ ذلك بما يرفَعُ هذا التوهُّمَ بأنَّ اللهَ قادِرٌ أن يجعَلَهم أمَّةً واحدةً متَّفِقةً على الحَقِّ، مُستمرَّةً عليه كما أمَرَهم أن يكونوا .

وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً.

أي: ولو شاء ربُّك- يا محمَّدُ- لجعل جميعَ النَّاسِ على ملَّةٍ واحدةٍ .

كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام: 35] .

وقال سُبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 93] .

وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ.

أي: ولا يزالُ النَّاسُ مُختَلفينَ في أديانِهم ومذاهِبِهم وآرائِهم .

إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا أشعَرَ الاختلافُ بأنَّه اختلافٌ في الدِّينِ، وأنَّ معناه العدولُ عن الحَقِّ إلى الباطلِ- لأنَّ الحَقَّ لا يقبَلُ التعدُّدَ والاختلافَ- عقَّبَ عمومَ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ باستثناءِ مَن ثَبَتوا على الدِّينِ الحَقِّ ولم يُخالِفوه، بقَولِه تعالى :

إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ.

أي: إلَّا مَن رَحِمَهم اللهُ، فهداهم إلى الإيمانِ به، واتِّباعِ رُسُلِه؛ فإنَّهم لا يختَلِفونَ فيما جاءهم مِن عندِ ربِّهم .

عن عوفِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((افتَرَقت اليهودُ على إحدى وسبعينَ فِرقةً؛ فواحدةٌ في الجنَّةِ، وسبعونَ في النَّارِ، وافتَرَقت النَّصارى على ثِنتَينِ وسبعين فِرقةً؛ فإحدى وسبعونَ في النَّارِ، وواحِدةٌ في الجنَّةِ، والذي نفسُ محمَّدٍ بِيَدِه لتفتَرِقنَّ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فِرقةً؛ واحدةٌ في الجنَّةِ، وثِنتانِ وسَبعون في النَّارِ، قيل: يا رسولَ اللهِ من هم؟ قال: الجماعةُ) ) .

وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ.

أي: وللاختلافِ بالشَّقاءِ والسَّعادةِ خَلَقَهم، فخلَقَ قومًا للاختلافِ والشَّقاءِ، وقَومًا للرَّحمةِ والسَّعادةِ، وذلك بحسَبِ ما تقتَضيه حِكمتُه عزَّ وجلَّ .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] .

وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قال: ((حدَّثنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو الصَّادِقُ المصدوقُ: إنَّ أحَدَكم يُجْمَعُ خَلْقُه في بطنِ أُمِّه أربعينَ يومًا، ثُمَّ يكونُ في ذلك عَلَقَةً مثلَ ذلك، ثُمَّ يكونُ في ذلك مُضغةً مثلَ ذلك، ثُمَّ يُرسَلُ الملَكُ فينفخُ فيه الرُّوحَ، ويُؤْمَرُ بأربعِ كلماتٍ: بكَتْبِ رِزْقِه، وأجَلِه، وعملِه، وشقِيٌّ أو سعيدٌ )) .

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

أي: وتمَّ أمرُ اللهِ ونفَذَ قضاؤُه بما سبقَ في عِلمه ليَمْلأنَّ جهنَّم ممَّن يستحِقُّها من الجِنِّ والإنسِ أجمعينَ .

كما قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .

وقال سُبحانه مخاطبًا إبليسَ: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84-85] .

وعن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((احتجَّت النَّارُ والجنَّةُ، فقالت هذه: يَدخُلُني الجبَّارون والمتكَبِّرون، وقالت هذه: يَدخُلُني الضُّعَفاءُ والمساكينُ، فقال الله عزَّ وجلَّ لهذه: أنتِ عذابي أُعَذِّبُ بكِ من أشاء- وربَّما قال: أصيبُ بكِ من أشاء- وقال لهذه: أنتِ رحمتي أرحمُ بكِ من أشاء، ولكلِّ واحدةٍ منكما مِلؤُها ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فيه تنبيهٌ لهذه الأمَّةِ، وحَضٌّ لها على تغييرِ المُنكَر

، وأن يكون فيهم بقايا مُصلِحون لِما أفسَدَ النَّاسُ، قائِمونَ بدِينِ اللهِ؛ يدعونَ من ضلَّ إلى الهُدى، ويَصبِرون منهم على الأذى، ويُبَصِّرونَهم مِن العَمى .

