الجمعة، 19 يناير 2024

20.{سورة طه مكية.135.}

20.{سورة طه مكية.135.}

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسورةِ (طه)

، ومما يدلُّ على ذلك:

1- عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قَالَ: (بني إسرائيلَ ، والكهفُ، ومريمُ، وطه، والأنبياءُ: هنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ، وهنَّ مِن تِلادي)  .

2- عن أنسٍ رضي الله عنه، قال: (خرج عمرُ متقلِّدًا بالسَّيفِ، فقيل لهُ: إنَّ خَتَنَك وأختَكَ قد صبَوَا ، فأتاهما عمرُ وعندهما رجلٌ من المهاجِرينَ يقالُ لهُ: خبَّابٌ، وكانوا يقرؤونَ «طه»، فقال: أعطوني الذي عندَكم فأقرأَه، وكان عمرُ يقرأُ الكتبَ، فقالت لهُ أختُه: إنَّك رِجْسٌ ، ولا يمَسُّه إلَّا المطَهَّرونَ، فقُمْ واغتَسِلْ أو توضَّأْ، فقام عمرُ فتوضَّأَ ثمَّ أخذ الكِتابَ فقرأَ «طه»)

فضائل السورة وخصائصها:

 

أنَّها مِن السُّوَرِ المتقدِّمِ نزولُها، ومِن قديمِ ما حفِظ الصَّحابةُ وتعلَّموه

كما في أثرِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ الله عنه المتقدِّمِ قريبًا.

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ (طه) مكِّيَّةٌ

، وحُكِي الإجماعُ على ذلك

مقاصد السورة:

 

من أهمِّ مقاصِدِ هذه السُّورةِ:

رعايةُ اللهِ للمُختارينَ لحَملِ الدعوةِ مِن الرسُلِ وأتباعِهم

موضوعات السورة:

 

من أهمِّ موضوعات هذه السُّورةِ

 

1- التَّنويهُ بعَظَمةِ القُرآنِ الكريمِ وأنَّه منزلٌ مِن الله تعالى.

2- تفصيلُ الكلامِ عن قصةِ موسَى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإرسالِه إلى فرعونَ، وما جرَى بينَهما مِن حوارٍ، وأمرِ السحرةِ وما آلَ إليه أمرُهم، وما فعَله بنو إسرائيلَ في غَيبةِ موسَى عنهم، وإضلالِ السامريِّ لهم.

3- ذِكرُ جَزاءِ المُعرِضينَ عن القرآنِ الكريمِ، وذِكرُ شَيءٍ مِن مشاهِدِ يومِ القيامةِ.

4- بيان مَنزِلةِ القرآنِ، وأنه نزل عربيًّا، وأنَّ الله تعالى صرَّف فيه مِن الوعيدِ.

5- ذكرُ قصَّةِ خَلقِ آدَمَ.

6- أمرُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعدةِ أمورٍ؛ منها: الصبرُ، والإكثارُ مِن ذكرِ الله، وعدمُ التطلُّعِ إلى زهرةِ الحياةِ الدنيا، وأمرُ أهلِه بالصلاةِ.

7- الردُّ على مزاعمِ المشركين، وتهديدُهم بسوءِ العاقبةِ إذا ما استمرُّوا على ضلالِهم.

سورةُ طه

سورة طه مكية | رقم السورة: 20 - عدد آياتها : 135 عدد كلماتها : 1,354 - اسمها بالانجليزي : Taahaa

سورة طه مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم

طه (1) مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ (2) إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ (3) تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى (4) ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ (5) لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى (7) ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ (8) وَهَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ مُوسَىٰٓ (9) إِذۡ رَءَا نَارٗا فَقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِقَبَسٍ أَوۡ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدٗى (10) فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ يَٰمُوسَىٰٓ (11) إِنِّيٓ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوٗى (12) وَأَنَا ٱخۡتَرۡتُكَ فَٱسۡتَمِعۡ لِمَا يُوحَىٰٓ (13) إِنَّنِيٓ أَنَا ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدۡنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ (14) إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخۡفِيهَا لِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا تَسۡعَىٰ (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنۡهَا مَن لَّا يُؤۡمِنُ بِهَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ فَتَرۡدَىٰ (16) وَمَا تِلۡكَ بِيَمِينِكَ يَٰمُوسَىٰ (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُاْ عَلَيۡهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَـَٔارِبُ أُخۡرَىٰ (18) قَالَ أَلۡقِهَا يَٰمُوسَىٰ (19) فَأَلۡقَىٰهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٞ تَسۡعَىٰ (20) قَالَ خُذۡهَا وَلَا تَخَفۡۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ٱلۡأُولَىٰ (21) وَٱضۡمُمۡ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخۡرُجۡ بَيۡضَآءَ مِنۡ غَيۡرِ سُوٓءٍ ءَايَةً أُخۡرَىٰ (22) لِنُرِيَكَ مِنۡ ءَايَٰتِنَا ٱلۡكُبۡرَى (23) ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ (24) قَالَ رَبِّ ٱشۡرَحۡ لِي صَدۡرِي (25) وَيَسِّرۡ لِيٓ أَمۡرِي (26) وَٱحۡلُلۡ عُقۡدَةٗ مِّن لِّسَانِي (27) يَفۡقَهُواْ قَوۡلِي (28) وَٱجۡعَل لِّي وَزِيرٗا مِّنۡ أَهۡلِي (29) هَٰرُونَ أَخِي (30) ٱشۡدُدۡ بِهِۦٓ أَزۡرِي (31) وَأَشۡرِكۡهُ فِيٓ أَمۡرِي (32) كَيۡ نُسَبِّحَكَ كَثِيرٗا (33) وَنَذۡكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرٗا (35) قَالَ قَدۡ أُوتِيتَ سُؤۡلَكَ يَٰمُوسَىٰ (36) وَلَقَدۡ مَنَنَّا عَلَيۡكَ مَرَّةً أُخۡرَىٰٓ (37) إِذۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰٓ (38) أَنِ ٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقۡذِفِيهِ فِي ٱلۡيَمِّ فَلۡيُلۡقِهِ ٱلۡيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأۡخُذۡهُ عَدُوّٞ لِّي وَعَدُوّٞ لَّهُۥۚ وَأَلۡقَيۡتُ عَلَيۡكَ مَحَبَّةٗ مِّنِّي وَلِتُصۡنَعَ عَلَىٰ عَيۡنِيٓ (39) إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ (40) وَٱصۡطَنَعۡتُكَ لِنَفۡسِي (41) ٱذۡهَبۡ أَنتَ وَأَخُوكَ بِـَٔايَٰتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكۡرِي (42) ٱذۡهَبَآ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلٗا لَّيِّنٗا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوۡ يَخۡشَىٰ (44) قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفۡرُطَ عَلَيۡنَآ أَوۡ أَن يَطۡغَىٰ (45) قَالَ لَا تَخَافَآۖ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ (46) فَأۡتِيَاهُ فَقُولَآ إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرۡسِلۡ مَعَنَا بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَا تُعَذِّبۡهُمۡۖ قَدۡ جِئۡنَٰكَ بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّكَۖ وَٱلسَّلَٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلۡهُدَىٰٓ (47) إِنَّا قَدۡ أُوحِيَ إِلَيۡنَآ أَنَّ ٱلۡعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ (48) قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ (49) قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ (50) قَالَ فَمَا بَالُ ٱلۡقُرُونِ ٱلۡأُولَىٰ (51) قَالَ عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَٰبٖۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى (52) ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدٗا وَسَلَكَ لَكُمۡ فِيهَا سُبُلٗا وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّن نَّبَاتٖ شَتَّىٰ (53) كُلُواْ وَٱرۡعَوۡاْ أَنۡعَٰمَكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ (54) ۞مِنۡهَا خَلَقۡنَٰكُمۡ وَفِيهَا نُعِيدُكُمۡ وَمِنۡهَا نُخۡرِجُكُمۡ تَارَةً أُخۡرَىٰ (55) وَلَقَدۡ أَرَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ (56) قَالَ أَجِئۡتَنَا لِتُخۡرِجَنَا مِنۡ أَرۡضِنَا بِسِحۡرِكَ يَٰمُوسَىٰ (57) فَلَنَأۡتِيَنَّكَ بِسِحۡرٖ مِّثۡلِهِۦ فَٱجۡعَلۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكَ مَوۡعِدٗا لَّا نُخۡلِفُهُۥ نَحۡنُ وَلَآ أَنتَ مَكَانٗا سُوٗى (58) قَالَ مَوۡعِدُكُمۡ يَوۡمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحۡشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحٗى (59) فَتَوَلَّىٰ فِرۡعَوۡنُ فَجَمَعَ كَيۡدَهُۥ ثُمَّ أَتَىٰ (60) قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيۡلَكُمۡ لَا تَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا فَيُسۡحِتَكُم بِعَذَابٖۖ وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ (61) فَتَنَٰزَعُوٓاْ أَمۡرَهُم بَيۡنَهُمۡ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجۡوَىٰ (62) قَالُوٓاْ إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ يُرِيدَانِ أَن يُخۡرِجَاكُم مِّنۡ أَرۡضِكُم بِسِحۡرِهِمَا وَيَذۡهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلۡمُثۡلَىٰ (63) فَأَجۡمِعُواْ كَيۡدَكُمۡ ثُمَّ ٱئۡتُواْ صَفّٗاۚ وَقَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡيَوۡمَ مَنِ ٱسۡتَعۡلَىٰ (64) قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِمَّآ أَن تُلۡقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنۡ أَلۡقَىٰ (65) قَالَ بَلۡ أَلۡقُواْۖ فَإِذَا حِبَالُهُمۡ وَعِصِيُّهُمۡ يُخَيَّلُ إِلَيۡهِ مِن سِحۡرِهِمۡ أَنَّهَا تَسۡعَىٰ (66) فَأَوۡجَسَ فِي نَفۡسِهِۦ خِيفَةٗ مُّوسَىٰ (67) قُلۡنَا لَا تَخَفۡ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡأَعۡلَىٰ (68) وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓاْۖ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيۡدُ سَٰحِرٖۖ وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ (69) فَأُلۡقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدٗا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ (70) قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا وَأَبۡقَىٰ (71) قَالُواْ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ (72) إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغۡفِرَ لَنَا خَطَٰيَٰنَا وَمَآ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَيۡهِ مِنَ ٱلسِّحۡرِۗ وَٱللَّهُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ (73) إِنَّهُۥ مَن يَأۡتِ رَبَّهُۥ مُجۡرِمٗا فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ (74) وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ (75) جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ (76) وَلَقَدۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰٓ أَنۡ أَسۡرِ بِعِبَادِي فَٱضۡرِبۡ لَهُمۡ طَرِيقٗا فِي ٱلۡبَحۡرِ يَبَسٗا لَّا تَخَٰفُ دَرَكٗا وَلَا تَخۡشَىٰ (77) فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ بِجُنُودِهِۦ فَغَشِيَهُم مِّنَ ٱلۡيَمِّ مَا غَشِيَهُمۡ (78) وَأَضَلَّ فِرۡعَوۡنُ قَوۡمَهُۥ وَمَا هَدَىٰ (79) يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ قَدۡ أَنجَيۡنَٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ وَوَٰعَدۡنَٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَيۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ (80) كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٞ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ (82) ۞وَمَآ أَعۡجَلَكَ عَن قَوۡمِكَ يَٰمُوسَىٰ (83) قَالَ هُمۡ أُوْلَآءِ عَلَىٰٓ أَثَرِي وَعَجِلۡتُ إِلَيۡكَ رَبِّ لِتَرۡضَىٰ (84) قَالَ فَإِنَّا قَدۡ فَتَنَّا قَوۡمَكَ مِنۢ بَعۡدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَىٰٓ إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ غَضۡبَٰنَ أَسِفٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ أَلَمۡ يَعِدۡكُمۡ رَبُّكُمۡ وَعۡدًا حَسَنًاۚ أَفَطَالَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡعَهۡدُ أَمۡ أَرَدتُّمۡ أَن يَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبٞ مِّن رَّبِّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُم مَّوۡعِدِي (86) قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ (87) فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٞ فَقَالُواْ هَٰذَآ إِلَٰهُكُمۡ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوۡنَ أَلَّا يَرۡجِعُ إِلَيۡهِمۡ قَوۡلٗا وَلَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ ضَرّٗا وَلَا نَفۡعٗا (89) وَلَقَدۡ قَالَ لَهُمۡ هَٰرُونُ مِن قَبۡلُ يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِۦۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحۡمَٰنُ فَٱتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوٓاْ أَمۡرِي (90) قَالُواْ لَن نَّبۡرَحَ عَلَيۡهِ عَٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرۡجِعَ إِلَيۡنَا مُوسَىٰ (91) قَالَ يَٰهَٰرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذۡ رَأَيۡتَهُمۡ ضَلُّوٓاْ (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِۖ أَفَعَصَيۡتَ أَمۡرِي (93) قَالَ يَبۡنَؤُمَّ لَا تَأۡخُذۡ بِلِحۡيَتِي وَلَا بِرَأۡسِيٓۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَيۡنَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَمۡ تَرۡقُبۡ قَوۡلِي (94) قَالَ فَمَا خَطۡبُكَ يَٰسَٰمِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ يَبۡصُرُواْ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةٗ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِي نَفۡسِي (96) قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدٗا لَّن تُخۡلَفَهُۥۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰٓ إِلَٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلۡتَ عَلَيۡهِ عَاكِفٗاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِي ٱلۡيَمِّ نَسۡفًا (97) إِنَّمَآ إِلَٰهُكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ وَسِعَ كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمٗا (98) كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ مَا قَدۡ سَبَقَۚ وَقَدۡ ءَاتَيۡنَٰكَ مِن لَّدُنَّا ذِكۡرٗا (99) مَّنۡ أَعۡرَضَ عَنۡهُ فَإِنَّهُۥ يَحۡمِلُ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وِزۡرًا (100) خَٰلِدِينَ فِيهِۖ وَسَآءَ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ حِمۡلٗا (101) يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ وَنَحۡشُرُ ٱلۡمُجۡرِمِينَ يَوۡمَئِذٖ زُرۡقٗا (102) يَتَخَٰفَتُونَ بَيۡنَهُمۡ إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا عَشۡرٗا (103) نَّحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذۡ يَقُولُ أَمۡثَلُهُمۡ طَرِيقَةً إِن لَّبِثۡتُمۡ إِلَّا يَوۡمٗا (104) وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡجِبَالِ فَقُلۡ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسۡفٗا (105) فَيَذَرُهَا قَاعٗا صَفۡصَفٗا (106) لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجٗا وَلَآ أَمۡتٗا (107) يَوۡمَئِذٖ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُۥۖ وَخَشَعَتِ ٱلۡأَصۡوَاتُ لِلرَّحۡمَٰنِ فَلَا تَسۡمَعُ إِلَّا هَمۡسٗا (108) يَوۡمَئِذٖ لَّا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُۥ قَوۡلٗا (109) يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِۦ عِلۡمٗا (110) ۞وَعَنَتِ ٱلۡوُجُوهُ لِلۡحَيِّ ٱلۡقَيُّومِۖ وَقَدۡ خَابَ مَنۡ حَمَلَ ظُلۡمٗا (111) وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا يَخَافُ ظُلۡمٗا وَلَا هَضۡمٗا (112) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا وَصَرَّفۡنَا فِيهِ مِنَ ٱلۡوَعِيدِ لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ أَوۡ يُحۡدِثُ لَهُمۡ ذِكۡرٗا (113) فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡحَقُّۗ وَلَا تَعۡجَلۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مِن قَبۡلِ أَن يُقۡضَىٰٓ إِلَيۡكَ وَحۡيُهُۥۖ وَقُل رَّبِّ زِدۡنِي عِلۡمٗا (114) وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا (115) وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ (116) فَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوّٞ لَّكَ وَلِزَوۡجِكَ فَلَا يُخۡرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلۡجَنَّةِ فَتَشۡقَىٰٓ (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعۡرَىٰ (118) وَأَنَّكَ لَا تَظۡمَؤُاْ فِيهَا وَلَا تَضۡحَىٰ (119) فَوَسۡوَسَ إِلَيۡهِ ٱلشَّيۡطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكٖ لَّا يَبۡلَىٰ (120) فَأَكَلَا مِنۡهَا فَبَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ (121) ثُمَّ ٱجۡتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيۡهِ وَهَدَىٰ (122) قَالَ ٱهۡبِطَا مِنۡهَا جَمِيعَۢاۖ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ فَإِمَّا يَأۡتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدٗى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ (123) وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيرٗا (125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتۡكَ ءَايَٰتُنَا فَنَسِيتَهَاۖ وَكَذَٰلِكَ ٱلۡيَوۡمَ تُنسَىٰ (126) وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي مَنۡ أَسۡرَفَ وَلَمۡ يُؤۡمِنۢ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦۚ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبۡقَىٰٓ (127) أَفَلَمۡ يَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ يَمۡشُونَ فِي مَسَٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ (128) وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامٗا وَأَجَلٞ مُّسَمّٗى (129) فَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ غُرُوبِهَاۖ وَمِنۡ ءَانَآيِٕ ٱلَّيۡلِ فَسَبِّحۡ وَأَطۡرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرۡضَىٰ (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ (131) وَأۡمُرۡ أَهۡلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصۡطَبِرۡ عَلَيۡهَاۖ لَا نَسۡـَٔلُكَ رِزۡقٗاۖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكَۗ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلتَّقۡوَىٰ (132) وَقَالُواْ لَوۡلَا يَأۡتِينَا بِـَٔايَةٖ مِّن رَّبِّهِۦٓۚ أَوَ لَمۡ تَأۡتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلۡأُولَىٰ (133) وَلَوۡ أَنَّآ أَهۡلَكۡنَٰهُم بِعَذَابٖ مِّن قَبۡلِهِۦ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوۡلَآ أَرۡسَلۡتَ إِلَيۡنَا رَسُولٗا فَنَتَّبِعَ ءَايَٰتِكَ مِن قَبۡلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخۡزَىٰ (134) قُلۡ كُلّٞ مُّتَرَبِّصٞ فَتَرَبَّصُواْۖ فَسَتَعۡلَمُونَ مَنۡ أَصۡحَٰبُ ٱلصِّرَٰطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهۡتَدَىٰ (135)

الآيات (1-8)طه (1) مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ (2) إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ (3) تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى (4) ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ (5) لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى (7) ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ (8)

غريب الكلمات:

الثَّرَى: أي: التُّرابِ النَّديِّ الرَّطْبِ المُبتلِّ، وهو الذي تحت الظاهِرِ مِن وَجهِ الأرضِ، وأصلُه خِلافُ اليَبَسِ

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى

قولُه تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً: في نصبه أوجهٌ:

أحدُها: أنْ يكونَ مَفعولًا مِن أجلِه، والعامِلُ فيه أَنْزَلْنَا، وكذلك لِتَشْقَى علةٌ له أيضًا، ولا مانِعَ مِن أنْ يعلَّلَ الفِعلُ بعِلَّتينِ فأكثرَ، ووجبَ مجيءُ الأوَّلِ لِتَشْقَى مع اللامِ لاختلافِ الفاعِلِ؛ ففاعِلُ الإنزالِ الله سُبحانَه، وفاعِلُ لِتَشْقَى الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم، ففاتَتْه شريطةُ الانتصابِ، أما الثَّاني تَذْكِرَةً فاستكمَلَ شُروطَ النَّصبِ على المفعولِ لأجلِه. والاستِثناءُ مُفرَّغٌ.

الثاني: أنْ يكونَ منصوبًا على الاستثناءِ المُنقَطِع، أي: ما أنزَلْناه لشَقائِك، لكنْ أنزَلْناه تذكِرةً.

الثالث: أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلٍ مُقَدَّرٍ، أي: لكنْ ذَكَّرْنا به تَذْكِرةً.

الرابع: أنَّه مصدرٌ في موضِع الحالِ مِن الكافِ في عَلَيْكَ، أو من الْقُرْآنَ، والاستثناءُ مُفرَّغ، أي: إلَّا مُذَكِّرًا

المعنى الإجمالي:

 

ابتدأت السورةُ بالحُروفِ المقطَّعةِ، وقد سبق الكلامُ عنها في أوَّلِ سُورةِ (مريمَ)، ثمَّ قال تعالى: ما أنزَلْنا عليك -يا مُحمَّدُ- القرآنَ ليكونَ سَببًا في شقائِك، لكِنْ أنزَلْناه عظةً لمن يخشى الله ويخافُ عِقابَه.

ثمَّ بيَّن الله تعالى مصدرَ هذا القرآنِ، فقال: وقد نُزَّلَ هذا القرآنَ تنزيلًا مِن الله الذي خلَقَ الأرضَ والسَّمواتِ العُلا؛ الرَّحمنُ على العَرشِ ارتفَعَ وعلا، على ما يليقُ بجَلالِه وعَظَمتِه.

ثم أكَّد سبحانَه شمولَ ملكِه، وعمومَ قدرتِه، فقال: له ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وما تحتَ الأرضِ، وإنْ تجهَرْ -يا مُحمَّدُ- بالقَولِ أو تُخفِه؛ فإنَّ اللهَ لا يَخفى عليه شيءٌ، فهو يعلَمُ السِّرَّ وما هو أخفَى مِن السِّرِّ ممَّا لم يخطُرْ على قُلوبِ العبادِ، فيعلَمُ أنه سيخطرُ ببالِهم.

ثمَّ أثنَى الله سبحانَه على ذاتِه بما هو أهلٌ له، فقال: اللهُ لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا هو، له وَحْدَه الأسماءُ الكاملةُ في الحُسنِ.

تفسير الآيات:

 

طه (1).

تقدَّم الكلامُ عن هذه الحروفِ المقطَّعةِ في أوَّلِ تفسيرِ سُورةِ (مريمَ)

.

مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2).

أي: ما أنزَلْنا عليك القُرآنَ -يا محمَّدُ- ليكونَ سَببًا في جلْبِ شَيءٍ من الشَّقاءِ لك .

إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3).

أي: إنَّما أنزَلْنا عليك القُرآنَ -يا مُحمَّدُ- تذكيرًا وعظةً لِمن يخشَى اللهَ، ويخافُ عذابَه .

كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .

وقال سُبحانه: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى: 9، 10].

تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4).

أي: نزل هذا القرآنُ تنزيلًا مِنَ الله الذي خلقَ الأرضَ المُنخَفضةَ والسَّمواتِ العاليةَ الرَّفيعةَ .

كما قال تعالى: تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت: 2].

الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ الله تعالى أنَّه الخالقُ المدَبِّرُ الآمِرُ الناهي؛ أخبَرَ عن عظمته وكبريائِه ، فقال تعالى:

الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5).

أي: الرَّحمنُ علا وارتفَعَ على عَرشِه، كما يليقُ بجَلالِه .

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6).

أي: لله وَحْدَه مُلكُ جَميعِ ما في السَّمواتِ، وجميعِ ما في الأرضِ، وما بينَهما وما تحتَ التُّرابِ ممَّا في باطِنِ الأرضِ مِن المخلوقاتِ، وهو المتصَرِّفُ فيهم بتدبيرِه ومشيئتِه وَحْدَه .

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ الله تعالى أولًا إنشاءَ السَّمواتِ والأرضِ، وذكَرَ أنَّ جميعَ ذلك وما فيهما مُلكُه؛ ذكَرَ تعالى صِفةَ العِلمِ، وأنَّ عِلمَه لا يغيبُ عنه شَيءٌ ، فالآيةُ بَيانٌ لإحاطةِ عِلْمِه تعالَى بجميعِ الأشياءِ إثْرَ بَيانِ سَعَةِ سَلْطنتِه، وشُمولِ قُدرتِه لجميعِ الكائناتِ .

وأيضًا لمَّا كان المُلكُ لا ينتظمُ غايةَ الانتظامِ إلَّا بإحاطة العلم، وكان المَلكُ من الآدميين قد لا يعلمُ أحوالَ أقصى ملكِه كما يعلمُ أحوالَ أدناه، لاسيما إذا كان واسعًا، ولذلك يختلُّ بعضُ أمرِه؛ أعلَمَ أنَّه سُبحانَه بخلافِ ذلك، فقال حثًّا على مراقبتِه، والإخلاصِ له :

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7).

أي: وإنْ تجهَرْ بقَولِك -يا مُحمَّدُ - أو تُسِرَّه، فكُلٌّ سَواءٌ في عِلمِ اللهِ؛ فإنَّه يعلَمُ ما تُسِرُّه النفوسُ، ويعلَمُ ما هو أخفى من السِّرِّ ممَّا لم يخطُرْ على قلوبِ العبادِ، يعلَمُ أنه سيخطرُ ببالِهم كذا وكذا، في وقتِ كذا وكذا .

كما قال تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 6] .

وقال سُبحانَه: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ [الأنبياء: 110] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [الأعلى: 7] .

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما كان مَن هو بهذه الأوصافِ مِن تمامِ العِلمِ والقُدرةِ رُبَّما ظُنَّ أنَّ له منازعًا؛ نفَى ذلك مُعْلِمًا أنَّ هذا الظَّنَّ باطِلٌ قطعًا لا شُبهةَ له .

وأيضًا لَمَّا قرَّرَ كَمالَه المطلَقَ بعُمومِ خَلقِه، وعُمومِ أمْرِه ونهيِه، وعُمومِ رَحمتِه، وسَعةِ عَظَمتِه وعُلُوِّه على عَرشِه، وعُمومِ مُلكِه، وعُمومِ عِلمِه؛ نتَج مِن ذلك أنَّه المستحِقُّ للعبادةِ، وأنَّ عبادتَه هي الحَقُّ التي يُوجِبُها الشَّرعُ والعَقلُ والفِطرةُ، وعبادةُ غيرِه باطِلةٌ، فقال :

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.

أي: اللهُ لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا هو، ولا يستحِقُّ العبادةَ غيرُه؛ فأخلِصوا له العبادةَ وَحْدَه .

لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى.

أي: لله وَحْدَه الأسماءُ الكثيرةُ الكامِلةُ في حُسنِها، الدَّالَّةُ على صِفاتِ كَمالِه سُبحانَه

 

.

كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] .

وقال سُبحانَه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] .

وقال عزَّ وجلَّ: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر: 22 - 24] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى فليس المقصودُ بالوحيِ، وإنزالِ القُرآنِ عليك، وشَرعِ الشَّريعةِ: أنْ تشقَى بذلك، ويكونَ في الشَّريعةِ تكليفٌ يشُقُّ على المكَلَّفينَ، وتعجِزُ عنه قوى العامِلينَ، وإنما الوحيُ والقرآنُ والشَّرعُ، شَرَعه الرحيمُ الرَّحمنُ، وجعله موصِلًا للسَّعادةِ والفلاحِ والفوزِ، وسهَّله غايةَ التَّسهيلِ، ويسَّرَ كُلَّ طُرقِه وأبوابِه، وجعلَه غِذاءً للقلوب والأرواحِ، وراحةً للأبدان، فتلَقَّتْه الفِطَرُ السَّليمةُ والعقولُ المستقيمةُ بالقَبولِ والإذعانِ؛ لعِلمِها بما احتوى عليه مِن الخيرِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ ولهذا قال تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى

.

2- آياتُ اللهِ الإيمانيةُ القرآنيةُ إنما يَنتَفِعُ بها أهلُ التَّقوى والخشيةِ والإنابةِ ومَن كان قَصدُه اتِّبَاعَ رضوانِه؛ وأنها يَتذَكَّرُ بها مَن يخشاه سُبحانَه، قال تعالى: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى .

3- قولُ الله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى فيه حَثٌّ على مُراقَبةِ الله تعالى، والإخلاصِ له

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى جَمَعَ الله لنبيِّه سُبحانَه بينَ إنزالِ القرآنِ عليه وبين نَفْيِ الشَّقاءِ عنه، كما قال في آخِرِها- في حقِّ أتبَاعِه: فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123] ؛ فالهُدى والفَضلُ والنِّعمةُ والرَّحمةُ مُتلازِماتٌ لا يَنْفَكُّ بعضُها عن بعضٍ، كما أنَّ الضَّلالَ والشَّقاءَ متلازمانِ لا يَنفَكُّ أحدُهما عن الآخَرِ

.

2- كثيرًا ما يُقرَنُ بينَ الخلقِ والأمرِ، كما في قوله: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا وقَولِه: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وقَولِه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ وذلك أنَّه الخالقُ الآمرُ الناهي، فكما أنَّه لا خالقَ سواه، فليس على الخلقِ إلزامٌ ولا أمرٌ ولا نهيٌ إلَّا مِن خالقِهم، وأيضًا فإنَّ خلقَه للخلقِ فيه التدبيرُ القدريُّ الكونيُّ، وأمرَه فيه التدبيرُ الشرعيُّ الدينيُّ، فكما أنَّ الخلقَ لا يخرجُ عن الحكمةِ، فلم يخلقْ شيئًا عبثًا، فكذلك لا يأمرُ ولا ينهَى إلا بما هو عدلٌ وحكمةٌ وإحسانٌ .

3- قولُ الله تعالى: وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا فائِدةُ وَصفِ السَّمواتِ بالعُلا: الدَّلالةُ على عِظَمِ قُدرةِ مَن يخلُقُ مِثلَها في عُلُوِّها، وبُعدِ مُرتقاها ؛ إذ لا يُمكِنُ وُجودُ مثْلِها في عُلوِّها مِن غيرِه تعالى .

4- قال الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى في ذِكرِ الرَّحْمَنُ إشارةٌ إلى أنَّه مع عُلُوِّه وعظمَتِه مَوصوفٌ بالرَّحمةِ .

5- لما كان خطابُ الناسِ لا يتأتَّى إلا بالجهرِ بالكلام، جاء الشرطُ بالجهرِ، فقال: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ، وعلَّق على الجهرِ علمَه بالسرِّ، فقال: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى؛ لأنَّ علمَه بالسرِّ يتضمَّنُ علمَه بالجهرِ، أي: إذا كان يعلمُ السرَّ فأحرَى أنْ يعلمَ الجهرَ، والسِّرُّ مقابِلٌ للجهرِ، كما قال: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ

 

[الأنعام: 3] .

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى استئنافٌ مَسوقٌ؛ لتَسليتِه صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا كان يَعْتريه من جِهَةِ المُشرِكين من التَّعبِ؛ فإنَّ الشَّقاءَ شائعٌ في ذلك المَعنى، ولعلَّه عبَّرَ بـ لِتَشْقَى بدلًا من (لِتَتْعَبَ)؛ للإشْعارِ بأنَّه أُنزِلَ عليه لِيسعَدَ. وقيل: إنَّه رَدٌّ وتَكذيبٌ للكَفرةِ؛ فإنَّهم لمَّا رأَوا كثرةَ عبادتِه، قالوا: إنَّك لَتَشقَى بترْكِ دِينِنا، وإنَّ القُرآنَ أُنزِلَ عليك لِتَشقى به؛ ففيه تَعريضٌ بأنَّهمُ الأشقياءُ

.

- قولُه: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى وُقوعُ فِعْلِ أَنْزَلْنَا في سياقِ النَّفيِ يَقْتضي عُمومَ مَدْلولِه، وعُمومُ الفعْلِ يَستلزِمُ عُمومَ مُتعلِّقاتِه مِن مفعولٍ ومَجرورٍ؛ فيعُمُّ نفْيَ جميعِ كلِّ إنزالٍ للقُرآنِ فيه شَقاءٌ له، ونفْيَ كلِّ شَقاءٍ يتعلَّقُ بذلك الإنزالِ، أي: جميعِ أنواعِ الشَّقاءِ؛ فلا يكونُ إنزالُ القُرآنِ سببًا في شَيءٍ من الشَّقاءِ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم .

2- قولُه تعالى: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى

- قولُه: إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى خُصَّ مَن يَخْشى مع عُمومِ التَّذكرةِ والتَّبليغِ؛ لأنَّهم المُنتفِعون بها ، وفيه: تَنويهٌ بشأْنِ المُؤمِنين الَّذين آمنوا بأنَّهم كانوا من أهْلِ الخشيةِ، ولولا ذلك لَمَا تَذكَّروا بالقُرآنِ .

3- قوله تعالى: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا

- قولُه: تَنْزِيلًا حالٌ ثانيةٌ، والمقصودُ منها التَّنويهُ بالقُرآنِ، والعِنايةُ به؛ لِيَنتقِلَ مِن ذلك إلى الكِنايةِ بأنَّ الَّذي أنزَلَه عليك بهذه المَثابةِ لا يَترُكُ نصْرَك وتأْييدَك . وفي قولِه: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا تَفخيمٌ وتعظيمٌ لشأْنِ القُرآنِ؛ إذ هو منسوبٌ تَنزيلُه إلى مَن هذه أفعالُه وصِفاتُه، وتَحقيرٌ لمَعبوداتِهم، وتَحريضٌ للنُّفوسِ على الفِكْرِ والنَّظرِ ، فإنَّه تعظُمُ الرِّسالةُ بتعظيمِ حالِ المُرسِلِ؛ ليكونَ المُرسَلُ إليه أقرَبَ إلى الامتِثالِ .

- أشار بالمصدَرِ الجاري على غيرِ الفِعْلِ في قولِه: تَنْزِيلًا، إلى أنَّه يتمهَّلُ عليهم ترفُّقًا بهم، ولا يُنزِلُ هذا القُرآنَ إلَّا تدريجًا؛ إزالةً لشُبَهِهم، وشرْحًا لصُدورِهم، وتَسكينًا لنُفوسِهم، ومَدًّا لمُدَّةِ البركةِ فيهم بتَردُّدِ الملائكةِ الكِرامِ إليهم، كما أنَّه لم يُهْلِكْهم بمَعاصيهم؛ اكتفاءً ببيِّنةِ ما في الصُّحفِ الأُولى، بل أرسَلَ إليهم رسولًا .

- وفي قولِه: مِمَّنْ خَلَقَ الْتِفاتٌ؛ إذ فيها الخُروجُ من ضَميرِ التَّكلُّمِ -وهو في مَا أَنْزَلْنَا- إلى الغَيبةِ، وفيه عادةُ التَّفنُّنِ في الكلامِ، وهو ممَّا يَحسُنُ؛ إذ لا يَبْقَى على نظامٍ واحدٍ، وجَريانُ هذه الصِّفاتِ على لفْظِ الغَيبةِ والتَّفخيمِ بإسنادِ الإنزالِ إلى ضَميرِ الواحدِ المُعظِّمِ نفْسَه، ثمَّ إسنادُه إلى مَن اخْتُصَّ بصفاتِ العظمةِ الَّتي لم يُشارِكْه فيها أحدٌ، فحصَلَ التَّعظيمُ من الوجهينِ؛ فهو مَسوقٌ لتَعظيمِ شأْنِ المُنزِّلِ عَزَّ وجَلَّ المُستَتْبِعِ لتَعظيمِ شأْنِ المُنزَّلِ، الدَّاعي إلى تَربيةِ المَهابةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ المُؤدِّيةِ إلى استنزالِ المُتمرِّدينَ عن رُتْبةِ العُتوِّ والطُّغيانِ، واستمالتِهم نحوَ الخشيةِ المُفْضِيةِ إلى التَّذكرةِ والإيمانِ .

- والعُدولُ عن اسمِ الجَلالةِ أو عن ضَميرِه إلى الموصوليَّةِ مِمَّنْ خَلَقَ؛ لِمَا تُؤذِنُ به الصِّلةُ من تحتُّمِ إفرادِه بالعبادةِ؛ لأنَّه خالقُ المُخاطَبين بالقُرآنِ وغيرِهم ممَّا هو أعظَمُ منهم خلْقًا .

- وتَخصيصُ خلْقِه السَّمواتِ والأرضَ بالذِّكرِ -مع أنَّ المُرادَ خلْقُهما بجميعِ ما يتعلَّقُ بهما-؛ لأصالتِهما، واستتباعِهما لِمَا عداهما. وتَقديمُ الأرضِ؛ لكونِها أقرَبَ إلى الحسِّ، وأظهَرَ عنده من السَّمواتِ العُلى .

4- قولُه تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى فيه وصْفُه بالرَّحمانيَّةِ بعدَ وصْفِه بخالِقيَّةِ السَّمواتِ والأرضِ؛ للإشعارِ بأنَّ خلْقَهما من آثارِ رحْمتِه تعالى، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ تَنزيلَ القُرآنِ أيضًا مِن أحكامِ رَحمتِه تعالى، كما يُنبِئُ عنه قولُه تعالى: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ [الرحمن: 1-2]. وأيضًا اختِيرَ وصْفُ (الرَّحمن) لتَعليمِ النَّاسِ به؛ لأنَّ المُشرِكين أنْكَروا تَسميتَه تعالى الرَّحمنَ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان: 60] . وفي ذِكْرِه هنا، وكثرةِ التَّذكيرِ به في القُرآنِ: بعْثٌ على إفرادِه بالعبادةِ؛ شُكْرًا على إحسانِه بالرَّحمةِ البالغةِ .

- وعَلَى مُتعلِّقةٌ بـ اسْتَوَى؛ قُدِّمَت عليه لمُراعاةِ الفواصلِ ؛ ولإفادةِ الحصرِ والتخصيصِ، وبيانِ أنَّه سُبحانَه وتعالى لم يستوِ على شيءٍ سوى العَرشِ .

- واختيارُ اسمِ (الرَّحمن) هنا دونَ (الرَّحيم)؛ لِمَا في وزْنِ (فَعْلان) من سَعَةِ هذا الوصْفِ، وثُبوتِ جَميعِ معناهُ الموصوفِ به؛ ولهذا يَقْرِنُ استواءَه على العرْشِ بهذا الاسمِ كثيرًا؛ فاستوى على عَرْشِه باسْمِ الرَّحمنِ؛ لأنَّ العرْشَ مُحيطٌ بالمخلوقاتِ قد وسِعَها، والرَّحمةُ مُحيطةٌ بالخلْقِ واسعةٌ لهم؛ فاسْتَوى على أوسَعِ المخلوقاتِ بأوسَعِ الصِّفاتِ؛ فلذلِكَ وسِعَت رَحمتُه كلَّ شَيءٍ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] .

5- قولُه تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى

- تَقديمُ المجرورِ في قولِه: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ للقصْرِ؛ رَدًّا على زعْمِ المُشرِكين أنَّ لآلهتِهم تَصرُّفاتٍ في الأرضِ، وأنَّ للجنِّ اطِّلاعًا على الغيبِ، ولتَقريرِ الرَّدِّ ذُكِرَتْ أنحاءُ الكائناتِ؛ وهي السَّمواتُ والأرضُ، وما بينهما، وما تحْتَ الثَّرى .

- وذِكرُ ما تحْتَ الثَّرى مع دُخولِه تحتَ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ .

6- قولُه تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى عطْفٌ على جُملةِ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ لدَلالةِ هذه الجُملةِ على سَعَةِ عِلْمِه تعالى، كما دلَّتِ الجُملةُ المعطوفُ عليها على عَظِيمِ سُلْطانِه وقُدرتِه، وأصْلُ النَّظمِ: ويعلَمُ السِّرَّ وأخْفى إنْ تَجهَرْ بالقولِ؛ فموقِعُ قولِه: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ مَوقِعُ الاعتراضِ بين جُملةِ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وجُملةِ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؛ فَصِيغَ النَّظمُ في قالِبِ الشَّرطِ والجَزاءِ؛ زِيادةً في تَحقيقِ حُصولِه على طَريقةِ ما يُسمَّى بالمذهبِ الكلاميِّ، وهو سَوقُ الخبرِ في صِيغَةِ الدَّليلِ على وُقوعِه؛ تَحقيقًا له .

- وطابَقَ الجَزاءُ الشَّرطَ؛ لأنَّ معناهُ: وإنْ تجهَرْ بذِكْرِ اللهِ من دُعاءٍ أو غيرِه، فاعْلَمْ أنَّه غَنِيٌّ عن جَهْرِك؛ فإمَّا أنْ يكونَ نهْيًا عن الجَهْرِ، كقولِه تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف: 205] ، وإمَّا تعليمًا للعِبادِ أنَّ الجَهْرَ ليس لإسماعِ اللهِ، وإنَّما هو لغرضٍ آخرَ .

- واختِيرَ في إثباتِ سَعَةِ عِلْمِ اللهِ تعالى خُصوصُ عِلْمِه بالمسموعاتِ؛ لأنَّ السِّرَّ أخْفى الأشياءِ عن عِلْمِ النَّاسِ في العادةِ، و(أَخْفَى) اسمُ تَفضيلٍ، وحُذِفَ المُفضَّلُ عليه؛ لدَلالةِ المَقامِ عليه، أي: وأخْفى منَ السِّرِّ ، وتَنكيرُه؛ للمُبالغةِ في الخَفاءِ .

7- قولُه تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ أنَّ ما ذُكِرَ من صِفاتِ الكَمالِ مَوصوفُها ذلك المعبودُ بالحقِّ، أي: ذلك المَنْعوتُ بما ذُكِرَ منَ النُّعوتِ الجليلةِ اللهُ عَزَّ وجَلَّ. وقولُه تعالَى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ تَحقيقٌ للحقِّ، وتَصريحٌ بما تضمَّنَه ما قبْلَه مِن اختصاصِ الأُلوهيَّةِ به سُبحانه؛ فإنَّ ما أُسنِدَ إليه تعالى مِن خلْقِ جميعِ الموجوداتِ، والرَّحمانيَّةِ، والمالكيَّةِ للكلِّ، والعلْمِ الشَّاملِ: ممَّا يَقْتضيه اقتضاءً بَيِّنًا .

- وهو تَذييلٌ لِمَا قبْلَه؛ لأنَّ ما قبْلَه تضمَّنَ صِفاتٍ من فِعْلِ اللهِ تعالى، ومن خلْقِه، ومِن عَظَمَتِه؛ فجاء هذا التَّذييلُ بما يَجمَعُ صِفاتِه .

- وقولُه: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى بَيانٌ لكونِ ما ذُكِرَ من الخالقيَّةِ والرَّحمانيةِ والمالكيَّةِ والعالِميَّةِ أسماءَه وصِفاتِه، من غيرِ تعدُّدٍ في ذاتِه تعالى .

- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى؛ للاختصاصِ، أي: لا لغيرِه. ووصْفُ الأسماءِ بالحُسْنى؛ لأنَّها دالَّةٌ على حقائقَ كاملةٍ بالنِّسبةِ إلى المُسمَّى بها، تعالى وتقدَّسَ .

===============

 

سورةُ طه

الآيات (9-16)

ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ

غريب الكلمات:

 

آَنَسْتُ: أي: أبصَرتُ، والإيناسُ: الرُّؤيةُ، والعِلمُ، والإحساسُ بالشَّيءِ

.

بِقَبَسٍ: أي: بشُعلةٍ مِن النَّارِ، مِن قَولِهم: قَبَسْتُه نارًا: إذا جِئتَه بها .

بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى: طُوى هو اسمُ الوادي، أو مصدرٌ، كقولِك: ناديتُ طُوى، أي: مرَّتين، أي: قُدِّس مرتين، والمقدَّس: المطهَّر، وأصلُ (قدس): طُهْرٌ .

فَتَرْدَى: أي: تَهلِكَ، والرَّدَى: الموتُ والهلاكُ، وأصلُ (ردي): يدُلُّ على رَميٍ وتَرامٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبينًا قصةَ موسَى عليه السلامُ بشيءٍ مِن التفصيلِ: وهل أتاك -يا مُحمَّدُ- خبَرُ موسى حين رأى نارًا مُوقَدةً في ليلةٍ مُظلِمةٍ، فقال لأهلِه: انتَظِروا لقد أبصرتُ نارًا، لعلِّي أجيئُكم منها بشُعلةٍ تَستَدفِئونَ بها، أو أجِدُ عندها هاديًا يدُلُّنا على الطَّريقِ.

فلمَّا أتى موسى تلك النَّارَ ناداه الله: يا موسى، إنِّي أنا ربُّك، فاخلَعْ نَعلَيك؛ لأنَّك بوادي «طُوًى» المطَهَّرِ المُبارَكِ، وإنِّي اخترتُك -يا موسى- لرسالتي وكلامي، فاستَمِعْ لِما يُوحَى إليك مِنِّي، إنَّني أنا اللهُ لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا أنا، لا شريكَ لي؛ فاعبُدني وحدي، وأقِمِ الصَّلاةَ لتَذكُرَني فيها.

ثمَّ بيَّن سبحانه أنَّ الساعةَ آتيةٌ، وحذَّر مِن عدمِ الاستعدادِ لها فقال: إنَّ القيامةَ آتيةٌ لا بُدَّ مِن وُقوعِها، أكادُ أُخفيها مِن نَفسي، فلا يَعلَمُها أحَدٌ. تقومُ السَّاعةُ لكي تُجزى كلُّ نفسٍ بما عَمِلَت في الدُّنيا من خيرٍ أو شَرٍّ، فلا يَصرِفَنَّك -يا موسى- عن الإيمانِ بها والاستعدادِ لها مَن لا يصَدِّقُ بوُقوعِها، ولا يعمَلُ لها، واتَّبَعَ شهواتِه؛ فتَهلِكَ.

تفسير الآيات:

 

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما عظَّمَ الله تعالى حال القرآنِ وحال الرسولِ فيما كلَّفه؛ أتبع ذلك بما يقَوِّي قَلبَ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِن ذِكرِ أحوال الأنبياءِ عليهم السَّلامُ؛ تقويةً لقَلبِه في الإبلاغِ، وبدأ بموسى -عليه السلام- لأنَّ المِحنةَ والفِتنةَ الحاصلة له كانت أعظَمَ؛ ليُسَلِّيَ قَلبَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، ويصَبِّرَه على تحمُّلِ المكارهِ

.

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9).

أي: وهل أتاك -يا مُحمَّدُ- خبَرُ موسى ؟

إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10).

إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا.

أي: حين رأى نارًا -وهو مسافِرٌ مِن مَدينَ إلى مِصرَ في ليلةٍ مُظْلِمةٍ باردةٍ- فقال لزوجتِه ووَلَدِه: أقيموا أنتم في مكانِكم، فقد أبصرتُ نارًا .

لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ.

أي: وأنا ذاهبٌ إليها رجاءَ أنْ أجلِبَ منها شعلةً تَستَدفِئونَ بها .

كما قال تعالى: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص: 29] .

وقال سُبحانَه: إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل: 7] .

أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى.

أي: أو رجاءَ أنْ ألقَى عندَ تلك النَّارِ ما يَهديني الطريقَ الذي ضَلَلْناه .

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11).

أي: فلما أتَى موسى إلى النَّارِ ناداه اللهُ، فقال: يا موسى !

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النمل: 8، 9].

وقال سُبحانَه: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] .

وقال عز وجل: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم: 52] .

إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12).

أي: إني أنا ربُّك الذي يكَلِّمُك ويخاطِبُك -يا موسى- فاخلَعْ نَعلَيك؛ لأنَّك بالوادي المُطَهَّرِ المبارَك المُسمَّى طُوًى .

كما قال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] .

وقال سُبحانَه: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [النازعات: 15، 16].

وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13).

وَأَنَا اخْتَرْتُكَ.

أي: وأنا اخترتُك -يا موسى- مِن بينِ النَّاسِ للنبُوَّةِ والرِّسالةِ، وسَماعِ كلامي مُباشَرةً .

كما قال تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [الأعراف: 144].

فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى.

أي: فأنصِتْ -يا موسى- مُلقيًا سَمْعَك ومُعمِلًا قَلْبَك لوعْيِ ما أُوحِيه إليك الآنَ مِن كلامي .

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14).

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا.

أي: إنَّني أنا اللهُ الذي لا معبودَ بحقٍّ غيري، ولا يستحقُّ العبادةَ أحدٌ سِواي .

فَاعْبُدْنِي.

أي: فأخلِصْ لي وَحْدي جميعَ أنواعِ العبادةِ -يا موسى- وقُمْ بعبادتي دونَ أنْ تُشرِكَ بي شيئًا .

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي.

أي: وأقِمِ الصَّلاةَ -يا موسى- لأجلِ أنْ تذكُرَني فيها، متى ما ذكرْتَ أنَّ عليك صلاةً .

إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا ذكر الله تعالى الأمرَ بالعبادةِ، وإقامةِ الصلاةِ؛ ذكَرَ الحامِلَ على ذلك وهو: البَعثُ والمعادُ للجَزاءِ ، فعَلَّل الأمرَ بالعبادةِ بأنَّه لم يخلُقِ الخَلقَ سُدًى، بل لا بُدَّ مِن إماتتِهم ثمَّ بَعْثِهم؛ لإظهارِ العَظَمةِ، ونَصبِ مَوازينِ العَدلِ .

إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا.

أي: إنَّ السَّاعةَ التي يُبعَثُ فيها الخلائِقُ مِن قُبورِهم لموقِفِ القيامةِ آتيةٌ لا محالةَ، وأكاد أستُرُها مِن نفسي، فلا يمكِنُ لأحدٍ أنْ يطَّلِعَ عليها .

لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى.

أي: إنَّ السَّاعةَ آتيةٌ؛ لتنالَ كلُّ نفسٍ جزاءَ ما تعمَلُه في الدُّنيا مِن خيرٍ وشرٍّ .

كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7- 8] .

فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16).

أي: فلا يَصرِفنَّكَ -يا موسى- عن الإيمانِ بالسَّاعةِ، والاستعدادِ لها مَنْ لا يُقِرُّ بقيامِها، ولا يُصدِّقُ بها، فلا يرجو ثوابًا، ولا يخافُ عقابًا، واتَّبَعَ شَهَواتِه، وخالَف أمْرَ اللهِ ونَهْيَه؛ فتَهلِكَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي أي: أقِمِ الصَّلاةَ لأجلِ أنْ تذكُرَني؛ فالصَّلاةُ تُذكِّرُ العبدَ بخالِقِه؛ إذ يستشعِرُ أنَّه واقفٌ بين يَدَيِ الله لمناجاته، ففي هذا الكلامِ إيماءٌ إلى حِكمةِ مَشروعيَّةِ الصَّلاةِ، وبضَميمتِه إلى قَولِه تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] يظهر أنَّ التقوى مِن حكمةِ مَشروعيَّةِ الصَّلاةِ؛ لأنَّ المكَلَّفَ إذا ذكَرَ أمرَ اللهِ ونَهْيَه، فعَلَ ما أمَرَه، واجتنَبَ ما نهاه عنه، والله عَرَّف موسى حِكمةَ الصَّلاةِ مجملةً، وعَرَّفَها مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم مُفَصَّلةً

.

2- قوله تعالى: لِذِكْرِي أي: أقم الصلاةَ لأجلِ ذكرك إياي؛ لأنَّ ذكرَه تعالى أجلُّ المقاصدِ، وهو عبوديةُ القلبِ، وبه سعادتُه، فالقلبُ المعطلُ عن ذكرِ الله، معطلٌ عن كلِّ خيرٍ، وقد خرِب كلَّ الخرابِ، فشرَع الله للعبادِ أنواعَ العباداتِ، التي المقصودُ منها إقامةُ ذكرِه، وخصوصًا الصلاةَ. قال الله تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ [العنكبوت: 45] أي: ما فيها مِن ذكرِ الله أكبرُ مِن نهيها عن الفحشاءِ والمنكرِ، وهذا النوعُ يُقال له: توحيدُ الألوهية، وتوحيدُ العبادةِ، فالألوهيةُ وصفُه تعالى، والعبوديةُ وصفُ عبدِه .

3- قولُ الله تعالى: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى فيه تنبيهٌ وإشارةٌ إلى التَّحذيرِ عن كُلِّ داعٍ إلى باطِلٍ، يصُدُّ عن الإيمانِ الواجِبِ، أو عن كَمالِه، أو يُوقِعُ الشُّبهةَ في القَلبِ، وعن النَّظَرِ في الكُتُبِ المُشتَمِلةِ على ذلك .

4- قولُ الله تعالى: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى فيه إشارةٌ إلى أنَّ مَن ترَكَ المراقبةَ لَحظةً حاد عن الدَّليلِ، ومن حاد عن الدَّليلِ هلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى عن موسى: إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى كان مطلَبُه النَّورَ الحِسيَّ، والهدايةَ الحِسيَّةَ، فوجَدَ ثَمَّ النُّورَ المعنويَّ؛ نورَ الوَحيِ الذي تستنيرُ به الأرواحُ والقُلوبُ، والهدايةَ الحقيقيَّةَ؛ هدايةَ الصِّراطِ المستقيمِ، المُوصِلةَ إلى جنَّاتِ النَّعيمِ، فحصل له أمرٌ لم يكُنْ في حِسابِه، ولا خطَرَ ببالِه

.

2- قولُ الله تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى يُستدَلُّ به على استِحبابِ المشيِ حافيًا في البِقاعِ الشَّريفةِ ، وذلك بناء على أنَّ الأمرَ بالخلعِ كان تعظيمًا للبقعةِ.

3- في قَولِه تعالى -عن موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ-: إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ دليلٌ على أنَّ طَلَبَ النَّارِ مباحٌ، ولا يكونُ في عِدَادِ المسألةِ المذمومةِ .

4- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى حُجةٌ على مَن يقولُ بخَلْقِ القرآنِ، ويزعمُ أنَّ اللهَ لا يجوزُ عليه الكلامُ! فيقالُ له: مَن نادَى موسى بهذا النداءِ؟ فإنْ قال: لم ينادِه ربُّه، إنَّما ناداه بعضُ ملائكتِه، قيل: إِنِّي أَنَا راجِعٌ على مَن؟ فإنْ قال: على المَلَك، كَفَرَ حيثُ جعلَه ربَّ موسى -ولنْ يقولَه إنْ شاء الله- وإنْ قال: هو راجعٌ على الله -جلَّ اللهُ- قيل له: أفيجوزُ أنْ يكونَ ذلك راجعًا عليه، والنداءُ مِن غيرِه؟ فإنْ قال: لا يجوزُ، إنَّه محالٌ، أقرَّ بأنَّ اللهَ متكلمٌ وأنَّ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ وكلَّ ما بعدَه مِن: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ مِن الابتداءِ والجوابِ لموسى، هو كلامُه سُبحانَه، وكلامُه لا يكونُ مخلوقًا؛ لأنَّه صفةٌ مِن صفاتِه، ولا يجوزُ عندنا -وعنده وعند مَن يؤمنُ به- أنْ يكونَ شيءٌ مِن صفاتِه مخلوقًا، ولو كان: «نودِيَ يا موسى، إنه هو ربُّك، وهو اختارك، أنَّه لا إله إلا هو فاعبده، وأقَمِ الصلاةَ لذِكْرِه» وكلُّ ما بعده على هذا المعنى؛ لكان قولُه حينئذٍ أوجهَ في المخلوقِ في حقِّ الكلامِ -وإنْ كان خطأً مِن كلِّ جهةٍ- فهذا وما يشاكلُه في القرآنِ واضحٌ بلا شبهةٍ: أنَّ اللهَ متكلِّمٌ ناطقٌ، وإذا كان متكلمًا ناطقًا، فما خَرَجَ منه مِن كلامِه كان غيرَ مخلوقٍ .

5- قَولُه تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى دليلٌ على تكليمٍ سَمِعَه موسى، والمعنى المجَرَّدُ لا يُسمَعُ بالضرورةِ، ومن قال إنه يُسمَعُ فهو مكابِرٌ، ودليلٌ على أنَّه ناداه، والنداءُ لا يكونُ إلا صوتًا مَسموعًا، ولا يُعقَلُ في لغة العربِ لَفظُ النداءِ بغَيرِ صَوتٍ مَسموعٍ ، وأيضًا فالله تعالى أمَر بالاستماعِ إلى ما يُوحَى، والاستماعُ عندَ العربِ لا يكونُ إلَّا إلى صوتٍ وحرفٍ، ولا يكونُ الاستماعُ إلى الصفةِ القائمةِ بالذاتِ؛ لأنَّ ذلك لا يُعقلُ، ألا ترَى أنَّه لو قال: استمِعْ إلى بصرِ الله وسمعِه وحياتِه وقدرتِه؛ لكان ذلك محالًا مِن الكلامِ، وهي صفاتٌ قائمةٌ بالذَّاتِ، وأيضًا فإنَّ الله أخبَر عمَّا أمَره بالاستماعِ إليه، فقال: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي فجمَع بالآيةِ بينَ الإخبارِ بأنَّه لا إلهَ إلَّا هو، وأنَّ الساعةَ آتيةٌ، وأنَّه يُخفيها وتُجزى كلُّ نفسٍ بما تسعَى، وبينَ أمرِه له بالعبادةِ، وإقامةِ الصلاةِ لذكرِه، وهذه معانٍ مختلفةٌ .

6- في قَولِه تعالى: يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ دليلٌ على أنَّ كلامَ اللهِ حروفٌ؛ فإنَّ هذه الكَلِماتِ حروفٌ، وهي كلامُ اللهِ .

7- في قَولِه تعالى: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا دلالةٌ على أنَّ موسى سَمِعَ كلامَ اللهِ مِن اللهِ بلا واسِطةٍ .

8- في قولِه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ وقَعَ الإخبارُ عن ضَميرِ المُتكلِّمِ باسْمِه العَلَمِ، الدَّالِّ على الذَّاتِ، المُستحقِّ لجَميعِ المَحامدِ، وذلك أوَّلُ ما يجِبُ عِلْمُه من شُؤونِ الإلهيَّةِ؛ وهو أنْ يعلَمَ الاسمَ الَّذي جعَلَه اللهُ علَمًا عليه؛ لأنَّ ذلك هو الأصْلُ لجميعِ ما سيُخاطَبُ به من الأحكامِ المُبلَّغةِ عن ربِّهم .

