الجمعة، 19 يناير 2024

20.{سورة طه مكية.135.}

20.{سورة طه مكية.135.}

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسورةِ (طه)

، ومما يدلُّ على ذلك:

1- عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قَالَ: (بني إسرائيلَ ، والكهفُ، ومريمُ، وطه، والأنبياءُ: هنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ، وهنَّ مِن تِلادي)  .

2- عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: (خرج عمرُ متقلِّدًا بالسَّيفِ، فقيل لهُ: إنَّ خَتَنَك وأختَكَ قد صبَوَا ، فأتاهما عمرُ وعندهما رجلٌ من المهاجِرينَ يقالُ لهُ: خبَّابٌ، وكانوا يقرؤونَ «طه»، فقال: أعطوني الذي عندَكم فأقرأَه، وكان عمرُ يقرأُ الكتبَ، فقالت لهُ أختُه: إنَّك رِجْسٌ ، ولا يمَسُّه إلَّا المطَهَّرونَ، فقُمْ واغتَسِلْ أو توضَّأْ، فقام عمرُ فتوضَّأَ ثمَّ أخذ الكِتابَ فقرأَ «طه»)

فضائل السورة وخصائصها:

 

أنَّها مِن السُّوَرِ المتقدِّمِ نزولُها، ومِن قديمِ ما حفِظ الصَّحابةُ وتعلَّموه

كما في أثرِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ الله عنه المتقدِّمِ قريبًا.

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ (طه) مكِّيَّةٌ

، وحُكِي الإجماعُ على ذلك

مقاصد السورة:

 

من أهمِّ مقاصِدِ هذه السُّورةِ:

رعايةُ اللهِ للمُختارينَ لحَملِ الدعوةِ مِن الرسُلِ وأتباعِهم

موضوعات السورة:

 

من أهمِّ موضوعات هذه السُّورةِ

 

1- التَّنويهُ بعَظَمةِ القُرآنِ الكريمِ وأنَّه منزلٌ مِن الله تعالى.

2- تفصيلُ الكلامِ عن قصةِ موسَى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإرسالِه إلى فرعونَ، وما جرَى بينَهما مِن حوارٍ، وأمرِ السحرةِ وما آلَ إليه أمرُهم، وما فعَله بنو إسرائيلَ في غَيبةِ موسَى عنهم، وإضلالِ السامريِّ لهم.

3- ذِكرُ جَزاءِ المُعرِضينَ عن القرآنِ الكريمِ، وذِكرُ شَيءٍ مِن مشاهِدِ يومِ القيامةِ.

4- بيان مَنزِلةِ القرآنِ، وأنه نزل عربيًّا، وأنَّ الله تعالى صرَّف فيه مِن الوعيدِ.

5- ذكرُ قصَّةِ خَلقِ آدَمَ.

6- أمرُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعدةِ أمورٍ؛ منها: الصبرُ، والإكثارُ مِن ذكرِ الله، وعدمُ التطلُّعِ إلى زهرةِ الحياةِ الدنيا، وأمرُ أهلِه بالصلاةِ.

7- الردُّ على مزاعمِ المشركين، وتهديدُهم بسوءِ العاقبةِ إذا ما استمرُّوا على ضلالِهم.

سورةُ طه

سورة طه مكية | رقم السورة: 20 - عدد آياتها : 135 عدد كلماتها : 1,354 - اسمها بالانجليزي : Taahaa

سورة طه مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم

طه (1) مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ (2) إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ (3) تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى (4) ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ (5) لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى (7) ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ (8) وَهَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ (9) إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى (10) فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ (11) إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى (12) وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ (13) إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ (14) إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا يُؤۡمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَتَرۡدَىٰ (16) وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ (18) قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ (19) فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ (20) قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ (21) وَٱضۡمُمۡ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٍ ءَايَةً أُخۡرَىٰ (22) لِنُرِيَكَ مِنۡ ءَايَٰتِنَا ٱلۡكُبۡرَى (23) ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ (24) قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي (25) وَيَسِّرۡ لِيٓ أَمۡرِي (26) وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةٗ مِّن لِّسَانِي (27) يَفۡقَهُواْ قَوۡلِي (28) وَٱجۡعَل لِّي وَزِيرٗا مِّنۡ أَهۡلِي (29) هَٰرُونَ أَخِي (30) ٱشۡدُدۡ بِهِۦٓ أَزۡرِي (31) وَأَشۡرِكۡهُ فِيٓ أَمۡرِي (32) كَيۡ نُسَبِّحَكَ كَثِيرٗا (33) وَنَذۡكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرٗا (35) قَالَ قَدۡ أُوتِيتَ سُؤۡلَكَ يَٰمُوسَىٰ (36) وَلَقَدۡ مَنَنَّا عَلَيۡكَ مَرَّةً أُخۡرَىٰٓ (37) إِذۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰٓ (38) أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ (39) إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ (40) وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِي (41) ٱذۡهَبۡ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـَٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكۡرِي (42) ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ (44) قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفۡرُطَ عَلَيۡنَآ أَوۡ أَن يَطۡغَىٰ (45) قَالَ لَا تَخَافَآۖ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ (46) فَأۡتِيَاهُ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَا تُعَذِّبۡهُمۡۖ قَدۡ جِئۡنَٰكَ بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكَۖ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلۡهُدَىٰٓ (47) إِنَّا قَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡنَآ أَنَّ ٱلۡعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (48) قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ (50) قَالَ فَمَا بَالُ ٱلۡقُرُونِ ٱلۡأُولَىٰ (51) قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰبٖۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَسَلَكَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّن نَّبَاتٖ شَتَّىٰ (53) كُلُواْ وَٱرۡعَوۡاْ أَنۡعَٰمَكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ (54) ۞مِنۡهَا خَلَقۡنَٰكُمۡ وَفِيهَا نُعِيدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ (55) وَلَقَدۡ أَرَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ (56) قَالَ أَجِئۡتَنَا لِتُخۡرِجَنَا مِنۡ أَرۡضِنَا بِسِحۡرِكَ يَٰمُوسَىٰ (57) فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ نَحۡنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى (58) قَالَ مَوۡعِدُكُمۡ يَوۡمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحۡشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحٗى (59) فَتَوَلَّىٰ فِرۡعَوۡنُ فَجَمَعَ كَيۡدَهُۥ ثُمَّ أَتَىٰ (60) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيۡلَكُمۡ لَا تَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا فَيُسۡحِتَكُم بِعَذَابٖۖ وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ (61) فَتَنَٰزَعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَىٰ (62) قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ (63) فَأَجۡمِعُواْ كَيۡدَكُمۡ ثُمَّ ٱئۡتُواْ صَفّٗاۚ وَقَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡيَوۡمَ مَنِ ٱسۡتَعۡلَىٰ (64) قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِمَّآ أَن تُلۡقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَلۡقَىٰ (65) قَالَ بَلۡ أَلۡقُواْۖ فَإِذَا حِبَالُهُمۡ وَعِصِيُّهُمۡ يُخَيَّلُ إِلَيۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ (66) فَأَوۡجَسَ فِي نَفۡسِهِۦ خِيفَةٗ مُّوسَىٰ (67) قُلۡنَا لَا تَخَفۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡأَعۡلَىٰ (68) وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓاْۖ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيۡدُ سَٰحِرٖۖ وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ (69) فَأُلۡقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدٗا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ (70) قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا وَأَبۡقَىٰ (71) قَالُواْ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ (72) إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغۡفِرَ لَنَا خَطَٰيَٰنَا وَمَآ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَيۡهِ مِنَ ٱلسِّحۡرِۗ وَٱللَّهُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ (73) إِنَّهُۥ مَن يَأۡتِ رَبَّهُۥ مُجۡرِمٗا فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ (74) وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ (75) جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ (76) وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ (77) فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ بِجُنُودِهِۦ فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلۡيَمِّ مَا غَشِيَهُمۡ (78) وَأَضَلَّ فِرۡعَوۡنُ قَوۡمَهُۥ وَمَا هَدَىٰ (79) يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ قَدۡ أَنجَيۡنَٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ وَوَٰعَدۡنَٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ (80) كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٞ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ (82) ۞وَمَآ أَعۡجَلَكَ عَن قَوۡمِكَ يَٰمُوسَىٰ (83) قَالَ هُمۡ أُوْلَآءِ عَلَىٰٓ أَثَرِي وَعَجِلۡتُ إِلَيۡكَ رَبِّ لِتَرۡضَىٰ (84) قَالَ فَإِنَّا قَدۡ فَتَنَّا قَوۡمَكَ مِنۢ بَعۡدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي (86) قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ (87) فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٞ فَقَالُواْ هَٰذَآ إِلَٰهُكُمۡ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوۡنَ أَلَّا يَرۡجِعُ إِلَيۡهِمۡ قَوۡلٗا وَلَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا (89) وَلَقَدۡ قَالَ لَهُمۡ هَٰرُونُ مِن قَبۡلُ يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوٓاْ أَمۡرِي (90) قَالُواْ لَن نَّبۡرَحَ عَلَيۡهِ عَٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرۡجِعَ إِلَيۡنَا مُوسَىٰ (91) قَالَ يَٰهَٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذۡ رَأَيۡتَهُمۡ ضَلُّوٓاْ (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِۖ أَفَعَصَيۡتَ أَمۡرِي (93) قَالَ يَبۡنَؤُمَّ لَا تَأۡخُذۡ بِلِحۡيَتِي وَلَا بِرَأۡسِيٓۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَيۡنَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَمۡ تَرۡقُبۡ قَوۡلِي (94) قَالَ فَمَا خَطۡبُكَ يَٰسَٰمِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةٗ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي (96) قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدٗا لَّن تُخۡلَفَهُۥۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ نَسۡفًا (97) إِنَّمَآ إِلَٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ وَسِعَ كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمٗا (98) كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا (99) مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا (100) خَٰلِدِينَ فِيهِۖ وَسَآءَ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ حِمۡلٗا (101) يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ وَنَحۡشُرُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ يَوۡمَئِذٖ زُرۡقٗا (102) يَتَخَٰفَتُونَ بَيۡنَهُمۡ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا عَشۡرٗا (103) نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذۡ يَقُولُ أَمۡثَلُهُمۡ طَرِيقَةً إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا يَوۡمٗا (104) وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡجِبَالِ فَقُلۡ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسۡفٗا (105) فَيَذَرُهَا قَاعٗا صَفۡصَفٗا (106) لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجٗا وَلَآ أَمۡتٗا (107) يَوۡمَئِذٖ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُۥۖ وَخَشَعَتِ ٱلۡأَصۡوَاتُ لِلرَّحۡمَٰنِ فَلَا تَسۡمَعُ إِلَّا هَمۡسٗا (108) يَوۡمَئِذٖ لَّا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُۥ قَوۡلٗا (109) يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِۦ عِلۡمٗا (110) ۞وَعَنَتِ ٱلۡوُجُوهُ لِلۡحَيِّ ٱلۡقَيُّومِۖ وَقَدۡ خَابَ مَنۡ حَمَلَ ظُلۡمٗا (111) وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا يَخَافُ ظُلۡمٗا وَلَا هَضۡمٗا (112) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا وَصَرَّفۡنَا فِيهِ مِنَ ٱلۡوَعِيدِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ أَوۡ يُحۡدِثُ لَهُمۡ ذِكۡرٗا (113) فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۗ وَلَا تَعۡجَلۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مِن قَبۡلِ أَن يُقۡضَىٰٓ إِلَيۡكَ وَحۡيُهُۥۖ وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا (114) وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا (115) وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ (116) فَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوّٞ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ فَلَا يُخۡرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلۡجَنَّةِ فَتَشۡقَىٰٓ (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعۡرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضۡحَىٰ (119) فَوَسۡوَسَ إِلَيۡهِ ٱلشَّيۡطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكٖ لَّا يَبۡلَىٰ (120) فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ (121) ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ (122) قَالَ ٱهۡبِطَا مِنۡهَا جَمِيعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ (123) وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيرٗا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ (126) وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي مَنۡ أَسۡرَفَ وَلَمۡ يُؤۡمِنۢ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦۚ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبۡقَىٰٓ (127) أَفَلَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ (128) وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامٗا وَأَجَلٞ مُّسَمّٗى (129) فَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ غُرُوبِهَاۖ وَمِنۡ ءَانَآيِٕ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡ وَأَطۡرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرۡضَىٰ (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ (131) وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡـَٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ (132) وَقَالُواْ لَوۡلَا يَأۡتِينَا بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّهِۦٓۚ أَوَ لَمۡ تَأۡتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ (133) وَلَوۡ أَنَّآ أَهۡلَكۡنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبۡلِهِۦ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوۡلَآ أَرۡسَلۡتَ إِلَيۡنَا رَسُولٗا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبۡلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخۡزَىٰ (134) قُلۡ كُلّٞ مُّتَرَبِّصٞ فَتَرَبَّصُواْۖ فَسَتَعۡلَمُونَ مَنۡ أَصۡحَٰبُ ٱلصِّرَٰطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ (135)

الآيات (1-8)طه (1) مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ (2) إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ (3) تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى (4) ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ (5) لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى (7) ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ (8)

غريب الكلمات:

الثَّرَى: أي: التُّرابِ النَّديِّ الرَّطْبِ المُبتلِّ، وهو الذي تحت الظاهِرِ مِن وَجهِ الأرضِ، وأصلُه خِلافُ اليَبَسِ

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى

قولُه تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً: في نصبه أوجهٌ:

أحدُها: أنْ يكونَ مَفعولًا مِن أجلِه، والعامِلُ فيه أَنْزَلْنَا، وكذلك لِتَشْقَى علةٌ له أيضًا، ولا مانِعَ مِن أنْ يعلَّلَ الفِعلُ بعِلَّتينِ فأكثرَ، ووجبَ مجيءُ الأوَّلِ لِتَشْقَى مع اللامِ لاختلافِ الفاعِلِ؛ ففاعِلُ الإنزالِ الله سُبحانَه، وفاعِلُ لِتَشْقَى الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم، ففاتَتْه شريطةُ الانتصابِ، أما الثَّاني تَذْكِرَةً فاستكمَلَ شُروطَ النَّصبِ على المفعولِ لأجلِه. والاستِثناءُ مُفرَّغٌ.

الثاني: أنْ يكونَ منصوبًا على الاستثناءِ المُنقَطِع، أي: ما أنزَلْناه لشَقائِك، لكنْ أنزَلْناه تذكِرةً.

الثالث: أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلٍ مُقَدَّرٍ، أي: لكنْ ذَكَّرْنا به تَذْكِرةً.

الرابع: أنَّه مصدرٌ في موضِع الحالِ مِن الكافِ في عَلَيْكَ، أو من الْقُرْآنَ، والاستثناءُ مُفرَّغ، أي: إلَّا مُذَكِّرًا

المعنى الإجمالي:

 

ابتدأت السورةُ بالحُروفِ المقطَّعةِ، وقد سبق الكلامُ عنها في أوَّلِ سُورةِ (مريمَ)، ثمَّ قال تعالى: ما أنزَلْنا عليك -يا مُحمَّدُ- القرآنَ ليكونَ سَببًا في شقائِك، لكِنْ أنزَلْناه عظةً لمن يخشى الله ويخافُ عِقابَه.

ثمَّ بيَّن الله تعالى مصدرَ هذا القرآنِ، فقال: وقد نُزَّلَ هذا القرآنَ تنزيلًا مِن الله الذي خلَقَ الأرضَ والسَّمواتِ العُلا؛ الرَّحمنُ على العَرشِ ارتفَعَ وعلا، على ما يليقُ بجَلالِه وعَظَمتِه.

ثم أكَّد سبحانَه شمولَ ملكِه، وعمومَ قدرتِه، فقال: له ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وما تحتَ الأرضِ، وإنْ تجهَرْ -يا مُحمَّدُ- بالقَولِ أو تُخفِه؛ فإنَّ اللهَ لا يَخفى عليه شيءٌ، فهو يعلَمُ السِّرَّ وما هو أخفَى مِن السِّرِّ ممَّا لم يخطُرْ على قُلوبِ العبادِ، فيعلَمُ أنه سيخطرُ ببالِهم.

ثمَّ أثنَى الله سبحانَه على ذاتِه بما هو أهلٌ له، فقال: اللهُ لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا هو، له وَحْدَه الأسماءُ الكاملةُ في الحُسنِ.

تفسير الآيات:

 

طه (1).

تقدَّم الكلامُ عن هذه الحروفِ المقطَّعةِ في أوَّلِ تفسيرِ سُورةِ (مريمَ)

.

مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2).

أي: ما أنزَلْنا عليك القُرآنَ -يا محمَّدُ- ليكونَ سَببًا في جلْبِ شَيءٍ من الشَّقاءِ لك .

إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3).

أي: إنَّما أنزَلْنا عليك القُرآنَ -يا مُحمَّدُ- تذكيرًا وعظةً لِمن يخشَى اللهَ، ويخافُ عذابَه .

كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .

وقال سُبحانه: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى: 9، 10].

تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4).

أي: نزل هذا القرآنُ تنزيلًا مِنَ الله الذي خلقَ الأرضَ المُنخَفضةَ والسَّمواتِ العاليةَ الرَّفيعةَ .

كما قال تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت: 2].

الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ الله تعالى أنَّه الخالقُ المدَبِّرُ الآمِرُ الناهي؛ أخبَرَ عن عظمته وكبريائِه ، فقال تعالى:

الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5).

أي: الرَّحمنُ علا وارتفَعَ على عَرشِه، كما يليقُ بجَلالِه .

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6).

أي: لله وَحْدَه مُلكُ جَميعِ ما في السَّمواتِ، وجميعِ ما في الأرضِ، وما بينَهما وما تحتَ التُّرابِ ممَّا في باطِنِ الأرضِ مِن المخلوقاتِ، وهو المتصَرِّفُ فيهم بتدبيرِه ومشيئتِه وَحْدَه .

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ الله تعالى أولًا إنشاءَ السَّمواتِ والأرضِ، وذكَرَ أنَّ جميعَ ذلك وما فيهما مُلكُه؛ ذكَرَ تعالى صِفةَ العِلمِ، وأنَّ عِلمَه لا يغيبُ عنه شَيءٌ ، فالآيةُ بَيانٌ لإحاطةِ عِلْمِه تعالَى بجميعِ الأشياءِ إثْرَ بَيانِ سَعَةِ سَلْطنتِه، وشُمولِ قُدرتِه لجميعِ الكائناتِ .

وأيضًا لمَّا كان المُلكُ لا ينتظمُ غايةَ الانتظامِ إلَّا بإحاطة العلم، وكان المَلكُ من الآدميين قد لا يعلمُ أحوالَ أقصى ملكِه كما يعلمُ أحوالَ أدناه، لاسيما إذا كان واسعًا، ولذلك يختلُّ بعضُ أمرِه؛ أعلَمَ أنَّه سُبحانَه بخلافِ ذلك، فقال حثًّا على مراقبتِه، والإخلاصِ له :

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7).

أي: وإنْ تجهَرْ بقَولِك -يا مُحمَّدُ - أو تُسِرَّه، فكُلٌّ سَواءٌ في عِلمِ اللهِ؛ فإنَّه يعلَمُ ما تُسِرُّه النفوسُ، ويعلَمُ ما هو أخفى من السِّرِّ ممَّا لم يخطُرْ على قلوبِ العبادِ، يعلَمُ أنه سيخطرُ ببالِهم كذا وكذا، في وقتِ كذا وكذا .

كما قال تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 6] .

وقال سُبحانَه: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ [الأنبياء: 110] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [الأعلى: 7] .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما كان مَن هو بهذه الأوصافِ مِن تمامِ العِلمِ والقُدرةِ رُبَّما ظُنَّ أنَّ له منازعًا؛ نفَى ذلك مُعْلِمًا أنَّ هذا الظَّنَّ باطِلٌ قطعًا لا شُبهةَ له .

وأيضًا لَمَّا قرَّرَ كَمالَه المطلَقَ بعُمومِ خَلقِه، وعُمومِ أمْرِه ونهيِه، وعُمومِ رَحمتِه، وسَعةِ عَظَمتِه وعُلُوِّه على عَرشِه، وعُمومِ مُلكِه، وعُمومِ عِلمِه؛ نتَج مِن ذلك أنَّه المستحِقُّ للعبادةِ، وأنَّ عبادتَه هي الحَقُّ التي يُوجِبُها الشَّرعُ والعَقلُ والفِطرةُ، وعبادةُ غيرِه باطِلةٌ، فقال :

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.

أي: اللهُ لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا هو، ولا يستحِقُّ العبادةَ غيرُه؛ فأخلِصوا له العبادةَ وَحْدَه .

لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.

أي: لله وَحْدَه الأسماءُ الكثيرةُ الكامِلةُ في حُسنِها، الدَّالَّةُ على صِفاتِ كَمالِه سُبحانَه

 

.

كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] .

وقال سُبحانَه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] .

وقال عزَّ وجلَّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22 - 24] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى فليس المقصودُ بالوحيِ، وإنزالِ القُرآنِ عليك، وشَرعِ الشَّريعةِ: أنْ تشقَى بذلك، ويكونَ في الشَّريعةِ تكليفٌ يشُقُّ على المكَلَّفينَ، وتعجِزُ عنه قوى العامِلينَ، وإنما الوحيُ والقرآنُ والشَّرعُ، شَرَعه الرحيمُ الرَّحمنُ، وجعله موصِلًا للسَّعادةِ والفلاحِ والفوزِ، وسهَّله غايةَ التَّسهيلِ، ويسَّرَ كُلَّ طُرقِه وأبوابِه، وجعلَه غِذاءً للقلوب والأرواحِ، وراحةً للأبدان، فتلَقَّتْه الفِطَرُ السَّليمةُ والعقولُ المستقيمةُ بالقَبولِ والإذعانِ؛ لعِلمِها بما احتوى عليه مِن الخيرِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ ولهذا قال تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى

.

2- آياتُ اللهِ الإيمانيةُ القرآنيةُ إنما يَنتَفِعُ بها أهلُ التَّقوى والخشيةِ والإنابةِ ومَن كان قَصدُه اتِّبَاعَ رضوانِه؛ وأنها يَتذَكَّرُ بها مَن يخشاه سُبحانَه، قال تعالى: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى .

3- قولُ الله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى فيه حَثٌّ على مُراقَبةِ الله تعالى، والإخلاصِ له

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى جَمَعَ الله لنبيِّه سُبحانَه بينَ إنزالِ القرآنِ عليه وبين نَفْيِ الشَّقاءِ عنه، كما قال في آخِرِها- في حقِّ أتبَاعِه: فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123] ؛ فالهُدى والفَضلُ والنِّعمةُ والرَّحمةُ مُتلازِماتٌ لا يَنْفَكُّ بعضُها عن بعضٍ، كما أنَّ الضَّلالَ والشَّقاءَ متلازمانِ لا يَنفَكُّ أحدُهما عن الآخَرِ

.

2- كثيرًا ما يُقرَنُ بينَ الخلقِ والأمرِ، كما في قوله: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا وقَولِه: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وقَولِه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ وذلك أنَّه الخالقُ الآمرُ الناهي، فكما أنَّه لا خالقَ سواه، فليس على الخلقِ إلزامٌ ولا أمرٌ ولا نهيٌ إلَّا مِن خالقِهم، وأيضًا فإنَّ خلقَه للخلقِ فيه التدبيرُ القدريُّ الكونيُّ، وأمرَه فيه التدبيرُ الشرعيُّ الدينيُّ، فكما أنَّ الخلقَ لا يخرجُ عن الحكمةِ، فلم يخلقْ شيئًا عبثًا، فكذلك لا يأمرُ ولا ينهَى إلا بما هو عدلٌ وحكمةٌ وإحسانٌ .

3- قولُ الله تعالى: وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا فائِدةُ وَصفِ السَّمواتِ بالعُلا: الدَّلالةُ على عِظَمِ قُدرةِ مَن يخلُقُ مِثلَها في عُلُوِّها، وبُعدِ مُرتقاها ؛ إذ لا يُمكِنُ وُجودُ مثْلِها في عُلوِّها مِن غيرِه تعالى .

4- قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى في ذِكرِ الرَّحْمَنُ إشارةٌ إلى أنَّه مع عُلُوِّه وعظمَتِه مَوصوفٌ بالرَّحمةِ .

5- لما كان خطابُ الناسِ لا يتأتَّى إلا بالجهرِ بالكلام، جاء الشرطُ بالجهرِ، فقال: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ، وعلَّق على الجهرِ علمَه بالسرِّ، فقال: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى؛ لأنَّ علمَه بالسرِّ يتضمَّنُ علمَه بالجهرِ، أي: إذا كان يعلمُ السرَّ فأحرَى أنْ يعلمَ الجهرَ، والسِّرُّ مقابِلٌ للجهرِ، كما قال: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ

 

[الأنعام: 3] .

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى استئنافٌ مَسوقٌ؛ لتَسليتِه صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا كان يَعْتريه من جِهَةِ المُشرِكين من التَّعبِ؛ فإنَّ الشَّقاءَ شائعٌ في ذلك المَعنى، ولعلَّه عبَّرَ بـ لِتَشْقَى بدلًا من (لِتَتْعَبَ)؛ للإشْعارِ بأنَّه أُنزِلَ عليه لِيسعَدَ. وقيل: إنَّه رَدٌّ وتَكذيبٌ للكَفرةِ؛ فإنَّهم لمَّا رأَوا كثرةَ عبادتِه، قالوا: إنَّك لَتَشقَى بترْكِ دِينِنا، وإنَّ القُرآنَ أُنزِلَ عليك لِتَشقى به؛ ففيه تَعريضٌ بأنَّهمُ الأشقياءُ

.

- قولُه: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى وُقوعُ فِعْلِ أَنْزَلْنَا في سياقِ النَّفيِ يَقْتضي عُمومَ مَدْلولِه، وعُمومُ الفعْلِ يَستلزِمُ عُمومَ مُتعلِّقاتِه مِن مفعولٍ ومَجرورٍ؛ فيعُمُّ نفْيَ جميعِ كلِّ إنزالٍ للقُرآنِ فيه شَقاءٌ له، ونفْيَ كلِّ شَقاءٍ يتعلَّقُ بذلك الإنزالِ، أي: جميعِ أنواعِ الشَّقاءِ؛ فلا يكونُ إنزالُ القُرآنِ سببًا في شَيءٍ من الشَّقاءِ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم .

2- قولُه تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى

- قولُه: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى خُصَّ مَن يَخْشى مع عُمومِ التَّذكرةِ والتَّبليغِ؛ لأنَّهم المُنتفِعون بها ، وفيه: تَنويهٌ بشأْنِ المُؤمِنين الَّذين آمنوا بأنَّهم كانوا من أهْلِ الخشيةِ، ولولا ذلك لَمَا تَذكَّروا بالقُرآنِ .

3- قوله تعالى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا

- قولُه: تَنْزِيلًا حالٌ ثانيةٌ، والمقصودُ منها التَّنويهُ بالقُرآنِ، والعِنايةُ به؛ لِيَنتقِلَ مِن ذلك إلى الكِنايةِ بأنَّ الَّذي أنزَلَه عليك بهذه المَثابةِ لا يَترُكُ نصْرَك وتأْييدَك . وفي قولِه: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا تَفخيمٌ وتعظيمٌ لشأْنِ القُرآنِ؛ إذ هو منسوبٌ تَنزيلُه إلى مَن هذه أفعالُه وصِفاتُه، وتَحقيرٌ لمَعبوداتِهم، وتَحريضٌ للنُّفوسِ على الفِكْرِ والنَّظرِ ، فإنَّه تعظُمُ الرِّسالةُ بتعظيمِ حالِ المُرسِلِ؛ ليكونَ المُرسَلُ إليه أقرَبَ إلى الامتِثالِ .

- أشار بالمصدَرِ الجاري على غيرِ الفِعْلِ في قولِه: تَنْزِيلًا، إلى أنَّه يتمهَّلُ عليهم ترفُّقًا بهم، ولا يُنزِلُ هذا القُرآنَ إلَّا تدريجًا؛ إزالةً لشُبَهِهم، وشرْحًا لصُدورِهم، وتَسكينًا لنُفوسِهم، ومَدًّا لمُدَّةِ البركةِ فيهم بتَردُّدِ الملائكةِ الكِرامِ إليهم، كما أنَّه لم يُهْلِكْهم بمَعاصيهم؛ اكتفاءً ببيِّنةِ ما في الصُّحفِ الأُولى، بل أرسَلَ إليهم رسولًا .

