الخميس، 18 يناير 2024

10.يونس ج2.{109 مكية}

 

10.يونس ج2.{109 مكية}

 

غريب الكلمات

المعنى الإجمالي

تفسير الآيات

الفوائد التربوية

الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيات

سُورةُ يُونُس

الآيات (93-95)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ

غريب الكلمات:

 

مُبَوَّأَ صِدْقٍ: أي: مَنزِلًا مَحمودًا مُختارًا، وأصل (بوأ): يدلُّ على الرُّجوعِ إلى شَيءٍ

.

الْمُمْتَرِينَ: أي: المتردِّدينَ، من المِريةِ: وهي التردُّدُ في الأمرِ، وهي أخصُّ من الشَّكِّ

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ تعالى عمَّا أنعَمَ به على بني إسرائيلَ مِن النِّعَمِ قائلًا: ولقد أنزَلْنا بني إسرائيلَ مَنازِلَ صالحةً محمودةً، ورَزَقناهم الرِّزقَ الحَلالَ الطَّيِّبَ مِن خيراتِ الأرضِ المُبارَكةِ، فما اختَلَفوا في تصديقِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه نبيٌّ حَقٌّ مَبعوثٌ، حتى جاءَهم القُرآنُ والبيانُ بأنَّه رسولُ اللهِ صِدقٌ، ودينَه حَقٌّ، إنَّ رَبَّك- أيُّها الرَّسولُ- يقضي بينهم يومَ القيامةِ، ويَفْصِلُ فيما كانوا يختَلِفونَ فيه مِن أمرِك، فيُدخِلُ المكَذِّبينَ النَّارَ، والمؤمنينَ الجنَّةَ، فإن كنتَ- أيُّها الرَّسولُ- في ريبٍ مِن حقيقةِ ما أخبَرناك به فاسألِ الذينَ يَقرؤونَ الكتابَ مِن قبلِك، من أهلِ التَّوراةِ والإنجيلِ؛ فإنَّ ذلك ثابِتٌ في كتُبِهم، لقد جاءك الحَقُّ اليقينُ مِن رَبِّك بأنَّك رسولُ الله، وأنَّ هؤلاءِ اليَهودَ والنَّصارى يعلمونَ صِحَّةَ ذلك، ويَجِدونَ صِفتَك في كُتُبِهم، ولكِنَّهم يُنكِرونَ ذلك مع عِلمِهم به، فلا تكونَنَّ من الشاكِّينَ في صِحَّةِ ذلك، ولا تكونَنَّ مِن الذينَ كذَّبوا بآياتِ القُرآنِ، فتكونَ مِن الخاسرينَ الذين سخِطَ اللهُ عليهم ونالوا عقابَه.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لمَّا ذكَر تعالى ما جرَى لفرعونَ وأتباعِه مِن الهلاكِ؛ ذكَر ما أحسنَ به لبني إسرائيلَ، وما امتنَّ به عليهم

، وكيف كانت عاقبتُهم الحسنَى؛ ليظهرَ الفرقُ بينَ مصيرَيْ فريقينِ جاءَهم رسولٌ، فآمنَ به فريقٌ، وكفَر به فريقٌ، ليكونَ ذلك ترغيبًا للمشركينَ في الإيمانِ، وبشارةً للمؤمنينَ مِن أهل مكةَ .

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ.

أي: ولقد أنزَلْنا وأسكنَّا بني إسرائيلَ مَنازِلَ حَسَنةً محمودةً مُختارةً .

كما قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] .

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَر أنَّه بوَّأهم مُبوَّأَ صِدقٍ؛ ذكَر امتِنانَه عليهم بما رزَقهم مِن الطَّيباتِ .

وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ.

أي: ورَزَقْنا بني إسرائيلَ مِن الرِّزقِ الحلالِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ، من الأطعِمةِ والأشرِبةِ وغَيرِها .

كما قال تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57] .

وقال سُبحانه: وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60] .

فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ  .

أي: فما اختلَفَ بنو إسرائيلَ في الإقرار بنبوَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم وبمبعثِه، حتَّى جاءَهم ما كانوا به عالِمينَ، فبُعِثَ صلَّى الله عليه وسلَّم بنعتِه وصفتِه، وجاءَهم القُرآنُ، فاختَلفوا حينئذٍ، فآمن بعضُهم بنبوَّتِه، وكفر بها بعضُهم، ولم يكنْ ينبغي لهم ذلك .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 16 - 18] .

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

أي: إنَّ ربَّك- يا مُحمَّدُ- يحكُمُ بين المُختَلِفينَ فيك مِن بني إسرائيلَ يومَ القيامةِ فيما كانوا فيه يختَلِفونَ مِن أمرِك، فيُدخِلُ المؤمنينَ بك الجنَّةَ، ويُدخِلُ المكذِّبينَ بك النَّارَ .

فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكرَ مِن قبلُ اختلافَ أهلِ الكتابِ عندما جاءَهم العِلمُ؛ أوردَ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذه الآيةِ ما يُقَوِّي قلبَه في صِحَّةِ القُرآنِ والنبُوَّةِ .

وأيضًا فإنَّ هذه الآيةَ تَفريعٌ على سياقِ القِصَصِ التي جعَلَها اللهُ مَثلًا لأهلِ مكَّةَ، وعِظةً بما حَلَّ بأمثالِهم، فانتقل بهذا التَّفريعِ من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ كِلاهما تعريضٌ بالمُكَذِّبينَ، فالأسلوبُ السَّابِقُ تعريضٌ بالتَّحذيرِ مِن أن يحُلَّ بهم ما حَلَّ بالأممِ المماثلةِ لهم، وهذا الأسلوبُ الموالي تعريضٌ لهم بشَهادةِ أهلِ الكتابِ على تلك الحَوادِثِ، وما في الكتُبِ السَّابقةِ مِن الإنباءِ برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم .

فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ.

أي: فإنْ كنتَ- يا محمَّدُ- في شكٍّ من حقيقةِ ما أخبَرْناك في القرآنِ مِن أنَّ بني إسرائيلَ لم يختَلِفوا في أمرِك إلَّا مِن بعدِ مَجيئِك- لأنَّهم يَجِدونَك مكتوبًا عندهم، ويَعرِفونك بصِفاتِك الواردةِ في كُتُبِهم- فاسألْ أهلَ الكِتابِ الذين يقَرؤونَ التوراةَ والإنجيلَ مِن قبلِك؛ فإنَّهم يَعلَمونَ صحَّةَ ذلك .

كما قال تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد: 43] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 196-197] .

وقال جلَّ جلالُه: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص: 52-53] .

وقال تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف: 10] .

لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.

أي: أُقسِمُ إنَّه قد جاءك- يا محمَّدُ- الحَقُّ اليقينُ مِن ربِّك بأنَّك رسولُ اللهِ، وأنَّ الذين أُوتوا الكتابَ مِن قَبلِك يَعلَمونَ ذلك، فلا تكوننَّ مِن الشاكِّينَ في صحَّةِ ذلك، واستمِرَّ على ما أنت عليه من اليَقينِ .

وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95).

أي: ولا تكوننَّ- يا محمَّدُ- من المكذِّبينَ بآياتِ القُرآنِ، فتكونَ من الخاسرينَ أنفُسَهم بدخولِ النَّارِ، المُضَيِّعينَ سعادةَ الدُّنيا والآخرةِ، فاثبُتْ على ما أنت عليه من التَّصديقِ بالقُرآنِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ . هذا هو الداءُ الذي يعرضُ لأهلِ الدِّينِ الصحيحِ، وهو: أنَّ الشيطانَ إذا أعجَزوه أن يُطيعوه في تركِ الدينِ بالكُلِّيةِ، سعَى في التحريشِ بينَهم، وإلقاءِ العداوةِ والبغضاءِ، فحصَل مِن الاختلافِ ما هو موجبُ ذلك، ثم حصَل مِن تضليلِ بعضِهم لبعضٍ، وعداوةِ بعضِهم لبعضٍ، ما هو قرةُ عينِ اللعينِ، وإلَّا فإذا كان ربُّهم واحدًا، ورسولُهم واحدًا، ودينُهم واحدًا، ومَصالِحُهم العامةُ متفقةً، فلأيِّ شيءٍ يختلفونَ اختلافًا يفرِّقُ شملَهم، ويشتتُ أمرَهم، ويحلُّ رابطتَهم ونظامَهم، فيفوتُ مِن مصالحِهم الدينيةِ والدنيويةِ ما يفوتُ، ويموتُ مِن دينِهم بسببِ ذلك ما يموتُ

؟!

2- قَولُ الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ جملةُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تذييلٌ وتوعُّدٌ، والمقصودُ منه: أنَّ أولئك قومٌ مَضَوا بما عَمِلوا وأنَّ أمرَهم إلى ربِّهم، كقولِه تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة: 134] وفيه إيماءٌ إلى أنَّ على الحاضرينَ اليومَ أن يفَكِّروا في وسائلِ الخلاصِ مِن الضَّلالِ، والوقوعِ في المؤاخَذةِ يومَ القيامةِ .

3- قال الله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ فيه تنبيهٌ على أنَّ من خالجَتْه شبهةٌ في الدِّينِ، ينبغي أن يسارعَ إلى حَلِّها بالرُّجوعِ إلى أهلِ العِلمِ

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يشُكَّ ولم يَسألْ، ولكنْ هذا حُكمٌ مُعَلَّقٌ بشَرطٍ؛ والمُعلَّقُ بالشَّرطِ يعدَمُ عند عَدَمِه، وفي ذلك سَعَةٌ لِمَن شكَّ، أو أراد أنْ يحتَجَّ، أو يزدادَ يقينًا

.

2- قول الله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ الفائدةُ في إنزالِ هذه الآيةِ على الرسولِ: أنَّ تكثيرَ الدلائلِ وتقويتَها مما يزيدُ في قوةِ اليقينِ، وطمأنينةِ النفسِ، وسكونِ الصدرِ، ولهذا السببِ أكثَر الله في كتابِه مِن تقريرِ دلائلِ التوحيدِ والنُّبوةِ .