9- قولُ الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي استَدَلَّ بعُمومِ هذه الآيةِ مَن قال: تُقضى الصَّلاةُ في الأوقاتِ المكروهةِ، وأنَّه لا تؤخَّرُ إلى مِثلِ وَقتِها في الغَدِ . وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.

10- قولُ الله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ النبُوَّةَ لا تحصُلُ بالاستِحقاقِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يدلُّ على أنَّ ذلك المنصِبَ العليَّ إنَّما حصل؛ لأنَّ الله تعالى اختاره له ابتداءً، لا أنَّه استحَقَّه على الله تعالى .

11- قال الله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى قال سفيانُ بنُ عُيَينةَ: (أوَّلُ العِلمِ الاستِماعُ، ثمَّ الفَهمُ، ثمَّ الحِفظُ، ثمَّ العَمَلُ، ثمَّ النَّشرُ) ، فإذا استمع العبدُ إلى كتابِ الله تعالى وسنَّةِ نَبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنيَّةٍ صادِقةٍ على ما يحِبُّ الله، أفهَمَه كما يحِبُّ، وجعَلَ له في قلبِه نورًا .

12- اللهُ تعالى يَذْكُرُ نفسَه أحيانًا بصيغةِ العَظَمةِ، مثل قَولِه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] ، ومِثل قَولِه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] ، ومثل قَولِه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس: 12] ، وأحيانًا يَذْكُرُ نفسَه بصيغةِ الواحدِ، مثلُ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، ووجهُ ذلك: أنه واحِدٌ عظيمٌ، فباعتبارِ الصِّفةِ يأتي ضميرُ العَظَمةِ، وباعتبارِ الوحدانيَّةِ يأتي ضميرُ الواحدِ .

13- قولُ الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ ذُكِرَ الاسمُ العَلَمُ؛ لأنَّ هذا مقامُه؛ إذ الأنسَبُ للملطوفِ به -بعد التعرُّفِ إليه بالإكرامِ- الإقامةُ في مقامِ الجَلالِ والجَمالِ .

14- قولُ الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ ذُكِرَ فيه الإيمانُ به تعالى، وعبادتُه، والإيمانُ باليومِ الآخِرِ؛ لأنَّ هذه الأمورَ الثَّلاثةَ أصولُ الإيمانِ، ورُكنُ الدِّينِ، وإذا تمَّت تمَّ أمرُ الدين، ونقصُه أو فَقدُه بنَقصِها، أو نقصِ شَيءٍ منها .

15- قولُ الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فيه إشارةٌ إلى أنَّ أوَّلَ ما يتعارَفُ به المتلاقُونَ أنْ يَعرِفوا أسماءَهم، فأشار اللهُ إلى أنَّه عالمٌ باسمِ كليمِه، وعَلَّمَ كليمَه اسمَه، وهو اللهُ .

16- قال الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا هذا أوَّلُ واجبٍ على المكَلَّفينَ: أنْ يَعلَموا أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى استئنافٌ مَسوقٌ لتَقريرِ أمْرِ التَّوحيدِ الَّذي إليه يَنْتهي مَساقُ الحديثِ، وبَيانِ أنَّه أمْرٌ مُستمِرٌّ فيما بينَ الأنبياءِ كابرًا عن كابرٍ

، وهو تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ الَّذين كذَّبوه سيكونُ جَزاؤُهم جَزاءَ مَن سلَفَهم مِنَ المُكذِّبينَ .

- قولُه: وَهَلْ أَتَاكَ ... استفهامُ تَقريرٍ يحُثُّ على الإصغاءِ لِمَا يُلْقَى إليه وعلى التَّأسِّي، وأُوثِرَ حرْفُ (هل) في هذا المقامِ؛ لِمَا فيه مِن معنى التَّحقيقِ؛ لأنَّ (هل) في الاستفهامِ مثْلُ (قد) في الإخبارِ . والمقصودُ منه تقريرُ الجوابِ في قلبِ محمدٍ عليه السلامُ، وهذه الصيغةُ أبلغُ في ذلك، كما يقول المرءُ لصاحبِه: هل بلغك خبرُ كذا؟ فيتطلَّع السامعُ إلى معرفةِ ما يرمي إليه . وقيل: إنَّه استفهامٌ معناه النَّفيُ، أي: ما أخبَرْناك قبْلَ هذه السُّورةِ بقصَّةِ مُوسى، ونحن الآن قاصُّونَ قِصَّتَه لِتَتسلَّى وتَتأسَّى .

- وفيه مُناسَبَةٌ حسَنةٌ؛ حيث قال عَزَّ وجَلَّ هنا حكايةً عن قولِ موسى عليه السلامُ لأهْلِه: لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه: 10] ، وقال في آيةِ سورة (النمل): سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ [النمل: 7] ، وقال في (القَصصِ): لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [القصص: 29] . وأيضًا قولُه تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، إلى قولِه: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه: 11-17] ، وفي السُّورةِ الثَّانيةِ: فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ [النمل: 8-10] ، وكذلك جاء في سُورةِ (القصصِ): فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [القصص: 30، 31]؛ ووجهُ هذا الاختِلافِ على وجْهِ العُمومِ: أنَّ اللهَ تعالى لم يُخبِرْ أنَّه خاطَبَ مُوسى عليه السَّلامُ باللُّغةِ العربيةِ بألفاظٍ إذا عدَلَ عنها إلى غيرِها ممَّا يُخالِفُ معناها، كان اختلافًا في القُرآنِ فيه، بل مَعلومٌ أنَّ الخِطابَ كان بغيرِ هذه اللُّغةِ ، وأنَّ قولَ مُوسى عليه السَّلامُ لم تُرَدْ حِكايتُه إلَّا بالمعنى؛ لاختِلافِ اللِّسانينِ، والتَّرادُفُ فيما بين اللُّغتينِ في كُلِّ لفَظتينِ -يُرادُ بهما معنًى واحدٌ- غيرُ مُطَّرِدٍ؛ وعليه فلا إشكالَ في أنَّ المعنى قد يتوقَّفُ حُصولُه على الكَمالِ على تَعبيرينِ أو أكثَرَ، لا سيَّما مع ما في اللِّسانِ العربيِّ من الاشتراكِ، والعُمومِ والخُصوصِ، والإطلاقِ والتَّقييدِ، وغيرِ ذلك من عوارضِ الألفاظِ، فلا يُنْكَرُ اختِلافُ التَّعبيرِ عنِ المعنى الواحدِ بألفاظٍ وعباراتٍ مُختلفةٍ، بل لو كان المَحْكيُّ قولًا عربيًّا وحُكِيَ بالمعنى، لَمَا اسْتُنْكِرَ اختِلافُ العبارةِ؛ فكيف مع اختِلافِ اللِّسانينِ ؟!

وأيضًا أنَّه تعالى أخبَرَ في بعضِ السُّورِ ببعضِ ما جرَى، وفي الأُخرى بأكثرَ ممَّا أخبَرَ به في الَّتي قبْلَها، وليس يدفَعُ بعضُها بعضًا؛ فأمَّا قولُه تعالى: لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه: 10] ، فهو معنى قولِه: سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ [النمل: 7] ؛ لأنَّ الخبرَ الَّذي يأْتيهم به هو أنْ يجِدَ على النَّارِ مَن يَهْديه، ويُخبِرُه أنَّ الطَّريقَ ما هو عليه أو غيرُه، ووُجودُ الهُدى، وأنْ يُخبِرَ بخَبرِ اهتدائِه في طَريقِه أو غيرِه؛ شَيءٌ واحدٌ لا اختلافَ فيه. وأمَّا قولُه عَزَّ وجَلَّ: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 11، 12]، فهو ممَّا جَرى، ولم يُخبِرِ اللهُ تعالى به في سائرِ السُّورِ، فأخبَر به في هذه .

- وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّ قولَه تبارك وتعالى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه: 9-10]، وفي (النَّملِ): إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا سَآَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آَتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل: 7] ، وفي (القصصِ): فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص: 29] ، فهذه الآياتُ تَشتمِلُ على ذِكْرِ رُؤيةِ مُوسى النَّارَ، وأمْرِه أهْلَه بالمُكْثِ، وإخبارِه إيَّاهم أنَّه آنَسَ نارًا، وإطْماعِهم أنْ يأتِيَهم بنارٍ يَصْطلون بها، أو بخبرٍ يَهْتدون به إلى الطَّريقِ الَّتي ضَلُّوا عنها، لكنَّه نقَصَ في النَّملِ ذكْرَ رُؤيتِه النَّارَ، وأمْرَه أهْلَه بالمُكْثِ؛ اكتفاءً بما تقدَّمَ، وزاد في القصصِ قَضاءَ مُوسى الأجَلَ المضروبَ، وسَيْرَه بأهْلِه إلى مصرَ؛ لأنَّ الشَّيءَ قد يُجْمَلُ ثمَّ يُفصَّلُ، وقد يُفصَّلُ ثمَّ يُجْمَلُ، وفي سُورةِ (طه) فَصَّلَ، وأجْمَلَ في (النَّملِ)، ثمَّ فصَّلَ في (القصصِ)، وبالَغَ فيه .

- وفيه أيضًا: قولُه هنا: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه: 10] ، أي: مَن يُخبِرُني بالطَّريقِ، فيَهْديني إليه، وإنَّما أخَّرَ ذِكْرَ المُخبِرِ فيهما، وقدَّمَه فيهما مرَّاتٍ؛ لفواصلِ الآيِ في السُّورِ جميعًا .

- وأمَّا تَكريرُ (لَعَلَّ) في (القصصِ) لفظًا، وفي (طه) و(النمل) معنًى؛ لأنَّ (أو) في قولِه: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى نائبٌ عن (لعلِّي)، و(سآتِيكُم) يَتضمَّنُ معنى (لعلِّي) .

- وأمَّا تَكرارُ: أَوْ آَتِيكُمْ [النمل: 7] في سُورةِ (النَّملِ)، فليس فيه إلَّا تَكرارُ ما يُحرِزُ التَّأكيدَ، وتأكيدُ ما هو خبرٌ ليس أمْرًا ولا نهيًا إنَّما ثَمرتُه وفائدتُه صِدْقُ الإخبارِ، وذلك حاصِلٌ هنا سواءٌ تأكَّدَ أو لم يتأكَّدْ، وإذا كان الكلامُ على ما قُلْنا، والصِّدقُ حاصلٌ على كلِّ حالٍ؛ فلا يُنْكَرُ إذا حُكِيَ بمعناه. أو يُؤكَّدُ مرَّةً، ولا يُؤكَّدُ أُخرَى؛ إذ لا زِيادةَ للتَّأكيدِ فيه سِوى الجرْيِ على مُرتكباتِ العرَبِ في مثْلِه . وتَخصيصُ كُلِّ سُورةٍ من هذه السُّورِ بما ورَدَ فيها؛ لأنَّ فواصلَ هذه السُّوَرِ ومَقاطِعَ آيِها مُناسِبةٌ للواردِ فيها؛ فسُورةُ (طه) مقاطِعُ آيِها لازمةٌ الألِفَ المقصورةَ، وعلى ذلك آيُ السُّورِ كلِّها، وأمَّا النَّملُ والقصصُ فجاءتْ مقاطِعُ آياتِ هذه القِصَّةِ بالنُّونِ الواقعِ قبْلَها الياءُ والواوُ السَّاكنتانِ، بحسَبِ ما تقدَّمَهما مِن حَركتيِ الضَّمَّةِ والكسرةِ.

وأيضًا في سُورةُ (النَّملِ) أوجَزَ في هذا المقصَدِ، وأمَّا سُورةُ (القصصِ) فإنَّ خبَرَ مُوسى عليه السَّلامُ فيها يكادُ يَستغرِقُ آيَها كلَّها، فناسَبه طولُ الواردِ فيها ممَّا فيه الكلامُ، وذلك غيرُ خافٍ. وتأمَّلِ الواردَ في سُورةِ (طه)؛ من قولِه تعالى مُخبِرًا عن نَبِيِّه مُوسى عليه السَّلامُ مِن قولِه: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، ومُناسَبةَ ذلك لِما بُنِيَتْ عليه سُورةُ (طه) من تأنيسِ نَبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وافتتاحَها بقولِه تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى [طه: ٢]؛ يَلُحْ لك التَّلاؤمُ والتَّناسُبُ، وقد وضَحَ أنَّ كلَّ ما في كلِّ سُورةٍ من السُّورِ الثَّلاثِ مِن هذه القصَّةِ لا يُلائِمُ غيرَها، وأنَّ كلَّ قصَّةٍ منها لا يَحسُنُ وُقوعُها في موضعِ الآخرِ؛ لعدَمِ المُناسَبةِ وبُعْدِ التَّلاؤُمِ .

والحاصِلُ: أنَّ قولَ مُوسى عليه السَّلامُ وسُؤالاتِه في هذه السُّورِ الثَّلاثِ قد يَرِدُ في سُورةٍ منها بَعضُ ذلك ممَّا ليس في الأُخرى، ولم يَتعارضْ شَيءٌ من ذلك. ووجْهُ اختصاصِ كلِّ سُورةٍ بما ورَدَ فيها: أنَّ الواردَ في كلِّ سُورةِ مُناسِبٌ للسِّياقِ ولِمَا بُنِيَتْ عليه السُّورةُ؛ فسورة طه بُنِيتْ على التَّأنيسِ والبشارةِ لنَبِيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، من لَدُنِ افتتاحِها إلى خِتامِها. وأمَّا سُورةُ الشُّعراءِ وسُورةُ القَصصِ فإنَّما بِناؤُهما على قَصصِ مُوسى عليه السَّلامُ، ولَمَّا كانتْ سُورةُ الشُّعراءِ مذْكورًا فيها قَصصُ الرُّسلِ مع أُمَمِهم ابتداءً واختتامًا -فيما يخُصُّ حالِ الرِّسالةِ، إلى أخْذِ كلِّ طائفةٍ بما أُخِذَت به- خُصَّتْ من قَصصِ مُوسى عليه السَّلامُ بما يُلائِمُ دُعاءً ومُحاورةً، إلى أخْذِ فِرْعونَ وملَئِه. ولَمَّا كان قولُه تعالى في سُورةِ القصصِ: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ [القصص: ٣] تأنِيسًا وتَنبيهًا لنَبِيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم، وفي آخِرِ السُّورةِ: الإفصاحُ من هذا التَّأنيسِ برُجوعِه إلى مكَّةَ بعْدَ أنْ أُخْرِجَ عنها عليه السَّلامُ مُهاجِرًا لأجْلِ قومِه؛ قال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص: 85]؛ ناسَبَ ذلك مِن قَصصِ مُوسى عليه السَّلامُ خُروجُه إلى مَدْينَ ورُجوعُه إلى مِصْرَ؛ فتَناسَبَ هذا أكمَلَ مُناسَبةٍ في السُّورِ الثَّلاثِ، وإذا اعْتُبِرَ ذلك عُلِمَ أنَّه لا يُناسِبُ كلَّ سُورةٍ من الثَّلاثِ إلَّا ما خُصَّتْ به .

2- قولُه تعالى: إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى

- قولُه: إِذْ رَأَى نَارًا خَصَّ هذا الظَّرفَ بالذِّكرِ؛ لأنَّه يَزيدُ تَشويقًا إلى استعلامِ كُنْهِ الخبرِ؛ لأنَّ رُؤيةَ النَّارِ تَحتمِلُ أحوالًا كثيرةً. ورُؤيةُ النَّارِ تدُلُّ على أنَّ ذلك كان بِلَيلٍ، وأنَّه كان بحاجةٍ إلى النَّارِ، ولذلك فُرِّعَ عليه: فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا .

- وجُملةُ: إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا تَعليلٌ للأمْرِ أو المأمورِ به من المُكْثِ ، وأكَّدَ الخبرَ بـ (إنَّ)؛ لقصْدِ الاهتمامِ به بِشارةً لأهْلِه؛ إذ كانوا في الظُّلمةِ .

- وعبَّرَ بحرْفِ الاستعلاءِ في قولِه: عَلَى النَّارِ؛ إمَّا لأنَّ أهْلَ النَّارِ يَسْتعلون المكانَ القريبَ منها، أو لأنَّ المُصْطلينَ بها والمُسْتمتعينَ إذا تَكنَّفوها قِيامًا وقُعودًا، كانوا مُشرِفين عليها .

- قولُه: هُدًى، أي: هاديًا يدُلُّني على الطَّريقِ، على أنَّه مَصدرٌ؛ سُمِّيَ به الفاعلُ مُبالَغةً .

- وفي هذه الآيةِ ما يُعرَفُ بالإبهامِ ، وهو ضِدُّ الإيجازِ وضِدُّ الإطنابِ؛ فقد قال: لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ، ولم يَبُتَّ في الأمْرِ؛ لئلَّا يَعِدَ ما ليس بمُستيقنٍ من الوفاءِ به، ثمَّ قال: أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، وهذا يَحْتوي على معنًى آخرَ ثَمَّ يتشعَّبُ، فالهِدايةُ هي المعنى الرَّئيسُ، ثمَّ إنَّ الهِدايةَ قد تكونُ بالنَّارِ نفْسِها بخاصَّةِ الإضاءةِ الكامنةِ فيها، وإمَّا بواسطةِ القومِ الَّذين يَقومون بإيقادِها، ويُفْهَمُ من هذا ضِمْنًا أنَّه ضَلَّ مع أهْلِه الَّذين يُرافِقونه .

- وقال هنا: بِقَبَسٍ، وفي القصصِ قال: أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ [القصص: 29] ، وفي النَّملِ قال: بِشِهَابٍ قَبَسٍ [النمل: 7] ، وهذا مِن التَّفنُّنِ في العِبارةِ؛ فهي في السُّورِ الثَّلاثِ عِبارةٌ عن معنًى واحدٍ؛ وذلِك أنَّ الجَذوةَ من النَّارِ: خَشبةٌ في رأْسِها قَبسٌ، به شِهابٌ .

3- قولُه تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى

- بُنِيَ فِعْلُ النِّداءِ للمجهولِ نُودِيَ؛ زِيادةً في التَّشويقِ إلى استطلاعِ القصَّةِ؛ فإبهامُ المُنادي يُشوِّقُ سامِعَ الآيةِ إلى مَعرفتِه، فإذا فاجأَهُ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، عَلِمَ أنَّ المُنادِيَ هو اللهُ تعالى؛ فتمكَّنَ في النَّفسِ كَمالَ التَّمكُّنِ، ولأنَّه أدخَلُ في تَصويرِ تلك الحالةِ بأنَّ مُوسى ناداهُ مُنادٍ غيرُ معلومٍ له؛ فحُكِيَ نِداؤُه بالفعْلِ المَبْنيِّ للمجهولِ .

4- قولُه تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى

- قولُه: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ بَيانٌ لجُملةِ: نُودِيَ. وتأكيدُ الخَبرِ بحرْفِ (إنَّ)؛ لتحقيقِه لأجلِ غرابتِه. وتَكرارُ الضَّميرِ في إِنِّي أَنَا رَبُّكَ؛ لتَوكيدِ الدَّلالةِ، وتَحقيقِ المعرفةِ، وإماطةِ الشُّبهةِ .

- والإخبارُ عن ضَميرِ المُتكلِّمِ بأنَّه ربُّ المُخاطَبِ رَبُّكَ؛ لتَسكينِ رَوعةِ نفْسِه من خِطابٍ لا يَرى مُخاطِبَه؛ فإنَّ شأْنَ الرَّبِّ الرِّفقُ بالمَربوبِ .

- والفاءُ في فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ لتَرتيبِ الأمْرِ على ما قبْلَها؛ فإنَّ رُبوبيَّتَه تعالى له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من مُوجباتِ الأمْرِ ودَواعيه ، وإنَّما أمَرَه اللهُ بخلْعِ نعلَيْه؛ تَعظيمًا منه لذلك المكانِ الَّذي سيَسمَعُ فيه الكلامَ الإلهيَّ ، أو لعِظَمِ الحالِ الَّتي حصَلَ فيها، كما يُخلَعُ عندَ المُلوكِ غايةً في التَّواضُعِ .

- قولُه: إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى تَعليلٌ لوُجوبِ الخَلْعِ المأمورِ به، وبَيانٌ لسبَبِ وُرودِ الأمْرِ بذلك من شَرفِ البُقعةِ وقُدْسِها . وفيه التَّعبيرُ بحرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ) المُفيدِ التَّعليلَ، كما هو شأْنُه في كلِّ مقامٍ لا يَقْتضي التَّأكيدَ .

5- قولُه تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى

- قولُه: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فيه الإخبارُ عنِ اختيارِ اللهِ تعالى مُوسى عن طريقِ الخبرِ الفعليِّ اخْتَرْتُكَ المُفيدِ تَقويةَ الحُكْمِ؛ لأنَّ المقامَ ليس مقامَ إفادةِ الحَصرِ .

- وفي قولِه: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى فرْعٌ على الإخبارِ باختيارِه أنْ أُمِرَ بالاستماعِ للوحيِ؛ لأنَّه أثَرُ الاختيارِ؛ إذ لا معنى للاختيارِ إلَّا اختيارُه لِتَلقِّي ما سيُوحِي اللهُ .

- وحَذْفُ الفاعلِ في يُوحَى للعِلْمِ به، ويُحسِّنُه كونُه فاصلةً؛ فلو كان مَبْنِيًّا للفاعلِ لم يكُنْ فاصلةً .

6- قولُه تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي

- قولُه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا بَدلٌ من مَا يُوحَى دالٌّ على أنَّه مَقصورٌ على تَقريرِ التَّوحيدِ الَّذي هو مُنْتهَى العِلْمِ والأمْرِ بالعبادةِ الَّتي هي كَمالُ العملِ ؛ فهو تَبيينٌ وتَفسيرٌ للإبهامِ في قولِه: لِمَا يُوحَى .

- وتأكيدُ الجُملةِ بحرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ) في قولِه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ؛ لدفْعِ الشَّكِّ عن مُوسى؛ نُزِّلَ مَنزلةَ الشَّاكِّ لأنَّ غَرابةَ الخبرِ تُعرِّضُ السَّامِعَ للشَّكِّ فيه. وتَوسيطُ ضَميرِ الفصْلِ بقولِه: أَنَا؛ لزِيادةِ تَقويةِ الخبرِ .

- قولُه: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي الفاءُ في قولِه تعالى: فَاعْبُدْنِي لتَرتيبِ المأْمورِ به على ما قبْلَها؛ فإنَّ اختصاصَ الأُلوهيَّةِ به سُبحانه وتعالى من مُوجِباتِ تَخصيصِ العِبادةِ به عَزَّ وجَلَّ .

- وخُصَّتِ الصَّلاةُ بالذِّكرِ، وأُفْرِدَتْ بالأمْرِ معَ اندراجِها في الأمْرِ بالعبادةِ؛ لفضْلِها وعُلوِّها على سائرِ العباداتِ بما نِيطَتْ به من ذِكْرِ المعبودِ سُبحانه، وشُغْلِ القلْبِ واللِّسانِ بذِكْرِه ، أو لأنَّ الصَّلاةَ تجمَعُ أحوالَ العبادةِ ، وتتضمَّنُ عبوديَّةَ القلبِ واللسانِ والجوارِحِ .

7- قولُه تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى جُملةٌ مُستأنَفةٌ لابتداءِ إعلامٍ بأصْلٍ ثانٍ مِن أُصولِ الدِّينِ بعْدَ أصْلِ التَّوحيدِ، وهو إثباتُ الجَزاءِ .

- وقولُه: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ ... تَعليلٌ لوُجوبِ العبادةِ، وإقامةِ الصَّلاةِ، أي: كائنةٌ لا مَحالةَ، وإنَّما عُبِّرَ عن ذلك بالإتيانِ؛ تَحقيقًا لحُصولِها بإبرازِها في مَعرِضِ أمْرٍ مُحقَّقٍ مُتوجِّهٍ نحوَ المُخاطَبينَ .

- وجُملةُ: أَكَادُ أُخْفِيهَا مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ وعِلَّتِها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، مُؤكِّدةٌ لمعنى الإخفاءِ . وقيل: وقَعَت (أكاد) زائدةً هنا بمَنزلةِ زِيادةِ (كان) في بعضِ المواضعِ؛ تأكيدًا للإخفاءِ .

- وفي قولِه: لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى تَخصيصُ السَّعيِ في مَعرِضِ الغايةِ لإتيانِها، مع أنَّه لجَزاءِ كلِّ نفْسٍ بما صدَرَ عنها، سواءٌ كان سَعيًا فيما ذُكِرَ، أو تقاعُدًا عنه بالمرَّةٍ، أو سعيًا في تَحصيلِ ما يُضادُّه: للإيذانِ بأنَّ المُرادَ بالذَّاتِ من إتيانِها هو الإثابةُ بالعبادةِ، وأمَّا العِقابُ بترْكِها فمِن مُقتَضَياتِ سُوءِ اختيارِ العُصاةِ، وبأنَّ المأمورَ به في قُوَّةِ الوُجوبِ، والسَّاعةَ في شِدَّةِ الهولِ والفظاعةِ، بحيث يُوجِبانِ على كلِّ نفْسٍ أنْ تَسْعَى في الامتثالِ بالأمْرِ، وتَجِدَّ في تَحصيلِ ما يُنجِّيها من الطَّاعاتِ، وحينئذٍ تَحترِزُ عن اقترافِ ما يُرْدِيها من المعاصي .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه: ١٥]، وفي سُورةِ غافرٍ: إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا [غافر: 59] ، فخَصَّصَ آيةَ (طه) بقولِه في وصْفِ السَّاعةِ: أَكَادُ أُخْفِيهَا ووصَفَها في سُورةِ (غافرٍ) بقولِه: لَا رَيْبَ فِيهَا.

ووجْهُه: أنَّ آيةَ (طه) خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم -على قولٍ في التفسيرِ-، يتضمَّنُ تأْنيسَهُ وتَسليتَه عن حالِ كفَّارِ قُريشٍ في توقُّفِهم عن الإيمانِ، وجاء قولُه: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [طه: ١٥]؛ تعريفًا بعَظيمِ خَفاءِ أمْرِ السَّاعةِ، حتَّى كأنَّ أمْرَها لم يُخْبَرْ عنه، ولا وقَعَ تعريفٌ بشَيءٍ منه، وذلك إعلامٌ بوصْفِ وحالِ مَن قدْ تقرَّرَ بوُقوعِها يَقينُه، وانْطوى على عِلْمِ كِيانِها إيمانُه، ولَمَّا كان هذا الخطابُ والتَّعريفُ لِمَن جَرى ذِكْرُه مِن تَنزُّهِه صلَّى الله عليه وسلَّم عن الارتيابِ في أمْرِ السَّاعةِ؛ لم يَحْتَجْ إلى نفْيِ الرَّيبِ؛ إذ مقامُ النُّبوَّةِ في الإيمانِ بها المقامُ الَّذي لا يُدانى، فلم يكُنْ نفْيُ الارتيابِ ليُلائِمَ ولا يُناسِبَ. أمَّا آيةُ غافرٍ، فأكثرُ الخِطابِ فيها لقُريشٍ وسائرِ كُفَّارِ العربِ، وهم المُجادِلونَ في أمْرِ السَّاعةِ، والجاهِلونَ بكِيانِها، فذَكَر فيها نَفْيَ الرَّيبِ -الَّذي هو صِفَتُهم- وأُتْبِعَ بتأْكيدِ الإخبارِ بدُخولِ اللَّامِ ونفْيِ الرَّيبِ في ذلك، وذلك أوضَحُ شَيءٍ في المُناسَبةِ؛ فكلٌّ من الآيتينِ واردٌ على أتَمِّ مُناسَبةٍ، ولا يُمكِنُ أنْ يقَعَ عكسُ الواردِ في السُّورتَينِ .

- ومن المُناسَبةِ أيضًا قولُه هنا: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ، وفي (الحجِّ): وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ [الحج: 7] بحذْفِ لامِ التَّأكيدِ، وقاله في (غافرٍ) بإِثباتِها: إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ [غافر: 59] ؛ لأنَّها إنَّما تُزادُ لتأْكيدِ الخبرِ، وتأكيدُه إنَّما يُحتاجُ إليه إذا كان المُخبَرُ بهِ شاكًّا في الخبرِ، والمُخاطَبون في (غافرٍ) هم الكفَّارُ، فأُكِّدَ فيها باللَّامِ بخلافِ تَيْنكَ .

8- قولُه تعالى: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى فرَّعَ على كونِها آتيةً، وأنَّها مُخفاةٌ التَّحذيرَ مِن أنْ يَصُدَّه عن الإيمانِ بها قومٌ لا يُؤمِنون بوُقوعِها اغترارًا بتأخُّرِ ظُهورِها؛ فالتَّفريعُ على قولِه: أَكَادُ أُخْفِيهَا أوقَعُ؛ لأنَّ ذلك الإخفاءَ هو الَّذي يُشَبِّهُ به الَّذين أنْكَروا البعثَ على النَّاسِ .

- وقولُه: فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى صِيغَ نهْيُ مُوسى عليه السَّلامُ عن الصَّدِّ عنها في صِيغَةِ نهْيِ مَن لا يُؤمِنُ بالسَّاعةِ عن أنْ يَصُدَّ مُوسى عن الإيمانِ بها؛ مُبالغةً في نهْيِ مُوسى عن أدْنَى شَيءٍ يحولُ بينَه وبينَ الإيمانِ بالسَّاعةِ؛ لأنَّه لمَّا وجَّهَ الكلامَ إليه، وكان النَّهيُ نهْيَ غيرِ المُؤمنِ عن أنْ يَصُدَّ مُوسى، عُلِمَ أنَّ المُرادَ نهْيُ مُوسى عن مُلابَسةِ صَدِّ الكافرِ عن الإيمانِ بالسَّاعةِ، أي: لا تكُنْ لَيِّنَ الشَّكيمةِ لمَن يصُدُّك، ولا تُصْغِ إليه؛ فيكونَ لِينُك له مُجَرِّئًا إيَّاه على أنْ يصُدَّك؛ فوقَعَ النَّهيُ عن المُسبَّبِ، والمُرادُ النَّهيُ عن السَّببِ، وهذا الأسلوبُ مِن قَبِيلِ قولِهم: (لا أعرِفَنَّك تفعَلُ كذا)، و: (لا أَرَيَنَّك هاهنا) .

- وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَنْهَا على قولِه تعالى: مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا؛ للاهتمامِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .

- وزِيادةُ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ؛ للإيماءِ بالصِّلةِ إلى تَعليلِ الصَّدِّ، أي: لا داعِيَ لهم للصَّدِّ عن الإيمانِ بالسَّاعةِ إلَّا اتِّباعُ الهوى، دونَ دليلٍ ولا شُبْهةٍ .

- وفي قولِه: فَتَرْدَى فرَّعَ على النَّهيِ أنَّه إنْ صُدَّ عن الإيمانِ بالسَّاعةِ هلَكَ، والتَّفريعُ ناشِئٌ عنِ ارتكابِ المَنْهيِّ لا على النَّهيِ؛ ولذلك جِيءَ بالتَّفريعِ بالفاءِ، ولم يقَعْ بالجزاءِ المجزومِ .

- ومِن لطائفِ البلاغةِ في هذه الآياتِ: أنَّه سُبحانه وتعالى كلَّما خاطَبَ كَلِيمَه عليه السَّلامُ في مقامِ القُدسِ بخِطابٍ، رتَّبَ عليه بالفاءِ حُكْمًا؛ قال أوَّلًا: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، فعقَّبَه بقولِه: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، نبَّهَ به على تَعظيمِ البُقعةِ، وعلى ألَّا يطَأَها إلَّا حافيًا. وثانيًا: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، فعقَّبَه بقولِه: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، أي: اخترْتُك لذلك المَنصبِ العالي ابتداءً، لا أنَّه استحقاقٌ منك على اللهِ، فتأهَّبْ له، واجعَلْ نفْسَك وعقْلَك مَصروفًا إليه، فقولُه: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ يُفِيدُ نِهايةَ اللُّطفِ والرَّحمةِ، وقولُه: فَاسْتَمِعْ غايةَ الهَيبةِ والرَّهبةِ. وثالثًا: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، الفاءُ دلَّتْ على أنَّ إلَهيَّتَه هي الَّتي ألْزَمَتِ العِبادةَ. ورابعًا: إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا، رتَّبَ نهْيَ المُخاطَبِ عمَّا يصُدُّه عن الآياتِ على مَجِيءِ السَّاعةِ، فقولُه: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ تَخليةٌ. والثَّلاثةُ الأُخرى تَحليةٌ . وقد جاء خِطابُ اللهِ تعالى لمُوسى عليه السَّلامُ بطريقةِ الاستدلالِ على كلِّ حُكْمٍ وأمْرٍ أو نَهْيٍ؛ فابْتُدِئَ بالإعلامِ بأنَّ الَّذي يُكلِّمُه هو اللهُ، وأنَّه لا إلهَ إلَّا هو، ثمَّ فرَّعَ عليه الأمْرَ في قولِه: فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي، ثمَّ عقَّبَ بإثباتِ السَّاعةِ، وعلَّلَ بأنَّها لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى، ثمَّ فرَّعَ عليه النَّهيَ عن أنْ يصُدَّه عنها مَن لا يُؤمِنُ بها، ثمَّ فرَّعَ على النَّهيِ أنَّه إنِ ارتكَبَ ما نُهِيَ عنه، هلَكَ وخسِرَ

 

.=====================

 

سورةُ طه

الآيات (17-23)

ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ

غريب الكلمات:

 

أَتَوَكَّأُ: أي: أعتَمِدُ عليها، والتوكُّؤُ: التحاملُ على العصا في المشْيِ، وأصلُ (وكا): يَدُلُّ على شدِّ شَيءٍ وشِدَّةٍ، ومنه: تَوَكَّأْتُ على كذا، أي اتَّكَأْتُ؛ لأنَّه يتَشَدَّدُ به ويَتَقَوَّى به

.

وَأَهُشُّ: أي: أضرِبُ بها الشَّجرَ؛ لِيَسقُطَ وَرَقُه فترعاه الغَنَمُ، والهَشُّ: يقارِبُ الهزَّ في التَّحريكِ .

مَآَرِبُ: أي: حاجاتٌ، واحِدُها: مَأرُبةٌ ومأرَبةٌ ومأْرِبةٌ، وأصلُ (أرب) هنا: الحاجةُ .

سِيرَتَهَا: أي: هَيئتَها، وحالتَها التي كانت عليها مِن كَونِها عُودًا، وأصلُ (سير): يدُلُّ على مُضِيٍّ وجَرَيانٍ .

جَنَاحِكَ: أي: جَنْبِك تَحتَ العضُدِ، وأصلُ (جنح): يدلُّ على المَيلِ، وسُمِّيَ الجناحانِ جَناحَينِ؛ لِمَيلِهما في الشِّقَّينِ .

سُوءٍ: أي: آفَةٍ أو بَرَصٍ، والسُّوءُ: كلُّ ما يغمُّ الإنسانَ، وأصلُ (سوء): يدلُّ على قُبحٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يَقولُ اللهُ تعالى لِموسى عليه السلامُ: وما هذه التي في يمينِك يا موسى؟ قال موسى: هي عصايَ أعتَمِدُ عليها في المَشيِ، وأضرِبُ بها الشَّجَرَ؛ لِتَرعى غَنَمي ما يسقُطُ مِن وَرَقِه، ولي فيها منافِعُ أخرى.

قال اللهُ لموسى: ألقِ عصاك. فألقاها موسى على الأرضِ، فانقَلَبَت بإذنِ اللهِ حَيَّةً تسعى بسُرعةٍ وخِفَّةٍ، فقال اللهُ لِموسى: خُذِ الحيَّةَ ولا تَخَفْ منها، سوف نعيدُها إلى حالتِها وهيئتِها الأُولى عصًا كما كانت، وأدخِلْ يَدَك في جَيبِك واضمُمْها إلى جَنبِك تحتَ العَضُدِ، تخرُجْ بَيضاءَ كالثَّلجِ مِن غَيرِ عَيبٍ ومَرَضٍ كبَرَصٍ، علامةً أخرى لك؛ فعَلْنا ذلك لكي نُرِيَك -يا موسى- مِن أدِلَّتِنا الكبرى الدَّالَّةِ على قُدرَتِنا، وصِحَّةِ رِسالتِك.

تفسير الآيات:

 

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ الله لموسى أصلَ الإيمانِ؛ أراد أنْ يبَيِّنَ له ويُريَه من آياتِه ما يَطمئِنُّ به قلبُه، وتقَرُّ به عينُه، ويَقوَى إيمانُه، بتأييدِ اللهِ له على عَدُوِّه، فقال

:

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17).

أي: قال الله: وما تلك التي تمسِكُها بيَدِك اليُمنى يا موسى ؟

قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18).

قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا.

أي: قال موسى: هي عصايَ، أعتَمِدُ عليها في حالِ قيامي، وحينَ أمشي .

وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي.

أي: وأضرِبُ بها الشَّجرَ؛ لِيَسقُطَ ورَقُه، فتَرْعاه غَنَمي .

وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى.

أي: ولي في عَصاي هذه حوائِجُ أخرى، فأنتَفِعُ بها أيضًا في غيرِ الاتِّكاءِ عليها، والهشِّ بها .

قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19).

أي: قال الله: ألقِ عَصاك التي بيَدِك اليُمنى يا موسى .

كما قال تعالى: وَأَلْقِ عَصَاكَ [النمل: 10].

فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20).

أي: فألقَى موسى عصاه دونَ تردُّدٍ، فتحوَّلَتْ فورًا بأمرِ اللهِ إلى حيَّةٍ حَقيقيَّةٍ عظيمةٍ، تتحرَّكُ بسُرعةٍ وخِفَّةٍ !

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21).

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ.

أي: قال الله لموسى: خُذِ الحيَّةَ، ولا تخَفْ منها؛ فلن تَضُرَّك .

كما قال تعالى: فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ [القصص: 31] .

سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى.

أي: سنردُّ الحيَّةَ إلى هيئتِها وطبيعتِها الأُولَى، فتعودُ عصًا كما كانت .

وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22).

وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ.

أي: وأدخِلْ يَدَك في جَيبِك -وهو فَتحةُ القَميصِ التي يَبرُزُ منها العُنُقُ - وألصِقْها بجَنبِك تحتَ عضُدِك .

كما قال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: 12] .

وقال سُبحانَه: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [القصص: 32] .

تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى.

أي: تخرُجْ يَدُك بعدَ أنْ تضَعَها تحتَ عَضُدِك ساطعةَ البَياضِ، كالثَّلجِ مِن غَيرِ عَيبٍ ومَرَضٍ، كبَرَصٍ أو بَهقٍ وغيرِه، والحالُ أنَّها علامةٌ أخرى تدلُّ على نبوَّتِك معَ آيةِ العصا التي تحوَّلتْ حيَّةً .

لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23).

أي: فعَلْنا ذلك؛ لنُريَك مِن أدِلَّتِنا الكُبرى الدَّالَّةِ على عَظيمِ قُدرتِنا، وصِحَّةِ رِسالتِك، فيَطمَئِنَّ قَلبُك، وتَثِقَ بوَعدِ اللهِ بحِفظِك ونَصرِك، وتكونَ حُجَّةً على من أُرسِلتَ إليهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قولِه تعالى:  وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى إذا قيل: ما وَجهُ استِخبارِ اللهِ مُوسى عمَّا في يَدِه؟ ألم يكُنْ عالِمًا بأنَّ الذي في يَدِه عصًا؟

فالجوابُ مِن أوجُهٍ:

الأوَّلُ: أنَّه إنَّما قال ذلك عزَّ ذِكرُه له؛ إذ أراد أنْ يحوِّلَها حَيَّةً تسعى، وهي خَشَبةٌ، فنَبَّهَه عليها وقرَّره بأنَّها خَشَبةٌ يتوكَّأُ عليها، ويَهُشُّ بها على غَنَمِه؛ لِيُعرِّفَه قُدرتَه على ما يشاءُ، وعِظَمَ سُلطانِه، ونفاذَ أمرِه فيما أحَبَّ، بتحويلِه إيَّاها حيَّةً تسعى؛ إذ أراد ذلك به ليجعَلَ ذلك لموسى آيةً مع سائرِ آياتِه إلى فِرعَونَ وقَومِه

.

الثَّاني: إنَّما قال له ذلك على سَبيلِ الإيناسِ له؛ لإزالةِ الوَحشةِ عن موسى؛ لأنَّ موسى كان خائِفًا مُستَوحِشًا، كرجُلٍ دخل على مَلِكٍ وهو خائفٌ، فسأله عن شَيءٍ، فتزولُ بعضُ الوَحشةِ عنه بذلك، ويَستأنِسُ بسُؤالِه.

الثَّالثُ: إنَّما قال له ذلك على وَجهِ التَّقريرِ، أي: أمَّا هذه التي في يمينِك عصاك التي تَعرِفُها، فسترَى ما نصنَعُ بها الآنَ، ولكيلا يخافَ إذا صارتْ ثُعبانًا .

الرَّابِعُ: إقامةُ البَيِّنةِ لديه بما يكونُ دَليلًا على السَّاعةِ مِن سُرعةِ القُدرةِ على إيجادِ ما لم يكُنْ، بقَلبِ العصا حيَّةً بعدَ تحقُّقِ أنَّها عصاه بقُرْبِ النَّظَرِ إليها عندَ السُّؤالِ عنها؛ ليزدادَ بذلك ثباتًا، ويُثَبِّتَ مَن يُرسَلُ إليهم .

2- قال الله تعالى عن موسى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى مِن أدَبِ موسى عليه السَّلامُ أنَّ الله لَمَّا سأله عمَّا في يمينِه، وكان السؤالُ محتَمِلًا عن السُّؤالِ عن عَينِها أو مَنفَعتِها، أجابه بعينِها ومَنفَعتِها .

3- قولُ الله تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى فيه الزيادةُ في الجوابِ على ما في السُّؤالِ .

4- قال الله تعالى: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى وحِكمةُ انقلابِها وقْتَ مُناجاتِه: تأْنيسُه بهذا المُعجِزِ الهائلِ؛ لئلَّا يفزعَ منها إذا ألقاها عند فِرعَونَ؛ إذ قد جَرَت له بذلك عادةٌ، وتَدريبُه في تلقِّي تكاليفِ النُّبوَّةِ، ومَشاقِّ الرِّسالةِ ، وكذلك تَثبيتُ مُوسى، ودفْعُ الشَّكِّ عن أنْ يتطرَّقَه لو أمَرَه بذلك دونَ تَجرِبةٍ؛ لأنَّ مَشاهِدَ الخوارقِ تُسارِعُ النَّفْسُ بادئَ ذِي بَدْءٍ إلى تأويلِها .

5- قولُ الله تعالى: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى، إن قيل: إنما كانت العصا واحدةً، وكان إلقاؤُها مرةً، فما وجهُ اختلافِ الأخبارِ عنها؛ فإنَّه يقولُ في (الأعرافِ): فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ [الأعراف: 107] وهاهنا: حَيَّةٌ وفي مكانٍ آخرَ: كَأَنَّهَا جَانٌّ [النمل: 10] ليست بالعظيمةِ، والثعبانُ أعظمُ الحيَّاتِ؟

فالجواب: أمَّا الحيَّةُ فاسْمُ جنْسٍ يقَعُ على الذَّكرِ والأُنثى، والصَّغيرِ والكبيرِ. وأمَّا الثُّعبانُ والجانُّ فبينهما تَنافٍ؛ لأنَّ الثُّعبانَ العظيمَ من الحيَّاتِ، والجانُّ: الدَّقيقُ. وفي ذلك وجْهانِ:

أحدُهما: أنَّها كانت وقْتَ انقلابِها حيَّةً تنقلِبُ حيَّةً صَفراءَ دقيقةً، ثمَّ تتورَّمُ ويَتزايدُ جِرْمُها حتَّى تصيرَ ثُعبانًا، فأُرِيدَ بالجانِّ أوَّلُ حالِها، وبالثُّعبانِ مآلُها.

الثَّاني: أنَّها كانت في شخْصِ الثُّعبانِ، وسُرعةِ حَركةِ الجانِّ. والدَّليلُ عليه قولُه تعالى: فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ [النمل: 10] .

6- قولُ الله تعالى: قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ فيه سؤالٌ: لَمَّا نُودِي موسى، وخُصَّ بتلك الكراماتِ العظيمةِ، وعَلِمَ أنَّه مبعوثٌ مِن عندِ الله تعالى إلى الخَلقِ، فلمَ خاف؟

الجوابُ: أنَّ ذلك الخَوفَ كان مِن نفرةِ الطَّبعِ؛ لأنَّه -عليه السَّلامُ- ما شاهد مِثلَ ذلك قط، وأيضًا فهذه الأشياءُ معلومةٌ بدلائِلِ العُقولِ، وعند الفَزَعِ الشديدِ قد يَذهَلُ الإنسانُ عنه، وقيل أيضًا: إنَّ ذلك الخوفَ مِن أقوى الدَّلائِلِ على صِدقِه في النبوَّةِ؛ لأنَّ السَّاحِرَ يعلَمُ أنَّ الذي أتَى به تمويهٌ، فلا يخافُه البتَّةَ .

7- في قَولِه تعالى: خُذْهَا وَلَا تَخَفْ دليلٌ على أنَّ أنْفُسَ البشرِ مجبولةٌ على الخَوفِ مِن المؤْذِياتِ؛ وأنَّ الخوفَ اللَّاحقَ بها عندَ رؤيتِها لها لا يَحُطُّ مِن دَرجةِ التوكُّلِ شيئًا .

8- قال تعالى: قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى وفي إعادتِها إلى ما كانت عليهِ: عِدَةٌ كَريمةٌ بإظهارِ مُعجزةٍ أُخرَى على يَدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإيذانٌ بكونِها مُسَخَّرةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ ليكونَ على طُمَأْنينةٍ مِن أمْرِه، ولا يَعتريه شائبةُ تَزَلْزُلٍ عندَ مُحاجَّةِ فِرْعونَ ؛ فالغرَضُ مِن إظهارِ ذلك لمُوسى: أنْ يَعرِفَ أنَّ العصا تطبَّعَت بالانقلابِ حيَّةً، فيتذكَّرَ ذلك عندَ مُناظَرةِ السَّحرةِ؛ لئلَّا يحتاجَ حينئذٍ إلى وحْيٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ... الجُملةُ معطوفةٌ على الجُمَلِ قبْلَها، انتقالًا إلى مُحاورةٍ أرادَ اللهُ منها أنْ يُرِيَ مُوسى كيفيَّةَ الاستدلالِ على المُرسَلِ إليهم بالمُعجزةِ العظيمةِ

.

- والاستفهامُ مستعملٌ في تحقيقِ حقيقةِ المسؤولِ عنه، والتَّنبيهِ إلى أهمِّيَّتِه، وظاهِرُه أنَّه سُؤالٌ عن شيءٍ أُشِير إليه .

- وتَكريرُ النِّداءِ يَا مُوسَى؛ لزِيادةِ التَّأنيسِ والتَّنبيهِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي، إلى قولِه: سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى [طه: 17-21] ، فذكَرَ العَصا وسُؤالَه وتَقريرَه على ما وُصِفَ مِن حالِها، فهو ممَّا جرى، ولم يُخبِرِ اللهُ تعالى به في سائرِ السُّورِ، وأخبَرَ به في هذه السُّورةِ.

ووجْهُه: أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ في بعْضِ السُّورِ ببعْضِ ما جَرَى، وفي الأُخرى بأكثْرَ ممَّا أخبَرَ به في الَّتي قبْلَها، وليس يدفَعُ بعْضُها بعضًا .

2- قوله تعالى: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى

- قولُه: عَصَايَ نسَبَها إلى نفْسِه؛ تَحقيقًا لوجْهِ كونِها بيَمينِه، وتَمهيدًا لِما يعقُبُه من الأفاعيلِ المَنسوبةِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .

- في قولِه: قَالَ هِيَ عَصَايَ فنُّ الإطنابِ بذِكْرِ المُسنَدِ إليه هِيَ، حيث كان الإيجازُ يَقْتضي أنْ يقولَ: (عَصَايَ)؛ فلمَّا قال: هِيَ عَصَايَ كان الأسلوبُ أُسلوبَ كلامِ مَن يتعجَّبُ من الاحتياجِ إلى الإخبارِ .

- وفي قولِه: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى ذكَرَ على التَّفصيلِ والإجمالِ المنافِعَ المُتعلِّقةَ بالعصا؛ كأنَّه أحَسَّ بما يعقُبُ هذا السُّؤالَ من أمْرٍ عظيمٍ يُحدِثُه اللهُ تعالى، فقال: ما هي إلَّا عصًا، لا تنفَعُ إلَّا منافِعَ بناتِ جنْسِها، وكما تنفَعُ العيدانُ؛ ليكونَ جوابُه مُطابِقًا للغرضِ الَّذي فهِمَه من فَحوى كلامِ ربِّه . وقيل: الحِكمةُ من زِيادةِ مُوسى عليه السَّلامُ في الجوابِ: رَغبتُه في مُطاوَلةِ مُناجاتِه لرَبِّه تعالى، وازديادِ لَذاذتِه، وتَعدادِه نِعَمَه تعالى عليه بما جعَلَ له فيها منَ المنافعِ ، وقيل: لأنَّه سُئِلَ سُؤالًا ثانيًا: ما تصنَعُ بها؟ فأجاب بذلك. أو ذكَرَ ذلك؛ خوفًا مِن أنْ يُؤمَرَ بإلقائِها، كما أُمِرَ بإلقاءِ النَّعلينِ، أو لئلَّا يُنسَبَ إلى التَّعبِ في حمْلِها .

- وأيضًا في قولِه: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ... ما يُعرَفُ في البلاغةِ بـ (التَّلفيفِ)؛ وهو أنْ يسأَلَ السَّائلُ عن حُكْمٍ هو نوعٌ من أنواعِ جنْسٍ تَدْعو الحاجةُ إلى بَيانِها كلِّها أو أكثَرِها، فيَعدِلَ المسؤولُ عن الجوابِ الخاصِّ عمَّا سُئِلَ عنه من تَبيينِ ذلك النَّوعِ، ويُجِيبَ بجوابٍ عامٍّ يَتضمَّنُ الإبانةَ على الحُكْمِ المسؤولِ عنه، وعن غيرِه بدُعاءِ الحاجةِ إلى بَيانِه؛ فقولُ مُوسى عليه السَّلامُ جوابًا عن سُؤالِ اللهِ تعالى له: هِيَ عَصَايَ، هو الجوابُ الحقيقيُّ للسُّؤالِ، ثمَّ قال: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى؛ فأجاب عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ، كأنَّه توهَّمَ أنْ يُقالَ له: وما تفعَلُ بها؟ فقال مُعَدِّدًا منافِعَها .

- وقدَّمَ في الجوابِ مَصلحةَ نفْسِه في قولِه: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا، ثمَّ ثنَّى بمَصلحةِ رعيَّتِه في قولِه: وَأَهُشُّ .

- قولُه: وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى الظَّاهرُ أنَّه حِكايةٌ لقولِ مُوسى بمُماثِلِه؛ فيكونُ إيجازًا بعْدَ الإطنابِ، ويجوزُ أنْ يكونَ حِكايةً لقولِ مُوسى بحاصلِ معناهُ، أي: عَدَّ مَنافِعَ أُخرى؛ فالإيجازُ من نظْمِ القُرآنِ لا مِن كلامِ مُوسى عليه السَّلامُ . ولم يقُلْ: (أُخَر)؛ رعْيًا للفواصلِ .

3- قولُه تعالى: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ يَنساقُ إليه الذِّهنُ؛ كأنَّه قيلَ: فماذا قال عَزَّ وجَلَّ؟ فقيل: قال... .

- في قولِه: قَالَ أَلْقِهَا الْتِفاتٌ منَ التَّكلُّمِ الَّذي في قولِه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ إلى الغَيبةِ، ودعا إلى هذا الالْتِفاتِ: وُقوعُ هذا الكلامِ حِوارًا مع قولِ مُوسى: هِيَ عَصَايَ ... إلخ .

- وتَكريرُ النِّداءِ يَا مُوسَى؛ لتأكيدِ التَّنبيهِ .

4- قولُه تعالى: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى وصَفَ الحيَّةَ بـ تَسْعَى؛ لإظهارِ أنَّ الحياةَ فيها كانت كاملةً بالمشيِ الشَّديدِ ، وأيضًا في وصْفِها بأنَّها تَسعَى إزالةٌ لوهمٍ يُمكن وجودُه، وهو أنْ يُظَنَّ أنَّها تخييلٌ لا حقيقةٌ؛ فكونُها تَسعَى يُزيلُ هذا الوَهمَ .

5- قولُه تعالى: قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى

- جاء فِعْلُ قَالَ خُذْهَا بدُونِ عطْفٍ؛ لوُقوعهِ في سِياقِ المُحاوَرةِ .

- وفي عطْفِ النَّهيِ وَلَا تَخَفْ، على الأمْرِ خُذْهَا: إشعارٌ بأنَّ عدَمَ النَّهيِ عنه مَقصودٌ لذاتِه، لا لِتَحقيقِ المأمورِ به فقط .

- وقَولُه: وَلَا تَخَفْ دليلٌ على اختصارِ الكلامِ؛ لأنَّ ذِكْرَ الخَوفِ لم يتقَدَّمْ في اللَّفظِ، فدلَّ قولُه: وَلَا تَخَفْ على أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم لَمَّا رأى عصاه تحوَّلَتْ حيَّةً خاف منها .

- وقولُه: سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى استئنافٌ مَسوقٌ لتَعليلِ الامتثالِ بالأمْرِ والنَّهيِ .

6- قولُه تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى

- والجَناحُ في قولِه: جَنَاحِكَ هو العضُدُ وما تحتَه إلى الإبْطِ، أُطْلِقَ عليه ذلك تَشبيهًا بجَناحِ الطَّائرِ ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ؛ إذ لا يترتَّبُ الخُروجُ على الضَّمِّ، وإنَّما يترتَّبُ على الإخراجِ، والتَّقديرُ: واضمُمْ يَدَكَ إلى جَناحِك تَنضَمَّ، وأخرِجْها تَخرُجْ؛ فحذَفَ من الأوَّلِ وأبقى مُقابِلَه، ومن الثَّاني وأبْقى مُقابِلَه وهو وَاضْمُمْ؛ لأنَّه بمعنى (أدخِلْ)، كما بُيِّنَ في الآيةِ الأُخرى .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث جُعِلَ الجَناحُ -وهو اليَدُ- هنا مَضمومًا إليه في قولِه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ؛ وفي سورة (القصص) مَضمومًا في قولِه: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ [القصص: 32] ؛ لأنَّ المُرادَ بالجَناحِ المضمومِ هو اليَدُ اليُمْنى، وبالمَضمومِ إليه اليدُ اليُسرى، وكلُّ واحدةٍ مِن يُمْنى اليدين ويُسراهما جَناحٌ .

- قولُه: تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فيه احتراسٌ؛ لأنَّه لو اقتصَرَ على قولِه: بَيْضَاءَ، لَأوهَمَ أنَّ ذلك من برَصٍ أو بَهَقٍ؛ فقولُه: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ كِنايةٌ عن البرصِ .

7- قولُه تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى

- فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ كأنَّه قِيلَ: فعلْنا ما فعلْنا من الأمْرِ والإظهارِ؛ لنُرِيَك بذلك بعضَ آياتِنا الكُبْرى .

- وقولُه: مِنْ آَيَاتِنَا حالٌ من الْكُبْرَى؛ قُدِّمَت عليها وإنْ كان ذو الحالِ مَعرِفةً؛ مُراعاةً للفواصلِ

==================

 

سورةُ طه

الآيات (24-36)

ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ

غريب الكلمات:

 

اشْرَحْ: أي: وسِّع ونوِّرْ، وأصلُ (شرح): يدلُّ على الفَتحِ والبَيانِ

.

وَزِيرًا: أي: عَونًا، ومُؤازِرًا، ومُؤيِّدًا، وأصلُ الوِزارةِ مِن الوِزْرِ، كأنَّ الوَزيرَ يحمِلُ عَن السُّلطانِ الثِّقلَ والشُّغلَ، وأصلُ (وزر): يدلُّ على الثِّقلِ في الشَّيءِ .

أَزْرِي: أي: ظَهْري، ومنه يُقالُ: آزَرْتُ فلانًا على الأمرِ، أي: قوَّيتُه عليه، وكنتُ له فيه ظَهيرًا، وأصلُ الأزْرِ: القوَّةُ والشِّدةُ .

سُؤْلَكَ: أي: أُمنيتَك وطَلِبَتَك، والسُّؤْلُ: الحاجةُ التي تحرِصُ النَّفسُ عليها

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يبينُ الله تعالى لموسى عليه السلامُ المقصود مِن تأييدِه بهاتين المعجزتين، فيقولُ آمرًا له: اذهبْ -يا موسَى- إلى فِرعَونَ؛ إنَّه قد تجاوَزَ قَدْرَه وتمرَّد على رَبِّه، فادْعُه إلى توحيدِ اللهِ وعبادتِه.