- وفي قولِه: مِمَّنْ خَلَقَ الْتِفاتٌ؛ إذ فيها الخُروجُ من ضَميرِ التَّكلُّمِ -وهو في مَا أَنْزَلْنَا- إلى الغَيبةِ، وفيه عادةُ التَّفنُّنِ في الكلامِ، وهو ممَّا يَحسُنُ؛ إذ لا يَبْقَى على نظامٍ واحدٍ، وجَريانُ هذه الصِّفاتِ على لفْظِ الغَيبةِ والتَّفخيمِ بإسنادِ الإنزالِ إلى ضَميرِ الواحدِ المُعظِّمِ نفْسَه، ثمَّ إسنادُه إلى مَن اخْتُصَّ بصفاتِ العظمةِ الَّتي لم يُشارِكْه فيها أحدٌ، فحصَلَ التَّعظيمُ من الوجهينِ؛ فهو مَسوقٌ لتَعظيمِ شأْنِ المُنزِّلِ عَزَّ وجَلَّ المُستَتْبِعِ لتَعظيمِ شأْنِ المُنزَّلِ، الدَّاعي إلى تَربيةِ المَهابةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ المُؤدِّيةِ إلى استنزالِ المُتمرِّدينَ عن رُتْبةِ العُتوِّ والطُّغيانِ، واستمالتِهم نحوَ الخشيةِ المُفْضِيةِ إلى التَّذكرةِ والإيمانِ .

- والعُدولُ عن اسمِ الجَلالةِ أو عن ضَميرِه إلى الموصوليَّةِ مِمَّنْ خَلَقَ؛ لِمَا تُؤذِنُ به الصِّلةُ من تحتُّمِ إفرادِه بالعبادةِ؛ لأنَّه خالقُ المُخاطَبين بالقُرآنِ وغيرِهم ممَّا هو أعظَمُ منهم خلْقًا .

- وتَخصيصُ خلْقِه السَّمواتِ والأرضَ بالذِّكرِ -مع أنَّ المُرادَ خلْقُهما بجميعِ ما يتعلَّقُ بهما-؛ لأصالتِهما، واستتباعِهما لِمَا عداهما. وتَقديمُ الأرضِ؛ لكونِها أقرَبَ إلى الحسِّ، وأظهَرَ عنده من السَّمواتِ العُلى .

4- قولُه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى فيه وصْفُه بالرَّحمانيَّةِ بعدَ وصْفِه بخالِقيَّةِ السَّمواتِ والأرضِ؛ للإشعارِ بأنَّ خلْقَهما من آثارِ رحْمتِه تعالى، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ تَنزيلَ القُرآنِ أيضًا مِن أحكامِ رَحمتِه تعالى، كما يُنبِئُ عنه قولُه تعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ [الرحمن: 1-2]. وأيضًا اختِيرَ وصْفُ (الرَّحمن) لتَعليمِ النَّاسِ به؛ لأنَّ المُشرِكين أنْكَروا تَسميتَه تعالى الرَّحمنَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان: 60] . وفي ذِكْرِه هنا، وكثرةِ التَّذكيرِ به في القُرآنِ: بعْثٌ على إفرادِه بالعبادةِ؛ شُكْرًا على إحسانِه بالرَّحمةِ البالغةِ .

- وعَلَى مُتعلِّقةٌ بـ اسْتَوَى؛ قُدِّمَت عليه لمُراعاةِ الفواصلِ ؛ ولإفادةِ الحصرِ والتخصيصِ، وبيانِ أنَّه سُبحانَه وتعالى لم يستوِ على شيءٍ سوى العَرشِ .

- واختيارُ اسمِ (الرَّحمن) هنا دونَ (الرَّحيم)؛ لِمَا في وزْنِ (فَعْلان) من سَعَةِ هذا الوصْفِ، وثُبوتِ جَميعِ معناهُ الموصوفِ به؛ ولهذا يَقْرِنُ استواءَه على العرْشِ بهذا الاسمِ كثيرًا؛ فاستوى على عَرْشِه باسْمِ الرَّحمنِ؛ لأنَّ العرْشَ مُحيطٌ بالمخلوقاتِ قد وسِعَها، والرَّحمةُ مُحيطةٌ بالخلْقِ واسعةٌ لهم؛ فاسْتَوى على أوسَعِ المخلوقاتِ بأوسَعِ الصِّفاتِ؛ فلذلِكَ وسِعَت رَحمتُه كلَّ شَيءٍ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] .

5- قولُه تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى

- تَقديمُ المجرورِ في قولِه: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ للقصْرِ؛ رَدًّا على زعْمِ المُشرِكين أنَّ لآلهتِهم تَصرُّفاتٍ في الأرضِ، وأنَّ للجنِّ اطِّلاعًا على الغيبِ، ولتَقريرِ الرَّدِّ ذُكِرَتْ أنحاءُ الكائناتِ؛ وهي السَّمواتُ والأرضُ، وما بينهما، وما تحْتَ الثَّرى .

- وذِكرُ ما تحْتَ الثَّرى مع دُخولِه تحتَ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ .

6- قولُه تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى عطْفٌ على جُملةِ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ لدَلالةِ هذه الجُملةِ على سَعَةِ عِلْمِه تعالى، كما دلَّتِ الجُملةُ المعطوفُ عليها على عَظِيمِ سُلْطانِه وقُدرتِه، وأصْلُ النَّظمِ: ويعلَمُ السِّرَّ وأخْفى إنْ تَجهَرْ بالقولِ؛ فموقِعُ قولِه: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ مَوقِعُ الاعتراضِ بين جُملةِ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وجُملةِ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؛ فَصِيغَ النَّظمُ في قالِبِ الشَّرطِ والجَزاءِ؛ زِيادةً في تَحقيقِ حُصولِه على طَريقةِ ما يُسمَّى بالمذهبِ الكلاميِّ، وهو سَوقُ الخبرِ في صِيغَةِ الدَّليلِ على وُقوعِه؛ تَحقيقًا له .

- وطابَقَ الجَزاءُ الشَّرطَ؛ لأنَّ معناهُ: وإنْ تجهَرْ بذِكْرِ اللهِ من دُعاءٍ أو غيرِه، فاعْلَمْ أنَّه غَنِيٌّ عن جَهْرِك؛ فإمَّا أنْ يكونَ نهْيًا عن الجَهْرِ، كقولِه تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف: 205] ، وإمَّا تعليمًا للعِبادِ أنَّ الجَهْرَ ليس لإسماعِ اللهِ، وإنَّما هو لغرضٍ آخرَ .

- واختِيرَ في إثباتِ سَعَةِ عِلْمِ اللهِ تعالى خُصوصُ عِلْمِه بالمسموعاتِ؛ لأنَّ السِّرَّ أخْفى الأشياءِ عن عِلْمِ النَّاسِ في العادةِ، و(أَخْفَى) اسمُ تَفضيلٍ، وحُذِفَ المُفضَّلُ عليه؛ لدَلالةِ المَقامِ عليه، أي: وأخْفى منَ السِّرِّ ، وتَنكيرُه؛ للمُبالغةِ في الخَفاءِ .

7- قولُه تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ أنَّ ما ذُكِرَ من صِفاتِ الكَمالِ مَوصوفُها ذلك المعبودُ بالحقِّ، أي: ذلك المَنْعوتُ بما ذُكِرَ منَ النُّعوتِ الجليلةِ اللهُ عَزَّ وجَلَّ. وقولُه تعالَى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَحقيقٌ للحقِّ، وتَصريحٌ بما تضمَّنَه ما قبْلَه مِن اختصاصِ الأُلوهيَّةِ به سُبحانه؛ فإنَّ ما أُسنِدَ إليه تعالى مِن خلْقِ جميعِ الموجوداتِ، والرَّحمانيَّةِ، والمالكيَّةِ للكلِّ، والعلْمِ الشَّاملِ: ممَّا يَقْتضيه اقتضاءً بَيِّنًا .

- وهو تَذييلٌ لِمَا قبْلَه؛ لأنَّ ما قبْلَه تضمَّنَ صِفاتٍ من فِعْلِ اللهِ تعالى، ومن خلْقِه، ومِن عَظَمَتِه؛ فجاء هذا التَّذييلُ بما يَجمَعُ صِفاتِه .

- وقولُه: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى بَيانٌ لكونِ ما ذُكِرَ من الخالقيَّةِ والرَّحمانيةِ والمالكيَّةِ والعالِميَّةِ أسماءَه وصِفاتِه، من غيرِ تعدُّدٍ في ذاتِه تعالى .

- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى؛ للاختصاصِ، أي: لا لغيرِه. ووصْفُ الأسماءِ بالحُسْنى؛ لأنَّها دالَّةٌ على حقائقَ كاملةٍ بالنِّسبةِ إلى المُسمَّى بها، تعالى وتقدَّسَ .

===============

 

سورةُ طه

الآيات (9-16)

ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ

غريب الكلمات:

 

آَنَسْتُ: أي: أبصَرتُ، والإيناسُ: الرُّؤيةُ، والعِلمُ، والإحساسُ بالشَّيءِ

.

بِقَبَسٍ: أي: بشُعلةٍ مِن النَّارِ، مِن قَولِهم: قَبَسْتُه نارًا: إذا جِئتَه بها .

بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى: طُوى هو اسمُ الوادي، أو مصدرٌ، كقولِك: ناديتُ طُوى، أي: مرَّتين، أي: قُدِّس مرتين، والمقدَّس: المطهَّر، وأصلُ (قدس): طُهْرٌ .

فَتَرْدَى: أي: تَهلِكَ، والرَّدَى: الموتُ والهلاكُ، وأصلُ (ردي): يدُلُّ على رَميٍ وتَرامٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبينًا قصةَ موسَى عليه السلامُ بشيءٍ مِن التفصيلِ: وهل أتاك -يا مُحمَّدُ- خبَرُ موسى حين رأى نارًا مُوقَدةً في ليلةٍ مُظلِمةٍ، فقال لأهلِه: انتَظِروا لقد أبصرتُ نارًا، لعلِّي أجيئُكم منها بشُعلةٍ تَستَدفِئونَ بها، أو أجِدُ عندها هاديًا يدُلُّنا على الطَّريقِ.

فلمَّا أتى موسى تلك النَّارَ ناداه الله: يا موسى، إنِّي أنا ربُّك، فاخلَعْ نَعلَيك؛ لأنَّك بوادي «طُوًى» المطَهَّرِ المُبارَكِ، وإنِّي اخترتُك -يا موسى- لرسالتي وكلامي، فاستَمِعْ لِما يُوحَى إليك مِنِّي، إنَّني أنا اللهُ لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا أنا، لا شريكَ لي؛ فاعبُدني وحدي، وأقِمِ الصَّلاةَ لتَذكُرَني فيها.

ثمَّ بيَّن سبحانه أنَّ الساعةَ آتيةٌ، وحذَّر مِن عدمِ الاستعدادِ لها فقال: إنَّ القيامةَ آتيةٌ لا بُدَّ مِن وُقوعِها، أكادُ أُخفيها مِن نَفسي، فلا يَعلَمُها أحَدٌ. تقومُ السَّاعةُ لكي تُجزى كلُّ نفسٍ بما عَمِلَت في الدُّنيا من خيرٍ أو شَرٍّ، فلا يَصرِفَنَّك -يا موسى- عن الإيمانِ بها والاستعدادِ لها مَن لا يصَدِّقُ بوُقوعِها، ولا يعمَلُ لها، واتَّبَعَ شهواتِه؛ فتَهلِكَ.

تفسير الآيات:

 

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما عظَّمَ الله تعالى حال القرآنِ وحال الرسولِ فيما كلَّفه؛ أتبع ذلك بما يقَوِّي قَلبَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِن ذِكرِ أحوال الأنبياءِ عليهم السَّلامُ؛ تقويةً لقَلبِه في الإبلاغِ، وبدأ بموسى -عليه السلام- لأنَّ المِحنةَ والفِتنةَ الحاصلة له كانت أعظَمَ؛ ليُسَلِّيَ قَلبَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، ويصَبِّرَه على تحمُّلِ المكارهِ

.

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9).

أي: وهل أتاك -يا مُحمَّدُ- خبَرُ موسى ؟

إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10).

إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا.

أي: حين رأى نارًا -وهو مسافِرٌ مِن مَدينَ إلى مِصرَ في ليلةٍ مُظْلِمةٍ باردةٍ- فقال لزوجتِه ووَلَدِه: أقيموا أنتم في مكانِكم، فقد أبصرتُ نارًا .

لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ.

أي: وأنا ذاهبٌ إليها رجاءَ أنْ أجلِبَ منها شعلةً تَستَدفِئونَ بها .

كما قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص: 29] .

وقال سُبحانَه: إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل: 7] .

أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى.

أي: أو رجاءَ أنْ ألقَى عندَ تلك النَّارِ ما يَهديني الطريقَ الذي ضَلَلْناه .

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11).

أي: فلما أتَى موسى إلى النَّارِ ناداه اللهُ، فقال: يا موسى !

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النمل: 8، 9].

وقال سُبحانَه: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] .

وقال عز وجل: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم: 52] .

إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12).

أي: إني أنا ربُّك الذي يكَلِّمُك ويخاطِبُك -يا موسى- فاخلَعْ نَعلَيك؛ لأنَّك بالوادي المُطَهَّرِ المبارَك المُسمَّى طُوًى .

كما قال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] .

وقال سُبحانَه: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات: 15، 16].

وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13).

وَأَنَا اخْتَرْتُكَ.

أي: وأنا اخترتُك -يا موسى- مِن بينِ النَّاسِ للنبُوَّةِ والرِّسالةِ، وسَماعِ كلامي مُباشَرةً .

كما قال تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [الأعراف: 144].

فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى.

أي: فأنصِتْ -يا موسى- مُلقيًا سَمْعَك ومُعمِلًا قَلْبَك لوعْيِ ما أُوحِيه إليك الآنَ مِن كلامي .

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14).

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا.

أي: إنَّني أنا اللهُ الذي لا معبودَ بحقٍّ غيري، ولا يستحقُّ العبادةَ أحدٌ سِواي .

فَاعْبُدْنِي.

أي: فأخلِصْ لي وَحْدي جميعَ أنواعِ العبادةِ -يا موسى- وقُمْ بعبادتي دونَ أنْ تُشرِكَ بي شيئًا .

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي.

أي: وأقِمِ الصَّلاةَ -يا موسى- لأجلِ أنْ تذكُرَني فيها، متى ما ذكرْتَ أنَّ عليك صلاةً .

إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا ذكر الله تعالى الأمرَ بالعبادةِ، وإقامةِ الصلاةِ؛ ذكَرَ الحامِلَ على ذلك وهو: البَعثُ والمعادُ للجَزاءِ ، فعَلَّل الأمرَ بالعبادةِ بأنَّه لم يخلُقِ الخَلقَ سُدًى، بل لا بُدَّ مِن إماتتِهم ثمَّ بَعْثِهم؛ لإظهارِ العَظَمةِ، ونَصبِ مَوازينِ العَدلِ .

إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا.

أي: إنَّ السَّاعةَ التي يُبعَثُ فيها الخلائِقُ مِن قُبورِهم لموقِفِ القيامةِ آتيةٌ لا محالةَ، وأكاد أستُرُها مِن نفسي، فلا يمكِنُ لأحدٍ أنْ يطَّلِعَ عليها .

لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى.

أي: إنَّ السَّاعةَ آتيةٌ؛ لتنالَ كلُّ نفسٍ جزاءَ ما تعمَلُه في الدُّنيا مِن خيرٍ وشرٍّ .

كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7- 8] .

فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16).

أي: فلا يَصرِفنَّكَ -يا موسى- عن الإيمانِ بالسَّاعةِ، والاستعدادِ لها مَنْ لا يُقِرُّ بقيامِها، ولا يُصدِّقُ بها، فلا يرجو ثوابًا، ولا يخافُ عقابًا، واتَّبَعَ شَهَواتِه، وخالَف أمْرَ اللهِ ونَهْيَه؛ فتَهلِكَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي أي: أقِمِ الصَّلاةَ لأجلِ أنْ تذكُرَني؛ فالصَّلاةُ تُذكِّرُ العبدَ بخالِقِه؛ إذ يستشعِرُ أنَّه واقفٌ بين يَدَيِ الله لمناجاته، ففي هذا الكلامِ إيماءٌ إلى حِكمةِ مَشروعيَّةِ الصَّلاةِ، وبضَميمتِه إلى قَولِه تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] يظهر أنَّ التقوى مِن حكمةِ مَشروعيَّةِ الصَّلاةِ؛ لأنَّ المكَلَّفَ إذا ذكَرَ أمرَ اللهِ ونَهْيَه، فعَلَ ما أمَرَه، واجتنَبَ ما نهاه عنه، والله عَرَّف موسى حِكمةَ الصَّلاةِ مجملةً، وعَرَّفَها مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم مُفَصَّلةً

.

2- قوله تعالى: لِذِكْرِي أي: أقم الصلاةَ لأجلِ ذكرك إياي؛ لأنَّ ذكرَه تعالى أجلُّ المقاصدِ، وهو عبوديةُ القلبِ، وبه سعادتُه، فالقلبُ المعطلُ عن ذكرِ الله، معطلٌ عن كلِّ خيرٍ، وقد خرِب كلَّ الخرابِ، فشرَع الله للعبادِ أنواعَ العباداتِ، التي المقصودُ منها إقامةُ ذكرِه، وخصوصًا الصلاةَ. قال الله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ [العنكبوت: 45] أي: ما فيها مِن ذكرِ الله أكبرُ مِن نهيها عن الفحشاءِ والمنكرِ، وهذا النوعُ يُقال له: توحيدُ الألوهية، وتوحيدُ العبادةِ، فالألوهيةُ وصفُه تعالى، والعبوديةُ وصفُ عبدِه .

3- قولُ الله تعالى: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى فيه تنبيهٌ وإشارةٌ إلى التَّحذيرِ عن كُلِّ داعٍ إلى باطِلٍ، يصُدُّ عن الإيمانِ الواجِبِ، أو عن كَمالِه، أو يُوقِعُ الشُّبهةَ في القَلبِ، وعن النَّظَرِ في الكُتُبِ المُشتَمِلةِ على ذلك .

4- قولُ الله تعالى: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى فيه إشارةٌ إلى أنَّ مَن ترَكَ المراقبةَ لَحظةً حاد عن الدَّليلِ، ومن حاد عن الدَّليلِ هلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى عن موسى: إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى كان مطلَبُه النَّورَ الحِسيَّ، والهدايةَ الحِسيَّةَ، فوجَدَ ثَمَّ النُّورَ المعنويَّ؛ نورَ الوَحيِ الذي تستنيرُ به الأرواحُ والقُلوبُ، والهدايةَ الحقيقيَّةَ؛ هدايةَ الصِّراطِ المستقيمِ، المُوصِلةَ إلى جنَّاتِ النَّعيمِ، فحصل له أمرٌ لم يكُنْ في حِسابِه، ولا خطَرَ ببالِه

.

2- قولُ الله تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى يُستدَلُّ به على استِحبابِ المشيِ حافيًا في البِقاعِ الشَّريفةِ ، وذلك بناء على أنَّ الأمرَ بالخلعِ كان تعظيمًا للبقعةِ.

3- في قَولِه تعالى -عن موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ دليلٌ على أنَّ طَلَبَ النَّارِ مباحٌ، ولا يكونُ في عِدَادِ المسألةِ المذمومةِ .

4- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى حُجةٌ على مَن يقولُ بخَلْقِ القرآنِ، ويزعمُ أنَّ اللهَ لا يجوزُ عليه الكلامُ! فيقالُ له: مَن نادَى موسى بهذا النداءِ؟ فإنْ قال: لم ينادِه ربُّه، إنَّما ناداه بعضُ ملائكتِه، قيل: إِنِّي أَنَا راجِعٌ على مَن؟ فإنْ قال: على المَلَك، كَفَرَ حيثُ جعلَه ربَّ موسى -ولنْ يقولَه إنْ شاء الله- وإنْ قال: هو راجعٌ على الله -جلَّ اللهُ- قيل له: أفيجوزُ أنْ يكونَ ذلك راجعًا عليه، والنداءُ مِن غيرِه؟ فإنْ قال: لا يجوزُ، إنَّه محالٌ، أقرَّ بأنَّ اللهَ متكلمٌ وأنَّ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وكلَّ ما بعدَه مِن: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ مِن الابتداءِ والجوابِ لموسى، هو كلامُه سُبحانَه، وكلامُه لا يكونُ مخلوقًا؛ لأنَّه صفةٌ مِن صفاتِه، ولا يجوزُ عندنا -وعنده وعند مَن يؤمنُ به- أنْ يكونَ شيءٌ مِن صفاتِه مخلوقًا، ولو كان: «نودِيَ يا موسى، إنه هو ربُّك، وهو اختارك، أنَّه لا إله إلا هو فاعبده، وأقَمِ الصلاةَ لذِكْرِه» وكلُّ ما بعده على هذا المعنى؛ لكان قولُه حينئذٍ أوجهَ في المخلوقِ في حقِّ الكلامِ -وإنْ كان خطأً مِن كلِّ جهةٍ- فهذا وما يشاكلُه في القرآنِ واضحٌ بلا شبهةٍ: أنَّ اللهَ متكلِّمٌ ناطقٌ، وإذا كان متكلمًا ناطقًا، فما خَرَجَ منه مِن كلامِه كان غيرَ مخلوقٍ .

5- قَولُه تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى دليلٌ على تكليمٍ سَمِعَه موسى، والمعنى المجَرَّدُ لا يُسمَعُ بالضرورةِ، ومن قال إنه يُسمَعُ فهو مكابِرٌ، ودليلٌ على أنَّه ناداه، والنداءُ لا يكونُ إلا صوتًا مَسموعًا، ولا يُعقَلُ في لغة العربِ لَفظُ النداءِ بغَيرِ صَوتٍ مَسموعٍ ، وأيضًا فالله تعالى أمَر بالاستماعِ إلى ما يُوحَى، والاستماعُ عندَ العربِ لا يكونُ إلَّا إلى صوتٍ وحرفٍ، ولا يكونُ الاستماعُ إلى الصفةِ القائمةِ بالذاتِ؛ لأنَّ ذلك لا يُعقلُ، ألا ترَى أنَّه لو قال: استمِعْ إلى بصرِ الله وسمعِه وحياتِه وقدرتِه؛ لكان ذلك محالًا مِن الكلامِ، وهي صفاتٌ قائمةٌ بالذَّاتِ، وأيضًا فإنَّ الله أخبَر عمَّا أمَره بالاستماعِ إليه، فقال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي فجمَع بالآيةِ بينَ الإخبارِ بأنَّه لا إلهَ إلَّا هو، وأنَّ الساعةَ آتيةٌ، وأنَّه يُخفيها وتُجزى كلُّ نفسٍ بما تسعَى، وبينَ أمرِه له بالعبادةِ، وإقامةِ الصلاةِ لذكرِه، وهذه معانٍ مختلفةٌ .

6- في قَولِه تعالى: يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ دليلٌ على أنَّ كلامَ اللهِ حروفٌ؛ فإنَّ هذه الكَلِماتِ حروفٌ، وهي كلامُ اللهِ .

7- في قَولِه تعالى: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا دلالةٌ على أنَّ موسى سَمِعَ كلامَ اللهِ مِن اللهِ بلا واسِطةٍ .

8- في قولِه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ وقَعَ الإخبارُ عن ضَميرِ المُتكلِّمِ باسْمِه العَلَمِ، الدَّالِّ على الذَّاتِ، المُستحقِّ لجَميعِ المَحامدِ، وذلك أوَّلُ ما يجِبُ عِلْمُه من شُؤونِ الإلهيَّةِ؛ وهو أنْ يعلَمَ الاسمَ الَّذي جعَلَه اللهُ علَمًا عليه؛ لأنَّ ذلك هو الأصْلُ لجميعِ ما سيُخاطَبُ به من الأحكامِ المُبلَّغةِ عن ربِّهم .

9- قولُ الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي استَدَلَّ بعُمومِ هذه الآيةِ مَن قال: تُقضى الصَّلاةُ في الأوقاتِ المكروهةِ، وأنَّه لا تؤخَّرُ إلى مِثلِ وَقتِها في الغَدِ . وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.

10- قولُ الله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ النبُوَّةَ لا تحصُلُ بالاستِحقاقِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يدلُّ على أنَّ ذلك المنصِبَ العليَّ إنَّما حصل؛ لأنَّ الله تعالى اختاره له ابتداءً، لا أنَّه استحَقَّه على الله تعالى .

11- قال الله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى قال سفيانُ بنُ عُيَينةَ: (أوَّلُ العِلمِ الاستِماعُ، ثمَّ الفَهمُ، ثمَّ الحِفظُ، ثمَّ العَمَلُ، ثمَّ النَّشرُ) ، فإذا استمع العبدُ إلى كتابِ الله تعالى وسنَّةِ نَبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنيَّةٍ صادِقةٍ على ما يحِبُّ الله، أفهَمَه كما يحِبُّ، وجعَلَ له في قلبِه نورًا .

12- اللهُ تعالى يَذْكُرُ نفسَه أحيانًا بصيغةِ العَظَمةِ، مثل قَولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] ، ومِثل قَولِه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، ومثل قَولِه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12] ، وأحيانًا يَذْكُرُ نفسَه بصيغةِ الواحدِ، مثلُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، ووجهُ ذلك: أنه واحِدٌ عظيمٌ، فباعتبارِ الصِّفةِ يأتي ضميرُ العَظَمةِ، وباعتبارِ الوحدانيَّةِ يأتي ضميرُ الواحدِ .

13- قولُ الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ذُكِرَ الاسمُ العَلَمُ؛ لأنَّ هذا مقامُه؛ إذ الأنسَبُ للملطوفِ به -بعد التعرُّفِ إليه بالإكرامِ- الإقامةُ في مقامِ الجَلالِ والجَمالِ .

14- قولُ الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ ذُكِرَ فيه الإيمانُ به تعالى، وعبادتُه، والإيمانُ باليومِ الآخِرِ؛ لأنَّ هذه الأمورَ الثَّلاثةَ أصولُ الإيمانِ، ورُكنُ الدِّينِ، وإذا تمَّت تمَّ أمرُ الدين، ونقصُه أو فَقدُه بنَقصِها، أو نقصِ شَيءٍ منها .

15- قولُ الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فيه إشارةٌ إلى أنَّ أوَّلَ ما يتعارَفُ به المتلاقُونَ أنْ يَعرِفوا أسماءَهم، فأشار اللهُ إلى أنَّه عالمٌ باسمِ كليمِه، وعَلَّمَ كليمَه اسمَه، وهو اللهُ .

16- قال الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا هذا أوَّلُ واجبٍ على المكَلَّفينَ: أنْ يَعلَموا أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى استئنافٌ مَسوقٌ لتَقريرِ أمْرِ التَّوحيدِ الَّذي إليه يَنْتهي مَساقُ الحديثِ، وبَيانِ أنَّه أمْرٌ مُستمِرٌّ فيما بينَ الأنبياءِ كابرًا عن كابرٍ

، وهو تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الَّذين كذَّبوه سيكونُ جَزاؤُهم جَزاءَ مَن سلَفَهم مِنَ المُكذِّبينَ .

- قولُه: وَهَلْ أَتَاكَ ... استفهامُ تَقريرٍ يحُثُّ على الإصغاءِ لِمَا يُلْقَى إليه وعلى التَّأسِّي، وأُوثِرَ حرْفُ (هل) في هذا المقامِ؛ لِمَا فيه مِن معنى التَّحقيقِ؛ لأنَّ (هل) في الاستفهامِ مثْلُ (قد) في الإخبارِ . والمقصودُ منه تقريرُ الجوابِ في قلبِ محمدٍ عليه السلامُ، وهذه الصيغةُ أبلغُ في ذلك، كما يقول المرءُ لصاحبِه: هل بلغك خبرُ كذا؟ فيتطلَّع السامعُ إلى معرفةِ ما يرمي إليه . وقيل: إنَّه استفهامٌ معناه النَّفيُ، أي: ما أخبَرْناك قبْلَ هذه السُّورةِ بقصَّةِ مُوسى، ونحن الآن قاصُّونَ قِصَّتَه لِتَتسلَّى وتَتأسَّى .

- وفيه مُناسَبَةٌ حسَنةٌ؛ حيث قال عَزَّ وجَلَّ هنا حكايةً عن قولِ موسى عليه السلامُ لأهْلِه: لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه: 10] ، وقال في آيةِ سورة (النمل): سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ [النمل: 7] ، وقال في (القَصصِ): لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [القصص: 29] . وأيضًا قولُه تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، إلى قولِه: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه: 11-17] ، وفي السُّورةِ الثَّانيةِ: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ [النمل: 8-10] ، وكذلك جاء في سُورةِ (القصصِ): فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [القصص: 30، 31]؛ ووجهُ هذا الاختِلافِ على وجْهِ العُمومِ: أنَّ اللهَ تعالى لم يُخبِرْ أنَّه خاطَبَ مُوسى عليه السَّلامُ باللُّغةِ العربيةِ بألفاظٍ إذا عدَلَ عنها إلى غيرِها ممَّا يُخالِفُ معناها، كان اختلافًا في القُرآنِ فيه، بل مَعلومٌ أنَّ الخِطابَ كان بغيرِ هذه اللُّغةِ ، وأنَّ قولَ مُوسى عليه السَّلامُ لم تُرَدْ حِكايتُه إلَّا بالمعنى؛ لاختِلافِ اللِّسانينِ، والتَّرادُفُ فيما بين اللُّغتينِ في كُلِّ لفَظتينِ -يُرادُ بهما معنًى واحدٌ- غيرُ مُطَّرِدٍ؛ وعليه فلا إشكالَ في أنَّ المعنى قد يتوقَّفُ حُصولُه على الكَمالِ على تَعبيرينِ أو أكثَرَ، لا سيَّما مع ما في اللِّسانِ العربيِّ من الاشتراكِ، والعُمومِ والخُصوصِ، والإطلاقِ والتَّقييدِ، وغيرِ ذلك من عوارضِ الألفاظِ، فلا يُنْكَرُ اختِلافُ التَّعبيرِ عنِ المعنى الواحدِ بألفاظٍ وعباراتٍ مُختلفةٍ، بل لو كان المَحْكيُّ قولًا عربيًّا وحُكِيَ بالمعنى، لَمَا اسْتُنْكِرَ اختِلافُ العبارةِ؛ فكيف مع اختِلافِ اللِّسانينِ ؟!