3- قَولُ الله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ فيه سؤالٌ: أنَّ كثيرًا من أهلِ الكتابِ من اليهودِ والنَّصارى- بل ربما كان أكثَرُهم ومعظَمُهم- كذَّبوا رسولَ اللهِ وعانَدوه، ورَدُّوا عليه دَعوتَه. واللهُ تعالى أمر رسولَه أن يستشهِدَ بهم، وجعَلَ شهادتَهم حُجَّةً لِما جاء به، وبرهانًا على صِدقِه، فكيف يكونُ ذلك؟ الجوابُ من عدَّةِ أوجهٍ؛ منها: أنَّ الشَّهادةَ إذا أضيفَت إلى طائفةٍ، أو أهلِ مَذهبٍ أو بلدٍ، ونحوِهم، فإنَّها إنما تتناولُ العُدولَ الصادقينَ منهم. وأمَّا مَن عداهم، فلو كانوا أكثَرَ مِن غيرهم فلا عِبرةَ بهم؛ لأن الشَّهادةَ مَبنيَّةٌ على العدالةِ والصِّدقِ، وقد حصل ذلك بإيمانِ كثيرٍ مِن أحبارِهم الربَّانيِّين، كعبدِ اللهِ بنِ سَلامٍ وأصحابِه، وكثيرٍ ممَّن أسلم في وقتِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وخُلَفائِه ومَن بعده، وكعبِ الأحبارِ وغيرهما. ومنها: أنَّ شَهادةَ أهلِ الكِتابِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مبنيَّةٌ على كتابِهم التَّوراةِ الذي ينتسبونَ إليه، فإذا كان موجودًا في التوراةِ ما يوافِقُ القرآنَ ويُصَدِّقُه، ويشهَدُ له بالصحَّة؛ فلو اتَّفَقوا من أوَّلِهم لآخرِهم على إنكارِ ذلك، لم يقدَحْ بما جاء به الرَّسولُ. ومنها: أنَّ الله تعالى أمَرَ رسولَه أن يستشهِدَ بأهلِ الكتابِ على صحَّةِ ما جاءه، وأظهَرَ ذلك، وأعلَنَه على رؤوسِ الأشهادِ، ومن المعلومِ أنَّ كثيرًا منهم مِن أحرصِ النَّاسِ على إبطالِ دَعوةِ الرَّسولِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فلو كان عندهم ما يرُدُّ ما ذكَرَه اللهُ، لأبدَوْه وأظهَروه وبَيَّنوه، فلمَّا لم يكنْ شَيءٌ من ذلك، كان عدَمُ رَدِّ المُعادي، وإقرارُ المُستجيبِ، مِن أدَلِّ الأدلَّةِ على صِحَّةِ هذا القرآنِ وصِدقِه. ومنها: أنَّه ليس أكثَرُ أهلِ الكتابِ رَدَّ دعوةَ الرَّسولِ، بل أكثَرُهم استجاب لها، وانقاد طَوعًا واختيارًا؛ فإنَّ الرَّسولَ بُعِث وأكثَرُ أهل الأرضِ المتَديِّنينَ أهلُ كتابٍ، فلم يمكُثْ دينُه مُدَّةً غيرَ كثيرةٍ، حتى انقاد للإسلامِ أكثَرُ أهل الشَّامِ ومصرَ والعراقِ، وما جاورَها من البلدانِ التي هي مقَرُّ دينِ أهلِ الكتابِ، ولم يبقَ إلَّا أهلُ الرِّياساتِ الذين آثَروا رياساتِهم على الحَقِّ، ومَن تَبِعَهم من العوامِّ الجَهَلةِ، ومَن تديَّنَ بدينِهم اسمًا لا معنًى، كالإفرنجِ الذين حقيقةُ أمرِهم أنَّهم دهريَّةٌ مُنحَلُّونَ عن جميعِ أديانِ الرُّسُل، وإنَّما انتَسَبوا للدِّينِ المَسيحيِّ؛ ترويجًا لمُلكِهم، وتمويهًا لباطِلِهم، كما يَعرِفُ ذلك مَن عرَفَ أحوالَهم البيِّنةَ الظَّاهرةَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

قولُه: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا كلامٌ مُستأنَفٌ؛ سِيقَ لِبَيانِ النِّعَمِ الفائضةِ عليهم إثْرَ نعمةِ الإنجاءِ على وجهِ الإجمالِ، وإخلالِهم بشُكرِها، وأداءِ حقوقِها

.

وقولُه: فَمَا اخْتَلَفُوا تفريعٌ على بَوَّأْنَا وما عُطِف عليه، وهو تفريعُ ثناءٍ عليهم بأنَّهم شكَروا تِلك النِّعمَةَ، ولم يَكفُروها كما كفَرها المشرِكون الَّذين بوَّأهم اللهُ حرَمًا آمِنًا تُجبَى إليه ثمراتُ كلِّ شيءٍ، فجَعَلوا للهِ شُركاءَ، ثمَّ كفَروا بالرَّسولِ المرسَلِ إليهم؛ فوقَع في الكلامِ إيجازُ حذفٍ، والتَّقديرُ: فشَكَروا النِّعمَةَ، واتَّبَعوا وصايا الأنبياءِ، وما خالَفوا ذلك إلَّا مِن بعدِ ما جاءَهم العلمُ .

قولُ اللهِ تعالى هنا: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 93] ، وفي سورةِ الجاثيةِ: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [الجاثية: 16-17] ، ووجهُ هذا الاختلافِ الواردِ في هاتَين السُّورتَين، وزيادةِ ما ورَدَ في سورةِ الجاثيةِ مِن الألفاظِ، مع اتِّحادِ المعنى المقصودِ في الموضِعَينِ مِن مَنحِهم واختلافِهم:

أنَّ آيةَ يونُسَ تقدَّم قبلَها دُعاءُ موسى عليه السَّلامُ على فِرْعونَ ومَلئِه بقولِه: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... [يونس: 88] ، فأجاب سبحانه دُعاءَ نبيِّه، وطمَس على أموالِ آلِ فِرْعونِ ومَلئِه، وأغرَقه وآلَه، ونجَّى بَني إسرائيلَ مِن الغرَقِ، وقطَع دابِرَ عدوِّهم، وأورَث بني إسرائيلَ أرْضَهم وديارَهم، يتَبوَّؤون منها حيث شاؤوا، فقال سبحانه مُعرِّفًا نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ [يونس: 93] ؛ فبعد تَمكُّنِ أمرِهم، واستِحْكامِ حالِهم، واستقرارِ أمرِ دينِهم بما شاهَدوه مِن الآياتِ، وعَظيمِ البَراهينِ المعْقِبَةِ لِمَن شاهَدَها اليقينَ، اختَلفوا جَرْيًا على ما سبَق لهم ولغيرِهم ممَّن أشار إليه قولُه تعالى في أوَّلِ هذه السُّورةِ: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا [يونس:19] ، ويُناسِبُ هذا كلَّه تَناسُبًا لا تَوقُّف في وُضوحِه، ولم يتَقدَّمْ في سورةِ يونُسَ ما يَستدعي مِن حالِهم أكثرَ مِن هذا.

أمَّا آيةُ الجاثيةِ فتَقدَّمَ قبلَها بَسطُ الدَّلائلِ والبَراهينِ مِن لَدُنْ قولِه تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [الجاثية: 3] ، إلى ما تَبِع هذا مِن التَّنبيهِ بخَلقِها، وما بثَّ سبحانه فيهما مِن أصنافِ المخلوقاتِ، واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ وتَعاقُبِهما، وإنزالِ الرِّزقِ مِن السَّماءِ، وإحياءِ الأرضِ بعدَ مَوتِها، بما يَنزِلُ مِن الرِّزقِ إليها، وتَصريفِ الرِّياحِ، ثمَّ ذكَر سبحانه أنَّ هذه الآياتِ إنَّما يَعتبِرُ بها، ويَهتَدي بأنوارِها مَن منَحه اللهُ تعالى العقْلَ، وهَداه إلى الاعتبارِ، فقال: آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الجاثية: 5] ، ولم يَرِدْ ذِكرُ هذه الجملةِ للاعتبارِ بها في موضعٍ مِن كتابِ اللهِ تعالى أوعَبَ مِنها في هذه السُّورةِ وفي سورةِ البقرةِ، وهي هناك أوعَبُ لذِكْرِ الفُلكِ، وجَرْيِها في مَنافعِ العبادِ، وتسخيرِ السَّحابِ بينَ السَّماءِ والأرضِ، وذِكْرِ تَصريفِ الرِّياحِ، وقد أعقَب ذِكْرَ هذه الآياتِ في الموضِعَين بقولِه في سورةِ البقرةِ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165] ، إشارةً إلى كُفَّارِ العرَبِ، وسوءِ مُرتَكَبِهم، وتَعاميهم عن الاعتبارِ والاستدلالِ مع وُضوحِ الأمرِ؛ إذ لا يَقبَلُ العقلُ تَكوُّنَ هذه المخلوقاتِ العِظامِ بأنفُسِها، ولا أنَّ بعضَها أوجَد بعضًا؛ لِتَساويها فيما قام مِن دلائلِ الحدوثِ، فلا بدَّ مِن خالقٍ مُريدٍ مختارٍ قادرٍ منزَّهٍ عن شُبَهِ هذه الجملةِ، وإلَّا لافتقَرَ إلى موجِدٍ آخرَ، وذلك يؤدِّي إلى التَّسلسُلِ، وهو مُحالٌ عقلًا، والاثنينيَّةُ ممتنِعةٌ عقلًا: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [الأنبياء: 22] ، فتعيَّن توحيدُ الحقِّ، وأنَّه ليس كمِثْلِه شيءٌ.

ولَمَّا كان الاستدلالُ بهذه الجُمَلِ المفصَّلةِ أوضحَ شيءٍ؛ أتبعَها سبحانه بقولِه: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6] ، ولكونِه أبسَطَ ما ذُكِّر به مَن خوطِب بالقرآنِ، ثمَّ لم يُجدِ ذلك في حقِّ مَن سبَق له الشَّقاءُ مِنهم إلَّا المنافَرةَ والمخالفةَ؛ أُعقِبَت بذِكرِ مَن ترادَفَت وتوالَت عليه الآياتُ، وكَثُرَت في حقِّه الشَّواهدُ، ثمَّ لم يُعقِبْه ذلك إلَّا الاختلافَ والعدولَ عن سُلوكِ المنهجِ الواضحِ، وهم الممتَحَنون بالاختلافِ مِن بني إسرائيلَ، ولَمَّا لم يَكُنْ تَقدَّم آيةَ سورةِ يونُسَ مِن الدَّلالاتِ مثلُ ما بُسِط في سورةِ الجاثيةِ مِن الاعتبارِ لِما يُناسِبُه الواقعُ في الجاثيةِ مِن الإطنابِ، فنُوسِب الإيجازُ بالإيجازِ، والإطنابُ بالإطنابِ، وجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ، مع اتِّحادِ المقصودِ في السُّورتَين .

2- قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

قولُه: لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا، وقُرِنَت الجملةُ بحَرفَيِ التَّأكيدِ، وهُما: لامُ القسَمِ و(قد)؛ لِدَفعِ إنكارِ المُعَرَّضِ بهم .

قولُه: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يجوزُ أن يَكونَ هذا النَّهيُ على طريقةِ التَّهْييجِ والإلهابِ، كقَولِه: فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ، وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدِ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ، ولزيادةِ التَّثبيتِ والعِصمةِ .

3- قوله تعالى: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ

قولُه: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ هذا النَّهيُ مِن بابِ التَّهْييجِ والإلهابِ، والمرادُ به: إعلامُ أنَّ التَّكذيبَ مِن القُبحِ والمحذوريَّةِ بحيث يَنبَغي أن يُنْهَى عنه مَن لا يُتصوَّرُ إمكانُ صُدورِه عنه؛ فكيف بِمَن يُمكِنُ اتِّصافُه به، وفيه قطعٌ لأطماعِ الكفَرةِ ؟!

وفيه تأكيدُ الفعلِ المنهيِّ عنه تَكُونَنَّ بنونِ التَّوكيدِ؛ للمُبالَغةِ في النَّهيِ عنه؛ اعتِناءً بالتَّبرُّؤِ مِن الشِّركِ .

 

======================

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (96-100)

ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

 

الرِّجْسَ: أي: العذابَ، ويُطلَقُ أيضًا على: القذرِ المنتنِ، وأصلُ (رجس): يَدُلُّ على اختِلاطٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قائلًا له: إنَّ الذين وجَبَت عليهم كَلِمةُ رَبِّك- أيُّها الرَّسولُ- بمَوتِهم على الكُفرِ وطَردِهم مِن رَحمتِه وعذابِه لهم، لا يؤمنونَ إيمانًا ينفَعُهم قبل مَوتِهم، ولو جاءتْهم كلُّ مَوعظةٍ وعِبرةٍ، حتى يُعايِنوا العذابَ المُوجِعَ، فحينئذٍ يُؤمِنونَ، ولا ينفَعُهم إيمانُهم، وما آمَنَ أهلُ قريةٍ مِن القُرى الهالكةِ في وقتٍ ينفَعُهم إيمانُهم فيه، إلَّا قَوم النَّبيِّ يُونُسَ عليه الصَّلاة والسَّلامُ، فإنَّهم لـمَّا أيقَنوا أنَّ العذابَ نازِلٌ بهم تابوا إلى الله تعالى توبةً نَصوحًا، فكشفَ اللهُ عنهم عذابَ الخِزيِ بعد أن رأَوا بعضَ الآياتِ الدالةِ على نزولِه، وتَرَكهم في الدُّنيا يَستمتِعونَ إلى وقتِ انتهاءِ آجالِهم، ولو شاء ربُّك- أيُّها الرَّسولُ- الإيمانَ لأهلِ الأرضِ كُلِّهم، لآمَنوا جميعًا بما جئتَهم به، ولكِنْ له تعالى حكمةٌ في ذلك؛ فإنَّه يهدي من يشاءُ، ويُضِلُّ من يشاء وَفْقَ حِكمتِه، وليس في استطاعتِك أن تُكرِهَ النَّاسَ على الإيمانِ، وما ينبغي أن تُؤمِنَ نفسٌ إلَّا بمشيئةِ الله وقضائِه وقدرِه، فلا تُجهِدْ نفسَك في ذلك؛ فإنَّ أمرَهم إلى اللهِ، ويجعَلُ اللهُ غَضَبَه وعذابَه على الذينَ لا يَعقِلونَ أمْرَه ونَهيَه.

تفسير الآيات :

 

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا كان ما مضَى من الآياتِ وما كان مِن طرازِها، قاضيًا بأنَّه لا تُغني الآياتُ عن المُشرِكينَ- صرَّح به هنا بقَولِه

:

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ.

أي: إنَّ الذين وجبَت عليهم كَلِمةُ رَبِّك- يا مُحمَّدُ- بأنَّهم يصيرونَ إلى ما قدَّرَه اللهُ لهم مِن الاستمرارِ على الكُفرِ والموتِ عليه؛ لا يُؤمِنونَ إيمانًا ينفَعُهم قبل مَوتِهم .

وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97).

أي: ولو جاءتْهم كلُّ آيةٍ مِن الآياتِ الكونيَّةِ المُعجِزة الخارِقةِ، والآياتِ الشَّرعيَّةِ المُنزَّلةِ كالقُرآنِ، فإنَّهم لا يُؤمِنونَ حتى يُعايِنوا العذابَ المُوجِعَ فيُؤمِنوا، وحينئذٍ لا ينفَعُهم الإيمانُ .

فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ مِن قَبلُ أنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ؛ أتبَعَه بهذه الآيةِ؛ لأنَّها دالَّةٌ على أنَّ قَومَ يُونُسَ آمَنوا بعد كُفرِهم، وانتَفَعوا بذلك الإيمانِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ فَريقانِ؛ منهم من حُكِمَ عليه بخاتمةِ الكُفرِ، ومنهم من حُكِمَ عليه بخاتمةِ الإيمانِ، وكُلُّ ما قضَى اللهُ به فهو واقِعٌ .

وأيضًا فهذه الآيةُ والآيتانِ بعدَها تفريعٌ على الآياتِ السابقةِ، وتكميلٌ لها في بيانِ سُنَّةِ اللهِ في الأمَمِ مع رُسُلِهم، وفي خَلْقِ البَشَرِ مُستعِدِّينَ للأمورِ المتضادَّةِ من الإيمانِ والكُفرِ، وفي تعلُّقِ مَشيئةِ اللهِ وحِكمتِه بأفعالِه وأفعالِ عِبادِه، ووقوعِها على وَفْقِهما .

فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ.

أي: ما آمَنَ أهلُ قريةٍ مِن القُرى الهالكةِ في وقتٍ ينفَعُهم إيمانُهم فيه، إلَّا قَومَ النَّبيِّ يُونُسَ عليه الصَّلاة والسَّلامُ، آمَنوا كُلُّهم في وقتٍ يَنفَعُهم فيه الإيمانُ، حين رأَوا آيةً تدُلُّ على العذابِ قبل نُزولِه بهم .

لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ.

أي: لَمَّا آمَنَوا رَفَعْنا عنهم عذابَ الذُّلِّ الذي وعدَهم به نبيُّهم في الحياةِ الدُّنيا- وكان قد قرُبَ نُزولُه بهم- وتَرَكْناهم يستَمتِعونَ في الدُّنيا إلى آخِرِ أعمارِهم المكتوبةِ .

وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان ما مضَى ربَّما أوجبَ اعتقادَ أنَّ إيمانَ مِثلِ أولئك مُحالٌ، جاءت هذه الآيةُ في مَقامِ الاحتراسِ منه مع البيانِ؛ لأنَّ حِرصَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إيمانِهم لا ينفعُ، ومبالغتَه في إزالةِ الشُّبُهاتِ وتقريرِ الدَّلائِلِ لا تفيدُ إلَّا بمَشيئةِ الله تعالى لِتَوفيقِهم وهدايتِهم، ولو كان ذلك وَحْدَه كافيًا لآمنوا بهذه السُّورةِ؛ فإنَّها أزالت شُبُهاتِهم، وبَيَّنَت ضلالاتِهم، وحقَّقَت بقصَّتَي نوحٍ وموسى عليهما السَّلامُ ضَعْفَهم، ووَهَنَ مُدافعاتِهم .

وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا.

أي: ولو شاء ربُّك- يا محمَّدُ- لألهَمَ كلَّ من في الأرضِ الإيمانَ فآمنوا باللهِ، وبما جِئتَ به، لكنَّه لم يشَأْ ذلك؛ لِمُخالفتِه مقتضَى حِكمتِه سُبحانَه .

كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118- 119] .

وقال سُبحانه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام: 35] .

أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ.

أي: أفأنت- يا مُحمَّدُ- تُلزِمُ النَّاسَ، وتضطرُّهم إلى الإيمانِ، حتى يكونوا مُؤمِنينَ بما جئتَهم به؟ ليس ذلك إليك، ولا قُدرةَ لك عليه، بل اللهُ تعالى هو من يَهدي ويُضِلُّ مَن يشاءُ مِن عِبادِه، لا بإكراهِك لهم على ذلك .

كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .

وقال سُبحانه: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8] .

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ هذه الآيةَ عَطفٌ على جملةِ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ لتقريرِ مَضمونِها؛ لأنَّ مَضمونَها إنكارُ أن يَقدِرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على إلجاءِ النَّاسِ إلى الإيمانِ؛ لأنَّ اللهَ هو الذي يَقدِرُ على ذلك .

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ.

أي: وما ينبغي لنفسٍ أن تؤمِنَ وتهتديَ إلَّا بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه ومَشيئتِه، فلا تُجهِدَنَّ نفسَك- يا مُحمَّدُ- في طلَبِ هُداها، وبلِّغْها وعيدَ اللهِ، ثمَّ خَلِّها؛ فإنَّ هُداها بِيَدِ خالِقِها، ولا تكفي دعوتُك في حصولِ الإيمانِ حتى يأذَنَ اللهُ لِمَن دَعَوتَه أن يؤمِنَ .

وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ.

أي: ويجعَلُ اللهُ غضَبَه وعذابَه على الذينَ لا يَعقِلونَ آياتِه، وحُجَجَه، ومواعِظَه، وأوامِرَه ونواهِيَه

 

.