2- قَولُ الله تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ فيه أنَّه تعالى لا يُهلِكُ أهلَ القُرى بمجَرَّدِ كَونِهم مُشرِكينَ، إذا كانوا مُصلِحينَ في المُعاملاتِ فيما بينهم، بل إنَّما يُنزِلُ ذلك العذابَ إذا أساؤوا في المُعاملات وسَعَوا في الإيذاءِ والظُّلمِ ، وذلك على أحدِ أوجهِ تأويلِ الآيةِ.

3- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ الاختلافُ المذمومُ المحَذَّرُ منه هو الاختلافُ في أصولِ الدِّينِ الذي يترتَّبُ عليه اعتبارُ المخالفِ خارجًا عن الدِّينِ، وإن كان يزعُمُ أنَّه مِن متَّبِعيه، فإذا طرأ هذا الاختلافُ وجبَ على الأمَّةِ قَصمُه، وبَذلُ الوُسعِ في إزالتِه مِن بينهم بكُلِّ وسيلةٍ مِن وسائلِ الحَقِّ والعدلِ، بالإرشادِ والمُجادَلة الحَسَنة والمُناظَرة، فإنْ لم يَنجَعْ ذلك فبالقِتالِ، كما فعل أبو بكرٍ رَضِيَ الله عنه في قتالِ العَرَبِ الذين جَحَدوا وجوبَ الزَّكاةِ، وكما فعل عليٌّ رَضِيَ الله عنه في قِتالِ الحَرُوريَّة الذين كفَّروا المُسلمينَ، وهذه الآيةُ تحذيرٌ شديدٌ من ذلك الاختلافِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ في تعقيبِ هذه الآيةِ لآيةِ الصَّبرِ إشارةٌ إلى أنَّ الصَّبرَ على الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَر، في الذِّروةِ العُليا

.

2- قَولُ الله تعالى: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ في هذا تنويهٌ بأصحابِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّهم أولو بقيَّةٍ مِن قُريشٍ، يَدعونَهم إلى الإيمانِ حتى آمنَ كُلُّهم، وأولو بقيَّةٍ بين غيرِهم من الأُمَم الذين اختَلَطوا بهم، يدعونَهم إلى الإيمانِ والاستقامةِ بعد الدُّخولِ فيه، ويُعَلِّمونَ الدِّينَ، كما قال تعالى فيهم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110] .

3- الاختلافُ في كتابِ الله على وجهينِ:

أحدُهما: أن يكونَ كلُّه مذمومًا، كقولِه: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176] .

والثاني: أن يكونَ بعضُهم على الحقِّ، وبعضُهم على الباطلِ، كقولِه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة: 253] . لكن إذا أُطلِق الاختلافُ، فالجميعُ مذمومٌ، ومِن ذلك قوله: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ... .

4- إن قيل: ظاهرُ قوله تعالَى: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ يتعارضُ مَعَ قولِه تعالَى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].

فالجوابُ عن هذا: أنَّ الإرادةَ في قوله:وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ إرادةٌ كونيةٌ قدريةٌ، والإرادةُ في قوله:وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إرادةٌ شرعيةٌ دينيةٌ، فبيَّن في قولِه : وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، وقوله :وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ؛ أنَّه أراد بإرادتِه الكونيةِ القدريةِ صيرورةَ قومٍ إلى السعادةِ، وآخرين إلى الشقاوةِ، وبيَّن بقولِه : إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أنه يريدُ العبادةَ بإرادتِه الشرعيةِ الدينيةِ مِن الجنِّ والإنسِ، فيوفِّق مَن شاء بإرادتِه الكونيةِ فيعبده، ويخذلُ مَن شاء فيمتنع مِن العبادةِ، وقيل غيرُ ذلك .

5- لا تجِدُ اتِّفاقًا وائتلافًا إلَّا بسبَبِ اتِّباعِ آثارِ الأنبياءِ مِن القُرآنِ والحَديثِ، وما يَتبعُ ذلك، ولا تجِدُ افتراقًا واختلافًا إلَّا عند مَن ترَكَ ذلك، وقدَّمَ غَيرَه عليه؛ قال تعالى: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ  فأخبَرَ أنَّ أهلَ الرَّحمةِ لا يَختَلِفونَ، وأهلُ الرَّحمةِ هم أتباعُ الأنبياءِ قولًا وفِعلًا، وهم أهلُ القرآنِ والحديثِ مِن هذه الأمَّةِ، فمَن خالَفَهم في شيءٍ فاته مِن الرَّحمةِ بقَدرِ ذلك .