وأيضًا أنَّه تعالى أخبَرَ في بعضِ السُّورِ ببعضِ ما جرَى، وفي الأُخرى بأكثرَ ممَّا أخبَرَ به في الَّتي قبْلَها، وليس يدفَعُ بعضُها بعضًا؛ فأمَّا قولُه تعالى: لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه: 10] ، فهو معنى قولِه: سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ [النمل: 7] ؛ لأنَّ الخبرَ الَّذي يأْتيهم به هو أنْ يجِدَ على النَّارِ مَن يَهْديه، ويُخبِرُه أنَّ الطَّريقَ ما هو عليه أو غيرُه، ووُجودُ الهُدى، وأنْ يُخبِرَ بخَبرِ اهتدائِه في طَريقِه أو غيرِه؛ شَيءٌ واحدٌ لا اختلافَ فيه. وأمَّا قولُه عَزَّ وجَلَّ: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 11، 12]، فهو ممَّا جَرى، ولم يُخبِرِ اللهُ تعالى به في سائرِ السُّورِ، فأخبَر به في هذه .

- وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّ قولَه تبارك وتعالى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه: 9-10]، وفي (النَّملِ): إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل: 7] ، وفي (القصصِ): فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص: 29] ، فهذه الآياتُ تَشتمِلُ على ذِكْرِ رُؤيةِ مُوسى النَّارَ، وأمْرِه أهْلَه بالمُكْثِ، وإخبارِه إيَّاهم أنَّه آنَسَ نارًا، وإطْماعِهم أنْ يأتِيَهم بنارٍ يَصْطلون بها، أو بخبرٍ يَهْتدون به إلى الطَّريقِ الَّتي ضَلُّوا عنها، لكنَّه نقَصَ في النَّملِ ذكْرَ رُؤيتِه النَّارَ، وأمْرَه أهْلَه بالمُكْثِ؛ اكتفاءً بما تقدَّمَ، وزاد في القصصِ قَضاءَ مُوسى الأجَلَ المضروبَ، وسَيْرَه بأهْلِه إلى مصرَ؛ لأنَّ الشَّيءَ قد يُجْمَلُ ثمَّ يُفصَّلُ، وقد يُفصَّلُ ثمَّ يُجْمَلُ، وفي سُورةِ (طه) فَصَّلَ، وأجْمَلَ في (النَّملِ)، ثمَّ فصَّلَ في (القصصِ)، وبالَغَ فيه .

- وفيه أيضًا: قولُه هنا: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه: 10] ، أي: مَن يُخبِرُني بالطَّريقِ، فيَهْديني إليه، وإنَّما أخَّرَ ذِكْرَ المُخبِرِ فيهما، وقدَّمَه فيهما مرَّاتٍ؛ لفواصلِ الآيِ في السُّورِ جميعًا .

- وأمَّا تَكريرُ (لَعَلَّ) في (القصصِ) لفظًا، وفي (طه) و(النمل) معنًى؛ لأنَّ (أو) في قولِه: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى نائبٌ عن (لعلِّي)، و(سآتِيكُم) يَتضمَّنُ معنى (لعلِّي) .

- وأمَّا تَكرارُ: أَوْ آَتِيكُمْ [النمل: 7] في سُورةِ (النَّملِ)، فليس فيه إلَّا تَكرارُ ما يُحرِزُ التَّأكيدَ، وتأكيدُ ما هو خبرٌ ليس أمْرًا ولا نهيًا إنَّما ثَمرتُه وفائدتُه صِدْقُ الإخبارِ، وذلك حاصِلٌ هنا سواءٌ تأكَّدَ أو لم يتأكَّدْ، وإذا كان الكلامُ على ما قُلْنا، والصِّدقُ حاصلٌ على كلِّ حالٍ؛ فلا يُنْكَرُ إذا حُكِيَ بمعناه. أو يُؤكَّدُ مرَّةً، ولا يُؤكَّدُ أُخرَى؛ إذ لا زِيادةَ للتَّأكيدِ فيه سِوى الجرْيِ على مُرتكباتِ العرَبِ في مثْلِه . وتَخصيصُ كُلِّ سُورةٍ من هذه السُّورِ بما ورَدَ فيها؛ لأنَّ فواصلَ هذه السُّوَرِ ومَقاطِعَ آيِها مُناسِبةٌ للواردِ فيها؛ فسُورةُ (طه) مقاطِعُ آيِها لازمةٌ الألِفَ المقصورةَ، وعلى ذلك آيُ السُّورِ كلِّها، وأمَّا النَّملُ والقصصُ فجاءتْ مقاطِعُ آياتِ هذه القِصَّةِ بالنُّونِ الواقعِ قبْلَها الياءُ والواوُ السَّاكنتانِ، بحسَبِ ما تقدَّمَهما مِن حَركتيِ الضَّمَّةِ والكسرةِ.

وأيضًا في سُورةُ (النَّملِ) أوجَزَ في هذا المقصَدِ، وأمَّا سُورةُ (القصصِ) فإنَّ خبَرَ مُوسى عليه السَّلامُ فيها يكادُ يَستغرِقُ آيَها كلَّها، فناسَبه طولُ الواردِ فيها ممَّا فيه الكلامُ، وذلك غيرُ خافٍ. وتأمَّلِ الواردَ في سُورةِ (طه)؛ من قولِه تعالى مُخبِرًا عن نَبِيِّه مُوسى عليه السَّلامُ مِن قولِه: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، ومُناسَبةَ ذلك لِما بُنِيَتْ عليه سُورةُ (طه) من تأنيسِ نَبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وافتتاحَها بقولِه تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى [طه: ٢]؛ يَلُحْ لك التَّلاؤمُ والتَّناسُبُ، وقد وضَحَ أنَّ كلَّ ما في كلِّ سُورةٍ من السُّورِ الثَّلاثِ مِن هذه القصَّةِ لا يُلائِمُ غيرَها، وأنَّ كلَّ قصَّةٍ منها لا يَحسُنُ وُقوعُها في موضعِ الآخرِ؛ لعدَمِ المُناسَبةِ وبُعْدِ التَّلاؤُمِ .

والحاصِلُ: أنَّ قولَ مُوسى عليه السَّلامُ وسُؤالاتِه في هذه السُّورِ الثَّلاثِ قد يَرِدُ في سُورةٍ منها بَعضُ ذلك ممَّا ليس في الأُخرى، ولم يَتعارضْ شَيءٌ من ذلك. ووجْهُ اختصاصِ كلِّ سُورةٍ بما ورَدَ فيها: أنَّ الواردَ في كلِّ سُورةِ مُناسِبٌ للسِّياقِ ولِمَا بُنِيَتْ عليه السُّورةُ؛ فسورة طه بُنِيتْ على التَّأنيسِ والبشارةِ لنَبِيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، من لَدُنِ افتتاحِها إلى خِتامِها. وأمَّا سُورةُ الشُّعراءِ وسُورةُ القَصصِ فإنَّما بِناؤُهما على قَصصِ مُوسى عليه السَّلامُ، ولَمَّا كانتْ سُورةُ الشُّعراءِ مذْكورًا فيها قَصصُ الرُّسلِ مع أُمَمِهم ابتداءً واختتامًا -فيما يخُصُّ حالِ الرِّسالةِ، إلى أخْذِ كلِّ طائفةٍ بما أُخِذَت به- خُصَّتْ من قَصصِ مُوسى عليه السَّلامُ بما يُلائِمُ دُعاءً ومُحاورةً، إلى أخْذِ فِرْعونَ وملَئِه. ولَمَّا كان قولُه تعالى في سُورةِ القصصِ: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ [القصص: ٣] تأنِيسًا وتَنبيهًا لنَبِيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي آخِرِ السُّورةِ: الإفصاحُ من هذا التَّأنيسِ برُجوعِه إلى مكَّةَ بعْدَ أنْ أُخْرِجَ عنها عليه السَّلامُ مُهاجِرًا لأجْلِ قومِه؛ قال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص: 85]؛ ناسَبَ ذلك مِن قَصصِ مُوسى عليه السَّلامُ خُروجُه إلى مَدْينَ ورُجوعُه إلى مِصْرَ؛ فتَناسَبَ هذا أكمَلَ مُناسَبةٍ في السُّورِ الثَّلاثِ، وإذا اعْتُبِرَ ذلك عُلِمَ أنَّه لا يُناسِبُ كلَّ سُورةٍ من الثَّلاثِ إلَّا ما خُصَّتْ به .

2- قولُه تعالى: إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى

- قولُه: إِذْ رَأَى نَارًا خَصَّ هذا الظَّرفَ بالذِّكرِ؛ لأنَّه يَزيدُ تَشويقًا إلى استعلامِ كُنْهِ الخبرِ؛ لأنَّ رُؤيةَ النَّارِ تَحتمِلُ أحوالًا كثيرةً. ورُؤيةُ النَّارِ تدُلُّ على أنَّ ذلك كان بِلَيلٍ، وأنَّه كان بحاجةٍ إلى النَّارِ، ولذلك فُرِّعَ عليه: فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا .

- وجُملةُ: إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا تَعليلٌ للأمْرِ أو المأمورِ به من المُكْثِ ، وأكَّدَ الخبرَ بـ (إنَّ)؛ لقصْدِ الاهتمامِ به بِشارةً لأهْلِه؛ إذ كانوا في الظُّلمةِ .

- وعبَّرَ بحرْفِ الاستعلاءِ في قولِه: عَلَى النَّارِ؛ إمَّا لأنَّ أهْلَ النَّارِ يَسْتعلون المكانَ القريبَ منها، أو لأنَّ المُصْطلينَ بها والمُسْتمتعينَ إذا تَكنَّفوها قِيامًا وقُعودًا، كانوا مُشرِفين عليها .

- قولُه: هُدًى، أي: هاديًا يدُلُّني على الطَّريقِ، على أنَّه مَصدرٌ؛ سُمِّيَ به الفاعلُ مُبالَغةً .

- وفي هذه الآيةِ ما يُعرَفُ بالإبهامِ ، وهو ضِدُّ الإيجازِ وضِدُّ الإطنابِ؛ فقد قال: لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ، ولم يَبُتَّ في الأمْرِ؛ لئلَّا يَعِدَ ما ليس بمُستيقنٍ من الوفاءِ به، ثمَّ قال: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، وهذا يَحْتوي على معنًى آخرَ ثَمَّ يتشعَّبُ، فالهِدايةُ هي المعنى الرَّئيسُ، ثمَّ إنَّ الهِدايةَ قد تكونُ بالنَّارِ نفْسِها بخاصَّةِ الإضاءةِ الكامنةِ فيها، وإمَّا بواسطةِ القومِ الَّذين يَقومون بإيقادِها، ويُفْهَمُ من هذا ضِمْنًا أنَّه ضَلَّ مع أهْلِه الَّذين يُرافِقونه .

- وقال هنا: بِقَبَسٍ، وفي القصصِ قال: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [القصص: 29] ، وفي النَّملِ قال: بِشِهَابٍ قَبَسٍ [النمل: 7] ، وهذا مِن التَّفنُّنِ في العِبارةِ؛ فهي في السُّورِ الثَّلاثِ عِبارةٌ عن معنًى واحدٍ؛ وذلِك أنَّ الجَذوةَ من النَّارِ: خَشبةٌ في رأْسِها قَبسٌ، به شِهابٌ .

3- قولُه تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى

- بُنِيَ فِعْلُ النِّداءِ للمجهولِ نُودِيَ؛ زِيادةً في التَّشويقِ إلى استطلاعِ القصَّةِ؛ فإبهامُ المُنادي يُشوِّقُ سامِعَ الآيةِ إلى مَعرفتِه، فإذا فاجأَهُ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، عَلِمَ أنَّ المُنادِيَ هو اللهُ تعالى؛ فتمكَّنَ في النَّفسِ كَمالَ التَّمكُّنِ، ولأنَّه أدخَلُ في تَصويرِ تلك الحالةِ بأنَّ مُوسى ناداهُ مُنادٍ غيرُ معلومٍ له؛ فحُكِيَ نِداؤُه بالفعْلِ المَبْنيِّ للمجهولِ .

4- قولُه تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى

- قولُه: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ بَيانٌ لجُملةِ: نُودِيَ. وتأكيدُ الخَبرِ بحرْفِ (إنَّ)؛ لتحقيقِه لأجلِ غرابتِه. وتَكرارُ الضَّميرِ في إِنِّي أَنَا رَبُّكَ؛ لتَوكيدِ الدَّلالةِ، وتَحقيقِ المعرفةِ، وإماطةِ الشُّبهةِ .

- والإخبارُ عن ضَميرِ المُتكلِّمِ بأنَّه ربُّ المُخاطَبِ رَبُّكَ؛ لتَسكينِ رَوعةِ نفْسِه من خِطابٍ لا يَرى مُخاطِبَه؛ فإنَّ شأْنَ الرَّبِّ الرِّفقُ بالمَربوبِ .

- والفاءُ في فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ لتَرتيبِ الأمْرِ على ما قبْلَها؛ فإنَّ رُبوبيَّتَه تعالى له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من مُوجباتِ الأمْرِ ودَواعيه ، وإنَّما أمَرَه اللهُ بخلْعِ نعلَيْه؛ تَعظيمًا منه لذلك المكانِ الَّذي سيَسمَعُ فيه الكلامَ الإلهيَّ ، أو لعِظَمِ الحالِ الَّتي حصَلَ فيها، كما يُخلَعُ عندَ المُلوكِ غايةً في التَّواضُعِ .

- قولُه: إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى تَعليلٌ لوُجوبِ الخَلْعِ المأمورِ به، وبَيانٌ لسبَبِ وُرودِ الأمْرِ بذلك من شَرفِ البُقعةِ وقُدْسِها . وفيه التَّعبيرُ بحرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ) المُفيدِ التَّعليلَ، كما هو شأْنُه في كلِّ مقامٍ لا يَقْتضي التَّأكيدَ .

5- قولُه تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى

- قولُه: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فيه الإخبارُ عنِ اختيارِ اللهِ تعالى مُوسى عن طريقِ الخبرِ الفعليِّ اخْتَرْتُكَ المُفيدِ تَقويةَ الحُكْمِ؛ لأنَّ المقامَ ليس مقامَ إفادةِ الحَصرِ .

- وفي قولِه: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى فرْعٌ على الإخبارِ باختيارِه أنْ أُمِرَ بالاستماعِ للوحيِ؛ لأنَّه أثَرُ الاختيارِ؛ إذ لا معنى للاختيارِ إلَّا اختيارُه لِتَلقِّي ما سيُوحِي اللهُ .

- وحَذْفُ الفاعلِ في يُوحَى للعِلْمِ به، ويُحسِّنُه كونُه فاصلةً؛ فلو كان مَبْنِيًّا للفاعلِ لم يكُنْ فاصلةً .

6- قولُه تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي

- قولُه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا بَدلٌ من مَا يُوحَى دالٌّ على أنَّه مَقصورٌ على تَقريرِ التَّوحيدِ الَّذي هو مُنْتهَى العِلْمِ والأمْرِ بالعبادةِ الَّتي هي كَمالُ العملِ ؛ فهو تَبيينٌ وتَفسيرٌ للإبهامِ في قولِه: لِمَا يُوحَى .

- وتأكيدُ الجُملةِ بحرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ) في قولِه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ؛ لدفْعِ الشَّكِّ عن مُوسى؛ نُزِّلَ مَنزلةَ الشَّاكِّ لأنَّ غَرابةَ الخبرِ تُعرِّضُ السَّامِعَ للشَّكِّ فيه. وتَوسيطُ ضَميرِ الفصْلِ بقولِه: أَنَا؛ لزِيادةِ تَقويةِ الخبرِ .

- قولُه: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي الفاءُ في قولِه تعالى: فَاعْبُدْنِي لتَرتيبِ المأْمورِ به على ما قبْلَها؛ فإنَّ اختصاصَ الأُلوهيَّةِ به سُبحانه وتعالى من مُوجِباتِ تَخصيصِ العِبادةِ به عَزَّ وجَلَّ .

- وخُصَّتِ الصَّلاةُ بالذِّكرِ، وأُفْرِدَتْ بالأمْرِ معَ اندراجِها في الأمْرِ بالعبادةِ؛ لفضْلِها وعُلوِّها على سائرِ العباداتِ بما نِيطَتْ به من ذِكْرِ المعبودِ سُبحانه، وشُغْلِ القلْبِ واللِّسانِ بذِكْرِه ، أو لأنَّ الصَّلاةَ تجمَعُ أحوالَ العبادةِ ، وتتضمَّنُ عبوديَّةَ القلبِ واللسانِ والجوارِحِ .

7- قولُه تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى جُملةٌ مُستأنَفةٌ لابتداءِ إعلامٍ بأصْلٍ ثانٍ مِن أُصولِ الدِّينِ بعْدَ أصْلِ التَّوحيدِ، وهو إثباتُ الجَزاءِ .

- وقولُه: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ ... تَعليلٌ لوُجوبِ العبادةِ، وإقامةِ الصَّلاةِ، أي: كائنةٌ لا مَحالةَ، وإنَّما عُبِّرَ عن ذلك بالإتيانِ؛ تَحقيقًا لحُصولِها بإبرازِها في مَعرِضِ أمْرٍ مُحقَّقٍ مُتوجِّهٍ نحوَ المُخاطَبينَ .

- وجُملةُ: أَكَادُ أُخْفِيهَا مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ وعِلَّتِها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، مُؤكِّدةٌ لمعنى الإخفاءِ . وقيل: وقَعَت (أكاد) زائدةً هنا بمَنزلةِ زِيادةِ (كان) في بعضِ المواضعِ؛ تأكيدًا للإخفاءِ .

- وفي قولِه: لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى تَخصيصُ السَّعيِ في مَعرِضِ الغايةِ لإتيانِها، مع أنَّه لجَزاءِ كلِّ نفْسٍ بما صدَرَ عنها، سواءٌ كان سَعيًا فيما ذُكِرَ، أو تقاعُدًا عنه بالمرَّةٍ، أو سعيًا في تَحصيلِ ما يُضادُّه: للإيذانِ بأنَّ المُرادَ بالذَّاتِ من إتيانِها هو الإثابةُ بالعبادةِ، وأمَّا العِقابُ بترْكِها فمِن مُقتَضَياتِ سُوءِ اختيارِ العُصاةِ، وبأنَّ المأمورَ به في قُوَّةِ الوُجوبِ، والسَّاعةَ في شِدَّةِ الهولِ والفظاعةِ، بحيث يُوجِبانِ على كلِّ نفْسٍ أنْ تَسْعَى في الامتثالِ بالأمْرِ، وتَجِدَّ في تَحصيلِ ما يُنجِّيها من الطَّاعاتِ، وحينئذٍ تَحترِزُ عن اقترافِ ما يُرْدِيها من المعاصي .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه: ١٥]، وفي سُورةِ غافرٍ: إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا [غافر: 59] ، فخَصَّصَ آيةَ (طه) بقولِه في وصْفِ السَّاعةِ: أَكَادُ أُخْفِيهَا ووصَفَها في سُورةِ (غافرٍ) بقولِه: لَا رَيْبَ فِيهَا.

ووجْهُه: أنَّ آيةَ (طه) خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم -على قولٍ في التفسيرِ-، يتضمَّنُ تأْنيسَهُ وتَسليتَه عن حالِ كفَّارِ قُريشٍ في توقُّفِهم عن الإيمانِ، وجاء قولُه: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه: ١٥]؛ تعريفًا بعَظيمِ خَفاءِ أمْرِ السَّاعةِ، حتَّى كأنَّ أمْرَها لم يُخْبَرْ عنه، ولا وقَعَ تعريفٌ بشَيءٍ منه، وذلك إعلامٌ بوصْفِ وحالِ مَن قدْ تقرَّرَ بوُقوعِها يَقينُه، وانْطوى على عِلْمِ كِيانِها إيمانُه، ولَمَّا كان هذا الخطابُ والتَّعريفُ لِمَن جَرى ذِكْرُه مِن تَنزُّهِه صلَّى الله عليه وسلَّم عن الارتيابِ في أمْرِ السَّاعةِ؛ لم يَحْتَجْ إلى نفْيِ الرَّيبِ؛ إذ مقامُ النُّبوَّةِ في الإيمانِ بها المقامُ الَّذي لا يُدانى، فلم يكُنْ نفْيُ الارتيابِ ليُلائِمَ ولا يُناسِبَ. أمَّا آيةُ غافرٍ، فأكثرُ الخِطابِ فيها لقُريشٍ وسائرِ كُفَّارِ العربِ، وهم المُجادِلونَ في أمْرِ السَّاعةِ، والجاهِلونَ بكِيانِها، فذَكَر فيها نَفْيَ الرَّيبِ -الَّذي هو صِفَتُهم- وأُتْبِعَ بتأْكيدِ الإخبارِ بدُخولِ اللَّامِ ونفْيِ الرَّيبِ في ذلك، وذلك أوضَحُ شَيءٍ في المُناسَبةِ؛ فكلٌّ من الآيتينِ واردٌ على أتَمِّ مُناسَبةٍ، ولا يُمكِنُ أنْ يقَعَ عكسُ الواردِ في السُّورتَينِ .

- ومن المُناسَبةِ أيضًا قولُه هنا: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ، وفي (الحجِّ): وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ [الحج: 7] بحذْفِ لامِ التَّأكيدِ، وقاله في (غافرٍ) بإِثباتِها: إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ [غافر: 59] ؛ لأنَّها إنَّما تُزادُ لتأْكيدِ الخبرِ، وتأكيدُه إنَّما يُحتاجُ إليه إذا كان المُخبَرُ بهِ شاكًّا في الخبرِ، والمُخاطَبون في (غافرٍ) هم الكفَّارُ، فأُكِّدَ فيها باللَّامِ بخلافِ تَيْنكَ .

8- قولُه تعالى: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى فرَّعَ على كونِها آتيةً، وأنَّها مُخفاةٌ التَّحذيرَ مِن أنْ يَصُدَّه عن الإيمانِ بها قومٌ لا يُؤمِنون بوُقوعِها اغترارًا بتأخُّرِ ظُهورِها؛ فالتَّفريعُ على قولِه: أَكَادُ أُخْفِيهَا أوقَعُ؛ لأنَّ ذلك الإخفاءَ هو الَّذي يُشَبِّهُ به الَّذين أنْكَروا البعثَ على النَّاسِ .

- وقولُه: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى صِيغَ نهْيُ مُوسى عليه السَّلامُ عن الصَّدِّ عنها في صِيغَةِ نهْيِ مَن لا يُؤمِنُ بالسَّاعةِ عن أنْ يَصُدَّ مُوسى عن الإيمانِ بها؛ مُبالغةً في نهْيِ مُوسى عن أدْنَى شَيءٍ يحولُ بينَه وبينَ الإيمانِ بالسَّاعةِ؛ لأنَّه لمَّا وجَّهَ الكلامَ إليه، وكان النَّهيُ نهْيَ غيرِ المُؤمنِ عن أنْ يَصُدَّ مُوسى، عُلِمَ أنَّ المُرادَ نهْيُ مُوسى عن مُلابَسةِ صَدِّ الكافرِ عن الإيمانِ بالسَّاعةِ، أي: لا تكُنْ لَيِّنَ الشَّكيمةِ لمَن يصُدُّك، ولا تُصْغِ إليه؛ فيكونَ لِينُك له مُجَرِّئًا إيَّاه على أنْ يصُدَّك؛ فوقَعَ النَّهيُ عن المُسبَّبِ، والمُرادُ النَّهيُ عن السَّببِ، وهذا الأسلوبُ مِن قَبِيلِ قولِهم: (لا أعرِفَنَّك تفعَلُ كذا)، و: (لا أَرَيَنَّك هاهنا) .

- وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَنْهَا على قولِه تعالى: مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا؛ للاهتمامِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .

- وزِيادةُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ؛ للإيماءِ بالصِّلةِ إلى تَعليلِ الصَّدِّ، أي: لا داعِيَ لهم للصَّدِّ عن الإيمانِ بالسَّاعةِ إلَّا اتِّباعُ الهوى، دونَ دليلٍ ولا شُبْهةٍ .

- وفي قولِه: فَتَرْدَى فرَّعَ على النَّهيِ أنَّه إنْ صُدَّ عن الإيمانِ بالسَّاعةِ هلَكَ، والتَّفريعُ ناشِئٌ عنِ ارتكابِ المَنْهيِّ لا على النَّهيِ؛ ولذلك جِيءَ بالتَّفريعِ بالفاءِ، ولم يقَعْ بالجزاءِ المجزومِ .

- ومِن لطائفِ البلاغةِ في هذه الآياتِ: أنَّه سُبحانه وتعالى كلَّما خاطَبَ كَلِيمَه عليه السَّلامُ في مقامِ القُدسِ بخِطابٍ، رتَّبَ عليه بالفاءِ حُكْمًا؛ قال أوَّلًا: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، فعقَّبَه بقولِه: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، نبَّهَ به على تَعظيمِ البُقعةِ، وعلى ألَّا يطَأَها إلَّا حافيًا. وثانيًا: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، فعقَّبَه بقولِه: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، أي: اخترْتُك لذلك المَنصبِ العالي ابتداءً، لا أنَّه استحقاقٌ منك على اللهِ، فتأهَّبْ له، واجعَلْ نفْسَك وعقْلَك مَصروفًا إليه، فقولُه: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يُفِيدُ نِهايةَ اللُّطفِ والرَّحمةِ، وقولُه: فَاسْتَمِعْ غايةَ الهَيبةِ والرَّهبةِ. وثالثًا: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، الفاءُ دلَّتْ على أنَّ إلَهيَّتَه هي الَّتي ألْزَمَتِ العِبادةَ. ورابعًا: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا، رتَّبَ نهْيَ المُخاطَبِ عمَّا يصُدُّه عن الآياتِ على مَجِيءِ السَّاعةِ، فقولُه: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ تَخليةٌ. والثَّلاثةُ الأُخرى تَحليةٌ . وقد جاء خِطابُ اللهِ تعالى لمُوسى عليه السَّلامُ بطريقةِ الاستدلالِ على كلِّ حُكْمٍ وأمْرٍ أو نَهْيٍ؛ فابْتُدِئَ بالإعلامِ بأنَّ الَّذي يُكلِّمُه هو اللهُ، وأنَّه لا إلهَ إلَّا هو، ثمَّ فرَّعَ عليه الأمْرَ في قولِه: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، ثمَّ عقَّبَ بإثباتِ السَّاعةِ، وعلَّلَ بأنَّها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، ثمَّ فرَّعَ عليه النَّهيَ عن أنْ يصُدَّه عنها مَن لا يُؤمِنُ بها، ثمَّ فرَّعَ على النَّهيِ أنَّه إنِ ارتكَبَ ما نُهِيَ عنه، هلَكَ وخسِرَ

 

.=====================

 

سورةُ طه

الآيات (17-23)

ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ

غريب الكلمات:

 

أَتَوَكَّأُ: أي: أعتَمِدُ عليها، والتوكُّؤُ: التحاملُ على العصا في المشْيِ، وأصلُ (وكا): يَدُلُّ على شدِّ شَيءٍ وشِدَّةٍ، ومنه: تَوَكَّأْتُ على كذا، أي اتَّكَأْتُ؛ لأنَّه يتَشَدَّدُ به ويَتَقَوَّى به

.

وَأَهُشُّ: أي: أضرِبُ بها الشَّجرَ؛ لِيَسقُطَ وَرَقُه فترعاه الغَنَمُ، والهَشُّ: يقارِبُ الهزَّ في التَّحريكِ .

مَآَرِبُ: أي: حاجاتٌ، واحِدُها: مَأرُبةٌ ومأرَبةٌ ومأْرِبةٌ، وأصلُ (أرب) هنا: الحاجةُ .

سِيرَتَهَا: أي: هَيئتَها، وحالتَها التي كانت عليها مِن كَونِها عُودًا، وأصلُ (سير): يدُلُّ على مُضِيٍّ وجَرَيانٍ .