الفوائد التربوية :

 

الدَّليلُ لا يهدي إلَّا بإعانةِ الله تعالى، وإذا لم تحصُلْ تلك الإعانةُ ضاعت تلك الدَّلائِلُ؛ نستفيد ذلك مِن قَولِ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ فيه سؤالٌ: أنَّ الله تعالى حكى عن فِرعونَ أنَّه تاب في آخِرِ الأمرِ ولم يَقبَلْ تَوبتَه، وحكى عن قومِ يُونُسَ أنَّهم تابوا وقَبِلَ تَوبتَهم فما الفَرقُ؟ والجوابُ: أنَّ فِرعونَ إنَّما تاب بعد أن شاهدَ العذابَ، وأمَّا قَومُ يُونُسَ فإنَّهم تابوا قبل ذلك، فإنَّهم لَمَّا ظَهَرت لهم أماراتٌ دلَّت على قُربِ العَذابِ تابوا قبل أن يُشاهِدوه

.

2- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فيه ردٌّ على القَدَريَّةِ .

3- في قَولِه تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ دلالةٌ على أنَّ مُجرَّدَ الدَّعوةِ لا تكفي في حصولِ الإيمانِ، حتى يأذنَ اللهُ لِمَن دُعِيَ أن يؤمِنَ .

4- الإذنُ في قَولِه تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إذنٌ قَدَريٌّ- أي: قضاؤُه وقَدَرُه - لا مجرَّد أمْرِه وشَرْعِه .

5- الجَعْلُ المذكورُ في قولِه تعالى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ هو جَعْلٌ كونيٌّ، ويُقابِلُه: الجعلُ الدينيُّ، كما في قَولِه تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة: 103] أي: ما شَرَعَ ذلك ولا أَمَرَ به، وإلَّا فهو مخلوقٌ له، واقعٌ بقدَرِه ومَشيئتِه .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ أبهَمَ حِينٍ؛ لأنَّه مختلِفٌ باختلافِ آجالِ آحادِهم .

7- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا فائدةُ ذِكرِ جَمِيعًا بعدَ كُلُّهُمْ، مع أنَّ كُلًّا منهما يفيدُ الإحاطةَ والشُّمولَ، هي الدَّلالةُ على وجودِ الإيمانِ منهم بصفةِ الاجتماعِ الذي لا يدُلُّ عليه كُلُّهُمْ كقولك: جاء القومُ جمَيعًا، أي: مجتَمِعينَ، ونظيرُه قَولُه تعالى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

قولُه تعالى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ

قولُه: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ... كلامٌ مُستأنَفٌ؛ لتقريرِ ما سبَق مِن استِحالةِ إيمانِ مَن حقَّت عليهم كلمتُه تعالى؛ لِسُوءِ اختِيارِهم مع تَمكُّنِهم مِن التَّدارُكِ

، و(لولا) حرفٌ يَرِدُ لِمَعانٍ مِنها التَّوبيخُ، وهو هنا مُستعمَلٌ في لازمِ التَّوبيخِ، كِنايةً عن التَّغليطِ؛ لأنَّ أهْلَ القُرى قد انقَضَوْا، وذلك أنَّ أصلَ معنى (لولا) التَّحضيضُ، وهو طلبُ الفعلِ بحَثٍّ، فإذا دخلَت على فعلٍ قد فات وقوعُه كانت مُستعمَلةً في التَّغليطِ، والتَّنديمِ، والتَّوبيخِ على تَفْويتِه، ويكونُ ما بَعدَها في هذا الاستعمالِ فِعْلَ مُضيٍّ؛ فهي هنا مُستعمَلةٌ في لازمِ التَّوبيخِ، كنايةً عن التَّغليطِ .

قوله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ

قولُه: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا... فيه حذفُ مفعولِ المشيئةِ؛ لِوُجودِ ما يَقْتَضيه مِن وقوعِها شرطًا، وكونِ مَفعولِها مضمونَ الجزاءِ، وألَّا يكونَ في تَعلُّقِها به غرابةٌ، والتَّقديرُ: لو شاء سبحانه إيمانَ مَن في الأرضِ مِن الثَّقلَين لآمَن .

وفيه التَّأكيدُ بـكُلُّهُمْ؛ للتَّنصيصِ على العمومِ المستفادِ مِن مَنْ الموصولةِ؛ فإنَّها للعُمومِ، والتَّأكيدُ بـجَمِيعًا؛ لزِيادةِ رَفْعِ احتِمالِ العُمومِ العُرفيِّ دونَ الحقيقيِّ .

=========================

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (101-103)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: قُل- يأيُّها الرَّسولُ- للمُشرِكينَ الذين يسألونَك الآياتِ: تفَكَّروا، واعتَبِروا بما في السَّمَواتِ والأرضِ مِن آياتِ اللهِ البَيِّناتِ؛ فإنَّها تُغنيكم عن طَلَبِ الآياتِ، والآياتُ والعِبرُ والرُّسُلُ المُنذِرةُ عبادَ اللهِ عقابَه، لا تنفَعُ قَومًا لا يُؤمِنونَ بِشَيءٍ من ذلك؛ لإعراضِهم وعنادِهم، فهل ينتظِرُ هؤلاء إلَّا أن يحُلَّ عليهم عذابُ اللهِ مِثلَ أسلافِهم المُكَذِّبينَ الذين مَضَوا قَبلَهم؟ قل لهم- أيُّها الرَّسولُ-: فانتَظِروا عقابَ اللهِ، إنِّي معكم مِن المُنتَظِرينَ عِقابَكم، ثمَّ نُنَجِّي رسُلَنا والذين آمَنوا معهم، وكما نجَّينا أولئك الرُّسُلَ والمؤمنينَ بهم، ننجِّيك- أيُّها الرَّسولُ- ومَن آمن بك؛ تفضُّلًا منَّا ورحمةً.

تفسير الآيات:

 

قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في الآياتِ السَّالِفةِ أنَّ الإيمانَ لا يحصُلُ إلَّا بتَخليقِ الله تعالى ومَشيئتِه؛ أمَرَ بالنَّظَرِ والاستدلالِ في الدَّلائلِ حتى لا يُتَوهَّمَ أنَّ الحقَّ هو الجَبرُ المَحضُ

.

وأيضًا لما تقرَّر ما مضَى مِن النَّهيِ عن الإصغاءِ إليهم في طلبِ الآياتِ، وختَم بتعليقِ الأمرِ بمجرَّد المشيئةِ، كان كأنَّه قِيل: فماذا يُقال لهم إذا طلَبوا .

قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

أي: قُلْ- يا مُحَمَّدُ- للمُشرِكينَ الذين يسألونَك الآياتِ: انظُروا ماذا في السَّمواتِ مِن الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجومِ والسَّحابِ، وفي الأرضِ مِن الجِبالِ والبِحارِ، والأنهارِ والأشجارِ، والثِّمارِ والدوابِّ وغيرِ ذلك من المخلوقاتِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ، فتفَكَّروا فيها واعتَبِروا؛ فإنَّها دالَّةٌ على وحدانيَّةِ اللهِ في ربوبيَّتِه وألوهيَّتِه، وعلى كمالِ قُدرتِه وعظيمِ صِفاتِه، فتُغنيكم عن طلَبِ الآياتِ .

وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ.

أي: وما تنفَعُ الآياتُ السَّماويةُ والأرضيَّةُ، والرسلُ المُنذِرةُ قومًا سبَقَ في علمِ اللهِ أنَّهم لا يُؤمِنونَ .

كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .

وقال عزَّ وجلَّ: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر: 5].

وقال سُبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .

فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لمَّا كان ما في السمواتِ والأرضِ مِن الآياتِ في غايةِ الدلالةِ؛ نبَّه سبحانَه على أنَّ التوقفَ عن الإيمانِ بعدَ التنبيهِ على كيفيةِ الاستدلالِ معاندةٌ، فقال: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، فكان ذلك سببًا لتهديدِهم بقولِه :

فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ.

أي: فهل ينتَظِرُ هؤلاء المُشرِكونَ المكَذِّبونَ لك- يا مُحمَّدُ- من النِّقمةِ والعذابِ، إلَّا مِثلَ وقائِعِ اللهِ تعالى في الأممِ الماضيةِ مِن قَبلِهم، المكَذِّبةِ لِرُسُلِهم ؟

قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهم: فانتَظِروا عذابَ اللهِ، إنِّي معكم من المُنتَظرينَ ما يحُلُّ بكم مِن العذابِ والهلاكِ الذي وعَدَكم اللهُ .

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (103).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا أُمِرَ الرَّسولُ في الآيةِ السَّابقةِ أن يُوافِقَ الكُفَّارَ في انتظارِ العَذابِ؛ ذكَرَ التَّفصيلَ، فقال: العذابُ لا يَنزِلُ إلَّا على الكُفَّارِ، وأمَّا الرَّسولُ وأتباعُه فهم أهلُ النَّجاةِ .

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ.

أي: ثم نُنجِّي رسُلَنا والمُؤمِنينَ بهم مِن عَذابِنا الواقِعِ على قَومِهم .

كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ.

أي: كما أنجَينا الرُّسُلَ السَّابقينَ والمؤمنينَ بهم حين نزولِ العَذابِ، كذلك نفعَلُ بك- يا مُحمَّدُ- وبالمُؤمِنينَ بك، فنُنَجِّيكم جميعًا، حقًّا ووعدًا أوجَبْناه علينا لا نُخلِفُه

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] .

وقال سُبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أمَرَ تعالى بالفِكرِ فيما أودَعَه تعالى في السَّمَواتِ والأرضِ؛ إذ السَّبيلُ إلى مَعرِفتِه تعالى هو بالتفَكُّرِ في آياتِه ومخلوقاتِه

.

2- قال الله تعالى: كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ هذا مِن دَفْعِه سبحانَه عن المُؤمِنينَ؛ فإنَّ اللهَ يُدافِعُ عن الذين آمنوا، فإنَّه بحسَبِ ما مع العبدِ مِن الإيمانِ تحصُلُ له النَّجاةُ مِن المكارِه ، فمدارُ النَّجاةِ هو الإيمانُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عمَّم ما في السَّمواتِ والأرضِ؛ لتتوجَّهَ كُلُّ نَفسٍ إلى ما هو أقرَبُ إليها، وأيسَرُ استدلالًا عليه لَدَيها

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا أشار بأداةِ التَّراخي ثُمَّ إلى طولِ زَمانِ الابتلاءِ، وعظيمِ رُتبةِ التَّنجيةِ .