6- أهلُ الإشراكِ مُتفَرِّقون، وأهلُ الإخلاصِ متَّفِقونَ؛ قال الله تعالى: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ فأهلُ الرَّحمةِ مُتَّفِقونَ مُجتَمِعونَ، والمُشرِكونَ فَرَّقوا دينَهم، وكانوا شِيَعًا .

7- قال الله تعالى: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ قال قتادةُ: (أهلُ رَحمةِ اللهِ أهلُ الجَماعةِ، وإن تفَرَّقت ديارُهم وأبدانُهم، وأهلُ مَعصيتِه أهلُ فُرقةٍ، وإن اجتَمَعت دِيارُهم وأبدانُهم) .

8- قولُ الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً فيه ردٌّ على القَدَريَّةِ .

9- قولُ الله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ صريحٌ بأنَّ اللهَ تعالى خلقَ أقوامًا للجنَّةِ والرَّحمةِ، فهداهم ووفَّقَهم لأعمالِ أهلِ الجنَّةِ، وخلقَ أقوامًا للضَّلالةِ والنَّار، فخَذَلهم ومنَعَهم من الهدايةِ .

10- في قَولِه تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ بيانُ الكلامِ الكونيِّ، ويُقابِلُه الكلامُ الدينيُّ، كقولِه تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [التوبة: 6] .

11- اتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّ كفَّارَ الجِنِّ يَدخُلونَ النَّارَ، كما أخبَرَ الله بذلك في قولِه تعالى: لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ

- قولُه: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ فيه الإتيانُ بفاءِ التَّفريعِ؛ لأنَّه في موقعِ التَّفصيلِ والتَّعليلِ لِجُملةِ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود: 112] وما عُطِف عليها، كأنَّه قيل: (وإنَّ كُلًّا لَمَّا ليُوفِّينَّهم ربُّك أعمالَهم؛ فلَولا كان مِنهم بَقيَّةٌ ينهَوْن عن الفسادِ في الأرضِ...) إلى آخرِه، أي: فاحْذَروا أن تَكونوا كما كانوا، فيُصيبَكم ما أصابَهم، وكُونوا مُستَقيمين ولا تَطْغَوا، ولا تَرْكَنوا إلى الظَّالِمين، وأقيموا الصَّلاةَ، فغيَّر نَظْمَ الكلامِ إلى هذا الأسلوبِ الَّذي في الآيةِ؛ لِتَفنُّنِ فَوائدِه ودَقائقِه، واستقلالِ أغراضِه، مع كونِها آيِلَةً إلى غرَضٍ يَعُمُّها، وهذا مِن أبدَعِ أساليبِ الإعجازِ الَّذي هو كَرَدِّ العجُزِ على الصَّدرِ مِن غَيرِ تَكلُّفٍ، ولا ظُهورِ قَصدٍ

.

- وفيه إطلاقُ البقيَّةِ على الفضلِ؛ وهي كنايةٌ غَلَبَت فسارَت مَسْرى الأمثالِ؛ لأنَّ شأنَ الشَّيءِ النَّفيسِ أنَّ صاحِبَه لا يُفرِّطُ فيه .

2- قولُه تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ

- صيغةُ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ تَدُلُّ على قوَّةِ انتفاءِ الفعلِ؛ وأصلُ هذا التَّركيبِ في الكلامِ: ما كان فُلانٌ فاعِلًا كذا، فلمَّا أُريدَتِ المبالغةُ في النَّفيِ عُدِل عن نفْيِ الفعلِ إلى نفْيِ المصدَرِ الدَّالِّ على الجنسِ، وجُعِل نفْيُ الجنسِ عن الشَّخصِ بواسِطَةِ نَفْيِ الاستحقاقِ؛ فصار التَّركيبُ: ما كان له أن يَفعَلَ .

- واللَّامُ في قولِه: لِيُهْلِكَ لِتَأكيدِ النَّفيِ ، وهي لامُ الجُحودِ؛ لِقَصدِ المبالَغةِ في النَّفيِ، بحيث يُنفَى أن يَكونَ وُجودُ المسنَدِ إليه مَجعولًا لأجْلِ فِعْلِ كذا، أي: فهو بَريءٌ منه بالأصلِ؛ ولذلك سُمِّيَت جُحودًا .