جَنَاحِكَ: أي: جَنْبِك تَحتَ العضُدِ، وأصلُ (جنح): يدلُّ على المَيلِ، وسُمِّيَ الجناحانِ جَناحَينِ؛ لِمَيلِهما في الشِّقَّينِ .

سُوءٍ: أي: آفَةٍ أو بَرَصٍ، والسُّوءُ: كلُّ ما يغمُّ الإنسانَ، وأصلُ (سوء): يدلُّ على قُبحٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى لِموسى عليه السلامُ: وما هذه التي في يمينِك يا موسى؟ قال موسى: هي عصايَ أعتَمِدُ عليها في المَشيِ، وأضرِبُ بها الشَّجَرَ؛ لِتَرعى غَنَمي ما يسقُطُ مِن وَرَقِه، ولي فيها منافِعُ أخرى.

قال اللهُ لموسى: ألقِ عصاك. فألقاها موسى على الأرضِ، فانقَلَبَت بإذنِ اللهِ حَيَّةً تسعى بسُرعةٍ وخِفَّةٍ، فقال اللهُ لِموسى: خُذِ الحيَّةَ ولا تَخَفْ منها، سوف نعيدُها إلى حالتِها وهيئتِها الأُولى عصًا كما كانت، وأدخِلْ يَدَك في جَيبِك واضمُمْها إلى جَنبِك تحتَ العَضُدِ، تخرُجْ بَيضاءَ كالثَّلجِ مِن غَيرِ عَيبٍ ومَرَضٍ كبَرَصٍ، علامةً أخرى لك؛ فعَلْنا ذلك لكي نُرِيَك -يا موسى- مِن أدِلَّتِنا الكبرى الدَّالَّةِ على قُدرَتِنا، وصِحَّةِ رِسالتِك.

تفسير الآيات:

 

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ الله لموسى أصلَ الإيمانِ؛ أراد أنْ يبَيِّنَ له ويُريَه من آياتِه ما يَطمئِنُّ به قلبُه، وتقَرُّ به عينُه، ويَقوَى إيمانُه، بتأييدِ اللهِ له على عَدُوِّه، فقال

:

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17).

أي: قال الله: وما تلك التي تمسِكُها بيَدِك اليُمنى يا موسى ؟

قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18).

قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا.

أي: قال موسى: هي عصايَ، أعتَمِدُ عليها في حالِ قيامي، وحينَ أمشي .

وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي.

أي: وأضرِبُ بها الشَّجرَ؛ لِيَسقُطَ ورَقُه، فتَرْعاه غَنَمي .

وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى.

أي: ولي في عَصاي هذه حوائِجُ أخرى، فأنتَفِعُ بها أيضًا في غيرِ الاتِّكاءِ عليها، والهشِّ بها .

قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19).

أي: قال الله: ألقِ عَصاك التي بيَدِك اليُمنى يا موسى .

كما قال تعالى: وَأَلْقِ عَصَاكَ [النمل: 10].

فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20).

أي: فألقَى موسى عصاه دونَ تردُّدٍ، فتحوَّلَتْ فورًا بأمرِ اللهِ إلى حيَّةٍ حَقيقيَّةٍ عظيمةٍ، تتحرَّكُ بسُرعةٍ وخِفَّةٍ !

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21).

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ.

أي: قال الله لموسى: خُذِ الحيَّةَ، ولا تخَفْ منها؛ فلن تَضُرَّك .

كما قال تعالى: فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ [القصص: 31] .

سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى.

أي: سنردُّ الحيَّةَ إلى هيئتِها وطبيعتِها الأُولَى، فتعودُ عصًا كما كانت .

وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22).

وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ.

أي: وأدخِلْ يَدَك في جَيبِك -وهو فَتحةُ القَميصِ التي يَبرُزُ منها العُنُقُ - وألصِقْها بجَنبِك تحتَ عضُدِك .

كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: 12] .

وقال سُبحانَه: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [القصص: 32] .

تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى.

أي: تخرُجْ يَدُك بعدَ أنْ تضَعَها تحتَ عَضُدِك ساطعةَ البَياضِ، كالثَّلجِ مِن غَيرِ عَيبٍ ومَرَضٍ، كبَرَصٍ أو بَهقٍ وغيرِه، والحالُ أنَّها علامةٌ أخرى تدلُّ على نبوَّتِك معَ آيةِ العصا التي تحوَّلتْ حيَّةً .

لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23).

أي: فعَلْنا ذلك؛ لنُريَك مِن أدِلَّتِنا الكُبرى الدَّالَّةِ على عَظيمِ قُدرتِنا، وصِحَّةِ رِسالتِك، فيَطمَئِنَّ قَلبُك، وتَثِقَ بوَعدِ اللهِ بحِفظِك ونَصرِك، وتكونَ حُجَّةً على من أُرسِلتَ إليهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قولِه تعالى:  وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى إذا قيل: ما وَجهُ استِخبارِ اللهِ مُوسى عمَّا في يَدِه؟ ألم يكُنْ عالِمًا بأنَّ الذي في يَدِه عصًا؟

فالجوابُ مِن أوجُهٍ:

الأوَّلُ: أنَّه إنَّما قال ذلك عزَّ ذِكرُه له؛ إذ أراد أنْ يحوِّلَها حَيَّةً تسعى، وهي خَشَبةٌ، فنَبَّهَه عليها وقرَّره بأنَّها خَشَبةٌ يتوكَّأُ عليها، ويَهُشُّ بها على غَنَمِه؛ لِيُعرِّفَه قُدرتَه على ما يشاءُ، وعِظَمَ سُلطانِه، ونفاذَ أمرِه فيما أحَبَّ، بتحويلِه إيَّاها حيَّةً تسعى؛ إذ أراد ذلك به ليجعَلَ ذلك لموسى آيةً مع سائرِ آياتِه إلى فِرعَونَ وقَومِه

.

الثَّاني: إنَّما قال له ذلك على سَبيلِ الإيناسِ له؛ لإزالةِ الوَحشةِ عن موسى؛ لأنَّ موسى كان خائِفًا مُستَوحِشًا، كرجُلٍ دخل على مَلِكٍ وهو خائفٌ، فسأله عن شَيءٍ، فتزولُ بعضُ الوَحشةِ عنه بذلك، ويَستأنِسُ بسُؤالِه.

الثَّالثُ: إنَّما قال له ذلك على وَجهِ التَّقريرِ، أي: أمَّا هذه التي في يمينِك عصاك التي تَعرِفُها، فسترَى ما نصنَعُ بها الآنَ، ولكيلا يخافَ إذا صارتْ ثُعبانًا .

الرَّابِعُ: إقامةُ البَيِّنةِ لديه بما يكونُ دَليلًا على السَّاعةِ مِن سُرعةِ القُدرةِ على إيجادِ ما لم يكُنْ، بقَلبِ العصا حيَّةً بعدَ تحقُّقِ أنَّها عصاه بقُرْبِ النَّظَرِ إليها عندَ السُّؤالِ عنها؛ ليزدادَ بذلك ثباتًا، ويُثَبِّتَ مَن يُرسَلُ إليهم .

2- قال الله تعالى عن موسى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى مِن أدَبِ موسى عليه السَّلامُ أنَّ الله لَمَّا سأله عمَّا في يمينِه، وكان السؤالُ محتَمِلًا عن السُّؤالِ عن عَينِها أو مَنفَعتِها، أجابه بعينِها ومَنفَعتِها .

3- قولُ الله تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى فيه الزيادةُ في الجوابِ على ما في السُّؤالِ .

4- قال الله تعالى: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى وحِكمةُ انقلابِها وقْتَ مُناجاتِه: تأْنيسُه بهذا المُعجِزِ الهائلِ؛ لئلَّا يفزعَ منها إذا ألقاها عند فِرعَونَ؛ إذ قد جَرَت له بذلك عادةٌ، وتَدريبُه في تلقِّي تكاليفِ النُّبوَّةِ، ومَشاقِّ الرِّسالةِ ، وكذلك تَثبيتُ مُوسى، ودفْعُ الشَّكِّ عن أنْ يتطرَّقَه لو أمَرَه بذلك دونَ تَجرِبةٍ؛ لأنَّ مَشاهِدَ الخوارقِ تُسارِعُ النَّفْسُ بادئَ ذِي بَدْءٍ إلى تأويلِها .

5- قولُ الله تعالى: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، إن قيل: إنما كانت العصا واحدةً، وكان إلقاؤُها مرةً، فما وجهُ اختلافِ الأخبارِ عنها؛ فإنَّه يقولُ في (الأعرافِ): فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ [الأعراف: 107] وهاهنا: حَيَّةٌ وفي مكانٍ آخرَ: كَأَنَّهَا جَانٌّ [النمل: 10] ليست بالعظيمةِ، والثعبانُ أعظمُ الحيَّاتِ؟

فالجواب: أمَّا الحيَّةُ فاسْمُ جنْسٍ يقَعُ على الذَّكرِ والأُنثى، والصَّغيرِ والكبيرِ. وأمَّا الثُّعبانُ والجانُّ فبينهما تَنافٍ؛ لأنَّ الثُّعبانَ العظيمَ من الحيَّاتِ، والجانُّ: الدَّقيقُ. وفي ذلك وجْهانِ:

أحدُهما: أنَّها كانت وقْتَ انقلابِها حيَّةً تنقلِبُ حيَّةً صَفراءَ دقيقةً، ثمَّ تتورَّمُ ويَتزايدُ جِرْمُها حتَّى تصيرَ ثُعبانًا، فأُرِيدَ بالجانِّ أوَّلُ حالِها، وبالثُّعبانِ مآلُها.

الثَّاني: أنَّها كانت في شخْصِ الثُّعبانِ، وسُرعةِ حَركةِ الجانِّ. والدَّليلُ عليه قولُه تعالى: فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ [النمل: 10] .

6- قولُ الله تعالى: قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ فيه سؤالٌ: لَمَّا نُودِي موسى، وخُصَّ بتلك الكراماتِ العظيمةِ، وعَلِمَ أنَّه مبعوثٌ مِن عندِ الله تعالى إلى الخَلقِ، فلمَ خاف؟

الجوابُ: أنَّ ذلك الخَوفَ كان مِن نفرةِ الطَّبعِ؛ لأنَّه -عليه السَّلامُ- ما شاهد مِثلَ ذلك قط، وأيضًا فهذه الأشياءُ معلومةٌ بدلائِلِ العُقولِ، وعند الفَزَعِ الشديدِ قد يَذهَلُ الإنسانُ عنه، وقيل أيضًا: إنَّ ذلك الخوفَ مِن أقوى الدَّلائِلِ على صِدقِه في النبوَّةِ؛ لأنَّ السَّاحِرَ يعلَمُ أنَّ الذي أتَى به تمويهٌ، فلا يخافُه البتَّةَ .

7- في قَولِه تعالى: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ دليلٌ على أنَّ أنْفُسَ البشرِ مجبولةٌ على الخَوفِ مِن المؤْذِياتِ؛ وأنَّ الخوفَ اللَّاحقَ بها عندَ رؤيتِها لها لا يَحُطُّ مِن دَرجةِ التوكُّلِ شيئًا .

8- قال تعالى: قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى وفي إعادتِها إلى ما كانت عليهِ: عِدَةٌ كَريمةٌ بإظهارِ مُعجزةٍ أُخرَى على يَدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإيذانٌ بكونِها مُسَخَّرةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ ليكونَ على طُمَأْنينةٍ مِن أمْرِه، ولا يَعتريه شائبةُ تَزَلْزُلٍ عندَ مُحاجَّةِ فِرْعونَ ؛ فالغرَضُ مِن إظهارِ ذلك لمُوسى: أنْ يَعرِفَ أنَّ العصا تطبَّعَت بالانقلابِ حيَّةً، فيتذكَّرَ ذلك عندَ مُناظَرةِ السَّحرةِ؛ لئلَّا يحتاجَ حينئذٍ إلى وحْيٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ... الجُملةُ معطوفةٌ على الجُمَلِ قبْلَها، انتقالًا إلى مُحاورةٍ أرادَ اللهُ منها أنْ يُرِيَ مُوسى كيفيَّةَ الاستدلالِ على المُرسَلِ إليهم بالمُعجزةِ العظيمةِ

.

- والاستفهامُ مستعملٌ في تحقيقِ حقيقةِ المسؤولِ عنه، والتَّنبيهِ إلى أهمِّيَّتِه، وظاهِرُه أنَّه سُؤالٌ عن شيءٍ أُشِير إليه .

- وتَكريرُ النِّداءِ يَا مُوسَى؛ لزِيادةِ التَّأنيسِ والتَّنبيهِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي، إلى قولِه: سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى [طه: 17-21] ، فذكَرَ العَصا وسُؤالَه وتَقريرَه على ما وُصِفَ مِن حالِها، فهو ممَّا جرى، ولم يُخبِرِ اللهُ تعالى به في سائرِ السُّورِ، وأخبَرَ به في هذه السُّورةِ.

ووجْهُه: أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ في بعْضِ السُّورِ ببعْضِ ما جَرَى، وفي الأُخرى بأكثْرَ ممَّا أخبَرَ به في الَّتي قبْلَها، وليس يدفَعُ بعْضُها بعضًا .

2- قوله تعالى: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى

- قولُه: عَصَايَ نسَبَها إلى نفْسِه؛ تَحقيقًا لوجْهِ كونِها بيَمينِه، وتَمهيدًا لِما يعقُبُه من الأفاعيلِ المَنسوبةِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

- في قولِه: قَالَ هِيَ عَصَايَ فنُّ الإطنابِ بذِكْرِ المُسنَدِ إليه هِيَ، حيث كان الإيجازُ يَقْتضي أنْ يقولَ: (عَصَايَ)؛ فلمَّا قال: هِيَ عَصَايَ كان الأسلوبُ أُسلوبَ كلامِ مَن يتعجَّبُ من الاحتياجِ إلى الإخبارِ .

- وفي قولِه: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ذكَرَ على التَّفصيلِ والإجمالِ المنافِعَ المُتعلِّقةَ بالعصا؛ كأنَّه أحَسَّ بما يعقُبُ هذا السُّؤالَ من أمْرٍ عظيمٍ يُحدِثُه اللهُ تعالى، فقال: ما هي إلَّا عصًا، لا تنفَعُ إلَّا منافِعَ بناتِ جنْسِها، وكما تنفَعُ العيدانُ؛ ليكونَ جوابُه مُطابِقًا للغرضِ الَّذي فهِمَه من فَحوى كلامِ ربِّه . وقيل: الحِكمةُ من زِيادةِ مُوسى عليه السَّلامُ في الجوابِ: رَغبتُه في مُطاوَلةِ مُناجاتِه لرَبِّه تعالى، وازديادِ لَذاذتِه، وتَعدادِه نِعَمَه تعالى عليه بما جعَلَ له فيها منَ المنافعِ ، وقيل: لأنَّه سُئِلَ سُؤالًا ثانيًا: ما تصنَعُ بها؟ فأجاب بذلك. أو ذكَرَ ذلك؛ خوفًا مِن أنْ يُؤمَرَ بإلقائِها، كما أُمِرَ بإلقاءِ النَّعلينِ، أو لئلَّا يُنسَبَ إلى التَّعبِ في حمْلِها .

- وأيضًا في قولِه: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ... ما يُعرَفُ في البلاغةِ بـ (التَّلفيفِ)؛ وهو أنْ يسأَلَ السَّائلُ عن حُكْمٍ هو نوعٌ من أنواعِ جنْسٍ تَدْعو الحاجةُ إلى بَيانِها كلِّها أو أكثَرِها، فيَعدِلَ المسؤولُ عن الجوابِ الخاصِّ عمَّا سُئِلَ عنه من تَبيينِ ذلك النَّوعِ، ويُجِيبَ بجوابٍ عامٍّ يَتضمَّنُ الإبانةَ على الحُكْمِ المسؤولِ عنه، وعن غيرِه بدُعاءِ الحاجةِ إلى بَيانِه؛ فقولُ مُوسى عليه السَّلامُ جوابًا عن سُؤالِ اللهِ تعالى له: هِيَ عَصَايَ، هو الجوابُ الحقيقيُّ للسُّؤالِ، ثمَّ قال: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى؛ فأجاب عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ، كأنَّه توهَّمَ أنْ يُقالَ له: وما تفعَلُ بها؟ فقال مُعَدِّدًا منافِعَها .

- وقدَّمَ في الجوابِ مَصلحةَ نفْسِه في قولِه: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، ثمَّ ثنَّى بمَصلحةِ رعيَّتِه في قولِه: وَأَهُشُّ .

- قولُه: وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى الظَّاهرُ أنَّه حِكايةٌ لقولِ مُوسى بمُماثِلِه؛ فيكونُ إيجازًا بعْدَ الإطنابِ، ويجوزُ أنْ يكونَ حِكايةً لقولِ مُوسى بحاصلِ معناهُ، أي: عَدَّ مَنافِعَ أُخرى؛ فالإيجازُ من نظْمِ القُرآنِ لا مِن كلامِ مُوسى عليه السَّلامُ . ولم يقُلْ: (أُخَر)؛ رعْيًا للفواصلِ .

3- قولُه تعالى: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ يَنساقُ إليه الذِّهنُ؛ كأنَّه قيلَ: فماذا قال عَزَّ وجَلَّ؟ فقيل: قال... .

- في قولِه: قَالَ أَلْقِهَا الْتِفاتٌ منَ التَّكلُّمِ الَّذي في قولِه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ إلى الغَيبةِ، ودعا إلى هذا الالْتِفاتِ: وُقوعُ هذا الكلامِ حِوارًا مع قولِ مُوسى: هِيَ عَصَايَ ... إلخ .

- وتَكريرُ النِّداءِ يَا مُوسَى؛ لتأكيدِ التَّنبيهِ .

4- قولُه تعالى: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى وصَفَ الحيَّةَ بـ تَسْعَى؛ لإظهارِ أنَّ الحياةَ فيها كانت كاملةً بالمشيِ الشَّديدِ ، وأيضًا في وصْفِها بأنَّها تَسعَى إزالةٌ لوهمٍ يُمكن وجودُه، وهو أنْ يُظَنَّ أنَّها تخييلٌ لا حقيقةٌ؛ فكونُها تَسعَى يُزيلُ هذا الوَهمَ .

5- قولُه تعالى: قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى

- جاء فِعْلُ قَالَ خُذْهَا بدُونِ عطْفٍ؛ لوُقوعهِ في سِياقِ المُحاوَرةِ .

- وفي عطْفِ النَّهيِ وَلَا تَخَفْ، على الأمْرِ خُذْهَا: إشعارٌ بأنَّ عدَمَ النَّهيِ عنه مَقصودٌ لذاتِه، لا لِتَحقيقِ المأمورِ به فقط .

- وقَولُه: وَلَا تَخَفْ دليلٌ على اختصارِ الكلامِ؛ لأنَّ ذِكْرَ الخَوفِ لم يتقَدَّمْ في اللَّفظِ، فدلَّ قولُه: وَلَا تَخَفْ على أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا رأى عصاه تحوَّلَتْ حيَّةً خاف منها .

- وقولُه: سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى استئنافٌ مَسوقٌ لتَعليلِ الامتثالِ بالأمْرِ والنَّهيِ .

6- قولُه تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى

- والجَناحُ في قولِه: جَنَاحِكَ هو العضُدُ وما تحتَه إلى الإبْطِ، أُطْلِقَ عليه ذلك تَشبيهًا بجَناحِ الطَّائرِ ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ؛ إذ لا يترتَّبُ الخُروجُ على الضَّمِّ، وإنَّما يترتَّبُ على الإخراجِ، والتَّقديرُ: واضمُمْ يَدَكَ إلى جَناحِك تَنضَمَّ، وأخرِجْها تَخرُجْ؛ فحذَفَ من الأوَّلِ وأبقى مُقابِلَه، ومن الثَّاني وأبْقى مُقابِلَه وهو وَاضْمُمْ؛ لأنَّه بمعنى (أدخِلْ)، كما بُيِّنَ في الآيةِ الأُخرى .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث جُعِلَ الجَناحُ -وهو اليَدُ- هنا مَضمومًا إليه في قولِه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ؛ وفي سورة (القصص) مَضمومًا في قولِه: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ [القصص: 32] ؛ لأنَّ المُرادَ بالجَناحِ المضمومِ هو اليَدُ اليُمْنى، وبالمَضمومِ إليه اليدُ اليُسرى، وكلُّ واحدةٍ مِن يُمْنى اليدين ويُسراهما جَناحٌ .

- قولُه: تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فيه احتراسٌ؛ لأنَّه لو اقتصَرَ على قولِه: بَيْضَاءَ، لَأوهَمَ أنَّ ذلك من برَصٍ أو بَهَقٍ؛ فقولُه: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ كِنايةٌ عن البرصِ .

7- قولُه تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى

- فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ كأنَّه قِيلَ: فعلْنا ما فعلْنا من الأمْرِ والإظهارِ؛ لنُرِيَك بذلك بعضَ آياتِنا الكُبْرى .

- وقولُه: مِنْ آَيَاتِنَا حالٌ من الْكُبْرَى؛ قُدِّمَت عليها وإنْ كان ذو الحالِ مَعرِفةً؛ مُراعاةً للفواصلِ

==================

 

سورةُ طه

الآيات (24-36)

ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ

غريب الكلمات:

 

اشْرَحْ: أي: وسِّع ونوِّرْ، وأصلُ (شرح): يدلُّ على الفَتحِ والبَيانِ

.

وَزِيرًا: أي: عَونًا، ومُؤازِرًا، ومُؤيِّدًا، وأصلُ الوِزارةِ مِن الوِزْرِ، كأنَّ الوَزيرَ يحمِلُ عَن السُّلطانِ الثِّقلَ والشُّغلَ، وأصلُ (وزر): يدلُّ على الثِّقلِ في الشَّيءِ .

أَزْرِي: أي: ظَهْري، ومنه يُقالُ: آزَرْتُ فلانًا على الأمرِ، أي: قوَّيتُه عليه، وكنتُ له فيه ظَهيرًا، وأصلُ الأزْرِ: القوَّةُ والشِّدةُ .

سُؤْلَكَ: أي: أُمنيتَك وطَلِبَتَك، والسُّؤْلُ: الحاجةُ التي تحرِصُ النَّفسُ عليها

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يبينُ الله تعالى لموسى عليه السلامُ المقصود مِن تأييدِه بهاتين المعجزتين، فيقولُ آمرًا له: اذهبْ -يا موسَى- إلى فِرعَونَ؛ إنَّه قد تجاوَزَ قَدْرَه وتمرَّد على رَبِّه، فادْعُه إلى توحيدِ اللهِ وعبادتِه.

فسأل موسى عليه السلامُ المعونةَ مِن الله، ودعا قائلًا: ربِّ وسِّعْ لي صَدري، وسَهِّلْ لي القيامَ بشأنِ الرِّسالةِ، وأطلِقِ الانحِباسَ الشَّديدَ الذي في لساني؛ لِيُبينَ بفَصيحِ المَنطِقِ فيَفهَم النَّاسُ كلامي، واجعَلْ لي مُعينًا مِن أهلي: هارونَ أخي، قَوِّني به وشُدَّ به ظَهري، وأشرِكْه معي في النبُوَّةِ وتبليغِ الرِّسالةِ؛ كي نصلِّيَ لك، ونُنَزِّهَك بالتَّسبيحِ كَثيرًا، ونَذكُرَك كثيرًا فنَحمَدَك ونُثني عليك؛ إنَّك كنتَ بنا بَصيرًا، لا يخفَى عليك شَيءٌ مِن أفعالِنا، فأجاب الله تعالى دعاءَه وقال له: قد أعطيتُك كُلَّ ما سألتَ يا موسى.

تفسير الآيات:

 

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا أظهَر اللهُ تعالى لموسى -عليه السَّلامُ- الآيتينِ، فعَلِمَ بذلك أنَّه مؤيَّدٌ مِن الله تعالى؛ أمَرَه اللهُ بالأمرِ العَظيمِ الذي مِن شأنِه أنْ يُدخِلَ الرَّوعَ في نفسِ المأمورِ به، وهو مواجهةُ أعظَمِ ملوكِ الأرضِ يَومَئذٍ بالموعِظةِ، ومكاشَفتُه بفَسادِ حالِه

.

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24).

أي: اذهبْ -يا موسى- إلى فِرعونَ مَلِكِ مِصرَ، فادعُه إلى توحيدِ الله وطاعتِه، وإرسالِ بني إسرائيلَ معك، وعَدَمِ تَعذيبِهم؛ لأنَّه تجاوَزَ حدَّه، فادَّعى الربوبيَّةَ، وتمرَّدَ على ربِّه، وعلا في الأرضِ، وأفسَد فيها .

كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 17 - 19] .

قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25).

أي: قال موسى: يا ربِّ وسِّعْ لي صدري؛ لأعِيَ ما تُوحيه إليَّ، وأتجرَّأَ على مخاطبةِ فِرعَونَ، وأتحمَّلَ أذاه ووعيدَه، فلا يضيقَ صدري .

وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26).

أي: وسَهِّلْ عليَّ -يا ربِّ- القيامَ بشأنِ الرِّسالةِ، ودَعوةِ فِرعَونَ، واجعَلْ ما تُكَلِّفُني به مِن الطاعاتِ، وما يعتَريني مِن الشَّدائدِ في سبيلِك هيِّنًا عليَّ .

وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27).

أي: وأطلِق الانحِباسَ الشَّديدَ الذي في لِساني؛ كي ينطَلِقَ، ويسْهُلَ عليَّ الكلامُ .

يَفْقَهُوا قَوْلِي (28).

أي: فيفهَمَ النَّاسُ قولي حينَ أُخاطِبُهم .

وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29).

أي: واجعَلْ لي مُعينًا مِن أهلِ بيتي أعتَمِدُ عليه، فيَحمِلُ عني بعضَ ثِقَلِ أمرِ الدَّعوةِ والرِّسالةِ، ويساعِدُني على ما كلَّفتَني به .

هَارُونَ أَخِي (30).

أي: اجعَلْ هارونَ أخي وزيري .

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ موسى: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص: 34] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا [الفرقان: 35] .

وقال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53] .

اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32).

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ أَشْدُدْ بهمزةٍ مفتوحةٍ مقطوعةٍ، وَأُشْرِكْهُ بضَمِّ الهمزةِ: على وجهِ الإخبارِ، فأخبَرَ موسى عليه السلامُ بذلك عن نفسِه، فالمعنى: إن فعلتَ ذلك أَشدُدْ به أزري، وأُشرِكْه في أمري .

2- قراءةُ اشْدُدْ بوَصلِ الألفِ، وَأَشْرِكْهُ بفتحِ الهمزةِ، أتَى بالكـلامِ على طريقِ الدُّعاءِ، أي: اللهُمَّ اشدُدْ به أزري، وأَشرِكْه في أمري .

اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31).

أي: قَوِّ بهارونَ ظَهري، وأعِنِّي به .

كما قال تعالى: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: 35] .

وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32).

أي: واجمَعْ بيني وبينه في النبُوَّةِ، وتبليغِ الرِّسالةِ، فاجعَلْه نبيًّا مِثلَ ما جعلْتَني نبيًّا، وأرسِلْه معي إلى فِرعَونَ .

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33).

أي: اجعَلْ هارونَ أخي عضُدًا لي؛ مِن أجلِ أنْ نتعاوَنَ معًا على عبادتِك، فنصلِّيَ لك، ونعظِّمَك بالتَّسبيحِ لك كثيرًا، تنزيهًا عمَّا لا يليقُ بك .

وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34).

أي: ونذكُرَك ذِكرًا كثيرًا فنُثنيَ عليك ونحمَدَك على نِعَمِك، ونَصِفَك بما يليقُ بك من صِفاتِ كمالِك .

إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35).

أي: إنَّك كنتَ بنا مُبصِرًا، لا يخفَى عليك شَيءٌ مِن أمْرِنا .

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36).

أي: قال الله: قد أُعطيتَ كلَّ ما طَلَبْتَه -يا موسى- مِن شَرحِ صَدرِك، وتيسيرِ أمرِك، وحَلِّ عُقدةٍ مِن لسانِك، وجَعْلِ أخيك هارونَ وزيرًا لك، وإشراكِه في الرِّسالةِ معك

 

.

قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص: 33 - 35] .

الفوائد التربوية:

 

1- سأل موسى عليه السلامُ ربَّه المعونةَ، وتيسيرَ الأسبابِ، التي هي من تمامِ الدعوةِ، فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أي: وسِّعْه وأفسِحْه؛ لأتحمَّلَ الأذَى القوليَّ والفِعليَّ، ولا يتكَدَّرَ قلبي بذلك، ولا يضيقَ صدري؛ فإنَّ الصَّدرَ إذا ضاق لم يصلُحْ صاحِبُه لهدايةِ الخَلقِ ودَعوتِهم. وقال: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ومِن تيسيرِ الأمرِ أنْ يُيسرَ للداعي أنْ يأتيَ جميعَ الأمورِ مِن أبواِبها، ويخاطِبَ كلَّ أحدٍ بما يناسبُ له، ويدعوه بأقربِ الطرقِ الموصلةِ إلى قَبولِ قولِه

.