3- قَولُ الله تعالى: كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ فيه سؤالٌ: أنَّ قَولَه حَقًّا يقتضي الوجوبَ، واللهُ تعالى لا يجِبُ عليه شيءٌ! الجوابُ: أنَّ ذلك حقٌّ بحَسَبِ الوَعدِ والحُكم، لا أنَّه حَقٌّ بحسَبِ الاستحقاقِ ؛ فالله سبحانه أحَقَّه على نفسِه بحُكمِ إحسانِه وفَضلِه ووَعدِه، لا هم أحَقُّوه عليه كالحَقِّ الذي لإنسانٍ على مَن له عنده يَدٌ، وكقوله أيضًا: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ

قولُه: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ استفهامٌ فيه تقريرٌ وتَوعُّدٌ، وحضٌّ على الإيمانِ

.

قولُه: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وقَع الاستفهامُ بـ (هَلْ) لإفادَتِها تَحقيقَ السُّؤالِ، وهو باعتبارِ تحقيقِ المسؤولِ عنه، وأنَّه جديرٌ بالجوابِ بالتَّحقيقِ، وهو استفهامٌ تَهكُّميٌّ إنكاريٌّ، نُزِّلوا مَنزِلةَ مَن يَنتظِرون شَيئًا يَأتيهم لِيُؤمِنوا، وليس ثَمَّةَ شيءٌ يَصلُحُ لأنْ يَنتَظِروه إلَّا أن يَنتظِروا حُلولَ مِثلِ أيَّامِ الَّذين خلَوا مِن قَبلِهم الَّتي هلَكوا فيها، وضُمِّن الاستفهامُ مَعْنى النَّفيِ، والتَّقديرُ: فهل ينتَظِرون شيئًا؟ ما ينتَظِرون إلَّا مِثلَ أيَّامِ الَّذين خَلَوا مِن قبلِهم .

وقولُه: قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ قُلْ أمرٌ مُرادٌ منه التَّهديدُ، أي: انتَظِروا ما يَحِلُّ بكُم كما حَلَّ بمَن قَبلَكم مِن مُكذِّبي الرُّسُلِ .

وجملةُ: قُلْ فَانْتَظِرُوا مُفرَّعةٌ على جملةِ: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ، وفُصِلَ بينَ المفرَّعِ والمفرَّعِ عليه بـقُلْ؛ لزيادةِ الاهتمامِ، ولِيَنتقِلَ مِن مُخاطَبةِ اللهِ رسولَه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم إلى مُخاطَبةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قومَه، وبهذا النَّسْجِ حصَل إيجازٌ بديعٌ؛ لأنَّه بالتَّفريعِ اعتُبِر ناشِئًا عن كلامِ اللهِ تعالى، فكأنَّ اللهَ بلَّغه النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، ثمَّ أمَر النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بأن يُبلِّغَه قومَه؛ فليس له فيه إلَّا التَّبليغُ، وهو يتَضمَّنُ وعْدَ اللهِ نبيَّه بأنَّه يَرى ما يَنتظِرُهم مِن العذابِ؛ فهو وعيدٌ، وهو يتَضمَّنُ النَّصرَ عليهم .

وجملةُ: إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ استئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عن جملةِ: فَانْتَظِرُوا؛ لأنَّها تُثيرُ سُؤالَ سائلٍ يَقولُ: ها نحن أولاءِ نَنتظِرُ، وأنت ماذا تَفعَلُ؟ وهذا مُستعمَلٌ كنايةً عن تَرقُّبِه النَّصرَ؛ إذ لا يُظَنُّ به أنَّه يَنتظِرُ سوءًا؛ فتَعيَّن أنَّه يَنتظِرُ مِن ذلك ضِدَّ ما يَحصُلُ لهم، فالمعيَّةُ في أصلِ الانتظارِ، لا في الحاصلِ بالانتظارِ .

2- قوله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ

قولُه: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا معطوفٌ على كلامٍ محذوفٍ، يَدُلُّ عليه قولُه: إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، كأنَّه قيل: نُهلِكُ الأُممَ ثمَّ نُنجِّي رُسلَنا، على حكايةِ الأحوالِ الماضيةِ ، وهذا التَّعبيرُ مِن أعجبِ إيجازِ القُرآنِ المُعجِز الذي انفرَدَ به في العَطفِ على محذوفٍ، وهو ذِكرُ شَيءٍ يدُلُّ دلالةً واضحةً على أمرٍ عامٍّ: كسُنَّةٍ اجتماعيَّةٍ تُستنبَطُ مِن قِصَّةٍ أو قِصَص واقعةٍ، ثم يأتي بجملةٍ مَعطوفةٍ لا يصِحُّ عَطفُها على ما قَبلَها من الجُمَل، فيتبادَرُ إلى الذِّهنِ وُجوبُ عَطفِها على ذلك الأمرِ العامِّ، بحرفِ العطفِ المُناسِب للمَقامِ، بحيث يُستَغنى به عن ذِكرِه، وتقديرُه هنا: تلك سُنَّتُنا في رسُلِنا مع قومِهم: يُبَلِّغونَهم الدَّعوةَ، ويُقيمونَ عليهم الحُجَّةَ، ويُنذِرونَهم سوءَ عاقبةِ الكُفرِ والتَّكذيبِ، فيؤمِنُ بعضٌ، ويُصِرُّ الآخرونَ، فنُهلِكُ المكَذِّبينَ، ثمَّ نُنَجِّي رسُلَنا والذين آمَنوا بهم، كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ .

وفي صيغةِ الاستقبالِ نُنَجِّي لحكايةِ الأحوالِ الماضيةِ: تهويلٌ لأمرِها باستحضارِ صُوَرِها .

وقولُه: كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ تذييلٌ لما قبلَه مقرِّرٌ لمضمونِه، والمرادُ بالمؤمنين إمَّا الجنسُ المتناوِلُ للرُّسلِ عليهم السَّلامُ والأتباعِ، وإمَّا الأتباعُ فقط ولم يَذكُرْ إنجاءَ الرُّسلِ؛ إيذانًا بعدَمِ الحاجةِ إليه .

==========================

 

سُورةُ يُونُس

الآيات (104-109)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ

غريب الكلمات:

 

حَنِيفًا: أي: مُقبلًا على اللهِ، مُعرضًا عما سِواه، وقيل: مائلًا عن الشركِ والدِّينِ الباطلِ إلى التوحيدِ، والدِّينِ الحقِّ المستقيمِ، وأصلُ الحنفِ: الميلُ عن الشيءِ بالإقبالِ على آخرَ، فالحنفُ ميلٌ عن الضلالةِ إلى الاستقامةِ، وأصلُه ميلٌ في إبهاميِ القدمينِ، كل واحدةٍ على صاحبتِها

، وقيل: حنيفًا، أي: مسلمًا مستقيمًا .

بِوَكِيلٍ: الوكيلُ: المانعُ والحافظُ والكفيلُ، ووكيلُ الرجلِ في مالِه هو الذي كفَله له، وقام به، والتوكُّلُ يُقال على وجهينِ، يُقال: توكَّلتُ لفلانٍ بمعنى: توليتُ له، ويُقال: وكلتُه فتوكَّل لي، وتوكلتُ عليه بمعنَى: اعتمدتُه، وأصلُ (وكل): يدلُّ على اعتمادِ غيرِك في أمرِك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالَى: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاء النَّاسِ: إن كُنتُم في شَكٍّ مِن صِحَّةِ ديني الذي دَعَوتُكم إليه، وهو الإسلامُ، فإنِّي لا أعبدُ في حالٍ مِن الأحوالِ أحدًا من الذين تَعبدونَهم ممَّا اتَّخَذتُم مِن الأصنامِ والأوثانِ، ولكِنْ أعبدُ اللهَ وَحْدَه الذي يُميتُكم، وأمرني الله عزَّ وجلَّ أن أكونَ مِن المؤمنينَ. وأمَرني بقولِه: أقِمْ- أيُّها الرَّسولُ- نَفسَك على دينِ الإسلامِ مُستقيمًا عليه، غيرَ مائلٍ عنه، ولا تكونَنَّ ممَّن يُشرِكُ في عبادةِ رَبِّه الآلهةَ والأندادَ، فتكونَ مِن الهالكينَ، ولا تعبُدْ مِن دونِ الله شيئًا من الأوثانِ والأصنامِ وغيرِها؛ لأنَّها لا تنفَعُ ولا تضُرُّ، فإن فعَلْتَ ذلك وعبَدْتَها مِن دونِ اللهِ، فإنَّك إذًا من الظَّالِمينَ لأنفُسِهم بالشِّركِ، وإن يُصِبْك اللهُ- أيُّها الرَّسولُ- بشدَّةٍ أو بلاءٍ، فلا كاشِفَ لذلك إلَّا هو جلَّ وعلا، وإن يُرِدْك برَخاءٍ أو نعمةٍ، فلا يمنَعُه عنك أحدٌ، يصيبُ اللهُ عزَّ وجلَّ بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ مَن يشاءُ مِن عبادِه، وهو الغَفورُ لذنوبِ مَن تاب، الرَّحيمُ بمن آمنَ به وأطاعه، وقل- أيُّها الرَّسولُ- للنَّاسِ: قد جاءكم القرآنُ الذي فيه بيانُ هِدايتِكم، فمَن اهتدى بهذا القرآنِ، فإنَّما ثَمرةُ عَمَلِه راجعةٌ إليه، ومَن انحرَفَ عن القرآنِ، وأصرَّ على الضَّلالِ، فإنَّما ضلالُه وضرَرُه على نفسِه، وما أنا بمسلَّطٍ عليكم حتى تكونوا مؤمنينَ، ولا بحفيظٍ عليكم حتى أحفظَ أعمالَكم وأحاسِبَكم عليها، واتَّبِع وحيَ اللهِ الذي يُوحيه إليك، فاعمَلْ به، واصبِرْ على طاعةِ الله تعالى، وعلى أذى مَن آذاك في تبليغِ رِسالتِه، حتى يقضيَ اللهُ بينك وبينهم، وهو عزَّ وجَلَّ خيرُ الحاكِمينَ؛ فإنَّ حُكمَه مُشتَمِلٌ على العَدلِ التَّامِّ.

تفسير الآيات:

 

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الدَّلائِلَ على أقصى الغاياتِ، وأبلَغِ النِّهاياتِ، أمرَ رَسولَه بإظهارِ دِينِه، وبإظهارِ المُبايَنةِ عن المُشرِكينَ؛ لكي تزولَ الشُّكوكُ والشُّبُهاتُ في أمرِه، وتخرُجَ عبادةُ اللهِ مِن طريقةِ السِّرِّ إلى الإظهارِ

.