فسأل موسى عليه السلامُ المعونةَ مِن الله، ودعا قائلًا: ربِّ وسِّعْ لي صَدري، وسَهِّلْ لي القيامَ بشأنِ الرِّسالةِ، وأطلِقِ الانحِباسَ الشَّديدَ الذي في لساني؛ لِيُبينَ بفَصيحِ المَنطِقِ فيَفهَم النَّاسُ كلامي، واجعَلْ لي مُعينًا مِن أهلي: هارونَ أخي، قَوِّني به وشُدَّ به ظَهري، وأشرِكْه معي في النبُوَّةِ وتبليغِ الرِّسالةِ؛ كي نصلِّيَ لك، ونُنَزِّهَك بالتَّسبيحِ كَثيرًا، ونَذكُرَك كثيرًا فنَحمَدَك ونُثني عليك؛ إنَّك كنتَ بنا بَصيرًا، لا يخفَى عليك شَيءٌ مِن أفعالِنا، فأجاب الله تعالى دعاءَه وقال له: قد أعطيتُك كُلَّ ما سألتَ يا موسى.

تفسير الآيات:

 

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا أظهَر اللهُ تعالى لموسى -عليه السَّلامُ- الآيتينِ، فعَلِمَ بذلك أنَّه مؤيَّدٌ مِن الله تعالى؛ أمَرَه اللهُ بالأمرِ العَظيمِ الذي مِن شأنِه أنْ يُدخِلَ الرَّوعَ في نفسِ المأمورِ به، وهو مواجهةُ أعظَمِ ملوكِ الأرضِ يَومَئذٍ بالموعِظةِ، ومكاشَفتُه بفَسادِ حالِه

.

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24).

أي: اذهبْ -يا موسى- إلى فِرعونَ مَلِكِ مِصرَ، فادعُه إلى توحيدِ الله وطاعتِه، وإرسالِ بني إسرائيلَ معك، وعَدَمِ تَعذيبِهم؛ لأنَّه تجاوَزَ حدَّه، فادَّعى الربوبيَّةَ، وتمرَّدَ على ربِّه، وعلا في الأرضِ، وأفسَد فيها .

كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 17 - 19] .

قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25).

أي: قال موسى: يا ربِّ وسِّعْ لي صدري؛ لأعِيَ ما تُوحيه إليَّ، وأتجرَّأَ على مخاطبةِ فِرعَونَ، وأتحمَّلَ أذاه ووعيدَه، فلا يضيقَ صدري .

وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26).

أي: وسَهِّلْ عليَّ -يا ربِّ- القيامَ بشأنِ الرِّسالةِ، ودَعوةِ فِرعَونَ، واجعَلْ ما تُكَلِّفُني به مِن الطاعاتِ، وما يعتَريني مِن الشَّدائدِ في سبيلِك هيِّنًا عليَّ .

وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27).

أي: وأطلِق الانحِباسَ الشَّديدَ الذي في لِساني؛ كي ينطَلِقَ، ويسْهُلَ عليَّ الكلامُ .

يَفْقَهُوا قَوْلِي (28).

أي: فيفهَمَ النَّاسُ قولي حينَ أُخاطِبُهم .

وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29).

أي: واجعَلْ لي مُعينًا مِن أهلِ بيتي أعتَمِدُ عليه، فيَحمِلُ عني بعضَ ثِقَلِ أمرِ الدَّعوةِ والرِّسالةِ، ويساعِدُني على ما كلَّفتَني به .

هَارُونَ أَخِي (30).

أي: اجعَلْ هارونَ أخي وزيري .

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ موسى: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص: 34] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا [الفرقان: 35] .

وقال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53] .

اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32).

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ أَشْدُدْ بهمزةٍ مفتوحةٍ مقطوعةٍ، وَأُشْرِكْهُ بضَمِّ الهمزةِ: على وجهِ الإخبارِ، فأخبَرَ موسى عليه السلامُ بذلك عن نفسِه، فالمعنى: إن فعلتَ ذلك أَشدُدْ به أزري، وأُشرِكْه في أمري .

2- قراءةُ اشْدُدْ بوَصلِ الألفِ، وَأَشْرِكْهُ بفتحِ الهمزةِ، أتَى بالكـلامِ على طريقِ الدُّعاءِ، أي: اللهُمَّ اشدُدْ به أزري، وأَشرِكْه في أمري .

اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31).

أي: قَوِّ بهارونَ ظَهري، وأعِنِّي به .

كما قال تعالى: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: 35] .

وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32).

أي: واجمَعْ بيني وبينه في النبُوَّةِ، وتبليغِ الرِّسالةِ، فاجعَلْه نبيًّا مِثلَ ما جعلْتَني نبيًّا، وأرسِلْه معي إلى فِرعَونَ .

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33).

أي: اجعَلْ هارونَ أخي عضُدًا لي؛ مِن أجلِ أنْ نتعاوَنَ معًا على عبادتِك، فنصلِّيَ لك، ونعظِّمَك بالتَّسبيحِ لك كثيرًا، تنزيهًا عمَّا لا يليقُ بك .

وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34).

أي: ونذكُرَك ذِكرًا كثيرًا فنُثنيَ عليك ونحمَدَك على نِعَمِك، ونَصِفَك بما يليقُ بك من صِفاتِ كمالِك .

إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35).

أي: إنَّك كنتَ بنا مُبصِرًا، لا يخفَى عليك شَيءٌ مِن أمْرِنا .

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36).

أي: قال الله: قد أُعطيتَ كلَّ ما طَلَبْتَه -يا موسى- مِن شَرحِ صَدرِك، وتيسيرِ أمرِك، وحَلِّ عُقدةٍ مِن لسانِك، وجَعْلِ أخيك هارونَ وزيرًا لك، وإشراكِه في الرِّسالةِ معك

 

.

قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص: 33 - 35] .

الفوائد التربوية:

 

1- سأل موسى عليه السلامُ ربَّه المعونةَ، وتيسيرَ الأسبابِ، التي هي من تمامِ الدعوةِ، فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أي: وسِّعْه وأفسِحْه؛ لأتحمَّلَ الأذَى القوليَّ والفِعليَّ، ولا يتكَدَّرَ قلبي بذلك، ولا يضيقَ صدري؛ فإنَّ الصَّدرَ إذا ضاق لم يصلُحْ صاحِبُه لهدايةِ الخَلقِ ودَعوتِهم. وقال: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ومِن تيسيرِ الأمرِ أنْ يُيسرَ للداعي أنْ يأتيَ جميعَ الأمورِ مِن أبواِبها، ويخاطِبَ كلَّ أحدٍ بما يناسبُ له، ويدعوه بأقربِ الطرقِ الموصلةِ إلى قَبولِ قولِه

.

2- الاستعانةُ إذا كانت بأُولي القُربى من أهلِ النَّسَبِ أو التَّربيةِ أو الاصطناعِ القديمِ للدَّولةِ، كانت أكمَلَ؛ لِما يقعُ في ذلك من مجانسةِ خُلُقِهم لخُلُقِه، فتَتِمَّ المُشاكَلةُ في الاستعانةِ؛ قال تعالى وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي .

3- قولُ الله تعالى حكايةً عن موسى: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا في ختمِ الأدعيةِ بهذه الآيةِ فيه فوائدُ:

منها: تفويضُه إلى الله تعالى بأنَّه أعلَمُ بما فيه صلاحُهم، وأنَّه ما سأل سؤالَه إلَّا بحَسَبِ ما بلَغَ إليه عِلمُه ، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى.

ومنها: أنَّه عرَض فقرَه واحتياجَه على علمِه سبحانَه، وأنَّه مفتقرٌ إلى التعاونِ والتعاضدِ، ولهذا سأَل ما سأَل.

ومنها: أنَّه أعلمُ بأحوالِ أخيه: هل يصلحُ لوزارتِه أم لا، وأنَّ وزارتَه هل تصيرُ سببًا لكثرةِ التسبيحِ والذكرِ.

وحينَ راعَى مِن دقائقِ الأدبِ، وأنواعِ حسنِ الطلبِ ما يجبُ رعايتُه، فلا جرمَ أجاب الله تعالى مطالبَه، وأنجحَ مآربَه، قائلًا: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي هذا سؤالٌ مِن موسى عليه السَّلامُ لربِّه عزَّ وجل: أنْ يَشرَحَ له صَدْرَه فيما بعَثَه به؛ فإنَّه قد أمَرَه بأمرٍ عظيمٍ، وخَطْبٍ جسيمٍ؛ بعَثَه إلى أعظَمِ مَلِكٍ على وَجهِ الأرض إذ ذاك، وأجبَرِهم وأشَدِّهم كُفرًا، وأكثَرِهم جُنودًا، وأعمَرِهم مُلكًا، وأطغاهم وأبلَغِهم تمَرُّدًا، بلغَ مِن أمرِه أنِ ادَّعى أنَّه لا يَعرِفُ اللهَ، ولا يعلَمُ لرعاياه إلهًا غيرَه! هذا وقد مكث موسى في دارِه مُدَّةً وليدًا عندَهم في حِجرِ فِرعَونَ على فراشِه، ثمَّ قَتَل منهم نَفسًا فخافهم أنْ يقتُلوه، فهرب منهم هذه المدَّةَ بكَمالِها، ثمَّ بعد هذا بعَثَه رَبُّه عزَّ وجَلَّ إليهم نذيرًا يدعوهم إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ أنْ يَعبُدوه وَحْدَه لا شَريكَ له

.

2- قولُ الله تعالى حكايةً عن نبيِّه موسى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي فيه أنَّ فصاحةَ لسانِ الدَّاعيةِ إلى الدِّينِ، والواعِظِ المُنذِرِ؛ تُعينُ على تدبُّرِ ما يقولُ، وفِقهِه .

3- قال الله تعالى حِكايةً عن موسى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي لَمَّا أفهَمَ سُؤالُه هذا أنَّ له فيه أغراضًا، أشار إلى أنَّها ليست مَقصودةً له لأمرٍ يَعودُ على نفسِه، بذِكرِ العلَّةِ الحَقيقيَّةِ، فقال: كَيْ نُسَبِّحَكَ... فأفصحَ عن أنَّ المرادَ بالمعاضَدةِ إنَّما هو لتمهيدِ الطَّريقِ إلى اللهِ سُبحانَه .

4- قال الله تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي طلبُ موسى الوزيرَ إمَّا أنْ يكونَ لأنَّه خاف من نفسِه العَجزَ عن القيامِ بذلك الأمرِ، فطلبَ المُعينَ، أو لأنَّه رأى أنَّ للتعاونِ على الدِّينِ، والتظاهُرِ عليه مع مخالصةِ الوُدِّ، وزَوالِ التُّهمةِ؛ مَزِيَّةً عَظيمةً في أمرِ الدُّعاءِ إلى اللهِ؛ ولذلك قال عيسى بنُ مريمَ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران: 52] .

5- قال الله تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي سأل أنْ يكونَ مِن أهلِه؛ لأنَّه من بابِ البِرِّ، وأحَقُّ ببِرِّ الإنسانِ قَرابتُه ، ولأنَّه به أوثَقُ؛ لكونِه عليه أشفَقَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى تخلُّصٌ إلى ما هو المقصودُ مِن تَمهيدِ المُقدِّماتِ السَّالفةِ، فُصِلَ عمَّا قبْلَه مِن الأوامرِ؛ إيذانًا بأصالتِه

.

- وخَصَّ فِرعَونَ بالذِّكرِ -مع أنَّ موسى عليه السلامُ كان مبعوثًا إلى الكُلِّ- لأنَّه ادَّعى الإلهيَّةَ وتكبَّر، وكان مَتبوعًا؛ فكان ذِكرُه أولى .

- قولُه: إِنَّهُ طَغَى تَعليلٌ للأمْرِ أو لوُجوبِ المأمورِ به، وإنَّما صلَحَتْ للتَّعليلِ؛ لأنَّ المُرادَ ذَهابٌ خاصٌّ، وهو إبلاغُ ما أمَرَ اللهُ بإبلاغِه إليه؛ مِن تَغييرِه عمَّا هو عليه من عِبادةِ غيرِ اللهِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، وقال في (الشُّعراءِ): أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ [الشعراء: 10-11] ، وقال في (القَصصِ): إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [القصص: 32] ؛ ففي الآيةِ الأُولى ذكَرَ فِرعونَ وحْدَه؛ لأنَّ قومَه تبَعٌ له، وكأنَّهم مذكورونَ معه، وفي الآيةِ الثَّانيةِ ذكَرَ قومَ فِرعونَ من دُونِه، ومعلومٌ أنَّه منهم، ومُخاطَبٌ بمثْلِ خِطابِهم، فإذا اتَّقَوا وآمَنُوا، كان فِرعَونُ وحْدَه لا يَقدِرُ على مُخالَفَتِهم، فترَك ذِكْرَه؛ لأنَّه في هذه الحالةِ في حُكْمِ التَّابعِ لهم، وخِطابُهم خِطابُه. أمَّا الموضعِ الثَّالثُ فإنَّ الحِكايةَ أتَتْ على فِرعونَ وملَئِه، فبيَّنَت ما انطوَتْ عليه الآياتُ قبْلُ مِنْ ذكْرِ بعضٍ، والاكتفاءِ به عن بعضٍ، وهذا كما قال في موضعٍ لمُوسى وحْدَه: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [طه: 24] ، وفي موضعٍ: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الشعراء: 10] ؛ لأنَّ هارونَ تابعٌ له، وداخِلٌ في حُكْمِه، وأبانَ ذلك في موضعٍ، فقال: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] ، وقال في (طه): فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [طه: 47] .

2- قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ يَنساقُ إليه الذِّهْنُ؛ كأنَّه قيل: فماذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين أُمِرَ بهذا الأمْرِ الخطيرِ، والخَطْبِ العسيرِ؟ فقيل: قال مُستعِينًا بربِّه عَزَّ وجَلَّ:... .

- وحُكِيَ جَوابُ مُوسى عن كلامِ الرَّبِّ بفعْلِ القولِ غيرَ معطوفٍ؛ جرْيًا على طَريقةِ المُحاوَراتِ .

- وفائدةُ لفظةِ لِي في قولِه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي مع أنَّ الكلامَ بدُونِه مُستتِبٌّ: أنَّه قد أُبْهِمَ الكلامُ أوَّلًا، فقيل: (اشرَحْ لي ويسِّرْ لي)؛ فعُلِمَ أنَّ ثَمَّ مَشروحًا ومُيسَّرًا، ثُم بُيِّنَ ورُفِعَ الإبهامُ بذِكْرِهما؛ فكان آكَدَ لطلَبِ الشَّرحِ والتَّيسيرِ لصَدْرِه وأمْرِه من أنْ يقولَ: (اشرَحْ صَدْري، ويسِّرْ أمْري) على الإيضاحِ السَّاذجِ؛ لأنَّه تَكريرٌ للمعنى الواحدِ من طَريقيِ الإجمالِ والتَّفصيلِ . وأيضًا زيادةُ لِي بعدَ اشْرَحْ وبعدَ (يَسِّرْ) إطنابٌ؛ لأنَّ الكلامَ مفيدٌ بدُونِه، ولكن سلَك الإطنابَ لِمَا تُفيدُه اللامُ مِن معنى العِلَّةِ، أي: اشرحْ صدري لأجْلي، ويَسِّرْ أمْري لأجلي، وهي اللامُ المُلقَّبَةُ (لامَ التَّبيينِ)، التي تُفيدُ تقويةَ البيانِ؛ فإنَّ قولَه: صَدْرِي وأَمْرِي واضحٌ أنَّ الشرحَ والتيسير متعلِّقان بِه؛ فكان قولُه: لِي فيهما زيادةَ بيانٍ، وهو هنا ضربٌ مِن الإلحاحِ . أو تكونُ فائدتُها الاعترافَ بأنَّ مَنفعةَ شرْحِ الصَّدرِ، وتَيسيرِ الأمْرِ راجعةٌ إليه، وعائدةٌ عليه؛ فإنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لا يَنتفِعُ بإرسالِه، ولا يَستعينُ بشرْحِ صَدْرِه، تعالى وتقدَّسَ .

- وتَقديمُ هذا المجرورِ على مُتعلَّقِه في قولِه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي؛ لِيحصُلَ الإجمالُ ثُمَّ التَّفصيلُ؛ فيُفيدَ مُفادَ التَّأكيدِ من أجْلِ تَكرُّرِ الإسنادِ . وأيضًا في تَقديمِ لِي وتَكريرِها: إظهارُ مَزيدِ اعتناءٍ بشأْنِ كلٍّ مِن المطلوبَيْنِ، وفضْلُ اهْتمامٍ باستدعاءِ حُصولِهما له، واختصاصِهما به .

- وإضافةُ (أمْرٍ) إلى ضَميرِ المُتكلِّمِ في قولِه: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي؛ لإفادةِ مَزيدِ اختصاصِه به، وهو أمْرُ الرِّسالةِ .

ومن المُناسَبةِ أيضًا: أنَّ قولَه هنا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي طلَبُ أمانٍ له مِن أنْ يُقتَلَ بمَن قتَلَه، وهذا معنى قولِه: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي [الشعراء: 12-13] ؛ لأنَّهم لو صَدَّقوه لَمَا خاف أنْ يَقْتُلوه. وكذلك قولُه في السُّورةِ الثَّالثةِ: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص: 33] ، وقولُه: وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26] ، مُشتمِلٌ على ذلك وغيرِه؛ لأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ إذا يَسَّرَ له أمْرَه، لم يخَفِ القتْلَ .

3- قولُه تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي

- تَنكيرُ عُقْدَةً في قولِه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً للتَّعظيمِ، أي: عُقدةً شَديدةً. وعدَلَ عن أنْ يقولَ: (عُقدةَ لِساني) بالإضافةِ؛ ليَتأتَّى التَّنكيرُ المُشعِرُ بأنَّها عُقدةٌ شَديدةٌ . أو لأنَّه طلَبَ حَلَّ بعْضِها إرادةَ أنْ يُفْهَمَ عنه فَهمًا جيِّدًا، ولم يطلُبِ الفصاحةَ الكاملةَ؛ كأنَّه قيل: عُقدةً من عُقَدِ لِساني .

- في قولِه: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي شَبَّه حُبْسَةَ اللِّسانِ بالعُقْدةِ في الحبْلِ أو الخيطِ ونحْوِهما؛ لأنَّها تمنَعُ سُرعةَ استعمالِه .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي، فهو معنى قولِه: وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء: 13] ، وكذلك في سُورةِ (القَصصِ): وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص: 34] ، فطلَبَ أنْ يَحُلَّ عُقدةً مِن عُقَدِ لِسانِه، وأنْ يُؤيَّدَ بأخيه، فأُجِيبَ إليهما. وسائرُ ما ذُكِرَ في سُورةٍ ولم يُذْكَرْ في أُخرى ليس من الاختلافِ الَّذي يُعابُ .

وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّه صَرَّحَ بالعُقْدةِ هنا؛ لأنَّها السَّابقةُ، وفي (الشُّعراءِ): وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي [الشعراء: 13] ، فكَنَّى عن العُقدةِ بما يقرُبُ من الصَّريحِ، وفي (القَصصِ) قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا [القصص: 34] ، فكنَّى عن العُقدةِ كِنايةً مُبْهَمَةً؛ لأنَّ الأوَّلَ يدُلُّ على ذلك .

4- قولُه تعالى: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي خَصَّ هارونَ عليه السَّلامُ؛ لفرْطِ ثِقَتِه به، ولأنَّه كان فَصِيحَ اللِّسانِ مِقْوالًا؛ فكونُه من أهْلِه مَظِنَّةَ النُّصحِ له، وكونُه أخاهُ أقْوى في المُناصَحةِ، وكونُه الأخَ الخاصَّ؛ لأنَّه معلومٌ عنده بأصالةِ الرَّأيِ .

- وقَدَّمَ وَزِيرًا على هَارُونَ؛ اعتناءً بشأْنِ الوِزارةِ ، وبيانًا لاهتمامِه بالإعانةِ، كما يقتضيه الحالُ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه: 29، 30]، فصَرَّحَ بالوزيرِ؛ لأنَّه الأوَّلُ في الذِّكرِ، وكَنَّى عنه في (الشُّعراءِ)، حيث قال: فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ [الشعراء: 13] ، أي: ليكونَ لي وزيرًا، وفي (القصصِ): فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا [القصص: 34] ، أي: اجعَلْه لي وزيرًا، فكنَّى عنه بقولِه: رِدْءًا؛ لبَيانِ الأوَّلِ .

5- قولُه تعالى: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كلاهما على صِيغَةِ الدُّعاءِ، وفُصِلَ الأوَّلُ عن الدُّعاءِ السَّابقِ -أي: لم يُعْطَفْ عليه-؛ لكَمالِ الاتِّصالِ بينهما؛ فإنَّ شَدَّ الأزْرِ عبارةٌ عن جَعْلِه وزيرًا، وأمَّا الإشراكُ في الأمْرِ فحيث كان من أحكامِ الوزارةِ توسَّطَ بينهما العاطِفُ .

- قولُه: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي المرادُ بالأزرِ الظَّهرُ؛ ليُناسِبَ الشدَّ؛ فيَكونَ الكلامُ تَمثيلًا لهَيئةِ المُعينِ والمُعانِ بهَيئةِ مَشدودِ الظَّهرِ بحزامٍ ونحْوِه وشادِّه .

6- قولُه تعالى: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا قَدَّمَ التَّسبيحَ؛ لأنَّه تَنزيهُه تعالى في ذاتِه وصفاتِه، وبَراءتُه عن النَّقائصِ، ومَحلُّ ذلك القلْبُ، والذِّكْرُ والثَّناءُ على اللهِ بصفاتِ الكَمالِ، ومَحلُّه اللِّسانُ؛ فلذلك قَدَّمَ ما مَحلُّه القلْبُ على ما مَحلُّه اللِّسانُ ، أو لأنَّ التسبيحَ لما كان ذكرًا خاصًّا؛ لكونِه بالتنزيهِ الذي أعلاه التوحيدُ؛ أتبعَه العامَّ فقال: وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ، وهذان الوجهانِ بناءً على تفسيرِ التسبيحِ بالتنزيهِ.

7- قولُه تعالى: إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا تَعليلٌ لسُؤالِه شرْحَ صدْرِه وما بعْدَه .

8- قولُه تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى

- في تَكرارِ النِّداءِ يَا مُوسَى: تَشريفٌ له عليه السَّلامُ بشرَفِ الخِطابِ إثْرَ تَشريفِه بشرَفِ قَبولِ الدُّعاءِ

==================

 

سورةُ طه

الآيات (37-41)

ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ

غريب الكلمات:

 

التَّابُوتِ: أي: الصُّندوقِ، قيل: وزنُه فَعْلوتٌ من التَّوْبِ، فإنَّه لا يزالُ يَرجِعُ إِليه ما يخرُجُ منه

.

بِالسَّاحِلِ: أي: شاطئِ البَحرِ، قيل: أصلُه من: سَحَلَ الحديدَ، أي: بَرَدَه وقَشَرَه؛ لأنَّ الماءَ يفعلُ به ذلك، فقيل: أصلُه أنْ يكونَ مَسْحولًا، لكن جاء على لفظِ الفاعلِ، وقيل: بل هو على بابِه، وتُصوِّر منه أنَّه يَسْحَلُ الماءَ، أي: يُفرِّقه ويُضيِّعه .

يَكْفُلُهُ: أي: يَضُمُّه، والكَفالةُ: الضَّمانُ، وأصلُه يدُلُّ على تَضَمُّنِ الشَّيءِ لِلشَّيءِ .

تَقَرَّ عَيْنُهَا: أي: تطيبَ نَفسُها، قيل: أصلُه من القُرِّ، أي: البَردِ، فَقَرَّتْ عينُه، قيل: معناه بَرَدَت فصحَّت، وقيل: هو من القَرارِ، والمعنى: أعطاه اللهُ ما تَسكُنُ به عينُه، فلا يطمَحُ إلى غيرِه .

وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا: أي: اختَبَرناك اختبارًا، والفتنةُ في الأصْلِ: الاختِبارُ والابتِلاءُ والامتِحانُ، مأخوذةٌ من الفَتْنِ: وهو إدخالُ الذَّهَبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه مِن رداءتِه .

قَدَرٍ: أي: ميقاتٍ ووَقتٍ ومِقدارٍ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مبلغِ الشَّيءِ وكُنهِه ونهايتِه .

وَاصْطَنَعْتُكَ: أي: اصطفيتُك، واختَرتُك، والاصطِناعُ: المبالغةُ في إصلاحِ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مذكِّرًا موسى عليه السلامُ ببعضِ مِنَنِه عليه: ولقد أنعَمْنا عليك يا موسى -قبلَ هذه المرَّةِ- بنِعمةٍ أُخرى، حين كنتَ رَضيعًا، إذ ألهَمْنا أمَّك ما ألهمْناها مِن أمرٍ عظيمٍ يتعلَّقُ بنجاتِك، وهو أنْ تضَعَك في الصُّندوقِ، ثمَّ تَقذِفَك في النِّيلِ، وبأمرِنا وقدرتِنا يُلقيك النِّيلُ على الشَّاطئِ، فيأخُذُك فِرعَونُ الذي هو عدوِّي وعَدُوُّك، وأحببتُك، ووضعْتُ لك القَبولَ بينَ النَّاسِ، فصِرتَ بذلك مَحبوبًا بينهم، ولِتُرَبَّى على عيني وفي حِفظي.

ومِن مظاهِرِ هذه العنايةِ والحِفظِ والمنَّةِ عليك ما يجِبُ تذكُّرُه، وذلك حينَ كانت أختُك تمشي تتَّبِعُك ثمَّ تقولُ لِمَن أخذوك: هل أدلُّكم على مَن يكفُلُه، ويُرضِعُه لكم؟ فرَدَدْناك إلى أمِّك بعدما صِرْتَ في يدِ فِرعَونَ؛ كي تطيبَ نَفسُها بسَلامتِك، ولا تحزَنَ على فَقْدِك، وقتَلْتَ الرَّجُلَ القِبطيَّ خطأً، فنجَّيناك مِن الغمِّ، واختَبرناك اختبارًا بإيقاعِك في المحنِ، وتخليصِك منها، فخرَجْتَ خائِفًا إلى أهلِ «مَدْينَ»، فمَكَثْتَ سِنينَ فيهم، ثمَّ جِئْتَ إلى الوادِ المقَدَّسِ في الموعدِ الذي قدَّرناه لِمَنحِك النبوَّةَ، مجيئًا مُوافِقًا لقَدَرِ اللهِ وإرادتِه، وأنعَمْتُ عليك -يا مُوسى- بهذه النِّعَمِ الكثيرةِ؛ لتكونَ لي حبيبًا مختَصًّا، ورسولًا لتبليغِ رِسالتي.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى مِنَّتَه على موسى -عليه السَّلامُ- في الدينِ والوَحيِ، والرِّسالةِ وإجابةِ سُؤالِه؛ ذكَرَ نِعمَتَه عليه وقتَ التَّربيةِ، والتنَقُّلاتِ في أطوارِه

.

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37).

أي: ولقد أحسنَّا إليك -يا موسى- وأنْعَمْنا عليك قبلَ هذه المرَّة -أي: قبلَ نِعمةِ الوحيِ والرِّسالةِ وإجابةِ الدُّعاءِ- مرَّةً أخرى، وأنت طفلٌ صغيرٌ .

إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38).

أي: وذلك قد وقع حينَ ألهَمْنا أمَّك في شأنِك ما يُلْهَمُ .

كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] .

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39).

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ.

أي: فأوحَينا إليها أنْ ألْقِ ابنَك موسى في الصُّندوقِ .

فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ.

أي: فاطرَحيه وهو في الصُّندوقِ في نهرِ النِّيلِ .

فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ.

أي: فلْيُلقِ نهرُ النِّيلِ موسى وهو في داخِلِ الصُّندوقِ بالشَّاطئِ .

يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ.

أي: وحينئذٍ يأخُذُ موسى فِرعَونُ الذي هو عدوٌّ لي وعدوٌّ لموسى .

كما قال تعالى: فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] .

وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي.

أي: أحبَبْتُكَ وجعلتُك محبوبًا لكلِّ من يراك، ووضعتُ لك القَبولَ بينَ النَّاسِ .

وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.

أي: ولتُغذَّى وتُربَّى في قصر فِرعَون على ما أُريدُ بمرأًى منِّي، وتحت حِفْظي ورعايتي .

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40).

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ.

أي: حينَ كانت أختُك تمشي لِتتَّبِعَك حتى وجدَتْك في أيدي آلِ فِرعَونَ يَطلُبونَ لك مُرضِعًا فتَقولُ لهم: هل أدلُّكم على من يضُمُّ هذا الطِّفلَ إليه، ويقومُ بمَصالحِه وخِدمتِه، فيُرضِعُه ويُرَبِّيه ويحفَظُه ؟

كما قال تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص: 10 - 12] .

فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ.

أي: فرَدَدْناك إلى أمِّك بعدَما صرتَ في أيدي آلِ فِرعَون؛ لكي تفرَحَ بلُقياك وسَلامتِك، ولا تحزَنَ على فَقدِك وفِراقِك .

وَقَتَلْتَ نَفْسًا.

أي: وقتلتَ الرجُلَ القبطيَّ من آلِ فِرعَونَ حينَ استغاثَك الإسرائيليُّ عليه، وكانَ قتلُه له خطأً .

كما قال تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص: 15] .

فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ.

أي: فنجَّيناك من غمِّك لَمَّا أراد آلُ فِرعَون قَتْلَك اقتصاصًا للقبطيِّ، ففَرَرتَ منهم خائفًا إلى مَدْينَ .

كما قال تعالى: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 20، 21].

وقال سُبحانَه: فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25].

وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا.

أي: واختَبرناك اختبارًا بإيقاعِك في المحنِ، وتخليصِك منها .

فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ.

أي: فلمَّا خرجتَ من مصرَ خائفًا إلى مَدْينَ أقمتَ سنينَ كثيرةً عندَ أهلِها .

كما قال تعالى: فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص: 21-22] .

وقال سُبحانَه: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص: 27 - 29] .

ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى.

أي: ثم حَضَرتَ الآن -يا موسى- إلى الوادِ المقَدَّسِ في الوقتِ المحدَّدِ الذي قدَّرتُه، وأردتُ فيه منْحَك النبوَّةَ، وتكليفَك بإبلاغِ الرِّسالةِ إلى فِرعَونَ، بلا تقدُّمٍ ولا تأخُّرٍ .

وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41).

أي: واصطفيتُك وأنعمتُ عليك بالنِّعَم الكثيرةِ؛ لأجل أنْ تكونَ لي حبيبًا مختَصًّا، ورسولًا لتبليغ رسالتي

 

.

كما قال تعالى: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُ الله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى فيه سؤالٌ: لمَ قال تعالى: مَرَّةً أُخْرَى مع أنَّه تعالى ذكَرَ مِننًا كثيرة؟

الجوابُ: أنَّه لم يَعنِ بـ مَرَّةً أُخْرَى مرةً واحدةً مِن المِنَنِ؛ لأنَّ ذلك قد يُقالُ في القليلِ والكثيرِ

.

2- قولُ الله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ أصلٌ في الحضانةِ .

3- قولُ الله تعالى: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فيه سؤالٌ: أنَّ الله تعالى عدَّد أنواعَ مِنَنِه على موسى عليه السَّلامُ في هذا المقامِ، فكيف يليقُ بهذا الموضِعِ قَولُه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا؟

والجوابُ مِن وُجوهٍ، منها:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الفِتنةَ تَشديدُ المحنةِ، ولَمَّا كان التَّشديدُ في المحنةِ مِمَّا يُوجِبُ كثرةَ الثوابِ، لاجرمَ عدَّه اللهُ تعالى من جملةِ النِّعَمِ.

الوجهُ الثاني: أنَّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا أي: خَلَّصناك تخليصًا، مِن قَولِهم: فتَنْتُ الذَّهَبَ مِن الفِضَّةِ: إذا أردْتَ تخليصَه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَقريرِ ما قبْلَه، وزيادةِ تَوطينِ نفْسِ مُوسى عليه السَّلامُ بالقَبولِ، ببَيانِ أنَّه تعالى حيثُ أنعَمَ عليه بتلك النِّعمِ التَّامَّةِ من غيرِ سابقةِ دُعاءٍ منه وطلَبٍ، فلأَنْ يُنعِمَ عليه بمثْلِها وهو طالبٌ له وداعٍ أَوْلى وأحْرى

. وقيل: إنَّها معطوفةٌ على جُملةِ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه: 36] ؛ لأنَّ جُملةَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ تتضمَّنُ مِنَّةً عليه، فعُطِفَ عليها تَذكيرٌ بمِنَّةٍ عليه أُخرى في وقْتِ ازديادِه؛ ليَعلَمَ أنَّه لمَّا كان بمَحلِّ العنايةِ من رَبِّه من أوَّلِ أوقاتِ وُجودِه؛ فهذا طَمأنةٌ لفُؤادِه، وشَرْحٌ لصَدْرِه؛ ليَعلَمَ أنَّه سيكونُ مُؤيَّدًا في سائرِ أحوالِه المُستقبَلةِ .

- قولُه: وَلَقَدْ تَصديرُه بالقسَمِ؛ لكَمالِ الاعتناءِ، أي: وباللهِ لقد أنعَمْنا ، وتأكيدُ الخبرِ بلامِ القسَمِ و(قد)؛ لتَحقيقِ الخبرِ .

- وقولُه: مَرَّةً أُخْرَى إجمالٌ يُفسِّرُه قولُه: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ ... .

2- قولُه تعالى: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى هذا كَلامٌ مُجمَلٌ؛ فائدتُه: الإشارةُ إلى أنَّه ليس كلُّ الأُمورِ ممَّا يُوحَى إلى النِّساءِ، كالنُّبوَّةِ ونحْوِها، أو التَّعظيمُ والتَّفخيمُ أوَّلًا، كما في قولِه تعالى: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى [النجم: 54] ، والبَيانُ ثانيًا بقولِه: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ .

- والتَّعبيرُ بالموصولِ مَا يُوحَى مُفيدٌ أهميَّةَ ما أُوحِيَ إليها، ومُفِيدٌ تأكيدَ كونِه إلهامًا من قِبَلِ الحقِّ .

- وفيه تَفسيرٌ بعْدَ الإبهامِ ، وهذا النَّوعُ يُؤْتَى به لتَفخيمِ أمْرِ المُبْهَمِ وإعظامِه، وذلك في قولِه تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى؛ ففي الآيةِ أبهَمَ الكلامَ، وأتى به مُجْملًا؛ ليتعلَّقَ الذِّهنُ، ويتطلَّعَ ما عسى أنْ يكونَ السُّؤالُ؟ وما هي المِنَّةُ الأُخرى؟ وما عسى أنْ يَرْدَفَها من مِنَنٍ وآلاءٍ، فيأتي قولُه بعْدَ ذلك مُفسِّرًا ما أُبْهِمَ، فيقولُ: إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ .

3- قولُه تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي.

- قد أُبْهِمَ مَا يُوحَى، ثمَّ فُسِّرَ بالأمْرِ بقذْفِه في التَّابوتِ وقذْفِه في البحرِ؛ أُبْهِمَ أوَّلًا؛ تَهويلًا له وتَفخيمًا لشأْنِه، ثمَّ فُسِّرَ؛ ليكونَ أقَرَّ عندَ النَّفسِ .

- وقولُه: فَلْيُلْقِهِ قِيلَ: أمْرٌ معناهُ الخبَرُ، وجاء بصِيغَةِ الأمْرِ مُبالَغةً؛ إذ الأمْرُ أقطَعُ الأفعالِ وأوجَبُها. وقيل: إنَّما ذكَرَهُ بلفظِ الأمْرِ لِسَابِقِ عِلْمِه بوُقوعِ المُخبَرِ به على ما أخبَرَ به، فكأنَّ البحرَ مأمورٌ مُمتثِلٌ للأمْرِ. أو فيه معنى المُجازاةِ، أي: اقْذفيهِ يُلْقِه الْيَمُّ .

- في قولِه: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ كرَّرَ عَدُوٌّ؛ للمُبالَغةِ والتَّصريحِ بالأمْرِ، والإشعارِ بأنَّ عَداوتَه له مع تحقُّقِها لا تُؤثِّرُ فيه ولا تضُرُّه، بل تُؤدِّي إلى المحبَّةِ. وقيل: إنَّ الأوَّلَ العدُوُّ باعتبارِ الواقعِ، والثَّاني باعتبارِ المُتوقَّعِ .

- وفي قولِه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي نكَّرَ المحبَّةَ وأسْنَدَها إليه سُبحانَه؛ لأمْرينِ؛ الأوَّلِ: ما في التَّنكيرِ من الفَخامةِ الذَّاتيَّةِ، كأنَّها مَحبَّةٌ تَعْلو على الحُبِّ المُتعارَفِ المُتبادَلِ بين المخلوقاتِ. الثَّاني: ما في إسنادِها إليه من الفَخامةِ الإضافيَّةِ، أي: مَحبَّةً عظيمةً مِنِّي، وقد زرعْتُها في القُلوبِ، وركزْتُها في السَّرائرِ ومُنطوياتِ الضَّمائرِ؛ فسُبحانَ المُتكلِّمِ بهذا الكلامِ !

- والتعبيرُ بالإلقاءِ في قولِه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، يعني خَلْقَ المحَبَّةِ في قلبِ المحبِّ بدونِ سببٍ عاديٍّ حتَّى كأنَّه وضعٌ باليدِ لا مُقتَضٍ له في العادةِ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي فأُفْرِدَتِ العينُ، خلافًا للجمْعِ في مِثْلِ قولِه تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48].

ووجْهُه: أنَّ قولَه سُبحانَه: بِأَعْيُنِنَا مُضافٌ إلى ضَميرِ جَمْعٍ، والمُرادُ به اللهُ وحْدَه بلا نزاعٍ، ومِثْلُ هذا كثيرٌ في القُرآنِ؛ يُسمِّي الرَّبُّ نفْسَه مِن الأسماءِ المُضمرَةِ بصِيغَةِ الجَمْعِ على سَبيلِ التَّعظيمِ لنفْسِه، كقولِه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح: 1] ، وقولِه: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف: 32] ، فلَمَّا كان المُضافُ إليه لفْظُه لَفْظُ الجَمْعِ، جاء المُضافُ كذلك، فقيل: بِأَعْيُنِنَا، أمَّا في قِصَّةِ مُوسى فإنَّه لمَّا أَفْرَدَ المُضافَ إليه أَفْرَدَ المُضافَ؛ فقيل: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي .

وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ الإفرادَ هنا سَبَبُهُ الاختصاصُ الَّذي خُصَّ به مُوسى في قولِه تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي، فاقْتَضى هذا الاختصاصُ الاختصاصَ الآخرَ في قولِه: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي؛ فإنَّ هذه الإضافةَ إضافةُ تَخصيصٍ، وأمَّا قولُه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14] وقولُه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] ، فليس فيه مِن الاختصاصِ ما في صُنْعِ مُوسى على عَينِه سُبحانه وتعالى، واصْطناعِه إيَّاهُ لنفْسِه، وما يُسْنِدُهُ سُبحانَه إلى نفْسِه بصِيغَةِ ضَميرِ الجَمْعِ قد يُرِيدُ به ملائكتَه، كقولِه تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ [القيامة: 18] ، وقولِه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [يوسف: 3] ونظائرِه؛ فتأمَّلْهُ .

- ومن المُناسبةِ أيضًا في قولِه تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي عُدِّيَ الفِعْلُ بـ (على)، خِلافًا للتَّعديةِ بالباءِ في مِثْلِ قولِه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وقولِه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] .

ووجْهُه: أنَّ الآيةَ الأُولى وردتْ في إظهارِ أَمْرٍ كان خَفِيًّا؛ وإبْداءِ ما كان مَكْتومًا؛ فإنَّ الأطفالَ إذ ذاك كانوا يُغْذَونَ، ويُصنعونَ سِرًّا، فلمَّا أراد أنْ يُصْنَعَ مُوسى عليه السَّلامُ ويُغْذَى ويُرَبَّى على حالِ أمْنٍ وظُهورٍ، لا تحْتَ خَوفٍ واستسرارٍ، دخلَتْ (على) في اللَّفظِ؛ تَنبيهًا على المعنى؛ لأنَّها تُعْطِي الاستعلاءَ -والاستعلاءُ: ظُهورٌ وإبْداءٌ-، فكأنَّه يقولُ سُبحانَه وتعالى: (ولِتُصْنَعَ على أمْنٍ، لا تحتَ خوفٍ)، وذِكْرُ العينِ لِتَضَمُّنِها معنى الرِّعايةِ والكِلاءةِ، وأمَّا قولُه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]، وقولُه سُبحانَه: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] ، فإنَّه إنَّما يُرِيدُ: برِعايةٍ مِنَّا وحِفْظٍ، ولا يريدُ إبْداءَ شَيءٍ، ولا إظْهارَه بعْدَ كَتْمٍ، فلم يُحْتَجْ في الكلامِ إلى معنى (على) بخلافِ ما تقَدَّمَ .

4- قولُه تعالى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى

- قولُه: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ عبَّرَ بصِيغَةِ المُضارعِ في الفعلينِ؛ لحِكايةِ الحالِ الماضيةِ ، والاستفهامُ في هَلْ أَدُلُّكُمْ للعرْضِ .

- والفاءُ في قولِه: فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ فَصيحةٌ مُعرِبةٌ عن مَحذوفٍ قبْلَها يُعطَفُ عليه ما بعْدَها، أي: فقالوا: دُلِّينا عليها، فجاءت بأُمِّك، فرَجعْناك إليها .

- قولُه: كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ عطَفَ نفْيَ الحُزنِ على قُرَّةِ العينِ؛ لتَوزيعِ المِنَّةِ؛ لأنَّ قُرَّةَ عَينِها برُجوعِه إليها، وانتفاءَ حُزْنِها بتَحقُّقِ سَلامتِه من الهَلاكِ ومن الغَرقِ، وبُوصولِه إلى أحسَنِ مأوًى. وتَقديمُ قُرَّةِ العينِ على انتفاءِ الحُزْنِ، مع أنَّها أخَصُّ فيُغْني ذِكْرُها عن ذِكْرِ انتفاءِ الحُزْنِ؛ رُوعِيَ فيه مُناسبةُ تَعقيبِ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ بما فيه من الحِكمةِ، ثمَّ أكمَلَ بذِكْرِ الحِكمةِ في مَشْيِ أُخْتِه، فتقولُ: هل أدُلُّكم على مَن يَكفُلُه في بَيتِها؟ كما كانتِ العادةُ في ذلك الوقتِ .

- وجُملةُ: وَقَتَلْتَ عطْفٌ على جُملةِ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى؛ لأنَّ المذكورَ في جُملةِ وَقَتَلْتَ نَفْسًا مِنَّةٌ أُخْرى ثالثةٌ، وقُدِّمَ ذِكْرُ قتْلِه النَّفسَ على ذِكْرِ الإنجاءِ من الغَمِّ؛ لتَعظيمِ المِنَّةِ، حيث افتُتِحَتِ القصَّةُ بذِكْرِ جِنايةٍ عظيمةِ التَّبِعَةِ، وهي قتْلُ النَّفسِ؛ ليكونَ لقولِه: فَنَجَّيْنَاكَ موقعٌ عظيمٌ منَ المِنَّةِ؛ إذ أنجاهُ من عُقوبةٍ لا يَنْجو مِن مثْلِها مثْلُه .

- قولُه: وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا إجمالٌ لِمَا نالهُ في سفَرِه من الهجرةِ عنِ الوطنِ، ومُفارَقةِ الأحبابِ، والمَشْيِ راجلًا على حذَرٍ، وفَقْدِ الزَّادِ، وأجْرِ نفْسِه، إلى غيرِ ذلك. أوْ له ولِمَا سبَقَ ذِكْرُه ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ، والتَّقديرُ: وفتنَّاكَ فُتونًا، فخرجْتَ خائفًا إلى أهْلِ مَدْينَ، فلبِثْتَ سِنينَ... .

- وأيضًا قولُه: فُتُونًا مفعولٌ مُطلَقٌ -على أحدِ القولينِ- لتأكيدِ عامِلِه، وهو قولُه: (فَتَنَّاكَ)، وتَنكيرُه للتَّعظيمِ، أي: فُتونًا قوِيًّا عظيمًا. والتَّنوينُ في فُتُونًا للتَّقليلِ -فيما يظهرُ- وتكونُ جُملةُ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا كالاستدراكِ على قولِه: فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ، أي: نجَّيناك وحصَلَ لك خوفٌ .

- قولُه: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى فيه كِنايةٌ عن العِنايةِ بتَدبيرِ إجراءِ أحوالِه على ما يُسفِرُ عن عاقِبَةِ الخيرِ .

- وفي كَلمةِ التَّراخي ثُمَّ إيذانٌ بأنَّ مَجيئَه عليه السَّلامُ كان بعْدَ اللَّتَيَّا والَّتي ؛ من ضَلالِ الطَّريقِ، وتفرُّقِ الغنَمِ في اللَّيلةِ المُظْلمةِ الشَّاتيةِ، وغيرِ ذلك .

- وعَلَى للاستعلاءِ، بمعنى التَّمكُّنِ؛ جعَلَ مَجِيئَه في الوقْتِ الصَّالحِ للخيرِ بمَنزِلَةِ المُسْتعلي على ذلك الوقْتِ المُتمكِّنِ منه .

- وقولُه: يَا مُوسَى تَشريفٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتَنبيهٌ على انتهاءِ الحكايةِ الَّتي هي تَفصيلُ المرَّةِ الأُخرى الَّتي وقعَتْ قبْلَ المرَّةِ المَحْكيَّةِ أوَّلًا .

5- قولُه تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي خُتِمَ الامتنانُ بما هو كالفذلكة، وذلك جُملةُ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي الَّذي هو بمَنزِلَةِ رَدِّ العجُزِ على الصَّدرِ على قولِه: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ  ... الآيةَ، وهو تخلُّصٌ بَديعٌ إلى الغرَضِ المقصودِ، وهو الخِطابُ بأعمالِ الرِّسالةِ، المُبتدأُ من قولِه: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه: 13] ، ومن قولِه: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه: 24] .

- والعُدولُ في وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عن نُونِ العَظمةِ الواقعةِ في قولِه: وَفَتَنَّاكَ ونَظيرَيه السَّابقينِ: تَمهيدٌ لإفرادِ لفْظِ (النَّفسِ) اللَّائقِ بالمَقامِ؛ فإنَّه أدخَلُ في تَحقيقِ معنى الاصطناعِ والاستخلاصِ، أي: اصْطفيتُك برِسالاتي وبِكَلامِي

===============

 

سورةُ طه

الآيات (42 - 55)

ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ

غريب الكلمات:

 

تَنِيَا: أي: تَفتُرا، وتُقَصِّرا، وتَضعُفا، وأصلُ (وني): يدُلُّ على ضَعْفٍ

.

يَفْرُطَ: أي: يبادِرَ ويَعجَلَ، والفَرَطُ: التقَدُّمُ والسَّبقُ، وأصلُه يدُلُّ على إزالةِ شَيءٍ مِن مكانِه، وتَنحيتِه عنه .

يَطْغَى: أي: يستعصي ويتَعَدَّى، وأصلُ الطُّغيانِ: مجاوزةُ الحَدِّ في العِصيانِ .

بَالُ: أي: حالُ وشَأنُ، والبالُ: الحالةُ التي يُكتَرَثُ لها .

مَهْدًا: أي: فِراشًا قَرارًا ثابِتَةً، والمهدُ والمِهادُ: المكانُ المُمَهَّدُ الموطَّأُ، وأصلُ (مهد): يدُلُّ على توطئةٍ، وتسهيلٍ للشَّيءِ .

وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا: أي: سهَّل لكم طرُقًا داخِلةً في الأرض مُتَخَلِّلةً فيها. والسَّلْكُ: إدخالُ الشَّيءِ في الشَّيءِ، والنُّفوذُ فيه، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتدادِ شَيءٍ .

أَزْوَاجًا: أي: أنواعًا وأصنافًا، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ .

نَبَاتٍ شَتَّى: أي: مختَلِفِ الألوانِ والطُّعومِ والأنواعِ، وشتَّى جمعُ شتيتٍ، والشَّتيتُ: المتفرِّقُ، وأصلُ (شتت): يدُلُّ على تفَرُّقٍ وتزَيُّلٍ .

لِأُولِي النُّهَى: أي: لأصحابِ العُقولِ. وواحِدُ النُّهى نُهيَةٌ؛ سمِّيَ بذلك لأنَّه يُنتهَى به عن القَبائِحِ، وأصلُه يدُلُّ على الحَبسِ .

تَارَةً أُخْرَى: أي: مرةً أُخرَى، قيل: هو مِن تار الجرحُ: الْتَأم. وقيل: الفعلُ منها: أترت، أي: أعدتُ، تارةً، وتارتينِ، وتِيَرًا

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى

قَولُه: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى في هذه الآيةِ وَجهانِ: أحدُهما: أن يكونَ كُلَّ مفعولًا أولَ، و خَلْقَهُ مَفعولًا ثانيًا، على معنى: أعطى كلَّ شيءٍ صورتَه وشكلَه الذي يطابقُ المنفعةَ المنوطةَ به، أو أعطى كلَّ حيوانٍ نظيرَه في الخَلْق والصُّورةِ، ولم يزاوِجْ شيءٌ منها غيرَ جنسِه، ولا ما هو مخالِفٌ لخَلْقِه. والثاني: أن يكونَ كُلَّ مَفعولًا ثانيًا مُقَدَّمًا، وخَلْقَهُ مَفعولًا أوَّلَ مُؤخَّرًا، والمعنى: أعطى خليقتَه كلَّ شيءٍ يحتاجونَ إليه ويَرتفِقونَ به

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى مبينًا ما كلَّف به موسَى وهارونَ عليهما السلامُ: اذهَبْ -يا موسى- أنت وأخوك هارونُ بأدلَّتي ومُعجِزاتي الدالَّةِ على صِدقِكما، ولا تَضْعُفا عن ذِكري، بل داوما عليه. اذهبَا معًا إلى فِرعَونَ؛ لأنَّه قد جاوز الحَدَّ في الكُفرِ والظُّلمِ والعِصيانِ، فقُولا له قَولًا لَطيفًا لا غلظةَ فيه؛ وأنتما ترجوانِ أن يتذكَّرَ أو يخافَ حلولَ العذابِ فيطيعَ ربَّه.

ثمَّ يحكي الله تعالى ما قاله موسَى وهارونُ عندما كلَّفهما بما كلَّفهما به، فيقولُ تعالى: قال موسى وهارونُ: ربَّنا إنَّنا نخافُ أن يُعاجِلَنا بالعُقوبةِ، أو أن يتمَرَدَّ على الحَقِّ فلا يقبَلَه.

قال الله لِموسى وهارونَ مثبتًا لهما: لا تخافَا مِن فِرعَونَ؛ فإنَّني معكما بالنَّصرِ والإعانةِ والحِفظِ، أسمَعُ وأرى.

ثمَّ بيَّن الله تعالى لهما طريقةَ دعوةِ فرعونَ، فقال: فاذهبَا إليه وقولَا له: إنَّنا رسولانِ إليك من رَبِّك، فأطلِقْ بني إسرائيلَ ولا تُعَذِّبْهم، قد أتيناك بمُعجزةٍ مِن رَبِّك تدُلُّ على صِدقِنا، والسَّلامةُ مِن عذابِ اللهِ تعالى لِمَن اتَّبَع هُداه. إنَّ الله قد أوحَى إلينا أنَّ عذابَه على مَن كذَّب، وأعرَضَ عن اتِّباعِ الحَقِّ.

ثمَّ ذكَر الله تعالى جانبًا مِن الحوارِ الذي دارَ بينَهما وبينَ فرعونَ، فقال تعالى: قال فِرعَونُ لهما: فمَن ربُّكما يا موسى؟ قال له موسى: ربُّنا الذي أعطى كلَّ مخلوقٍ صورتَه وشكلَه اللَّائِقَ به، وأعطاهم كلَّ ما يَحتاجونَه، ثمَّ هدى كلَّ مخلوقٍ إلى الانتِفاعِ بما خلَقَه الله له. قال فِرعَونُ لِموسى: فما شأنُ القُرونِ الماضيةِ، الذين لم يؤمِنْ أهلُها باللهِ؟ قال موسى لفِرعَونَ: عِلْمُ تلك القرونِ الماضيةِ وأعمالُ أهلِها كُلُّها مكتوبةٌ عند ربِّي في اللَّوحِ المحفوظِ، ولا عِلْمَ لي بهم، لا يخطئُ رَبِّي في أفعالِه وأحكامِه وتدبيرِ خَلقِه، ولا ينسى شيئًا مِن أعمالِ عبادِه، ولا يتركُ ما هو حكمةٌ وصوابٌ.

هو الذي جعل لكم الأرضَ مُمهَّدةً تَسكُنونَ عليها، وميسَّرةً للانتِفاعِ بها، وجعلَ لكم فيها طرُقًا كثيرةً، وأنزلَ مِن السَّماءِ مَطَرًا، فأخرجَ به أنواعًا مختلفةً مِن النَّباتِ.

كُلُوا -أيُّها النَّاسُ- من طيِّباتِ ما أنبَتْنا لكم، وارعَوا فيها بَهائِمَكم، إنَّ في كلِّ ما ذُكِرَ لَعلاماتٍ لذوي العُقولِ على قُدرةِ الله ورحمتِه واستحقاقِه للعبادةِ.

مِن هذه الأرضِ خَلَقْنا أباكم آدَمَ، الذي هو أصلُكم، وإليها تعودونَ بعدَ مَوتِكم، ومِنها تُبعَثونَ للحِسابِ والجزاءِ يومَ القيامةِ.

تفسير الآيات:

 

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا عَدَّد اللهُ سُبحانَه وتعالى على موسى -عليه السَّلامُ- المِنَنَ الثَّمانيةَ

في مقابلةِ الالتماساتِ الثمانيةِ، رَتَّب على ذِكرِ ذلك أمرًا ونهيًا .

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى أمَرَ موسى -عليه السَّلامُ- بالذَّهابِ إلى فِرعَونَ، فلمَّا دعا ربَّه وطلب منه أشياءَ، كان فيها أن يُشرِكَ أخاه هارونَ، فذَكَرَ اللهُ أنَّه آتاه سُؤلَه، وكان منه إشراكُ أخيه، فأمَرَه هنا وأخاه بالذَّهابِ .

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي.

أي: اذهَبْ أنت وأخوك هارونُ إلى فِرعَونَ بأدلَّتي وحُجَجي ومُعجِزاتي الدالَّةِ على صِدقِكما .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا [الفرقان: 35، 36].

وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي.

أي: ولا تَضعُفا، ولا تَفتُرا عن ذِكري، بل لازِماه واستَمِرَّا عليه .

اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43).

أي: اذهَبا إلى فِرعَونَ؛ لأنه تمرَّدَ وتجاوَز الحَدَّ في الكفرِ والعِصيانِ، والتكَبُّرِ والعُدوانِ .

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44).

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا.

أي: فقُولا له عندَ دعوتِه إلى الله قولًا رقيقًا لطيفًا، لا غِلظةَ فيه، ولا تنفيرَ .

كما قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات: 17 - 19].

لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى.

أي: اذهَبا إلى فِرعَونَ وأنتما تَرجُوانِ بقَولِكما اللَّيِّنِ أن يتذكَّرَ ما هو غافِلٌ عنه مِن التَّوحيدِ الموافِقِ لِما في فطرتِه مِن العِلمِ الذي يَعرِفُ به رَبَّه، ويَعرِفُ إنعامَه عليه وإحسانَه إليه، وافتقارَه إليه، فيَدعُوَه ذلك إلى الإيمانِ باللهِ والرُّجوعِ عن ضلالِه؛ أو يخشى حُلولَ العَذابِ فيَترُكَ طغيانَه، ويُطيعَ ربَّه .

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45).

أي: قال موسى وهارونُ: ربَّنا إنَّنا نخافُ مِن فِرعونَ أن يعجِّلَ بعُقوبتِنا قبلَ أن نَدعُوَه إلى ما أمَرْتَنا به، أو أن يتكبَّرَ ويتمرَّدَ على طاعتِك .

قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46).

قَالَ لَا تَخَافَا.

أي: قال اللهُ لهما: لا تخافَا مِن فِرعَونَ .

إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى.

أي: إنَّني معكما بالنَّصرِ والإعانةِ والحِفظِ والتَّأييدِ، أسمَعُ كلامَكما وكلامَ فِرعَونَ، وأراكم وأرى أفعالَكم وأحوالَكم جميعًا؛ فاطمَئِنَّا ولا تخافا منه .

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47).

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ.

أي: فاذهَبا إلى فِرعَونَ فقولا له: إنَّا رَسولانِ إليك مِن رَبِّك الذي خلَقَك وربَّاك .

كما قال تعالى: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 16، 17].

فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ.

أي: فأطلِقْ بني إسرائيلَ لِيذهَبوا معنا، ولا تُعَذِّبْهم باستعبادِهم، وتَذبيحِهم، وتكليفِهم الأعمالَ الشاقَّةَ .

قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ.

أي: قد أتيناك بمعجزةٍ من ربِّك تدلُّ على صِدقِنا .

كما قال تعالى: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء: 30 - 33] .

وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.

أي: والسَّلامةُ مِن سَخَطِ الله وعذابِه في الدُّنيا والآخرةِ لِمن اتَّبَعَ هدى اللهِ الَّذي شرَعَه لعبادِه .

إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48).