2- الاستعانةُ إذا كانت بأُولي القُربى من أهلِ النَّسَبِ أو التَّربيةِ أو الاصطناعِ القديمِ للدَّولةِ، كانت أكمَلَ؛ لِما يقعُ في ذلك من مجانسةِ خُلُقِهم لخُلُقِه، فتَتِمَّ المُشاكَلةُ في الاستعانةِ؛ قال تعالى وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي .

3- قولُ الله تعالى حكايةً عن موسى: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا في ختمِ الأدعيةِ بهذه الآيةِ فيه فوائدُ:

منها: تفويضُه إلى الله تعالى بأنَّه أعلَمُ بما فيه صلاحُهم، وأنَّه ما سأل سؤالَه إلَّا بحَسَبِ ما بلَغَ إليه عِلمُه ، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى.

ومنها: أنَّه عرَض فقرَه واحتياجَه على علمِه سبحانَه، وأنَّه مفتقرٌ إلى التعاونِ والتعاضدِ، ولهذا سأَل ما سأَل.

ومنها: أنَّه أعلمُ بأحوالِ أخيه: هل يصلحُ لوزارتِه أم لا، وأنَّ وزارتَه هل تصيرُ سببًا لكثرةِ التسبيحِ والذكرِ.

وحينَ راعَى مِن دقائقِ الأدبِ، وأنواعِ حسنِ الطلبِ ما يجبُ رعايتُه، فلا جرمَ أجاب الله تعالى مطالبَه، وأنجحَ مآربَه، قائلًا: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي هذا سؤالٌ مِن موسى عليه السَّلامُ لربِّه عزَّ وجل: أنْ يَشرَحَ له صَدْرَه فيما بعَثَه به؛ فإنَّه قد أمَرَه بأمرٍ عظيمٍ، وخَطْبٍ جسيمٍ؛ بعَثَه إلى أعظَمِ مَلِكٍ على وَجهِ الأرض إذ ذاك، وأجبَرِهم وأشَدِّهم كُفرًا، وأكثَرِهم جُنودًا، وأعمَرِهم مُلكًا، وأطغاهم وأبلَغِهم تمَرُّدًا، بلغَ مِن أمرِه أنِ ادَّعى أنَّه لا يَعرِفُ اللهَ، ولا يعلَمُ لرعاياه إلهًا غيرَه! هذا وقد مكث موسى في دارِه مُدَّةً وليدًا عندَهم في حِجرِ فِرعَونَ على فراشِه، ثمَّ قَتَل منهم نَفسًا فخافهم أنْ يقتُلوه، فهرب منهم هذه المدَّةَ بكَمالِها، ثمَّ بعد هذا بعَثَه رَبُّه عزَّ وجَلَّ إليهم نذيرًا يدعوهم إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ أنْ يَعبُدوه وَحْدَه لا شَريكَ له

.

2- قولُ الله تعالى حكايةً عن نبيِّه موسى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي فيه أنَّ فصاحةَ لسانِ الدَّاعيةِ إلى الدِّينِ، والواعِظِ المُنذِرِ؛ تُعينُ على تدبُّرِ ما يقولُ، وفِقهِه .

3- قال الله تعالى حِكايةً عن موسى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي لَمَّا أفهَمَ سُؤالُه هذا أنَّ له فيه أغراضًا، أشار إلى أنَّها ليست مَقصودةً له لأمرٍ يَعودُ على نفسِه، بذِكرِ العلَّةِ الحَقيقيَّةِ، فقال: كَيْ نُسَبِّحَكَ... فأفصحَ عن أنَّ المرادَ بالمعاضَدةِ إنَّما هو لتمهيدِ الطَّريقِ إلى اللهِ سُبحانَه .

4- قال الله تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي طلبُ موسى الوزيرَ إمَّا أنْ يكونَ لأنَّه خاف من نفسِه العَجزَ عن القيامِ بذلك الأمرِ، فطلبَ المُعينَ، أو لأنَّه رأى أنَّ للتعاونِ على الدِّينِ، والتظاهُرِ عليه مع مخالصةِ الوُدِّ، وزَوالِ التُّهمةِ؛ مَزِيَّةً عَظيمةً في أمرِ الدُّعاءِ إلى اللهِ؛ ولذلك قال عيسى بنُ مريمَ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران: 52] .

5- قال الله تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي سأل أنْ يكونَ مِن أهلِه؛ لأنَّه من بابِ البِرِّ، وأحَقُّ ببِرِّ الإنسانِ قَرابتُه ، ولأنَّه به أوثَقُ؛ لكونِه عليه أشفَقَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى تخلُّصٌ إلى ما هو المقصودُ مِن تَمهيدِ المُقدِّماتِ السَّالفةِ، فُصِلَ عمَّا قبْلَه مِن الأوامرِ؛ إيذانًا بأصالتِه

.

- وخَصَّ فِرعَونَ بالذِّكرِ -مع أنَّ موسى عليه السلامُ كان مبعوثًا إلى الكُلِّ- لأنَّه ادَّعى الإلهيَّةَ وتكبَّر، وكان مَتبوعًا؛ فكان ذِكرُه أولى .

- قولُه: إِنَّهُ طَغَى تَعليلٌ للأمْرِ أو لوُجوبِ المأمورِ به، وإنَّما صلَحَتْ للتَّعليلِ؛ لأنَّ المُرادَ ذَهابٌ خاصٌّ، وهو إبلاغُ ما أمَرَ اللهُ بإبلاغِه إليه؛ مِن تَغييرِه عمَّا هو عليه من عِبادةِ غيرِ اللهِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، وقال في (الشُّعراءِ): أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ [الشعراء: 10-11] ، وقال في (القَصصِ): إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [القصص: 32] ؛ ففي الآيةِ الأُولى ذكَرَ فِرعونَ وحْدَه؛ لأنَّ قومَه تبَعٌ له، وكأنَّهم مذكورونَ معه، وفي الآيةِ الثَّانيةِ ذكَرَ قومَ فِرعونَ من دُونِه، ومعلومٌ أنَّه منهم، ومُخاطَبٌ بمثْلِ خِطابِهم، فإذا اتَّقَوا وآمَنُوا، كان فِرعَونُ وحْدَه لا يَقدِرُ على مُخالَفَتِهم، فترَك ذِكْرَه؛ لأنَّه في هذه الحالةِ في حُكْمِ التَّابعِ لهم، وخِطابُهم خِطابُه. أمَّا الموضعِ الثَّالثُ فإنَّ الحِكايةَ أتَتْ على فِرعونَ وملَئِه، فبيَّنَت ما انطوَتْ عليه الآياتُ قبْلُ مِنْ ذكْرِ بعضٍ، والاكتفاءِ به عن بعضٍ، وهذا كما قال في موضعٍ لمُوسى وحْدَه: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [طه: 24] ، وفي موضعٍ: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الشعراء: 10] ؛ لأنَّ هارونَ تابعٌ له، وداخِلٌ في حُكْمِه، وأبانَ ذلك في موضعٍ، فقال: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] ، وقال في (طه): فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [طه: 47] .

2- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ يَنساقُ إليه الذِّهْنُ؛ كأنَّه قيل: فماذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين أُمِرَ بهذا الأمْرِ الخطيرِ، والخَطْبِ العسيرِ؟ فقيل: قال مُستعِينًا بربِّه عَزَّ وجَلَّ:... .

- وحُكِيَ جَوابُ مُوسى عن كلامِ الرَّبِّ بفعْلِ القولِ غيرَ معطوفٍ؛ جرْيًا على طَريقةِ المُحاوَراتِ .

- وفائدةُ لفظةِ لِي في قولِه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي مع أنَّ الكلامَ بدُونِه مُستتِبٌّ: أنَّه قد أُبْهِمَ الكلامُ أوَّلًا، فقيل: (اشرَحْ لي ويسِّرْ لي)؛ فعُلِمَ أنَّ ثَمَّ مَشروحًا ومُيسَّرًا، ثُم بُيِّنَ ورُفِعَ الإبهامُ بذِكْرِهما؛ فكان آكَدَ لطلَبِ الشَّرحِ والتَّيسيرِ لصَدْرِه وأمْرِه من أنْ يقولَ: (اشرَحْ صَدْري، ويسِّرْ أمْري) على الإيضاحِ السَّاذجِ؛ لأنَّه تَكريرٌ للمعنى الواحدِ من طَريقيِ الإجمالِ والتَّفصيلِ . وأيضًا زيادةُ لِي بعدَ اشْرَحْ وبعدَ (يَسِّرْ) إطنابٌ؛ لأنَّ الكلامَ مفيدٌ بدُونِه، ولكن سلَك الإطنابَ لِمَا تُفيدُه اللامُ مِن معنى العِلَّةِ، أي: اشرحْ صدري لأجْلي، ويَسِّرْ أمْري لأجلي، وهي اللامُ المُلقَّبَةُ (لامَ التَّبيينِ)، التي تُفيدُ تقويةَ البيانِ؛ فإنَّ قولَه: صَدْرِي وأَمْرِي واضحٌ أنَّ الشرحَ والتيسير متعلِّقان بِه؛ فكان قولُه: لِي فيهما زيادةَ بيانٍ، وهو هنا ضربٌ مِن الإلحاحِ . أو تكونُ فائدتُها الاعترافَ بأنَّ مَنفعةَ شرْحِ الصَّدرِ، وتَيسيرِ الأمْرِ راجعةٌ إليه، وعائدةٌ عليه؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لا يَنتفِعُ بإرسالِه، ولا يَستعينُ بشرْحِ صَدْرِه، تعالى وتقدَّسَ .

- وتَقديمُ هذا المجرورِ على مُتعلَّقِه في قولِه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي؛ لِيحصُلَ الإجمالُ ثُمَّ التَّفصيلُ؛ فيُفيدَ مُفادَ التَّأكيدِ من أجْلِ تَكرُّرِ الإسنادِ . وأيضًا في تَقديمِ لِي وتَكريرِها: إظهارُ مَزيدِ اعتناءٍ بشأْنِ كلٍّ مِن المطلوبَيْنِ، وفضْلُ اهْتمامٍ باستدعاءِ حُصولِهما له، واختصاصِهما به .

- وإضافةُ (أمْرٍ) إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ في قولِه: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي؛ لإفادةِ مَزيدِ اختصاصِه به، وهو أمْرُ الرِّسالةِ .

ومن المُناسَبةِ أيضًا: أنَّ قولَه هنا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي طلَبُ أمانٍ له مِن أنْ يُقتَلَ بمَن قتَلَه، وهذا معنى قولِه: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي [الشعراء: 12-13] ؛ لأنَّهم لو صَدَّقوه لَمَا خاف أنْ يَقْتُلوه. وكذلك قولُه في السُّورةِ الثَّالثةِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص: 33] ، وقولُه: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26] ، مُشتمِلٌ على ذلك وغيرِه؛ لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ إذا يَسَّرَ له أمْرَه، لم يخَفِ القتْلَ .

3- قولُه تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي

- تَنكيرُ عُقْدَةً في قولِه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً للتَّعظيمِ، أي: عُقدةً شَديدةً. وعدَلَ عن أنْ يقولَ: (عُقدةَ لِساني) بالإضافةِ؛ ليَتأتَّى التَّنكيرُ المُشعِرُ بأنَّها عُقدةٌ شَديدةٌ . أو لأنَّه طلَبَ حَلَّ بعْضِها إرادةَ أنْ يُفْهَمَ عنه فَهمًا جيِّدًا، ولم يطلُبِ الفصاحةَ الكاملةَ؛ كأنَّه قيل: عُقدةً من عُقَدِ لِساني .

- في قولِه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي شَبَّه حُبْسَةَ اللِّسانِ بالعُقْدةِ في الحبْلِ أو الخيطِ ونحْوِهما؛ لأنَّها تمنَعُ سُرعةَ استعمالِه .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي، فهو معنى قولِه: وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء: 13] ، وكذلك في سُورةِ (القَصصِ): وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص: 34] ، فطلَبَ أنْ يَحُلَّ عُقدةً مِن عُقَدِ لِسانِه، وأنْ يُؤيَّدَ بأخيه، فأُجِيبَ إليهما. وسائرُ ما ذُكِرَ في سُورةٍ ولم يُذْكَرْ في أُخرى ليس من الاختلافِ الَّذي يُعابُ .

وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّه صَرَّحَ بالعُقْدةِ هنا؛ لأنَّها السَّابقةُ، وفي (الشُّعراءِ): وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي [الشعراء: 13] ، فكَنَّى عن العُقدةِ بما يقرُبُ من الصَّريحِ، وفي (القَصصِ) قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا [القصص: 34] ، فكنَّى عن العُقدةِ كِنايةً مُبْهَمَةً؛ لأنَّ الأوَّلَ يدُلُّ على ذلك .

4- قولُه تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي خَصَّ هارونَ عليه السَّلامُ؛ لفرْطِ ثِقَتِه به، ولأنَّه كان فَصِيحَ اللِّسانِ مِقْوالًا؛ فكونُه من أهْلِه مَظِنَّةَ النُّصحِ له، وكونُه أخاهُ أقْوى في المُناصَحةِ، وكونُه الأخَ الخاصَّ؛ لأنَّه معلومٌ عنده بأصالةِ الرَّأيِ .

- وقَدَّمَ وَزِيرًا على هَارُونَ؛ اعتناءً بشأْنِ الوِزارةِ ، وبيانًا لاهتمامِه بالإعانةِ، كما يقتضيه الحالُ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه: 29، 30]، فصَرَّحَ بالوزيرِ؛ لأنَّه الأوَّلُ في الذِّكرِ، وكَنَّى عنه في (الشُّعراءِ)، حيث قال: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء: 13] ، أي: ليكونَ لي وزيرًا، وفي (القصصِ): فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا [القصص: 34] ، أي: اجعَلْه لي وزيرًا، فكنَّى عنه بقولِه: رِدْءًا؛ لبَيانِ الأوَّلِ .

5- قولُه تعالى: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كلاهما على صِيغَةِ الدُّعاءِ، وفُصِلَ الأوَّلُ عن الدُّعاءِ السَّابقِ -أي: لم يُعْطَفْ عليه-؛ لكَمالِ الاتِّصالِ بينهما؛ فإنَّ شَدَّ الأزْرِ عبارةٌ عن جَعْلِه وزيرًا، وأمَّا الإشراكُ في الأمْرِ فحيث كان من أحكامِ الوزارةِ توسَّطَ بينهما العاطِفُ .

- قولُه: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي المرادُ بالأزرِ الظَّهرُ؛ ليُناسِبَ الشدَّ؛ فيَكونَ الكلامُ تَمثيلًا لهَيئةِ المُعينِ والمُعانِ بهَيئةِ مَشدودِ الظَّهرِ بحزامٍ ونحْوِه وشادِّه .

6- قولُه تعالى: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا قَدَّمَ التَّسبيحَ؛ لأنَّه تَنزيهُه تعالى في ذاتِه وصفاتِه، وبَراءتُه عن النَّقائصِ، ومَحلُّ ذلك القلْبُ، والذِّكْرُ والثَّناءُ على اللهِ بصفاتِ الكَمالِ، ومَحلُّه اللِّسانُ؛ فلذلك قَدَّمَ ما مَحلُّه القلْبُ على ما مَحلُّه اللِّسانُ ، أو لأنَّ التسبيحَ لما كان ذكرًا خاصًّا؛ لكونِه بالتنزيهِ الذي أعلاه التوحيدُ؛ أتبعَه العامَّ فقال: وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ، وهذان الوجهانِ بناءً على تفسيرِ التسبيحِ بالتنزيهِ.

7- قولُه تعالى: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا تَعليلٌ لسُؤالِه شرْحَ صدْرِه وما بعْدَه .

8- قولُه تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى

- في تَكرارِ النِّداءِ يَا مُوسَى: تَشريفٌ له عليه السَّلامُ بشرَفِ الخِطابِ إثْرَ تَشريفِه بشرَفِ قَبولِ الدُّعاءِ

==================

 

سورةُ طه

الآيات (37-41)

ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ

غريب الكلمات:

 

التَّابُوتِ: أي: الصُّندوقِ، قيل: وزنُه فَعْلوتٌ من التَّوْبِ، فإنَّه لا يزالُ يَرجِعُ إِليه ما يخرُجُ منه

.

بِالسَّاحِلِ: أي: شاطئِ البَحرِ، قيل: أصلُه من: سَحَلَ الحديدَ، أي: بَرَدَه وقَشَرَه؛ لأنَّ الماءَ يفعلُ به ذلك، فقيل: أصلُه أنْ يكونَ مَسْحولًا، لكن جاء على لفظِ الفاعلِ، وقيل: بل هو على بابِه، وتُصوِّر منه أنَّه يَسْحَلُ الماءَ، أي: يُفرِّقه ويُضيِّعه .

يَكْفُلُهُ: أي: يَضُمُّه، والكَفالةُ: الضَّمانُ، وأصلُه يدُلُّ على تَضَمُّنِ الشَّيءِ لِلشَّيءِ .

تَقَرَّ عَيْنُهَا: أي: تطيبَ نَفسُها، قيل: أصلُه من القُرِّ، أي: البَردِ، فَقَرَّتْ عينُه، قيل: معناه بَرَدَت فصحَّت، وقيل: هو من القَرارِ، والمعنى: أعطاه اللهُ ما تَسكُنُ به عينُه، فلا يطمَحُ إلى غيرِه .

وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا: أي: اختَبَرناك اختبارًا، والفتنةُ في الأصْلِ: الاختِبارُ والابتِلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ من الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهَبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه مِن رداءتِه .

قَدَرٍ: أي: ميقاتٍ ووَقتٍ ومِقدارٍ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مبلغِ الشَّيءِ وكُنهِه ونهايتِه .

وَاصْطَنَعْتُكَ: أي: اصطفيتُك، واختَرتُك، والاصطِناعُ: المبالغةُ في إصلاحِ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مذكِّرًا موسى عليه السلامُ ببعضِ مِنَنِه عليه: ولقد أنعَمْنا عليك يا موسى -قبلَ هذه المرَّةِ- بنِعمةٍ أُخرى، حين كنتَ رَضيعًا، إذ ألهَمْنا أمَّك ما ألهمْناها مِن أمرٍ عظيمٍ يتعلَّقُ بنجاتِك، وهو أنْ تضَعَك في الصُّندوقِ، ثمَّ تَقذِفَك في النِّيلِ، وبأمرِنا وقدرتِنا يُلقيك النِّيلُ على الشَّاطئِ، فيأخُذُك فِرعَونُ الذي هو عدوِّي وعَدُوُّك، وأحببتُك، ووضعْتُ لك القَبولَ بينَ النَّاسِ، فصِرتَ بذلك مَحبوبًا بينهم، ولِتُرَبَّى على عيني وفي حِفظي.

ومِن مظاهِرِ هذه العنايةِ والحِفظِ والمنَّةِ عليك ما يجِبُ تذكُّرُه، وذلك حينَ كانت أختُك تمشي تتَّبِعُك ثمَّ تقولُ لِمَن أخذوك: هل أدلُّكم على مَن يكفُلُه، ويُرضِعُه لكم؟ فرَدَدْناك إلى أمِّك بعدما صِرْتَ في يدِ فِرعَونَ؛ كي تطيبَ نَفسُها بسَلامتِك، ولا تحزَنَ على فَقْدِك، وقتَلْتَ الرَّجُلَ القِبطيَّ خطأً، فنجَّيناك مِن الغمِّ، واختَبرناك اختبارًا بإيقاعِك في المحنِ، وتخليصِك منها، فخرَجْتَ خائِفًا إلى أهلِ «مَدْينَ»، فمَكَثْتَ سِنينَ فيهم، ثمَّ جِئْتَ إلى الوادِ المقَدَّسِ في الموعدِ الذي قدَّرناه لِمَنحِك النبوَّةَ، مجيئًا مُوافِقًا لقَدَرِ اللهِ وإرادتِه، وأنعَمْتُ عليك -يا مُوسى- بهذه النِّعَمِ الكثيرةِ؛ لتكونَ لي حبيبًا مختَصًّا، ورسولًا لتبليغِ رِسالتي.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى مِنَّتَه على موسى -عليه السَّلامُ- في الدينِ والوَحيِ، والرِّسالةِ وإجابةِ سُؤالِه؛ ذكَرَ نِعمَتَه عليه وقتَ التَّربيةِ، والتنَقُّلاتِ في أطوارِه

.

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37).

أي: ولقد أحسنَّا إليك -يا موسى- وأنْعَمْنا عليك قبلَ هذه المرَّة -أي: قبلَ نِعمةِ الوحيِ والرِّسالةِ وإجابةِ الدُّعاءِ- مرَّةً أخرى، وأنت طفلٌ صغيرٌ .

إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38).

أي: وذلك قد وقع حينَ ألهَمْنا أمَّك في شأنِك ما يُلْهَمُ .

كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] .

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39).

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ.

أي: فأوحَينا إليها أنْ ألْقِ ابنَك موسى في الصُّندوقِ .

فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ.

أي: فاطرَحيه وهو في الصُّندوقِ في نهرِ النِّيلِ .

فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ.

أي: فلْيُلقِ نهرُ النِّيلِ موسى وهو في داخِلِ الصُّندوقِ بالشَّاطئِ .

يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ.

أي: وحينئذٍ يأخُذُ موسى فِرعَونُ الذي هو عدوٌّ لي وعدوٌّ لموسى .

كما قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] .

وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي.

أي: أحبَبْتُكَ وجعلتُك محبوبًا لكلِّ من يراك، ووضعتُ لك القَبولَ بينَ النَّاسِ .

وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.

أي: ولتُغذَّى وتُربَّى في قصر فِرعَون على ما أُريدُ بمرأًى منِّي، وتحت حِفْظي ورعايتي .

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40).

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ.

أي: حينَ كانت أختُك تمشي لِتتَّبِعَك حتى وجدَتْك في أيدي آلِ فِرعَونَ يَطلُبونَ لك مُرضِعًا فتَقولُ لهم: هل أدلُّكم على من يضُمُّ هذا الطِّفلَ إليه، ويقومُ بمَصالحِه وخِدمتِه، فيُرضِعُه ويُرَبِّيه ويحفَظُه ؟

كما قال تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص: 10 - 12] .

فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ.

أي: فرَدَدْناك إلى أمِّك بعدَما صرتَ في أيدي آلِ فِرعَون؛ لكي تفرَحَ بلُقياك وسَلامتِك، ولا تحزَنَ على فَقدِك وفِراقِك .

وَقَتَلْتَ نَفْسًا.

أي: وقتلتَ الرجُلَ القبطيَّ من آلِ فِرعَونَ حينَ استغاثَك الإسرائيليُّ عليه، وكانَ قتلُه له خطأً .

كما قال تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص: 15] .

فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ.

أي: فنجَّيناك من غمِّك لَمَّا أراد آلُ فِرعَون قَتْلَك اقتصاصًا للقبطيِّ، ففَرَرتَ منهم خائفًا إلى مَدْينَ .

كما قال تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 20، 21].

وقال سُبحانَه: فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25].

وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا.

أي: واختَبرناك اختبارًا بإيقاعِك في المحنِ، وتخليصِك منها .

فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ.

أي: فلمَّا خرجتَ من مصرَ خائفًا إلى مَدْينَ أقمتَ سنينَ كثيرةً عندَ أهلِها .

كما قال تعالى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص: 21-22] .

وقال سُبحانَه: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص: 27 - 29] .

ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى.

أي: ثم حَضَرتَ الآن -يا موسى- إلى الوادِ المقَدَّسِ في الوقتِ المحدَّدِ الذي قدَّرتُه، وأردتُ فيه منْحَك النبوَّةَ، وتكليفَك بإبلاغِ الرِّسالةِ إلى فِرعَونَ، بلا تقدُّمٍ ولا تأخُّرٍ .

وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41).

أي: واصطفيتُك وأنعمتُ عليك بالنِّعَم الكثيرةِ؛ لأجل أنْ تكونَ لي حبيبًا مختَصًّا، ورسولًا لتبليغ رسالتي

 

.

كما قال تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى فيه سؤالٌ: لمَ قال تعالى: مَرَّةً أُخْرَى مع أنَّه تعالى ذكَرَ مِننًا كثيرة؟

الجوابُ: أنَّه لم يَعنِ بـ مَرَّةً أُخْرَى مرةً واحدةً مِن المِنَنِ؛ لأنَّ ذلك قد يُقالُ في القليلِ والكثيرِ

.

2- قولُ الله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أصلٌ في الحضانةِ .

3- قولُ الله تعالى: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فيه سؤالٌ: أنَّ الله تعالى عدَّد أنواعَ مِنَنِه على موسى عليه السَّلامُ في هذا المقامِ، فكيف يليقُ بهذا الموضِعِ قَولُه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا؟

والجوابُ مِن وُجوهٍ، منها:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الفِتنةَ تَشديدُ المحنةِ، ولَمَّا كان التَّشديدُ في المحنةِ مِمَّا يُوجِبُ كثرةَ الثوابِ، لاجرمَ عدَّه اللهُ تعالى من جملةِ النِّعَمِ.

الوجهُ الثاني: أنَّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا أي: خَلَّصناك تخليصًا، مِن قَولِهم: فتَنْتُ الذَّهَبَ مِن الفِضَّةِ: إذا أردْتَ تخليصَه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَقريرِ ما قبْلَه، وزيادةِ تَوطينِ نفْسِ مُوسى عليه السَّلامُ بالقَبولِ، ببَيانِ أنَّه تعالى حيثُ أنعَمَ عليه بتلك النِّعمِ التَّامَّةِ من غيرِ سابقةِ دُعاءٍ منه وطلَبٍ، فلأَنْ يُنعِمَ عليه بمثْلِها وهو طالبٌ له وداعٍ أَوْلى وأحْرى

. وقيل: إنَّها معطوفةٌ على جُملةِ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36] ؛ لأنَّ جُملةَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ تتضمَّنُ مِنَّةً عليه، فعُطِفَ عليها تَذكيرٌ بمِنَّةٍ عليه أُخرى في وقْتِ ازديادِه؛ ليَعلَمَ أنَّه لمَّا كان بمَحلِّ العنايةِ من رَبِّه من أوَّلِ أوقاتِ وُجودِه؛ فهذا طَمأنةٌ لفُؤادِه، وشَرْحٌ لصَدْرِه؛ ليَعلَمَ أنَّه سيكونُ مُؤيَّدًا في سائرِ أحوالِه المُستقبَلةِ .

- قولُه: وَلَقَدْ تَصديرُه بالقسَمِ؛ لكَمالِ الاعتناءِ، أي: وباللهِ لقد أنعَمْنا ، وتأكيدُ الخبرِ بلامِ القسَمِ و(قد)؛ لتَحقيقِ الخبرِ .

- وقولُه: مَرَّةً أُخْرَى إجمالٌ يُفسِّرُه قولُه: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ ... .

2- قولُه تعالى: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى هذا كَلامٌ مُجمَلٌ؛ فائدتُه: الإشارةُ إلى أنَّه ليس كلُّ الأُمورِ ممَّا يُوحَى إلى النِّساءِ، كالنُّبوَّةِ ونحْوِها، أو التَّعظيمُ والتَّفخيمُ أوَّلًا، كما في قولِه تعالى: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [النجم: 54] ، والبَيانُ ثانيًا بقولِه: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ .

- والتَّعبيرُ بالموصولِ مَا يُوحَى مُفيدٌ أهميَّةَ ما أُوحِيَ إليها، ومُفِيدٌ تأكيدَ كونِه إلهامًا من قِبَلِ الحقِّ .

- وفيه تَفسيرٌ بعْدَ الإبهامِ ، وهذا النَّوعُ يُؤْتَى به لتَفخيمِ أمْرِ المُبْهَمِ وإعظامِه، وذلك في قولِه تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى؛ ففي الآيةِ أبهَمَ الكلامَ، وأتى به مُجْملًا؛ ليتعلَّقَ الذِّهنُ، ويتطلَّعَ ما عسى أنْ يكونَ السُّؤالُ؟ وما هي المِنَّةُ الأُخرى؟ وما عسى أنْ يَرْدَفَها من مِنَنٍ وآلاءٍ، فيأتي قولُه بعْدَ ذلك مُفسِّرًا ما أُبْهِمَ، فيقولُ: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ .

3- قولُه تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.

- قد أُبْهِمَ مَا يُوحَى، ثمَّ فُسِّرَ بالأمْرِ بقذْفِه في التَّابوتِ وقذْفِه في البحرِ؛ أُبْهِمَ أوَّلًا؛ تَهويلًا له وتَفخيمًا لشأْنِه، ثمَّ فُسِّرَ؛ ليكونَ أقَرَّ عندَ النَّفسِ .

- وقولُه: فَلْيُلْقِهِ قِيلَ: أمْرٌ معناهُ الخبَرُ، وجاء بصِيغَةِ الأمْرِ مُبالَغةً؛ إذ الأمْرُ أقطَعُ الأفعالِ وأوجَبُها. وقيل: إنَّما ذكَرَهُ بلفظِ الأمْرِ لِسَابِقِ عِلْمِه بوُقوعِ المُخبَرِ به على ما أخبَرَ به، فكأنَّ البحرَ مأمورٌ مُمتثِلٌ للأمْرِ. أو فيه معنى المُجازاةِ، أي: اقْذفيهِ يُلْقِه الْيَمُّ .