وأيضًا لَمَّا تقَدَّمَ الفِطامُ عن الميلِ لِمن يطلُبُ الآياتِ، وكان طلَبُهم لها إنَّما هو على وجهِ الشَّكِّ، وإن لم يكُن على ذلك الوجهِ، فإنَّه فِعلُ الشَّاكِّ غالبًا، وتقَدَّمَت أجوبةٌ لهم، وخُتِمَ ذلك بتَهديدِهم وبشارةِ المُؤمِنينَ المُوجبة لثباتِهم- ناسَبَه كلَّ المُناسَبةِ أن أُتبِعَ الأمرُ بجوابٍ آخَرَ دالٍّ على ثباتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّه مُظهِرٌ دِينَه، رَضِيَ مَن رَضِيَ، وسَخِطَ مَن سَخِطَ .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ.

أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ-: يا أيُّها النَّاسُ ، إن كُنتُم في شَكٍّ مِن صِحَّةِ دِينِ الإسلامِ الذي أدعوكم إليه، فإنِّي لا أعبدُ الذين تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ، مِن الأصنامِ والأوثانِ وغَيرِها من المخلوقاتِ التي لا تستحِقُّ العبادةَ .

وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ.

أي: ولكنْ أعبدُ اللهَ الذي يُميتُكم ويَقبِضُ أرواحَكم، ثمَّ يَبعَثُكم وإليه مَرجِعُكم؛ لِيُجازيَكم بأعمالِكم، فهو وَحْدَه المُستحِقُّ للعبادةِ .

وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

أي: وأمَرَني اللهُ أن أكونَ مِن جملةِ المُؤمِنينَ المصدِّقينَ بما أوحَى إليَّ، الموعودينَ بالنَّجاةِ مِن العذابِ، والنصرِ على أعدائهم وأعدائِه .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 161-163] .

وقال سبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل: 91] .

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105).

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا.

أي: وأمَرَني اللهُ بِقَولِه: أقمْ نفسَك على دينِ الإسلامِ، واستَقِمْ عليه مُخلِصًا لله وَحدَه، مائلًا عن كلِّ دينٍ سواه .

وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

أي: ولا تكوننَّ- يا محمَّدُ- من المُشرِكينَ في عبادةِ اللهِ، لا في حالِهم ولا عقائِدِهم، ولا  أعمالِهم .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر: 65-66] .

وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا نهى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الشِّركِ، أكَّدَه بما هو كالتَّعليلِ له بِقَولِه :

وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ.

أي: ولا تَعبُدْ- يا مُحمَّدُ- مِن دونِ اللهِ مِن الأصنامِ وغَيرِها ما لا ينفَعُك إن عبَدْتَه، ولا يضُرُّك إن عصَيتَه .

فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ.

أي: فإنْ عَبَدتَ غَيرَ اللهِ، فإنَّك- يا محمَّدُ- من الظَّالِمينَ لأنفُسِهم بالشِّركِ، الواضعينَ العبادةَ في غيرِ مَوضِعِها .

وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّن الله تعالى في الآيةِ الأولى في صفةِ الأصنامِ أنَّها لا تضُرُّ ولا تنفَعُ؛ بيَّن في هذه الآيةِ أنَّها لا تَقدِرُ أيضًا على دَفعِ الضَّرَرِ الواصلِ مِن الغَيرِ، وعلى الخيرِ الواصلِ مِن الغَيرِ ، وذكَر أنَّ الحَولَ والقُوَّةَ والنَّفعَ والضُّرَّ، ليس ذلك إلَّا لله، وأنَّه تعالى هو المُنفَرِدُ بذلك .

وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ.

أي: وإن يُصِبْك اللهُ- يا مُحمَّدُ- بشدَّةٍ وبلاءٍ- كمَرَضٍ أو فقرٍ- فلا يَكشِفُه عنك ويَرفَعُه إلَّا اللهُ وَحدَه المُستَحِقُّ للعبادةِ .

كما قال سُبحانه: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38] .

وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ.

أي: وإنْ يُرِدِ اللهُ لك الخيرَ- يا محمَّدُ- فلا أحدَ مِن الخَلقِ يَقدِرُ على ردِّ فَضلِه وإحسانِه .

كما قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 2] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كنتُ خَلفَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: يا غُلامُ، إنِّي أعَلِّمُك كَلِماتٍ: احفَظِ اللهَ يَحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستعِنْ بالله، واعلَمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمَعَت على أن ينفَعوك بشَيءٍ، لم ينفَعوك إلَّا بشَيءٍ قد كتَبَه الله لك، ولو اجتَمَعوا على أن يضُرُّوك بشَيءٍ، لم يضُرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلامُ، وجَفَّت الصُّحُف )) .

يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ.

أي: يُصيبُ اللهُ بالضُّرِّ والخيرِ من يَشاءُ مِن عبادِه .

وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

أي: وهو الغَفورُ لذُنوبِ عِبادِه التَّائبين، الرَّحيمُ بالمؤمنينَ .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كَثُرَت في هذه السُّورةِ الأوامِرُ والنَّواهي والأجوبةُ بسبَبِ ما يقتَرِحونَه على وجهِ التعَنُّت، وخُتِمَ بأنَّ من دعا غيرَه كان راسخًا في الظُّلمِ، لا مُجيرَ له منه؛ ختَم ذلك بجوابٍ مُعلِمٍ بأنَّ فائدةَ الطَّاعةِ ليست راجعةً إلَّا إليهم، وضرَرَ النُّفورِ ليس عائدًا إلَّا عليهم .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا قرَّرَ تعالى الدَّلائِلَ المذكورةَ في التوحيدِ والنبوَّةِ والمعادِ، وزَيَّنَ أمرَ هذه السُّورةِ بهذه البياناتِ الدَّالَّةِ على كونِه تعالى مُبتَدئًا بالخَلقِ والإبداعِ، والتَّكوينِ والاختراعِ- ختَمَها بهذه الخاتمةِ الشَّريفةِ العاليةِ؛ لئلَّا يبقى لأحدٍ عُذرٌ .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ.

أي: قُل- يا محمَّدُ- لجميعِ النَّاسِ: يا أيُّها النَّاسُ، قد أتاكم الحَقُّ المبينُ الذي لا مِريةَ فيه ولا شَكَّ، وهو القُرآنُ الذي نزَلَ مِن عند رَبِّكم، فيه بيانُ دِينِكم، وصَلاحُ أحوالِكم .

فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ.

أي: فمَن اهتَدى بهذا القرآنِ واتَّبَعه، فإنَّما ينفَعُ نَفسَه .

وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.

أي: ومن ضلَّ عن القرآنِ فخالفَ طريقَ الحَقِّ، فإنَّما يضرُّ نفسَه .

وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ.

أي: وقُلْ- يا محمَّدُ- للنَّاسِ: وما أنا بمسَلَّطٍ عليكم، وقاهرٍ لكم حتى تُؤمِنوا، ولا بحفيظٍ عليكم حتى أحفظَ أعمالَكم وأحاسِبَكم عليها .

كما قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: 41] .

وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان أكثَرُ ما ذُكِرَ وعظًا لهم وتذكيرًا؛ ختَمَه الله تعالى بأمرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما يفعَلُه في خاصَّةِ نَفسِه، أجابوا أو لم يُجيبوا ، فقال تعالى:

وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ.

أي: واتَّبعْ- يا محمَّدُ- ما أوحَى اللهُ إليك من القرآنِ، فصدِّقْ بأخبارِه، واعمَلْ بأحكامِه .

وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ.

أي: واصبِرْ على التمسُّكِ بما يُوحَى إليك، وعلى أذى المُشرِكينَ، حتَّى يقضيَ اللهُ بينك وبينهم .

كما قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 78-79] .

وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.

أي: واللهُ خيرُ الحاكِمينَ بالعدْلِ بين المُتَخاصِمينَ، فسيَحكُمُ بينك- يا محمَّدُ- وبين مَن خالَفوك

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ فلا أحدَ ولا شيءَ يَرُدُّ فَضلَه تعالى الذي تتعَلَّقُ به إرادتُه، فما شاء كان حتمًا، فلا ينبغي لأحدٍ أن يرجوَ الخَيرَ والنَّفعَ إلَّا مِن فَضلِه، ولا أن يخاف رَدَّ ما يريدُه له من أحدٍ غَيرِه

.

2- قال الله تعالى: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ أعلَمَت هذه الآيةُ أنَّ من اتَّبَعَ الوَحيَ ابتُليَ بما ينبغي الصَّبرُ عليه، وأفهَمَت أنَّ من كان له أشدَّ اتباعًا، كان أشَدَّ بلاءً

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ فيه سؤالٌ: كيف قال فِي شَكٍّ وهم كفَّارٌ يَعتَقِدونَ بُطلانَ ما جاء به؟

الجوابُ: أنَّه كان فيهم شاكُّونَ، أو أنَّهم لَمَّا رأوُا الآياتِ اضطَرَبوا، وشَكُّوا في أمرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فيه سؤالٌ: ما الحكمةُ في ذِكرِ المَعبودِ الحَقِّ في هذا المقامِ بهذه الصِّفةِ، وهي قولُه: الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ؟ الجواب مِن وجوهٍ:

الأول: أنَّه إنَّما خُصَّ التَّوفِّي هاهنا بالذِّكرِ دونَ الإحياءِ؛ لأنَّه يتضَمَّنُ تهديدًا لهم؛ لأنَّ وفاةَ المُشرِكينَ ميعادُ عذابِهم .

الثاني: لِمَا فيها مِن الدَّلالةِ على كمالِ التَّصرُّفِ في المخلوقِ؛ فإنَّ المشرِكين لم يَبلُغْ بهم الإشراكُ إلى ادِّعاءِ أنَّ الأصنامَ تُحْيي وتُميتُ .

الثالث: يحتملُ أن يكونَ المرادُ: أنِّي أعبُدُ اللهَ الذي خلَقَكم أوَّلًا ثم يتوفَّاكم ثانيًا، ثمَّ يُعيدكم ثالثًا، فاكتفى بذِكرِ التوفِّي منها؛ لِكَونِه منبِّهًا على البَواقي.