- وتَنكيرُ بِظُلْمٍ؛ للتَّفخيمِ، والإيذانِ بأنَّ إهلاكَ المصلِحين ظُلمٌ عظيمٌ، والمرادُ: تنزيهُ اللهِ تعالى عن ذلك بالكُلِّيَّةِ بتَصْويرِه بصورةِ ما يَستَحيلُ صُدورُه عنه تعالى .

- وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيث قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ، وفي سورةِ (القَصصِ) قال: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] ، فقال في أُولَى الآيتَينِ: وَمَا كَانَ رَبُّكَ، وفي الثَّانيةِ: وَمَا كُنَّا؛ ووجهُ ذلك: أنَّ آيةَ (هودٍ): وَمَا كَانَ رَبُّكَ بإضافةِ اسْمِ الرَّبِّ جلَّ وتعالى إلى ضميرِ نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المخاطَبِ بهذه؛ مُلاطَفةً له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتأنيسًا له ولأُمَّتِه، وإشعارًا بعظيمِ حَظْوَتِه ومَنزِلتِه لدَيه سبحانَه، ثمَّ أتبَع تعالى هذا بقولِه: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] ؛ فأخبَر تعالى أنَّه ما أهلَكَهم إلَّا بعدَ استِحْقاقِ جَميعِهم العذابَ وتَساويهم في الظُّلمِ، وقيل في هذه الآيةِ الأخيرةِ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى؛ لئلَّا يتَكرَّرَ اللَّفظُ بعينِه مع الاتِّصالِ والقربِ وليس مِن مَواضِعِه .

- ومِن المناسَبةِ أيضًا قولُه هنا في سورةِ (هودٍ): لِيُهْلِكَ الْقُرَى، وقال في سورةِ (القَصصِ): مُهْلِكَ الْقُرَى، ومُهْلِكِي الْقُرَى [القصص: 59] ؛ فاختصَّتِ الآيةُ الَّتي في سورةِ (هودٍ) بلَفظِ الفعلِ في خبَرِ كان، والأُخرَيانِ بالاسْمِ وهو (مُهْلِكَ)؛ ووجهُ ذلك: أنَّ اللَّامَ في قولِه لِيُهْلِكَ تُسمَّى لامَ الجُحودِ، ولا تَخْلو منه، فالمعنى: لم يَكُنْ فيما مضى يقَعُ منِّي هذا الفعلُ، ولا يقَعُ فيما يُستقبَلُ ولا في الحالِ، وإذا كان كذلك وكان هذا نهايةَ ما يُخاطِبُ به العرَبُ في نفْيِ الفعلِ، وامتِناعِ وُقوعِه، خصَّه اللهُ تعالى بالمكانِ الَّذي لا يقَعُ ذلك مِنه أبدًا، ولم يقَعْ منه قَطُّ، وهو أنَّه لم يَكُنْ فيما مَضى يُهلِكُ القرى ظالِمًا لها مع صلاحِ أهلِها، ولا يَفعَلُه، ولا يَليقُ بعَدلِه، وهو مُنزَّهٌ عنه تعالى اللهُ عن ذلك.

وأمَّا قولُه تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] ، فإنَّه لم يَكُنْ فيها صريحُ ظُلمٍ يُنسَبُ إليه، ولم يَكُنْ مَلفوظًا به، فيُؤتى باللَّفظِ الأبلَغِ في نفْيِه، كما كان في قولِه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ، فإنَّه أبلَغُ في الانتفاءِ مِن الظُّلمِ .

وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه جيءَ بالفعلِ في قولِه: لِيُهْلِكَ إشارةً إلى التَّكرُّرِ بحسَبِ ما يَكونُ منهم؛ فلو كان في كلِّ أمَّةٍ وقَرْنٍ بعدَ قرنٍ مَن يَنهى عن الفسادِ والظُّلمِ، لَمَا أخَذ بِذَوي الظُّلمِ منهم، ولكان تعالى يَدْفَعُ بعضَهم عن بعضٍ، ولكنْ تَكرَّرَ الفسادُ وعَمَّ كلَّ قرنٍ، فتكرَّر عليهم الجزاءُ والأخذُ، فأشار الفعلُ إلى التَّكرُّرِ، ولم يَكُنِ الاسمُ لِيُعطِيَ ذلك، وهذا كقَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [الملك: 19] ، ولَم يَقُلْ: (وقَابِضاتٍ)؛ لِمَا قصَده مِن مَعنى التَّكرُّرِ، وأمَّا قولُه في سورةِ (القصصِ): وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا [القصص: 59] ؛ فإنَّه تَقدَّم هذا في قولِه تعالى: وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 51] ، أي: أَتْبَعْنا ووالَيْنا التَّذكارَ، ويَشهَدُ له قولُه تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] ، فلمَّا أعلَم سبحانه تَتابُعَ التَّذكارِ وتَعاقبُ الإنظارِ، قال: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا [القصص: 59] ، وناسب هذا ذِكْرَ اسْمِ الفاعلِ؛ لأنَّه قصَد ذِكْرَ الاتِّصافِ بهذا، ولم يَقصِدِ التَّكرُّرَ، ولم يَكُنْ حاصِلَه .