- في قولِه: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ كرَّرَ عَدُوٌّ؛ للمُبالَغةِ والتَّصريحِ بالأمْرِ، والإشعارِ بأنَّ عَداوتَه له مع تحقُّقِها لا تُؤثِّرُ فيه ولا تضُرُّه، بل تُؤدِّي إلى المحبَّةِ. وقيل: إنَّ الأوَّلَ العدُوُّ باعتبارِ الواقعِ، والثَّاني باعتبارِ المُتوقَّعِ .

- وفي قولِه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي نكَّرَ المحبَّةَ وأسْنَدَها إليه سُبحانَه؛ لأمْرينِ؛ الأوَّلِ: ما في التَّنكيرِ من الفَخامةِ الذَّاتيَّةِ، كأنَّها مَحبَّةٌ تَعْلو على الحُبِّ المُتعارَفِ المُتبادَلِ بين المخلوقاتِ. الثَّاني: ما في إسنادِها إليه من الفَخامةِ الإضافيَّةِ، أي: مَحبَّةً عظيمةً مِنِّي، وقد زرعْتُها في القُلوبِ، وركزْتُها في السَّرائرِ ومُنطوياتِ الضَّمائرِ؛ فسُبحانَ المُتكلِّمِ بهذا الكلامِ !

- والتعبيرُ بالإلقاءِ في قولِه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، يعني خَلْقَ المحَبَّةِ في قلبِ المحبِّ بدونِ سببٍ عاديٍّ حتَّى كأنَّه وضعٌ باليدِ لا مُقتَضٍ له في العادةِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي فأُفْرِدَتِ العينُ، خلافًا للجمْعِ في مِثْلِ قولِه تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48].

ووجْهُه: أنَّ قولَه سُبحانَه: بِأَعْيُنِنَا مُضافٌ إلى ضَميرِ جَمْعٍ، والمُرادُ به اللهُ وحْدَه بلا نزاعٍ، ومِثْلُ هذا كثيرٌ في القُرآنِ؛ يُسمِّي الرَّبُّ نفْسَه مِن الأسماءِ المُضمرَةِ بصِيغَةِ الجَمْعِ على سَبيلِ التَّعظيمِ لنفْسِه، كقولِه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1] ، وقولِه: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 32] ، فلَمَّا كان المُضافُ إليه لفْظُه لَفْظُ الجَمْعِ، جاء المُضافُ كذلك، فقيل: بِأَعْيُنِنَا، أمَّا في قِصَّةِ مُوسى فإنَّه لمَّا أَفْرَدَ المُضافَ إليه أَفْرَدَ المُضافَ؛ فقيل: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي .

وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ الإفرادَ هنا سَبَبُهُ الاختصاصُ الَّذي خُصَّ به مُوسى في قولِه تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، فاقْتَضى هذا الاختصاصُ الاختصاصَ الآخرَ في قولِه: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي؛ فإنَّ هذه الإضافةَ إضافةُ تَخصيصٍ، وأمَّا قولُه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] وقولُه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] ، فليس فيه مِن الاختصاصِ ما في صُنْعِ مُوسى على عَينِه سُبحانه وتعالى، واصْطناعِه إيَّاهُ لنفْسِه، وما يُسْنِدُهُ سُبحانَه إلى نفْسِه بصِيغَةِ ضَميرِ الجَمْعِ قد يُرِيدُ به ملائكتَه، كقولِه تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ [القيامة: 18] ، وقولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [يوسف: 3] ونظائرِه؛ فتأمَّلْهُ .

- ومن المُناسبةِ أيضًا في قولِه تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي عُدِّيَ الفِعْلُ بـ (على)، خِلافًا للتَّعديةِ بالباءِ في مِثْلِ قولِه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وقولِه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] .

ووجْهُه: أنَّ الآيةَ الأُولى وردتْ في إظهارِ أَمْرٍ كان خَفِيًّا؛ وإبْداءِ ما كان مَكْتومًا؛ فإنَّ الأطفالَ إذ ذاك كانوا يُغْذَونَ، ويُصنعونَ سِرًّا، فلمَّا أراد أنْ يُصْنَعَ مُوسى عليه السَّلامُ ويُغْذَى ويُرَبَّى على حالِ أمْنٍ وظُهورٍ، لا تحْتَ خَوفٍ واستسرارٍ، دخلَتْ (على) في اللَّفظِ؛ تَنبيهًا على المعنى؛ لأنَّها تُعْطِي الاستعلاءَ -والاستعلاءُ: ظُهورٌ وإبْداءٌ-، فكأنَّه يقولُ سُبحانَه وتعالى: (ولِتُصْنَعَ على أمْنٍ، لا تحتَ خوفٍ)، وذِكْرُ العينِ لِتَضَمُّنِها معنى الرِّعايةِ والكِلاءةِ، وأمَّا قولُه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وقولُه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] ، فإنَّه إنَّما يُرِيدُ: برِعايةٍ مِنَّا وحِفْظٍ، ولا يريدُ إبْداءَ شَيءٍ، ولا إظْهارَه بعْدَ كَتْمٍ، فلم يُحْتَجْ في الكلامِ إلى معنى (على) بخلافِ ما تقَدَّمَ .

4- قولُه تعالى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى

- قولُه: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ عبَّرَ بصِيغَةِ المُضارعِ في الفعلينِ؛ لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ ، والاستفهامُ في هَلْ أَدُلُّكُمْ للعرْضِ .

- والفاءُ في قولِه: فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ فَصيحةٌ مُعرِبةٌ عن مَحذوفٍ قبْلَها يُعطَفُ عليه ما بعْدَها، أي: فقالوا: دُلِّينا عليها، فجاءت بأُمِّك، فرَجعْناك إليها .

- قولُه: كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ عطَفَ نفْيَ الحُزنِ على قُرَّةِ العينِ؛ لتَوزيعِ المِنَّةِ؛ لأنَّ قُرَّةَ عَينِها برُجوعِه إليها، وانتفاءَ حُزْنِها بتَحقُّقِ سَلامتِه من الهَلاكِ ومن الغَرقِ، وبُوصولِه إلى أحسَنِ مأوًى. وتَقديمُ قُرَّةِ العينِ على انتفاءِ الحُزْنِ، مع أنَّها أخَصُّ فيُغْني ذِكْرُها عن ذِكْرِ انتفاءِ الحُزْنِ؛ رُوعِيَ فيه مُناسبةُ تَعقيبِ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ بما فيه من الحِكمةِ، ثمَّ أكمَلَ بذِكْرِ الحِكمةِ في مَشْيِ أُخْتِه، فتقولُ: هل أدُلُّكم على مَن يَكفُلُه في بَيتِها؟ كما كانتِ العادةُ في ذلك الوقتِ .

- وجُملةُ: وَقَتَلْتَ عطْفٌ على جُملةِ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى؛ لأنَّ المذكورَ في جُملةِ وَقَتَلْتَ نَفْسًا مِنَّةٌ أُخْرى ثالثةٌ، وقُدِّمَ ذِكْرُ قتْلِه النَّفسَ على ذِكْرِ الإنجاءِ من الغَمِّ؛ لتَعظيمِ المِنَّةِ، حيث افتُتِحَتِ القصَّةُ بذِكْرِ جِنايةٍ عظيمةِ التَّبِعَةِ، وهي قتْلُ النَّفسِ؛ ليكونَ لقولِه: فَنَجَّيْنَاكَ موقعٌ عظيمٌ منَ المِنَّةِ؛ إذ أنجاهُ من عُقوبةٍ لا يَنْجو مِن مثْلِها مثْلُه .

- قولُه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا إجمالٌ لِمَا نالهُ في سفَرِه من الهجرةِ عنِ الوطنِ، ومُفارَقةِ الأحبابِ، والمَشْيِ راجلًا على حذَرٍ، وفَقْدِ الزَّادِ، وأجْرِ نفْسِه، إلى غيرِ ذلك. أوْ له ولِمَا سبَقَ ذِكْرُه ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ، والتَّقديرُ: وفتنَّاكَ فُتونًا، فخرجْتَ خائفًا إلى أهْلِ مَدْينَ، فلبِثْتَ سِنينَ... .

- وأيضًا قولُه: فُتُونًا مفعولٌ مُطلَقٌ -على أحدِ القولينِ- لتأكيدِ عامِلِه، وهو قولُه: (فَتَنَّاكَ)، وتَنكيرُه للتَّعظيمِ، أي: فُتونًا قوِيًّا عظيمًا. والتَّنوينُ في فُتُونًا للتَّقليلِ -فيما يظهرُ- وتكونُ جُملةُ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا كالاستدراكِ على قولِه: فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ، أي: نجَّيناك وحصَلَ لك خوفٌ .

- قولُه: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى فيه كِنايةٌ عن العِنايةِ بتَدبيرِ إجراءِ أحوالِه على ما يُسفِرُ عن عاقِبَةِ الخيرِ .

- وفي كَلمةِ التَّراخي ثُمَّ إيذانٌ بأنَّ مَجيئَه عليه السَّلامُ كان بعْدَ اللَّتَيَّا والَّتي ؛ من ضَلالِ الطَّريقِ، وتفرُّقِ الغنَمِ في اللَّيلةِ المُظْلمةِ الشَّاتيةِ، وغيرِ ذلك .

- وعَلَى للاستعلاءِ، بمعنى التَّمكُّنِ؛ جعَلَ مَجِيئَه في الوقْتِ الصَّالحِ للخيرِ بمَنزِلَةِ المُسْتعلي على ذلك الوقْتِ المُتمكِّنِ منه .

- وقولُه: يَا مُوسَى تَشريفٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتَنبيهٌ على انتهاءِ الحكايةِ الَّتي هي تَفصيلُ المرَّةِ الأُخرى الَّتي وقعَتْ قبْلَ المرَّةِ المَحْكيَّةِ أوَّلًا .

5- قولُه تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي خُتِمَ الامتنانُ بما هو كالفذلكة، وذلك جُملةُ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي الَّذي هو بمَنزِلَةِ رَدِّ العجُزِ على الصَّدرِ على قولِه: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ  ... الآيةَ، وهو تخلُّصٌ بَديعٌ إلى الغرَضِ المقصودِ، وهو الخِطابُ بأعمالِ الرِّسالةِ، المُبتدأُ من قولِه: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه: 13] ، ومن قولِه: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه: 24] .

- والعُدولُ في وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عن نُونِ العَظمةِ الواقعةِ في قولِه: وَفَتَنَّاكَ ونَظيرَيه السَّابقينِ: تَمهيدٌ لإفرادِ لفْظِ (النَّفسِ) اللَّائقِ بالمَقامِ؛ فإنَّه أدخَلُ في تَحقيقِ معنى الاصطناعِ والاستخلاصِ، أي: اصْطفيتُك برِسالاتي وبِكَلامِي

===============

 

سورةُ طه

الآيات (42 - 55)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ

غريب الكلمات:

 

تَنِيَا: أي: تَفتُرا، وتُقَصِّرا، وتَضعُفا، وأصلُ (وني): يدُلُّ على ضَعْفٍ

.

يَفْرُطَ: أي: يبادِرَ ويَعجَلَ، والفَرَطُ: التقَدُّمُ والسَّبقُ، وأصلُه يدُلُّ على إزالةِ شَيءٍ مِن مكانِه، وتَنحيتِه عنه .

يَطْغَى: أي: يستعصي ويتَعَدَّى، وأصلُ الطُّغيانِ: مجاوزةُ الحَدِّ في العِصيانِ .

بَالُ: أي: حالُ وشَأنُ، والبالُ: الحالةُ التي يُكتَرَثُ لها .

مَهْدًا: أي: فِراشًا قَرارًا ثابِتَةً، والمهدُ والمِهادُ: المكانُ المُمَهَّدُ الموطَّأُ، وأصلُ (مهد): يدُلُّ على توطئةٍ، وتسهيلٍ للشَّيءِ .

وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا: أي: سهَّل لكم طرُقًا داخِلةً في الأرض مُتَخَلِّلةً فيها. والسَّلْكُ: إدخالُ الشَّيءِ في الشَّيءِ، والنُّفوذُ فيه، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتدادِ شَيءٍ .

أَزْوَاجًا: أي: أنواعًا وأصنافًا، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ .

نَبَاتٍ شَتَّى: أي: مختَلِفِ الألوانِ والطُّعومِ والأنواعِ، وشتَّى جمعُ شتيتٍ، والشَّتيتُ: المتفرِّقُ، وأصلُ (شتت): يدُلُّ على تفَرُّقٍ وتزَيُّلٍ .

لِأُولِي النُّهَى: أي: لأصحابِ العُقولِ. وواحِدُ النُّهى نُهيَةٌ؛ سمِّيَ بذلك لأنَّه يُنتهَى به عن القَبائِحِ، وأصلُه يدُلُّ على الحَبسِ .

تَارَةً أُخْرَى: أي: مرةً أُخرَى، قيل: هو مِن تار الجرحُ: الْتَأم. وقيل: الفعلُ منها: أترت، أي: أعدتُ، تارةً، وتارتينِ، وتِيَرًا

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى

قَولُه: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى في هذه الآيةِ وَجهانِ: أحدُهما: أن يكونَ كُلَّ مفعولًا أولَ، و خَلْقَهُ مَفعولًا ثانيًا، على معنى: أعطى كلَّ شيءٍ صورتَه وشكلَه الذي يطابقُ المنفعةَ المنوطةَ به، أو أعطى كلَّ حيوانٍ نظيرَه في الخَلْق والصُّورةِ، ولم يزاوِجْ شيءٌ منها غيرَ جنسِه، ولا ما هو مخالِفٌ لخَلْقِه. والثاني: أن يكونَ كُلَّ مَفعولًا ثانيًا مُقَدَّمًا، وخَلْقَهُ مَفعولًا أوَّلَ مُؤخَّرًا، والمعنى: أعطى خليقتَه كلَّ شيءٍ يحتاجونَ إليه ويَرتفِقونَ به

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى مبينًا ما كلَّف به موسَى وهارونَ عليهما السلامُ: اذهَبْ -يا موسى- أنت وأخوك هارونُ بأدلَّتي ومُعجِزاتي الدالَّةِ على صِدقِكما، ولا تَضْعُفا عن ذِكري، بل داوما عليه. اذهبَا معًا إلى فِرعَونَ؛ لأنَّه قد جاوز الحَدَّ في الكُفرِ والظُّلمِ والعِصيانِ، فقُولا له قَولًا لَطيفًا لا غلظةَ فيه؛ وأنتما ترجوانِ أن يتذكَّرَ أو يخافَ حلولَ العذابِ فيطيعَ ربَّه.

ثمَّ يحكي الله تعالى ما قاله موسَى وهارونُ عندما كلَّفهما بما كلَّفهما به، فيقولُ تعالى: قال موسى وهارونُ: ربَّنا إنَّنا نخافُ أن يُعاجِلَنا بالعُقوبةِ، أو أن يتمَرَدَّ على الحَقِّ فلا يقبَلَه.

قال الله لِموسى وهارونَ مثبتًا لهما: لا تخافَا مِن فِرعَونَ؛ فإنَّني معكما بالنَّصرِ والإعانةِ والحِفظِ، أسمَعُ وأرى.

ثمَّ بيَّن الله تعالى لهما طريقةَ دعوةِ فرعونَ، فقال: فاذهبَا إليه وقولَا له: إنَّنا رسولانِ إليك من رَبِّك، فأطلِقْ بني إسرائيلَ ولا تُعَذِّبْهم، قد أتيناك بمُعجزةٍ مِن رَبِّك تدُلُّ على صِدقِنا، والسَّلامةُ مِن عذابِ اللهِ تعالى لِمَن اتَّبَع هُداه. إنَّ الله قد أوحَى إلينا أنَّ عذابَه على مَن كذَّب، وأعرَضَ عن اتِّباعِ الحَقِّ.

ثمَّ ذكَر الله تعالى جانبًا مِن الحوارِ الذي دارَ بينَهما وبينَ فرعونَ، فقال تعالى: قال فِرعَونُ لهما: فمَن ربُّكما يا موسى؟ قال له موسى: ربُّنا الذي أعطى كلَّ مخلوقٍ صورتَه وشكلَه اللَّائِقَ به، وأعطاهم كلَّ ما يَحتاجونَه، ثمَّ هدى كلَّ مخلوقٍ إلى الانتِفاعِ بما خلَقَه الله له. قال فِرعَونُ لِموسى: فما شأنُ القُرونِ الماضيةِ، الذين لم يؤمِنْ أهلُها باللهِ؟ قال موسى لفِرعَونَ: عِلْمُ تلك القرونِ الماضيةِ وأعمالُ أهلِها كُلُّها مكتوبةٌ عند ربِّي في اللَّوحِ المحفوظِ، ولا عِلْمَ لي بهم، لا يخطئُ رَبِّي في أفعالِه وأحكامِه وتدبيرِ خَلقِه، ولا ينسى شيئًا مِن أعمالِ عبادِه، ولا يتركُ ما هو حكمةٌ وصوابٌ.

هو الذي جعل لكم الأرضَ مُمهَّدةً تَسكُنونَ عليها، وميسَّرةً للانتِفاعِ بها، وجعلَ لكم فيها طرُقًا كثيرةً، وأنزلَ مِن السَّماءِ مَطَرًا، فأخرجَ به أنواعًا مختلفةً مِن النَّباتِ.

كُلُوا -أيُّها النَّاسُ- من طيِّباتِ ما أنبَتْنا لكم، وارعَوا فيها بَهائِمَكم، إنَّ في كلِّ ما ذُكِرَ لَعلاماتٍ لذوي العُقولِ على قُدرةِ الله ورحمتِه واستحقاقِه للعبادةِ.

مِن هذه الأرضِ خَلَقْنا أباكم آدَمَ، الذي هو أصلُكم، وإليها تعودونَ بعدَ مَوتِكم، ومِنها تُبعَثونَ للحِسابِ والجزاءِ يومَ القيامةِ.

تفسير الآيات:

 

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا عَدَّد اللهُ سُبحانَه وتعالى على موسى -عليه السَّلامُ- المِنَنَ الثَّمانيةَ

في مقابلةِ الالتماساتِ الثمانيةِ، رَتَّب على ذِكرِ ذلك أمرًا ونهيًا .

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى أمَرَ موسى -عليه السَّلامُ- بالذَّهابِ إلى فِرعَونَ، فلمَّا دعا ربَّه وطلب منه أشياءَ، كان فيها أن يُشرِكَ أخاه هارونَ، فذَكَرَ اللهُ أنَّه آتاه سُؤلَه، وكان منه إشراكُ أخيه، فأمَرَه هنا وأخاه بالذَّهابِ .

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي.

أي: اذهَبْ أنت وأخوك هارونُ إلى فِرعَونَ بأدلَّتي وحُجَجي ومُعجِزاتي الدالَّةِ على صِدقِكما .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا [الفرقان: 35، 36].

وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي.

أي: ولا تَضعُفا، ولا تَفتُرا عن ذِكري، بل لازِماه واستَمِرَّا عليه .

اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43).

أي: اذهَبا إلى فِرعَونَ؛ لأنه تمرَّدَ وتجاوَز الحَدَّ في الكفرِ والعِصيانِ، والتكَبُّرِ والعُدوانِ .

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44).

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا.

أي: فقُولا له عندَ دعوتِه إلى الله قولًا رقيقًا لطيفًا، لا غِلظةَ فيه، ولا تنفيرَ .

كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 17 - 19].

لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.

أي: اذهَبا إلى فِرعَونَ وأنتما تَرجُوانِ بقَولِكما اللَّيِّنِ أن يتذكَّرَ ما هو غافِلٌ عنه مِن التَّوحيدِ الموافِقِ لِما في فطرتِه مِن العِلمِ الذي يَعرِفُ به رَبَّه، ويَعرِفُ إنعامَه عليه وإحسانَه إليه، وافتقارَه إليه، فيَدعُوَه ذلك إلى الإيمانِ باللهِ والرُّجوعِ عن ضلالِه؛ أو يخشى حُلولَ العَذابِ فيَترُكَ طغيانَه، ويُطيعَ ربَّه .

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45).

أي: قال موسى وهارونُ: ربَّنا إنَّنا نخافُ مِن فِرعونَ أن يعجِّلَ بعُقوبتِنا قبلَ أن نَدعُوَه إلى ما أمَرْتَنا به، أو أن يتكبَّرَ ويتمرَّدَ على طاعتِك .

قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46).

قَالَ لَا تَخَافَا.

أي: قال اللهُ لهما: لا تخافَا مِن فِرعَونَ .

إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى.

أي: إنَّني معكما بالنَّصرِ والإعانةِ والحِفظِ والتَّأييدِ، أسمَعُ كلامَكما وكلامَ فِرعَونَ، وأراكم وأرى أفعالَكم وأحوالَكم جميعًا؛ فاطمَئِنَّا ولا تخافا منه .

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47).

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ.

أي: فاذهَبا إلى فِرعَونَ فقولا له: إنَّا رَسولانِ إليك مِن رَبِّك الذي خلَقَك وربَّاك .

كما قال تعالى: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 16، 17].

فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ.

أي: فأطلِقْ بني إسرائيلَ لِيذهَبوا معنا، ولا تُعَذِّبْهم باستعبادِهم، وتَذبيحِهم، وتكليفِهم الأعمالَ الشاقَّةَ .

قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ.

أي: قد أتيناك بمعجزةٍ من ربِّك تدلُّ على صِدقِنا .

كما قال تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 30 - 33] .

وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.

أي: والسَّلامةُ مِن سَخَطِ الله وعذابِه في الدُّنيا والآخرةِ لِمن اتَّبَعَ هدى اللهِ الَّذي شرَعَه لعبادِه .

إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48).

أي: إنَّا قد أوحَى اللهُ إلينا أنَّ عذابَه في الدُّنيا والآخرةِ على من كذَّب بالحَقِّ، فلم يؤمِنْ باللهِ وما جاءَتْ به رسُلُه، وأعرَض عن اتِّباعِ الحَقِّ، وطاعةِ اللهِ .

كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14-16] .

وقال سُبحانَه: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة: 31 - 35] .

قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49).

أي: فلمَّا أتَى موسَى وهارونُ إلى فِرعَونَ، وكلَّماه بما أمَرَهما الله، قال فِرعَونُ: فمَنْ ربُّكما الذي تعبُدانِه -يا موسى- وتَزعُمانِ أنَّه أرسَلَكما إليَّ ؟

كما قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] .

قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50).

أي: قال موسى: ربُّنا الذي أعطى كلَّ مخلوقٍ صُورتَه التي تمَيِّزُه، وشَكلَه الذي يناسِبُه، وأعطى كلَّ ذكَرٍ وأنثَى الشَّكلَ المُناسِبَ له من جِنسِه في المناكحةِ، والأُلفةِ والاجتِماعِ، وأعطاهم كلَّ ما يحتاجونَه، ثمَّ هدى كلَّ مخلوقٍ إلى تحصيلِ مَنافِعِه، والحَذَرِ مِن مضارِّه .

كما قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .

وقال سُبحانه: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 2، 3].

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا استدَلَّ موسى عليه السَّلامُ بالدَّلالةِ القاطِعةِ على إثباتِ الصَّانعِ؛ قدحَ فِرعَونُ في تلك الدَّلالةِ بقَولِه: إن كان الأمرُ في قُوَّةِ هذه الدَّلالةِ على ما ذكَرْتَ، وجبَ على أهلِ القُرونِ الماضيةِ ألَّا يكونوا غافِلينَ عنها، فعارَضَ الحُجَّةَ بالتَّقليدِ .

وأيضًا فإنَّ موسَى عليه السلامُ هدَّد بالعذابِ أوَّلًا في قَولِه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48]، فقال فِرعَون: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؛ فإنَّها كذَّبتْ، ثمَّ إنَّهم ما عُذِّبوا ؟

وأيضًا لمَّا أجابَهُ مُوسى بجوابٍ مُسْكِتٍ، ولم يقدِرْ فِرعونُ على مُعارضَتِه فيه؛ انتقَلَ إلى سُؤالٍ آخرَ، وهو: ما حالُ مَن هلَكَ من القُرونِ؟ وذلك على سَبيلِ الرَّوغانِ عن الاعترافِ بما قال مُوسى عليه السَّلامُ، وما أجابَه به، والحَيدةِ، والمُغالَطةِ .

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51).

أي: قال فِرعَونُ: فما شأنُ القُرونِ الماضيةِ مِن قَبلِنا، الذين لم يؤمِنْ أهلُها باللهِ، وعَبَدوا غَيرَه؟ فلو كان ما تقولُه حَقًّا، لم يخْفَ على القُرونِ الأُولى ولم يُهمِلوه .

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52).

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ.

أي: قال له موسى: عِلمُ القُرونِ الماضيةِ وأعمالُ أهلِها كُلُّها مكتوبةٌ عندَ رَبِّي في اللَّوحِ المحفوظِ ، فهم إنْ لم يُؤمِنوا باللهِ ويَعبُدوه وَحدَه، فسيُجازيهم على ذلك ولا علمَ لي بهم .

لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى.

أي: لا يَشِذُّ عن عِلمِ رَبِّي شَيءٌ، ولا يفوتُه صَغيرٌ ولا كبيرٌ، ولا ينسَى شيئًا، فلا يُخطئُ في أفعالِه وتدبيرِ خَلقِه ، ولا ينسى شيئًا مِن أعمالِ عبادِه وأحوالِهم وأخبارِهم، ولا يَترُكُ فِعلَ ما هو حِكمةٌ وصَوابٌ .

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53).

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا.

أي: اللهُ الذي جعَل لكم الأرضَ مُمهَّدةً تَسكُنونَ عليها، وتستَقِرُّونَ بها، وتَمشونَ وتُسافِرونَ على ظَهرِها، وتتمكَّنونَ مِن زَرعِها وغَرسِها، والبناءِ عليها وغيرِ ذلك .

كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22].

وقال سُبحانه: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات: 48].

وقال عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15] .

وقال تبارك وتعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النبأ: 6] .

وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا.

أي: وجعل اللهُ لأجْلِكم في الأرضِ بينَ أوديَتِها وجِبالِها طُرُقًا كثيرةً تَمشونَ فيها .

كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف: 10] .

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى.

مناسبتُها لما قبلَها:

لَمَّا ذَكَر مِنَّةَ خَلْقِ الأرضِ؛ شَفَعها بمِنَّةِ إخراجِ النَّباتِ منها بما ينزِلُ عليها مِن السَّماءِ مِن ماءٍ ، فقال تعالى:

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً.

أي: وأنزل اللهُ من السَّماءِ مَطرًا .

فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى.

أي: فأخرَجْنا بسَبَبِ المطَرِ أصنافًا من النَّباتاتِ المختلفةِ الألوانِ، والأشكالِ، والرَّوائِحِ، والطُّعومِ، والمنافِعِ .

كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 99] .

وقال سُبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 10، 11].

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الحج: 63].

وقال جلَّ جلاله: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان: 10] .

وقال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر: 27] .

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54).

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ.

أي: كلُوا -أيُّها النَّاسُ- مِن طَيِّبِ ما أنبَتْنا لكم من الأرضِ مِن الحُبوبِ والثِّمارِ، وارعَوا فيها إبِلَكم وبَقَرَكم وغنَمَكم .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10] .

وقال سُبحانَه: أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [السجدة: 27] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24 - 32] .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى.

أي: إنَّ في ذلك لعَلاماتٍ لأُولي العُقولِ تدُلُّهم على وحدانيَّةِ اللهِ، وقُدرتِه، ورَحمتِه، وأنَّه المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحدَه لا شريكَ له .

كما قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4] .

وقال سُبحانَه: وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 24] .

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانَه منافِعَ الأرضِ والسَّماءِ؛ بيَّنَ أنَّها غيرُ مَطلوبةٍ لِذاتِها، بل هي مطلوبةٌ لِكَونِها وسائِلَ إلى منافِعِ الآخرةِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ كَرَمَ الأرضِ، وحُسْنَ شُكرِها؛ لِما يُنزِلُه الله عليها مِنَ المطرِ، وأنَّها بإذنِ رَبِّها تُخرِجُ النَّباتَ المختَلِفَ الأنواعِ؛ أخبَرَ أنَّه خلَقَنا منها ، فقال:

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ.

أي: مِن تُرابِ الأرضِ خَلَقْنا -أيُّها النَّاسُ- أباكم آدَمَ الذي هو أصلُكم، وأنتم ذريَّتُه .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] .

وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج: 5] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .

وقال عزَّ مِن قائلٍ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7- 8] .

وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ.

أي: وفي الأرضِ نُعيدُكم بعدَ مَوتِكم، وتَصيرونَ تُرابًا في قُبورِكم، كما كنتُم قبل إنشائِنا لكم بشرًا سَوِيًّا .

وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى.