الرابع: أنَّ الموتَ أشَدُّ الأشياءِ مَهابةً، فخُصَّ هذا الوصفُ بالذِّكرِ في هذا المقامِ؛ لِيَكونَ أقوى في الزَّجرِ والرَّدعِ.

الخامس: أنَّهم لَمَّا استعجَلوا نزولَ العذابِ قال تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّه تعالى يُهلِكُ أولئك الكُفَّارَ، ويُبقي المؤمنينَ، ويُقَوِّي دولتَهم، فلمَّا كان قريبَ العَهدِ بذِكرِ هذا الكلامِ؛ لا جرَمَ قال هاهنا: وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وهو إشارةٌ إلى ما قَرَّره وبَيَّنَه في تلك الآيةِ، كأنَّه يقولُ: أعبدُ ذلك الذي وعَدَني بإهلاكِهم وبإبقائي .

3- قَولُ الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اختيرَ في الآيةِ الثَّانيةِ صِيغةُ الطَّلَبِ وفيما قَبلَه الخَبَر؛ ذلك بأنَّ الخَبَر هو المناسِبُ لعلاقةِ هذا الأمرِ بالماضي، وهو أن يكونَ مِن جماعةِ المؤمنينَ المَوعودينَ بما تقَدَّمَ من سنَّةِ الله في النبيِّينَ، والطَّلَبُ هو المناسِبُ لعَلاقتِه هو وما عُطِفَ عليه مِن النَّهيِ بالحالِ والاستقبالِ، من دعوةِ هذا الدِّينِ المُوجَّهةِ إلى أهلِ مَكَّةَ وسائرِ النَّاسِ .

4- قَولُه تعالى: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نهيٌ عن الإشراكِ على التَّصريحِ؛ لتأكيدِ التَّحذيرِ والذَّمِّ لأهلِه؛ لأنَّه إذا قيل: لا تكُنْ منهم، اقتضى أنَّهم على نهايةِ الخِزيِ والمَقتِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ المقصودُ مِن هذا الفَرضِ: تنبيهُ النَّاسِ على فظاعةِ عِظَمِ هذا الفِعلِ، حتى لو فعَلَه أشرفُ المَخلوقينَ، لكان من الظَّالِمينَ .

6- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ فيه سؤالٌ: لمَ ذُكِرَ المَسُّ في أحَدِهما، والإرادةُ في الثَّاني؟

الجوابُ: أنَّ للعُلَماءِ وجوهًا في تعليلِ ذلك:

الوجه الأول: أنَّه لَمَّا كان الضرُّ أمرًا وجوديًّا، لا جرمَ قال فيه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ولَمَّا كان الخيرُ قد يكونُ وجوديًّا، وقد يكون عَدميًّا؛ لا جرَمَ لم يُذكَرْ لفظُ الإمساسِ فيه، بل قال: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ .

الوجه الثاني: كأنَّه أراد أن يَذكُرَ الأمرينِ جَميعًا: الإرادةَ والإصابةَ في كلِّ واحدٍ مِن الضُرِّ والخَيرِ، وأنَّه لا رادَّ لِما يرُيدُه منهما، ولا مُزيلَ لِما يُصيبُ به منهما، فأوجز الكلامَ بأن ذكَرَ المسَّ وهو الإصابةُ في أحَدِهما، والإرادةَ في الآخرِ؛ ليدُلَّ بما ذُكِرَ على ما تُرِكَ، على أنَّه قد ذكَرَ الإصابةَ بالخَيرِ في قَولِه تعالى: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ .

الوجه الثالث: أنَّه عبَّرَ بالمسِّ في قَولِه تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ لأنَّه أخوَفُ.

الوجه الرابع: أنَّه عبَّرَ بالإرادةِ في الخيرِ، وبالمسِّ في الضُّرِّ؛ تنبيهًا على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرادٌ بالخَيرِ بالذَّاتِ، وبالضُّرِّ بالعَرضِ تطييبًا لقَلبِه .

7- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ دالٌّ على أنَّ الضُّرَّ والخيرَ واقعانِ بقُدرةِ الله تعالى وبقَضائِه، فيدخلُ فيه الكفرُ والإيمانُ والطاعةُ والعِصيانُ، والسُّرورُ والآفاتُ، والخيراتُ والآلامُ، واللَّذَّاتُ والرَّاحاتُ والجِراحات، فبيَّن سُبحانه وتعالى أنَّه إن قضى لأحدٍ شرًّا، فلا كاشِفَ له إلَّا هو، وإن قضى لأحدٍ خَيرًا فلا رادَّ لِفَضلِه البتَّةَ .

8- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فيه دَقيقةٌ، وهي أنَّه تعالى رجَّحَ جانِبَ الخَيرِ على جانِبِ الشَّرِّ، وذلك من أوجهٍ، منها:

الأول: أنَّه تعالى لَمَّا ذكر إمساسَ الضُّرِّ، بيَّنَ أنَّه لا كاشِفَ له إلَّا هو، وذلك يدُلُّ على أنَّه تعالى يُزيلُ المَضارَّ؛ لأنَّ الاستثناءَ مِن النَّفيِ إثباتٌ، ولَمَّا ذكَرَ الخَيرَ لم يَقُلْ بأنَّه يَدفَعُه بل قال إنَّه: لَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، وذلك يدلُّ على أنَّ الخيرَ مَطلوبٌ بالذَّاتِ، وأنَّ الشَّرَّ مطلوبٌ بالعَرضِ.

الثاني: أنَّه قال: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وهذا أيضًا يدُلُّ على قوَّةِ جانبِ الرَّحمةِ .

9- التقديمُ في اللفظِ يدلُّ على زيادةِ العنايةِ، فقولُه: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يدلُّ على أنَّ المقصودَ هو الإنسانُ، وسائرُ الخيراتِ مخلوقةٌ لأجلِه، فهذه الدقيقةُ لا تُستفادُ إلا مِن هذا التركيبِ .

10- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلهِ سمَّى الخيرَ فَضلًا؛ إشعارًا بأنَّ الخُيورَ من الله تعالى، هي صادرةٌ على سبيلِ الفَضلِ والإحسانِ والتفَضُّل

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فيه إيثارُ الخطابِ باسْمِ الجنسِ مُصدَّرًا بحرفِ التَّنبيهِ؛ تَعميمًا للتَّبليغِ، وإظهارًا لكمالِ العنايةِ بشأنِ ما بُلِّغ إليهم

.

قولُه: فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ، فيه الجمعُ بينَ نفيِ أن يَعبُدَ الأصنامَ وبين إثباتِ أنَّه يَعبُدُ اللهَ، وهو يقومُ مَقامَ صيغةِ القصرِ لو قال: فلا أَعبُدُ إلَّا اللهَ؛ ووجهُ العدولِ عن صيغةِ القصرِ: أنَّ شأنَها أن يُطْوَى فيها الطَّرَفُ المنفيُّ للاستغناءِ عنه بالطَّرَفِ المثبَتِ؛ لأنَّه المقصودُ، وذلك حين يكونُ الغرضُ الأصليُّ هو طرَفَ الإثباتِ، فأمَّا إذا كان طرَفُ النَّفيِ هو الأهمَّ كما هنا، وهو إبطالُ عبادةِ الأصنامِ أوَّلًا؛ عَدَل عن صيغةِ القصرِ إلى ذِكْرِ صيغتَيْ نفيٍ وإثباتٍ؛ فهو إطنابٌ اقتَضاه المقامُ .

وعُومِلَت الأصنامُ مُعاملةَ العُقلاءِ، فأُطلِقَ عليها اسمُ الموصولِ الَّذِينَ الَّذي لجماعةِ العقلاءِ؛ مُجاراةً لِما يَعتقِدونه فيها مِن العقلِ والتَّدبيرِ .

وتقديمُ تركِ عبادةِ الغير على عبادته تعالى في قولِه: فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ؛ لتقدُّمِ التخليةِ على التحليةِ، كما في كلمةِ التَّوحيدِ، وللإيذانِ بالمخالفةِ مِن أوَّلِ الأمرِ .

قولُه تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فيه جعلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن جملةِ المؤمِنين؛ تشريفًا لهذا الجمعِ، وتنويهًا به .

وفي قولِه تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وقال في سورةِ النَّملِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل: 91] ، فاختُصَّ هذا المكانُ بـ(المؤمنين)، واختُصَّ آخِرُ سورةِ النَّملِ بـ(المسلمين)؛ ووجهُ ذلك: أنَّ قبل هذه الآيةِ في سورةِ يونسَ قولَه تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 103] ، فقال بعدَه: وأُمِرتُ أن أكونَ مِنهم. وأمَّا في سورةِ النَّملِ فإنَّ قبلَ هذه الآيةِ مِنها: وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 81] ، فكأنَّه قال: وأُمِرتُ أن أكونَ ممَّن إذا سَمِع بآياتِه آمَن بها، وكان مِن المسلِمين الَّذين مُدِحوا بأنَّ النَّبيَّ يُسمِعُهم؛ إذْ يَنتفِعون بما يَسمَعونه منه، فلمَّا تقاربَتِ اللَّفظَتان وكانَتا تُستعمَلان لمعنًى واحدٍ، حُمِلَت كلُّ واحدةٍ مِنهما على اللَّفظِ الَّذي تَقدَّمها ولاءَمها .

وأيضًا لأنَّ آيةَ سورةِ يونسَ قد ورَد قبلَها قولُه تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 99، 100]، وبعدَ هذا: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101]، وبعدَ هذا: كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 103] ، وبعدَ هذا الآيةُ المذكورةُ مِن قولِه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 104] ، وتناسُبُ هذا كلِّه ظاهرٌ، ثمَّ إنَّ ما تقدَّم قبلَ آيةِ يونُسَ مِن تَكْرارِ اسمِ الإيمانِ لم يَكُنْ لِيُلائِمَه إطلاقُ اسمِ الإسلامِ؛ لأنَّ رُتبةَ الإيمانِ فوق رُتبةِ الإسلامِ، ومَقامَه أعلى، وهذا على إطلاقِ كلِّ واحدٍ مِن الاسمَينِ على مُسمَّاه لغةً، وعلى رَعْيِ التَّفصيلِ، فكأنْ يكونَ عَكْسَ التَّرقِّي إلى الأعلى أبَدًا، فلا يُمكِنُ في آيةِ يونُسَ إلَّا ما ورَدَت عليه.