أي: إنَّا قد أوحَى اللهُ إلينا أنَّ عذابَه في الدُّنيا والآخرةِ على من كذَّب بالحَقِّ، فلم يؤمِنْ باللهِ وما جاءَتْ به رسُلُه، وأعرَض عن اتِّباعِ الحَقِّ، وطاعةِ اللهِ .

كما قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل: 14-16] .

وقال سُبحانَه: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة: 31 - 35] .

قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49).

أي: فلمَّا أتَى موسَى وهارونُ إلى فِرعَونَ، وكلَّماه بما أمَرَهما الله، قال فِرعَونُ: فمَنْ ربُّكما الذي تعبُدانِه -يا موسى- وتَزعُمانِ أنَّه أرسَلَكما إليَّ ؟

كما قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] .

قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50).

أي: قال موسى: ربُّنا الذي أعطى كلَّ مخلوقٍ صُورتَه التي تمَيِّزُه، وشَكلَه الذي يناسِبُه، وأعطى كلَّ ذكَرٍ وأنثَى الشَّكلَ المُناسِبَ له من جِنسِه في المناكحةِ، والأُلفةِ والاجتِماعِ، وأعطاهم كلَّ ما يحتاجونَه، ثمَّ هدى كلَّ مخلوقٍ إلى تحصيلِ مَنافِعِه، والحَذَرِ مِن مضارِّه .

كما قال تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .

وقال سُبحانه: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 2، 3].

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا استدَلَّ موسى عليه السَّلامُ بالدَّلالةِ القاطِعةِ على إثباتِ الصَّانعِ؛ قدحَ فِرعَونُ في تلك الدَّلالةِ بقَولِه: إن كان الأمرُ في قُوَّةِ هذه الدَّلالةِ على ما ذكَرْتَ، وجبَ على أهلِ القُرونِ الماضيةِ ألَّا يكونوا غافِلينَ عنها، فعارَضَ الحُجَّةَ بالتَّقليدِ .

وأيضًا فإنَّ موسَى عليه السلامُ هدَّد بالعذابِ أوَّلًا في قَولِه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48]، فقال فِرعَون: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى؛ فإنَّها كذَّبتْ، ثمَّ إنَّهم ما عُذِّبوا ؟

وأيضًا لمَّا أجابَهُ مُوسى بجوابٍ مُسْكِتٍ، ولم يقدِرْ فِرعونُ على مُعارضَتِه فيه؛ انتقَلَ إلى سُؤالٍ آخرَ، وهو: ما حالُ مَن هلَكَ من القُرونِ؟ وذلك على سَبيلِ الرَّوغانِ عن الاعترافِ بما قال مُوسى عليه السَّلامُ، وما أجابَه به، والحَيدةِ، والمُغالَطةِ .

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51).

أي: قال فِرعَونُ: فما شأنُ القُرونِ الماضيةِ مِن قَبلِنا، الذين لم يؤمِنْ أهلُها باللهِ، وعَبَدوا غَيرَه؟ فلو كان ما تقولُه حَقًّا، لم يخْفَ على القُرونِ الأُولى ولم يُهمِلوه .

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52).

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ.

أي: قال له موسى: عِلمُ القُرونِ الماضيةِ وأعمالُ أهلِها كُلُّها مكتوبةٌ عندَ رَبِّي في اللَّوحِ المحفوظِ ، فهم إنْ لم يُؤمِنوا باللهِ ويَعبُدوه وَحدَه، فسيُجازيهم على ذلك ولا علمَ لي بهم .

لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى.

أي: لا يَشِذُّ عن عِلمِ رَبِّي شَيءٌ، ولا يفوتُه صَغيرٌ ولا كبيرٌ، ولا ينسَى شيئًا، فلا يُخطئُ في أفعالِه وتدبيرِ خَلقِه ، ولا ينسى شيئًا مِن أعمالِ عبادِه وأحوالِهم وأخبارِهم، ولا يَترُكُ فِعلَ ما هو حِكمةٌ وصَوابٌ .

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53).

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا.

أي: اللهُ الذي جعَل لكم الأرضَ مُمهَّدةً تَسكُنونَ عليها، وتستَقِرُّونَ بها، وتَمشونَ وتُسافِرونَ على ظَهرِها، وتتمكَّنونَ مِن زَرعِها وغَرسِها، والبناءِ عليها وغيرِ ذلك .

كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22].

وقال سُبحانه: وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [الذاريات: 48].

وقال عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15] .

وقال تبارك وتعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النبأ: 6] .

وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا.

أي: وجعل اللهُ لأجْلِكم في الأرضِ بينَ أوديَتِها وجِبالِها طُرُقًا كثيرةً تَمشونَ فيها .

كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف: 10] .

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى.

مناسبتُها لما قبلَها:

لَمَّا ذَكَر مِنَّةَ خَلْقِ الأرضِ؛ شَفَعها بمِنَّةِ إخراجِ النَّباتِ منها بما ينزِلُ عليها مِن السَّماءِ مِن ماءٍ ، فقال تعالى:

وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً.

أي: وأنزل اللهُ من السَّماءِ مَطرًا .

فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى.

أي: فأخرَجْنا بسَبَبِ المطَرِ أصنافًا من النَّباتاتِ المختلفةِ الألوانِ، والأشكالِ، والرَّوائِحِ، والطُّعومِ، والمنافِعِ .

كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 99] .

وقال سُبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 10، 11].

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الحج: 63].

وقال جلَّ جلاله: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان: 10] .

وقال تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر: 27] .

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54).

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ.

أي: كلُوا -أيُّها النَّاسُ- مِن طَيِّبِ ما أنبَتْنا لكم من الأرضِ مِن الحُبوبِ والثِّمارِ، وارعَوا فيها إبِلَكم وبَقَرَكم وغنَمَكم .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10] .

وقال سُبحانَه: أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [السجدة: 27] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24 - 32] .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى.

أي: إنَّ في ذلك لعَلاماتٍ لأُولي العُقولِ تدُلُّهم على وحدانيَّةِ اللهِ، وقُدرتِه، ورَحمتِه، وأنَّه المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحدَه لا شريكَ له .

كما قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4] .

وقال سُبحانَه: وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 24] .

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانَه منافِعَ الأرضِ والسَّماءِ؛ بيَّنَ أنَّها غيرُ مَطلوبةٍ لِذاتِها، بل هي مطلوبةٌ لِكَونِها وسائِلَ إلى منافِعِ الآخرةِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ كَرَمَ الأرضِ، وحُسْنَ شُكرِها؛ لِما يُنزِلُه الله عليها مِنَ المطرِ، وأنَّها بإذنِ رَبِّها تُخرِجُ النَّباتَ المختَلِفَ الأنواعِ؛ أخبَرَ أنَّه خلَقَنا منها ، فقال:

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ.

أي: مِن تُرابِ الأرضِ خَلَقْنا -أيُّها النَّاسُ- أباكم آدَمَ الذي هو أصلُكم، وأنتم ذريَّتُه .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] .

وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج: 5] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .

وقال عزَّ مِن قائلٍ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7- 8] .

وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ.

أي: وفي الأرضِ نُعيدُكم بعدَ مَوتِكم، وتَصيرونَ تُرابًا في قُبورِكم، كما كنتُم قبل إنشائِنا لكم بشرًا سَوِيًّا .

وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى.

أي: ومِن الأرضِ نَبعَثُكم أحياءً مرَّةً أُخرَى، كما كنتُم قَبلَ مَماتِكم أحياءً، فنُنشِئُكم منها كما أنشَأناكم أوَّلَ مَرَّةٍ، فتَخرُجونَ منها يومَ القيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ

 

.

كما قال تعالى: قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف: 25] .

وقال سُبحانَه: ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم: 25] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 42 - 44] .

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى دَلالةٌ على أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المنكرِ لا بُدَّ أنْ يكونَ بالحِكمةِ والرِّفقِ واللِّينِ

، وأنَّه يستحبُّ إلانةُ القَولِ للظَّالمِ عند وَعظِه؛ لعلَّه يَرجِعُ ، فإذا كان موسى أُمِرَ بأن يقولَ لفِرعونَ قولًا لَيِّنًا، فمَن دونَه أحرى بأن يَقتَدِيَ بذلك في خطابِه، وأمْرِه بالمعروفِ في كلامِه. وقد قال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83] ، والدعوةُ إلى اللهِ كذلك يجِبُ أن تكونَ بالرِّفقِ واللِّينِ، لا بالقَسوةِ والشِّدَّةِ والعُنفِ .

2- قال الله تعالى لموسى وهارونَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى هذه الآيةُ فيها عِبرةٌ عظيمةٌ، وهي أنَّ فِرعَونَ في غايةِ العُتُوِّ والاستكبارِ، وموسى صَفوةُ اللهِ مِن خَلقِه إذ ذاك، ومع هذا أُمِرَ ألَّا يُخاطِبَ فِرعَونَ إلَّا بالملاطفةِ واللِّينِ، كما قال يزيدُ الرقاشيُّ عند قولِه: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا: (يا من يتحَبَّبُ إلى مَن يُعاديه، فكيف بمن يتولَّاه ويُناديه؟!) . وقرأ رجلٌ عندَ يحيى بنِ معاذٍ هذه الآيةَ: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، فبكَى يحيى، وقال: (إلهي هذا رِفقُك بمن يقولُ: أنا الإلهُ، فكيف رفقُك بمن يقولُ: أنت الإلهُ؟!) .

3- في قَولِه تعالى: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى إرشادٌ إلى أنَّ الذي معه اللهُ لا يخافُ، وأنه لا بُدَّ أنْ يكونَ مَنصورًا .

4- إذا استحضَر العبدُ اطِّلاعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ عليه في حالِ العَمَلِ له، وتحمُّلِ المشاقِّ لأجلِه؛ وتيقَّنَ أنَّ البلاءَ بِعَينِ مَن يحبُّه، هان عليه الألمُ؛ كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقولِه لموسى وهارونَ عليهما السَّلامُ: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، وقولِه لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48].

5- قولُ الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى يدُلُّ على أنَّ المحِقَّ يجِبُ عليه استِماعُ كَلامِ المُبطِلِ، والجوابُ عنه مِن غيرِ إيذاءٍ ولا إيحاشٍ، كما فعَلَ موسى عليه السَّلامُ بفِرعَونَ هاهنا، وكما أمَرَ الله تعالى رسولَه في قَولِه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] وقال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ

 

[التوبة: 6] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى والفائدةُ في إرسالِهما، والمُبالَغةِ عليهما في الاجتهادِ، مع عِلْمِه بأنَّه لا يُؤمِنُ: إلْزامُ الحُجَّةِ وقطْعُ المَعذرةِ

، وإظهارُ ما حدَثَ في تَضاعيفِ ذلك من الآياتِ .

2- في قَولِه تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى دليلٌ على المنعِ مِن فِعْلِ ما يؤدِّي إلى الحرامِ، ولو كان جائزًا في نفْسِه؛ فإنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ موسى وهارون -عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ- أنْ يُلِينَا القولَ لأعظمِ أعدائِه، وأشدِّهم كُفرًا، وأعتاهم عليه؛ لئلَّا يكونَ إغلاظُ القولِ له -معَ أنَّه حقيقٌ به- ذريعةً إلى تنفيرِه، وعَدَمِ صبرِه لقيامِ الحُجَّةِ، فنهاهما عن الجائِزِ؛ لئلَّا يترتبَ عليه ما هو أكرهُ إليه تعالى . وقيل: إنَّه أُمِر باللينِ معَ هذا الكافرِ الجاحدِ؛ لأنَّه عليه السلامُ كان قد ربَّاه فِرعَونُ، فأمَره أن يخاطبَه بالرفقِ؛ رعايةً لتلك الحقوقِ، وهذا تنبيهٌ على نهايةِ تعظيمِ حقِّ الأبوينِ .

3- قال الله تعالى: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى التذكُّرُ سببُ الخشيةِ؛ والخشيةُ حاصلةٌ عن التذكُّرِ، فذَكَر التذكُّرَ الذي هو السببُ؛ وذَكَر الخشيةَ التي هي النتيجةُ -وإنْ كان أحدُهما مستلزِمًا للآخر- كما قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] ، وكما قال أهلُ النارِ: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10] ، وقال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ، فكلٌّ مِن النوعينِ يحصلُ به النجاةُ؛ لأنَّه مستلزمٌ للآخرِ .

4- قال الله تعالى لموسى وهارونَ: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى وليس المرادُ منه النهيَ عن الخوفِ؛ لأنَّه من حيثُ كونُه أمرًا طبيعيًّا لا مدخلَ للاختيارِ فيه، لا يدخلُ تحت التكليف ثبوتًا وانتفاءً، بل المرادُ به التسلِّي بوعدِ الحفظِ والنصرةِ، كما يدلُّ عليه قوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا بكمالِ الحفظِ والنُّصرةِ ، فالخوفُ الطبيعيُّ مِن الخلقِ، لا ينافي الإيمانَ، ولا يُزيلُه ، والخوفُ من الأعداءِ سُنَّةُ اللهِ في أنبيائِه وأوليائِه معَ معرفتِهم به، وثِقَتِهم .

5- المعيَّةُ نوعانِ: مَعيَّةٌ عامَّةٌ تقتضي الإحاطةَ بالخَلقِ عِلمًا وقُدرةً، وسَمعًا وبَصَرًا، وسُلطانًا وتدبيرًا، وغيرَ ذلك مِن معاني رُبوبيَّتِه، كقَولِه تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] ، وقَولِه: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] .

ومعيَّةٌ خاصَّةٌ قد خُصَّت بشَخصٍ أو وَصفٍ، فهي تقتضي -مع ما سبَقَ- النَّصرَ والتأييدَ، والتَّوفيقَ والتَّسديدَ.

مِثالُ المَخصوصةِ بشَخصٍ: قَولُه تعالى لموسى وهارونَ: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، وقَولُه عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] .

ومثالُ المخصوصةِ بوَصفٍ: قَولُه تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46] ، وأمثالُها في القرآنِ كثيرةٌ .

6- قولُه تعالى: أَسْمَعُ وَأَرَى جملةٌ استئنافيةٌ لبيانِ مُقتضَى هذه المعيَّةِ الخاصَّةِ إِنَّنِي مَعَكُمَا وهو السَّمعُ والرؤيةُ، وهذا سَمْعٌ ورؤيةٌ خاصَّانِ يقتضيانِ النَّصرَ والتأييدَ والحمايةَ مِن فِرعَونَ الذي قالا عنه: إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى . ولو قال قائلٌ: كيفَ يسمعُ، وكيفَ يرَى؟

فالجوابُ: السمعُ والبصرُ معلومٌ، والكيفُ مجهولٌ .

7- في قَولِه تعالى: لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والجهميَّةِ في تأويلِهم صِفَتَي السَّمعِ والبَصَرِ إلى العِلْمِ والإحاطةِ؛ إِذْ لو كان معنى السَّمعِ والبَصرِ معنى العِلْمِ والإحاطةِ، لاقتصرَ -واللهُ أعلمُ- على: إِنَّنِي مَعَكُمَا ولم يقُلْ: أَسْمَعُ، كما قال في سورةِ (المجادلةِ): مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] ، فلمَّا قال: أَسْمَعُ وَأَرَى بعد تمامِ المعنى الذي يشيرونَ إليه، أزال كلَّ ريبٍ، وكشَفَ كلَّ غُمةٍ عن أنَّه يَسمَعُ بسَمعٍ، ويرى ببَصرٍ غيرِ مخلوقَينِ .

8- قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فتأمَّلْ حُسنَ سِياقِ هذه الجُمَلِ، وترتيبَ هذا الخِطابِ، ولُطفَ هذا القَولِ اللَّيِّنِ الذي سلَبَ القُلوبَ حُسنُه وحلاوتُه، مع جلالتِه وعَظَمتِه؛ كيف ابتدأ الخِطابَ بقَولِه: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ وفي ضِمنِ ذلك: إنَّا لم نأتِك لِنُنازِعَك مُلكَك، ولا لِنَشرَكَك فيه، بل نحن عبدانِ مأمورانِ مُرسَلانِ مِن رَبِّك إليك. وفي إضافةِ اسمِ الرَّبِّ إليه هنا دونَ إضافتِه إليهما استِدعاءٌ لِسَمعِه وطاعتِه وقَبولِه، كما يقولُ الرَّسولُ للرَّجُلِ مِن عِندِ مَولاه: أنا رَسولُ مَولاك إليك وأستاذِك، وإن كان أستاذَهما معًا، ولكن ينَبِّهُه بإضافتِه إليه على السَّمعِ والطَّاعةِ له.

ثمَّ إنَّهما طَلَبا منه أن يُرسِلَ معهما بني إسرائيلَ، ويُخَلِّيَ بينهم وبينهما ولا يُعَذِّبَهم، ومن طلَبَ مِن غَيرِه تَركَ العُدوانِ والظُّلمِ وتَعذيبِ مَن لا يَستَحِقُّ العذابَ، فلم يَطلُبْ منه شَطَطًا، ولم يُرهِقْه من أمرِه عُسرًا، بل طلبَ منه غايةَ النَّصَفِ.

ثمَّ أخبرَه بعد الطَّلَبِ بثلاثةِ إخباراتٍ: أحَدُها: قَولُه تعالى: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ؛ فقد بَرِئْنا مِن عُهدةِ نِسبَتِك لنا إلى التقَوُّلِ والافتراءِ، بما جئناك به مِنَ البُرهانِ والدَّلالةِ الواضِحةِ، فقد قامت الحُجَّةُ، ثمَّ بعدَ ذلك للمُرسَلِ إليه حالتانِ: إمَّا أن يَسمَعَ ويُطيعَ فيكونَ مِن أهلِ الهُدى، والسَّلامُ على مَن اتَّبَع الهُدى، وإمَّا أن يُكَذِّبَ ويتولَّى، فالعذابُ على مَن كذَّب وتولَّى؛ فجَمَعَت الآيةُ طَلَبَ الإنصافِ، وإقامةَ الحُجَّةِ، وبيانَ ما يَستحِقُّ السَّامِعُ المطيعُ، وما يَستَحِقُّه المكَذِّبُ المتولِّي؛ بألطَفِ خطابٍ، وأليقِ قَولٍ، وأبلغِ ترغيبٍ وترهيبٍ .

9- قال الله تعالى حِكايةً عن موسى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إن قيل: ما الحِكمةُ في تسليمِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على مَن اتَّبَع الهُدَى في كتابِه إلى هِرَقلَ بلَفظِ النَّكِرةِ، ((سلامٌ على من اتَّبَعَ الهُدى))، وتسليمِ موسى عليهم هنا بلَفظِ المعرِفةِ؟

فالجوابُ عنه: أنَّ تَسليمَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تسليمٌ ابتدائيٌّ؛ ولهذا صدَّرَ به الكتابَ، حيث قال: ((مِن محمَّدٍ رَسولِ اللهِ إلى هِرَقلَ عَظيمِ الرُّومِ، سلامٌ على من اتَّبع الهُدى )) ؛ وتختصُّ النكرةُ بابتداءِ المكاتبةِ والمعرفةُ بآخرِها ، وأمَّا قَولُ موسى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى؛ فليس بسلامِ تحيَّةٍ؛ فإنَّه لم يبتدِئْ به فِرعَونَ، بل هو خبَرٌ محضٌ؛ فإنَّ مَن اتَّبَع الهدَى له السَّلامُ المُطلَقُ دونَ مَن خالفَه؛ فإنَّه قال له: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 47، 48]؛ أفلا ترَى أنَّ هذا ليس بتحيَّةٍ في ابتداءِ الكلامِ ولا خاتمتِه، وإنَّما وقع متوسِّطًا بينَ الكلامَينِ إخبارًا مَحضًا عن وقوعِ السَّلامةِ وحُلولِها على مَن اتَّبَع الهُدى؛ ففيه استدعاءٌ لفِرعَونَ، وترغيبٌ له بما جُبِلت النُّفوسُ على حُبِّه وإيثارِه مِنَ السَّلامةِ، وأنَّه إنِ اتَّبَع الهُدى الذي جاءَه به، فهو من أهلِ السَّلامِ. والله تعالى أعلَمُ .

10- لا يجوزُ السلامُ على المُسْلِم بلفظ: «السلامُ على مَنِ اتَّبَعَ الهدَى»؛ وذلك لأنَّه ما صَدَر مِن موسَى عليه السلامُ إلَّا في سَلامِ الكفَّارِ، كما في قولِه لفرعونَ: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وكذلك ما صدَر مِن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا في سَلامِ الكفارِ .

11- قولُه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فيه من تَرغيبِه في اتِّباعِهما على ألْطَفِ وجْهٍ ما لا يَخْفى . وكذلك قولُه: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى فيه من التَّلطيفِ في الوعيدِ -حيث لم يُصرَّحْ بحُلولِ العذابِ به- ما لا مَزِيدَ عليه .

12- في قَولِه تعالى: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قال ابنُ عبَّاسٍ: (هذه أرجَى آيةٍ للمُوحِّدينَ؛ لأنَّهم لم يكَذِّبوا، ولم يتولَّوا) .

13- قولُ الله تعالى: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى فيه دليلٌ على مَنعِ السَّلامِ على الكافِرِ، وأنَّه إذا احتيجَ إليه في خِطابٍ أو كتابٍ يُؤتى بهذه الصِّفةِ .

14- قولُ الله تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى هذا مِن أقوى الدَّلائِلِ على أنَّ عِقابَ المؤمِنِ لا يدومُ؛ ذلك لأنَّ الألفَ واللَّامَ في قَولِه: الْعَذَابَ تفيدُ الاستِغراقَ، أو تفيدُ الماهيَّةَ، وعلى التَّقديرَينِ يقتضي انحصارَ هذا الجِنسِ فيمن كذَّب وتولَّى، فوجَبَ في غير المكَذِّبِ المتولِّي ألَّا يَحصُلَ هذا الجِنسُ أصلًا .

15- قال الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى مع أنَّ فِرعَون كان شديدَ القُوَّةِ، عَظيمَ الغَلَبةِ، كثيرَ العَسكَرِ؛ لكِنْ لَمَّا دعاه موسى عليه السَّلامُ إلى اللهِ تعالى لم يَشتَغِلْ معه بالبَطشِ والإيذاءِ، بل خرج معه في المناظَرةِ؛ وذلك لأنَّه لو شَرَع أوَّلًا في الإيذاءِ لَنُسِبَ إلى الجهلِ والسَّفاهةِ؛ فاستنكفَ مِن ذلك وشرَعَ أولًا في المناظَرةِ؛ وذلك يدُلُّ على أنَّ السَّفاهةَ مِن غيرِ الحُجَّةِ شَيءٌ ما كان يرتضيه فِرعَونُ مع كمالِ جَهلِه وكُفرِه؛ فكيف يليقُ ذلك بمن يدَّعي الإسلامَ والعِلمَ ؟!

16- قولُ الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى يدُلُّ على أنَّه يجوزُ حِكايةُ كَلامِ المُبطِل؛ لأنَّه تعالى حكى كلامَ فِرعَونَ في إنكارِه الإلهَ، وحكى شُبُهاتِ مُنكري النبُوَّةِ، وشُبُهاتِ مُنكري الحَشرِ، إلَّا أنَّه يجِبُ أنَّك متى أوردْتَ السُّؤالَ، فاقرِنْه بالجوابِ؛ لئلَّا يبقَى الشَّكُّ، كما فعَلَ اللهُ تعالى في هذه المواضِعِ .

17- قولُ الله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى خُصَّ موسى بالذِّكرِ، قيل: لأنَّه في وَقتِ الكلامِ إنَّما يتكلَّمُ واحِدٌ، فإذا انقطع وازَرَه الآخَرُ وأيَّدَه؛ فموسى وهارونُ جميعًا بلَّغا الرِّسالةَ، وإن كان هارونُ ساكِتًا، فصار لنا في هذا البِناءِ فائِدةُ عِلمٍ: أنَّ الاثنينِ إذا قُلِّدا أمرًا فقام به أحدُهما، والآخَرُ شَخصُه هناك موجودٌ، مُستغنًى عنه في وقتٍ دونَ وَقتٍ: أنَّهما أدَّيا الأمرَ الذي قُلِّدا، وقاما به واستوجَبا الثَّوابَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قالَ: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ، وقال: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ، وقال: فَقُولَا لَهُ فأمرَهما جميعًا بالذَّهابِ وبالقَولِ، ثمَّ أعلَمَنا في وقتِ الخِطابِ بقَولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا أنَّه كان حاضِرًا مع موسى .

18- قال اللهُ تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى جمع جلَّ وعلا في هذه الآيةِ بين الخَلقِ والهِدايةِ، وهو سُبحانَه في القرآنِ كثيرًا ما يجمَعُ بينهما، كقَولِه في أوَّلِ سورةٍ أنزَلَها على رَسولِه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1-5]، وقوله: الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن: 1-4]، وقوله: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 8-11] ، وقوله: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 2، 3]، وقوله: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ... [النمل: 60] الآيات، ثم قال: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [النمل: 63] فالخَلقُ إعطاءُ الوجودِ العينيِّ الخارجيِّ، والهُدى إعطاءُ الوجودِ العلميِّ الذِّهنيِّ؛ فهذا خَلقُه، وهذا هُداه وتَعليمُه .

19- في قَولِه تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى دَلالةٌ على تمامِ عنايةِ الخالقِ سُبحانَه بخَلْقِه، وهدايتِه العامَّةِ ، فهذه هي الهدايةُ العامةُ المشاهَدةُ في جميعِ المخلوقاتِ، فكلُّ مخلوقٍ تجدُه يسعَى لما خُلِق له مِن المنافعِ، وفي دفعِ المضارِّ عنه .

20- قولُ الله تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ هذا أحسَنُ استنباطٍ لكتابةِ الحَديثِ والعِلمِ ، قال أبو المليحِ : (يَعيبونَ علينا الكتابَ، واللَّهُ يقولُ: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ) .

21- قال الله تعالى: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى في ذلك إشارةٌ إلى تبكيتِ اليَهودِ بأنَّ ثُبوتَ النبُوَّةِ إن كان يتوقَّفُ على أن يخبِرَ النبيُّ عن كلِّ ما يُسأَلُ عنه، لَزِمَ أن يتوقَّفوا في نبُوَّةِ نَبيِّهم عليه السَّلامُ؛ لأنَّه لم يُخبِرْ فِرعَونَ عما سألَه عنه مِن أمرِ القُرونِ .

22- قال الله تعالى: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى لِكمالِ عِلمِه وحِفظِه ، فهو يَصِفُ علمَه تعالى بأنَّه بكُلِّ شَيءٍ مُحيطٌ، وأنَّه لا ينسى شيئًا، تبارك وتعالى وتقَدَّس، فإنَّ عِلمَ المخلوقِ يَعتريه نُقصانانِ: أحدُهما: عدَمُ الإحاطةِ بالشَّيءِ، والآخَرُ: نسيانُه بعد عِلمِه، فنَزَّه نفسَه عن ذلك .

23- قال الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ لذلك كان بنو آدمَ كالأرضِ تمامًا: فيهم الحَزْنُ الصُّلْبُ الشَّديدُ، وفيهم السَّهْلُ، وفيهم ما بينَ ذلك، وفيهم الأبيضُ، وفيهم الأحمرُ، وفيهم الأسودُ؛ لأنَّ الأراضيَ تختَلِفُ هكذا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي بَيانٌ لجُملةِ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه: 24] . أو هي استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] يُؤذِنُ بأنَّه اختارَهُ وأعَدَّهُ لأمْرٍ عظيمٍ

.

- والباءُ في بِآَيَاتِي للمُصاحَبةِ؛ لقصْدِ تَطمينِ مُوسى بأنَّه سيكونُ مُصاحِبًا لآياتِ اللهِ ؛ فالمُرادُ ذَهابُهما إلى فرْعونَ مُتلبِّسينَ بالآياتِ، مُتمسِّكينَ بها في إجْراءِ أحكامِ الرِّسالةِ، وإكْمالِ أمْرِ الدَّعوةِ، لا مُجرَّدُ إذْهابِها، وإيصالِها إليه .

2- قولُه تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى لمَّا حذَفَ مَن يُذْهَبُ إليه في قولِه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ، نَصَّ عليه في هذا الأمْرِ الثَّاني، فقِيلَ: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ .

وقيل: قولُه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي يحتَمِلُ أن يكونَ كُلُّ واحدٍ منهما مأمورًا بالذَّهابِ على الانفرادِ، فقيل مَرَّةً أُخرى: اذْهَبَا؛ ليعرفا أنَّ المرادَ منه أن يشتغِلا بذلك جميعًا، لا أن ينفرِدَ به هارونُ دونَ موسى. وقيل: إنَّ قَولَه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي أمرٌ بالذَّهابِ إلى كُلِّ النَّاسِ مِن بني إسرائيلَ وقَومِ فِرعَونَ، ثمَّ إنَّ قَولَه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ أمرٌ بالذَّهابِ إلى فِرعَونَ وَحدَه .

- وجمَعَهما في صِيغَةِ أمْرِ الحاضرِ مع غَيبةِ هارونَ إذ ذاك؛ للتَّغليبِ .

- وقولُه: إِنَّهُ طَغَى تَعليلٌ للأمْرِ بأنْ يَذْهبا إليه؛ فعُلِمَ أنَّه لقصْدِ كَفِّه عن طُغيانِه .

3- قولُه تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى

- الفاءُ في قولِه: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لتَرتيبِ ما بعْدَها على طُغيانِه؛ فإنَّ تَلْيِينَ القولِ ممَّا يَكسِرُ سَوْرةَ عِنادِ العُتاةِ، ويُلِينُ عَريكةَ الطُّغاةِ .

- قولُه: قَوْلًا لَيِّنًا شبَّهَ الكلامَ المُشتمِلَ على المعاني الحَسنةِ بالشَّيءِ اللَّيِّنِ .

- قولُه: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى فيه تَقديمُ التَّذكُّرِ على الخَشيةِ؛ لأنَّ التَّذكُّرَ للمُتحقِّقِ، والخَشيةَ للمُتوهِّمِ؛ فقدَّمَ الأوَّلَ، أي: إنْ لم يَتحقَّقْ صِدْقُكما ولم يَتذكَّرْ؛ فلا أقَلَّ مِن أنْ يَتوهَّمَه فيَخْشى .

4- قولُه تعالى: قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى

- قولُه: قَالَا رَبَّنَا أُسْنِدَ القولُ إليهما، مع أنَّ القائلَ حقيقةً هو مُوسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بطَريقِ التَّغليبِ؛ إيذانًا بأصالتِه في كلِّ قوْلٍ وفِعْلٍ، وتَبعيَّةِ هارونَ عليه السَّلامُ له في كلِّ ما يأْتي ويذَرُ .

- ولم يَذْكُرا مُتعلِّقَ يَطْغَى -وهو (عليك)- بمعنى القولِ فيك بما لا يَنْبغي، وذكَرَا مُتعلِّقَ يَفْرُطَ -وهو عَلَيْنَا-؛ لأنَّ مَعَرَّتَه عائدةٌ إليهما؛ إجْلالًا للهِ تعالى، وتَهيُّبًا من عِزَّتِه، واستزادةً لِرَأفَتِه، واستِنْزالًا لرَحمتِه؛ فقولُه: أَوْ أَنْ يَطْغَى، أي: يقولَ فيك ما لا يَنْبغي، وفي المَجِيءِ به هكذا على الإطلاقِ، وعلى سَبيلِ الرَّمزِ: بابٌ من حُسْنِ الأدبِ، وتَحاشٍ عن التَّفوُّهِ بالعظيمةِ. وقيل: حُذِفَ مُتعلِّقُ يَطْغَى؛ لدَلالةِ نَظيرِه عليه، وهو قولُه: عَلَيْنَا، وأُوثِرَ بالحذْفِ؛ لرِعايةِ الفواصلِ. والتَّقديرُ: أو أنْ يَطْغى علينا. وإظْهارُ كَلمةِ (أنْ) مع سَدادِ المعنى بدُونِها؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بالأمْرِ، والإشعارِ بتَحقُّقِ الخوفِ من كلٍّ منهما .

5- قولُه تعالى: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى استئنافٌ مَبْنيٌّ على السُّؤالِ النَّاشىءِ من النَّظْمِ الكريمِ، ولعلَّ إسنادَ الفِعْلِ إلى ضَميرِ الغَيبةِ؛ للإشعارِ بانتقالِ الكلامِ من مَساقٍ إلى آخَرَ .

- وقولُه: لَا تَخَافَا نهْيٌ مُكَنًّى به عن نفْيِ وُقوعِ المَنْهيِّ عنه .

- وقولُه: إِنَّنِي مَعَكُمَا تَعليلٌ للنَّهيِ عن الخوفِ الَّذي هو في مَعنى النَّفيِ، ومَزيدُ تَسليةٍ لهما .

- ونُزِّلَ فِعْلَا أَسْمَعُ وَأَرَى مَنزِلةَ اللَّازمينِ؛ إذ لا غرَضَ لِبَيانِ مَفْعولِهما، بل المقصودُ: إنِّي لا يَخْفى عليَّ شَيءٌ، وفرَّعَ عليه إعادةَ الأمْرِ بالذَّهابِ إلى فِرْعونَ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا ... .

6- قولُه تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى

- قولُه: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا ... أُمِرَا بإتيانِه الَّذي هو عبارةٌ عن الوُصولِ إليه بعْدَما أُمِرَا بالذَّهابِ؛ فلا تَكْرارَ، وهو عطْفٌ على لَا تَخَافَا باعتبارِ تَعليلِه بما بعْدَه. أُمِرَا بـ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ؛ تَحقيقًا للحقِّ من أوَّلِ الأمْرِ؛ ليَعرِفَ الطَّاغيةُ شأْنَهما، ويَبْني جَوابَه عليه، وكذا التَّعرُّضُ لرُبوبيَّتِه تعالى له .

- قولُه: فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ أمَرَهما أنْ يُخاطِباهُ بقولِهما: رَبِّكَ؛ تَحقيرًا له، وإعلامًا أنَّه مَربوبٌ مَملوكٌ؛ إذ كان هو يَدَّعي الرُّبوبيَّةَ ، أو خَصَّا الرَّبَّ بالإضافةِ إلى ضَميرِ فِرْعونَ قَصْدًا لأقْصى الدَّعوةِ؛ لأنَّ كونَ اللهِ ربَّهما معلومٌ من قولِهما: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وكونُه ربَّ النَّاسِ معلومٌ بالأحْرى؛ لأنَّ فِرعونَ علَّمَهم أنَّه هو الرَّبُّ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وقال في سُورةِ (الشُّعراءِ): إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] . ووجْهُه: أنَّ الرَّسولَ سُمِّيَ به، فحيثُ وحَّدَه حُمِلَ على المصدرِ، وحيث ثَنَّى حُمِلَ على الاسمِ. ويجوزُ أنْ يُقالَ: حيث وحَّدَ حُمِلَ على الرِّسالةِ؛ لأنَّهما أُرْسِلَا لشَيءٍ واحدٍ، وحيث ثَنَّى حُمِلَ على الشَّخصينِ .

- والفاءُ في قولِه تعالى: فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها؛ فإنَّ كونَهما رسولَيْ ربِّهِ ممَّا يُوجِبُ إرسالَهم معهما. أو لأنَّ المُرسَلَ منَ اللهِ تجِبُ طاعتُه. وقيل: أدخَلَ فاءَ التَّفريعِ على طلَبِ إطلاقِ بني إسرائيلَ؛ لأنَّه جعَلَ طلَبَ إطلاقِهم كالمُستقِرِّ المعلومِ عندَ فِرْعونَ؛ إمَّا لأنَّه سبَقَتْ إشاعةُ عَزْمِهما على الحُضورِ عندَ فِرعونَ لذلك المطلَبِ، وإمَّا لأنَّه جعَلَه -لأهميَّتِه- كالمُقرَّرِ .

- وجُملةُ: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ جاريةٌ من الجُملةِ الأُولى -وهي إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ- مَجْرى البَيانِ والتَّفسيرِ؛ لأنَّ دَعوى الرِّسالةِ لا تثبُتُ إلَّا بِبَيِّنَتِها الَّتي هي المَجِيءُ بالآيةِ. أو تَقريرٌ لِمَا تَضمَّنَه الكلامُ السَّابقُ من دَعوى الرِّسالةِ، وتَعليلٌ لوُجوبِ الإرسالِ؛ فإنَّ مَجِيئَهما بالآيةِ من جِهَتِه تعالى ممَّا يُحقِّقُ رِسالتَهما ويُقرِّرُها، ويُوجِبُ الامتثالَ بأمْرِهما .

- إنَّما وحَّدَ قولَه: بِآَيَةٍ ولم يُثَنِّ، ومعه آيتانِ؛ لأنَّ المُرادَ في هذا الموضعِ تَثبيتُ الدَّعوى ببُرْهانِها، فكأنَّه قال: قد جِئْناك بمُعْجِزةٍ وبُرْهانٍ وحُجَّةٍ على ما ادَّعيناهُ من الرِّسالةِ ، فمعنى الآيةِ الإشارةُ إلى جنسِ الآياتِ، كأنَّه قال: قد جئناك ببيانٍ مِن عندِ الله. ثم يجوزُ أن يكونَ ذلك حجةً واحدة أو حججًا كثيرة .

- قولُه: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فيه إظهارُ اسمِ الرَّبِّ في مَوضِعِ الإضمارِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِ المُخاطَبِ؛ لتأكيدِ ما ذُكِرَ من التَّقريرِ والتَّعليلِ .

- وفي قولِه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى عُبِّر بـ (عَلَى) للتَّمكُّنِ، أي: سَلامةُ مَن اتَّبَع الهُدى ثابتةٌ لهم دونَ رَيبٍ، وهذا احتراسٌ ومُقدِّمةٌ للإنذارِ الَّذي في قولِه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى؛ فقولُه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى تَعريضٌ بأنْ يَطلُبَ فِرعونُ الهُدى الَّذي جاء به مُوسى عليه السَّلامُ ؛ ففيه إشارةٌ إلى التَّعريضِ؛ فاللَّامُ للجنْسِ، كأنَّه قال: جِنْسُ السَّلامِ على مَن اتَّبَعَ الهُدى؛ ففيه تَعريضٌ بأنَّ ضِدَّه عليكم .

7- قولُه تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى لعلَّ تَغييرَ النَّظمِ والتَّصريحَ بالوعيدِ والتَّوكيد فيه؛ لأنَّ التَّهديدَ في أوَّلِ الأمْرِ أهَمُّ وأنجَعُ، وبالواقعِ ألْيَقُ ، وفيه تَعريضٌ لإنذارِه على التَّكذيبِ قبْلَ حُصولِه منه؛ ليُبَلِّغَ الرِّسالةَ على أتَمِّ وجْهٍ قبْلَ ظُهورِ رأْيِ فِرعونَ في ذلك؛ حتَّى لا يُجابِهَه بعْدَ ظُهورِ رأْيِه بتَصريحِ تَوجيهِ الإنذارِ إليه .

- وبُنِيَ أُوحِيَ لِمَا لم يُسَمَّ فاعِلُه، ولم يُذْكَرِ المُوحِي؛ لأنَّ فِرعونَ كانت له بادرةٌ ؛ فرُبَّما صدَرَ منه في حَقِّ المُوحِي ما لا يَلِيقُ به .

- ولمَّا دَلَّ قولُه: وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى على التَّوبيخِ لِمَكانِ التَّعريضِ، كان قولُه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا استِئنافًا مُنْطويًا على تَعليلِ ذلك المفهومِ المقصودِ في الإيرادِ؛ كأنَّه قِيلَ: العذابُ على مَن كذَّبَ وتولَّى؛ لأنَّ اللهَ تعالى أوْحَى إلينا ذلك .

- وإطْلاقُ السَّلامِ والعذابِ دونَ تَقييدٍ بالدُّنيا أو الآخرةِ: تَعميمٌ للبِشارةِ والنِّذارةِ .

8- قولُه تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى

- في الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فأَتَيَا فِرعونَ، وقالا له ما أمَرَهما اللهُ أنْ يُبلِّغاهُ، فقال:...، وإنَّما طُوِيَ ذِكْرُه للإيجازِ، والإشعارِ بأنَّهما كما أُمِرَا بذلك سارَعَا إلى الامتثالِ به من غيرِ تَلعثُمٍ، وبأنَّ ذلك منَ الظُّهورِ بحيثُ لا حاجةَ إلى التَّصريحِ به .

- والفاءُ في قولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى؛ لتَرتيبِ السُّؤالِ على ما سبَقَ مِن كونِهما رسولَيْ ربِّهما، أي: إذا كُنْتُما رسولَيْ ربِّكما، فأخْبِرَا مَن ربُّكما الَّذي أرسلَكُما .

- وجاء خِطابُه في قولِه: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى للاثنينِ، ووجَّهَ النِّداءَ إلى أحدِهما، وهو مُوسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه الأصْلُ في النُّبوَّةِ، وهارونُ وَزيرُه وتابِعُه ، ولأنَّه صاحبُ الرِّسالةِ والكلامِ والآيةِ ، أو لأنَّ المُجاوَبةَ إنَّما تكونُ من الواحدِ، وإنْ كان الخِطابُ بالجماعةِ لا من الجَميعِ .

- وفي قولِ فِرعونَ: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى لم يُضِفِ الرَّبَّ إلى نفْسِه ولو بطَريقِ حِكايةِ ما في قولِه تعالى: إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ، وقولِه تعالى: قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ؛ لِغايةِ عُتوِّهِ ونِهايةِ طُغيانِه، بل أضافَه إليهما؛ لِمَا أنَّ المُرسِلَ لا بُدَّ أنْ يكونَ ربًّا للرَّسولِ، أو لأنَّهما قد صرَّحَا برُبوبيَّتِه تعالى للكلِّ، بأنْ قالا: إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16] كما وقَعَ في سُورةِ (الشُّعراءِ) . وقيل: أعرَضَ عنِ الاعترافِ بالمَرْبوبيَّةِ ولو بحِكايةِ قولِهما؛ لئلَّا يقَعَ ذلك في سمْعِ أتْباعِه وقومِه، فيَحسِبوا أنَّه مُتردِّدٌ في مَعرفةِ ربِّه، أو أنَّه اعترَفَ بأنَّ له ربًّا . أو: لم يقُلْ: رَبِّي؛ حَيدةً عن سواءِ النَّظرِ، وصرفًا للكلامِ على الوجهِ الموضِّحِ لخِزيِه .

9- قولُه تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى

- جَوابُ مُوسى عليه السَّلامُ بقولِه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى سلَكَ فيه طَريقَ الإرشادِ والأُسلوبِ الحكيمِ، حيث كان الظَّاهرُ أنْ يقولَ: (ربُّ العالمينَ)؛ فما أخصَرَه وما أجمَعَه! وما أبْيَنَه لمَن ألْقَى الذِّهنَ، ونظَرَ بعَينِ الإنصافِ، وكان طالِبًا للحقِّ؛ فهو جَوابٌ في غايةِ البَلاغةِ؛ لاختصارِه، وإعرابِه عن الموجوداتِ بأسْرِها على مَراتبِها، ودَلالتِه على أنَّ الغَنِيَّ القادرَ بالذَّاتِ، المُنعِمَ على الإطلاقِ هو اللهُ تعالى، وأنَّ جميعَ ما عداهُ مُفتقِرٌ إليه، مُنْعَمٌ عليه في حَدِّ ذاتِه وصِفاتِه وأفعالِه؛ ولذلك بُهِتَ الَّذي كفَرَ، فلم يَرَ إلَّا صَرْفَ الكلامِ عنه . وأيضًا أجاب مُوسى عليه السَّلامُ بإثباتِ الرُّبوبيَّةِ للهِ لجَميعِ الموجوداتِ، وفِرعونُ من جُملتِها، فهو داخلٌ في عُمومِها ، ولقد ساق عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جَوابَه على نمَطٍ رائقٍ، وأُسلوبٍ لائقٍ، وضَمَّنَه أنَّ إرسالَه تعالى إلى الطَّاغيةِ من جُملةِ هِداياتِه تعالى إيَّاهُ، بعْدَ أنْ هَداهُ إلى الحقِّ بالهداياتِ التَّكوينيَّةِ؛ حيث ركَّبَ فيه العقْلَ، وسائرَ المشاعرِ، والآلاتِ الظَّاهرةِ والباطنةِ .

- ولم يُريدَا بضَميرِ المُتكلِّمِ رَبُّنَا أنفُسَهما فقط، حسْبَما أرادَ اللَّعينُ، بل جميعَ المخلوقاتِ؛ تَحقيقًا للحقِّ، ورَدًّا عليه، كما يُفْصِحُ عنه ما في حَيِّزِ الصِّلَةِ، أي: هو ربُّنا الَّذي أعْطَى كلَّ شَيءٍ مِن الأشياءِ خَلْقَه .

- قولُه: ثُمَّ هَدَى لمَّا كان الخلْقُ مُتقدِّمًا على الهدايةِ وُسِّطَ بينهما كَلِمةُ التَّراخي (ثُمَّ) ، وفيه إيجازٌ بليغٌ؛ لأنَّه حذَفَ جُمَلًا لا يقَعُ عليها الحصْرُ؛ لأنَّه ليس بالمُتاحِ إحصاءُ المخلوقاتِ الحيَّةِ وغيرِ الحيَّةِ، العاقلةِ وغيرِ العاقلةِ الَّتي خلَقَها اللهُ .

10- قولُه تعالى: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى

- إيثارُ كَلِمةِ (البال) هنا من دَقيقِ الخصائصِ البلاغيَّةِ؛ أراد فِرعونُ أنْ يُحاجَّ مُوسى بما حصَل للقُرونِ الماضيةِ الَّذين كانوا على مِلَّةِ فِرعونَ، أي: ما حالُهم؛ أفتزْعُمُ أنَّهم اتَّفَقوا على ضَلالةٍ؟! وهذه طبيعةُ مَن لا يَجِدُ حُجَّةً، فيَعمِدُ إلى التَّشغيبِ بتَخييلِ استبعادِ كَلامِ خَصْمِه. ويجوزُ أنَّ فِرعونَ أراد التَّشغيبَ على مُوسى حين نهَضَتْ حُجَّتُه بأنْ يَنقِلَه إلى الحديثِ عن حالِ القُرونِ الأُولى: هل هم في عذابٍ؟ بمُناسَبةِ قولِ مُوسى: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: 48] ، فإذا قال: إنَّهم في عذابٍ، ثارتْ ثائرةُ أبنائِهم، فصاروا أعداءً لمُوسى، وإذا قال: هم في سَلامٍ، نهَضَتْ حُجَّةُ فِرعونَ؛ لأنَّه مُتابِعٌ لِدينِهم، ولأنَّ مُوسى لمَّا أعلَمَه برَبِّه، وكان ذلك مُشعِرًا بالخلْقِ الأوَّلِ؛ خطَرَ ببالِ فِرعونَ أنْ يسأَلَه عن الاعتقادِ في مَصيرِ النَّاسِ بعدَ الفَناءِ، فسأَلَ: ما بالُ القُرونِ الأُولى؟ ما شأْنُهم؟ وما الخبَرُ عنهم؟ وهو سُؤالُ تَعجيزٍ وتَشغيبٍ .

11- قولُه تعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى

- قولُه: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فيه إظهارُ رَبِّي في مَوقعِ الإضمارِ؛ للتَّلذُّذِ بذِكْرِه، ولزِيادةِ التَّقريرِ والإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ الرُّبوبيَّةَ ممَّا يَقْتضي عدَمَ الضَّلالِ والنِّسيانِ حتْمًا .

- والغرَضُ من قولِه: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ التَّوكيدُ بأنَّ أسرارَها مَعلومةٌ له، لا يَزولُ شَيءٌ منها، ويتأكَّدُ هذا بقولِه: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى  .

- وقولُه: لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى فيه تعريضٌ بفرعونَ يستلزمُ إبطالَ دعواه الربوبيةَ .

12- قولُه تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى استئنافٌ ابتدائيٌّ على عادةِ القُرآنِ مِن تفنُّنِ الأغراضِ؛ لتَجديدِ نَشاطِ الأذهانِ. وتَعريفُ جُزأَيِ الجُملةِ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ يُفِيدُ الحصْرَ، أي: الجاعِلُ الأرضَ مِهادًا؛ فكيف تَعْبُدون غيرَه؟! وهذا قصْرٌ حَقيقيٌّ، غيرُ مَقصودٍ به الرَّدُّ على المُشرِكين، ولكنَّه تَذكيرٌ بالنِّعمةِ، وتَعريضٌ بأنَّ غيرَه ليس حَقِيقًا بالإلهيَّةِ .

- وفي قولِه: فَأَخْرَجْنَا بِهِ انتقَلَ من لفْظِ الغَيبةِ الَّذِي جَعَلَ إلى لفْظِ المُتكلِّمِ المُطاعِ؛ للافتنانِ، وللتَّنبيهِ على ظُهورِ ما فيهِ منَ الدَّلالةِ عَلى كَمالِ القُدرةِ والحِكمةِ، والإيذانِ بأنَّه مُطاعٌ تَنقادُ الأشياءُ المُختلِفةُ لأمْرِه، وتُذعِنُ الأجناسُ المُتفاوِتةُ لمَشيئتِه، لا يَمتنِعُ شَيءٌ على إرادتِه . وفي هذا الالْتِفاتِ تَخصيصٌ أيضًا بأنَّا نحن نقْدِرُ على مثْلِ هذا، ولا نَدخُلُ تحتَ قُدرةِ أحَدٍ . وأيضًا هذا الالتفاتُ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ بصِيغةِ التعظيمِ يدلُّ على تَعظيمِ شأنِ إنباتِ النباتِ؛ لأنَّه لو لم يَنزِلِ الماءُ، ولم يَنبُتْ شيءٌ، لهَلَك الناسُ جُوعًا وعطشًا؛ فهو يدلُّ على عَظمتِه جلَّ وعلا، وشِدَّةِ احتياجِ الخَلقِ إليه، ولُزومِ طاعتِهم له جلَّ وعلا . وحسَّنَ هذا الالْتِفاتَ: أنَّه بعْدَ أنْ حَجَّ المُشرِكينَ بحُجَّةِ انفِرادِه بخلْقِ الأرضِ، وتَسخيرِ السَّماءِ ممَّا لا سَبيلَ بهم إلى نُكرانِه؛ ارْتَقَى إلى صِيغَةِ المُتكلِّمِ المُطاعِ؛ فإنَّ الَّذي خلَقَ الأرضَ، وسخَّرَ السَّماءَ حَقيقٌ بأنْ تُطِيعَه القُوى والعناصِرُ، فهو يُخرِجُ النَّباتَ من الأرضِ بسبَبِ ماءِ السَّماءِ، فكان تَسخيرُ النَّباتِ أثَرًا لتَسخيرِ أصْلِ تَكوينِه من ماءِ السَّماءِ وتُرابِ الأرضِ .

- قولُه: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا كِنايةٌ عن كثْرَتِها في جِهاتِ الأرضِ .

- قولُه: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى لمَّا ذكَرَ مِنَّةَ خلْقِ الأرضِ، شفَعَها بمِنَّةِ إخراجِ النَّباتِ منها بما يُنزِلُ عليها من السَّماءِ من ماءٍ. وتلك مِنَّةٌ تُنْبِئُ عن خلْقِ السَّمواتِ؛ حيث أجْرى ذِكْرَها لقصْدِ ذلك التَّذكيرِ؛ ولذا لم يقُلْ: وصبَبْنا الماءَ على الأرضِ، كما في آيةِ: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [عبس: 25، 26]. وهذا إدماجٌ بَليغٌ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا، وقال في سُورةِ الزُّخرفِ: وَجَعَلَ [الزخرف: 10]. ووجْهُه: أنَّ لفْظَ السُّلوكِ مع السَّبيلِ أكثرُ استعمالًا، فخُصَّت به سُورةُ (طه)، وخُصَّت سُورةُ الزُّخرفِ بـ (جَعَل)؛ ازدواجًا للكلامِ، ومُوافقةً لِمَا قبْلَها وما بعْدَها .

13- قولُه تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى مقولُ قَولٍ مَحذوفٍ هو حالٌ من ضَميرِ فَأَخْرَجْنَا، والتَّقديرُ: قائلينَ: كُلوا وارْعَوا أنعامَكم، والأمْرُ للإباحةِ، مُرادٌ به المِنَّةُ، والتَّقديرُ: كُلوا منها، وارْعَوا أنعامَكم منها، وهذا مِن مُقابَلةِ الجمْعِ -في قولِه: نَبَاتٍ شَتَّى- بالجمْعِ؛ لقصْدِ التَّوزيعِ .

- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى جُملةٌ مُعترِضةٌ مُؤكِّدةٌ للاستدلالِ. وتأكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ)؛ لتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلَةَ المُنكرينَ؛ لأنَّهم لم يَنْظروا في دَلالةِ تلك المخلوقاتِ على وَحدانيَّةِ اللهِ، وهم يَحْسبون أنفُسَهم من أُولي النُّهى .

- واسمُ الإشارةِ ذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من شُؤونِه تعالى وأفعالِه، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتْبتِه، وبُعْدِ مَنزلتِه في الكَمالِ .

- وتَنكيرُ لَآَيَاتٍ؛ للتَّفخيمِ كمًّا وكَيفًا، أي: لآياتٍ كثيرةً جَليلةً، واضحةَ الدَّلالةِ على شُؤونِ اللهِ تعالى في ذاتِهِ وصِفاتِه وأفعالِه، وعلى صِحَّةِ نُبوَّةِ مُوسى وهارونَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ. وتَخصيصُ كونِها آياتٍ بأُولي النُّهَى-مع أنَّها آياتٌ للعالمينَ- باعتبارِ أنَّهم المُنتفِعونَ بها .

14- قولُه تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى مُستأنفٌ استئنافًا ابتدائيًّا، وهذا إدماجٌ للتَّذكيرِ بالخلْقِ الأوَّلِ؛ ليكونَ دَليلًا على إمكانِ الخلْقِ الثَّاني بعْدَ الموتِ .

- وقُدِّمَتِ المجروراتُ الثَّلاثةُ -مِنْهَا وَفِيهَا وَمِنْهَا- على مُتعلِّقاتِها؛ فأمَّا المجرورُ الأوَّلُ والمجرورُ الثَّالثُ فَلِلاهتمامِ بكونِ الأرضِ مبدَأَ الخلْقِ الأوَّلِ، والخلْقِ الثَّاني. وأمَّا تَقديمُ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ فَلِلْمُزاوجةِ مع نَظيرَيْه .

- قولُه: وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ إيثارُ كَلِمةِ (في) على كَلمةِ (إلى)؛ للدَّلالةِ على الاستقرارِ المَديدِ فيها .

- قولُه: وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ فيه إيماءٌ إلى أنَّ إخراجَ الأجسادِ من الأرضِ بإعادةِ خلْقِها كما خُلِقَت في المرَّةِ الأُولى .

- والآيةُ كالتَّتميمِ للآيةِ الأُولى، والتَّكميلِ للمنافِعِ المنوطةِ بالأرضِ ؛ دلَّتِ الأُولى على بَيانِ مَرافقِهم وأصنافِ انتفاعِهم، وهذه على أنَّها أصْلُهم، وفيها تقلُّبُهم أحياءً وأمواتًا .

===================

 

سورةُ طه

الآيات (56-64)

ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

غريب الكلمات:

 

سُوًى: أي: وسَطًا، وهو مِن الاستواءِ؛ لأنَّ المسافةَ مِن الوسَطِ إلى الطَّرفينِ لا تفاوُتَ فيها، بل هي مُستويةٌ، وأصلُ (سوي): يدلُّ على استِقامةٍ، واعتِدالٍ بين شيئَينِ

.

يَوْمُ الزِّينَةِ: يومُ عيدٍ لهم، وأصلُ (زين): يدُلُّ على حُسنِ الشَّيءِ وتَحسينِه .

كَيْدَهُ: أي حِيَلَه ومَكْرَه، والكَيدُ: ضَربٌ مِن الاحتيالِ، وقد يكونُ مَذمومًا وممدوحًا، وإن كان يُستعمَلُ في المذمومِ أكثَرَ .

فَيُسْحِتَكُمْ: أي: يُهلِكَكم ويَستَأْصِلَكم، وأصلُ (سحت): القِشرُ الذي يُستأصَلُ .

وَأَسَرُّوا النَّجْوَى: أي: أخفَوا كلامَهم، والإسرارُ: خِلافُ الإعلانِ، والنَّجوى: المناجاةُ، وأصلُ (نجو): يدُلُّ على سَترٍ وإخفاءٍ .

بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى: قيل: أي: بجَماعتِكم الأشراف، والعَرَبُ تقولُ للرَّجُلِ الفاضِلِ: هذا طَريقةُ قَومِه؛ فإنَّ الطريقةَ اسمٌ للأفاضِلِ على معنى أنَّهم الذين يُقتَدى بهم ويُتَّبَعُ آثارُهم، وقيل: أراد سُنَّتَكم ودِينَكم، والمثلَى تأنيثُ الأمثلِ، وهو الأفضلُ .