أي: ومِن الأرضِ نَبعَثُكم أحياءً مرَّةً أُخرَى، كما كنتُم قَبلَ مَماتِكم أحياءً، فنُنشِئُكم منها كما أنشَأناكم أوَّلَ مَرَّةٍ، فتَخرُجونَ منها يومَ القيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ

 

.

كما قال تعالى: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف: 25] .

وقال سُبحانَه: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 25] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 42 - 44] .

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى دَلالةٌ على أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المنكرِ لا بُدَّ أنْ يكونَ بالحِكمةِ والرِّفقِ واللِّينِ

، وأنَّه يستحبُّ إلانةُ القَولِ للظَّالمِ عند وَعظِه؛ لعلَّه يَرجِعُ ، فإذا كان موسى أُمِرَ بأن يقولَ لفِرعونَ قولًا لَيِّنًا، فمَن دونَه أحرى بأن يَقتَدِيَ بذلك في خطابِه، وأمْرِه بالمعروفِ في كلامِه. وقد قال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83] ، والدعوةُ إلى اللهِ كذلك يجِبُ أن تكونَ بالرِّفقِ واللِّينِ، لا بالقَسوةِ والشِّدَّةِ والعُنفِ .

2- قال الله تعالى لموسى وهارونَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى هذه الآيةُ فيها عِبرةٌ عظيمةٌ، وهي أنَّ فِرعَونَ في غايةِ العُتُوِّ والاستكبارِ، وموسى صَفوةُ اللهِ مِن خَلقِه إذ ذاك، ومع هذا أُمِرَ ألَّا يُخاطِبَ فِرعَونَ إلَّا بالملاطفةِ واللِّينِ، كما قال يزيدُ الرقاشيُّ عند قولِه: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا: (يا من يتحَبَّبُ إلى مَن يُعاديه، فكيف بمن يتولَّاه ويُناديه؟!) . وقرأ رجلٌ عندَ يحيى بنِ معاذٍ هذه الآيةَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، فبكَى يحيى، وقال: (إلهي هذا رِفقُك بمن يقولُ: أنا الإلهُ، فكيف رفقُك بمن يقولُ: أنت الإلهُ؟!) .

3- في قَولِه تعالى: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى إرشادٌ إلى أنَّ الذي معه اللهُ لا يخافُ، وأنه لا بُدَّ أنْ يكونَ مَنصورًا .

4- إذا استحضَر العبدُ اطِّلاعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عليه في حالِ العَمَلِ له، وتحمُّلِ المشاقِّ لأجلِه؛ وتيقَّنَ أنَّ البلاءَ بِعَينِ مَن يحبُّه، هان عليه الألمُ؛ كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقولِه لموسى وهارونَ عليهما السَّلامُ: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، وقولِه لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48].

5- قولُ الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى يدُلُّ على أنَّ المحِقَّ يجِبُ عليه استِماعُ كَلامِ المُبطِلِ، والجوابُ عنه مِن غيرِ إيذاءٍ ولا إيحاشٍ، كما فعَلَ موسى عليه السَّلامُ بفِرعَونَ هاهنا، وكما أمَرَ الله تعالى رسولَه في قَولِه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] وقال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ

 

[التوبة: 6] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى والفائدةُ في إرسالِهما، والمُبالَغةِ عليهما في الاجتهادِ، مع عِلْمِه بأنَّه لا يُؤمِنُ: إلْزامُ الحُجَّةِ وقطْعُ المَعذرةِ

، وإظهارُ ما حدَثَ في تَضاعيفِ ذلك من الآياتِ .

2- في قَولِه تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى دليلٌ على المنعِ مِن فِعْلِ ما يؤدِّي إلى الحرامِ، ولو كان جائزًا في نفْسِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ موسى وهارون -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنْ يُلِينَا القولَ لأعظمِ أعدائِه، وأشدِّهم كُفرًا، وأعتاهم عليه؛ لئلَّا يكونَ إغلاظُ القولِ له -معَ أنَّه حقيقٌ به- ذريعةً إلى تنفيرِه، وعَدَمِ صبرِه لقيامِ الحُجَّةِ، فنهاهما عن الجائِزِ؛ لئلَّا يترتبَ عليه ما هو أكرهُ إليه تعالى . وقيل: إنَّه أُمِر باللينِ معَ هذا الكافرِ الجاحدِ؛ لأنَّه عليه السلامُ كان قد ربَّاه فِرعَونُ، فأمَره أن يخاطبَه بالرفقِ؛ رعايةً لتلك الحقوقِ، وهذا تنبيهٌ على نهايةِ تعظيمِ حقِّ الأبوينِ .

3- قال الله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى التذكُّرُ سببُ الخشيةِ؛ والخشيةُ حاصلةٌ عن التذكُّرِ، فذَكَر التذكُّرَ الذي هو السببُ؛ وذَكَر الخشيةَ التي هي النتيجةُ -وإنْ كان أحدُهما مستلزِمًا للآخر- كما قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] ، وكما قال أهلُ النارِ: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10] ، وقال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ، فكلٌّ مِن النوعينِ يحصلُ به النجاةُ؛ لأنَّه مستلزمٌ للآخرِ .

4- قال الله تعالى لموسى وهارونَ: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وليس المرادُ منه النهيَ عن الخوفِ؛ لأنَّه من حيثُ كونُه أمرًا طبيعيًّا لا مدخلَ للاختيارِ فيه، لا يدخلُ تحت التكليف ثبوتًا وانتفاءً، بل المرادُ به التسلِّي بوعدِ الحفظِ والنصرةِ، كما يدلُّ عليه قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا بكمالِ الحفظِ والنُّصرةِ ، فالخوفُ الطبيعيُّ مِن الخلقِ، لا ينافي الإيمانَ، ولا يُزيلُه ، والخوفُ من الأعداءِ سُنَّةُ اللهِ في أنبيائِه وأوليائِه معَ معرفتِهم به، وثِقَتِهم .

5- المعيَّةُ نوعانِ: مَعيَّةٌ عامَّةٌ تقتضي الإحاطةَ بالخَلقِ عِلمًا وقُدرةً، وسَمعًا وبَصَرًا، وسُلطانًا وتدبيرًا، وغيرَ ذلك مِن معاني رُبوبيَّتِه، كقَولِه تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] ، وقَولِه: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] .

ومعيَّةٌ خاصَّةٌ قد خُصَّت بشَخصٍ أو وَصفٍ، فهي تقتضي -مع ما سبَقَ- النَّصرَ والتأييدَ، والتَّوفيقَ والتَّسديدَ.

مِثالُ المَخصوصةِ بشَخصٍ: قَولُه تعالى لموسى وهارونَ: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، وقَولُه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] .

ومثالُ المخصوصةِ بوَصفٍ: قَولُه تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] ، وأمثالُها في القرآنِ كثيرةٌ .

6- قولُه تعالى: أَسْمَعُ وَأَرَى جملةٌ استئنافيةٌ لبيانِ مُقتضَى هذه المعيَّةِ الخاصَّةِ إِنَّنِي مَعَكُمَا وهو السَّمعُ والرؤيةُ، وهذا سَمْعٌ ورؤيةٌ خاصَّانِ يقتضيانِ النَّصرَ والتأييدَ والحمايةَ مِن فِرعَونَ الذي قالا عنه: إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى . ولو قال قائلٌ: كيفَ يسمعُ، وكيفَ يرَى؟

فالجوابُ: السمعُ والبصرُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ .

7- في قَولِه تعالى: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والجهميَّةِ في تأويلِهم صِفَتَي السَّمعِ والبَصَرِ إلى العِلْمِ والإحاطةِ؛ إِذْ لو كان معنى السَّمعِ والبَصرِ معنى العِلْمِ والإحاطةِ، لاقتصرَ -واللهُ أعلمُ- على: إِنَّنِي مَعَكُمَا ولم يقُلْ: أَسْمَعُ، كما قال في سورةِ (المجادلةِ): مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] ، فلمَّا قال: أَسْمَعُ وَأَرَى بعد تمامِ المعنى الذي يشيرونَ إليه، أزال كلَّ ريبٍ، وكشَفَ كلَّ غُمةٍ عن أنَّه يَسمَعُ بسَمعٍ، ويرى ببَصرٍ غيرِ مخلوقَينِ .

8- قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فتأمَّلْ حُسنَ سِياقِ هذه الجُمَلِ، وترتيبَ هذا الخِطابِ، ولُطفَ هذا القَولِ اللَّيِّنِ الذي سلَبَ القُلوبَ حُسنُه وحلاوتُه، مع جلالتِه وعَظَمتِه؛ كيف ابتدأ الخِطابَ بقَولِه: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ وفي ضِمنِ ذلك: إنَّا لم نأتِك لِنُنازِعَك مُلكَك، ولا لِنَشرَكَك فيه، بل نحن عبدانِ مأمورانِ مُرسَلانِ مِن رَبِّك إليك. وفي إضافةِ اسمِ الرَّبِّ إليه هنا دونَ إضافتِه إليهما استِدعاءٌ لِسَمعِه وطاعتِه وقَبولِه، كما يقولُ الرَّسولُ للرَّجُلِ مِن عِندِ مَولاه: أنا رَسولُ مَولاك إليك وأستاذِك، وإن كان أستاذَهما معًا، ولكن ينَبِّهُه بإضافتِه إليه على السَّمعِ والطَّاعةِ له.

ثمَّ إنَّهما طَلَبا منه أن يُرسِلَ معهما بني إسرائيلَ، ويُخَلِّيَ بينهم وبينهما ولا يُعَذِّبَهم، ومن طلَبَ مِن غَيرِه تَركَ العُدوانِ والظُّلمِ وتَعذيبِ مَن لا يَستَحِقُّ العذابَ، فلم يَطلُبْ منه شَطَطًا، ولم يُرهِقْه من أمرِه عُسرًا، بل طلبَ منه غايةَ النَّصَفِ.

ثمَّ أخبرَه بعد الطَّلَبِ بثلاثةِ إخباراتٍ: أحَدُها: قَولُه تعالى: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ؛ فقد بَرِئْنا مِن عُهدةِ نِسبَتِك لنا إلى التقَوُّلِ والافتراءِ، بما جئناك به مِنَ البُرهانِ والدَّلالةِ الواضِحةِ، فقد قامت الحُجَّةُ، ثمَّ بعدَ ذلك للمُرسَلِ إليه حالتانِ: إمَّا أن يَسمَعَ ويُطيعَ فيكونَ مِن أهلِ الهُدى، والسَّلامُ على مَن اتَّبَع الهُدى، وإمَّا أن يُكَذِّبَ ويتولَّى، فالعذابُ على مَن كذَّب وتولَّى؛ فجَمَعَت الآيةُ طَلَبَ الإنصافِ، وإقامةَ الحُجَّةِ، وبيانَ ما يَستحِقُّ السَّامِعُ المطيعُ، وما يَستَحِقُّه المكَذِّبُ المتولِّي؛ بألطَفِ خطابٍ، وأليقِ قَولٍ، وأبلغِ ترغيبٍ وترهيبٍ .

9- قال الله تعالى حِكايةً عن موسى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إن قيل: ما الحِكمةُ في تسليمِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على مَن اتَّبَع الهُدَى في كتابِه إلى هِرَقلَ بلَفظِ النَّكِرةِ، ((سلامٌ على من اتَّبَعَ الهُدى))، وتسليمِ موسى عليهم هنا بلَفظِ المعرِفةِ؟

فالجوابُ عنه: أنَّ تَسليمَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تسليمٌ ابتدائيٌّ؛ ولهذا صدَّرَ به الكتابَ، حيث قال: ((مِن محمَّدٍ رَسولِ اللهِ إلى هِرَقلَ عَظيمِ الرُّومِ، سلامٌ على من اتَّبع الهُدى )) ؛ وتختصُّ النكرةُ بابتداءِ المكاتبةِ والمعرفةُ بآخرِها ، وأمَّا قَولُ موسى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى؛ فليس بسلامِ تحيَّةٍ؛ فإنَّه لم يبتدِئْ به فِرعَونَ، بل هو خبَرٌ محضٌ؛ فإنَّ مَن اتَّبَع الهدَى له السَّلامُ المُطلَقُ دونَ مَن خالفَه؛ فإنَّه قال له: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 47، 48]؛ أفلا ترَى أنَّ هذا ليس بتحيَّةٍ في ابتداءِ الكلامِ ولا خاتمتِه، وإنَّما وقع متوسِّطًا بينَ الكلامَينِ إخبارًا مَحضًا عن وقوعِ السَّلامةِ وحُلولِها على مَن اتَّبَع الهُدى؛ ففيه استدعاءٌ لفِرعَونَ، وترغيبٌ له بما جُبِلت النُّفوسُ على حُبِّه وإيثارِه مِنَ السَّلامةِ، وأنَّه إنِ اتَّبَع الهُدى الذي جاءَه به، فهو من أهلِ السَّلامِ. والله تعالى أعلَمُ .

10- لا يجوزُ السلامُ على المُسْلِم بلفظ: «السلامُ على مَنِ اتَّبَعَ الهدَى»؛ وذلك لأنَّه ما صَدَر مِن موسَى عليه السلامُ إلَّا في سَلامِ الكفَّارِ، كما في قولِه لفرعونَ: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وكذلك ما صدَر مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا في سَلامِ الكفارِ .

11- قولُه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فيه من تَرغيبِه في اتِّباعِهما على ألْطَفِ وجْهٍ ما لا يَخْفى . وكذلك قولُه: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فيه من التَّلطيفِ في الوعيدِ -حيث لم يُصرَّحْ بحُلولِ العذابِ به- ما لا مَزِيدَ عليه .

12- في قَولِه تعالى: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قال ابنُ عبَّاسٍ: (هذه أرجَى آيةٍ للمُوحِّدينَ؛ لأنَّهم لم يكَذِّبوا، ولم يتولَّوا) .

13- قولُ الله تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فيه دليلٌ على مَنعِ السَّلامِ على الكافِرِ، وأنَّه إذا احتيجَ إليه في خِطابٍ أو كتابٍ يُؤتى بهذه الصِّفةِ .

14- قولُ الله تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى هذا مِن أقوى الدَّلائِلِ على أنَّ عِقابَ المؤمِنِ لا يدومُ؛ ذلك لأنَّ الألفَ واللَّامَ في قَولِه: الْعَذَابَ تفيدُ الاستِغراقَ، أو تفيدُ الماهيَّةَ، وعلى التَّقديرَينِ يقتضي انحصارَ هذا الجِنسِ فيمن كذَّب وتولَّى، فوجَبَ في غير المكَذِّبِ المتولِّي ألَّا يَحصُلَ هذا الجِنسُ أصلًا .

15- قال الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى مع أنَّ فِرعَون كان شديدَ القُوَّةِ، عَظيمَ الغَلَبةِ، كثيرَ العَسكَرِ؛ لكِنْ لَمَّا دعاه موسى عليه السَّلامُ إلى اللهِ تعالى لم يَشتَغِلْ معه بالبَطشِ والإيذاءِ، بل خرج معه في المناظَرةِ؛ وذلك لأنَّه لو شَرَع أوَّلًا في الإيذاءِ لَنُسِبَ إلى الجهلِ والسَّفاهةِ؛ فاستنكفَ مِن ذلك وشرَعَ أولًا في المناظَرةِ؛ وذلك يدُلُّ على أنَّ السَّفاهةَ مِن غيرِ الحُجَّةِ شَيءٌ ما كان يرتضيه فِرعَونُ مع كمالِ جَهلِه وكُفرِه؛ فكيف يليقُ ذلك بمن يدَّعي الإسلامَ والعِلمَ ؟!

16- قولُ الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى يدُلُّ على أنَّه يجوزُ حِكايةُ كَلامِ المُبطِل؛ لأنَّه تعالى حكى كلامَ فِرعَونَ في إنكارِه الإلهَ، وحكى شُبُهاتِ مُنكري النبُوَّةِ، وشُبُهاتِ مُنكري الحَشرِ، إلَّا أنَّه يجِبُ أنَّك متى أوردْتَ السُّؤالَ، فاقرِنْه بالجوابِ؛ لئلَّا يبقَى الشَّكُّ، كما فعَلَ اللهُ تعالى في هذه المواضِعِ .

17- قولُ الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى خُصَّ موسى بالذِّكرِ، قيل: لأنَّه في وَقتِ الكلامِ إنَّما يتكلَّمُ واحِدٌ، فإذا انقطع وازَرَه الآخَرُ وأيَّدَه؛ فموسى وهارونُ جميعًا بلَّغا الرِّسالةَ، وإن كان هارونُ ساكِتًا، فصار لنا في هذا البِناءِ فائِدةُ عِلمٍ: أنَّ الاثنينِ إذا قُلِّدا أمرًا فقام به أحدُهما، والآخَرُ شَخصُه هناك موجودٌ، مُستغنًى عنه في وقتٍ دونَ وَقتٍ: أنَّهما أدَّيا الأمرَ الذي قُلِّدا، وقاما به واستوجَبا الثَّوابَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ، وقال: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ، وقال: فَقُولَا لَهُ فأمرَهما جميعًا بالذَّهابِ وبالقَولِ، ثمَّ أعلَمَنا في وقتِ الخِطابِ بقَولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا أنَّه كان حاضِرًا مع موسى .

18- قال اللهُ تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى جمع جلَّ وعلا في هذه الآيةِ بين الخَلقِ والهِدايةِ، وهو سُبحانَه في القرآنِ كثيرًا ما يجمَعُ بينهما، كقَولِه في أوَّلِ سورةٍ أنزَلَها على رَسولِه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5]، وقوله: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن: 1-4]، وقوله: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 8-11] ، وقوله: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 2، 3]، وقوله: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ... [النمل: 60] الآيات، ثم قال: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [النمل: 63] فالخَلقُ إعطاءُ الوجودِ العينيِّ الخارجيِّ، والهُدى إعطاءُ الوجودِ العلميِّ الذِّهنيِّ؛ فهذا خَلقُه، وهذا هُداه وتَعليمُه .

19- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى دَلالةٌ على تمامِ عنايةِ الخالقِ سُبحانَه بخَلْقِه، وهدايتِه العامَّةِ ، فهذه هي الهدايةُ العامةُ المشاهَدةُ في جميعِ المخلوقاتِ، فكلُّ مخلوقٍ تجدُه يسعَى لما خُلِق له مِن المنافعِ، وفي دفعِ المضارِّ عنه .

20- قولُ الله تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ هذا أحسَنُ استنباطٍ لكتابةِ الحَديثِ والعِلمِ ، قال أبو المليحِ : (يَعيبونَ علينا الكتابَ، واللَّهُ يقولُ: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ) .

21- قال الله تعالى: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى في ذلك إشارةٌ إلى تبكيتِ اليَهودِ بأنَّ ثُبوتَ النبُوَّةِ إن كان يتوقَّفُ على أن يخبِرَ النبيُّ عن كلِّ ما يُسأَلُ عنه، لَزِمَ أن يتوقَّفوا في نبُوَّةِ نَبيِّهم عليه السَّلامُ؛ لأنَّه لم يُخبِرْ فِرعَونَ عما سألَه عنه مِن أمرِ القُرونِ .

22- قال الله تعالى: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى لِكمالِ عِلمِه وحِفظِه ، فهو يَصِفُ علمَه تعالى بأنَّه بكُلِّ شَيءٍ مُحيطٌ، وأنَّه لا ينسى شيئًا، تبارك وتعالى وتقَدَّس، فإنَّ عِلمَ المخلوقِ يَعتريه نُقصانانِ: أحدُهما: عدَمُ الإحاطةِ بالشَّيءِ، والآخَرُ: نسيانُه بعد عِلمِه، فنَزَّه نفسَه عن ذلك .

23- قال الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ لذلك كان بنو آدمَ كالأرضِ تمامًا: فيهم الحَزْنُ الصُّلْبُ الشَّديدُ، وفيهم السَّهْلُ، وفيهم ما بينَ ذلك، وفيهم الأبيضُ، وفيهم الأحمرُ، وفيهم الأسودُ؛ لأنَّ الأراضيَ تختَلِفُ هكذا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي بَيانٌ لجُملةِ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه: 24] . أو هي استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] يُؤذِنُ بأنَّه اختارَهُ وأعَدَّهُ لأمْرٍ عظيمٍ

.

- والباءُ في بِآَيَاتِي للمُصاحَبةِ؛ لقصْدِ تَطمينِ مُوسى بأنَّه سيكونُ مُصاحِبًا لآياتِ اللهِ ؛ فالمُرادُ ذَهابُهما إلى فرْعونَ مُتلبِّسينَ بالآياتِ، مُتمسِّكينَ بها في إجْراءِ أحكامِ الرِّسالةِ، وإكْمالِ أمْرِ الدَّعوةِ، لا مُجرَّدُ إذْهابِها، وإيصالِها إليه .

2- قولُه تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى لمَّا حذَفَ مَن يُذْهَبُ إليه في قولِه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ، نَصَّ عليه في هذا الأمْرِ الثَّاني، فقِيلَ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ .

وقيل: قولُه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي يحتَمِلُ أن يكونَ كُلُّ واحدٍ منهما مأمورًا بالذَّهابِ على الانفرادِ، فقيل مَرَّةً أُخرى: اذْهَبَا؛ ليعرفا أنَّ المرادَ منه أن يشتغِلا بذلك جميعًا، لا أن ينفرِدَ به هارونُ دونَ موسى. وقيل: إنَّ قَولَه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي أمرٌ بالذَّهابِ إلى كُلِّ النَّاسِ مِن بني إسرائيلَ وقَومِ فِرعَونَ، ثمَّ إنَّ قَولَه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ أمرٌ بالذَّهابِ إلى فِرعَونَ وَحدَه .

- وجمَعَهما في صِيغَةِ أمْرِ الحاضرِ مع غَيبةِ هارونَ إذ ذاك؛ للتَّغليبِ .

- وقولُه: إِنَّهُ طَغَى تَعليلٌ للأمْرِ بأنْ يَذْهبا إليه؛ فعُلِمَ أنَّه لقصْدِ كَفِّه عن طُغيانِه .

3- قولُه تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى

- الفاءُ في قولِه: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لتَرتيبِ ما بعْدَها على طُغيانِه؛ فإنَّ تَلْيِينَ القولِ ممَّا يَكسِرُ سَوْرةَ عِنادِ العُتاةِ، ويُلِينُ عَريكةَ الطُّغاةِ .

- قولُه: قَوْلًا لَيِّنًا شبَّهَ الكلامَ المُشتمِلَ على المعاني الحَسنةِ بالشَّيءِ اللَّيِّنِ .

- قولُه: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فيه تَقديمُ التَّذكُّرِ على الخَشيةِ؛ لأنَّ التَّذكُّرَ للمُتحقِّقِ، والخَشيةَ للمُتوهِّمِ؛ فقدَّمَ الأوَّلَ، أي: إنْ لم يَتحقَّقْ صِدْقُكما ولم يَتذكَّرْ؛ فلا أقَلَّ مِن أنْ يَتوهَّمَه فيَخْشى .

4- قولُه تعالى: قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى

- قولُه: قَالَا رَبَّنَا أُسْنِدَ القولُ إليهما، مع أنَّ القائلَ حقيقةً هو مُوسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بطَريقِ التَّغليبِ؛ إيذانًا بأصالتِه في كلِّ قوْلٍ وفِعْلٍ، وتَبعيَّةِ هارونَ عليه السَّلامُ له في كلِّ ما يأْتي ويذَرُ .

- ولم يَذْكُرا مُتعلِّقَ يَطْغَى -وهو (عليك)- بمعنى القولِ فيك بما لا يَنْبغي، وذكَرَا مُتعلِّقَ يَفْرُطَ -وهو عَلَيْنَا-؛ لأنَّ مَعَرَّتَه عائدةٌ إليهما؛ إجْلالًا للهِ تعالى، وتَهيُّبًا من عِزَّتِه، واستزادةً لِرَأفَتِه، واستِنْزالًا لرَحمتِه؛ فقولُه: أَوْ أَنْ يَطْغَى، أي: يقولَ فيك ما لا يَنْبغي، وفي المَجِيءِ به هكذا على الإطلاقِ، وعلى سَبيلِ الرَّمزِ: بابٌ من حُسْنِ الأدبِ، وتَحاشٍ عن التَّفوُّهِ بالعظيمةِ. وقيل: حُذِفَ مُتعلِّقُ يَطْغَى؛ لدَلالةِ نَظيرِه عليه، وهو قولُه: عَلَيْنَا، وأُوثِرَ بالحذْفِ؛ لرِعايةِ الفواصلِ. والتَّقديرُ: أو أنْ يَطْغى علينا. وإظْهارُ كَلمةِ (أنْ) مع سَدادِ المعنى بدُونِها؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بالأمْرِ، والإشعارِ بتَحقُّقِ الخوفِ من كلٍّ منهما .

5- قولُه تعالى: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى استئنافٌ مَبْنيٌّ على السُّؤالِ النَّاشىءِ من النَّظْمِ الكريمِ، ولعلَّ إسنادَ الفِعْلِ إلى ضَميرِ الغَيبةِ؛ للإشعارِ بانتقالِ الكلامِ من مَساقٍ إلى آخَرَ .

- وقولُه: لَا تَخَافَا نهْيٌ مُكَنًّى به عن نفْيِ وُقوعِ المَنْهيِّ عنه .

- وقولُه: إِنَّنِي مَعَكُمَا تَعليلٌ للنَّهيِ عن الخوفِ الَّذي هو في مَعنى النَّفيِ، ومَزيدُ تَسليةٍ لهما .

- ونُزِّلَ فِعْلَا أَسْمَعُ وَأَرَى مَنزِلةَ اللَّازمينِ؛ إذ لا غرَضَ لِبَيانِ مَفْعولِهما، بل المقصودُ: إنِّي لا يَخْفى عليَّ شَيءٌ، وفرَّعَ عليه إعادةَ الأمْرِ بالذَّهابِ إلى فِرْعونَ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا ... .

6- قولُه تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى

- قولُه: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا ... أُمِرَا بإتيانِه الَّذي هو عبارةٌ عن الوُصولِ إليه بعْدَما أُمِرَا بالذَّهابِ؛ فلا تَكْرارَ، وهو عطْفٌ على لَا تَخَافَا باعتبارِ تَعليلِه بما بعْدَه. أُمِرَا بـ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ؛ تَحقيقًا للحقِّ من أوَّلِ الأمْرِ؛ ليَعرِفَ الطَّاغيةُ شأْنَهما، ويَبْني جَوابَه عليه، وكذا التَّعرُّضُ لرُبوبيَّتِه تعالى له .

- قولُه: فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ أمَرَهما أنْ يُخاطِباهُ بقولِهما: رَبِّكَ؛ تَحقيرًا له، وإعلامًا أنَّه مَربوبٌ مَملوكٌ؛ إذ كان هو يَدَّعي الرُّبوبيَّةَ ، أو خَصَّا الرَّبَّ بالإضافةِ إلى ضَميرِ فِرْعونَ قَصْدًا لأقْصى الدَّعوةِ؛ لأنَّ كونَ اللهِ ربَّهما معلومٌ من قولِهما: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وكونُه ربَّ النَّاسِ معلومٌ بالأحْرى؛ لأنَّ فِرعونَ علَّمَهم أنَّه هو الرَّبُّ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وقال في سُورةِ (الشُّعراءِ): إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] . ووجْهُه: أنَّ الرَّسولَ سُمِّيَ به، فحيثُ وحَّدَه حُمِلَ على المصدرِ، وحيث ثَنَّى حُمِلَ على الاسمِ. ويجوزُ أنْ يُقالَ: حيث وحَّدَ حُمِلَ على الرِّسالةِ؛ لأنَّهما أُرْسِلَا لشَيءٍ واحدٍ، وحيث ثَنَّى حُمِلَ على الشَّخصينِ .

- والفاءُ في قولِه تعالى: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها؛ فإنَّ كونَهما رسولَيْ ربِّهِ ممَّا يُوجِبُ إرسالَهم معهما. أو لأنَّ المُرسَلَ منَ اللهِ تجِبُ طاعتُه. وقيل: أدخَلَ فاءَ التَّفريعِ على طلَبِ إطلاقِ بني إسرائيلَ؛ لأنَّه جعَلَ طلَبَ إطلاقِهم كالمُستقِرِّ المعلومِ عندَ فِرْعونَ؛ إمَّا لأنَّه سبَقَتْ إشاعةُ عَزْمِهما على الحُضورِ عندَ فِرعونَ لذلك المطلَبِ، وإمَّا لأنَّه جعَلَه -لأهميَّتِه- كالمُقرَّرِ .

- وجُملةُ: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ جاريةٌ من الجُملةِ الأُولى -وهي إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ- مَجْرى البَيانِ والتَّفسيرِ؛ لأنَّ دَعوى الرِّسالةِ لا تثبُتُ إلَّا بِبَيِّنَتِها الَّتي هي المَجِيءُ بالآيةِ. أو تَقريرٌ لِمَا تَضمَّنَه الكلامُ السَّابقُ من دَعوى الرِّسالةِ، وتَعليلٌ لوُجوبِ الإرسالِ؛ فإنَّ مَجِيئَهما بالآيةِ من جِهَتِه تعالى ممَّا يُحقِّقُ رِسالتَهما ويُقرِّرُها، ويُوجِبُ الامتثالَ بأمْرِهما .