- ومن المناسَبةِ الحسَنةِ كذلك: قولُه أيضًا في الأولى: مُصْلِحُونَ وفي الثَّانيةِ: حَتَّى نَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا، وفي الثَّالثةِ: إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ؛ لأنَّ آيةَ هودٍ تَقدَّمَها قولُه تعالى: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود: 116] ، أي: فهَلَّا كان مِنهم خِيارٌ يَنهَوْن عن الفسادِ والظُّلمِ؛ فلو كان مِنهم ذلك لَمَا هلَكوا، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117] ، أي: ما كان لِيَفعَلَ بهم ذلِك وإنْ وقَع منهم ظُلمٌ، إذا كان فيهم مُغيِّرٌ للظُّلمِ وناهٍ عن الفسادِ، ولكنَّهم كانوا كما أخبَر تعالى عن المعتَدِين مِن بَني إسرائيلَ في قولِه تعالى عنهم: كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة: 79] .

3- قولُه تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ

- في قولِه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً حُذِفَ مفعولُ فِعْلِ المشيئةِ؛ لأنَّ المرادَ منه ما يُساوي مَضْمونَ جَوابِ الشَّرطِ؛ فحُذِف إيجازًا، والتَّقديرُ: ولو شاء ربُّك أن يَجعَل النَّاسَ أمَّةً واحدةً لجعَلهم كذلك .

4- قولُه تعالى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

-  قَولُ الله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ أي: قَبيلِ الجِنِّ، قيل: قدَّمَهم لأنَّهم أصلٌ في الشَّرِّ، ثمَّ عَمَّ فقال: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

 

، ويحتمِلُ أنَّه قدَّمهم لسبقِهم في الخلقِ.

====================

 

سورة هود

الآيات (120-123)

ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ونَقصُّ عليك- أيُّها النَّبيُّ- من أخبارِ الرُّسُلِ- الذين كانوا قَبلَك- كلَّ ما تحتاجُ إليه ممَّا يُقوِّي قَلبَك للقيامِ بأعباءِ الرِّسالةِ، وقد جاءك في هذه السُّورةِ وما اشتَمَلت عليه من أخبارٍ بيانُ الحقِّ الذي أنت عليه، ومَوعِظةٌ مِن اللهِ- يتَّعظ بها المؤمنون إذا سَمِعوا فيها ما نزَل بالأُمَم مِن العذابِ- وتذكيرٌ للمؤمنينَ، وقُلْ- يا محمَّدُ- للكافرينَ الذين لا يُقرُّونَ بوحدانيَّةِ اللهِ: اعمَلوا ما أنتم عامِلونَ، على حالتِكم وطريقَتِكم في مقاومةِ الدَّعوةِ، وإيذاءِ الرَّسولِ والمُستَجيبينَ له، فإنَّا عامِلونَ على مكانَتِنا وطريقَتِنا مِن الثَّباتِ على دينِنا، وتَنفيذِ أمرِ اللهِ، وانتَظِروا عاقِبةَ أمرِنا؛ فإنَّا مُنتَظِرونَ عاقِبةَ أمرِكم، ولله سُبحانَه وتعالى عِلمُ كُلِّ ما غاب في السَّمَواتِ والأرضِ، وإليه يُرجَعُ الأمرُ كلُّه يومَ القيامةِ، فاعبُدْه- أيُّها النبيُّ- وفوِّضْ أمرَك إليه، وما ربُّك بغافِلٍ عمَّا تعملونَ مِن الخيرِ والشَّرِّ، وسيُجازي كُلًّا بعَمَلِه.

تفسير الآيات:

 

وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ الله تعالى في هذه السُّورةِ مِن أخبارِ الأنبياءِ ما ذكَرَ؛ ذكَرَ الحِكمةَ في ذِكرِ ذلك

، فقال:

وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ.