اسْتَعْلَى: أي: غلَبَ وأفلَحَ، وأصْلُ (علو): يدُلُّ على السُّموِّ والارتفاعِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ

إِنْ مُخفَّفةٌ مِنَ الثَّقيلةِ مُهمَلةٌ، هَذَانِ مبتدأٌ مرفوعٌ بالألفِ، لَسَاحِرَانِ خبرُ المبتدأِ، و(اللامُ) هي الفارِقةُ بينَ إنِ النَّافيةِ والمخَفَّفةِ. وقال الكوفيُّونَ: إِنْ نافيةٌ بمعنى (ما)، واللامُ في لَسَاحِرَانِ بمعنى (إلَّا)، أي: ما هذان إلَّا ساحرانِ. وقيل: إِنْ مُخَفَّفةٌ عامِلةٌ، واسمُها ضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ، هَذَانِ مبتدأٌ مرفوعٌ، لَسَاحِرَانِ (اللامُ) لامُ الابتِداءِ، (ساحرانِ) خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه: هما. وجملةُ (هما ساحرانِ) في محلِّ رفعٍ خبَرُ المبتدأِ (هذان)، وجملةُ (هذان لَهُما ساحِرانِ) في محلِّ رَفعٍ خبَرُ (إن) المخفَّفةِ.

وفي قراءةٍ: بتَشديدِ (إنَّ)

، وفي تخريجِها وجوهٌ عِدَّةٌ أجوَدُها وأرجَحُها: أنَّها (إنَّ) النَّاصبةُ، (هذان) اسم (إنَّ) منصوبٌ بها، واللامُ لامُ الابتداءِ المُزحلَقةُ، و (ساحرانِ) خبرُ (إنَّ) مرفوعٌ. ومجيءُ اسمِ الإشارةِ بالألفِ هنا مع أنَّه منصوبٌ: جارٍ على لغةِ بعضِ العَرَبِ مِن إجراءِ المثنَّى بالألفِ مُطلَقًا؛ يجعَلونَ المثنَّى كالمقصورِ، فيُثبِتونَ ألفًا في جميعِ أحوالِه، ويُقَدِّرونَ إعرابَه بالحَركاتِ. وقيل: إنَّ هَذَانِ مبنيٌّ؛ لتضَمُّنِه معنى الإشارةِ كمُفرَدِه وجَمعِه. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا مدَى تعنُّتِ فرعونَ، واستكبارِه عن قَبولِ الحقِّ: ولقد أَرينا فِرعَونَ جميعَ أدِلَّتِنا وحُجَجِنا الدالَّةِ على صِدْقِ رسالةِ موسى، فكذَّب بها فِرعَونُ وامتنَعَ عن قَبولِ الحَقِّ.

ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما قاله فرعونُ لموسى عليه السلامُ على سبيلِ التهديدِ والوعيدِ، فيقول: قال فِرعَونُ: هل جِئتَنا -يا موسى- لِتُخرِجَنا مِن ديارِنا بسِحرِك هذا؟ فلَنأتينَّك بسِحرٍ مِثلِ سِحرِك، فاجعَلْ بيننا وبينك مَوعِدًا مُحدَّدًا لا نُخلِفُه نحن ولا أنت، في مكانٍ وَسَطٍ بيننا. قال موسى لفِرعَونَ: مَوعِدُكم للاجتِماعِ يومُ الزينةِ، حين يتزيَّنُ النَّاسُ ويَجتَمِعونَ في المكان المعتاد لذلك، وأن يساقَ الناسُ للحضورِ في وَقتَ الضُّحَى.

ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما كان مِن فرعونَ بعدَ تحديدِ الموعدِ، فيقولُ: فتولَّى فِرعَونُ، فجمَعَ سَحَرتَه، ثمَّ جاء بعد ذلك لموعدِ الاجتِماعِ بموسى.

ويخبرُ الله تعالى عمَّا دارَ بينَ موسَى عليه السلامُ والسحرةِ، فيقول تعالى: قال موسى للسَّحَرةِ يَعِظُهم: ويلَكم! لا تختَلِقوا على اللهِ الكَذِبَ فيُهلِكَكم ويَستأصِلَكم بعَذابٍ مِن عِندِه، وقد خَسِرَ مَن اختلقَ على اللهِ كَذِبًا.

فاختلَف السَّحرةُ، وتحادَثوا سِرًّا فيما بينهم، قالوا: ما موسى وهارونُ إلَّا ساحرانِ، يُريدانِ أن يُخرِجاكم من أرضِ مِصرَ بسِحرِهما، ويَذهَبَا بدينِكم وشريعتِكم، فأحكِموا سِحرَكم، واعزِموا على كيدِ موسى مِن غَيرِ اختِلافٍ بينكم، ثمَّ ائتُوا صفًّا واحِدًا، وقد ظَفِرَ بمَطلوبِه اليومَ مَن علا على صاحِبِه، فغَلَبه وقَهَرَه.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56).

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا.

أي: ولقد أرَيْنا فِرعَونَ جميعَ مُعجِزاتِنا الدالَّةِ على نبوَّةِ موسى، وصِحَّةِ ما يدعو إليه

.

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ [الزخرف: 46-50] .

فَكَذَّبَ وَأَبَى.

أي: فكذَّب فِرعَونُ بآياتِ اللهِ، ولم يَقبَلْ ما جاء به موسى وهارونُ مِن تَوحيدِ اللهِ وطاعتِه .

كما قال تعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 41، 42].

قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57).

أي: قال فِرعَونُ: هل جِئتَنا لِتُخرِجَنا مِن دُورِنا ومَنازِلِنا في مِصرَ، وتستوليَ عليها بسِحرِك يا موسى ؟

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ [يونس: 76 - 78].

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58).

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ.

أي: لكنَّ مرادَكَ هذا لن يتحَقَّقَ يا موسى؛ فلَنُعارِضَنَّك بسِحرٍ مِثلِ سِحرِك، بواسِطةِ سَحَرتِنا الذين نُحضِرُهم إلينا .

فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ.

أي: فحدِّدْ بيننا وبينك وَقتًا معيَّنًا ومَكانًا محدَّدًا نجتَمِعُ فيه، فننظُرُ أيُّنا يغلِبُ الآخَرَ، ولا نَقعُدُ نحن ولا أنت عن إتيانِ ذلك الموعِدِ .

مَكَانًا سُوًى.

أي: في مكانٍ وَسَطٍ .

قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59).

قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ.

أي: قال موسى: مَوعِدُكم هو اليَومُ المخصَّصُ لاجتِماعِ النَّاسِ فيه، وتَزَيُّنِهم وتفَرُّغِهم مِن أعمالِهم، في المكانِ المعتادِ لذلك .

وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.

أي: وأن يُساقَ جَميعُ النَّاسِ مِن كلِّ ناحيةٍ لِحُضورِ اجتِماعِنا في وقتِ الضُّحَى .

فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60).

أي: فتولَّى فِرعَونُ ، وشرَعَ يجمَعُ السَّحَرةَ مِن المدائِنِ، ثمَّ جاء لموعِدِ يومِ الزِّينةِ .

كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [يونس: 79] .

وقال سُبحانَه: قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ * فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 36 - 42] .

قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61).

قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ.

أي: قال موسى للسَّحَرةِ : ويلَكم! لا تختَلِقوا كَذبًا على اللهِ ؛ فيَستأصِلَكم بهلاكٍ وعذابٍ مِن عِندِه .

وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى.

أي: وقد فات ما رجاه وطَلَبه وأمَّلَه مِن وراءِ كَذِبِه على اللهِ: مَن فَعَل ذلك .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69، 70].

وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116، 117].

فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)

أي: فلمَّا سَمِعَ السَّحَرةُ كلامَ موسى اختَلَفوا ، وتجاذَبوا الحديثَ سِرًّا فيما بينَهم، وبالَغوا في إخفائِه مِن فِرعَونَ .

قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما أسَرُّوه مِن النَّجوَى؛ حكَى عنهم ما أظهَروه، ومجموعُه يدُلُّ على التَّنفيرِ عن موسى -عليه السَّلامُ- ومتابعةِ دينِه .

قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ.

أي: قال السَّحرةُ: ما موسى وهارونُ إلَّا ساحرانِ .

يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا.

أي: يريدُ موسى وهارونُ أن يُخرِجاكم مِن وطَنِكم؛ أرضِ مِصرَ، بالاستيلاءِ عليها بسِحرِهما الذي أظهراه .

وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى.

ويَذْهبا بدينِكم وشريعتِكم ومذهبِكم الذي هو أفضلُ المذاهبِ، بإظهارِ مذهبِهما، وإعلاءِ دينِهما .

كما قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر: 26] .

فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64).

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: فَأَجْمِعُوا قِراءتانِ:

1- قِراءةُ فَاجْمَعُوا مِن الجَمعِ. أي: فاجمَعوا سِحرَكم، فلا تَدَعوا مِن كَيدِكم شيئًا إلَّا جِئتُم به .

2- قراءةُ فَأَجْمِعُوا من العَزمِ والإحكامِ. أي: فأحكِموا سِحرَكم واعزِمُوا كلُّكم على كَيدِ عَدُوِّكم .

فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا.

أي: قال السَّحَرةُ بعضُهم لبعضٍ : فاجتَهِدوا في إحكامِ سحرِكم، واعزِموا كُلُّكم على كيدِ موسى، ثمَّ احضُروا مُجتَمِعينَ في صَفٍّ .

وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى.

أي: وقد فاز اليومَ بمَطلوبِه مَن غلَبَ خَصْمَه، وقَهَره

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ الله تعالى: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى هذا كلامُ فِرعَونَ الذي زَوَّقه وصَنَّعه ونَمَّقه، فأوقف به قَومَه عن السَّعادةِ، واستمَرَّ يقودُهم بأمثالِه، حتى أورَدَهم البَحرَ فأغرَقَهم، ثمَّ في غمراتِ النَّارِ أحرَقَهم؛ فعلى الكَيِّسِ الفَطِنِ أن ينقُدَ الأقوالَ والأفعالَ، والخواطِرَ والأحوالَ، ويَعرِضَها على محَكِّ الشَّرعِ: الكتابِ والسُّنَّةِ، فما وافَقَ لَزِمَه، وما لا تركَه

.

2- موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جُمِع له السَّحَرةُ المَهَرةُ الذين وَضَعوا العِصِيَّ والحِبالَ، فكانت هذه العِصِيُّ والحِبالُ يُخَيَّلُ إلى النَّاسِ أنَّها حيَّاتٌ تسعى، حتى موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع إيمانِه وقُوَّتِه أوجس في نفسِه خِيفةً! لكِنَّه قال لهم: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى هذه الكَلِمةُ أثَّرت تأثيرًا عظيمًا فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، وإذا حصل النِّزاعُ حَصَل الفَشَلُ؛ قال الله تعالى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46] . تنازعوا أمرَهم بينهم، وأخيرًا آمَنَ السَّحَرةُ! فكَلِمةُ الحَقِّ تؤثِّرُ إذا صدرت من إنسانٍ مُخلِصٍ، لا يريدُ أن يَفرِضَ قَولَه على غيرِه، إنَّما يريدُ أن يهديَ غَيرَه للحَقِّ الذي هو مرادُ الجميعِ؛ فإنَّه سيُؤَثِّرُ بإذنِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ ولهذا لا تَحقِرَنَّ كَلِمةَ الحَقِّ، ولا تَقُلْ: إنَّها لا تنفَعُ؛ فما من قلبٍ مِن قلوبِ بني آدَمَ إلَّا وهو بين إِصبَعينِ مِن أصابعِ الرَّحمنِ يُقَلِّبُه كيف يشاءُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى حِكايةً عن فِرعَونَ: أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ زعم أنَّ هذه الآياتِ التي أراه إيَّاها موسى سِحرٌ وتمويهٌ، المقصودُ منها إخراجُهم مِن أرضِهم، والاستيلاءُ عليها؛ ليكونَ كلامُه مُؤَثِّرًا في قلوبِ قَومِه؛ فإنَّ الطِّباعَ تَميلُ إلى أوطانِها، ويَصعُبُ عليها الخروجُ منها ومُفارقتُها، فأخبَرَهم أنَّ موسى هذا قَصدُه؛ لِيُبغِضوه ويَسْعَوا في محاربتِه

.

2- قال الله تعالى: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى إنما واعَدَهم ذلك اليومَ لِيَكونَ عُلُوُّ كلمةِ الله، وظُهورُ دينِه، وكَبتُ الكافِرِ، وزهوقُ الباطِلِ: على رؤوسِ الأشهادِ، وفي المَجمَعِ الغاصِّ ؛ لِتَقوى رغبةُ مَن رَغِبَ في الحَقِّ، ويَكِلَّ حَدُّ المُبطِلينَ وأشياعِهم، ويَكثُرَ المحَدِّثُ بذلك الأمرِ العَلَمِ في كلِّ بَدْوٍ وحَضَرٍ، ويَشيعَ في جَمعِ أهلِ الوَبَرِ والمَدَرِ ؛ لأنَّ يوم الزينةِ ووقتَ الضحى يحصلُ فيه مِن كثرةِ الاجتماعِ، ورؤيةِ الأشياءِ على حقائقِها، ما لا يحصلُ في غيره، فيكون أظهرَ وأجلَى، وأبينَ وأوضحَ .

3- قولُ الله تعالى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ الخِطابُ بقَولِه: وَيْلَكُمْ يجوزُ أن يكونَ أراد به حقيقةَ الدُّعاءِ، فيكونَ غيرَ جارٍ على ما أُمِرَ به من إلانةِ القَولِ لفِرعَونَ؛ إمَّا لأنَّ الخِطابَ بذلك لم يكُنْ مُواجِهًا به فِرعَونَ، بل واجهَ به السَّحَرةَ خاصَّةً، الذين اقتضاهم قَولُه تعالى: فَجَمَعَ كَيْدَهُ، أي: قال موسى لأهلِ كيدِ فِرعَونَ. وإمَّا لأنَّه لمَّا رأى أنَّ إلانةَ القَولِ له غيرُ نافعةٍ؛ إذ لم يَزَل على تَصميمِه على الكُفرِ: أغلظَ القَولُ زَجرًا له بأمرٍ خاصٍّ مِن اللهِ في تلك السَّاعةِ؛ تقييدًا لمُطلَقِ الأمرِ بإلانةِ القَولِ. وإما لأنَّه لما رأَى تمويهَهم على الحاضرينَ أنَّ سحرَهم معجزةٌ لهم مِن آلهتِهم ومِن فِرعَونَ ربِّهم الأعلَى وقالوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء: 44] رأَى واجبًا عليه تغييرَ المنكرِ بلسانِه بأقصَى ما يستطيعُ؛ لأنَّ ذلك التغييرَ هو المناسبُ لمقامِ الرسالةِ.

ويجوزُ أن تكونَ كلمةُ وَيْلَكُمْ مُستعمَلةٌ في التعجُّبِ من حالٍ غَريبةٍ، أي: أعجَبُ منكم وأحَذِّرُكم؛ فحُكِي تَعجُّبُ موسى باللَّفظِ العَربيِّ الدَّالِّ على العَجَبِ الشَّديدِ .

4- ضَمِنَ سُبحانَه أنَّه لا بُدَّ أن يخيبَ أهلُ الافتراءِ وأنَّه لا يهديهم، وأنَّه يستأصِلُهم بعذابِه؛ قال تعالى إخبارًا عن كليمِه موسى أنَّه قال: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ، ففيه دَلالةٌ على عِظَمِ الافتراءِ، وأنَّه يترتَّبُ عليه هَلاكُ الاستئصالِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى هذه الجُملةُ بينَ الجُمَلِ الَّتي حكَتْ مُحاورةَ مُوسى وفِرعَونَ، وقعَتْ هذه كالمُقدِّمةِ لإعادةِ سَوقِ ما جَرى بين مُوسى وفِرعونَ من المُحاورةِ؛ فيجوزُ أنْ تكونَ مَعطوفةً على جُملةِ: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه: 49] ؛ باعتبارِ ما يُقدَّرُ قبْلَ المعطوفِ عليها مِن كلامٍ حُذِفَ اختصارًا، تقديرُه: فأَتَياهُ، فقالا ما أمَرْناهما أنْ يقولاهُ، قال: فمَن ربُّكما... إلخ. ويجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ مُعترِضةً بينَ ما قبْلَها، والواوُ اعتراضيَّةٌ

.

- قولُه: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فيه التَصديرُ بالقسَمِ؛ لإبرازِ كَمالِ العنايةِ بمَضمونِها. وإسنادُ الإراءةِ إلى نُونِ العظمةِ؛ لتَهويلِ أمْرِ الآياتِ، وتَفخيمِ شأْنِها، وإظهارِ كَمالِ شَناعةِ اللَّعينِ وتَماديهِ في المُكابَرةِ والعنادِ . وفيه تأكيدُ الكلامِ بلامِ القسَمِ، و(قد) مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ مِن تصلُّبِ فِرعونَ في عنادٍ. وتأكيدُ الآياتِ بأداةِ التَّوكيدِ كُلَّهَا؛ لزِيادةِ التَّعجيبِ مِن عِنادِه .

- وقولُه: آَيَاتِنَا كُلَّهَا آَيَاتِنَا ليس عامًّا؛ إذ لم يُرِهِ تعالى جميعَ الآياتِ، وإنَّما المعنى: آياتِنا الَّتي رآها؛ فكانتِ الإضافةُ تُفِيدُ ما تُفِيدُه الألِفُ واللَّامُ من العهْدِ. وإنَّما رأى العصَا واليدَ، وغيرَ ذلك ممَّا رآهُ، فجاء التَّوكيدُ بالنِّسبةِ لهذه الآياتِ المعهودةِ . وقيل: المعنى: آياتٍ بكَمالِها. وأضافَ الآياتِ إليه على حسَبِ التَّشريفِ، كأنَّه قال: آياتٍ لنا ، وقيل غير ذلك .

- وأُجْمِلَتِ الآياتُ وعُمِّمَت فلم تُفصَّلْ؛ لأنَّ المقصودَ هنا بَيانُ شِدَّةِ تصلُّبِه في كُفْرِه، بخلافِ آيةِ سُورةِ (الأعرافِ) الَّتي قُصِدَ منها بَيانُ تعاقُبِ الآياتِ ونُصْرَتِها .

- قولُه: فَكَذَّبَ وَأَبَى، أي: فكذَّبَها جميعًا، وأَبَى أنْ يقبَلَ شيئًا منها. وقيل: فكذَّبَ الآياتِ، وأَبى قَبولَ الحقِّ؛ فحُذِفَ مفعولُه إمَّا بواسطةِ القرينةِ الظَّاهرةِ أو المعنويَّةِ؛ فعلى المعنى الأوَّلِ: (أبى): تَتميمٌ، وعلى الثَّاني: تَكميلٌ؛ لأنَّ الحقَّ أعمُّ من المُعجِزاتِ .

2- قولُه تعالى: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى استئنافٌ مُبيِّنٌ لكَيفيَّةِ تَكذيبِه وإبائِه، والهمزةُ في أَجِئْتَنَا لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه، وادِّعاءِ أنَّه أمْرٌ مُحالٌ ؛ ولذلك فُرِّعَ عليه القسَمُ على أنْ يأْتِيَه بسِحْرٍ مثْلِه، والقسَمُ من أساليبِ إظهارِ الغضَبِ .

- قولُه: بِسِحْرِكَ تَعلُّلٌ وتَحيُّرٌ؛ وإلَّا فكيف يَخْفَى عليه أنَّ ساحرًا لا يقدِرُ أنْ يُخرِجَ مَلِكًا مثْلَه من أرْضِه، ويَغْلِبَه على مُلْكِه بالسِّحرِ ؟ وإضافَتُه السِّحرَ إلى ضَميرِ مُوسى قصَدَ منها تَحقيرَ شأْنِ هذا الَّذي سمَّاهُ سِحْرًا .

- وإنَّما جعَلَ فِرعونُ العِلَّةَ في مَجِيءِ مُوسى إليه أنَّها قصْدُه أنْ يُخرِجَهم من أرْضِهم، قياسًا منه على الَّذين يَقومون بدَعوةٍ ضِدَّ المُلوكِ؛ أنَّهم إنَّما يَبْغُون بذلك إزالَتَهم عن المُلْكِ، وحُلولَهم مَحلَّهم؛ فضَميرُ المُتكلِّمِ المُشارِكِ مُستعمَلٌ في التَّعظيمِ، لا في المُشارَكةِ؛ لأنَّ مُوسى لم يَصدُرْ عنه ما يُشَمُّ منه إخراجُهم من أرْضِهم. ويجوزُ أنْ يكونَ ضَميرُ المُتكلِّمِ المُشارِكِ مُستعمَلًا في الجماعةِ تَغليبًا، ونزَّلَ فِرعونُ نفْسَه واحدًا منها .

3- قولُه تعالى: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى

- قولُه: فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ الفاءُ لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها، واللَّامُ جوابُ قسَمٍ مَحذوفٍ ، وأسنَدَ الإتيانَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ إلى ضَميرِ نفْسِه؛ تَعظيمًا لشأْنِه .

- قولُه: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى تَقديمُ ضَميرِه على ضَميرِ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتوسيطُ كَلمةِ النَّفيِ بينهما في قولِه: نَحْنُ وَلَا أَنْتَ؛ للإيذانِ بمُسارَعتِه إلى عدَمِ الإخلافِ، وأنَّ عدَمَ إخلافِه لا يُوجِبُ إخلافَه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ؛ ولذلكَ أُكِّدَ النَّفيُ بتَكريرِ حرْفِه .

- قولُه: مَوْعِدًا الموعِدُ هنا يجوزُ أنْ يُرادَ به المصدرُ المِيميُّ، أي: الوعدُ، وأنْ يُرادَ به مكانُ الوعْدِ، وهذا إيجازٌ في الكلامِ .

4- قولُه تعالى: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى

- إن قيل: كيف طابَقَ جوابُ موسى: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، -ولا بُدَّ مِن أنْ تجعَلَه زمانًا- قولَ فرعونَ: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى؛ والسُّؤالُ واقِعٌ عن المكانِ لا عن الزَّمانِ، فالجوابُ: لأنَّه مُطابِقٌ معنًى وإنْ لم يُطابِقْ لفْظًا؛ لأنَّهم لا بُدَّ لهم مِن أنْ يَجتمِعوا يومَ الزِّينةِ في مكانٍ بعَينِه، مُشتهَرٌ باجتماعِهم فيه في ذلك اليومِ، فبذِكْرِ الزَّمانِ عُلِمَ المكانُ؛ فتَعيينُ الموعِدِ غيرِ المُخْلَفِ يَقْتضي تَعيينَ زمانِه لا مَحالةَ؛ إذ لا يُتصوَّرُ الإخلافُ إلَّا إذا كان للوعدِ وقْتٌ مُعيَّنٌ، ومكانٌ مُعيَّنٌ، فمِن ثَمَّ طابَقَه جوابُ مُوسى بقولِه: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى؛ فقولُه: يَوْمُ الزِّينَةِ تَعيينٌ للوقْتِ، وقولُه: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ تَعيينٌ للمكانِ، وقولُه: ضُحًى تَقييدٌ لمُطلَقِ الوقْتِ .

- قولُه: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ بناه للمَفعولِ؛ لأنَّ القَصدَ الجَمعُ، لا كونُه مِن مُعَيَّنٍ .

5- قولُه تعالى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى في تَفريعِ التَّولِّي وجمْعِ الكيدِ على تَعيينِ مُوسى للموعِدِ: إشارةٌ إلى أنَّ فِرعونَ بادَرَ بالاستعدادِ لهذا الموعدِ، ولم يُضِعِ الوقْتَ للتَّهيئةِ له .

- قولُه: فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (ثُمَّ) للمُهلةِ الحقيقيَّةِ والرُّتبيَّةِ معًا؛ لأنَّ حُضورَه للموعِدِ كان بعْدَ مُضِيِّ مُهْلةِ الاستعدادِ، ولأنَّ ذلك الحُضورَ بعْدَ جمْعِ كيدِه أهَمُّ من جمْعِ الكيدِ؛ لأنَّ فيه ظُهورَ أثرِ ما أعَدَّه .

6- قولُه تعالى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى استئنافٌ مَبْنيٌّ على السُّؤالِ، يَقْضي بأنَّ المُترقَّبَ من أحوالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ، والمُحتاجَ إلى السُّؤالِ والَبيانِ، ليس إلَّا ما صدَرَ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الكلامِ، وأمَّا إتيانُه أوَّلًا فأمرٌ مُحقَّقٌ غَنِيٌّ عن التَّصريحِ بهِ، كأنَّهُ قِيلَ: فماذا صنَعَ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عندَ إتيانِ فِرعونَ بما جمَعَهُ من السَّحرةِ؟ فقيل: قال لهم بطَريقِ النَّصيحةِ: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا .

- قولُه: لَا تَفْتَرُوا الافتراءُ: اختِلاقُ الكذِبِ، والجمْعُ بينَه وبينَ كَذِبًا؛ للتَّأكيدِ .

- جُملةُ: وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَها، وهي مَسوقةٌ مَساقَ التَّعليلِ للنَّهيِ؛ بعْدَ أنْ وعَظَهم، فنهاهُمْ عن الكذِبِ على اللهِ، وأنذَرَهم عذابَه؛ ضرَبَ لهم مثَلًا بالأُمَمِ البائدةِ الَّذين افْتَرَوا الكذِبَ على اللهِ، فلم يَنْجَحوا فيما افتَرَوا لأجْلِه. و(مَن) الموصولةُ للعُمومِ .

7- قولُه تعالى: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى جعْلُ النَّجْوى مَعمولًا لـ وَأَسَرُّوا يُفِيدُ المُبالَغةَ في الكِتْمانِ؛ كأنَّه قيل: أسَرُّوا سِرَّهم. وزادَهُ مُبالَغةً قولُه: بَيْنَهُمْ المُقْتضي أنَّ النَّجْوى بين طائفةٍ خاصَّةٍ لا يَشترِكُ معهم فيها غيرُهم .

8- قولُه تعالى: قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى

- نَسَبوا السِّحرَ أيضًا لهارونَ؛ لَمَّا كان مُشترِكًا معه في الرِّسالةِ، وسالِكًا طَريقتَه، وعلَّقُوا الحُكْمَ على الإرادةِ -وهم لا اطِّلاعَ لهم عليها-؛ تَنقيصًا لهما، وحَطًّا من قدْرِهما، وقد كان ظهَرَ لهم من أمْرِ اليَدِ والعصا ما يدُلُّ على صِدْقِهما .

9- قولُه تعالى: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى

- قولُه: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ تَصريحٌ بالمطلوبِ إثْرَ تَمهيدِ المُقدِّماتِ .

- وأُطْلِقَ الجمْعُ على التَّعاضُدِ والتَّعاوُنِ -على قراءةِ فَاجْمَعُوا بهمزةِ وصلٍ وفتحِ الميمِ-؛ تَشبيهًا للشَّيءِ المُختلِفِ بالمُتفرِّقِ، وهو مُقابِلُ قولِه: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ. وسَمُّوا عمَلَهم كيدًا؛ لأنَّهم تَواطؤوا على أنْ يُظْهِروا للعامَّةِ أنَّ ما جاء به مُوسى ليس بعَجيبٍ، فهم يأْتون بمثْلِه أو أشَدَّ منه؛ ليَصْرِفوا النَّاسَ عن سَماعِ دَعوتِه، فيَكيدوا له بإبطالِ خصِّيصيَّةِ ما أتى به .

- قولُه: وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى اعتراضٌ تَذييليٌّ من قِبَلِهم مُؤكِّدٌ لِمَا قبْلَه من الأمرينِ؛ فهو تَذييلٌ للكلامِ يجمَعُ ما قَصَدوه مِن تآمُرِهم، بأنَّ الفلاحَ يكونُ لمَن غلَبَ وظهَرَ في ذلك الجمْعِ. فـ اسْتَعْلَى مُبالَغةٌ في عَلا، أي: علا صاحِبَه وقهَرَه، فالسِّينُ والتَّاءُ للتَّأكيدِ مثْلُ استأْخَرَ

==================

 

سورةُ طه

الآيات (65-76)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ

غريب الكلمات:

 

يُخَيَّلُ: أي: يُشَبَّهُ ويُظَنُّ، وأصلُ (خيل): يدُلُّ على حركةٍ في تلوُّنٍ

.

فَأَوْجَسَ: أي: أضمرَ وأحَسَّ، والوَجْسُ: الصَّوتُ الخفيُّ، وأصلُه يدُلُّ على إحساسٍ بِشَيءٍ، وتَسَمُّعٍ له .

خِيفَةً: أي: خَوفًا، والخَوفُ: توقُّعُ مكروهٍ عن أمارةٍ مَظنونةٍ أو معلومةٍ، وأصلُه يدُلُّ على الذُّعرِ والفَزَعِ .

تَلْقَفْ: أي: تَلْتَهِمْ وتَبتَلِعْ، يقال: لَقِفتُ الشَّيءَ ألقَفُه، وتَلقَّفتُه: أي: تَناوَلتُه بسُرعةٍ .

مِنْ خِلَافٍ: أي: مخالفًا في قَطعِ ذلك منكم؛ يَدِه اليُمنى ورِجلِه اليُسرى، يخالِفُ بينَ قَطعِهما .

وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ: أي: لأجعَلَنَّكم مُثلةً، ولأقتُلَنَّكم، والصَّلبُ: تعليقُ الإنسانِ للقَتلِ، قيل: هو شدُّ صُلْبِه على خَشَبٍ .

نُؤْثِرَكَ: أي: نختارَك، وأصلُ (أثر): يدُلُّ على تَقديمِ الشَّيءِ .

تَزَكَّى: أي: تطهَّرَ مِن الشِّركِ والفواحِشِ، وأصلُ (زكي): يدلُّ على نماءٍ وزيادةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبرُ اللهُ تعالى عمَّا جرَى بينَ موسَى عليه السلامُ والسحرةِ، وأنَّ السَّحَرةَ قالوا لِموسَى عليه السَّلامُ: إمَّا أن تُلقِيَ عَصاك أوَّلًا، وإمَّا أن نبدأَ فنُلقِيَ حِبالَنا وعِصِيَّنا قَبلَك. قال لهم موسى: بل ألقُوا أنتم. فألقَوا حبالَهم وعِصِيَّهم، فخُيِّلَ لموسى مِن قُوَّةِ سِحرِهم أنَّها حَيَّاتٌ تتحرَّكُ! فشعَرَ موسى في نفسِه بالخَوفِ، فقال الله لموسى: لا تَخَفْ؛ فإنَّك أنت الأعلى المنتَصِرُ على هؤلاء السَّحَرةِ، وعلى فِرعَونَ وجُندِه، وألقِ عَصاك التي في يمينِك تَبتَلِعْ حِبالَهم وعِصِيَّهم؛ فإنَّ الذي عَمِلوه مَكرُ ساحِرٍ وتخييلُ سِحْرٍ، ولا يظفَرُ السَّاحِرُ بمَطلوبِه أينما كان.

فألقى موسى عَصاه، فابتلَعَت عِصِيَّ السَّحَرةِ وحِبالَهم، وظهَرَ الحقُّ وقامت الحُجَّةُ عليهم. فألقى السَّحَرةُ أنفُسَهم على الأرضِ ساجدينَ، وقالوا: آمَنَّا برَبِّ هارونَ وموسى.

ثم بيَّن الله تعالى موقفَ فرعونَ مِن السحرةِ، واتهامَه لهم، ثم تهديدَهم، فقال تعالى: قال فِرعَونُ للسَّحَرةِ: أصدَّقتُم بموسى واتَّبَعتُموه، وأقرَرْتُم له بالنبُوَّةِ قبل أن آذَنَ لكم بذلك؟ إنَّ موسى لَعظيمُكم ورئيسُكم الذي عَلَّمكم السِّحرَ، لأُقطِّعنَّ مِن كُلِّ واحدٍ منكم يدَه اليُمنى مع رِجلِه اليُسرى أو العكس، ولأُصلِّبَنَّكم على جذوعِ النَّخلِ، ولتعلَمُنَّ -أيُّها السَّحَرةُ- مَن هو أشَدُّ عذابًا وأدوَمُ له!

ثمَّ ذكَر الله تعالى موقفَ السحرةِ مِن تهديدِ فرعونَ لهم، فقال تعالى: قال السَّحَرةُ لفِرعَونَ: لن نُفَضِّلَك على ما جاءنا مِن البيِّناتِ الدَّالَّةِ على صِدقِ موسى، ولن نُفَضِّلَك على اللهِ الذي خلَقَنا، فافعَلْ ما أنت فاعِلٌ بنا، إنَّما ينفُذُ أمرُك في هذه الحياةِ الدُّنيا، وعذابُك فيها ما هو إلَّا عذابٌ مُنتَهٍ بانتهائِها، إنَّا آمَنَّا برَبِّنا وصدَّقْنا رَسولَه؛ لِيَغفِرَ لنا ذُنوبَنا مِن الكُفرِ والمعاصي، وما أكرَهْتَنا عليه مِن عَمَلِ السِّحرِ في مُعارضةِ موسى. واللهُ خيرٌ لنا مِنك -يا فِرعَونُ- وأجرُه خَيرٌ لنا مِن أجرِك، وهو أدوَمُ عذابًا لِمَن عصاه، وخالَف أمْرَه.

إنَّه مَن يأتِ رَبَّه كافرًا به، فإنَّ له نارَ جهنَّمَ يُعَذَّبُ بها، لا يموتُ فيها فيَستريحَ، ولا يحيا حياةً يتلذَّذُ بها، ومَن يأتِ رَبَّه مُؤمِنًا به قد عَمِلَ الأعمالَ الصَّالحةَ، فله المنازِلُ العاليةُ؛ وهي جنَّاتُ إقامةٍ دائمةٍ، تجري مِن تحتِ أشجارِها وغُرَفِها الأنهارُ، ماكثينَ فيها أبدًا، وذلك النَّعيمُ المقيمُ ثَوابٌ مِن الله لِمَن طهَّر نَفسَه مِن الشِّركِ والمعاصي، ونمَّاها بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ.

تفسير الآيات:

 

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65).

أي: فأجمَعَ السَّحَرةُ كَيدَهم، وجاؤوا صَفًّا، وقالوا: يا موسى اختَرْ، فإمَّا أن ترميَ عَصاك قَبْلَنا، وإمَّا أن نرميَ حِبالَنا وعِصِيَّنا قَبلَك

.

كما قال تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [الأعراف: 115] .

قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66).

قَالَ بَلْ أَلْقُوا.

أي: قال لهم موسى: بل ألقُوا أنتم أوَّلًا ما تريدونَ إلقاءَه .

كما قال تعالى: قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء: 43، 44].

فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى.

أي: فألقَى السَّحرةُ ما معهم فإذا حبالُهم وعِصِيُّهم يُشَبَّهُ لموسى بسَبَبِ سِحرِهم أنَّها تتحرَّكُ !

كما قال تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116].

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67).

أي: فوجَدَ موسى في نفسِه خوفًا .

قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68).

أي: قُلْنا لموسى تثبيتًا وتَطمينًا: لا تخفْ؛ إنَّك أنت الغالِبُ القاهِرُ، المنتَصِرُ على فِرعَونَ وسَحَرتِه وجُندِه .

وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69).

وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا.

أي: وألقِ عصاك التي في يمينِك تبتَلِعْ بقُوَّةٍ وسُرعةٍ حِبالَهم وعِصِيَّهم التي خَيَّلوا إلى النَّاسِ بسِحرِهم أنها حيَّاتٌ تتحَرَّكُ .

إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ.

أي: إنَّ الذي صَنَعه هؤلاء السَّحرةُ حِيلةٌ من ساحِرٍ .

وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى.

أي: ولا يظفَرُ السَّاحِرُ بمَطلوبِه أينما تَوجَّه، لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ فكَيدُه ليس بمُثمِرٍ له ولا ناجِحٍ .

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70).

أي: فأَلقَى موسى عصاه، وابتلَعَت عِصِيَّ السَّحَرةِ وحِبالَهم، فعَلِموا عِلمَ اليَقينِ أنَّ هذا الأمرَ ليس مِن قَبيلِ السِّحرِ والحِيَلِ، وأنَّه حَقٌّ لا مِريةَ فيه، ومُعجزةٌ مِن الإلهِ الحَقِّ الذي يقولُ للشَّيءِ كُن فيكونُ، فحينَها وقَعَ السَّحَرةُ على الأرضِ ساجِدينَ لله قائلينَ: آمَنَّا باللهِ رَبِّ هارونَ وموسى .

كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 117-122] .

قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)  .

قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ.

أي: قال فِرعَونُ للسَّحَرةِ: أصدَّقتُم بموسى، وأقرَرْتُم له بالنبُوَّةِ قبلَ أن أسمَحَ لكم بالإيمانِ بما يدعوكم إليه؟! فهذا سوءُ أدبٍ منكم، وتجرُّؤٌ عليَّ !!

كما قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ [الأعراف: 123] .

إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ.

أي: إنَّ موسى لَعظيمُكم ورئيسُكم الكبيرُ الَّذي علَّمَكم السِّحرَ، واتَّفقتُم معه على أن يَغلِبَكم؛ مكيدةً لي ولِقَومي !

كما قال تعالى حاكيًا قَولَ فِرعَونَ: إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا [الأعراف: 123] .

فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ.

أي: قال فِرعَونُ للسَّحَرةِ مُقْسِمًا: لأقطِّعَنَّ مِن كلِّ ساحرٍ منكم يَدَه ورِجلَه مِن جِهَتينِ مُختَلِفَتينِ. أي: يقطَعُ يمنى اليدينِ ويُسرى الرِّجلَينِ، أو يُسرى اليَدَينِ، ويُمنى الرِّجلينِ .

وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ.

أي: ولأُصلِّبنَّكم على جُذوعِ النَّخلِ؛ تبشيعًا لقَتلِكم، ورَدعًا لأمثالِكم .

وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى.

أي: ولتَعلَمُنَّ -أيُّها السَّحرةُ- مَن هو أشَدُّ عذابًا، وأدوَمُ عِقابًا !

قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72).

قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ.

أي: قال السَّحَرةُ بعد إيمانِهم: لن نُقَدِّمَك -يا فِرعَونُ- على الحَقِّ، فلن نتَّبِعَك ونختارَ دينك؛ طَلَبًا لما وعَدْتَنا مِن الأجرِ، أو السلامةِ مِما توعدْتَنا مِن العذابِ، ونكَذِّبَ لأجْلِك موسى بعدَ أن رأَينا المعجزاتِ الواضِحةَ الدَّالَّةَ على نبوتِه، وصِحَّةِ ما يدعو إليه .

وَالَّذِي فَطَرَنَا.

أي: ولن نُؤثِرَك على اللهِ الذي خلَقَنا، وأنشَأَنا من العَدَمِ، وابتدأَ خَلْقَنا مِن طينٍ؛ فهو المستَحِقُّ للعبادةِ والخُضوعِ لا أنت .

فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ.

أي: فاصنَعْ ما شِئتَ أن تَصنَعَه بنا، وافعَلْ ما بدا لك؛ فلن نَرجِعَ عن إيمانِنا باللهِ .

عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ بهنَّ حَلاوةَ الإيمانِ: مَن كان اللهُ ورَسولُه أحَبَّ إليه مِمَّا سواهما، وأن يحِبَّ المرءَ لا يُحِبُّه إلَّا لله، وأن يَكرَهَ أن يَعودَ في الكُفرِ بعد أن أنقَذَه اللهُ منه، كما يكرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ )) .

إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.

أي: إنما ينفُذُ أمرُك، وتتسلَّطُ علينا، وتَقدِرُ على تعذيبِنا في هذه الحياةِ الدُّنيا الفانيةِ، وعذابُك فيها ينقضي ويَزولُ، ولا يضُرُّنا، ولا قَضاءَ لك ولا سُلطانَ علينا في الحياةِ الآخرةِ الباقيةِ التي نرجو فيها مِن رَبِّنا الجزاءَ الخالِدَ .

إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73).

إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ.

أي: إنَّا آمَنَّا بربِّنا وأقرَرْنا بتوحيدِه؛ لِيَغفِرَ لنا ذُنوبَنا من الكُفرِ والمعاصي، فيَستُرَها علينا، ويتجاوَزَ عن مؤاخَذتِنا بها، ويَغفِرَ لنا ما أكرَهْتَنا عليه من العَمَلِ بالسحر، ومن ذلك معارضةُ مُعجزاتِ موسى به .

وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

أي: واللهُ خَيرٌ لنا منك، وأجرُه خَيرٌ لنا مِن أجرِك، وهو أدوَمُ ثوابًا للطائعينَ، وأدوَمُ عَذابًا للكافرينَ، وهو الحيُّ الذي لا يموتُ، ولا يزولُ مُلكُه، أما أنت ففانٍ هالكٌ .

كما قال تعالى: إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 95، 96].

وقال سُبحانَه: وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 17].

إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (74).

إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ.

أي: إنَّه من يَمُتْ ويُلاقِ رَبَّه يومَ القيامةِ لِيُجازِيَه بعَمَلِه، والحالُ أنَّه كافِرٌ باللهِ؛ فإنَّ جزاءَه جهنَّمُ .

لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا.

أي: لا يموتُ الكافِرُ في جهنَّمَ فيَستريحَ من العذابِ، ولا يحيا حياةً هَنِيَّةً يتلَذَّذُ بها وينتَفِعُ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر: 36] .

وقال سُبحانَه: الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [الأعلى: 12، 13].

وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أمَّا أهلُ النَّارِ الذين هم أهلُها، فإنَّهم لا يموتونَ فيها ولا يَحيَونَ، ولكِنْ ناسٌ أصابَتْهم النَّارُ بذُنوبِهم -أو قال: بخطاياهم- فأماتهم إماتةً، حتى إذا كانوا فَحمًا، أذِنَ بالشَّفاعةِ، فجيءَ بهم ضبائِرَ ضبائِرَ ، فبُثُّوا على أنهارِ الجَنَّةِ، ثم قيلَ: يا أهلَ الجَنَّةِ، أفيضوا عليهم، فيَنبُتونَ نباتَ الحِبَّةِ تكونُ في حَميلِ السَّيلِ ) .

وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75).

أي: ومَن يَمُت ويلاقِ رَبَّه يومَ القيامةِ، والحالُ أنَّه مُؤمِنٌ باللهِ وَحدَه لا شريكَ له، وقد عَمِلَ الأعمالَ الصَّالحاتِ؛ فأولئك لهم عندَ اللهِ الدَّرَجاتُ العاليةُ .

جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) .

جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.

أي: وتلك الدَّرَجاتُ العُلا هي بساتينُ إقامةٍ تجري مِن تحتِ أشجارِها وغُرَفِها الأنهارُ، ماكِثينَ فيها أبدًا .

وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى.

أي: وذلك الثَّوابُ هو جزاءُ من طهَّر نَفسَه مِن الكُفرِ، والشِّركِ، والمعاصي، ونمَّاها بالإيمانِ، والعَمَلِ الصَّالحِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا في هذا الكلامِ مِن السَّحَرةِ دليلٌ على أنَّه ينبغي للعاقِلِ أن يوازِنَ بينَ لذَّاتِ الدُّنيا ولذَّاتِ الآخرةِ، وبينَ عذابِ الدُّنيا وعذابِ الآخرةِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا أظهَرَ السَّحَرةُ استخفافَهم بوعيدِ فِرعَون وبتَعذيبهِ؛ إذ أصبَحوا أهلَ إيمانٍ ويَقينٍ، وكذلك شأنُ المؤمِنينَ بالرُّسُلِ إذا أشرَقَت عليهم أنوارُ الرِّسالةِ؛ فسُرعانَ ما يكونُ انقلابُهم عن جَهالةِ الكُفرِ وقَساوتِه، إلى حِكمةِ الإيمانِ وثَباتِه .

3- في قَولِه تعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ إلى قَولِه سُبحانَه: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى بيانُ أنَّ الإيمانَ واليقينَ إذا دَخَلَا القلبَ لا يفتنُه شيءٌ؛ فالسَّحَرةُ -جنودُ فِرعَون- كانوا في أوَّلِ النَّهارِ سَحَرةً كَفَرةً، وفي آخرِ النَّهارِ مُؤمِنينَ بَرَرةً؛ يتَحَدَّونَ فِرعَون؛ لِمَا دَخَلَ في قَلبِهم مِن الإيمانِ .

4- الإيمانُ مُكَفِّرٌ للسيِّئاتِ، والتوبةُ تجُبُّ ما قبلَها؛ قال تعالى حكايةً عن سحرةِ فرعونَ: إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فيه سؤالٌ: كيف قال هذا النبيُّ الكريمُ للسَّحَرةِ أَلْقُوا أي: ألقُوا حبالَكم وعِصِيَّكم، يعني: اعملوا السِّحرَ، وعارِضوا به مُعجِزةَ اللهِ التي أيَّدَ بها رسولَه، وهذا أمرٌ مُنكَرٌ؟

والجوابُ: هو أنَّ قَصدَ موسى بذلك قَصدٌ حَسَنٌ يَستَوجِبُه المقامُ؛ لأنَّ إلقاءَهم قَبلَه يستلزِمُ إبرازَ ما معهم من مكايِدِ السِّحرِ، واستِنفادَ أقصى طُرُقِهم ومجهودِهم، فإذا فعلوا ذلك كان في إلقائِه عصاه بعدَ ذلك، وابتلاعِها لجَميعِ ما ألقَوا؛ من إظهارِ الحَقِّ وإبطالِ الباطِلِ ما لا جِدالَ بَعدَه في الحَقِّ لأدنى عاقِلٍ؛ ولأجل هذا قال لهم: أَلْقُوا، فلو ألقَى قَبلَهم، وألقَوا بَعدَه، لم يحصُلْ ما ذكَرْنا، والعِلمُ عندَ الله تعالى

.

2- قال موسى عليه السَّلامُ للسَّحَرةِ: أَلْقُوا أي: أنتم أولًا قبلي، والحِكمةُ في هذا -والله أعلَمُ- ليرى النَّاسُ صَنيعَهم ويتأمَّلوه، فإذا فُرِغَ مِن بَهرَجِهم ومِحالِهم، جاءهم الحقُّ الواضِحُ الجَلِيُّ بعد تطَلُّبٍ له والانتظارِ منهم لمجيئِه؛ فيكونُ أوقَعَ في النُّفوسِ، وكذا كان .

3- قَولُه تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فيه دَليلٌ على أنَّ ما يُوهِمُه السَّحَرةُ مِن تغييرِ خَلقِ الصُّورِ تَخييلٌ لا حقيقةٌ؛ فالسِّحرُ لا يؤثِّرُ في قلبِ الأعيانِ، فلا يجعَلُ الحديدَ خَشَبًا، ونحو ذلك، ومَن زعم أنَّ السَّحَرةَ يَقدِرونَ على تغييرِ الصُّوَرِ وتحويلِها عمَّا خلَقَها اللهُ إلى غيرِها: فقد كَفَر؛ لِمُساواتهم بأفعالِهم رَبَّ العالَمينَ، لكِنْ مع ذلك فلِلسِّحرِ حقيقةٌ؛ فإنَّه يؤثِّرُ: يُمرِضُ الإنسانَ، وربَّما يُفسِدُ فِكرَه، وربَّما يَلحَقُه جنونٌ... إلى غيرِ ذلك، خِلافًا للمُعتَزلةِ الذين قالوا: إنَّ السِّحرَ يقعُ تَخَيُّلًا وليس حقيقةً .

4- إنْ قيلَ: قَولُه: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ، وقَولُه: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: 116] الدَّالانِ على أنَّ سِحرَ سَحَرةِ فِرعَونَ خَيالٌ لا حَقيقةَ له: قد يُظَنُّ تعارُضُهما مع قَولِه: وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116] ؛ لأنَّ وَصْفَ سِحرِهم بالعِظَمِ قد يُتوَهَّمُ منه أنَّه غيرُ خيالٍ.

فالذي يظهَرُ في الجوابِ -واللهُ أعلمُ- أنَّهم أخَذوا كثيرًا مِن الحِبالِ والعِصِيِّ، وخَيَّلوا بسِحرِهم لأعيُنِ النَّاسِ أنَّ الحِبالَ والعِصِيَّ تسعى وهي كثيرةٌ، فظَنَّ النَّاظِرونَ أنَّ الأرضَ مُلِئَت حيَّاتٍ تسعى؛ لِكَثرةِ ما ألقَوا من الحِبالِ والعِصِيِّ، فخافوا مِن كَثرتِها، وبتَخييلِ سَعيِ ذلك العددِ الكثيرِ وُصِفَ سِحرُهم بالعِظَمِ، وهذا ظاهِرٌ لا إشكالَ فيه .

5- قال الله عز وجل: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى، قولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمة: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ ... يعمُّ نفيَ جميعِ أنواعِ الفلاحِ عن الساحرِ، وأكَّد ذلك بالتعميمِ في الأمكنةِ بقولِه: حَيْثُ أَتَى، وذلك دليلٌ على كفرِه؛ لأنَّ الفلاحَ لا يُنفَى بالكليةِ نفيًا عامًّا إلَّا عمَّن لا خيرَ فيه، وهو الكافرُ .

6- قال الله تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قال الأصبهانيُّ: (سبحانَ اللهِ، ما أعظَمَ شَأنَهم! ألقَوا حِبالَهم وعِصِيَّهم للكُفرِ والجُحودِ، ثمَّ ألقَوا رؤوسَهم بعد ساعةٍ للشُّكرِ والسُّجودِ، فما أعظَمَ الفَرقَ بينَ الإلقاءينِ) !!

7- قولُ فرعونَ فيما حكاه الله تعالى عنه: قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ دليلٌ على وَهنِ أمرِه؛ لأنَّه إنَّما جعَل ذنبَهم مفارقةَ الإذنِ، ولم يجعَلْه نفسَ الإيمانِ إلَّا بشرطٍ .

8- قال تعالى حكايةً لقولِ فرعونَ للسحرةِ: فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، فهَدَّدَهُم فرعونُ مُقسِمًا على أنَّه يقطعُ أيديَهم وأرجلَهم مِن خلافٍ؛ لأنَّه أشدُّ على الإنسانِ مِن قطعِهما مِن جهةٍ واحدةٍ؛ لأنَّه إن كان قطعُهما مِن جهةٍ واحدةٍ يبقَى عندَه شِقٌّ كاملٌ صحيحٌ، بخلافِ قَطْعِهما مِن خلافٍ. فالجنبُ الأيمنُ يَضْعُفُ بقطعِ اليدِ، والأيسرُ يَضْعُفُ بقطعِ الرِّجلِ كما هو معلومٌ. وأنَّه يُصَلِّبُهم في جذوعِ النَّخلِ، وجذعُ النَّخلةِ هو أخشنُ جِذعٍ مِن جذوعِ الشَّجرِ، والتَّصليبُ عليه أشدُّ مِن التَّصليبِ على غيرِه مِن الجذوعِ كما هو مَعروفٌ .

9- هنا سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يُقالَ: قَولُهم: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ يدُلُّ على أنَّه أكرهَهم عليه، مع أنَّه قد يُفهَمُ من آياتٍ أُخَرَ أنَّهم فعلوه طائعينَ غيرَ مُكرَهينَ، كقَولِهم: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا، وكذلك قَولُه عنهم في (الشُّعَراء): قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 41، 42]، وقَولُه في (الأعرافِ): قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف: 113-114] فتلك الآياتُ يُفهَمُ منها أنَّهم غيرُ مُكرَهينَ.

وللعُلَماءِ عن هذا السُّؤالِ أجوِبةٌ مَعروفةٌ:

منها: أنَّه أكرَههم على الشُّخوصِ من أماكِنِهم؛ لِيُعارِضوا موسى بسِحرِهم، فلمَّا أُكرِهوا على القُدومِ وأُمِروا بالسِّحرِ أتَوه طائِعينَ، فإكراهُهم بالنِّسبةِ إلى أوَّلِ الأمرِ، وطَوعُهم بالنِّسبةِ إلى آخِرِ الأمرِ، فانفَكَّت الجِهةُ، وبذلك ينتفي التعارُضُ، ويدُلُّ لهذا قَولُه: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء: 36] ، وقَولُه: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الأعراف: 111] .

ومنها: أنَّه كان يُكرِهُهم على تعليمِ أولادِهم السِّحرَ في حالِ صِغَرِهم، وأنَّ ذلك هو مرادُهم بإكراهِهم على السِّحرِ، ولا ينافي ذلك أنَّهم فعَلوا ما فعلوا من السِّحرِ بعد تعلُّمِهم وكِبَرِهم طائِعينَ .

10- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا دليلٌ على أنَّ المجرمَ في القرآنِ واقعٌ على الكافِرِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ ناشِئٍ من حِكايةِ ما جَرَى بينَ السَّحرةِ مِن المُقاوَلةِ؛ كأنَّه قيلَ: فماذا فعَلُوا بعْدَما قالوا فيما بينَهم ما قالوا؟ فقِيلَ: قَالُوا يَا مُوسَى. وإنَّما لم يتعرَّضْ لإجماعِهم؛ وإتيانِهم بطَريقِ الاصطفافِ؛ إشعارًا بظُهورِ أمْرِهما وغِناهما عن البَيانِ

؛ ففيه إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فجَاؤوا مُصطفِّينَ إلى مكانِ الموعدِ، وبيَدِ كلِّ واحدٍ منهم عصًا وحبْلٌ، وجاء مُوسى وأخوه ومعه عصاهُ، فوقفوا، وقالوا:  يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ  ... وذَكَروا الإلقاءَ؛ لأنَّهم عَلِموا أنَّ آيةَ مُوسى في إلقاءِ العصا. قيل: خيَّرُوه ثِقَةً منهم بالغَلبِ لمُوسى، وكانوا يَعْتَقِدون أنَّ أحدًا لا يُقاوِمُهم في السِّحرِ .

2- قولُه تعالى: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى

- قولُه: قَالَ بَلْ أَلْقُوا استئنافٌ ناشِئٌ من حِكايةِ تَخييرِ السَّحرةِ إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، كأنَّه قيلَ: فماذَا قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ فقيلَ: قَالَ بَلْ أَلْقُوا .

- وفيه إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فألْقَوا، فإِذَا...؛ فالفاءُ فَصيحةٌ مُعرِبةٌ عن مُسارَعتِهم إلى الإلقاءِ، كما في قولِه تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] .

3- قولُه تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى هذا الخوفُ على ما هو طَبْعُ البَشرِ، وللنظرِ إلى الطَّبعِ عبَّرَ بالنَّفْسِ لا القَلبِ مثلًا ، وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ.

- وزيادةُ فِي نَفْسِهِ هنا؛ للإشارةِ إلى أنَّها خِيفَةُ تَفكُّرٍ، لم يظهَرْ أثَرُها على مَلامِحِه .

- وتأخيرُ الفاعلِ مُوسَى؛ لمُراعاةِ الفواصلِ، معَ ما فيه مِن التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ، والاهتمامِ بالمُقدَّمِ .

4- قولُه تعالى: قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى

- قولُه: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى تَعليلٌ للنَّهيِ، وتَقريرٌ لِغَلبتِه وقهْرِه، وقدِ اشتملَتْ هذه الآيةُ على عِدَّةِ مُؤكِّداتٍ:

أ- الاستئنافُ، وهو قولُه تعالى: لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى، ولم يقُلْ: لأنَّك أنت الأعْلَى؛ فكان ذلك أبلَغَ في إيقانِ مُوسى عليه السَّلامُ بالغَلبةِ والاستعلاءِ، وأثبَتَ ذلك في قَرارةِ نفْسِه بما لا يدَعُ أيَّ مجالٍ للشَّكِّ.

ب- (إِنَّ) المُشدَّدةُ، الَّتي من شأْنِها الإثباتُ لِمَا يأْتي بعْدَها، وتأْكيدُه.

ج- تَكريرُ الضَّميرِ في قولِه: إِنَّكَ أَنْتَ.

د- لامُ التَّعريفِ في قولِه: الْأَعْلَى، أي: دونَ غيرِك.

هـ- لفْظُ (العُلُو) الدَّالِّ على أنَّ الغَلبةَ ثابتةٌ له من جِهَةِ العُلوِّ، وعبَّرَ بـ الْأَعْلَى على وزْنِ (الأفْعَل) الَّذي من شأْنِه التَّفضيلُ، ولم يقُل: العالي؛ فهو أعْلى من كلِّ عَالٍ .

5- قولُه تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فيه ما يُعْرَفُ بالإبهامِ؛ حيثُ أُبْهِمَ ما في يَمينِ مُوسى ولم يقُل: (وألْقِ عصاكَ)؛ لأمرينِ مُتضادَّينِ؛ أوَّلِهما: استصغارُ أمْرِها، أي: لا تُبالِ بكثْرةِ حِبالِهم وعِصِيِّهم، وألْقِ العُوَيدَ الفرْدَ الصَّغيرَ الجِرْمِ الَّذي بيَدِك؛ فإنَّه بقُدْرةِ اللهِ تعالى يتلقَّفُها على وَحْدتِه وكَثرتِها، وصِغَرِه وعِظَمِها. وثانيهما: تَعظيمُ أمْرِها، أي: لا تعبَأْ بهذه الأجرامِ الكبيرةِ الكثيرةِ؛ فإنَّ في يَمينِك شيئًا هو أعظَمُ منها كلِّها؛ فألْقِها، تمْحَقْها وتُطِحْ بها بإذنِ اللهِ. وفيه نُكتةٌ أُخرى، وهي: أنَّ مُوسى عليه السَّلامُ أوَّلَ ما عَلِمَ أنَّ العصا آيةٌ مِن اللهِ تعالى عندَما سأَلَه: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه: 17] ، ثمَّ أظهَرَ له تعالى آيتَها، فلمَّا دخَلَ وقْتُ الحاجةِ إلى ظُهورِ الآيةِ منها، قال تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ؛ لِيَتيقَّظَ بهذه الصِّيغَةِ للوقْتِ الَّذي قال اللهُ تعالى له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ، وقد أظهَرَ له آيتَها؛ فيكونُ ذلك تَنبيهًا له وتأْنيسًا؛ حيث خُوطِبَ بما عهِدَ أنْ يُخاطَبَ به في وقْتِ ظُهورِ آيتِها، وذلك مَقامٌ يُناسِبُ التَّأْنيسَ والتَّثبيتَ في موقفٍ يُزايِلُ الوَقارُ أشدَّ النُّفوسِ قوَّةً ورِباطةً؛ فعَبَّر عنِ العصا بـ (ما) الموصولةِ تَذكيرًا له بيَومِ التَّكليمِ؛ إذ قال له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه: 17] ؛ ليحصل له الاطمئنانُ بأنَّها صائرةٌ إلى الحالةِ التي صارتْ إليها يَومئذٍ، ولذلك لم يقل له: وألق عصاك .