- إنَّما وحَّدَ قولَه: بِآَيَةٍ ولم يُثَنِّ، ومعه آيتانِ؛ لأنَّ المُرادَ في هذا الموضعِ تَثبيتُ الدَّعوى ببُرْهانِها، فكأنَّه قال: قد جِئْناك بمُعْجِزةٍ وبُرْهانٍ وحُجَّةٍ على ما ادَّعيناهُ من الرِّسالةِ ، فمعنى الآيةِ الإشارةُ إلى جنسِ الآياتِ، كأنَّه قال: قد جئناك ببيانٍ مِن عندِ الله. ثم يجوزُ أن يكونَ ذلك حجةً واحدة أو حججًا كثيرة .

- قولُه: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فيه إظهارُ اسمِ الرَّبِّ في مَوضِعِ الإضمارِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِ المُخاطَبِ؛ لتأكيدِ ما ذُكِرَ من التَّقريرِ والتَّعليلِ .

- وفي قولِه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى عُبِّر بـ (عَلَى) للتَّمكُّنِ، أي: سَلامةُ مَن اتَّبَع الهُدى ثابتةٌ لهم دونَ رَيبٍ، وهذا احتراسٌ ومُقدِّمةٌ للإنذارِ الَّذي في قولِه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى؛ فقولُه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَعريضٌ بأنْ يَطلُبَ فِرعونُ الهُدى الَّذي جاء به مُوسى عليه السَّلامُ ؛ ففيه إشارةٌ إلى التَّعريضِ؛ فاللَّامُ للجنْسِ، كأنَّه قال: جِنْسُ السَّلامِ على مَن اتَّبَعَ الهُدى؛ ففيه تَعريضٌ بأنَّ ضِدَّه عليكم .

7- قولُه تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى لعلَّ تَغييرَ النَّظمِ والتَّصريحَ بالوعيدِ والتَّوكيد فيه؛ لأنَّ التَّهديدَ في أوَّلِ الأمْرِ أهَمُّ وأنجَعُ، وبالواقعِ ألْيَقُ ، وفيه تَعريضٌ لإنذارِه على التَّكذيبِ قبْلَ حُصولِه منه؛ ليُبَلِّغَ الرِّسالةَ على أتَمِّ وجْهٍ قبْلَ ظُهورِ رأْيِ فِرعونَ في ذلك؛ حتَّى لا يُجابِهَه بعْدَ ظُهورِ رأْيِه بتَصريحِ تَوجيهِ الإنذارِ إليه .

- وبُنِيَ أُوحِيَ لِمَا لم يُسَمَّ فاعِلُه، ولم يُذْكَرِ المُوحِي؛ لأنَّ فِرعونَ كانت له بادرةٌ ؛ فرُبَّما صدَرَ منه في حَقِّ المُوحِي ما لا يَلِيقُ به .

- ولمَّا دَلَّ قولُه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى على التَّوبيخِ لِمَكانِ التَّعريضِ، كان قولُه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا استِئنافًا مُنْطويًا على تَعليلِ ذلك المفهومِ المقصودِ في الإيرادِ؛ كأنَّه قِيلَ: العذابُ على مَن كذَّبَ وتولَّى؛ لأنَّ اللهَ تعالى أوْحَى إلينا ذلك .

- وإطْلاقُ السَّلامِ والعذابِ دونَ تَقييدٍ بالدُّنيا أو الآخرةِ: تَعميمٌ للبِشارةِ والنِّذارةِ .

8- قولُه تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى

- في الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فأَتَيَا فِرعونَ، وقالا له ما أمَرَهما اللهُ أنْ يُبلِّغاهُ، فقال:...، وإنَّما طُوِيَ ذِكْرُه للإيجازِ، والإشعارِ بأنَّهما كما أُمِرَا بذلك سارَعَا إلى الامتثالِ به من غيرِ تَلعثُمٍ، وبأنَّ ذلك منَ الظُّهورِ بحيثُ لا حاجةَ إلى التَّصريحِ به .

- والفاءُ في قولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؛ لتَرتيبِ السُّؤالِ على ما سبَقَ مِن كونِهما رسولَيْ ربِّهما، أي: إذا كُنْتُما رسولَيْ ربِّكما، فأخْبِرَا مَن ربُّكما الَّذي أرسلَكُما .

- وجاء خِطابُه في قولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى للاثنينِ، ووجَّهَ النِّداءَ إلى أحدِهما، وهو مُوسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه الأصْلُ في النُّبوَّةِ، وهارونُ وَزيرُه وتابِعُه ، ولأنَّه صاحبُ الرِّسالةِ والكلامِ والآيةِ ، أو لأنَّ المُجاوَبةَ إنَّما تكونُ من الواحدِ، وإنْ كان الخِطابُ بالجماعةِ لا من الجَميعِ .

- وفي قولِ فِرعونَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى لم يُضِفِ الرَّبَّ إلى نفْسِه ولو بطَريقِ حِكايةِ ما في قولِه تعالى: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وقولِه تعالى: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ؛ لِغايةِ عُتوِّهِ ونِهايةِ طُغيانِه، بل أضافَه إليهما؛ لِمَا أنَّ المُرسِلَ لا بُدَّ أنْ يكونَ ربًّا للرَّسولِ، أو لأنَّهما قد صرَّحَا برُبوبيَّتِه تعالى للكلِّ، بأنْ قالا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] كما وقَعَ في سُورةِ (الشُّعراءِ) . وقيل: أعرَضَ عنِ الاعترافِ بالمَرْبوبيَّةِ ولو بحِكايةِ قولِهما؛ لئلَّا يقَعَ ذلك في سمْعِ أتْباعِه وقومِه، فيَحسِبوا أنَّه مُتردِّدٌ في مَعرفةِ ربِّه، أو أنَّه اعترَفَ بأنَّ له ربًّا . أو: لم يقُلْ: رَبِّي؛ حَيدةً عن سواءِ النَّظرِ، وصرفًا للكلامِ على الوجهِ الموضِّحِ لخِزيِه .

9- قولُه تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى

- جَوابُ مُوسى عليه السَّلامُ بقولِه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى سلَكَ فيه طَريقَ الإرشادِ والأُسلوبِ الحكيمِ، حيث كان الظَّاهرُ أنْ يقولَ: (ربُّ العالمينَ)؛ فما أخصَرَه وما أجمَعَه! وما أبْيَنَه لمَن ألْقَى الذِّهنَ، ونظَرَ بعَينِ الإنصافِ، وكان طالِبًا للحقِّ؛ فهو جَوابٌ في غايةِ البَلاغةِ؛ لاختصارِه، وإعرابِه عن الموجوداتِ بأسْرِها على مَراتبِها، ودَلالتِه على أنَّ الغَنِيَّ القادرَ بالذَّاتِ، المُنعِمَ على الإطلاقِ هو اللهُ تعالى، وأنَّ جميعَ ما عداهُ مُفتقِرٌ إليه، مُنْعَمٌ عليه في حَدِّ ذاتِه وصِفاتِه وأفعالِه؛ ولذلك بُهِتَ الَّذي كفَرَ، فلم يَرَ إلَّا صَرْفَ الكلامِ عنه . وأيضًا أجاب مُوسى عليه السَّلامُ بإثباتِ الرُّبوبيَّةِ للهِ لجَميعِ الموجوداتِ، وفِرعونُ من جُملتِها، فهو داخلٌ في عُمومِها ، ولقد ساق عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جَوابَه على نمَطٍ رائقٍ، وأُسلوبٍ لائقٍ، وضَمَّنَه أنَّ إرسالَه تعالى إلى الطَّاغيةِ من جُملةِ هِداياتِه تعالى إيَّاهُ، بعْدَ أنْ هَداهُ إلى الحقِّ بالهداياتِ التَّكوينيَّةِ؛ حيث ركَّبَ فيه العقْلَ، وسائرَ المشاعرِ، والآلاتِ الظَّاهرةِ والباطنةِ .

- ولم يُريدَا بضَميرِ المُتكلِّمِ رَبُّنَا أنفُسَهما فقط، حسْبَما أرادَ اللَّعينُ، بل جميعَ المخلوقاتِ؛ تَحقيقًا للحقِّ، ورَدًّا عليه، كما يُفْصِحُ عنه ما في حَيِّزِ الصِّلَةِ، أي: هو ربُّنا الَّذي أعْطَى كلَّ شَيءٍ مِن الأشياءِ خَلْقَه .

- قولُه: ثُمَّ هَدَى لمَّا كان الخلْقُ مُتقدِّمًا على الهدايةِ وُسِّطَ بينهما كَلِمةُ التَّراخي (ثُمَّ) ، وفيه إيجازٌ بليغٌ؛ لأنَّه حذَفَ جُمَلًا لا يقَعُ عليها الحصْرُ؛ لأنَّه ليس بالمُتاحِ إحصاءُ المخلوقاتِ الحيَّةِ وغيرِ الحيَّةِ، العاقلةِ وغيرِ العاقلةِ الَّتي خلَقَها اللهُ .

10- قولُه تعالى: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى

- إيثارُ كَلِمةِ (البال) هنا من دَقيقِ الخصائصِ البلاغيَّةِ؛ أراد فِرعونُ أنْ يُحاجَّ مُوسى بما حصَل للقُرونِ الماضيةِ الَّذين كانوا على مِلَّةِ فِرعونَ، أي: ما حالُهم؛ أفتزْعُمُ أنَّهم اتَّفَقوا على ضَلالةٍ؟! وهذه طبيعةُ مَن لا يَجِدُ حُجَّةً، فيَعمِدُ إلى التَّشغيبِ بتَخييلِ استبعادِ كَلامِ خَصْمِه. ويجوزُ أنَّ فِرعونَ أراد التَّشغيبَ على مُوسى حين نهَضَتْ حُجَّتُه بأنْ يَنقِلَه إلى الحديثِ عن حالِ القُرونِ الأُولى: هل هم في عذابٍ؟ بمُناسَبةِ قولِ مُوسى: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] ، فإذا قال: إنَّهم في عذابٍ، ثارتْ ثائرةُ أبنائِهم، فصاروا أعداءً لمُوسى، وإذا قال: هم في سَلامٍ، نهَضَتْ حُجَّةُ فِرعونَ؛ لأنَّه مُتابِعٌ لِدينِهم، ولأنَّ مُوسى لمَّا أعلَمَه برَبِّه، وكان ذلك مُشعِرًا بالخلْقِ الأوَّلِ؛ خطَرَ ببالِ فِرعونَ أنْ يسأَلَه عن الاعتقادِ في مَصيرِ النَّاسِ بعدَ الفَناءِ، فسأَلَ: ما بالُ القُرونِ الأُولى؟ ما شأْنُهم؟ وما الخبَرُ عنهم؟ وهو سُؤالُ تَعجيزٍ وتَشغيبٍ .

11- قولُه تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى

- قولُه: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فيه إظهارُ رَبِّي في مَوقعِ الإضمارِ؛ للتَّلذُّذِ بذِكْرِه، ولزِيادةِ التَّقريرِ والإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ الرُّبوبيَّةَ ممَّا يَقْتضي عدَمَ الضَّلالِ والنِّسيانِ حتْمًا .

- والغرَضُ من قولِه: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ التَّوكيدُ بأنَّ أسرارَها مَعلومةٌ له، لا يَزولُ شَيءٌ منها، ويتأكَّدُ هذا بقولِه: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى  .

- وقولُه: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى فيه تعريضٌ بفرعونَ يستلزمُ إبطالَ دعواه الربوبيةَ .

12- قولُه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى استئنافٌ ابتدائيٌّ على عادةِ القُرآنِ مِن تفنُّنِ الأغراضِ؛ لتَجديدِ نَشاطِ الأذهانِ. وتَعريفُ جُزأَيِ الجُملةِ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ يُفِيدُ الحصْرَ، أي: الجاعِلُ الأرضَ مِهادًا؛ فكيف تَعْبُدون غيرَه؟! وهذا قصْرٌ حَقيقيٌّ، غيرُ مَقصودٍ به الرَّدُّ على المُشرِكين، ولكنَّه تَذكيرٌ بالنِّعمةِ، وتَعريضٌ بأنَّ غيرَه ليس حَقِيقًا بالإلهيَّةِ .

- وفي قولِه: فَأَخْرَجْنَا بِهِ انتقَلَ من لفْظِ الغَيبةِ الَّذِي جَعَلَ إلى لفْظِ المُتكلِّمِ المُطاعِ؛ للافتنانِ، وللتَّنبيهِ على ظُهورِ ما فيهِ منَ الدَّلالةِ عَلى كَمالِ القُدرةِ والحِكمةِ، والإيذانِ بأنَّه مُطاعٌ تَنقادُ الأشياءُ المُختلِفةُ لأمْرِه، وتُذعِنُ الأجناسُ المُتفاوِتةُ لمَشيئتِه، لا يَمتنِعُ شَيءٌ على إرادتِه . وفي هذا الالْتِفاتِ تَخصيصٌ أيضًا بأنَّا نحن نقْدِرُ على مثْلِ هذا، ولا نَدخُلُ تحتَ قُدرةِ أحَدٍ . وأيضًا هذا الالتفاتُ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ بصِيغةِ التعظيمِ يدلُّ على تَعظيمِ شأنِ إنباتِ النباتِ؛ لأنَّه لو لم يَنزِلِ الماءُ، ولم يَنبُتْ شيءٌ، لهَلَك الناسُ جُوعًا وعطشًا؛ فهو يدلُّ على عَظمتِه جلَّ وعلا، وشِدَّةِ احتياجِ الخَلقِ إليه، ولُزومِ طاعتِهم له جلَّ وعلا . وحسَّنَ هذا الالْتِفاتَ: أنَّه بعْدَ أنْ حَجَّ المُشرِكينَ بحُجَّةِ انفِرادِه بخلْقِ الأرضِ، وتَسخيرِ السَّماءِ ممَّا لا سَبيلَ بهم إلى نُكرانِه؛ ارْتَقَى إلى صِيغَةِ المُتكلِّمِ المُطاعِ؛ فإنَّ الَّذي خلَقَ الأرضَ، وسخَّرَ السَّماءَ حَقيقٌ بأنْ تُطِيعَه القُوى والعناصِرُ، فهو يُخرِجُ النَّباتَ من الأرضِ بسبَبِ ماءِ السَّماءِ، فكان تَسخيرُ النَّباتِ أثَرًا لتَسخيرِ أصْلِ تَكوينِه من ماءِ السَّماءِ وتُرابِ الأرضِ .

- قولُه: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا كِنايةٌ عن كثْرَتِها في جِهاتِ الأرضِ .

- قولُه: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى لمَّا ذكَرَ مِنَّةَ خلْقِ الأرضِ، شفَعَها بمِنَّةِ إخراجِ النَّباتِ منها بما يُنزِلُ عليها من السَّماءِ من ماءٍ. وتلك مِنَّةٌ تُنْبِئُ عن خلْقِ السَّمواتِ؛ حيث أجْرى ذِكْرَها لقصْدِ ذلك التَّذكيرِ؛ ولذا لم يقُلْ: وصبَبْنا الماءَ على الأرضِ، كما في آيةِ: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: 25، 26]. وهذا إدماجٌ بَليغٌ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا، وقال في سُورةِ الزُّخرفِ: وَجَعَلَ [الزخرف: 10]. ووجْهُه: أنَّ لفْظَ السُّلوكِ مع السَّبيلِ أكثرُ استعمالًا، فخُصَّت به سُورةُ (طه)، وخُصَّت سُورةُ الزُّخرفِ بـ (جَعَل)؛ ازدواجًا للكلامِ، ومُوافقةً لِمَا قبْلَها وما بعْدَها .

13- قولُه تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى مقولُ قَولٍ مَحذوفٍ هو حالٌ من ضَميرِ فَأَخْرَجْنَا، والتَّقديرُ: قائلينَ: كُلوا وارْعَوا أنعامَكم، والأمْرُ للإباحةِ، مُرادٌ به المِنَّةُ، والتَّقديرُ: كُلوا منها، وارْعَوا أنعامَكم منها، وهذا مِن مُقابَلةِ الجمْعِ -في قولِه: نَبَاتٍ شَتَّى- بالجمْعِ؛ لقصْدِ التَّوزيعِ .

- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى جُملةٌ مُعترِضةٌ مُؤكِّدةٌ للاستدلالِ. وتأكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ)؛ لتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلَةَ المُنكرينَ؛ لأنَّهم لم يَنْظروا في دَلالةِ تلك المخلوقاتِ على وَحدانيَّةِ اللهِ، وهم يَحْسبون أنفُسَهم من أُولي النُّهى .

- واسمُ الإشارةِ ذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من شُؤونِه تعالى وأفعالِه، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتْبتِه، وبُعْدِ مَنزلتِه في الكَمالِ .

- وتَنكيرُ لَآَيَاتٍ؛ للتَّفخيمِ كمًّا وكَيفًا، أي: لآياتٍ كثيرةً جَليلةً، واضحةَ الدَّلالةِ على شُؤونِ اللهِ تعالى في ذاتِهِ وصِفاتِه وأفعالِه، وعلى صِحَّةِ نُبوَّةِ مُوسى وهارونَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ. وتَخصيصُ كونِها آياتٍ بأُولي النُّهَى-مع أنَّها آياتٌ للعالمينَ- باعتبارِ أنَّهم المُنتفِعونَ بها .

14- قولُه تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى مُستأنفٌ استئنافًا ابتدائيًّا، وهذا إدماجٌ للتَّذكيرِ بالخلْقِ الأوَّلِ؛ ليكونَ دَليلًا على إمكانِ الخلْقِ الثَّاني بعْدَ الموتِ .

- وقُدِّمَتِ المجروراتُ الثَّلاثةُ -مِنْهَا وَفِيهَا وَمِنْهَا- على مُتعلِّقاتِها؛ فأمَّا المجرورُ الأوَّلُ والمجرورُ الثَّالثُ فَلِلاهتمامِ بكونِ الأرضِ مبدَأَ الخلْقِ الأوَّلِ، والخلْقِ الثَّاني. وأمَّا تَقديمُ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ فَلِلْمُزاوجةِ مع نَظيرَيْه .

- قولُه: وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ إيثارُ كَلِمةِ (في) على كَلمةِ (إلى)؛ للدَّلالةِ على الاستقرارِ المَديدِ فيها .

- قولُه: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ فيه إيماءٌ إلى أنَّ إخراجَ الأجسادِ من الأرضِ بإعادةِ خلْقِها كما خُلِقَت في المرَّةِ الأُولى .

- والآيةُ كالتَّتميمِ للآيةِ الأُولى، والتَّكميلِ للمنافِعِ المنوطةِ بالأرضِ ؛ دلَّتِ الأُولى على بَيانِ مَرافقِهم وأصنافِ انتفاعِهم، وهذه على أنَّها أصْلُهم، وفيها تقلُّبُهم أحياءً وأمواتًا .

===================

 

سورةُ طه

الآيات (56-64)

ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

غريب الكلمات:

 

سُوًى: أي: وسَطًا، وهو مِن الاستواءِ؛ لأنَّ المسافةَ مِن الوسَطِ إلى الطَّرفينِ لا تفاوُتَ فيها، بل هي مُستويةٌ، وأصلُ (سوي): يدلُّ على استِقامةٍ، واعتِدالٍ بين شيئَينِ

.

يَوْمُ الزِّينَةِ: يومُ عيدٍ لهم، وأصلُ (زين): يدُلُّ على حُسنِ الشَّيءِ وتَحسينِه .

كَيْدَهُ: أي حِيَلَه ومَكْرَه، والكَيدُ: ضَربٌ مِن الاحتيالِ، وقد يكونُ مَذمومًا وممدوحًا، وإن كان يُستعمَلُ في المذمومِ أكثَرَ .

فَيُسْحِتَكُمْ: أي: يُهلِكَكم ويَستَأْصِلَكم، وأصلُ (سحت): القِشرُ الذي يُستأصَلُ .

وَأَسَرُّوا النَّجْوَى: أي: أخفَوا كلامَهم، والإسرارُ: خِلافُ الإعلانِ، والنَّجوى: المناجاةُ، وأصلُ (نجو): يدُلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ .

بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى: قيل: أي: بجَماعتِكم الأشراف، والعَرَبُ تقولُ للرَّجُلِ الفاضِلِ: هذا طَريقةُ قَومِه؛ فإنَّ الطريقةَ اسمٌ للأفاضِلِ على معنى أنَّهم الذين يُقتَدى بهم ويُتَّبَعُ آثارُهم، وقيل: أراد سُنَّتَكم ودِينَكم، والمثلَى تأنيثُ الأمثلِ، وهو الأفضلُ .

اسْتَعْلَى: أي: غلَبَ وأفلَحَ، وأصْلُ (علو): يدُلُّ على السُّموِّ والارتفاعِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ

إِنْ مُخفَّفةٌ مِنَ الثَّقيلةِ مُهمَلةٌ، هَذَانِ مبتدأٌ مرفوعٌ بالألفِ، لَسَاحِرَانِ خبرُ المبتدأِ، و(اللامُ) هي الفارِقةُ بينَ إنِ النَّافيةِ والمخَفَّفةِ. وقال الكوفيُّونَ: إِنْ نافيةٌ بمعنى (ما)، واللامُ في لَسَاحِرَانِ بمعنى (إلَّا)، أي: ما هذان إلَّا ساحرانِ. وقيل: إِنْ مُخَفَّفةٌ عامِلةٌ، واسمُها ضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ، هَذَانِ مبتدأٌ مرفوعٌ، لَسَاحِرَانِ (اللامُ) لامُ الابتِداءِ، (ساحرانِ) خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: هما. وجملةُ (هما ساحرانِ) في محلِّ رفعٍ خبَرُ المبتدأِ (هذان)، وجملةُ (هذان لَهُما ساحِرانِ) في محلِّ رَفعٍ خبَرُ (إن) المخفَّفةِ.

وفي قراءةٍ: بتَشديدِ (إنَّ)

، وفي تخريجِها وجوهٌ عِدَّةٌ أجوَدُها وأرجَحُها: أنَّها (إنَّ) النَّاصبةُ، (هذان) اسم (إنَّ) منصوبٌ بها، واللامُ لامُ الابتداءِ المُزحلَقةُ، و (ساحرانِ) خبرُ (إنَّ) مرفوعٌ. ومجيءُ اسمِ الإشارةِ بالألفِ هنا مع أنَّه منصوبٌ: جارٍ على لغةِ بعضِ العَرَبِ مِن إجراءِ المثنَّى بالألفِ مُطلَقًا؛ يجعَلونَ المثنَّى كالمقصورِ، فيُثبِتونَ ألفًا في جميعِ أحوالِه، ويُقَدِّرونَ إعرابَه بالحَركاتِ. وقيل: إنَّ هَذَانِ مبنيٌّ؛ لتضَمُّنِه معنى الإشارةِ كمُفرَدِه وجَمعِه. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا مدَى تعنُّتِ فرعونَ، واستكبارِه عن قَبولِ الحقِّ: ولقد أَرينا فِرعَونَ جميعَ أدِلَّتِنا وحُجَجِنا الدالَّةِ على صِدْقِ رسالةِ موسى، فكذَّب بها فِرعَونُ وامتنَعَ عن قَبولِ الحَقِّ.

ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما قاله فرعونُ لموسى عليه السلامُ على سبيلِ التهديدِ والوعيدِ، فيقول: قال فِرعَونُ: هل جِئتَنا -يا موسى- لِتُخرِجَنا مِن ديارِنا بسِحرِك هذا؟ فلَنأتينَّك بسِحرٍ مِثلِ سِحرِك، فاجعَلْ بيننا وبينك مَوعِدًا مُحدَّدًا لا نُخلِفُه نحن ولا أنت، في مكانٍ وَسَطٍ بيننا. قال موسى لفِرعَونَ: مَوعِدُكم للاجتِماعِ يومُ الزينةِ، حين يتزيَّنُ النَّاسُ ويَجتَمِعونَ في المكان المعتاد لذلك، وأن يساقَ الناسُ للحضورِ في وَقتَ الضُّحَى.

ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما كان مِن فرعونَ بعدَ تحديدِ الموعدِ، فيقولُ: فتولَّى فِرعَونُ، فجمَعَ سَحَرتَه، ثمَّ جاء بعد ذلك لموعدِ الاجتِماعِ بموسى.

ويخبرُ الله تعالى عمَّا دارَ بينَ موسَى عليه السلامُ والسحرةِ، فيقول تعالى: قال موسى للسَّحَرةِ يَعِظُهم: ويلَكم! لا تختَلِقوا على اللهِ الكَذِبَ فيُهلِكَكم ويَستأصِلَكم بعَذابٍ مِن عِندِه، وقد خَسِرَ مَن اختلقَ على اللهِ كَذِبًا.

فاختلَف السَّحرةُ، وتحادَثوا سِرًّا فيما بينهم، قالوا: ما موسى وهارونُ إلَّا ساحرانِ، يُريدانِ أن يُخرِجاكم من أرضِ مِصرَ بسِحرِهما، ويَذهَبَا بدينِكم وشريعتِكم، فأحكِموا سِحرَكم، واعزِموا على كيدِ موسى مِن غَيرِ اختِلافٍ بينكم، ثمَّ ائتُوا صفًّا واحِدًا، وقد ظَفِرَ بمَطلوبِه اليومَ مَن علا على صاحِبِه، فغَلَبه وقَهَرَه.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56).

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا.

أي: ولقد أرَيْنا فِرعَونَ جميعَ مُعجِزاتِنا الدالَّةِ على نبوَّةِ موسى، وصِحَّةِ ما يدعو إليه

.

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الزخرف: 46-50] .

فَكَذَّبَ وَأَبَى.

أي: فكذَّب فِرعَونُ بآياتِ اللهِ، ولم يَقبَلْ ما جاء به موسى وهارونُ مِن تَوحيدِ اللهِ وطاعتِه .

كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 41، 42].

قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57).

أي: قال فِرعَونُ: هل جِئتَنا لِتُخرِجَنا مِن دُورِنا ومَنازِلِنا في مِصرَ، وتستوليَ عليها بسِحرِك يا موسى ؟

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ [يونس: 76 - 78].

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58).

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ.

أي: لكنَّ مرادَكَ هذا لن يتحَقَّقَ يا موسى؛ فلَنُعارِضَنَّك بسِحرٍ مِثلِ سِحرِك، بواسِطةِ سَحَرتِنا الذين نُحضِرُهم إلينا .

فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ.

أي: فحدِّدْ بيننا وبينك وَقتًا معيَّنًا ومَكانًا محدَّدًا نجتَمِعُ فيه، فننظُرُ أيُّنا يغلِبُ الآخَرَ، ولا نَقعُدُ نحن ولا أنت عن إتيانِ ذلك الموعِدِ .

مَكَانًا سُوًى.

أي: في مكانٍ وَسَطٍ .

قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59).

قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ.

أي: قال موسى: مَوعِدُكم هو اليَومُ المخصَّصُ لاجتِماعِ النَّاسِ فيه، وتَزَيُّنِهم وتفَرُّغِهم مِن أعمالِهم، في المكانِ المعتادِ لذلك .

وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.

أي: وأن يُساقَ جَميعُ النَّاسِ مِن كلِّ ناحيةٍ لِحُضورِ اجتِماعِنا في وقتِ الضُّحَى .

فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60).

أي: فتولَّى فِرعَونُ ، وشرَعَ يجمَعُ السَّحَرةَ مِن المدائِنِ، ثمَّ جاء لموعِدِ يومِ الزِّينةِ .

كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [يونس: 79] .

وقال سُبحانَه: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 36 - 42] .

قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61).

قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ.

أي: قال موسى للسَّحَرةِ : ويلَكم! لا تختَلِقوا كَذبًا على اللهِ ؛ فيَستأصِلَكم بهلاكٍ وعذابٍ مِن عِندِه .

وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى.

أي: وقد فات ما رجاه وطَلَبه وأمَّلَه مِن وراءِ كَذِبِه على اللهِ: مَن فَعَل ذلك .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69، 70].

وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116، 117].

فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)

أي: فلمَّا سَمِعَ السَّحَرةُ كلامَ موسى اختَلَفوا ، وتجاذَبوا الحديثَ سِرًّا فيما بينَهم، وبالَغوا في إخفائِه مِن فِرعَونَ .

قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما أسَرُّوه مِن النَّجوَى؛ حكَى عنهم ما أظهَروه، ومجموعُه يدُلُّ على التَّنفيرِ عن موسى -عليه السَّلامُ- ومتابعةِ دينِه .

قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ.

أي: قال السَّحرةُ: ما موسى وهارونُ إلَّا ساحرانِ .

يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا.

أي: يريدُ موسى وهارونُ أن يُخرِجاكم مِن وطَنِكم؛ أرضِ مِصرَ، بالاستيلاءِ عليها بسِحرِهما الذي أظهراه .

وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى.

ويَذْهبا بدينِكم وشريعتِكم ومذهبِكم الذي هو أفضلُ المذاهبِ، بإظهارِ مذهبِهما، وإع