أي: ونَقُصُّ عليك- يا مُحمَّدُ- كلَّ ما تحتاجُ إلى مَعرفتِه مِن أخبارِ الرُّسُلِ المتقَدِّمينَ؛ ما نُثَبِّتُ به قَلبَك، فتزدادُ إيمانًا ويقينًا وصبرًا على تكذيبِ قَومِك، كما صبَرَ المُرسَلونَ مِن قَبلِك .

وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ.

أي: وجاءك- يا مُحمَّدُ- في هذه السُّورةِ الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه .

وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ.

أي: وجاءَك في هذه السورةِ أيضًا مَوعِظةٌ مِن اللهِ يتَّعظ بها المؤمنون إذا سَمِعوا فيها ما نزَل بالأُمَم مِن العذابِ، ويَحترِزونَ عمَّا أهلكها، فتلينُ قلوبُهم لسلوكِ الحقِّ- وتذكيرٌ للمؤمنينَ .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .

وقال سُبحانه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55].

وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بالغَ تعالى في الإعذارِ والإنذارِ، والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ أتبَعَ ذلك بالتَّهديدِ والوَعيدِ .

وأيضًا فإنَّها عَطفٌ على جُملةِ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ [هود: 120] ؛ لأنَّها لَمَّا اشتَمَلت على أنَّ في هذه القِصَّةِ ذِكرى للمُؤمنين؛ أُمِرَ بأن يُخاطِبَ الذين لا يُؤمِنونَ بما فيها خطابَ الآيسِ مِن انتفاعِهم بالذِّكرى، الذي لا يعبأُ بإعراضِهم، ولا يصُدُّه عن دَعوتِه إلى الحَقِّ تألُّبُهم على باطِلِهم، ومقاومتُهم الحَقَّ .

وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121).

أي: وقُلْ- يا محمَّدُ- للذين لا يُقرُّونَ بتوحيدِ اللهِ، ولا يصدِّقونَك: اعمَلوا على طَريقتِكم وحالتِكم التي أنتم عليها، متمَكِّنينَ مِن العمَلِ الذي تعملونَه، إنَّا مُستَمِرُّونَ على العمَلِ بمَنهجِنا الذي أمَرَنا اللهُ به .

وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122).

أي: وانتَظِروا ما يحُلُّ بنا من رحمةِ اللهِ، إنَّا مُنتَظِرونَ ما وعدَنا اللهُ مِن عُقوبتِكم ونَصْرِنا عليكم .

كما قال تعالى حكايةً عن شُعَيبٍ عليه السَّلامُ: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [هود: 93] .

وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123).

وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

أي: ولله مُلكُ كُلِّ ما غاب عن عبادِه في السَّموات والأرضِ، وهو العالمُ بكُلِّ ما فيهما من الخَفايا والغُيوبِ .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [فاطر: 38] .

وقال سُبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحجرات: 18] .

وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ.

أي: وإلى الله وَحْدَه مَرجِعُ كُلِّ عاملٍ وعَمَلِه، فيُجازيهم يومَ القيامةِ على جميعِ أعمالِهم .

كما قال تعالى: أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] .

فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ.

أي: فاعبُدِ اللهَ وَحدَه- يا محمَّدُ- وفوِّضْ إليه جميعَ أمورِك، واستَعِنْ به .

وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

أي: وما ربُّك- يا محمَّدُ- بغافلٍ عمَّا تَعملونَ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وسيُجازي كلَّ واحدٍ بعَمَلِه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُه تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فيه أنَّ سَماع أخبارِ الأخيارِ فيه تقويةٌ للعزائم،ِ وإعانةٌ على اتِّباعِ تلك الآثارِ؛ فإنَّ النفوسَ تأنسُ بالاقتداءِ، وتنشطُ على الأعمالِ، وتريدُ المنافسةَ لغيرِها، ويتأيَّد الحقُّ بذكرِ شواهدِه، وكثرةِ مَن قام به

.

2- قال الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ تضمَّنَت الآيةُ الاعتبارَ مِن قَصَصِ الرُّسُل، بما فيها مِن حُسنِ صَبرِهم على أُمَمِهم، واجتهادِهم على دُعائِهم إلى عبادةِ الله بالحَقِّ، وتذكير الخيرِ والشَّرِّ، وما يدعو إليه كلٌّ منهما مِن عاقبةِ النَّفعِ والضُّرِّ؛ للثَّباتِ على ذلك جميعِه اقتداءً بهم .