- والجُملةُ الأمْرِيَّةُ وَأَلْقِ مَعطوفةٌ على النَّهيِ، مُتمِّمةٌ بما في حَيِّزِها لتَعليلِ مُوجِبِه ببَيانِ كيفيَّةِ غلَبَتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وعُلوِّه؛ فإنَّ ابتلاعَ عصاهُ لأباطيلِهم -الَّتي منها أوجَسَ في نفْسِه ما أوجَسَ- ممَّا يقلعُ مادَّتَه بالكُلِّيَّةِ .

- وفي قولِه: تَلْقَفْ حمْلٌ على معْنى (ما) لا على لفْظِها؛ إذ أُطْلِقَتْ (ما) على العصا، والعصا مُؤنَّثةٌ، ولو حُمِلَ على اللَّفظِ لكان (يَلْقَف) بالياءِ .

- قولُه: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى التَّعبيرُ عنها بـ مَا صَنَعُوا؛ للتَّحقيرِ، والإيذانِ بالتَّمويهِ والتَّزويرِ .

- وقولُه: إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ... تَعليلٌ لقولِه: تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا، وقولُه: كَيْدُ سَاحِرٍ، أي: كيدُ جنْسِ السَّاحرِ. وعدَمُ التَّعرُّضِ لشأْنِ العصا، وكونِها مُعجِزةً إلهيَّةً، مع ما في ذلك من تَقويةِ التَّعليلِ؛ للإيذانِ بظُهورِ أمْرِها .

- وتَنكيرُ سَاحِرٍ؛ للتَّوسُّلِ به إلى تَنكيرِ ما أُضِيفَ إليه للتَّحقيرِ . ونَكَّرَ أوَّلًا في قولِه: كَيْدُ سَاحِرٍ، وعرَّفَ ثانيًا في قولِه: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى؛ لأنَّه نكَّرَ من أجْلِ تَنكيرِ المُضافِ، لا من أجْلِ تَنكيرِه في نفْسِه، كأنَّه قيل: إنَّ ما صَنَعوا كيدٌ سِحْرِيٌّ، وفي سَعْيٍ دُنيويٍّ .

- وجُملةُ: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى من تَمامِ الجُملةِ الَّتي قبْلَها؛ فهي مَعطوفةٌ عليها، وتَعريفُ السَّاحرِ تَعريفَ الجِنْسِ؛ لقصْدِ الجِنْسِ المعروفِ، أي: لا يُفلِحُ بها كلُّ ساحرٍ. واخْتِيرَ فِعْلُ (أتى) دونَ نحوِ: حيثُ كان، أو حيثُ حَلَّ؛ لمُراعَاةِ كونِ مُعظَمِ أولئك السَّحرةِ مَجْلوبونَ من جِهاتِ مصْرَ، وللرِّعايةِ على فواصلِ الآياتِ الواقعةِ على حرْفِ الألِفِ المقصورةِ. وتَعميمُ حَيْثُ أَتَى لعُمومِ الأمكنةِ الَّتي يَحضُرُها، أي: بسِحْرِه. وتَعليقُ الحُكْمِ بوصْفِ السَّاحرِ يَقْتضي أنَّ نفْيَ الفلاحِ عن السَّاحرِ في أُمورِ السِّحرِ، لا في تِجارةٍ أو غيرِها. وهذا تأكيدٌ للعُمومِ المُستفادِ من وُقوعِ النَّكرةِ في سِياقِ النَّفيِ؛ لأنَّ عُمومَ الأشياءِ يَستلزِمُ عُمومَ الأمكنةِ الَّتي تقَعُ فيها .

- ووحَّدَ سَاحِرٍ ولم يَجْمَعْ؛ لأنَّ القصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسيَّةِ، لا إلى معنى العدَدِ، فلو جمَعَ، لَخُيِّلَ أنَّ المقصودَ هو العددُ؛ ألَا ترَى إلى قولِه: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ، أي: هذا الجِنْسُ .

6- قولُه تعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى

- الفاءُ في فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا فَصيحةٌ مُعْرِبَةٌ عن مَحذوفينِ يَنساقُ إليهما النَّظمُ الكريمُ، غَنِيَّينِ عن التَّصريحِ بهما؛ لعدَمِ احتمالِ تَردُّدِ مُوسى عليه السَّلامُ في الامتثالِ بالأمْرِ، واستحالةِ عدَمِ وُقوعِ اللَّقْفِ الموعودِ، أي: فألقاه عليه السلامُ، فوقَع ما وقَع مِن اللَّقْفِ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا .

- قولُه: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ولم يأْتِ (فسَجَدوا)؛ كأنَّه جاءهم أمْرٌ وأزعَجَهم وأخَذَهم، فصنَعَ بهم ذلك، وهو عبارةٌ عن سُرعةِ ما تأَثَّروا لذلك الخارقِ العظيمِ، فلم يَتَمالكوا أنْ وَقَعوا ساجدينَ . أو أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى المجهولِ؛ لأنَّهم لا مُلْقِيَ لهم إلَّا أنفُسُهم، فكأنَّه قيل: فألْقَوا أنفُسَهم سُجَّدًا .

- في قولِه: فَأُلْقِيَ فَنُّ التَّكريرِ؛ فقد تَكرَّرَ لفْظُ الإلقاءِ، ولكنَّه تَكرُّرٌ لم يطَّرِدْ على وَتيرةٍ واحدةٍ، وإنَّما هو لفظٌ واحدٌ في مَعنيينِ مُتضادَّينِ مُتناقضَينِ، نقَلَ بهما سُبحانه عِبادَه من غايةِ الكُفْرِ والعنادِ، إلى نِهايةِ الإيمانِ والسَّدادِ .

- وتَعبيرُهم عن الرَّبِّ بطَريقِ الإضافةِ إلى هارونَ ومُوسى؛ لأنَّ اللهَ لم يكُنْ يُعْرَفُ بينهم يومئذٍ إلَّا بهذه النِّسبةِ؛ لأنَّ لهم أربابًا يَعْبُدونها ويَعْبُدها فِرعونُ .

- وقُدِّمَ مُوسى في (الأعرافِ) وأُخِّرَ هارونُ؛ لأجْلِ الفواصلِ، ولكونِ مُوسى هو المنسوبَ إليه العصا الَّتي ظهَرَ فيها ما ظهَرَ مِن الإعجازِ، وأُخِّرَ مُوسى في سورة (طه)؛ لأجْلِ الفواصلِ أيضًا. ويحتمِلُ أنْ يكونَ القولانِ من قائلَينِ: نطقَتْ طائفةٌ بقولِهم: رَبِّ مُوسى وهارونَ، وطائفةٌ بقولِهم: ربِّ هارونَ ومُوسى، ولمَّا اشْتَرَكوا في المعنى صَحَّ نِسبةُ كلٍّ من القولينِ إلى الجميعِ. وقيل: قُدِّمَ هارونُ هنا؛ لأنَّه كان أكبَرَ سِنًّا من مُوسى. وقيل: لأنَّ فِرعونَ كان قد ربَّى مُوسى، فبدَؤوا بهارونَ؛ ليَزولَ تَمويهُ فِرعونَ أنَّه ربَّى مُوسى، فيقول: أنا رَبَّيتُه. وقالوا: ربِّ هارونَ ومُوسى، ولم يَكْتَفوا بقولِهم: بربِّ العالمينَ؛ للنَّصِّ على أنَّهم آمنوا بربِّ هذينِ، وكان فيما قبْلُ يزعُمُ أنَّه ربُّ العالمينَ .

- وتَقديمُ هارونَ على مُوسى هنا، وتَقديمُ مُوسى على هارونَ في قولِه تعالى في سُورةِ (الأعراف): قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف: 121، 122]، لا دَلالةَ فيه على تَفضيلٍ ولا غيرِه؛ لأنَّ الواوَ العاطفةَ لا تُفِيدُ أكثَرَ مِن مُطلَقِ الجمْعِ في الحُكمِ المعطوفِ فيه، فهم عَرَّفوا اللهَ بأنَّه رَبُّ هذينِ الرَّجُلينِ، فحُكِيَ كلامُهم بما يدُلُّ على ذلك؛ ألَا ترى أنَّه حُكِيَ في سُورةِ (الأعرافِ) قولُ السَّحرةِ: قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 121]، ولم يُحْكَ ذلك هنا؛ لأنَّ حِكايةَ الأخبارِ لا تَقْتضي الإحاطةَ بجميعِ المَحْكيِّ، وإنَّما المقصودُ موضِعُ العِبْرةِ في ذلك المقامِ بحسَبِ الحاجةِ .

7- قولُه تعالى: قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى

- قولُه: قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ، قولُه: قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ ترقٍّ في موجبِ التوبيخِ، أي: لم يكْفِكم أنَّكم آمنتُم بغيري حتَّى فعلتُم ذلك عن غيرِ استئذانٍ، وفصلُها عمَّا قبلَها؛ لأنَّها تعدادٌ للتوبيخِ .

- واللَّامُ في قولِه: آَمَنْتُمْ لَهُ لتَضمينِ الفِعْلِ معنى الاتِّباعِ .

- وفيه استكبارٌ باقْتدارِه وقهْرِه، وما ألِفَه من تَعذيبِ النَّاسِ بأنواعِ العذابِ، وتَوضيعٌ لمُوسى عليه السَّلامُ، واستضعافٌ مع الهُزْءِ به. وإمَّا لإراءةِ أنَّ إيمانَهم لم يكُنْ عن مُشاهَدةِ المُعجِزةِ، ومُعايَنةِ البُرهانِ، بل كان عن خَوفٍ من قِبَلِ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حيث رَأَوا ابتلاعَ عصاهُ لحِبالِهم وعِصِيِّهم، فخافوا على أنفُسِهم أيضًا .

- قولُه: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ التَّصليبُ: مُبالَغةٌ في الصَّلْبِ، عدَلَ عن حرْفِ الاستعلاءِ (على) إلى حرْفِ الظَّرفيَّةِ (في)؛ تَشبيهًا لشِدَّةِ تمكُّنِ المصلوبِ من الجذْعِ بتمكُّنِ الشَّيءِ الواقعِ في وِعائِه؛ فتَعديةُ فِعْلِ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ بحرْفِ (في) مع أنَّ الصَّلْبَ يكونُ فوقَ الجذْعِ لا داخِلَه؛ ليدُلَّ على أنَّه صَلْبٌ مُتمكِّنٌ يُشْبِهُ حُصولَ المظروفِ في الظَّرفِ، وأيضًا لما كانت الجذوعُ تضمُّهم كما يضمُّ الوعاءُ ما فيه؛ قيل: فِي جُذُوعِ النَّخْلِ .

8- قولُه تعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فيه تَوهينٌ له، واستصغارٌ لِمَا هدَّدَهم به، وعدَمُ اكتراثٍ بقولِه. وفي نِسْبةِ المَجِيءِ إليهم -وإنْ كانتِ البيِّناتُ جاءت لهم ولغيرِهم-؛ لأنَّهم كانوا أعرَفَ بالسِّحرِ من غيرِهم، وقد عَلِموا أنَّ ما جاء به مُوسى ليس بسِحْرٍ؛ فكانوا على جَلِيَّةٍ من العِلْمِ بالمُعجِزِ، وغيرُهم يُقلِّدُهم في ذلك، وأيضًا فكانوا هم الَّذين حصَلَ لهم النَّفعُ بها، فكانت بيِّناتٍ واضحةً في حَقِّهم .

- قولُه: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا التَّفضيلُ بينَ فِرعونَ وما جاءهم من البيِّناتِ مُقْتَضٍ حذْفَ مُضافٍ يُناسِبُ المُقابَلةَ بالبيِّناتِ، أي: لن نُؤثِرَ طاعتَك أو دِينَك على ما جاءنا من البيِّناتِ الدَّالَّةِ على وُجوبِ طاعةِ اللهِ تعالى، وبذلك يَلْتَئِمُ عطْفُ وَالَّذِي فَطَرَنَا، أي: لا نُؤثِرُك في الرُّبوبيَّةِ على الَّذي فطَرَنا. وَجِيءَ بالموصولِ وَالَّذِي فَطَرَنَا؛ للإيماءِ إلى التَّعليلِ؛ لأنَّ الفاطِرَ هو المُستحِقُّ بالإيثارِ .

- قولُه: وَالَّذِي فَطَرَنَا عطْفٌ على مَا جَاءَنَا، أي: وعلى الَّذي فطَرَنا. وتأخيرُه؛ لأنَّ ما في ضِمْنِه آيةٌ عقْليَّةٌ نظريَّةٌ، وما شاهدوهُ آيةٌ حِسِّيَّةٌ ظاهرةٌ، ولمَّا لاحَتْ لهم حُجَّةُ اللهِ في المُعجِزةِ بَدَؤوا بها، ثمَّ تَرَقَّوا إلى القادرِ على خرْقِ العادةِ، وهو اللهُ تعالى. وإيرادُه تعالى بعُنوانِ فاطِريَّتِه تعالى لهم؛ للإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ؛ فإنَّ خالِقيَّتَه تعالى لهم وكونَ فِرعونَ من جُملةِ مخلوقاتِه، ممَّا يُوجِبُ عدَمَ إيثارِهم له عليه سُبحانَه وتعالى، وهذا جوابٌ منهم لتَوبيخِ فِرعونَ بقولِه: آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ؛ فذَكَروا وصْفَ الاختراعِ، وهو قولُهم: وَالَّذِي فَطَرَنَا؛ تَبْيينًا لعجْزِ فِرعونَ، وتَكذيبِه في ادِّعاءِ رُبوبيَّتِه وإلاهيَّتِه، وهو عاجِزٌ عن صرْفِ ذُبابةٍ، فضْلًا عنِ اختراعِها . وأيضًا أُخِّرَ وَالَّذِي فَطَرَنَا عن مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ؛ لأنَّ البيِّناتِ دليلٌ على أنَّ الَّذي خلَقَهم أراد منهم الإيمانَ بمُوسى، ونبْذَ عِبادةِ غيرِ اللهِ، ولأنَّ فيه تَعريضًا بدَعوةِ فِرعون للإيمانِ باللهِ .

- وصِيغَةُ الأمْرِ في قولِه: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ مُستعمَلةٌ في التَّسويةِ؛ لأن مَا أَنْتَ قَاضٍ تصدق على ما توعدهم به مِن تَقطيعِ الأيدي والأرجُلِ والصَّلْبِ، أي: سواءٌ علينا ذلك: بعْضُه، أو كلُّه، أو عدَمُ وُقوعِه، فلا نطلُبُ منك خَلاصًا منه جَزاءَ طاعتِك، فافْعَلْ ما أنت فاعِلٌ .

- وقولُه: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا تَمهيدٌ لِمَا بعْدَه ، وهو أيضًا مع ما بعْدَه تَعليلٌ لعدَمِ المُبالاةِ المُستفادِ ممَّا سبَقَ من الأمْرِ بالقضاءِ، أي: إنَّما تصنَعُ ما تهواهُ، أو تحكُمُ بما تراهُ في هذه الحياةِ الدُّنيا فحسْبُ، وما لنا من رَغبةٍ في عذْبِها، ولا رَهْبةٍ من عذابِها .

- والقصْرُ المُستفادُ من (إنَّما) قصْرُ مَوصوفٍ على صِفَةٍ، أي: إنَّك مقصورٌ على القضاءِ في هذه الحياةِ الدُّنيا، لا يَتجاوَزُه إلى القضاءِ في الآخرةِ؛ فهو قصْرٌ حَقيقيٌّ .

9- قولُه تعالى: إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى

- جُملةُ: إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا ... في مَحلِّ العِلَّةِ لِمَا تضمَّنَه كلامُهم .

- قولُه: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ خَصُّوا السِّحرَ بالذِّكْرِ مع اندراجِه في خَطاياهم؛ إظهارًا لغايةِ نُفْرَتِهم عنه، ورَغْبتِهم في مَغْفرتِه. وذِكْرُ الإكراهِ؛ للإيذانِ بأنَّه ممَّا يجِبُ أنْ يُفرَدَ بالاستغفارِ منه مع صُدورِه عنهم بالإكراهِ، وفيه نوعُ اعتذارٍ لاستجلابِ المَغْفرةِ .

- وجُملةُ: وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى في موضعِ الحالِ، أو مُعترِضةٌ في آخرِ الكلامِ؛ للتَّذييلِ .

10- قوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا

- فيه تَقديمُ ذِكْرِ حالِ المُجْرِمِ؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ أشَدِّيَّةِ عَذابِه ودوامِه؛ ردًّا على ما ادَّعاهُ فِرعونُ بقولِه: أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى .

- قولُهم: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ ... إلى آخرِ الشَّرطيتينِ تَعليلٌ من جِهَتِهم؛ لكونِه تعالى خيرًا وأبقَى، وتَحقيقٌ له، وإبطالٌ لِمَا ادَّعاهُ فِرعونُ، وتَصديرُهما بضَميرِ الشَّأنِ في إِنَّهُ؛ للتَّنبيهِ على فَخامةِ مَضمونِهما؛ لأنَّ مناطَ وضْعِ الضَّميرِ مَوضِعَه ادِّعاءُ شُهْرَتِه المُغْنيةِ عن ذِكْرِه، مع ما فيه من زِيادةِ التَّقريرِ؛ فإنَّ الضَّميرَ لا يُفْهَمُ منه من أوَّلِ الأمْرِ إلَّا شأْنٌ مُبْهَمٌ لهُ خطَرٌ، فيَبْقى الذِّهنُ مُترَقِّبًا لِمَا يعقُبُه، فيَتمكَّنُ عندَ وُرودِه له فضْلَ تَمكُّنٍ؛ كأنَّه قيل: إنَّ الشَّأنَ الخطيرَ هذا، أي: قولَه تعالى: مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا بأنْ مات على الكُفْرِ والمعاصي، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا فيَنْتهي عذابُه، وهذا تَحقيقٌ لكونِ عَذابِه أبْقَى، وَلَا يَحْيَا حياةً يَنتفِعُ بها .

11- قوله تعالى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا

- قولُه: فَأُولَئِكَ إشارةٌ إلى (مَنْ)، والجمْعُ باعتبارِ معناها، كما أنَّ الإفرادَ في الفِعْلينِ السَّابقينِ باعتبارِ لفْظِها. وما في (أولئك) من معنى البُعْدِ؛ للإشعارِ بعُلوِّ دَرجتِهم، وبُعْدِ مَنزلتِهم، أي: فأولئك المُؤمِنون العامِلون للصَّالحاتِ ، وللتَّنبيهِ كذلك على أنَّهم أحرياءُ بما يُذْكَرُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ من أجْلِ ما سبَقَ اسمَ الإشارةِ .

12- قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى

- قولُه: وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (ذَلِكَ) إشارةٌ إلى ما أُتيحَ لهم من الفوزِ بما ذُكِرَ من الدَّرجاتِ العُلى، وما فيه من معنى البُعدِ للتَّفخيمِ. وقولُه: جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى تَحقيقٌ لكونِ ثوابِه تعالى أبْقَى .

- والآياتُ الثَّلاثُ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا ...، إلى قولِه: تَزَكَّى -على القولِ بأنَّها خبرٌ منَ اللهِ-، هي جُمَلٌ مُعترِضةٌ بين حِكايةِ قِصَّةِ السَّحرةِ، وبين ذِكْرِ قِصَّةِ خُروجِ بني إسرائيلَ، ساقَها اللهُ؛ موعظةً وتأييدًا لِمَقالةِ المُؤمِنين من قومِ فِرعونَ .

====================

 

سورةُ طه

الآيات (77-79)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غريب الكلمات:

 

أَسْرِ: أي: سِرْ بِهم لَيلًا، والسُّرَى: سَيرُ اللَّيلِ، وأصلُ (سير): يدُلُّ على مُضِيٍّ وجَرَيانٍ

.

يَبَسًا: أي: يابِسًا، واليَبَسُ: المكانُ يكونُ فيه ماءٌ فيَذهَبُ، وأصلُ (يبس): يدُلُّ على جَفافٍ .

دَرَكًا: أي: تَبِعةً أو لَحاقًا، وأصلُ (درك): لحوقُ الشَّيءِ بالشَّيءِ، ووُصولُه إليه .

فَغَشِيَهُمْ: أي: أصابَهم وغطَّاهُم، والغِشاوةُ: الغِطاءُ والسَّاتِرُ، مِن غَشِيَ الشَّيءَ، أي: غطَّاه وستَرَه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ولقد أوحَينا إلى موسى أن يَخرُجَ ليلًا ببني إسرائيلَ مِن أرضِ «مصرَ»، فيتَّخِذَ لهم في البَحرِ طريقًا يابسًا، غيرَ خائفٍ مِن فِرعَونَ وجُنودِه أن يَلحَقوهم، ولا من البَحرِ أن يغرَقَ فيه.

ولَمَّا عَلِمَ فِرعونُ بخُروجِ موسى وبني إسرائيلَ مِن مِصرَ، أتبَعَهم بجُنودِه، فأصاب فِرعَونَ وجُندَه مِن البَحرِ شَيءٌ عظيمٌ لا يعلَمُ كُنهَه إلَّا اللهُ تعالى، فغَرِقوا جميعًا ونجا موسى وقَومُه، وأضلَّ فِرعَونُ قَومَه عن طَريقِ الحقِّ بما زيَّنه لهم من الكُفرِ والتَّكذيبِ، ولم يسلُكْ بهم طريقَ الهدايةِ!

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ الله سُبحانَه استكبارَ فِرعَونَ المُدعَّى في قَولِه فَكَذَّبَ وَأَبَى، وختَمَه سُبحانَه بأنَّه يُهلِكُ العاصيَ كائنًا مَن كان، ويُنجِّي الطائِعَ؛ أتبعَ ذلك شاهدًا مَحسوسًا عليه، كفيلًا ببيانِ أنَّه لم يُغنِ عن فِرعَونَ شَيءٌ مِن قُوَّتِه ولا استِكبارِه، فقال

:

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي.

أي: ولقد أوحَينا إلى موسى أنْ سِرْ ليلًا من أرضِ مِصرَ مع قَومِك بني إسرائيلَ؛ لِتُخرِجَهم من قَبضةِ فِرعَونَ الذي امتنعَ مِن إرسالِهم، وأبى قَبولَ الحقِّ الذي جاءَه مِن عندِ ربِّه .

كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء: 52] .

وقال سُبحانَه: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الدخان: 23] .

فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا.

أي: فاتَّخِذْ -يا موسى- لبني إسرائيلَ طَريقًا في البَحرِ يابسًا، لا ماءَ فيه ولا طينَ .

لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى.

أي: لا تخافُ -يا موسى- أن يُدرِكَكم فِرعَونُ وجُندُه، فينالَكم بسوءٍ، ولا تخشى الغرَقَ في البَحرِ .

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78).

أي: فلَحِقَ فِرعَونُ ومعه جنودُه موسى ومَن معه حين قَطَعوا البَحرَ، فأصاب فِرعَونَ وجُندَه مِن البَحرِ شَيءٌ عظيمٌ يفوقُ الوَصفَ، فغَرِقوا جميعًا .

كما قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا [يونس: 90] .

وقال سُبحانَه: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشعراء: 60] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ [الشعراء: 64 - 66] .

وقال تبارك وتعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدخان: 24] .

وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79).

أي: وصَرَف فِرعَونُ قَومَه القِبطَ عن طَريقِ الحقِّ، ولم يهْدِهم إليه، فلم يُحصِّلوا الخيرَ والنَّجاةَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي، فيه سؤالٌ: ما الحكمةُ في أن يسري بهم ليلًا؟

والجوابُ أنَّ ذلك لوجوهٍ:

الوجه الأول: أن يكون اجتماعُهم لا بمشهدٍ من العدوِّ، فلا يمنعُهم عن استكمالِ مرادِهم في ذلك.

الوجه الثاني: ليكونَ عائقًا عن طلبِ فِرعَون ومتَّبِعيه.

الوجه الثالث: ليكونَ إذا تقارَب العسكرانِ، لا يرَى عسكرُ موسى عسكرَ فِرعَون، فلا يهابوهم

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فيه دَلالةٌ على أنَّ موسى-عليه السَّلامُ- في تلك الحالةِ كَثُرَ مُستجيبوه، فأراد اللهُ تعالى تمييزَهم من طائفةِ فِرعَونَ وخلاصَهم، فأوحى إليه أن يسريَ بهم ليلًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى افتتاحُ الجُملةِ بالقسَمِ وحرْفِ التَّحقيقِ (قد)؛ للاهتمامِ بالقِصَّةِ؛ لِيُلْقِيَ السَّامعونَ إليها أذهانَهم. وتَغييرُ الأسلوبِ في ابتداءِ هذه الجُملةِ مُؤذنٌ بأنَّ قِصَصًا طُوِيَت بين ذِكْرِ القِصَّتَينِ؛ فلوِ اقْتُصِرَ على حرْفِ العطْفِ، لَتُوهِّمَ أنَّ حِكايةَ القصَّةِ الأُولى لم تزَلْ مُتَّصلةً، فيُتَوَهَّمُ أنَّ الأمْرَ بالخُروجِ وقَعَ مُواليًا لانتهاءِ مَحْضرِ السَّحرةِ، مع أنَّ بينَ ذلك قِصَصًا كثيرةً ذُكِرَت في سُورةِ (الأعرافِ) وغيرِها؛ فجُملةُ وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى ابتدائيَّةٌ، والواوُ عاطفةٌ قِصَّةً على قِصَّةٍ، وليست عاطفةً بعْضَ أجزاءِ قِصَّةٍ على بعْضٍ آخرَ

.

- قولُه: أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فيه التَّعبيرُ عنهم بعُنوانِ كونِهم عِبادًا له تعالى؛ لتَشريفِهم، وتَقريبِهم، ولإظهارِ المَرْحمةِ والاعتناءِ بأمْرِهم، والتَّنبيهِ على غايةِ قُبْحِ صَنِيعِ فِرعونَ بهم؛ حيث استعْبَدَهم وهم عِبادُه عَزَّ وجَلَّ، وفعَلَ بهم من فُنونِ الظُّلمِ ما فعَلَ، والإيماءِ إلى تَخليصِهم من استعبادِ القبْطِ .

- وقولُه: لَا تَخَافُ دَرَكًا وعْدٌ لمُوسى، وقدِ اقْتُصِرَ على وعْدِه دونَ بَقِيَّةِ قومِه؛ لأنَّه قُدوتُهم، فإذا لم يَخَفْ هو تَشَجَّعوا، وقوِيَ يَقينُهم، فهو خَبرٌ مُرادٌ به البُشرى .

- وتَقديمُ نفْيِ الخوفِ المذكورِ؛ للمُسارَعةِ إلى إزاحةِ ما كانوا عليه مِن الخوفِ العظيمِ، حيث قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] .

- وفي قولِه: وَلَا تَخْشَى حُذِفَ مفعولُه؛ لإفادةِ العُمومِ، أي: لا تَخْشى شيئًا، وهو عامٌّ مُرادٌ به الخُصوصُ، أي: لا تَخْشى شيئًا ممَّا يُخْشى من العدُوِّ ولا من الغرَقِ .

- قَولُه: لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى أي: لا تخافُ إدراكَ فِرعَونَ، ولا تخشى غرَقًا في البحر، وإلَّا فالخَوفُ والخَشيةُ مُترادِفانِ، وغايَرَ بينهما لفظًا؛ رعايةً للبلاغةِ .

2- قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ

- قولُه: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ الفاءُ فَصيحةٌ، مُعرِبةٌ عن مُضمَرٍ قد طُوِيَ ذِكْرُه؛ ثِقَةً بغايةِ ظُهورِه، وإيذانًا بكَمالِ مُسارَعةِ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الامتثالِ بالأمْرِ، أي: ففعَلَ ما أُمِرَ بهِ؛ مِن الإسراءِ بهم، وضَرْبِ الطَّريقِ وسُلوكِه، فأتبَعَهم فِرعونُ بجُنودِه بَرًّا وبحْرًا .

- قولُه: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ فيه إبهامٌ، أي: علاهم وغمَرَهم من الأمْرِ الهائلِ الَّذي ليس في طَوقِهم احتمالُه، ما لا يُمْكِنُ إدراكُ كُنْهِه، ولا سَبْرِ غَورِه، وهو مِن جوامعِ الكَلمِ الَّتي يَقِلُّ لَفْظُها، ويتشعَّبُ القولُ في مَعناها، حيثُ أوجزَ فهَوَّلَ بقولِه: مَا غَشِيَهُمْ، أي: أمرٌ لا تَحتمِلُ العقولُ وصْفَه حقَّ وصْفِه، ومِن المعلومِ أنَّهم غَشِيَهم غاشٍ؛ فتعيَّن أنَّ المقصودَ منه التهويلُ، أي: بلَغَ من هولِ ذلك الغرقِ أنَّه لا يُستطاعُ وصفُه؛ فالتعبيرُ بالاسمِ المُبهَم الذي هو الموصولُ يدلُّ على تعظيمِ الأمرِ، وتَفخيمِ شأنِه .

- وكرَّر فِعل (غَشي) على معنى التعظيمِ والمعرفةِ بالأمرِ .

3- قوله تعالى: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى

- قولُه: وَمَا هَدَى تَقريرٌ لإضلالِه، وتأكيدٌ له؛ فعطْفُ وَمَا هَدَى على وَأَضَلَّ إمَّا من عطْفِ الأعَمِّ على الأخصِّ؛ لأنَّ عدَمَ الهُدى يصدُقُ بترْكِ الإرشادِ من دونِ إضلالٍ، وإمَّا أنْ يكونَ تأكيدًا لَفظيًّا بالمُرادِفِ، مُؤكِّدًا لنفْيِ الهُدى عن فِرعونَ لقومِه؛ فيكونَ قولُه: وَمَا هَدَى تأكيدًا لـ (أَضَلَّ) بالمُرادِفِ؛ إذ رُبَّ مُضِلٍّ قد يُرشِدُ مَن يُضِلُّه إلى بَعضِ مَطالِبِه، أو يهديه بعْدَ إضلالِه. وفيه نوعُ تَهكُّمٍ به في قولِه: وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر: 29] ، أي: في قولِه: وَمَا هَدَى تلميحٌ إلى قِصَّةِ قولِه المحكيِّ في سُورة (غافِر)، وما هنا في سُورةِ (طه) مِن قولِه: بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه: 63] ، أي: هي هُدًى؛ فإنَّ نفْيَ الهِدايةِ عن شخْصٍ مُشْعِرٌ بكونِه ممَّن يُتصوَّرُ منه الهدايةُ في الجُملةِ، وذلك إنَّما يُتصوَّرُ في حَقِّه بطَريقِ التَّهكُّمِ . وقيل: لَمَّا كان إثباتُ الفِعلِ لا يُفيدُ العُمومَ، نفَى ضِدَّه؛ ليُفيدَه، مع كونِه أوكدَ وأوقعَ في النفْسِ وأروعَ لها، فقال: وَمَا هَدَى أي: ما وقَع منه شيءٌ من الهدايةِ، لا لنَفْسِه ولا لأحدٍ مِن قومه

===========

 

سورةُ طه

الآيات (80-82)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ

غريب الكلمات:

 

الْمَنَّ: المنُّ: شيءٌ حُلوٌ كان يسقُطُ على شَجَرِهم، فيجتَنونَه فيأكلونَه، وقيل: المنُّ مصدرٌ يَعُمُّ جميعَ ما مَنَّ اللَّه به على عبادِه مِن غيرِ تَعَبٍ ولا زَرْعٍ، وأصلُ (منن): اصطِناعُ خَيْرٍ

.

وَالسَّلْوَى: السَّلْوَى: طائِرٌ يُشبِهُ السُّمانَى، لا واحِدَ له مِن لفظِه، واشتقاقُ السَّلوى من السَّلوةِ؛ لأنَّه لطِيبِه يُسلِّي عن غَيرِه .

فَيَحِلَّ: أي: يجِبَ، ويلزمَ، مِن: حَلَّ الدَّينُ يَحِلُّ -بكسرِ الحاءِ-؛ إذا وَجَب أداؤُه، وأصلُ (حلل): فتحُ الشَّيءِ .

هَوَى: أي: هلَك، وصار إلى الهاويةِ، يُقالُ: هَوَتْ أُمُّه: أي: سقَط سُقوطًا لا نهوضَ بعدَه، وأصلُه أنْ يسقُطَ مِن جبلٍ أو نحوِه، فيَهوِيَ إلى الأرضِ  فيَهلِكَ، وأصلُ (هوي): يدُلُّ على خُلُوٍّ وسُقوطٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى مذكِّرًا بنى إسرائيلَ بنِعَمِه عليهم: يا بني إسرائيلَ قد أنجَيناكم مِن عَدُوِّكم فِرعَونَ، وواعدْناكم جانِبَ جبَلِ الطُّورِ الأيمَنَ؛ لإنزالِ التَّوراةِ عليكم، ونزَّلْنا عليكم الرِّزقَ الطيِّبَ الذي تحصُلونَ عليه بلا كُلفةٍ. كُلُوا مِن رِزقِنا الطَّيِّبِ، ولا تعتَدُوا فيه بالجُحودِ وتَركِ الشُّكرِ؛ فيَحِقَّ عليكم غَضَبي، ومَن يَحِقَّ عليه غَضَبي فقد هلك وخَسِرَ. وإنِّي لَغفَّارٌ لِمَن تاب مِن ذَنبِه وكُفرِه، وآمَنَ بي وعَمِلَ الأعمالَ الصَّالحةَ، ثمَّ اهتدى إلى الحَقِّ واستقامَ عليه حتَّى مَماتِه.

تفسير الآيات:

 

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80).

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ.

أي: قال الله تعالى: يا بني إسرائيلَ

قد أنجيناكم مِن عَدُوِّكم فِرعَونَ، فأغرقناه وجُنودَه .

كما قال تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 49، 50].

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدخان: 30، 31].

وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ.

أي: وواعَدْناكم جانِبَ جَبَلِ الطُّورِ الأيمنَ لإنزالِ التَّوراةِ؛ لتهتَدوا بها .

كما قال تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142] .

وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى.

أي: ونزَّلْنا عليكم -يا بني إسرائيلَ- رِزقًا طيِّبًا سَهلًا، تحصُلونَ عليه بلا كُلفةٍ، ولا مَشقَّةٍ .

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81).

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.

أي: وقُلْنا لبني إسرائيلَ: كُلُوا من الطَّعامِ الحَلالِ اللَّذيذِ الذي رزَقْناكم .

وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى.

القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

في قولِه تعالى: وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى قراءتانِ:

1-  فَيَحُلَّ يَحْلُلْ بضمِّ الحاءِ فيهما، مِن حَلَّ يَحُلُّ، أي: نَزَل .

2-  فَيَحِلَّ يَحْلِلْ بكسر الحاء فيهما، مِنْ حَلَّ عليه كذا يَحِلُّ، أي: وَجَب .

وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي.

أي: ولا تتجاوَزوا الحدَّ فيما رَزَقْناكم -ومِن ذلك أن تَكفُروا هذه النِّعمةَ، وتَترُكوا شُكري، وتسْتَعينوا برِزْقي على معصيتي، وتمْنَعوا الحقوقَ الواجبةَ عليكم- فيَجِبَ عليكم حينئذٍ غَضَبي، وتلزمَكم عُقوبتي .

وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى.

أي: ومن يجِبْ عليه غضبي فقد هلك وشَقِيَ .

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حَذَّرَ الله تعالى من الطُّغيانِ فيما رَزَق، وحَذَّر مِن حُلولِ غَضَبِه؛ فتَحَ بابَ الرَّجاءِ للتَّائبينَ، وهي قولُه :

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82).

أي: وإنِّي لكثيرُ المغفرةِ لِمن رجَعَ عمَّا كان فيه من كُفرٍ أو شِركٍ، أو نفاقٍ أو مَعصيةٍ، وآمَنَ بكلِّ ما يجِبُ الإيمانُ به، وأخلَصَ لله في عبادتِه، وعَمِلَ الأعمالَ الصَّالِحةَ تَصديقًا لإيمانِه، ثمَّ لَزِمَ ذلك فثَبَت على التَّوبة، وأقام على الإيمانِ، واستمرَّ على القيامِ بالأعمالِ الصَّالحةِ حتى مماتِه .

كما قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] .

وقال سُبحانَه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] .

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30] .

وعن سُفيانَ بنِ عَبدِ اللهِ الثَّقَفيِّ رَضِيَ الله عنه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، قلْ لي في الإسلامِ قولًا لا أسألُ عنه أحدًا بَعدَك، قال: قل: آمَنتُ باللهِ، ثمَّ استَقِمْ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى فيه أنَّ من تاب من الكُفرِ والبِدعةِ والفُسوقِ، وآمن باللهِ ومَلائكِتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليومِ الآخِرِ، وعَمِلَ صالِحًا من أعمالِ القَلبِ والبَدَنِ، وأقوالِ اللِّسانِ، وسلَك الصِّراطَ المستقيمَ، وتابَعَ الرَّسولَ الكريمَ، واقتدى بالدِّينِ القويمِ؛ فهذا يَغفِرُ اللهُ أوزارَه، ويعفو عما تقَدَّمَ مِن ذَنبِه وإصرارِه؛ لأنَّه أتَى بالسَّبَبِ الأكبَرِ للمَغفرةِ والرَّحمةِ، بل الأسبابُ كلُّها منحصرةٌ في هذه الأشياءِ؛ فإنَّ التوبةَ تجبُّ ما قبلَها، والإيمانَ والإسلامَ يهدمُ ما قبلَه، والعملَ الصالحَ -الذي هو الحسناتُ- يُذهِبُ السيئاتِ، وسلوكُ طرقِ الهدايةِ بجميعِ أنواعِها؛ مِن تعلُّمِ عِلمٍ، وتدبُّرِ آيةٍ أو حديثٍ، حتى يتبينَ له معنى مِن المعاني يهتدي به، ودعوةٍ إلى دينِ الحقِّ، وردِّ بدعةٍ أو كفرٍ أو ضلالةٍ، وجهادٍ، وهجرةٍ، وغيرِ ذلك مِن جزئياتِ الهدايةِ، كلُّها مكفراتٌ للذنوبِ، محصِّلاتٌ لغايةِ المطلوبِ

.

2- مِن أعجبِ ما ظاهرُه الرجاءُ، وهو شديدُ التخويفِ، قولُه تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؛ فإنه علَّق المغفرةَ على أربعةِ شروطٍ، يصعبُ تصحيحُها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى فيه سؤالٌ: أنَّ مَن تاب وآمنَ وعَمِلَ صالِحًا، فلا بُدَّ أن يكونَ مُهتَدِيًا، فما معنى قَولِه: ثُمَّ اهْتَدَى بعد ذِكرِ هذه الأشياءِ؟

الجوابُ مِن وجوهٍ؛ منها:

الوجهُ الأوَّل: أنَّ المرادَ منه الاستمرارُ على تلك الطَّريقةِ؛ إذ المهتدي في الحالِ لا يكفيه ذلك في الفَوزِ بالنَّجاةِ حتى يستَمِرَّ عليه في المُستقبَلِ، ويموتَ عليه. ويؤكِّدُه قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت: 30] .

الوجهُ الثاني: أنَّ المرادَ مِن قَولِه: ثُمَّ اهْتَدَى أي: عَلِمَ أنَّ ذلك بهدايةِ اللهِ وتوفيقِه، وبَقِيَ مُستعينًا باللهِ في إدامةِ ذلك مِن غَيرِ تَقصيرٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى

- رُتِّبَ ذِكْرُ هذه النِّعمِ تَرتيبًا حَسنًا، حيث قُدِّمَت عليها النِّعمةُ العظيمةُ، وهي خَلاصُهم مِن استعبادِ الكَفرةِ؛ فبدَأَ بإزالةِ ما كانوا فيه مِن الضَّررِ مِن الإذلالِ والخراجِ والذَّبْحِ، وهي آكَدُ أنْ تكونَ مُقدَّمةً على المَنفعةِ الدُّنيويَّةِ؛ لأنَّ إزالةَ الضَّررِ أعظَمُ في النِّعمةِ من إيصالِ تلك المنفعةِ، ثمَّ أعقَبَ ذلك بذِكْرِ المنفعةِ الدِّينيَّةِ، وهي قولُه: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ؛ إذ أنزَلَ على نَبِيِّهم مُوسى كِتابًا فيه بَيانُ دِينِهم وشرْحُ شَريعتِهم، ثمَّ ذكَرَ المنفعةَ الدُّنيويَّةَ، وهي قولُه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى

.

- قولُه: وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ عَدَّى المُواعدةَ إليهم؛ لأنَّها لَابَسَتْهم واتَّصلَتْ بهم، حيث كانت لنَبِيِّهم ونُقبائِهم، وإليهم رجعَتْ منافِعُها الَّتي قام بها دِينُهم وشرْعُهم، وفيما أفاض عليهم من سائِرِ نِعَمِه وأرزاقِه، وإيفاءً لمقامِ الامتنانِ حَقَّه .

2- قوله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى

- قولُه: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ جُملةٌ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ لبَيانِ إباحةِ ما ذُكِرَ لهم، وإتْمامًا للنِّعمةِ عليهم .

3- قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى

- جُملةُ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ إلى آخرِها، استطرادٌ بعْدَ التَّحذيرِ مِن الطُّغيانِ في النِّعمةِ، بالإرشادِ إلى ما يُتدارَكُ به الطُّغيانُ إنْ وقَعَ بالتَّوبةِ، والعمَلِ الصَّالحِ .

- وقولُه: ثُمَّ اهْتَدَى (ثمَّ) للتَّراخي في الرُّتبةِ، واستُعملَتْ للدَّلالةِ على التَّبايُنِ بين الشَّيئينِ في المنزلةِ، كما كانت للتَّبايُنِ بين الوقْتينِ في الحُدوثِ؛ فمَنزِلَةُ الاستِقامةِ على الخيرِ مُبايِنَةٌ لمَنزِلَةِ الخيرِ نفْسِه؛ لأنَّها أعلَى منها وأفضَلُ؛ فلَمَّا كانتْ رُتبةُ الاستمرارِ على الاستقامةِ في غايةِ العُلوِّ، عبَّر عنها بأداةِ التراخِي فقال: ثُمَّ اهْتَدَى .

==========

 

سورةُ طه

الآيات (83-89)

ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ

غريب الكلمات:

 

عَلَى أَثَرِي: أي: بالقربِ مني، وموالُونَ لي في الوُصولِ، ويأتونَ خَلْفي، والأثَرُ: ما يترُكُه الماشي على الأرضِ مِن عَلاماتِ قَدَمٍ أو حافِرٍ أو خُفٍّ، وأصلُ (أثر): يدلُّ على رَسمِ الشَّيءِ الباقي

.

وَعَجِلْتُ: العَجَلَةُ: طَلَبُ الشَّيءِ، وتحرِّيه قبل أوانِه، وهي خلافُ البُطءِ. وأصلُه: يدلُّ على إسراعٍ .

بِمَلْكِنَا: أي: بِطاقَتِنا، واختيارِنا، وقُدرتِنا، وأصلُ (ملك): يدُلُّ على قُوَّةٍ في الشَّيءِ .

أَوْزَارًا: أَي: أثقالًا وأحمالًا، والوِزْرُ: الثِّقلُ، ويُعبَّرُ به أيضًا عن الإثمِ، وأصلُ (وزر) هنا: الثقلُ في الشيءِ .

زِينَةِ الْقَوْمِ: أي: حُلِيِّ آلِ فِرعَونَ، وأصلُ (زين): يدُلُّ على حُسنِ الشَّيءِ وتَحسينِه .

خُوَارٌ: الخُوارُ: صَوتُ البَقَرِ، وأصلُ (خور): يدُلُّ على صَوْتٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن فتنةِ قومِ موسَى عليه السلامُ، وإضلالِ السامريِّ لهم، بعدَ أنْ ذهَب موسَى عليه السلامُ لمناجاةِ ربِّه، فيقول تعالى: وأيُّ شَيءٍ أعجَلَك عن قَومِك -يا موسى- فسبقتَهم إلى الطُّورِ؟ قال: إنَّهم خلفي سوف يَلحَقونَ بي، وسبقتُهم إليك -يا ربِّي- مُسارعةً في رِضاك! قال الله لموسى: فإنَّا قد ابتَلَينا قَومَك بعدَ فِراقِك لهم بعبادةِ العِجلِ، وأَضَلَّهم السَّامريُّ، الذي أخرجَ لهم العِجلَ، ودعاهم إلى عبادتِه فأطاعوه.

ثمَّ يخبرُ الله تعالى عن رجوعِ موسَى عليه السلام إلى قومِه، وما قاله لهم، فيقول تعالى: فرجَعَ موسى إلى قَومِه غَضبانَ عليهم حزينًا، وقال لهم: يا قومِ، ألم يَعِدْكم ربُّكم وعدًا حَسَنًا، كإنزالِ التَّوراةِ، والنَّصرِ على أعدائِكم، وغيرِ ذلك؟! أفطال عليكم العَهدُ واستبطأتُم الوَعدَ؟! بل أردتُم بفِعلِكم هذا أن يَحِلَّ عليكم غَضَبٌ مِن رَبِّكم، فعَبدتُم العِجلَ، وتركتُم الالتزامَ بأوامري!

ثمَّ يحكي الله سبحانَه عمَّا اعتذروا به مِن اعتذاراتٍ واهيةٍ، وتبريراتٍ سخيفةٍ، فيقول تعالى: قالوا: يا موسى، ما أخلَفْنا مَوعِدَك باختيارِنا، ولكنَّا حُمِّلْنا أثقالًا مِن حُلِيِّ قَومِ فِرعَونَ، فألقَيناها في النَّارِ، فكذلك ألقى السَّامريُّ ما كان في يَدِه، فأخرَجَ السَّامريُّ لبني إسرائيلَ مِن الحُلِيِّ عِجلًا جَسَدًا يخورُ خُوارَ البَقَرِ، فقال السَّامِريُّ والمفتونونَ به منهم: هذا هو إلهُكم وإلهُ موسى، نَسِيَه موسى وغَفَل عنه هنا. أفلا يرى الذين عَبَدوا العِجلَ أنَّه لا يُكَلِّمُهم، ولا يرُدُّ عليهم جَوابًا، ولا يَقدِرُ على دَفعِ ضَرٍّ عنهم، أو جَلبِ نَفعٍ لهم؟!

تفسير الآيات:

 

وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83).

أي: وأيُّ شَيءٍ حَمَلَك -يا موسى- على أن تَسبِقَ قَومَك إلى الطُّورِ، ولم تَصبِرْ حتى تقْدَمَ معهم

؟!

قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84).

قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي.

أي: قال موسى: هم قادِمونَ مِن ورائي، وسيلحَقونَ بي .

وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى.

أي: وسبقتُ قومي إلى الطورِ -يا ربِّ- مسارعةً في طَلَبِ رِضاك .

قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85).

قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ.

أي: قال الله لموسى: فإنَّا قد ابتَلَينا قَومَك مِن بَعدِ فِراقِك لهم بعبادةِ العِجلِ !

وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ.

أي: وأضلَّ قومَك السَّامريُّ الذي أخرجَ لهم العِجلَ، ودعاهم إلى عبادتِه فأطاعوه .

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86).

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا.

أي: فانصرفَ موسى من الطُّورِ إلى قَومِه بني إسرائيلَ في حالِ غَضَبٍ شَديدٍ منهم، وحُزنٍ على ما أحدَثوه مِن ضَلالٍ وكُفرٍ في غيابِه .

قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا.

أي: قال موسى: يا قومِ، ألم يَعِدْكم رَبُّكم وَعدًا حَسَنًا بحُصولِ الخَيرِ لكم في الدُّنيا والآخرةِ، كإنزالِ التَّوراةِ، والنَّصرِ على أعدائِكم، وغيرِ ذلك مِن أياديه عِندَكم، ووَعَدَكم مَغفِرةَ ذُنوبِكم، ودُخولَ الجَنَّةِ إن أطعتُموه ؟

أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ.

أي: فهل طال عليكم انتِظارُ ما وعَدَكم اللهُ، ونَسِيتُم نِعَمَه عليكم؟! فإنَّ زَمَنَ ذلك لم يَبعُدْ حتَّى تيأسوا مِن الوفاءِ، وتَكفُروا وتَعبُدوا غيرَه، وتكونَ لكم شُبهةُ عُذرٍ في الإعراضِ عن عبادةِ اللهِ .

أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي.

أي: بل أردتُم أن يجِبَ عليكم غضَبٌ مِنَ الله، فتَستَحِقُّوه؛ لِتَركِكم اتِّباعي إلى الطُّورِ، وعُكوفِكم على عبادةِ العِجلِ مِن بَعدِي !

قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87).

قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا.

أي: قال بنو إسرائيلَ لِموسى: ما أخلَفْنا ما عَهِدتَ إلينا بإرادتِنا واختيارِنا، ولم نكنْ نَملِكُ أمْرَنا .

وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا.

أي: ولكِنَّا حُمِّلْنا مِن حُلِيِّ آلِ فِرعَون، فألقَيناها في النَّارِ .

فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ.

أي: فكما قَذَفْنا نحن تلك الأثقالَ مِن الحُلِيِّ، ألقَى السَّامِريُّ أيضًا ما كان في يَدِه .

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88).

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ.

أي: فأخرَجَ السَّامِريُّ لبني إسرائيلَ مِن الحُلِيِّ التي قَذَفوها في النَّارِ عِجلًا جسدًا، له صوتُ البَقَرِ .

كما قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ [الأعراف: 148] .

فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ.

أي: فقالوا : هذا العِجلُ هو معبودُكم ومعبودُ موسى الذي غَفَل عنه موسى هاهنا، وذهبَ إلى الجبلِ ليطلُبَه !

قالَ اللَّهُ تعالَى رَدًّا عليهم، وتقريعًا لهم، وبيانًا لفضيحَتِهم، وسَخافةِ عقولِهِم فيما ذَهَبوا إليه :

أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89).

أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا.

أي: أفلا يرى الذين عبدوا العِجلَ أنَّه لا يكَلِّمُهم، ولا يرُدُّ عليهم إنْ كَلَّموه ؟!

كما قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف: 148] .

وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.

أي: وأنَّه لا يَقدِرُ على ضَرِّهم بشَيءٍ، ولا على نَفعِهم بشَيءٍ في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ؟ فكيف يكونُ إلهًا مَن تلك صِفاتُه

 

؟!

الفوائد التربوية:

 

قولُه تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى يحتمِلُ أنَّ الله تعالى أراد بسُؤالِ موسى عليه السلامُ عن سبَبِ العجلةِ -وهو أعلَمُ-: أنْ يُعلِّمَ مُوسى أدَبَ السَّفرِ، وهو أنَّه يَنْبغي تأخيرُ رئيسِ القومِ عنهم في المَسيرِ؛ ليكونَ نظَرُه مُحيطًا بطائفتِه، ونافِذًا فيهم، ومُهيمِنًا عليهم. وهذا المعنى لا يحصُلُ في تقدُّمِه عليهم، ألَا تَرى اللهَ عَزَّ وجَلَّ كيف علَّمَ هذا الأدبَ لُوطًا، فقال: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ [الحجر: 65] ، فأمَرَه أنْ يكونَ أخِيرَهم. على أنَّ مُوسى عليه السَّلامُ إنَّما أغفَلَ هذا الأمْرَ؛ مُبادَرةً إلى رِضَا اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ومُسارَعةً إلى الميعادِ، وذلك شأْنُ الموعودِ بما يسُرُّه؛ يَوَدُّ لو رُكِّبَ إليه أجنحةُ الطَّيرِ، ولا أسَرَّ من مُواعدةِ اللهِ تعالى له صلَّى الله عليه وسلَّم

. وممَّا أفادَهُ السُّؤالُ أيضًا: تَعريفُ المسؤولِ بما يَجهَلُه من أُمورٍ، وقد أراد سُبحانَه تَعريفَه بفِتْنةِ قومِه؛ ووُقوعِهم في عِبادةِ العجْلِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- لَمَّا استدعى الله تعالى موسى عليه السَّلامُ لِمُناجاتِه وكلامِه؛ أسرَعَ إليه، فقال له ربُّه: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى فدَلَّ على أنَّ المسارعةَ إلى مناجاةِ اللهِ تُوجِبُ رِضاه، وهذا دليلٌ حَسَنٌ على فَضلِ الصَّلاةِ في أوَّلِ أوقاتِها

، وكذلك المبادرةُ إلى أعمالِ البرِّ.

2- قَولُ موسى عليه السلام فيما يحكيه الله عنه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، فيه سؤالٌ: أنه قال: وَعَجِلْتُ والعجلةُ مذمومةٌ؟

والجواب: أنَّها ممدوحةٌ إذا كانت في الدينِ؛ قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133] .

3- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ، فيه سؤال: كيف كان رجوعُ قومِ موسى وهم مِن العقلاءِ المكلَّفين عن الدينِ الحقِّ دفعةً واحدةً إلى عبادة عجلٍ يُعرفُ فسادُها بالضرورةِ؟

والجوابُ من أوجهٍ:

الوجه الأول: أنَّ هذا غيرُ ممتنعٍ في حقِّ البُلْهِ مِن الناس .

الوجه الثاني: أنهم اغتروا بما موَّه لهم مِن أنَّه إلههم المنشودُ مِن كثرةِ ما سمعوا مِن رسولِهم أنَّ الله معهم أو أمامهم، ومما جاش في خواطرِهم مِن الطمعِ في رؤيتِه تعالى .

الوجه الثالث: أنَّه لما رأوا ما صاغه السامريُّ في صورةِ معبودٍ كانوا قد عرفوه من قبلُ، ورأوه يزيدُ عليه بأنَّ له خوارًا، رسَخ في أوهامِهم الفاسدةِ أنَّ ذلك هو الإلهُ الحقيقيُّ؛ لأنَّهم رأوه مِن ذهبٍ أو فضةٍ، فتوهموا أنَّه أفضلُ مِن العجلِ الذي عرفوه مِن قبلُ .

الوجه الرابع: أنَّ الاستعبادَ الطويلَ، والذلَّ الطويل في ظلِّ الفِرعَونية الوثنيةِ، كان قد أفسد طبيعةَ القومِ، وأضعَف استعدادَهم لاحتمالِ التكاليفِ والصبرِ عليها، والوفاءِ بالعهدِ والثباتِ عليه، وترَك في كِيانِهم النفسيِّ خلخلةً واستعدادًا للانقيادِ والتقليدِ المريح، فما يكادُ موسى يتركُهم في رعايةِ هارونَ، ويبعدُ عنهم قليلًا، حتى تتخلخلَ عقيدتُهم كلُّها، وتنهارَ أمامَ أولِ اختبارٍ.

4- في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا جعَلَ امتناعَ صِفةِ الكَلامِ والتَّكليمِ، وعَدَمَ مِلكِ الضَّرِّ والنَّفعِ دَليلًا على عَدَمِ الإلهيَّةِ، وهذا دليلٌ عقليٌّ سَمعيٌّ على أنَّ الإلهَ لا بُدَّ أن يُكَلَّمَ ويتكَلَّمَ، ويَملِكَ لعابِدِه الضَّرَّ والنَّفعَ، وإلَّا لم يكن إلهًا ، فالإلهُ لا بدَّ أن يكونَ موصوفًا بهذه الصفاتِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى سُؤالٌ عن سبَبِ العَجلةِ، وأجاب بقولِه: هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى؛ لأنَّ قولَه: وَمَا أَعْجَلَكَ تضمَّنَ تأخُّرَ قومِه عنه، فأجاب مُشيرًا إليهم -لقُربِهم منه- أنَّهم على أثَرِه، جائينَ للموعدِ، وذلك على ما كان عهِدَ إليهم أنْ يَجِيئوا للموعدِ. ثمَّ ذكَرَ السَّببَ الَّذي حمَلَه على العجلةِ، وهو ما تضمَّنَه قولُه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى، من طلَبِه رِضَا اللهِ تعالى في السَّبقِ إلى ما وعَدَهُ ربُّه

.

- شَبَّه الجائِيَ المُوالِيَ بالَّذي يَمْشي على علاماتِ أقدامِ مَن مَشى قبْلَه قبْلَ أنْ يتغيَّرَ ذلك الأثَرُ بأقدامٍ أُخرى، ووجْهُ الشَّبهِ: هو مُوالاتُه، وأنَّه لم يَسْبِقْه غيرُه. والمعنى: هم أولاءِ سائرونَ على مواقعِ أقْدامي، أي: مُوالونَ لي في الوُصولِ .

- وزِيادةُ رَبِّ في قولِه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ؛ لمَزيدِ الضَّراعةِ والابتهالِ؛ رغبةً في قَبولِ العُذْرِ .