أمَّا آيةُ النَّملِ فإنَّ قبْلَها قولَه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل: 91] ، وقولُه: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ يَقتَضي تسليمَ كلِّ شيءٍ له، والتَّبرِّيَ مِن توهُّمِ شَريكٍ أو نظيرٍ؛ فناسبَ هذا قولَه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل: 91] ، وجاء كلٌّ على ما يَجِبُ .

2- قوله تعالى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

قولُه: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا اللَّامُ في لِلدِّينِ للعلَّةِ، أي: لأجلِ الدِّينِ، وهو كنايةٌ عن توجيهِ نفْسِه بأَسْرِها لأجلِ ما أمَره اللهُ به مِن التَّبليغِ، وإرشادِ الأمَّةِ وإصلاحِها .

قولُه: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نهيٌ مؤكِّدٌ لمعنى الأمرِ الَّذي قَبْلَه أَقِمْ، وتأكيدُ الفعلِ المنهيِّ عنه بنونِ التَّوكيدِ؛ للمُبالَغةِ في النَّهيِ عنه؛ اعتِناءً بالتَّبرُّؤِ مِن الشِّركِ .

3- قوله تعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ

قوله: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ تأكيدٌ للنَّهيِ المذكورِ: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه؛ إظهارًا لكمالِ العنايةِ بالأمرِ، وكشفًا عن وجهِ بُطلانِ ما عليه المشركون .

قولُه: فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ تفريعٌ على النَّهيَينِ: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ؛ للإشارةِ إلى أنَّه لا مَعذِرَةَ لِمَن يَأتي ما نُهي عنه بعدَ أن أُكِّد نهيُه، وبُيِّنَت عِلَّتُه، فمَن فعَله فقد ظلَم نفسَه، واعتَدى على حقِّ ربِّه .

قولُه: فَإِنْ فَعَلْتَ مَعْناه: فإنْ دعَوتَ مِن دونِ اللهِ ما لا ينفَعُك ولا يضُرُّك؛ فكنَى بالفِعلِ عن الدُّعاءِ إيجازًا، وتنويهًا لشأنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتنبيهًا على رِفْعةِ مَكانِه مِن أن يُنسَبَ إليه عبادةُ غيرِ اللهِ سبحانه، ولو في ضِمْنِ الجملةِ الشَّرطيَّةِ .

وفي قولِه: فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ أكَّد الكَونَ مِنَ الظَّالِمين بـ(إنَّ)؛ لِزِيادةِ التَّحذيرِ، وأُتِي بـ إِذًا؛ للإشارةِ إلى سؤالٍ مقدَّرٍ؛ كأنَّ سائلًا سأَل: فَإن فعَلتُ فماذا يكونُ ؟

4- قولُه تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

مِن المناسبةِ الحسنةِ: أنَّه أتَى في الضُّرِّ بلَفظِ المسِّ، فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ...، وفي الخيرِ بلَفظِ الإرادةِ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ، وطابَق بينَ الضُّرِّ والخيرِ مُطابَقةً معنويَّةً لا لفظيَّةً؛ لأنَّ مُقابِلَ الضُّرِّ النَّفْعَ، ومُقابِلَ الخيرِ الشَّرَّ؛ فجاءَت لفظةُ الضُّرِّ ألْطَفَ وأخَصَّ مِن لفظةِ الشَّرِّ، وجاءت لفظةُ الخيرِ أتَمَّ مِن لفظةِ النَّفعِ، ولفظةُ المسِّ أوجَزُ مِن لفظِ الإرادةِ، وأكثَرُ تَنصيصًا على الإصابةِ، وأنسَبُ لقولِه: فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، ولفظةُ الإرادةِ أدَلُّ على الحصولِ في وقتِ الخطابِ وفي غيرِه، وأنسَبُ لِلَفظِ الخيرِ، وإن كان المسُّ والإرادةُ مَعناهما الإصابةَ .

وأيضًا جاء جوابُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بنفيٍ عامٍّ وإيجابٍ: فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وجاء جوابُ: وَإِنْ يُرِدْكَ بنفيٍ عامٍّ: فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ؛ لأنَّ ما أراده لا يَرُدُّه رادٌّ لا هو ولا غيرُه؛ فلذلك لم يَجِئِ التَّركيبُ: فلا رادَّ له إلَّا هو، والمسُّ مِن حيث هو فِعلٌ صفةُ فعلٍ يوقِعُه ويَرفَعُه بخِلافِ الإرادةِ؛ فإنَّها صفةُ ذاتٍ .

قولُه: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، الفضلُ: هو الخيرُ، وأوقَع الاسْمَ الظَّاهِرَ لِفَضْلِهِ موقِعَ الضَّميرِ- فلم يَقُلْ: فلا رادَّ له-؛ للدَّلالةِ على أنَّ الخيرَ الواصِلَ إلى النَّاسِ فضلٌ مِن اللهِ لا استِحْقاقَ لهم فيه؛ لأنَّهم عَبيدٌ له يُصيبُهم بما يَشاءُ .

وقولُه: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تذييلٌ لقولِه تعالى: يُصَيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مقرِّرٌ لمضمونِه، والكلُّ- أي قولُه: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ- تذييلٌ للشَّرطيَّةِ الأخيرةِ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، محققٌ لمضمونِها .

ولَمَّا تقدَّم قولُه: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ، فأخَّر الضُّرَّ؛ ناسَب أن تَكونَ البَداءةُ بجُملةِ الشَّرطِ المتعلِّقةِ بالضُّرِّ، وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان الكُفَّارُ يُتوقَّعُ منهم الضُّرُّ للمُؤمِنين، والنَّفعُ لا يُرجَى مِنهُم، كان تقديمُ جملةِ الضُّرِّ آكَدَ في الإخبارِ، فبُدِئ بها .

5- قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ

قولُه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فيه اختيارُ وصفِ الرَّبِّ المضافِ إلى ضميرِ النَّاسِ على اسمِ الجلالةِ؛ حيث قال: مِنْ رَبِّكُمْ، ولم يَقُلْ: (مِنَ اللهِ)؛ للتَّنبيهِ على أنَّه إرشادٌ مِن الَّذي يُحِبُّ صَلاحَ عِبادِه، ويَدْعوهم إلى ما فيه نَفعُهم شأنُ مَن يَرُبُّ، أي: يَسُوس ويُدبِّرُ .

وفي وصْفِ الحقِّ بـمِنْ رَبِّكُمْ: تنويهٌ بأنَّه حقٌّ مُبينٌ، لا يَخلِطُه باطلٌ ولا رَيبٌ؛ فهو معصومٌ مِن ذلك .

وقولُه: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ تفريعٌ على جملةِ: قَدْ جَاءَكُمُ؛ للإشارةِ إلى أنَّ مَجيءَ الحقِّ الواضِحِ يتَرتَّبُ عليه أنَّ اتِّباعَه غُنْمٌ لِمُتَّبِعِه، وليس مَزِيَّةً له على اللهِ؛ لِيُتوَصَّلَ مِن ذلك إلى أنَّ المعرِضَ عنه قد ظلَم نفْسَه، ورتَّب عليها تَبِعَةَ الإعراضِ .

قولُه: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فيه الإتيانُ بالجملةِ الاسميَّةِ المنفيَّةِ؛ للدَّلالةِ على دَوامِ انتِفاءِ ذلك الحُكمِ، وثَباتِه في سائرِ الأحوالِ .

وفي قوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث عبَّر هنا بقولِه: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، وقال في آخِرِ سورةِ النَّملِ: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [النمل: 92] ؛ ففي الأولى قال: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، وفي الثَّانيةِ: وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ؛ وهذا لأنَّ الآيةَ الأولى في سورةِ يونسَ لَمَّا قال فيها: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، أي: منفعةُ اهتدائِه له، وهي دوامُ النِّعمةِ، والخلودُ في الجنَّةِ- اقتضَى هذا في الضَّلالِ ضدَّه، فقال: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، أي: ضررُ ضلالِه عليه، وهو دوامُ العقابِ بأليمِ العذابِ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، ولا يَلزَمُني أن أقِيَكم ما لا تَقُونه أنفُسَكم، كالوكيلِ الَّذي يَلزَمُه حفظُ ما وُكِّل به ممَّا يَضُرُّه.

وأمَّا في الآيةِ الثَّانيةِ في آخرِ سورةِ النَّملِ فإنَّه عدَل بها عِندَ ذِكرِ الضَّلالِ عمَّا حُمِلَت عليه في الآيةِ التي في آخرِ سورةِ يونسَ؛ لِتُحمَلَ على الفواصلِ التي قَبلَها، وهي مختومةٌ بالواوِ والنُّونِ، أو الياءِ والنونِ، فقال تعالى: وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [النمل:92] ، أي: ممَّن يُعلِمُكم ما يَلزَمُكم أن تَحْذَروه، ويُخوِّفُكم ما يَجِب عليكم أن تَجتنِبوه؛ فاشتمَل هذا على معنى: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ؛ لأنَّ في قولِه تعالى: فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، أي: لستُ ممَّن يُكرِهُ على ما يَحْميكم مِن النَّارِ، ويَقيكم حرَّ العقابِ، كالوكيلِ الَّذي يُحامي على ما وُكِّل به أن يَنالَه ضررٌ، مثل: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ؛ فجاء على لفظِ: إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ؛ لتكونَ الفاصلةُ مُشاكِلةً للفواصلِ الَّتي قبلَها، مع تأديةِ مِثلِ المعنى الذي أدَّته الآيةُ التي شابَهَتْها .

قولُه: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ فيه التَّعبيرُ بالمضارِعِ يُوحَى على نَهْجِ التَّجدُّدِ والاستمرارِ من الحقِّ المذكورِ المتأكِّدِ يومًا فيومًا، وفي التَّعبيرِ عن بُلوغِه إليهم بالمجيءِ قَدْ جَاءَكُمُ، وإليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالوحيِ يُوحَى إِلَيْكَ: تنبيهٌ على ما بين المرتبتَينِ مِن التَّنائي .

قولُه: وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ثناءٌ وتذييلٌ؛ لِما فيه مِن العمومِ، أي: وهو خيرُ الحاكِمين بينَ كلِّ خَصمَين في هذه القضيَّةِ وفي غيرِها، والتَّعريفُ في الحاكِمين للاستِغْراقِ بقَرينةِ التَّذييلِ .

قلت المدون/ الاتي بمشيئة الله سورة هود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...