3- قولُ الله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ اشتَمل على خمسِ جُملٍ: الجملةُ الأولى: دلَّت على أنَّ عِلمَه محيطٌ بجميعِ الكائناتِ؛ كُلِيِّها وجُزئيِّها، حاضِرِها وغائِبِها؛ لأنَّه إذا أحاط عِلمُه بما غاب فهو بما حضر مُحيطٌ؛ إذ عِلمُه تعالى لا يتفاوَتُ. والجُملةُ الثانية: دلَّت على القُدرةِ النَّافذة والمَشيئة. والجملة الثالثة: دلَّت على الأمرِ بإفرادِ مَن هذه صِفاتُه، بالعبادةِ الجسَديَّة والقَلبيَّة، والجملة الرابعة: دلَّت على الأمرِ بالتوكُّلِ. والجملة الخامسة: تضمَّنَت التنبيهَ على المجازاة، فلا يُضيعُ طاعةَ مُطيعٍ، ولا يُهمِلُ حالَ متمَرِّدٍ .

4- قال الله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ التوكُّلُ لا يصِحُّ بغير العبادةِ، والأخذِ بالأسبابِ المُستطاعةِ، وإنَّما يكونُ بدونِهما من التمنِّي الكاذبِ، والآمالِ الخادعةِ، كما أنَّ العِبادةَ- وهي ما يُرادُ به وَجهُ اللهِ مِن كُلِّ عَملٍ- لا تَكمُلُ إلَّا بالتوكُّلِ الذي يَكمُلُ به التَّوحيدُ ، فصلاحُ العبدِ وسعادتُه فى تحقيقِ معنى قولِه تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ، وقد جمَع الله سبحانه بين هذين الأصلين فى مواضعَ من كتابِه، كقوله عن نبيِّه شعيبٍ: وَمَا تَوْفِيقِى إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] وقوله: وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحمدِهِ [الفرقان: 58] ، وقوله: وَتَبَتّلْ إِلَيْهِ تَبْتيلاً رَبُّ المشْرِقِ والمغْرِبِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل: 8-9] ، وقولِه: قُلْ هُوَ رَبِّى لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد: 30] ، وقوله عن الحنفاءِ أتباعِ إبراهيمَ عليه السلام: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكّلْنَا وَإلَيْكَ أنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصِيُر [الممتحنة: 4] فهذه سبعةُ مواضعَ تنتظمُ هذين الأصلين الجامعين لمعنيى التوحيدِ، اللذين لا سعادةَ للعبدِ بدونهما البتةَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ ذكَرَ العُلَماءُ في تخصيصِ هذه السورةِ بوَصفِها بالحَقِّ- والقرآنُ كُلُّه حقٌّ- أوجُهًا:

الوجهُ الأولُ: أنَّ ذلك يتضمَّنُ معنى الوعيدِ للكَفَرةِ والتَّنبيهِ للنَّاظر، أي: جاءك في هذه السُّورةِ الحَقُّ الذي أصاب الأُمَم الظَّالمة، وهذا كما يُقالُ عند الشَّدائدِ: جاء الحقُّ، وإن كان الحقُّ يأتي في غيرِ شَديدةٍ وغيرِ ما وجهٍ، ولا تستَعملُ في ذلك جاء الحقُّ

.

الوجهُ الثاني: خصَّ هذه السُّورةَ؛ لأنَّ فيها أخبارَ الأنبياءِ والجنَّةِ والنَّارِ.

الوجهُ الثالثُ: خصَّها بالذِّكرِ تأكيدًا، وإن كان الحقُّ في كلِّ القُرآنِ، وهذا تشريفٌ لهذه السورة؛ لأنَّ غيرَها من السُّوَرِ قد جاء فيها الحقُّ والموعِظةُ والذِّكرى .

2- قَولُ الله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ في أمرِ اللهِ رَسولَه بأن يقولَ ذلك على لسانِ المُؤمنين شهادةٌ مِن اللهِ بصِدقِ إيمانِهم، وفيه التَّفويضُ إلى رأسِ الأمَّةِ بأن يقطعَ أمرًا عن أُمَّتِه؛ ثِقةً بأنَّهم لا يردُّونَ فِعلَه .

3- ختم اللهُ سورةَ هودٍ بقولِه تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ إلى آخِرِها، كما افتَتَحها بقولِه تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ فذَكَرَ التوحيدَ والإيمانَ بالرُّسُلِ، وهذا فيه بيانُ دينِ اللهِ في الأوَّلِين والآخِرينَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ

- قولُه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ تذييلٌ وحَوْصَلةٌ لِمَا تقَدَّم مِن أنباءِ القُرى وأنباءِ الرُّسلِ

.