2- قولُه تعالى: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ استئنافٌ مَبْنِيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من حِكايةِ اعتذارِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهو السِّرُّ في وُرودِه على صِيغَةِ الغائبِ قَالَ، لا أنَّه الْتِفاتٌ منَ التَّكلُّمِ إلى الغَيبةِ؛ لأنَّ المُقدَّرَ فيما سبَقَ من الموضعينِ على صِيغَةِ التَّكلُّمِ؛ كأنَّه قِيلَ من جِهَةِ السَّامعينَ: فماذا قال له ربُّه حينئذٍ؟ فقيل: قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ .

- والفاءُ في فَإِنَّا لتَرتيبِ الإخبارِ بما ذُكِرَ من الابتلاءِ على إخبارِ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعَجَلتِه؛ لِمَا بينهما من المُناسَبةِ المُصحِّحةِ للانتقالِ مِن أحدِهما إلى الآخرِ، من حيث إنَّ مَدارَ الابتلاءِ المذكورِ عجَلةُ القومِ .

- وقولُه: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ فيه ضَرْبٌ من المَلامِ على التَّعجُّلِ بأنَّه تسبَّبَ عليه حُدوثُ فِتْنةٍ في قومِه؛ لِيُعْلِمَه ألَّا يَتجاوزَ ما وُقِّتَ له، ولو كان لرَغبةٍ في الازديادِ مِن الخيرِ .

3- قوله تعالى: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي

- قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ ... استئنافٌ مَبْنِيٌّ على سُؤالٍ ناشئٍ من حِكايةِ رُجوعِه كذلك؛ كأنَّه قِيلَ: فماذا فعَلَ بهم؟ فقيل: قال... .

- وافتتاحُ الخِطابِ بـ يَا قَوْمِ تَمهيدٌ للَّومِ؛ لأنَّ انجرارَ الأذى للرَّجلِ مِن قومِه أحَقُّ في تَوجيهِ المَلامِ عليهم، وذلك قولُه: فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي .

- قولُه: أَلَمْ يَعِدْكُمْ همزةُ الاستفهامِ لإنكارِ عدَمِ الوعدِ ونفْيِه، وتَقريرِ وُجودِه على أبلَغِ وجْهٍ وآكَدِه، أي: وعَدَكم بحيثُ لا سَبيلَ لكم إلى إنكارِه ؛ فالاستفهامُ في أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ إنكاريٌّ؛ نُزِّلوا مَنزِلةَ مَن زعَمَ أنَّ اللهَ لم يَعِدْهم وعْدًا حَسنًا؛ لأنَّهم أجْرَوا أعمالَهم على حالِ مَن يزعُمُ ذلك، فأنكَرَ عليهم زعْمَهم. ويجوزُ أنْ يكونَ الاستفهامُ تَقريريًّا، وشأْنُه أنْ يكونَ على فرْضِ النَّفيِ .

- والاستفهامُ في قولِه: أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ مُفرَّعٌ على قولِه: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ، وهو استفهامٌ إنكاريٌّ، أي: أوعَدَكُم ذلك، فطال زمانُ الإنجازِ، فأخطأْتُم بسبَبِه ؟!

- قولُه: أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (أم) للإضرابِ الإبطاليِّ، والاستفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ (أَمْ) إنكاريٌّ أيضًا؛ إذِ التَّقديرُ: بل أردْتُم أنْ يَحِلَّ عليكم غضَبٌ؛ فلا يكونُ كُفْرُكم إذنْ إلَّا إلقاءً بأنْفُسِكم في غضَبِ اللهِ، كحالِ مَن يُحِبُّ أنْ يَحِلَّ عليه غضَبٌ من اللهِ .

- قولُه: فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي، أي: وَعْدَكم إيَّايَ بالثَّباتِ على ما أمرْتُكم به، إلى أنْ أرجِعَ مِن الميقاتِ، على إضافةِ المصدرِ إلى مَفعولِه؛ للقصْدِ إلى زِيادةِ تَقبيحِ حالِهم؛ فإنَّ إخلافَهم الوعدَ الجارِيَ فيما بينَهم وبينَه عليهِ السَّلامُ منْ حيثُ إضافتُه إليه عليه السَّلامُ: أشنَعُ منه مِن حيث إضافتُه إليهم. والفاءُ لتَرتيبِ ما بعْدَها على كلِّ واحدٍ من شِقَّيِ التَّرديدِ على سَبيلِ البدلِ؛ كأنَّه قيل: أنَسيتُمُ الوعْدَ بطُولِ العهْدِ، فأخلَفْتُموه خطَأً، أمْ أردتُمْ حُلولَ الغضبِ عليكم، فأخلَفْتُموه عَمْدًا ؟!

4-

قوله تعالى: قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ

- وقعَتْ جُملةُ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا غيرَ مَعطوفةٍ؛ لأنَّها جرَتْ في المُحاوَرة ِجوابًا عن كلامِ مُوسى عليه السَّلامُ .

- قولُه: قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ، أي: وعْدَنا إيَّاكَ الثَّابِتَ على ما أمرْتَنا به، وإيثارُه على أنْ يُقالَ: (مَوعدَنا) على إضافةِ المصدرِ إلى فاعِلِه؛ للقصْدِ إلى زِيادةِ تَقبيحِ حالِهم .

- قولُه: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ... استدراكٌ عمَّا سبَقَ، واعتذارٌ عمَّا فَعَلوا ببَيانِ منشَأِ الخطَأِ ، والاستدراكُ راجِعٌ إلى ما أفادهُ نفْيُ أنْ يكونَ إخلافُهم العهْدَ عن قصْدٍ للضَّلالِ، والجُملةُ الواقعةُ بعْدَه وقعَتْ بإيجازٍ عن حُصولِ المقصودِ من التَّنصُّلِ من تَبِعَةِ نَكْثِ العهْدِ. ومَحلُّ الاستدراكِ هو قولُه: فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى، وما قبْلَه تَمهيدٌ له؛ فعُطِفَتِ الجُمَلُ قبْلَه بحرْفِ الفاءِ، واعْتَذروا بأنَّهم غُلِبوا على رأْيِهم بتَضليلِ السَّامريِّ؛ فأُدْمِجَتْ في هذا الاعتذارِ الإشارةُ إلى قضيَّةِ صَوغِ العجْلِ الَّذي عَبَدوه .

5- قولُه تعالى: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ

- قولُه: فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فيه تأخيرُ المفعولِ عِجْلًا -مع كونِه مَفعولًا صَريحًا- عن الجارِّ والمجرورِ لَهُمْ؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ، مع ما فيه من نَوعِ طُولٍ يُخِلُّ تَقديمُه بتجاوُبِ أطرافِ النَّظمِ الكريمِ .

- على القولِ بأنَّ الذي نَسِيَ هو السامريُّ فتَفريعُ فَنَسِيَ يحتملُ أنْ يكونَ تَفريعًا على فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ تَفريعَ عِلَّةٍ على مَعلولٍ؛ فالضَّميرُ عائدٌ إلى السَّامريِّ، أي: قال السَّامريُّ ذلك؛ لأنَّه نَسِيَ ما كان تلقَّاهُ من هَدْيٍ. أو تَفريعَ مَعلولٍ على عِلَّةٍ، أي: قال ذلك، فكان قولُه سببًا في نِسيانِه ما كان عليه مِن هَدْيٍ؛ إذ طبَعَ اللهُ على قلْبِه بقولِه ذلك، فحرَمَه التَّوفيقَ من بعْدُ .

6- قولُه تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فيه الإتيانُ بهَمزةِ الإنكارِ داخِلةً على الفاءِ العاطفةِ، وهما يَستدعيانِ العطفَ على مُقدَّرٍ يَقْتضيه المَقامُ، وهو فِعلٌ يَصلُحُ أنْ يكونَ مَعطوفًا عليه لِمَا بعدَ الفاءِ، والتقديرُ: أَحُرِموا العَقلَ الهادي؛ فلا يَتفكَّرونَ، ولا يَنظُرونَ بنَظرِ البَصيرةِ أنَّ هذا المُتَّخذَ مِن هذه الأجرامِ لا يَصلُحُ للإلهيةِ، أم عَمُوا وصَمُّوا فلا يَهتدون إلى أنَّ الإلهَ ينبغي أنْ يكونَ سامعًا لدعاءِ عابدِه، عالِمًا بأفعالِه، دافعًا عنه المضارَّ، مُثيبًا ومعاقبًا؟! وهو إنكارٌ وتَقبيحٌ من جِهَتِه تعالى لحالِ الضَّالِّينَ والمُضلِّينَ جميعًا، وتَسفيهٌ لهم فيما أقْدَموا عليه مِن المُنكَرِ الَّذي لا يَشْتَبِهُ بُطلانُه واستحالتُه على أحدٍ، وهو اتِّخاذُه إلهًا .

- وقيل: الرؤيةُ هنا في قوله: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ... بصريَّةٌ مُكنى بها، أو مُستعمَلةٌ في مُطلَقِ الإدراكِ، فآلتْ إلى معنى الاعتقادِ والعِلمِ، ولا سيَّما بالنِّسبةِ لجُملةِ وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا؛ فإنَّ ذلك لا يُرَى بالبصرِ، بخلافِ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا. والاستفهامُ في قولِه أيضًا: أَفَلَا يَرَوْنَ إنكاريٌّ؛ نُزِّلُوا مَنزِلةَ مَن لا يَرى العِجْلَ؛ لعدَمِ جَرْيِهم على مُوجِبِ البَصرِ؛ فأَنكَر عليهم عدَمَ رُؤيتِهم ذلك معَ ظُهورِه، أي: كيف يدَّعونَ الإلهيَّةَ للعِجْلِ، وهم يَرونَ أنَّه لا يَتكلَّمُ، ولا يَستطيعُ نفْعًا ولا ضَرًّا ؟!

- قولُه: وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا قَدَّمَ الضَّرَّ على النَّفعِ؛ قطْعًا لعُذْرِهم في اعتقادِ إلهيَّتِه؛ لأنَّ عُذْرَ الخائفِ من الضَّرِّ أقْوى من عُذْرِ الرَّاغبِ في النَّفعِ .

 

 

=========

 

سورةُ طه

الآيات (90-94)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات:

 

لَنْ نَبْرَحَ: أي: لن نَزالَ، وأصلُ (برح): يدلُّ على زوالٍ وبُروزٍ وانكشافٍ

.

عَاكِفِينَ: أي: مُقيمينَ، والعُكوفُ: الإقبالُ على الشَّيءِ، ومُلازمتُه على سَبيلِ التَّعظيمِ له، وأصلُ (عكف): يدُلُّ على حَبسٍ .

وَلَمْ تَرْقُبْ: أي: لم تُرْاعِ وتحفَظْ، وأصلُ (رقب): يدُلُّ على انتصابٍ لِمُراعاةِ شَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبينًا موقفَ هارونَ عليه السلامُ، مِن هؤلاءِ الجاهلينَ الذين عبَدوا العجلَ: ولقد قال هارونُ لبني إسرائيلَ مِن قَبلِ رُجوعِ موسى إليهم: يا قَومِ، إنَّما اختُبِرتُم بهذا العِجلِ؛ ليظهَرَ المؤمِنُ منكم مِن الكافِرِ، وإنَّ رَبَّكم الرَّحمنُ لا غَيرُه؛ فاتَّبِعوني فيما أدعوكم إليه مِن عبادةِ اللهِ، وأطيعوني فيما أمَرتُكم به. قال عَبَدةُ العِجلِ: لن نزالَ مُقيمينَ على عبادةِ العِجلِ حتى يرجِعَ إلينا موسى.

ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما قاله موسَى لأخيه هارونَ، وما فعَله به، لَمَّا رجَع ورأَى ما حدَثَ، فيقولُ تعالى: قال موسى لأخيه هارونَ: أيُّ شيءٍ مَنعَك مِن اتِّباعي حين رأيتَهم ضلُّوا عن طَريقِ الحَقِّ، أفعَصيتَ أمري؟ ثم أخَذَ موسى بلحيةِ هارونَ ورأسِه يجرُّه إليه، فقال له هارونُ مُستَعطِفًا: يا ابنَ أمِّي، لا تُمسِكْ بلِحيَتي ولا بشَعرِ رأسي، إنِّي خِفتُ إن تركْتُهم ولحِقْتُ بك أن تقولَ لي: فرَّقتَ بينَ بني إسرائيلَ، ولم تحفَظْ وصِيَّتي بحُسنِ رِعايتِهم!

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90).

وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ.

أي: ولقد قال هارونُ لِعَبَدةِ العِجلِ مِن قَومِه، ناصحًا لهم مِن قَبلِ رُجوعِ موسى إليهم: يا قومِ، إنَّما اختبَرَكم اللهُ وابتلاكم بهذا العِجلِ؛ ليَظهرَ مَن يَثبُتُ منكم على إيمانِه بالله، ومَن يُفتَنُ بالعِجلِ فيَكفُرُ

.

وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي.

أي: وإنَّ رَبَّكم الرَّحمنُ الذي يَرحَمُكم، ويُنعِمُ عليكم بالنِّعَمِ الظاهرةِ والباطنةِ، لا العِجلُ الذي تَعبُدونَه؛ فاتَّبِعوني على ما آمُرُكم به مِن عِبادةِ الله، وتَرْكِ عبادةِ العِجلِ، وأطيعوني فيما أمَرتُكم به مِن طاعةِ الله، وإخلاصِ العبادةِ له، ولا تُطيعوا السَّامِريَّ .

قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91).

أي: قال عَبَدةُ العِجلِ: سنظَلُّ مُقيمينَ على عبادةِ العِجلِ، حتى يأتيَ إلينا موسى من الطُّورِ، فنسمَعَ كلامَه في شأنِ العِجلِ، أو ننظُرَ صنيعَه فيه .

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93).

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ.

أي: قال موسى لأخيه لائمًا له لَمَّا رجَعَ إلى قَومِه، فرأى ما حَدَث فيهم مِن الخَطبِ العَظيمِ: يا هارونُ، أيُّ شَيءٍ مَنَعَك حين رأيتَ بني إسرائيلَ قد أخطؤوا طريقَ الحَقِّ بعبادتِهم العِجلَ وكَفَروا باللهِ: أن تلحَقَ بي ؟

أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي.

أي: هل عَصَيتَ -يا هارونُ- أمري لك بأن تَخلُفَني في قومي، وأن تُصلِحَ، ولا تتَّبِعَ سَبيلَ المُفسِدينَ ؟

كما قال الله تعالى: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] .

قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94).

قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي.

أي: ثمَّ أخَذ موسى بلِحيةِ أخيه هارونَ ورأسِه يجُرُّه إليه، فقال هارونُ مُستَعطِفًا أخاه: يا ابنَ أمَّ، لا تأخُذْ بلِحيتي، ولا بشَعرِ رأسي .

إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.

أي: إنِّي خَشِيتُ أن تقولَ لي إن لحقتُ بك: فَرَّقْتَ بينَ جماعةِ بني إسرائيلَ .

وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي.

أي: وخَشِيتُ أن تقولَ: ولم تحفَظْ وصِيَّتي وتعمَلْ بها، ولم تراعِ ما أمَرْتُك به حين استخلَفْتُك على قَومي

 

.

الفوائد التربوية :

 

قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي فيه أنَّ حِفظَ الأصلِ الأصيلِ للشَّريعةِ أهَمُّ مِن حِفظِ الأصولِ المتفَرِّعةِ عليه؛ لأنَّ مَصلحةَ صَلاحِ الاعتقادِ هي أمُّ المصالحِ التي بها صَلاحُ الاجتِماعِ؛ ولذلك لم يكُنْ موسى خافيًا عليه أنَّ هارونَ كان مِن واجِبِه أن يترُكَهم وضَلالَهم، وأن يلتَحِقَ بأخيه مع عِلمِه بما يُفضي إلى ذلك مِن الاختِلافِ بينهم؛ فإنَّ حُرمةَ الشَّريعةِ بحِفظِ أُصولِها، وعَدَمِ التَّساهُلِ فيها، وبحُرمةِ الشَّريعةِ يبقَى نفوذُها في الأمَّةِ، والعَمَلُ بها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي هاهنا دقيقةٌ وهي أنَّ الرافضةَ تمسَّكوا بقولِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام لعليٍّ: ((أنت مني بمنزلةِ هارونَ مِن موسَى))

، ثم إنَّ هارونَ ما منَعته التقيةُ في مثلِ هذا الجمعِ، بل صعِد المنبرَ، وصرَّح بالحقِّ، ودعا الناسَ إلى متابعةِ نفسِه، والمنعِ مِن متابعة غيرِه، فلو كانت أمةُ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم على الخطأِ، لكان يجبُ على عليٍّ رضي الله عنه أن يفعلَ ما فعَله هارونُ عليه السلام، وأن يَصعدَ على المنبرِ مِن غيرِ تقيةٍ وخوفٍ، وأن يقولَ: فاتبعوني، وأطيعوا أمري. فلمَّا لم يفعَلْ ذلك، علِمْنا أنَّ الأمةَ كانوا على الصوابِ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، سلَك هارونُ عليه السلامُ في هذا الوعظِ أحسنَ الوجوهِ؛ لأنَّه زجَرهم عن الباطلِ أولًا بقولِه: إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ، ثم دعاهم إلى معرفةِ الله تعالى ثانيًا بقولِه: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ، ثم دعاهم ثالثًا إلى معرفةِ النبوةِ بقولِه: فَاتَّبِعُونِي، ثم دعاهم إلى الشرائعِ رابعًا بقولِه: وَأَطِيعُوا أَمْرِي، وهذا هو الترتيبُ الجيدُ؛ لأنَّه لا بدَّ قبلَ كلِّ شيءٍ مِن إماطةِ الأذَى عن الطريقِ، وهو إزالةُ الشبهاتِ في حالِ وجودِها، وكونِ الانحرافِ بسببِها، ثم معرفةُ الله تعالى هي الأصلُ، ثم النبوةُ، ثم الشريعةُ، فثبَت أنَّ هذا الترتيبَ على أحسنِ الوُجوهِ .

3- قال اللهُ تعالى: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي، ذكَرَ وَصفَ (الرَّحمةِ)؛ تنبيهًا على أنَّهم متى تابوا قَبِلَهم، وتذكيرًا لتَخليصِهم مِن فِرعَونَ زمانَ لم يوجَدِ العِجلُ .

4- قَولُ الله تعالى: قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى فيه دَلالةٌ على أنَّ (لن) لا تَقتَضي التأبيدَ -كما زعم الزَّمخشريُّ- إذ لو كان مِن مَوضوعِها التأبيدُ، لَما جازت التَّغيِيَةُ بـ (حتى)؛ لأنَّ التَّغيِيَةَ لا تكونُ إلَّا حيثُ يكونُ الشَّيءُ مُحتَمِلًا، فيزيلُ ذلك الاحتِمالَ بالتَّغيِيةِ .

5- في قَولِه تعالى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي دَلالةٌ على أنَّ كلَّ نهيٍ ففيه طلبٌ واستِدعاءٌ لِمَا يقصِدُه النَّاهي، فهو أمرٌ؛ فالأمرُ يتناولُ هذا وهذا، فالأمرُ أصلٌ، والنهيُ فرعٌ؛ فإنَّ النهيَ نوعٌ مِن الأمرِ؛ إذ الأمرُ هو الطلبُ والاستدعاءُ والاقتضاءُ، وهذا يدخلُ فيه طلبُ الفعلِ، وطلبُ التركِ، لكن خُصَّ النهيُ باسمٍ خاصٍّ؛ فإنَّ موسى قال لأخيه: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، وموسى قال له: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] وهذا نهيٌ، وهو لامَه على أنَّه لم يَتَّبِعْه، وقال: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، وعُبَّادُ العِجْلِ كانوا مُفسِدينَ، وقد جَعَلَ هذا كلَّه أمرًا .

6- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي هذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على اقتضاءِ الأمرِ للوجوبِ؛ لأنَّه أطلَق اسمَ المعصيةِ على عدمِ امتثالِ الأمرِ ، فتاركُ المأمورِ به عاصٍ، والعاصي مستحقٌّ للعقابِ .

7- إعفاءُ اللِّحيةِ هو مِن هَديِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، ففي قَولِه تعالى عن هارونَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي دَليلٌ على أنَّ لهارونَ لِحْيَةً يمكنُ الإمساكُ بها ، وهذه الآيةُ الكريمةُ بضميمةِ آيةِ (الأنعام) إليها تدلُّ على لزومِ إعفاءِ اللحيةِ، فهي دليلٌ قرآنيٌّ على إعفاءِ اللحيةِ وعدمِ حلقِها. وآيةُ الأنعامِ المذكورةُ هي قولُه تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ ... الآية [الأنعام: 84] . ثم إنَّه تعالى قال بعدَ أن عدَّ الأنبياءَ الكرامَ المذكورين: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، فدلَّ ذلك على أنَّ هارونَ من الأنبياءِ الذين أُمِر نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم بالاقتداءِ بهم، وأمرُه صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك أمرٌ لنا؛ لأنَّ أمرَ القدوةِ أمرٌ لأتباعِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي

- قولُه: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ جُملةٌ قَسَميةٌ مُؤكِّدةٌ لِمَا قبْلَها من الإنكارِ والتَّشنيعِ، ببَيانِ عُتوِّهم واستعصائِهم على الرَّسولِ إثْرَ بَيانِ مُكابَرَتِهم لقضيَّةِ العُقولِ

.

- وافتتاحُ خِطابه بـ يَا قَوْمِ تَمهيدٌ لمَقامِ النَّصيحةِ .

- قولُه: إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ القصْرُ المُستفادُ من كَلمةِ إِنَّمَا إلى نفْسِ الفِعْلِ، على معنى: إنَّما فُعِلَ بكمُ الفِتْنةُ، لا الإرشادُ إلى الحقِّ .

- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ إرشادٌ لهم إلى الحقِّ إثْرَ زجْرِهم عن الباطلِ. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ والرَّحمةِ؛ للاعتناءِ باستمالَتِهم إلى الحقِّ، وفي ذلك تذكيرٌ لتخليصِهم مِن فرعونَ زمانَ لم يُوجَدِ العجلُ. وكذا -على ما قيل- تنبيهٌ على أنَّهم متى تابوا قَبِلهم .

- والفاءُ في قولِه: فَاتَّبِعُونِي لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها من مَضمونِ الجُملتينِ، أي: إذا كان الأمْرُ كذلك، فاتَّبِعوني في الثَّباتِ على الدِّينِ .

- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فيه توكيدٌ بـ (إنَّ)، والحصْرُ بتَعريفِ طرفَيِ الجُملةِ، أي: إنَّ ربَّكم المُستحِقَّ للعبادةِ هو الرَّحمنُ لا غيرُ .

- وفي إيثارِ المُضارعِ في قولِه: أَفَلَا يَرَوْنَ، وعطْفِ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ عليه؛ للدَّلالةِ على استحضارِ تلك الحالةِ الفظيعةِ في ذِهْنِ السَّامعِ، واستدعاءِ الأفكارِ عليهم .

2- قوله تعالى: قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى

- قولُه: قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ عَلَيْهِ مُتعلِّقٌ بـ عَاكِفِينَ؛ قُدِّمَ على مُتعلَّقِه لتَقويةِ الحُكْمِ، أو أرادوا: لنْ نبرَحَ نخُصُّه بالعُكوفِ، لا نعكُفُ على غيرِه؛ فيكونُ التَّقديمُ للاختصاصِ .

3- قولُه تعالى: قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا استئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من حِكايةِ جَوابِهم لهارونَ عليه السَّلامُ؛ كأنَّه قيلَ: فماذَا قال مُوسى لهارونَ عليهما السَّلامُ حين سمِعَ جوابَهم له؟ وهل رَضِيَ بسُكوتِه بعْدَما شاهَدَ منهم ما شاهَدَ؟ فقِيلَ: قال له وهو مُغتاظٌ قد أخَذَ بلِحْيَتِه ورأْسِه... .

- وفيه إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: فرجَعَ مُوسى، ووجَدَهم عاكِفينَ على عِبادةِ العِجْلِ، قال: يا هارونُ... .

- والاستفهامُ في قولِه: مَا مَنَعَكَ إنكاريٌّ، أي: لا مانِعَ لك من اللَّحاقِ بي؛ لأنَّه أقامَهُ خليفةً عنه فيهم، فلمَّا لم يَمْتَثِلوا أمْرَه، كان عليه أنْ يرُدَّ الخِلافةَ إلى مَنِ استخلَفَه .

4- قولُه تعالى: أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي الاستفهامُ للإنكارِ التَّوبيخيِّ، والفاءُ في أَفَعَصَيْتَ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المَقامُ، أي: ألَمْ تتَّبِعني؟ أو أخالَفْتَني فعصَيْتَ أمْري ؟

- والاستفهامُ في قولِه: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي مُفرَّعٌ على الإنكارِ، فهو إنكارٌ ثانٍ على مُخالَفةِ أمْرِه، مَشوبٌ بتَقريرٍ للتَّهديدِ .

- و(لَا) في قولِه: أَلَّا تَتَّبِعَنِ زائدةٌ؛ للتَّوكيدِ، أي: ما مَنعَكَ أنْ تَتَّبِعني؛ فزِيادةُ لَفظةِ (لا) لتوكيدِ الكلامِ وتَقويتِه أسلوبٌ مِن أساليبِ اللُّغةِ العربيَّةِ، وهو أغلبُ في النفيِ وما يُشبِهُه، كالمنعِ هنا في قولِه: مَا مَنَعَكَ .

5- قوله تعالى: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي

- قولُه: قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ عدَلَ عن (يا أخِي) -وإنْ كان شقيقَه- إلى (ابنَ أُمَّ) فخَصَّ الأُمَّ بالإضافةِ؛ استِعظامًا لحَقِّها، واستِعْطافًا وتَرقيقًا لقَلْبِه؛ فذِكْرُ الأُمِّ هاهنا أَرَقُّ وأبلغُ، وهو تَذكيرٌ بأقْوى أواصرِ الأُخوَّةِ، وهي آصِرَةُ الوِلادةِ من بطْنٍ واحدٍ، والرَّضاعُ من لِبانٍ واحدٍ، ولأنَّ الأمَّ يَسوءُها ما يَسوءُه، وهي أرقُّ مِن الأبِ .

- وعطَفَ الرَّأسَ على اللِّحْيةِ؛ لأنَّ أخْذَه مِن لِحيَتِه أشَدُّ ألَمًا، وأنْكَى في الإذلالِ .

- قولُه: إِنِّي خَشِيتُ استئنافٌ سِيقَ لتَعليلِ مُوجِبِ النَّهيِ، ببَيانِ الدَّاعي إلى ترْكِ المُقاتَلةِ، وتَحقيقِ أنَّه غيرُ عاصٍ لأمْرِه، بل مُمْتَثِلٌ به .

=====================

 

سورةُ طه

الآيات (95-98)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ

غريب الكلمات:

 

خَطْبُكَ: أي: أمرُك وشَأنُك، والخَطبُ: الأمرُ يقَعُ؛ وإنَّما سُمِّيَ بذلك لِما يقَعُ فيه من التخاطُبِ والمُراجَعةِ

.

بَصُرْتُ: أي: رأيتُ وعلِمتُ، وأصلُ (بصر): يدُلُّ على العِلمِ بالشَّيءِ .

فَنَبَذْتُهَا: أي: قَذَفتُها، وألقَيْتُها، وأصلُ النَّبذِ: طَرْحُ الشَّيءِ وإلقاؤُه .

سَوَّلَتْ: أي: زَيَّنَتْ، والتَّسْويلُ: تزيينُ النَّفسِ لِما تَحرِصُ عليه، وتصويرُ القَبيحِ منه بصورةِ الحَسَنِ .

لَا مِسَاسَ: أي: لا تَمسُّ النَّاسَ ولا يمَسُّونَك، أو كنايةٌ عن الطَّردِ والوَحدةِ، وأصلُ (مسَّ): جَسُّ الشَّيءِ باليَدِ .

ظَلْتَ عَلَيْهِ: أي: دُمتَ وأقَمْتَ عليه، يُقَال: ظلَّ يفعَلُ كذا: إذا فعَلَه نَهارًا .

لَنَنْسِفَنَّهُ: أي: لَنَقذِفَنَّه ولَنُذرِّيَنَّه، يقال: نَسَفت الريحُ الشَّيءَ: إذا اقتَلَعَتْه وأزالَتْه، وأصلُ (نسف): يدُلُّ على كشفِ شيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى عن موسَى عليه السلامُ أنَّه بعدَ أن انتهَى مِن سماعِ اعتذارِ أخيه هارونَ، اتَّجهَ إلى السَّامِريِّ أصلِ الفتنةِ، فسأَله موبخًا له: فما شأنُكَ يا سامِريُّ، وما الذي حَمَلك على ما صَنعْتَ؟ قال السَّامريُّ: رأيتُ ما لم يرَ بنو إسرائيلَ، وعلمْتُ ما لم يَعْلَموا، فأخذتُ بكَفِّي ترابًا مِن أثَرِ حافِرِ فَرَسِ جِبريلَ، فألقيتُه على الحُلِيِّ الذي صَنَعتُ منه العِجلَ، فكان عِجلًا جَسَدًا له خُوارٌ، وكذلك زيَّنَت لي نَفسي.

قال موسى للسَّامريِّ: فاذهَبْ، فإنَّ لك مدَّةَ حياتِك الدُّنيا أن تعيشَ منبوذًا قائلًا لكلِّ أحَدٍ: لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ؛ عقوبةً لك على إضلالِك بني إسرائيلَ، وإنَّ لك مَوعِدًا لعذابِك لن يُخْلِفَك اللهُ إيَّاه، وانظُرْ إلى مَعبودِك الذي أقمْتَ على عبادتِه، لنُحَرِّقنَّه في النَّارِ، ثم لَنُفرِّقَنَّ أجزاءَه في البَحرِ تفريقًا لا يبقَى معه شَيءٌ منه. إنَّما إلهُكم هو اللهُ الذي لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا هو، وَسِعَ عِلمُه كُلَّ شَيءٍ.

تفسير الآيات:

 

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95).

أي: قال موسى: فما شأنُكَ -يا سامِريُّ-، وما الذي حَمَلك على ما صَنعْتَ

؟!

قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96).

قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ.

أي: قال السَّامريُّ لموسى: رأيتُ ما لم يرَ بنو إسرائيلَ، وعلمْتُ ما لم يَعْلَموا !

فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ.

أي: فأخذتُ بكَفِّي ترابًا من أثَرِ حافِرِ فَرَسِ جِبريلَ !

فَنَبَذْتُهَا.

أي: فألقيتُ قَبضةَ التُّرابِ ، فكان منها ما تَراه .

وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي.

أي: وكذلك زيَّنَتْ وحسَّنَت لي نفسي .

قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97).

قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ.

أي: قال موسى للسَّامريِّ: فلأنَّك أخذْتَ ومَسِستَ ما لم ينبغِ لك أخْذُه ومَسُّه مِن أثَرِ الرَّسولِ، فاخرجْ مِن بَينِنا وتباعَدْ منَّا؛ فإنَّ لك مدَّةَ حياتِك الدُّنيا أن تقولَ: لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ، فلا يمسُّك ولا يخالِطُك ولا يقربُك أحدٌ من النَّاسِ، ولا تمسُّ ولا تخالطُ ولا تقربُ أحدًا منهم؛ عقوبةً لك على إضلالِك بني إسرائيلَ .

وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ.

أي: وإنَّ لك -يا سامريُّ- وعدًا لِعَذابِك لن يُخلِفَكه اللهُ .

وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ.

أي: وانظُرْ -يا سامِريُّ- إلى مَعبودِك العِجلِ الذي بَقِيتَ مُلازِمًا لعبادتِه، واللهِ لَنُحَرِّقَنَّه في النَّارِ .

ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا.

أي: ثم لَنُفرِّقَنَّ أجزاءَه في البَحرِ تفريقًا لا يبقَى معه شَيءٌ منه .

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا فَرَغ موسى عليه السَّلامُ مِن إبطالِ ما عَمِلَه السَّامريُّ؛ عاد إلى بيانِ الدِّينِ الحَقِّ .

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.

أي: إنَّما معبودُكم اللهُ المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحدَه، الذي لا معبودَ بحَقٍّ إلَّا هو .

كما قال تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النساء: 171].

وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.

أي: أحاط اللهُ بكُلِّ شَيءٍ عِلمًا، فلا يخفَى عليه شَيءٌ، ولا يَضيقُ عليه عِلمُ جَميعِ ذلك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ هذه الآيةُ أصلٌ في نَفيِ أهلِ البِدَعِ والمعاصي، وهِجرانِهم، وألَّا يُخالَطوا

.

2- مَرتبةُ تغييرِ المنكَرِ باليَدِ سَنَّها أبو الأنبياءِ إبراهيمُ، حين راغ على تلك الأوثانِ ضَربًا باليَمينِ حتى جعَلَها جُذاذًا وحَطَّمها تحطيمًا، وتَبِعَه فيها موسى حينما قال للسَّامريِّ: وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا، وتَبِعَهما خِتامُهم وأفضَلُهم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، فحَطَّم أوثانَ العَرَبِ المحيطةَ بمكَّةَ، وأرسلَ أصحابَه يَهدِمونَها في كلِّ حيٍّ .

3- قَولُ الله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا قد يستدل به على جواز إتلاف الحيوان إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك، ومنه قتلُ البهيمةِ المفعولِ بها

 

، وهذا على اعتبارِ أنَّ العجلَ كان حقيقيًّا.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ استئنافٌ وقَعَ جوابًا عمَّا نشَأَ من حِكايةِ ما سلَفَ مِن اعتذارِ القومِ بإسنادِ الفسادِ إلى السَّامريِّ، واعتذارِ هارونَ عليه السَّلامُ؛ كأنَّه قِيلَ: فماذا صنَعَ مُوسى عليه السَّلامُ بعْدَ سَماعِ ما حُكِيَ من الاعتذارينِ واستقرارِ أصْلِ الفِتْنةِ على السَّامريِّ؟ فقيل: قال مُوبِّخًا له: هذا شأْنُهم، فما خطْبُك

؟

2- قوله تعالى: قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي

- قولُه: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا الرَّسولُ هو جِبريلُ عليه السَّلامُ -على أحدِ القولين في التفسيرِ-، ولعلَّه لم يُسَمِّه؛ لأنَّه لم يعرِفْه إلا بهذا العنوانِ، أو لأنَّ ذِكْرَه بعُنوانِ الرِّسالةِ فيه إشعارٌ بوُقوفِه على ما لم يَقِفْ عليه القومُ من الأسرارِ الإلهيَّةِ؛ تأكيدًا لِمَا صَدَّرَ به مَقالتَه. أو أرادَ أنْ يُنبِّهَ على وقْتِ أخْذِ ما أخَذَ .

- قولُه: وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (كذلك) إشارةٌ إلى مَصدرِ الفِعْلِ المذكورِ بعْدَه، ومَحلُّ (كذلك) في الأصلِ النَّصْبُ، على أنَّه مَصدرٌ تَشبيهيٌّ، أي: نَعتٌ لمصدرٍ مَحذوفٍ، والتَّقديرُ: سوَّلَتْ لي نفْسي تَسويلًا كائنًا مثْلَ ذلك التَّسويلِ؛ فقُدِّمَ على الفِعْلِ لإفادةِ القصْرِ، واعتُبِرَتِ الكافُ مُقْحَمةً؛ لإفادةِ تأكيدِ ما أفادهُ اسمُ الإشارةِ من الفَخامةِ؛ فصار نفْسَ المَصدرِ المُؤكِّدِ لا نَعتًا له، أي: ذلك التَّزيينَ البديعَ زَيَّنَت لي نفْسي ما فعَلْتُه، لا تَزيينًا أدْنى منه؛ ولذلك فعلْتُه .

- والتَّشبيهُ في قولِه: وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي تَشبيهُ الشَّيءِ بنفْسِه، أي: كذلك التَّسويل سوَّلَت لي نفْسي، أي: تَسويلًا لا يقبَلُ التَّعريفَ بأكثَرَ من ذلك .

- وفي هذه الآياتِ إيجازٌ واضحٌ جِدًّا؛ لأنَّ تَسَلْسُلَ الحوادثِ يَقْتضي تَقديرَ جُمَلٍ لا بُدَّ منها، وقد ورَدَ الحذْفُ في قولِه تعالى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ؛ فقد حُذِفَ المُضافُ مُكرَّرًا هنا، والتَّقديرُ: من أثَرِ حافِرِ فرَسِ الرَّسولِ .

3- قوله تعالى: قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا

- قولُه: قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ دخلَتِ الفاءُ للتَّعقيبِ إثْرَ المُحاوَرةِ، وطَرْدِه بلا مُهلةٍ زمانيَّةٍ. وعبَّرَ بالمُماسَّةِ عن المُخالَطةِ؛ لأنَّها أدنَى أسبابِ المُخالَطةِ، فنبَّهَ بالأدنَى على الأعلَى .

- وقولُه: فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ... تعليلٌ لمُوجِبِ الأمْرِ .

- وفي قولِه: وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا جعَلَ الاستدلالَ بالنَّظرِ إشارةً إلى أنَّه دليلٌ بيِّنٌ، لا يَحتاجُ المُستدِلُّ به إلى أكثَرَ من المُشاهَدةِ؛ فإنَّ دَلالةَ المحسوساتِ أوضَحُ مِن دَلالةِ المعقولاتِ. وأُضِيفَ الإلهُ إلى ضَميرِ السَّامريِّ في قولِه: إِلَهِكَ؛ تَهكُّمًا بالسَّامريِّ وتَحقيرًا له، ووصَفَ ذلك الإلهَ المزعومَ بطَريقِ الموصوليَّةِ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا؛ لِمَا تدُلُّ عليه الصِّلةُ مِن التَّنبيهِ على الضَّلالِ والخطَأِ، أي: الَّذي لا يَستحِقُّ أنْ يُعْكَفَ عليه .

- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: عَلَيْهِ عَاكِفًا؛ للتَّخصيصِ، أي: الَّذي اخترْتَه للعِبادةِ دونَ غيرِه، أي: دونَ اللهِ تعالى .

- قولُه: ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (ثُمَّ) للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ نَسْفَ العِجْلِ أشَدُّ في إعدامِه من تَحريقِه وأذَلُّ له. وأُكِّدَ (نَنْسِفنَّه) بالمفعولِ المُطلَقِ نَسْفًا؛ إشارةً إلى أنَّه لا يَتردَّدُ في ذلك، ولا يَخْشَى غضَبَه، كما يَزْعمون أنَّه إلَهٌ .

4- قوله تعالى: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا

- قولُه: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ ... استئنافٌ مَسوقٌ لتَحقيقِ الحقِّ إثْرَ إبطالِ الباطلِ، بتَلوينِ الخِطابِ وتَوجيهِه إلى الكلِّ، أي: إنَّما مَعبودُكم المُستحِقُّ للعِبادةِ اللهُ .

- وهذه الجُملةُ من حِكايةِ كَلامِ مُوسى عليه السَّلامُ؛ فمَوقِعُها موقِعُ التَّذييلِ لوعْظِه، وقدِ الْتَفَتَ من خِطابِ السَّامريِّ إلى خِطابِ الأُمَّةِ؛ إعراضًا عن خِطابِه؛ تَحقيرًا له، وقصْدًا لتَنبيهِهم على خطَئِهم، وتَعليمِهم صِفاتِ الإلهِ الحقِّ. واقتصَرَ منها على الوَحدانيَّةِ، وعُمومِ العِلْمِ؛ لأنَّ الوحدانيَّةَ تجمَعُ جَميعَ الصِّفاتِ، وأمَّا عُمومُ العِلْمِ فهو إشارةٌ إلى عِلْمِ اللهِ تعالى بجَميعِ الكائناتِ الشَّاملةِ لأعمالِهم؛ ليَرقُبُوه في خاصَّتِهم .

- قولُه: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أفاد لفْظُ (كل) العُمومَ؛ فالمعنى: وسِعَ عِلْمُه كلَّ شَيءٍ، بحيثُ لا يَضِيقُ عِلْمُه عن شَيءٍ، أي: لا يَقْصُرُ عنِ الاطِّلاعِ على أخْفى الأشياءِ .

===================

 

سورةُ طه

الآيات (99-104)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ

غريب الكلمات :

 

زُرْقًا: قيل: أي: زُرقَ العُيونِ، وقيل: بِيضَ العيونِ مِن العمَى، قد ذهَب السَّوادُ والنَّاظِرُ، وأصلُ الزُّرقةِ: يدُلُّ على لَونٍ

.

يَتَخَافَتُونَ: أي: يتَسارُّونَ، ويتهامَسونَ بينَهم، وأصلُ (خفت): يدلُّ على إسرارٍ وكِتمانٍ .

أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: أي: أعدَلُهم رَأيًا، أو عَمَلًا وقَولًا، يُقالُ: فلانٌ أمثَلُ بني فلانٍ: أي: أدناهم للخَيرِ، أي: إنَّه مُماثِلٌ لأهلِ الصَّلاحِ والخَيرِ، وهؤلاءِ أماثِلُ القَومِ، أي: خيارُهم. وأصلُ (مثل): يدُلُّ على نظيرِ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: كما قَصَصْنا عليك -يا مُحمَّدُ- قصَّةَ موسى وفِرعَونَ وقَومِهما، كذلك نقُصُّ عليك أنباءَ السَّابقينَ لك، وقد آتيناك مِن عِندِنا هذا القُرآنَ العَظيمَ.

ثمَّ بيَّن تعالى عاقبةَ مَن يعرضُ عن هذا القرآنِ، فقال: مَن أعرَضَ عنه فلم يؤمِنْ به ولم يعمَلْ بما فيه، فإنَّه يأتي رَبَّه يومَ القيامةِ يحمِلُ إثمًا عظيمًا، خالدينَ في جزاء هذا الإثمِ في النارِ، وبِئسَ ذلك الحِملُ الثَّقيلُ يومَ القيامةِ.

ثمَّ بيَّن سبحانَه أحوالَ المجرمينَ عندَ الحشرِ، فقال: يومَ يَنفُخُ الملَكُ في «القَرنِ» فتُبعَثونَ بأمرِ اللهِ، ونحشُرُ الكافرينَ ذلك اليومَ وهم زُرقٌ. يتهامَسونَ بينهم، يقولُ بَعضُهم لبعضٍ: ما لَبِثتُم في الحياةِ الدُّنيا إلَّا عَشَرةَ أيَّامٍ فحَسْبُ. نحن أعلَمُ بما يقولونَ ويُسِرُّونَ حين يقولُ أعلَمُهم وأعدَلُهم قَولًا: ما لبثتُم في الدُّنيا إلَّا يومًا واحدًا!

تفسير الآيات:

 

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما بدأت السورةُ بالحديثِ عن القرآنِ، وأنَّه لم ينزلْ على الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم ليشقَى به أو بسببِه. وكان مِن القرآنِ قصةُ موسَى عليه السلام وما يبدو فيها مِن رعايةِ الله وعنايتِه بموسَى وأخيه وقومِه- أعقَب السياقَ على القصةِ بالعودةِ إلى القرآنِ ووظيفتِه، وعاقبةِ مَن يُعرِض عنه.

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ.

أي: كما قَصَصْنا عليك -يا مُحمَّدُ- قصَّةَ موسى وفِرعَونَ وقَومِه، وأخبارَ بني إسرائيلَ مع موسى؛ كذلك

نقصُّ عليك مِن الأخبارِ الماضيةِ التي سَبَقَت مِن قَبلِك، فلم تُشاهِدْها .

كما قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49] .

وقال سُبحانَه: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود: 120] .

وقال عزَّ وجلَّ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 3] .

وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78] .

وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا.

أي: وقد أعْطَيْناك -يا محمَّدُ- مِن عِندِنا عطيَّةً نَفيسةً، وهي القرآنُ الكريمُ .

كما قال تعالى: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران: 58] .

وقال سُبحانَه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ [الأنبياء: 50] .

وقال تبارك وتعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .

مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100).

أي: مَن أعرَضَ عن القُرآنِ، فلم يؤمِنْ به، ولم يَعمَلْ بما فيه؛ فإنَّه يأتي يومَ القيامةِ وهو يحمِلُ إثمًا عظيمًا .

كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود: 17] .

خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101).

خَالِدِينَ فِيهِ.

أي: ماكِثينَ في جزاءِ هذا الوزرِ؛ في النَّارِ، لا يَخرُجونَ منها .

وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا.

أي: وبِئسَ للمُعرِضينَ عن القُرآنِ حِملُهم الثَّقيلُ مِن الآثامِ يومَ القيامةِ .

كما قال تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام: 31] .

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102).

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.

أي: وذلك يومَ يُنفَخُ في القَرْنِ بأمرِ الله، فيُحيي سبحانَه الموتَى بتلك النَّفخةِ .

كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((كيف أنعَمُ وقد الْتقمَ صاحبُ القَرنِ القَرنَ، وحنَى جَبهَتَه، وأصْغَى سَمعَه، ينتَظِرُ أن يُؤمَرَ أن يَنفُخَ فينفُخَ، قال المُسلِمونَ: فكيف نقولُ يا رَسولَ اللهِ؟ قال: قولوا: حَسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، توكَّلْنا على اللهِ ربِّنا)) وربَّما قال سُفيانُ: على اللهِ توكَّلْنا .

وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا.

أي: ونحشُرُ الكافِرينَ والمُشرِكينَ يومَ القيامةِ زُرقًا .

يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103).

أي: يتهامَسُ المُجرِمونَ بينهم، يقولُ بَعضُهم لبعضٍ سِرًّا: ما لَبِثتُم في الدُّنيا إلَّا عَشَرةَ أيَّامٍ فحَسْبُ !

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)  .

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ.

أي: نحنُ أعلَمُ منهم بما يقولُ بَعضُهم لبعضٍ، ونَسمَعُ تناجيَهم، لا يخفَى علينا منه شيءٌ .

إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا.

أي: حينَ يَقولُ أعقَلُهم، وأعلَمُهم، وأعدَلُهم قَولًا، وأقرَبُهم إلى التَّقديرِ: ما لَبِثتُم في الدُّنيا إلَّا يَومًا واحِدًا

 

!

كما قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 112 - 114] .

الفوائد التربوية:

 

1- يجِبُ على الأمَّةِ تلَقِّي القرآنِ بالقَبولِ والتَّسليمِ، والانقيادِ والتَّعظيمِ، وأن يُهتدَى بنُورِه إلى الصِّراطِ المُستَقيمِ، وأن يُقبِلوا عليه بالتعَلُّمِ والتَّعليم. وأمَّا مُقابلَتُه بالإعراضِ، أو ما هو أعظمُ منه مِن الإنكارِ؛ فإنَّه كُفرٌ لهذه النِّعمةِ، ومَن فعَلَ ذلك فهو مُستَحِقٌّ للعقوبةِ؛ قال الله تعالى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا

.

2- قال الله تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا، وقال: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205 - 207] ، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس: 45] ، وقال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات: 46] ، وقال تعالى: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 113-114] ، وقال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [الأحقاف: 35] ؛ فهذه الآيات فيها كفايةٌ في قِصَرِ الأمَلِ، وهو العلمُ بقُرْبِ الرَّحيلِ، وسُرعةِ انقضاءِ مُدَّةِ الحياةِ، وهو مِن أنفعِ الأمورِ للقَلبِ؛ فإنَّه يَبعَثُه على مُغَافَصةِ الأيَّامِ، وانتهازِ الفُرَصِ التي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ، ومبادرةِ طَيِّ صحائفِ الأعمالِ، ويُثيرُ ساكنَ عَزَماتِه إلى دارِ البقاءِ، ويَحُثُّه على قضاءِ جَهازِ سَفرِه، وتدارُكِ الفارطِ، ويُزَهِّدُه في الدنيا، ويُرَغِّبُه في الآخرةِ، فيقومُ بقَلبِه إذا داوَمَ مُطالعةَ قِصَرِ الأمَلِ شاهِدٌ مِن شواهِدِ اليَقينِ، يريدُ فَناءَ الدُّنيا، وسُرعةَ انقضائِها، وقِلَّةَ ما بَقِيَ منها، وأنَّها قد ترحَّلَت مُدبِرةً، وأنَّها لم يبقَ منها إلَّا كما بَقِيَ مِن يومٍ صارت شَمسُه على رُؤوسِ الجبالِ، ويُريه بقاءَ الآخرةِ ودوامَها، وأنَّها قد ترحَّلَت مُقبِلةً، وقد جاء أشراطُها وعلاماتُها، وأنَّه مِن لقائِها كمُسافرٍ خَرَج صاحِبُه يتلَقَّاه، فكُلٌّ منهما يسيرُ إلى الآخَرِ، فيُوشِكُ أن يلتَقِيَا سريعًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا في تسميةِ القرآنِ بالذِّكرِ وُجوهٌ:

أحدُها: أنه كتابٌ فيه ذِكرُ ما يحتاجُ إليه النَّاسُ مِن أمرِ دينِهم ودنياهم.

وثانيها: أنَّه يذكِّرُ أنواعَ آلاءِ الله تعالى ونعمائِه، ففيه التذكيرُ والمواعِظُ.

وثالثها: فيه الذِّكرُ والشَّرَفُ لك ولِقَومِك على ما قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ

[الزخرف: 44] .

2- في قَولِ الله تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا إنْ قيل: إمَّا أن يُقالَ: إنَّهم نَسُوا قَدْرَ لُبثِهم في الدُّنيا، أو ما نَسُوا ذلك؛ والأوَّلُ غيرُ جائزٍ؛ إذ لو جاز ذلك لجاز أن يبقَى الإنسانُ خمسين سَنةً في بلدٍ ثمَّ ينساه. والثَّاني غيرُ جائزٍ؛ لأنَّه كَذِبٌ، وهذا الكَذِبُ لا فائدةَ فيه؟

والجوابُ فيه وجوهٌ:

الوجهُ الأوَّلُ: لعَلَّهم إذا حُشِروا في أوَّلِ الأمرِ وعاينوا تلك الأهوالَ؛ فلشِدَّةِ وَقْعِها عليهم ذَهَلوا عن مِقدارِ عُمُرِهم في الدُّنيا، وما ذكَروا إلَّا القليلَ، والإنسانُ عندَ الهولِ الشَّديدِ قد يَذهَلُ عن أظهرِ الأشياءِ، وتمامُ تقريرِه مذكورٌ في سورةِ الأنعام في قَولِه تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] .

الوَجهُ الثَّاني: أنَّهم عالِمونَ بمِقدارِ عُمُرِهم في الدُّنيا إلَّا أنَّهم لَمَّا قابلوا أعمارَهم في الدُّنيا بأعمارِ الآخرةِ وَجدوها في نهايةِ القِلَّةِ، فقال بعضُهم: ما لَبِثْنا في الدُّنيا إلَّا عَشَرةَ أيامٍ! وقال أعقَلُهم: بل ما لَبِثْنا إلَّا يومًا واحدًا، أي: قَدْرُ لُبثِنا في الدُّنيا بالقياسِ إلى قَدْرِ لُبثِنا في الآخِرةِ كعَشَرةِ أيامٍ، بل كاليَومِ الواحِدِ، بل كالعَدَمِ! وإنَّما خُصَّ العَشَرةُ والواحِدُ بالذِّكرِ؛ لأنَّ القليلَ في أمثالِ هذه المواضِعِ لا يُعبَّرُ عنه إلَّا بالعَشَرةِ والواحِدِ.

الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّهم لَمَّا عايَنوا الشَّدائدَ تذكَّروا أيامَ النِّعمةِ والسُّرورِ، وتأسَّفوا عليها، فوصَفوها بالقِصَرِ؛ لأنَّ أيامَ السُّرورِ قِصارٌ.

الوَجهُ الرَّابِعُ: أنَّ أيامَ الدُّنيا قد انقَضَت، وأيَّامُ الآخرةِ مُستَقبَلةٌ، والذَّاهِبُ وإن طالت مُدَّتُه قليلٌ بالقياسِ إلى الآتي وإن قَصُرت مدتُه، فكيف والأمرُ بالعَكسِ؟! ولهذه الوجوهِ رجَّح اللهُ تعالى قَولَ مَن بالغَ في التَّقليلِ، فقال: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا .

3- إذا ذُكِرَ العددُ دونَ مَعدودِه المُذَكَّرِ، جاز فيه الوَجهانِ؛ حذفُ التاءِ، وذِكرُها، وعلى هذا جاء قَولُه تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا، فالعَشْرُ هنا أيامٌ؛ بدَليلِ ما بَعدَها: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا

- قولُه: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ تَذييليَّةٌ؛ خُوطِبَ بها النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بطَريقِ الوعْدِ الجميلِ بتَنزيلِ أمثالِ ما مَرَّ من أنباءِ الأُمَمِ السَّالفةِ. و(ذلك) إشارةٌ إلى اقتصاصِ حَديثِ مُوسى عليه السَّلامُ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ رُتْبتِه، وبُعدِ مَنزلتِه في الفضْلِ

.

- وفي قولِه: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ تَشبيهٌ، والتَّقديرُ: مثْلَ هذا القَصصِ نقَصُّ عليك من أنباءِ القُرونِ الماضيةِ؛ فالتَّشبيهُ راجِعٌ إلى تَشبيهِها بنفْسِها؛ كِنايةً عن كونِها إذا أُرِيدَ تَشبيهُها وتَقريبُها بما هو أعرَفُ منها في بابِها، لم يجِدْ مُرِيدُ ذلك طَريقًا لنفْسِه في التَّشبيهِ إلَّا أنْ يُشبِّهَها بنفْسِها؛ لأنَّها لا يَفوقُها غيرُها في بابِها حتَّى تُقرَّبَ به .

- والمُرادُ بقولِه: نَقُصُّ: قَصَصْنا، وإنَّما صِيغَ المُضارِعُ؛ لاستحضارِ الحالةِ الحَسنةِ في ذلك القَصصِ .

- وتَقديمُ عَلَيْكَ على قولِه: مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ؛ للاعتناءِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .

- قولُه: وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مِنْ لَدُنَّا تَوكيدٌ لمعنى آَتَيْنَاكَ، وتَنويهٌ بشأْنِ القُرآنِ بأنَّه عطيَّةٌ كانت مَخزونةً عندَ اللهِ، فخَصَّ بها خيرَ عِبادِه .

- ونُكِّرَ ذِكْرًا للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ .

- وتأخيرُه عن الجارِّ والمجرورِ -مِنْ لَدُنَّا-؛ لِمَا أنَّ مَرجِعَ الإفادةِ في الجُملةِ كونُ المُؤْتَى من لدُنْه تعالى ذِكْرًا عَظيمًا، وقُرآنًا كريمًا جامِعًا لكلِّ كَمالٍ، لا كونُ ذلك الذِّكْرِ مُؤْتًى من لدُنْه عَزَّ وجَلَّ، مع ما فيه مِن نَوعِ طُولٍ بما بعْدَه مِن الصِّفةِ، فتَقديمُه يَذهَبُ برَونقِ النَّظمِ الكريمِ .

2- قوله تعالى: مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا

- قولُه: فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا يُرِيدُ بالوزْرِ: العُقوبةَ الثَّقيلةَ الباهظةَ، سمَّاها وِزْرًا؛ تَشبيهًا في ثقَلِها على المُعاقَبِ، وصُعوبةِ احتمالِها؛ بالحِمْلِ الَّذي يُثقِلُ الحامِلَ، وينقُضُ ظَهْرَه. أو لأنَّها جَزاءُ الوِزْرِ، وهو الإثْمُ ، فعبَّرَ عن العُقوبةِ بالوِزرِ؛ لأنَّه سَبَبُها .

3- قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا

- جمَعَ خَالِدِينَ على المعنى؛ لِمَا أنَّ الخُلودَ في النَّارِ ممَّا يَتحقَّقُ حالَ اجتماعِ أهْلِها .

- قولُه: وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا المَخصوصُ بالذَّمِّ مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ الوزْرِ السَّابقِ عليه، تَقديرُه: ساء حِمْلًا وِزْرُهم. واللَّامُ في قولِه: وَسَاءَ لَهُمْ لامُ التَّبيينِ. وهي مُبيِّنةٌ للمفعولِ في المعنى؛ لأنَّ أصْلَ الكلامِ: ساءَهُم الحِمْلُ؛ فَجِيءَ باللَّامِ لزِيادةِ تَبْيينِ تعلُّقِ الذَّمِّ بحمْلِه، فاللَّامُ لبَيانِ الَّذين تعلَّقَ بهم سُوءُ الحمْلِ .

- وإعادةُ يومِ القيامةِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ، وتَهويلِ الأمْرِ ، فإنهم لَمَّا كانوا مُنكِرينَ لِيَومِ القيامةِ، صرَّحَ بذِكرِه ثانيًا مع قُربِ العَهدِ، قارِعًا لأسماعِهم به، مُجريًا له إجراءَ ما هو به جَديرٌ مِن أنَّه مُتحَقِّقٌ، لا مِريةَ فيه .

4- قوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا

- قولُه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدَلٌ من يَوْمَ الْقِيَامَةِ في قولِه: وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا، وهو اعتراضٌ بينَ جُملةِ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه: 99] وما تَبِعَها، وبين جُملةِ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا [طه: 113] ؛ تخلُّصٌ لذِكْرِ البَعْثِ، والتَّذكيرِ به، والنِّذارةِ بما يحصُلُ للمُجْرِمين يومئذٍ .

- قولُه: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ، أي: يومَ إذ يُنْفَخُ في الصُّورِ، وذِكْرُه صَريحًا مع تَعيُّنِ أنَّ الحشْرَ لا يكونُ إلَّا يومئذٍ؛ للتَّهويلِ .