- وكُلًّا منصوبٌ على المفعوليَّةِ للفِعْلِ نَقُصُّ، وتَقديمُه على فِعلِه؛ للاهتمامِ، ولِمَا فيه مِن الإبهامِ؛ لِيَأتِيَ بَيانُه بعدَه فيَكونَ أرسَخَ في ذِهْنِ السَّامعِ .

- قولُه: مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيانٌ لـ كُلًّا أو بدَلٌ منه، وفائدتُه: التَّنبيهُ على المقصودِ مِن الاقتِصاصِ، وهو زِيادةُ يَقينِه، وطُمأنينَةُ قلْبِه، وثَباتُ نَفْسِه على أداءِ الرِّسالةِ، واحتِمالِ أذى الكفَّارِ .

- قولُه: وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ فيه تقديمُ الظَّرفِ فِي هَذِهِ على الفاعلِ الْحَقُّ؛ لأنَّ المقصودَ بَيانُ مَنافِعِ السُّورةِ أو الأنباءِ المقصوصةِ فيها، واشتِمالِها على ما ذُكِر مِن المنافعِ المفصَّلةِ، لا بَيانُ كَوْنِ ذلك فيها لا في غَيرِها، ولأنَّ عِندَ تَأخيرِ ما حَقُّه التَّقديمُ تَبْقى النَّفسُ مُترقِّبةً له؛ فيتَمكَّنُ فيها عندَ الوُرود فضْلَ تَمكُّنٍ، ولأنَّ في المؤخَّرِ نَوعَ طُولٍ يُخِلُّ تَقديمُه بتَجاوُبِ أطرافِ النَّظْمِ الكريمِ .

- قولُه: وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى فيه تنكيرُ الموعظةِ والذِّكْرى؛ للتَّعظيمِ .

- قوله: وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ خَصَّ المؤمنينَ؛ لكونِهم المتأهِّلينَ للاتعاظِ والتذكُّرِ، وهم المتَّعِظونَ إذا سَمِعوا قَصَص الأنبياءِ .

- قولُه: اعْمَلُوا صيغةُ أمرٍ، ومعناه: التَّهديدُ والوعيدُ .

- قولُه: وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أمرٌ فيه تهديدٌ ووَعيدٌ ، مع ما في تأكيدِ الكلامِ بـ (إنَّ) واسميَّةِ الجُمْلةِ.

2- قولُه تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

- قولُه: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كلامٌ جامعٌ، وهو تذييلٌ للسُّورةِ مُؤْذِنٌ بخِتامِها، فهو مِن بَراعةِ المَقطَعِ .

- وتقديمُ المجرورَينِ في قولِه: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ لإفادةِ الاختصاصِ، وهو تَعريضٌ بفَسادِ آراءِ الَّذين عبَدوا غيرَه؛ لأنَّ مَن لم يَكُنْ كذلك لا يَستحِقُّ أن يُعبَدَ، ومَن كان كذلك كان حَقيقًا بأن يُفْرَدَ بالعبادةِ .

- والتَّعريفُ في الْأَمْرُ تعريفُ الجنسِ فيَعُمُّ الأمورَ، وتأكيدُ الْأَمْرُ بـ كُلُّهُ للتَّنصيصِ على العُمومِ .

- قولُه: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ في تأخيرِ الأمْرِ بالتَّوكُّلِ عن الأمرِ بالعبادةِ: إشعارٌ بأنَّه لا يَنفَعُ دُونَها .

- وخصَّ التوكل بِالذكر وهو الاسْتِعانَة وهِي من عبَادَة الله؛ ليقصدها المتعبد بخصوصها، فإِنَّها هِيَ العونُ على سَائِرِ أنواعِ العبادَةِ؛ إِذْ هو سبحانَه لا يُعبدُ إِلَّا بمعونتِه .

- قولُه: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تَذييلٌ لِمَا تَقدَّم؛ فإنَّ عدَمَ غَفلَتِه عن أيِّ عمَلٍ تَعني أنَّه يُعْطي كلَّ عامِلٍ جَزاءَ عمَلِه؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ؛ ولذلك عُلِّق وصْفُ الغافِلِ بالعمَلِ، ولم يُعلَّقْ بالذَّواتِ نَحْوُ: (بغافِلٍ عَنكُم)؛ إيماءً إلى أنَّ على العمَلِ جزاءً

 

{قلت المدون التالي سورة يوسف ان شاء الله}

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...