5- قوله تعالى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا

- قولُه:   إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا مُبيِّنةٌ لجُملةِ يَتَخَافَتُونَ ، والتَّقديرُ: إنْ لبِثْتُم إلَّا عشَرةَ أيَّامٍ، وحسَّنَ الحذفَ هنا كونُ ذلك فاصِلَةَ رأْسِ آيةٍ

====================

 

سورةُ طه

الآيات (105-110)

ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات:

 

يَنْسِفُهَا: أي: يَقلَعُها مِن أُصولِها، ويُقالُ: يُذريها ويُطَيِّرُها، يُقالُ: نَسَفَت الريحُ الشَّيءَ: أي: اقتلَعَتْه وأزالَتْه

.

قَاعًا: أي: سهلةً مُستويةً، والقاعُ والقِيعُ: المستوي مِن الأرضِ، والموضعُ المنكشفُ، وأصلُ (قوع): يدلُّ على تبسُّطٍ في مكانٍ .

صَفْصَفًا: أي: خاليةً، مَلساءَ، لا نباتَ فيها، ولا بِناءَ ولا ارتفاعَ ولا انْحِدارَ، والصَّفْصَفُ: المستوي مِن الأرضِ، كأنَّه على صفٍّ واحدٍ، وأصلُ (صفف): يدلُّ على استواءٍ .

عِوَجًا: أي: هبوطًا أو مَيلًا، وأصل (عوج): يدلُّ على مَيلٍ في الشَّيءِ .

أَمْتًا: أي: ارتفاعًا، والأمتُ: المكانُ المُرتَفِعُ، وأصلُ الأمتِ: أن يَغلُظَ مكانٌ، ويَرِقَّ مكانٌ .

هَمْسًا: أي: صَوتًا خَفيفًا، وقيل: هو الوَطءُ الخَفيُّ؛ وطءُ الأقدامِ، وأصلُ (همس): يدُلُّ على خَفاءِ صَوتٍ وحِسٍّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا أحوالَ الجبالِ، وأحوالَ الناسِ يومَ القيامةِ: ويسألُك -يا محمَّدُ- قَومُك عن مصيرِ الجِبالِ يَومَ القيامةِ، فقُلْ لهم: يُزيلُها ربِّي عن أماكِنِها فيَجعَلُها هباءً مُنبَثًّا، فيترُكُ مواضِعَ الجبالِ حينئذٍ مُستويةً مَلساءَ، لا نباتَ فيها ولا بناءَ. لا يرى النَّاظِرُ إليها مَيْلًا ولا ارتِفاعًا ولا انخِفاضًا.

في ذلك اليومِ يَتبَعُ النَّاسُ صَوتَ الدَّاعي إلى مَوقِفِ القيامةِ، لا يَنحَرِفونَ عنه ولا يَزيغونَ. وسَكَنَت الأصواتُ؛ خُضوعًا للرَّحمنِ وخَوفًا، فلا تسمَعُ منها إلَّا صوتًا خفيًّا. في ذلك اليومِ لا تنفعُ الشَّفاعةُ أحدًا من الخَلقِ، إلَّا مَن أَذِنَ له الرَّحمنُ أن يَشفَعَ أو يُشفَعَ له، ورَضِيَ اللهُ قَولَ الشافعِ والمشفوعِ له، يعلَمُ اللهُ ما يَستَقبِلُه النَّاسُ مِن أمرِ القيامةِ، وما خَلْفَهم مِن أمرِ الدُّنيا، وهم لا يحيطُيون بما بينَ أيديهم، ولا بما خلفَهم عِلمًا.

تفسير الآيات:

 

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن بعضِ ما سبق، ثمَّ عن بعضِ ما يأتي من أحوالِ المُعرِضينَ عن هذا الذِّكرِ فيما يُنتِجُه لهم إعراضُهم عنه، وختَم ذلك باستقصارِهم مُدَّةَ لُبثِهم في هذه الدَّارِ؛ أخبَرَ عن بعضِ أحوالِهم في الإعراضِ، فقال

:

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ.

أي: ويسألُك قَومُك عن الجِبالِ -يا محمَّدُ- ما حالُها يومَ القيامةِ ؟!

فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا.

أي: فقُلْ لهم: يُزيلُ اللهُ الجبالَ يومَ القيامةِ مِن أماكِنِها، ويَدُكُّها دكًّا، ويُفَتِّتُها ثمَّ يُطَيِّرُها في الهواءِ .

كما قال تعالى: وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [المرسلات: 10] .

فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106).

أي: فيَترُكُ اللهُ مواضِعَ الجبالِ أرضًا سهلةً مُستويةً، لا نباتَ فيها ولا بناءَ ولا ارتفاعَ .

لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107).

أي: لا ترى -أيُّها النَّاظِرُ- في الأرضِ يوم القيامةِ مَيلًا عن الاستواءِ؛ لا ارتفاعًا ولا انخفاضًا، ولو كان ذلك يسيرًا .

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108).

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ.

أي: في ذلك اليومِ الذي تقَعُ فيه تلك الأحواُل والأهوالُ يتَّبِعُ النَّاسُ -حين يَخرُجونَ مِن قُبورِهم- صوتَ المَلَكِ الذي يدعوهم جميعًا بلا استثناءٍ إلى مَوقِفِ القيامةِ، فيَقصِدونَه مِن كُلِّ ناحيةٍ، لا يَنحَرِفونَ ولا يَزيغونَ عنه، بل يتوجَّهونَ صَوبَ ناحيتِه وصَوتِه .

كما قال تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر: 6 - 8].

وقال سُبحانَه: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [ق: 41 - 44] .

وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا.

أي: وسكَنَت أصواتُ الخلائِقِ يومَ القيامةِ للرَّحمنِ خُضوعًا له وخَوفًا وهَيبةً منه، مُنتَظِرينَ لحُكمِه، فلا تَسمَعُ لهم -أيُّها السَّامِعُ - إلَّا صَوتًا خَفيضًا لوطءِ أقدامِهم، أو لحديثِهم الخافِتِ .

يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109).

أي: في يَومِ القيامةِ لا تَنفَعُ الشَّفاعةُ أحدًا مِن الناسِ لا الشَّافِعَ ولا المشفوعَ له، إلَّا شفاعةَ مَن أذِنَ له الرَّحمنُ أن يَشفَعَ أو يُشفَعَ له، ورَضِيَ اللهُ قَولَ الشَّافِعِ والمشفوعِ له .

كما قال تعالى: وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: 23] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم: 26] .

وقال تعالى: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء: 28] .

وقال سُبحانه: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38] .

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110).

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.

أي: يعلَمُ الله ما يَستَقبِلُه الخلائِقُ ممَّا يكونُ في الآخرةِ، ويعلَمُ ما مضَى وراءَهم مِن أمورِ الدُّنيا وأعمالِهم فيها .

وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا.

أي: وهم لا يحيطُون بما بينَ أيديهم، ولا بما خلفَهم علمًا

 

.

كما قال تعالى: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] .

وقال سُبحانه: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف: 109] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- بيَّنَ الله تعالى الأحوالَ التي تصيرُ إليها الجِبالُ يومَ القيامةِ في آياتٍ مِن كتابِه، فبَيَّنَ أنَّه ينزِعُها مِن أماكِنِها، ويحمِلُها فيدُكُّها دكًّا، وذلك في قَولِه: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة: 13- 14] ، ثمَّ بيَّنَ أنَّه يُسَيِّرُها في الهواءِ بينَ السَّماءِ والأرضِ، وذلك في قَولِه: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير: 3] ... ثمَّ بَيَّنَ أنَّه يُفتِّتُها ويَدقُّها، كقَولِه: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [الواقعة: 5] ... ثمَّ بيَّنَ أنَّه يصَيِّرُها كالرَّملِ المتهايلِ، وكالعِهنِ المنفوشِ، وذلك في قَولِه: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [المزمل: 14] ، وقولِه تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ [المعارج: 8، 9]... ثمَّ بَيَّنَ أنَّها تَصيرُ كالهباءِ المنبَثِّ في قَولِه: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 5- 6]، ثمَّ بَيَّنَ أنَّها تصيرُ سرابًا، وذلك في قولِه: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20] ... وبيَّنَ أنَّه يَنسِفُها نسفًا في قولِه هنا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا هذه الآيةُ مِن أقوى الدَّلائِلِ على ثُبوتِ الشَّفاعةِ في حَقِّ الفُسَّاقِ؛ لأنَّ قَولَه: وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا يكفي في صدقِه أن يكونَ الله تعالى قد رضي له قولًا واحدًا من أقوالِه، والفاسقُ قد ارتضى اللهُ تعالى قولًا واحدًا مِن أقوالِه وهو: شهادةُ أن لا إله إلا الله، فوجَب أن تكونَ الشفاعةُ نافعةً له؛ لأنَّ الاستثناءَ مِن النفيِ إثباتٌ، وذلك بناءً على أنَّ الآيةَ محمولةٌ على المشفوعِ له .

3- في قَولِه تعالى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا دليلٌ على أنَّ الشفاعةَ مأذونٌ فيها لخصوصٍ مِن النَّاسِ، وأنَّ غيرَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَشفَعُ فيُشَفَّعُ، وإنْ كانت الشَّفاعةُ العُظمى له .

4- في قَولِه تعالى: يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أخبر اللهُ تعالى أنه لا يحصُلُ يومئذٍ شفاعةٌ تَنفَعُ إلَّا بعد أن يرضى اللهُ -سُبحانَه- قَولَ المَشفوعِ له، ويأذَنَ للشَّافِعِ فيه، على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ، فأمَّا المشركُ فإنَّه لا يَرتَضيه ولا يرضَى قولَه، فلا يَأذَنُ للشُّفَعاءِ أنْ يَشفَعوا فيه؛ فإنَّه سُبحانَه علَّقَها بأمرَينِ: رِضاه عن المشفوعِ له، وإذْنِه للشَّافعِ، فما لم يُوجَدْ مجموعُ الأمرينِ لم تُوجَدِ الشَّفاعةُ .

5- قَولُه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ فيه إثباتُ عِلْمِ الله تعالى؛ وأنَّه عامٌّ في الماضي والحاضرِ والمُستقبَلِ، وفيه ردٌّ على القدريَّةِ الغُلاةِ؛ فإثباتُ عُمومِ العِلْمِ يَرُدُّ عليهم؛ لأنَّ القَدَريَّةَ الغُلاةَ أنكروا عِلْمَ اللهِ بأفعالِ خَلقِه إلَّا إذا وَقَعَت .

6- في قَولِه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ دلالةٌ على نفيِ الإحاطةِ بالله عِلمًا -وذلك بناءً على أنَّ الضميرَ يرجِعُ إلى الله- وهذا شاملٌ للإحاطةِ بذاتِه وصفاتِه، فلا يَعلَمُ حقيقةَ ذاتِه وكُنْهَها إلَّا هو سُبحانه وتعالى، وكذلك صِفاتُه، فاللهُ تعالى أجَلُّ وأعظَمُ مِن أن تُحيطَ به الأفكارُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا

- قولُه: فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا الفاءُ للمُسارَعةِ إلى إلْزامِ السَّائلينَ

، لأنَّ مقصودَهم مِن هذا السؤالِ الطعنُ في الحشرِ والنشرِ، فلا جَرَمَ أمَره بالجوابِ مقرونًا بفاءِ التعقيبِ . وأكَّدَ يَنْسِفُها بـ نَسْفًا؛ لإثباتِ أنَّه حقيقةٌ لا استعارةٌ .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ فجَمِيعُ ما جاء في القُرآنِ من السُّؤالِ أُجِيبَ عنه بـ «قُلْ» بلا فاءٍ، إلَّا في قولِه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فإنَّهُ أُجِيبَ بالفاءِ. قيل: وجْهُه: أنَّ الأجوبةَ في الجميعِ كانتْ بعدَ السُّؤالِ، وهنا قبْلَ وُقُوعِ السُّؤالِ؛ فكأنَّهُ قيل: إنْ سُئِلْتَ عنِ الجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي .

2- قولُه تعالى: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا حالٌ مُؤكِّدةٌ لمَعنى قَاعًا صَفْصَفًا؛ لزِيادةِ تَصويرِ حالةٍ، فيَزِيدُ تَهويلُها ، وقيل: استئنافٌ مُبيِّنٌ للحالينِ .

- وفيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ فِيهَا على المفعولِ الصَّريحِ عِوَجًا؛ للاهتمامِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ، مع ما فيه من طُولٍ رُبَّما يُخِلُّ تَقديمُه بتجاوُبِ أطرافِ النَّظمِ الكريمِ .

- وفيه ما يُعْرَفُ بـ «التَّنكيتِ»، وهو أنْ يخُصَّ المُتكلِّمُ شيئًا بالذِّكرِ دونَ غيرِه، ممَّا يسُدُّ مَسدَّه وما يَقْتضيهِ ظاهِرُ الكلامِ؛ لأجْلِ نُكْتةٍ في المذكورِ تُرجِّحُ مَجِيئَه على سِواهُ ؛ فاختِيارُ (العِوَجِ) بالكَسْرِ في هذه الآيةِ له مَوضعٌ حسَنٌ بَديعٌ في استواءِ الأرضِ، ووصْفِها بالمَلاسةِ، وانتفاءِ الاعوجاجِ عنها على أبلَغِ وجْهٍ؛ وذلك أنَّه لو عُمِدَ إلى قطْعةٍ مِن الأرضِ، فسُوِّيَت وبُولِغَ في تَسويتِها على عَينِ مَن سوَّاها وعلى عُيونِ البُصراءِ بالأراضي، واتَّفقوا بالإجماعِ على أنَّه لم يبْقَ فيها اعوجاجٌ قطُّ، ثمَّ عمَدَ أهْلُ التَّخصُّصِ بالمقاييسِ المَبْنيَّةِ على العِلْمِ الدَّقيقِ: لَعُثِرَ فيها على عِوَجٍ في غيرِ مَوضعٍ، لا يُدْرَكُ ذلك بحاسَّةِ البصرِ، ولكن بالقياسِ الهندسيِّ الَّذي لا يَضِلُّ ولا يَعزُبُ عنه القليلُ النَّادِرُ؛ فنَفَى اللهُ سُبحانه ذلك العِوَجَ الَّذي دَقَّ ولطُفَ عن الإدراكِ والفَهْمِ، اللَّهُمَّ إلَّا بالقياسِ الَّذي يَعرِفُه صاحِبُ التَّقديرِ والهندسةِ، وذلك الاعوجاجُ لمَّا لم يُدْرَكْ إلَّا بالقياسِ دونَ الإحساسِ، ولَحِقَ بالمعاني، وسَمَا عن الأعيانِ؛ فقيل فيه: (عِوَج) بالكسْرِ .

3- قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا

- قولُه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ قدَّمَ الظَّرفَ يَوْمَئِذٍ على عامِلِه يَتَّبِعُونَ؛ للاهتمامِ بذلك اليومِ، وليكونَ تَقديمُه قائمًا مَقامَ العطْفِ في الوصْلِ، أي: يتَّبِعون الدَّاعِيَ يومَ يَنسِفُ ربُّكَ الجِبالَ .

- وبينَ قولِه: لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا [طه: 107] وقولِه: لَا عِوَجَ لَهُ مُراعاةُ النَّظيرِ ؛ فكما جعَلَ اللهُ الأرضَ يومئذٍ غيرَ مُعوجَّةٍ ولا ناتئةٍ، كما قال: فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات: 14] ، كذلك جعَلَ سَيْرَ النَّاسِ عليها لا عِوَجَ فيه ولا مُراوغةَ .

4- قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا

- جُملةُ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مُستأنَفةٌ بَيانيَّةٌ لجوابِ سُؤالِ مَن قدْ يسأَلُ بَيانَ ما يُوجِبُ رِضَا اللهِ عن العبْدِ الَّذي يأْذَنُ بالشَّفاعةِ فيه؛ فبيَّنَ بَيانًا إجماليًّا بأنَّ الإذْنَ بذلك يَجْري على ما يَقْتضيه عِلْمُ اللهِ بسائرِ العبيدِ، وبأعمالِهم الظَّاهرةِ، فعبَّرَ عن الأعمالِ الظَّاهرةِ بـ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ؛ لأنَّ شأْنَ ما بينَ الأيدي أنْ يكونَ واضِحًا، وعبَّرَ عن السَّرائرِ بـ وَمَا خَلْفَهُمْ؛ لأنَّ شأْنَ ما يُجْعَلُ خلْفَ المَرْءِ أنْ يكونَ مَحجوبًا؛ فهو كِنايةٌ عن الظَّاهراتِ والخَفيَّاتِ ، على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

- وجُملةُ: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا تَذييلٌ؛ للتَّعليمِ بعظَمَةِ عِلْمِ اللهِ تعالى، وضآلَةِ عِلْمِ البشَرِ

================

 

سورةُ طه

الآيات (111-114)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

 

وَعَنَتِ: أي: ذَلَّتْ واستَسلَمَت، وأصلُه: يدُلُّ على خُضوعٍ وذُلٍّ

.

الْقَيُّومِ: أي: القائمِ بنفسِه؛ فلا يحتاجُ إلى مَن يُقيمُه بوجهٍ مِن الوجوهِ، المقيمِ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ؛ فلا قيامَ لغيرِه إلا بإقامتِه، وأصلُ (قوم): يدلُّ على انتِصابٍ وعَزمٍ .

خَابَ: أي: خَسِرَ وفَاتَه الظَّفَرُ، وأصلُ (خيب): يدُلُّ على عَدَمِ فائدةٍ، وحِرمانٍ .

هَضْمًا: أي: نَقصًا وظُلمًا، وأصْلُ (هضم): يدُلُّ على كَسرٍ وضَغْطٍ .

وَصَرَّفْنَا: أَيْ: نَوَّعْنا، وبَيَّنَّا، والصَّرفُ: ردُّ الشَّيءِ مِن حالةٍ إلى حالةٍ، وأصلُه: يدُلُّ على رَجعِ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: وخَضَعَت وجوهُ الخلائِقِ وذلَّت لخالِقِها، ذي الحياةِ الكاملةِ، الذي لا يَموتُ، القائِمِ على تدبيرِ كلِّ شيءٍ، المُستغني عمَّن سِواه. وقد خَسِرَ يومَ القيامةِ مَن أشرَكَ مع اللهِ أحدًا مِن خَلقِه، أو عَمِلَ بمَعصيتِه.

ثمَّ يبشِّرُ الله تعالى عبادَه المؤمنينَ، فيقولُ: ومَن يعمَلْ مِن صالحاتِ الأعمالِ وهو مؤمِنٌ برَبِّه، فلا يخافُ ظُلمًا بزيادةِ سَيِّئاتِه، ولا هَضمًا بنَقصِ حَسَناتِه.

ثمَّ يذكرُ الله تعالى اختصاصَ هذا الكتابِ بكونِه عربيًّا، ويبيِّنُ بعضَ الحكمِ مِن إنزالِه، فيقول: وكذلك أنزَلْنا هذا القُرآنَ باللِّسانِ العَرَبيِّ؛ لتُفهَمَ معانيه، وفصَّلنا فيه وكرَّرْنا أنواعًا مِن الوَعيدِ؛ رجاءَ أن يتَّقوا رَبَّهم، أو يُحدِثَ لهم هذا القرآنُ تَذكِرةً.

ثمَّ يقولُ تعالى مثنيًا على ذاتِه: فتنزَّه اللهُ -سبحانَه- وارتفَعَ وتقدَّسَ عن كُلِّ نَقصٍ، المَلِكُ الذي قهَرَ سلطانُه كلَّ ملكٍ وجبَّارٍ، وله وَحدَه الأمرُ والنَّهيُ، وهو الحَقُّ المطلقُ مِن كلِّ وجهٍ وبكلِّ اعتبارٍ.

ثمَّ ينهَى نبيَّه عن التعجُّلِ بقراءةِ القرآنِ، ويأمرُه بسؤالِ المزيدِ مِن العلمِ، فيقولُ: ولا تعجَلْ -يا محمَّدُ- بمُسابقةِ جِبريلَ في تَلَقِّي القُرآنِ قبل أن يَفْرُغَ منه، وقُلْ: ربِّ زِدْني عِلمًا إلى ما عَلَّمتَني.

تفسير الآيات:

 

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111).

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.

أي: وخضَعت وذلَّت واستسلَمَت وجوهُ الخلائِقِ يومَ القيامةِ للهِ ذي الحياةِ الكامِلةِ -الذي لا يموتُ ولا ينامُ-، القائِمِ بنفسِه، المقيمِ لغيرِه

.

وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا.

أي: وقد خَسِر مَن أتَى يومَ القيامةِ وهو يحمِلُ شِركًا أو كُفرًا بالله، أو عمَلًا بمَعصيتِه .

كما قال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] .

وقال سُبحانَه: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة: 72] .

وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .

وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ )) .

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا شرَحَ الله تعالى أحوالَ يومِ القيامةِ، ختَمَ الكلامَ فيها بشَرحِ أحوالِ المؤمنينَ، فقال :

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112).

أي: ومَن يعمَلْ مِن صالحاتِ الأعمالِ وهو مُؤمِنٌ باللهِ وبِوَعدِه ووَعيدِه، غيرُ مُشركٍ به؛ فلا يخافُ ظُلمًا بأن يُزادَ في سيئاتِه، ولا هَضمًا بأن يُنقَصَ من حَسَناتِه .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .

وقال سُبحانَه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113).

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا.

أي: وكذلك أنزَلْنا القرآنَ بلُغةِ العَرَبِ واضِحًا؛ لتُفهَمَ معانيه .

وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ.

أي: وكرَّرنا في القُرآنِ آياتِ التَّخويفِ والتَّهديدِ بأساليبَ مُتَنوِّعةٍ .

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا.

أي: أنزَلْنا القرآنَ عربيًّا وصرَّفْنا فيه الوعيدَ للنَّاسِ؛ ليتَّقوا اللهَ أو لِيَتَذكَّروا .

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)  .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا عظَّمَ الله تعالى أمْرَ القرآنِ؛ أردَفَه بأن عظَّمَ نَفسَه؛ تنبيهًا على ما يلزَمُ خَلْقَه مِن تَعظيمِه، فقال :

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ.

أي: فتعاظَمَ اللهُ المستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه، وارتفَعَ على جميعِ خَلْقِه، وتنزَّه وتقدَّسَ عن النَّقائِصِ، المَلِكُ الذي قهَرَ سلطانُه كلَّ ملكٍ وجبَّارٍ، وله وَحدَه الأمرُ والنَّهيُ، وهو الحَقُّ المطلقُ مِن كلِّ وجهٍ وبكلِّ اعتبارٍ، فذاتُه الحقُّ، وقولُه الحقُّ، ووعدُه الحقُّ، وأمرُه الحقُّ، وأفعالُه كلُّها حقٌّ، وجزاؤُه المستلزمُ لشرعِه ودينِه ولليومِ الآخرِ حقٌّ .

كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62] .

وقال سُبحانَه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] .

وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حريصًا على صلاحِ الأُمَّةِ شَديدَ الاهتمامِ بنجاتِهم، لا جَرَمَ خَطَرتْ بقلبِه الشَّريفِ عَقِبَ سماعِ تلكَ الآياتِ رغبةٌ أو طِلبَةٌ في الإكثارِ مِن نُزولِ القرآنِ وفي التَّعجيلِ به؛ إسراعًا بعظَةِ النَّاسِ وصلاحِهم؛ فَعَلَّمه اللَّهُ أنْ يَكِلَ الأمرَ إليه؛ فإنَّه أعلمُ بحيثُ يُناسِبُ حالَ الأُمَّةِ العامَّ .

وأيضًا لمَّا ذَكَر القرآنَ وإنزالَه قال على سبيلِ الاستطرادِ طالِبًا منه التَّأَنِّيَ في تَحَفُّظِ القرآنِ :

وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ.

أي: ولا تُبادِرْ -يا محمَّدُ- بتلاوةِ وحفظِ ما يَقرَؤُه عليك جبريلُ مِن قَبلِ أن يَنتهيَ مِن تلاوتِه عليك، بل استَمِعْ له حتى يفرُغَ مِن قِراءتِه؛ فإنَّ اللهَ قد ضَمِنَ لك جمعَه في صَدرِك، وقراءتَك إيَّاه .

كما قال تعالى: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ. [القيامة: 16 - 19] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا نزَلَ عليه الوحيُ حَرَّك به لسانَه، يريدُ أن يحفَظَه، فأنزل الله: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] )) .

وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا.

أي: وقُلْ -يا محمَّدُ-: يا رَبِّ، زِدْني عِلمًا إلى ما عَلَّمْتَني مِنَ الوَحيِ .

عن أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ الله عنها، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقولُ إذا صلَّى الصُّبحَ حينَ يُسلِّمُ: ((اللهُمَّ، إني أسألُك عِلمًا نافِعًا، ورِزقًا طَيِّبًا، وعَمَلًا مُتَقبَّلًا))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ يؤخَذُ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ الأدَبُ في تلقِّي العِلمِ، وأنَّ المُستَمِعَ للعِلمِ ينبغي له أن يتأنَّى ويَصبِرَ حتى يَفرُغَ المُملي والمعَلِّمُ مِن كلامِه المتَّصِلِ بعضُه ببعضٍ، فإذا فرَغ منه سألَ إن كان عندَه سؤالٌ، ولا يُبادِرَ بالسُّؤالِ وقَطعِ كَلامِ مُلقِي العِلمِ؛ فإنَّه سبَبٌ للحِرمانِ، وكذلك المسؤولُ ينبغي له أن يستمليَ سُؤالَ السائِلِ، ويَعرِفَ المَقصودَ منه قبلَ الجَوابِ؛ فإنَّ ذلك سَبَبٌ لإصابةِ الصَّوابِ

.

2- في قولِه تعالى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا أدبُ طالب العلمِ، وأنه ينبغي له أن يتأنَّى في تدبرِه وتأملِه للعلمِ، ولا يستعجلَ بالحكمِ على الأشياءِ ولا يُعجَبَ بنفسِه، ويسألَ ربَّه العلمَ النافعَ والتسهيلَ .

3- قَولُ الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا أمَرَ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يسألَه زيادةَ العِلمِ؛ فإنَّ العِلمَ خَيرٌ، وكَثرةُ الخيرِ مَطلوبةٌ، وهي مِنَ الله، والطَّريقُ إليها الاجتِهادُ والشَّوقُ للعِلمِ، وسؤالُ اللهِ والاستعانةُ به، والافتِقارُ إليه في كُلِّ وَقتٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا هذا مما يدلُّ على أنَّ اللهَ قادرٌ على الظلمِ؛ ولكنْ لا يفعلُه فضلًا منه وجودًا وكرمًا وإحسانًا إلى عباده

، لأنَّه لو كان الظلمُ مستحيلًا، لا يمكنُ وجودُه؛ لم يكن لِعَدَمِ الخوفِ منه معنًى، ولا للأمْنِ مِن وقوعِه فائدةٌ .

2- لما كان الإنسانُ محلَّ العجزِ وإن اجتَهد، قال الله تعالى: مِنَ الصَّالِحَاتِ أي: التي أمره الله بها بحسبِ استطاعتِه؛ لأنَّه لن يقدُرَ اللهَ أحدٌ حقَّ قدرِه، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلَبه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ إنَّما وصَفَ مُلكَه بالحَقِّ؛ لأنَّ مُلكَه لا يزولُ ولا يتغَيَّرُ، وليس بمستفادٍ مِن قِبَلِ الغَيرِ، ولا غيرُه أولى به؛ ولهذا وُصِفَ بذلك .

4- قال الله تعالى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ في هذا دليلٌ على أنَّ التأنِّيَ في العِلمِ بالتَّدبُّرِ وبإلقاءِ السَّمعِ أنفَعُ مِن الاستعجالِ المُتعِبِ للبالِ، المكَدِّرِ للحالِ، وأعوَنُ على الحِفظِ، فمن وعى شيئًا حقَّ الوعيِ حَفِظَه غايةَ الحِفظِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا لَمَّا كانت عجَلَتُه صلَّى الله عليه وسلَّم على تلقُّفِ الوَحيِ، ومبادرتُه إليه تدُلُّ على محبَّتِه التامَّةِ للعِلمِ، وحِرصِه عليه؛ أمَرَه الله تعالى أن يسألَه زيِادةَ العِلمِ .

6- في قَولِه تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا دليلٌ على فَضْلِ العِلْمِ، فلم يَقُلْ -سُبحانَه- لِنَبِيِّه: «وقلْ ربِّ زدني مالًا»، بل قال له: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ، فكفى بهذا شرفًا للعلم أنْ أمَرَ نبَّيه أن يسألَه المزيدَ منه . وقد قيل: (ما أمَر اللهُ رَسولَه بطَلَبِ الزِّيادةِ في شَيءٍ إلَّا في العِلمِ) .

7- قال الله تعالى: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا، العِلْمُ الذي أمَرَه سُبحانَه باستزادتِه، هو عِلْمُ الوَحيِ، لا عِلْمُ الكَلامِ والفَلسَفةِ والمَنطِقِ

 

!

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا

- قولُه: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ خَصَّ الوُجوهَ؛ لشَرفِها، ولأنَّ آثارَ الذُّلِّ إنَّما تظهَرُ في أوَّلِ الوُجوهِ

.

- والألِفُ واللَّامُ في الْوُجُوهُ ظاهِرُها يَقْتضي العُمومَ، أي: خضَعَ جميعُ النَّاسِ إجْلالًا للهِ تعالى. فتكونُ جملةُ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا احْتِراسًا؛ لبَيانِ اختلافِ عاقبةِ عَناءِ الوُجوهِ؛ فمَن حمَلَ ظُلمًا فقد خابَ يومئذٍ واستمَرَّ عَناؤه، ومَن عمِلَ صالِحًا عاد عليه ذلك الخوفُ بالأمْنِ والفرَحِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ التعريفُ في الوجوهِ عِوضًا عن المضافِ إليه، ويُرادَ بها: وُجوهُ المُجْرِمين؛ فتكونُ اللَّامُ بدَلَ الإِضافةِ، ويُؤيِّدُه قولُه: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا، وعلى هذا تكونُ جملةُ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا جُملةً مُعترِضةً تُفِيدُ التَّعليلَ، والمعنى: إذ قد خاب كلُّ مَن حمَلَ ظُلْمًا، ويَحتمِلُ الحالَ والاستِئنافَ لبيانِ ما لأجْلِه عنَتْ وُجوهُهم .

2- قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا صِيغَتْ هذه الجُملةُ في صِيغَةِ الشَّرطِ؛ تَحقيقًا للوعْدِ، وقولُه: فَلَا يَخَافُ بصِيغَةِ المرفوعِ بإثباتِ ألِفٍ بعدَ الخاءِ، على أنَّ الجُملةَ استئنافٌ غيرُ مَقصودٍ بها الجَزاءُ؛ كأنَّ انتفاءَ خوفِه أمْرٌ مُقرَّرٌ؛ لأنَّه مُؤمِنُ ويَعمَلُ الصَّالحاتِ .

3- قولُه تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا عطْفٌ على جُملةِ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، والغرَضُ واحدٌ، وهو التَّنويهُ بالقُرآنِ؛ فابْتُدِئَ بالتَّنويهِ به جُزئيًّا بالتَّنويهِ بقَصصِه، ثمَّ عُطِفَ عليه التَّنويهُ به كُلِّيًّا على طَريقةٍ تُشبِهُ التَّذييلَ لِمَا في قولِه: أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا مِن معنَى عُمومِ ما فيه .

- قولُه: أَنْزَلْنَاهُ، أي: القُرآنَ كلَّه، وإضمارُه من غيرِ سَبْقِ ذِكْرِه؛ للإيذانِ بنَباهةِ شأْنِه، وكونِه مَركوزًا في العُقولِ، حاضرًا في الأذهانِ .

- قولُه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا التَّنكيرُ يُفِيدُ الكَمالَ، أي: أكمَلَ ما يُقْرَأُ. وعَرَبِيًّا صِفَةُ قُرْآَنًا، وهذا وصْفٌ يُفِيدُ المدْحَ؛ لأنَّ اللُّغةَ العربيةَ أبلَغُ اللُّغاتِ، وأحسَنُها فَصاحةً وانْسِجامًا. وفيه تَعريضٌ بالامتنانِ على العرَبِ، وتَحميقٌ للمُشرِكين منهم حيث أعْرَضوا عنه، وكذَّبوا به .

- وفي قولِه: وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لم يَذكُرِ الوعْدَ؛ لأنَّ الآيةَ سِيقَتْ مَساقَ التَّهديدِ، ولمُناسَبةِ قولِه قبْلَه: وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا .

- وفي قولِه: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا أسنَدَ ترَجِّيَ التَّقوى إليهم، وترَجِّيَ إحداثِ الذِّكْرِ للقُرآنِ؛ لأنَّ التَّقوى عبارةٌ عن انتفاءِ فعْلِ القبيحِ، وذلك استمرارٌ على العدَمِ الأصليِّ، فلم يُسْنَدْ للقُرآنِ، وأُسْنِدَ إحداثُ الذِّكْرِ إلى القُرآنِ؛ لأنَّه أمْرٌ حدَثَ بعْدَ أنْ لم يكُنْ .

4- قوله تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا

- جُملةُ: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ مُعترِضةٌ بين جُملةِ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ، وبينَ جُملةِ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ، وهذا إنشاءُ ثَناءٍ على اللهِ مُنزِّلِ القُرآنِ، وعلى مِنَّةِ هذا القُرآنِ، وتلْقينٌ لشُكْرِه على ما بيَّنَ لعِبادِه من وسائلِ الإصلاحِ، وحَمْلِهم عليه بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ، وتَوجيهِه إليهم بأبلَغِ كلامٍ، وأحسَنِ أُسلوبٍ؛ فهو مُفرَّعٌ على ما تقدَّمَ من قولِه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا إلى آخِرِها. والتَّفريعُ بالفاءِ في فَتَعَالَى ... مُؤذِنٌ بأنَّ ذلك الإنزالَ والتَّصريفَ، ووسائلَ الإصلاحِ، كلُّ ذلك ناشِئٌ عن جَميلِ آثارٍ، يُشْعِرُ جميعُها بعُلوِّه وعظَمَتِه، وأنَّه المَلِكُ الحقُّ المُدبِّرُ لأُمورِ ممْلوكاتِه على أتَمِّ وُجوهِ الكَمالِ، وأنْفَذِ طُرقِ السِّياسةِ. وفي تَفريعِ ذلك على إنزالِ القُرآنِ إشارةٌ أيضًا إلى أنَّ القُرآنَ قانونُ ذلك المَلِكِ، وأنَّ ما جاء به هو السِّياسةُ الكاملةُ الضَّامِنةُ صَلاحَ أحوالِ مُتَّبِعيه في الدُّنيا والآخرةِ .

- والجمْعُ بين اسمِ الجَلالةِ (الله) واسْمِه (الملِك): إشارةٌ إلى أنَّ إعْظامَه وإجلالَه مُستحقَّانِ لِذاتِه بالاسمِ الجامِعِ لصفاتِ الكَمالِ، وهو الدَّالُّ على انحصارِ الإلهيَّةِ وكَمالِها، ثمَّ أُتْبِعَ بـ الْحَقُّ؛ للإشارةِ إلى أنَّ تَصرُّفاتِه واضحةُ الدَّلالةِ على أنَّ مُلْكَه مُلْكٌ حَقٌّ، لا تصرُّفَ فيه إلَّا بما هو مُقْتضى الحكمةِ .

- والْحَقُّ: الَّذي ليس في مُلْكِه شائبةُ عجْزٍ، ولا خُضوعٍ لغَيرِه. وفيه تَعريضٌ بأنَّ مُلْكَ غيرِه زائفٌ، وأنَّ مُلْكَ غيرِه من المُتسمِّينَ بالمُلوكِ لا يَخْلو من نقْصٍ، كما قال تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان: 26]

==================

 

سورةُ طه

الآيات (115-123)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ

غريب الكلمات :

 

عَهِدْنَا: أي: أمَرْنا ووصَّيْنا، والعَهْدُ: حفظُ الشيءِ، ومراعاتُه حالًا بعدَ حالٍ، وأصلُ (عهد): يدلُّ الاحتفاظُ بِالشَّيءِ

.

عَزْمًا: أي: صَبرًا وتَصميمًا وثباتًا، والعَزمُ والعَزيمةُ: عَقدُ القَلبِ على إمضاءِ الأمرِ، وأصلُ (عزم): يدُلُّ على القَطعِ .

تَضْحَى: أي: تَبرُزُ للشَّمسِ فتَجِدُ الحَرَّ، والضُّحَى: انبساطُ الشَّمسِ، وامتِدادُ النَّهارِ، وأصلُ (ضحي): يدُلُّ على بروزِ الشَّيءِ .

فَوَسْوَسَ: فألقَى وحَدَّثَ، والوَسوَسةُ: الخَطْرةُ الرَّديئةُ، من الوَسواسِ، وهو صَوتُ الحُلِيِّ، والهَمسُ الخفيُّ، وحَديثُ النَّفسِ، وأصلُ (وسوس): صَوتٌ غَيرُ رَفيعٍ .

يَبْلَى: أي: يَزُولُ أوَ يَضعُفُ، يقال: بَلِيَ الثوبُ بِلًى وبَلاءً، أي: خَلُق .

وَطَفِقَا: أي: جَعَلا وأقْبَلا، يُقال: طَفِقَ يفعَلُ كذا، أي: ظلَّ يفعَلُ .

يَخْصِفَانِ: أي: يَرقَعانِ ويُلزِقانِ الوَرَقَ بَعضَه ببَعضٍ، وأصلُ (خصف): يدُلُّ على اجتِماعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ .

فَغَوَى: أي: جَهِلَ وضَلَّ، وأصلُ (غوي): يدلُّ على خِلافِ الرُّشدِ .

اجْتَبَاهُ: أي: اصطَفاه واختارَه، والاجتِباءُ: الجَمعُ على طريقِ الاصطِفاءِ، وأصْلُ (جبي): يدلُّ على جَمعِ الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ الله تعالى جانبًا مِن قصةِ آدمَ عليه السلامُ، فيقولُ: ولقد وصَّينا آدَمَ مِن قَبلُ ألَّا يأكُلَ مِن الشَّجَرةِ، وألَّا يُطيعَ الشَّيطانَ، فوسوسَ إليه الشَّيطانُ فأطاعَه، ونَسِيَ الوصيَّةَ، ولم نجِدْ له قُوَّةً في العَزمِ يحفَظُ بها ما أُمِرَ به.

واذكُرْ -يا محمَّدُ- إذ قُلْنا للمَلائكةِ: اسجُدوا لآدَمَ سُجودَ تحيَّةٍ وإكرامٍ، فأطاعوا وسجَدوا، لكِنَّ إبليسَ امتَنَعَ مِن السُّجودِ. فقُلْنا: يا آدَمُ، إنَّ إبليسَ هذا عَدُوٌّ لك ولِزَوجِك، فاحذَرا من أن تُطيعاه، فيُخرِجَكما من الجنَّةِ، فتَشقى إذا أُخرِجْتَ منها. إنَّ لك -يا آدَمُ- في هذه الجنَّةِ ألَّا تَجوعَ ولا تعرى، وألَّا تَعطَشَ ولا يصيبَك حَرُّ الشَّمسِ. فوسوسَ الشيطانُ لآدَمَ وقال له: هل أدُلُّك على شَجَرةٍ إن أكَلْتَ منها خُلِّدتَ فلَمْ تَمُتْ، وكان لك مُلكٌ لا ينقضي ولا ينقَطِعُ؟

فأكلَ آدمُ وحوَّاءُ مِن الشَّجَرةِ التي نهاهما اللهُ عنها، فانكشَفَت لهما عوْراتُهما، وقد كانت مَستورةً عن أعيُنِهما، فأخذا يُلصِقانِ عليهما مِن وَرَقِ أشجارِ الجَنَّةِ؛ ليَستُرا ما انكشَفَ مِن عَوْراتِهما، وخالف آدَمُ أمْرَ رَبِّه فأخطأَ طَريقَ الصَّوابِ بالأكلِ مِن الشَّجَرةِ التي نهاه اللهُ عن الاقترابِ منها. ثمَّ اصطفى اللهُ آدَمَ، بعدَ مَعصيتِه، فتابَ عليه منها، وهداه للتوبةِ، ووفَّقه لها، وثبَّته عليها.

وقال تعالى لآدَمَ -ومعه زوجُه حواءُ- وإبليسَ: اهبِطَا مِن الجنَّةِ إلى الأرضِ جَميعًا بعضُكم عدُوٌّ لبَعضٍ، فإنْ يأتِكم منِّي رسولٌ أُرسِلُه إليكم، وكِتابٌ أُنزِلُه عليكم، فمَن اتَّبَع رسُلي، وعَمِلَ بكُتُبي؛ اهتَدى، وسعِد في الدُّنيا والآخرةِ.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما قال الله تعالى: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ [طه: 99] ثم إنَّه عظَّم أمرَ القرآنِ، وبالَغ فيه؛ ذكَر هذه القصةَ إنجازًا للوعدِ

.

وأيضًا فإنه لما كانت قصةُ موسَى عليه السلام مع فرعونَ ومع قومِه ذاتَ عبرةٍ للمكذبين والمعاندين الذين كذَّبوا النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وعاندوه، وذلك المقصودُ من قصصِها، فكأن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم استحبَّ الزيادةَ مِن هذه القصصِ ذاتِ العبرةِ رجاءَ أنَّ قومَه يُفيقون مِن ضلالتِهم؛ أُعقِبتْ تلك القصةُ بقصةِ آدمَ عليه السلام وما عرض له به الشيطانُ، تحقيقًا لفائدةِ قولِه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114] .

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ.

أي: ولقَدْ وصَّيْنا آدَمَ -وهو في الجنَّةِ- بألَّا يأكُلَ مِن الشَّجَرةِ ولا يَقرَبَها، وحَذَّرْناه مِن طاعةِ الشَّيطانِ، مِن قبلُ ، فنَسِيَ وصيَّتي، فلمَّا وسْوَس له الشَّيطانُ أطاعه، وأكَلَ من الشجرةِ .

وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا.

أي: ولم نجِدْ لآدَمَ عَزمَ قلبٍ على حِفظِ وصِيَّتي، وصَبرًا على الوَفاءِ بعَهدي، وجَزمًا على تَركِ مُخالَفتي .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116).

أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- حين قُلْنا للمَلائِكةِ: اسجُدوا لآدَمَ؛ طاعةً لي، وتكريمًا له، فسَجَدوا كلُّهم إلَّا إبليسَ امتنَعَ أن يكونَ مع السَّاجِدينَ لآدَمَ .

فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117).

فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ.

أي: فقُلنا: يا آدَمُ، إنَّ هذا الذي عصاني ولم يسجُدْ لك، عدُوٌّ لك ولِزَوجِك حوَّاءَ .

فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى.

أي: فاحذَرا أن تُطيعا عَدُوَّكما إبليسَ، فيتسَبَّبَ في إخراجِكما من الجنَّةِ، فتتعَبَ -يا آدَمُ- في طَلَبِ الرِّزقِ والكِسوةِ والسَّكَنِ؛ الذي تحصُلُ عليه في الجنَّةِ بلا مشقَّةٍ .

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى علَّل شقاوة آدمَ على تقديرِ الإخراجِ بوصفِها بما لا يوجدُ في غيرِها من الأقطابِ التي يدورُ علها كفافُ الإنسانِ، وهي الشبعُ والريُّ والكسوةُ والكنُّ .

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118).

أي: إنَّ لك -يا آدَمُ- ألَّا تَجوعَ في الجنَّةِ، ولا تعرَى عن اللِّباسِ .

وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119).

أي: وأنَّك لا تَعطَشُ في الجنَّةِ، ولا تَبرُزُ للشَّمسِ، فيُؤذيَك حَرُّها .

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120).

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ.

أي: فألقى إبليسُ إلى آدَمَ وسوستَه، وكلَّمه كلامًا خفيًّا .

كما قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف: 20 - 22] .

قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى.

أي: قال إبليسُ: يا آدَمُ، هل أدلُّك على شَجَرةٍ إن أكَلْتَ منها تُخلَّدْ في الجنَّةِ فلا تمُتْ، ويكُنْ لك مُلكٌ لا يَفنى ولا ينقَطِعُ ؟!

كما قال تعالى: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف: 20] .

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121).

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا.

أي: فأكَلَ آدَمُ وحَوَّاءُ من الشَّجرةِ التي نهاهما اللهُ عنها، فظَهَرت لهما عوراتُهما بعدما كانت مستورةً عن أعيُنِهما .

وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.

أي: وأخَذَ آدَمُ وحَوَّاءُ يُلصِقانِ عليهما مِن وَرَقِ أشجارِ الجنَّةِ؛ لِيَستُرا به عوراتِهما .

وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى.

أي: وخالَف آدَمُ وصِيَّةَ رَبِّه، فأكَل مِن الشَّجَرةِ التي نهاه اللهُ عن الأكلِ منها، فأخطأَ طَريقَ الصَّوابِ، ولم يحصُلْ على ما وعَدَه الشَّيطانُ .

ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122).

أي: ثم اصطَفَى الله تعالى آدَمَ بعدَ مَعصيتِه، فتابَ عليها منها، وهداه للتوبةِ، ووفَّقه لها، وثبَّته عليها .

كما قال تعالى: فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 37] .

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123).

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا.

أي: قال اللهُ لآدَمَ -ومعه زوجُه حواءُ التي هي تبَعٌ له- وإبليسَ: اهبِطا من الجنَّةِ إلى الأرضِ .

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ.

أي: تقَعُ العداوةُ بينكم؛ فآدمُ وذريَّتُه من جهةٍ، وإبليسُ وذُرِّيتُه مِن جِهةٍ أخرى .

كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6] .

فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى.

أي: فإنْ يأتِكم -يا بني آدَمَ- مِن عندي رسولٌ أرسِلُه إليكم، وكِتابٌ أُنزِلُه عليكم؛ فمَن اتَّبَعَ رُسُلي وعَمِلَ بكُتُبي، اهتَدى، وسعِد في الدُّنيا والآخرةِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- رغَّب الله تعالى آدمَ عليه السلام في دوامِ الراحةِ وانتظامِ المعيشةِ بقولِه: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى وآدمُ عليه السلام مع كمالِ عقلِه وعلمِه بأنَّ الله تعالى مولاه وناصرُه ومربِّيه، أعلمه بأنَّ إبليسَ عدوُّه؛ حيثُ امتنعَ مِن السجودِ له، وعرَّض نفسه للَّعْنةِ بسببِ عداوتِه، فكيف قبِل في الواقعةِ الواحدةِ والمقصودِ الواحد قولَ إبليسَ، مع علمِه بكمالِ عداوتِه له، وأعرضَ عن قولِ الله تعالى؟! ومَن تأمَّل في هذا البابِ، طال تعجبُه، وعرَف آخرَ الأمرِ أنَّ هذه القصةَ كالتنبيهِ على أنَّه لا دافعَ لقضاءِ الله، ولا مانعَ منه، والدليلُ وإن كان في غايةِ الظهورِ، ونهايةِ القوةِ؛ فإنَّه لا يحصلُ النفعُ به إلَّا إذا قضَى الله تعالى ذلك وقدَّره

.

2- قَولُ الله تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى فتَمَّت النِّعمةُ عليه وعلى ذرِّيَّتِه، ووجَبَ عليهم القيامُ بها والاعترافُ، وأن يكونوا على حَذَرٍ مِن هذا العدُوِّ المرابطِ الملازِمِ لهم، ليلًا ونهارًا؛ قال الله تعالى: يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 27] .

3- قد يكونُ الإنسانُ بَعْدَ الذَّنبِ أعلى مقامًا منه قَبلَ الذَّنبِ؛ لأنه قَبْلَ الذنبِ قد يكون مُستمرِئًا للحالِ التي كان عليها، وماشيًا على ما هو عليه، معتقدًا أنه كاملٌ، وأنْ ليس عليه ذنوبٌ، فإذا أذنبَ وأحسَّ بذنبه رجعَ إلى الله وأنابَ إليه، وأخْبَتَ إليه، فيزدادُ إيمانًا، ويزدادُ مقامًا، فيرتَفِعُ مقامُه عند الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا قال اللهُ تعالى في آدَمَ: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ، فجَعَلَ سبحانه الاجتباءَ بعد هذه المعصيةِ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى، وهذا كثيرًا ما يقعُ: إذا أذنبَ الإنسانُ عَرَفَ قَدْرَ نفسِه، وأنه محتاجٌ إلى الله، ورجعَ إلى الله، وأحسَّ بالخطيئةِ، وأكثرَ مِن الاستغفارِ، وصار مقامُه بَعْدَ الذنبِ أعلى مِن مقامِه قَبْلَ الذَّنبِ .

4- قَولُ الله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى في هذه الآيةِ وِصايةُ اللهِ آدَمَ وذُرِّيتَه باتِّباعِ رُسُلِ الله والوَحيِ الإلهيِّ، وبذلك يُعلَمُ أنَّ طَلَبَ الهدى مركوزٌ في الجبلَّةِ البَشَريَّةِ .

5- قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فضَمِن سُبحانَه لِمن اتَّبع هداه -وهو كلامُه- الهُدى في الدُّنيا والآخرةِ، والسَّعادةَ في الدُّنيا والآخرةِ، فهاهنا أمرانِ: طريقةٌ وغايةٌ؛ فالطريقةُ: الهُدى، والغايةُ: السَّعادةُ والفلاحُ؛ فمَن لم يسلُكْ هذه الطَّريقةَ لم يَصِلْ إلى هذه الغايةِ .

6- عن ابن عباس، قال: (تضمَّن الله لِمَن قرأ القُرآنَ، واتَّبع ما فيه ألَّا يَضِلَّ في الدُّنيا، ولا يشقَى في الآخرةِ)، ثم تلا هذه الآيةَ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى .

7- قال ابنُ الجوزي: (تأمَّلت قولَه تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه:123] : قال المفسرون: هُدَايَ: رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكتابي. فوجدتُه على الحقيقةِ: أنَّ كلَّ مَن اتَّبع القرآنَ والسنةَ، وعمِل بما فيهما، فقد سلِم مِن الضلالِ بلا شكٍّ، وارتَفع في حقِّه شقاءُ الآخرةِ بلا شكٍّ، إذا مات على ذلك)

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا إنَّما عطَفَ قِصَّةَ آدَمَ على قَولِه: وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ [طه: 113] ؛ للدَّلالةِ على أنَّ أساسَ بني آدَمَ على العِصيانِ، وعِرقَهم راسِخٌ بالنِّسيانِ

.

2- قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا قَولُه تعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا يدُلُّ على أنَّ أبانا آدَمَ عليه وعلى نبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ ليس من الرسُلِ الذين قال اللهُ فيهم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ، وهم: نوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ومحمَّدٌ، صلَّى الله عليهم وسلَّم ، على الأشهرِ في تحديدِ أُولي العزمِ .

3- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا بيانُ أنَّ أولَ نَقْصٍ دَخَلَ على أبي البَشَرِ، وسَرَى إلى أولادِه، أنَّه كان مِن عَدَمِ العِلمِ والعَزْمِ ، وذلك على أحدِ القولينِ في تفسيرِ النسيانِ.

4- قَولُ الله تعالى: فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فيه سؤالٌ: لمَ قال تعالى: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ مع أن المُخرجَ لهما من الجنَّةِ هو اللهُ تعالى؟

الجواب: أنَّه لما كان بوَسوَستِه هو الذي فعَلَ ما ترتَّبَ عليه الخروجُ، صَحَّ ذلك . وفيه وجهٌ آخر: أنَّه أسنَدَ الإخراجَ إلى إبليسَ؛ لزيادةِ التَّحذيرِ، والإبلاغِ في التَّنفيرِ .

5- قَولُ الله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى جمعَ تعالى لآدَمَ -عليه السَّلامُ- في هذا الخبَرِ أصولَ كَفافِ الإنسانِ في مَعيشتِه؛ إيماءً إلى أنَّ الاستكفاءَ منها سيكونُ غايةَ سَعيِ الإنسانِ في حياتِه المُستَقبلَة؛ لأنَّ الأحوالَ التي تُصاحِبُ التَّكوينَ تكونُ إشعارًا بخصائِصِ المُكَوَّن في مُقَوِّماتِه، كما ورَد في حديثِ الإسراءِ مِن تَوفيقِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لاختيارِ اللَّبَنِ على الخَمرِ، فقيلَ له: ((لو اخترْتَ الخَمرَ، لَغَوتْ أُمَّتُك )) .

6- قال الله تعالى: فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى أعلَمَنا في هذه الآيةِ أنَّ النَّفَقةَ التي تجِبُ للمرأةِ على زَوجِها هذه الأربعةُ: الطعامُ، والشَّرابُ، والكِسوةُ، والمَسكَنُ، فإذا أعطاها هذه الأربعةَ، فقد خرج إليها مِن نَفَقتِها، فإن تفَضَّلَ بعد ذلك فهو مأجورٌ، فأمَّا هذه الأربعةُ فلا بدَّ لها منها؛ لأنَّ بها إقامةَ المُهجةِ .

7- قوله تعالى: وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى إن قيل: ليست في الجنةِ شمسٌ، فكيف يستقيمُ هذا الكلام؟

والجوابُ: أنَّه مستقيمٌ؛ لأنَّ أهلَ الجنةِ في ظلٍّ ممدودٍ، فلا يصيبُهم أذَى الشمسِ مثل ما يصيبُهم في الدُّنيا .

8- قولُ الله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى اقتِصارُ الشَّيطانِ على التَّسويلِ لآدَمَ، وهو يريدُ أن يأكُلَ آدَمُ وحَوَّاءُ؛ لعِلمِه بأنَّ اقتِداءَ المرأةِ بزَوجِها مركوزٌ في الجبِلَّةِ .

9- قولُ الله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى يدُلُّ على أنَّه إنما وسوسَ إليه الشَّيطانُ مُخاطبةً، لا أنه أوقَعَ ذلك في نَفسِه بلا مُقاوَلةٍ، فمَن ادَّعى على الظَّاهِرِ تأويلًا، ولم يُقِمْ عليه دليلًا، لم يجِبْ قَبولُ قَولِه؛ ويدلُّ أيضًا على أنَّ الوسوسةَ قد تكونُ كلامًا مَسموعًا أو صَوتًا .

10- وفي وسوسةِ الشَّيطانِ إلى آدَمَ إشكالٌ معروفٌ، وهو أنْ يُقالَ: إبليسُ قد أُخرِجَ من الجنة صاغرًا مذمومًا مدحورًا، فكيف أمكنه الرجوعُ إلى الجنَّةِ حتى وسوسَ لآدمَ؟

والجوابُ: أنَّه لا إشكالَ في ذلك؛ لإمكانِ أن يَقِفَ إبليسُ خارجَ الجنَّةِ قَريبًا مِن طرفِها بحيث يسمعُ آدَمُ كلامَه وهو في الجنَّةِ، وإمكانِ أن يُدخِلَه الله إيَّاها لامتحانِ آدَمَ وزَوجِه، لا لكرامةِ إبليسَ، فلا مُحالَ عقلًا في شيءٍ من ذلك. والقرآنُ قد جاء بأنَّ إبليس كلَّمَ آدَمَ، وحَلَف له حتى غرَّه وزوجَه بذلك .

11- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ساق إبليسُ لآدَمَ -عليه السَّلامُ- الغِشَّ مساقَ العَرضِ؛ إبعادًا لِنَفسِه من التُّهمةِ والغَرَض، وشوَّقه إليه بِقَولِه: هَلْ أَدُلُّكَ؛ فإنَّ النَّفسَ شَديدةُ الطَّلَبِ لعِلمِ ما تجهَلُه .

12- قَولُ الله تعالى: قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ قد أفصَحَت هذه الآيةُ عن استِقرارِ محبَّةِ الحياةِ في جِبِلَّةِ البَشَرِ .

13- قولُه: فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا فيه جمْعُ السَّوءاتِ مع أنَّهما سَوأتانِ فقط، ولهذا أَوجهٌ:

الأوَّل: أنَّ آدَمَ وحواءَ كلُّ واحدٍ منهما له سَوءتانِ: القُبُل، والدُّبُر؛ فهي أربعٌ؛ فكلٌّ منهما يرَى قُبُلَ نفْسِه وقُبُلَ الآخَرِ، ودُبُرَه، وعلى هذا فلا إشكالَ في الجمع.

الثاني: أنَّ المُثنَّى إذا أُضيفَ إليه شَيئانِ هما جُزآه جازَ في ذلك المضافِ الجَمْعُ، والتثنيةُ، والإفرادُ، وأفصحُها الجَمعُ، فالإفرادُ، فالتثنيةُ؛ فإنْ فُرِّقَ المثنَّى المضافُ إليه فالمختارُ في المضافِ الإفرادُ، نحو: عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة: 78] ، ومثالُ جمْعِ المُثنَّى المضافِ المذكورِ الذي هو الأفصحُ قولُه تعالى: إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم: 4] .

الثالث: أنَّ أقلَّ الجَمْعِ اثنانِ .

14- قال الله تعالى: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى، وإثباتُ العِصيانِ لآدَمَ دُونَ زَوجِه يدُلُّ على أنَّ آدَمَ كان قُدوةً لِزَوجِه، فلمَّا أكَلَ مِن الشَّجَرةِ تَبِعَتْه زوجُه، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم: 6] .

15- قَولُ الله تعالى: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى فيه سؤالٌ: هل يجوزُ أن يقالَ: كان آدَمُ عاصيًا، غاويًا، أخذًا من ذلك؟

الجوابُ: لا؛ إذْ لا يلزَمُ مِن جوازِ إطلاقِ الفِعلِ جوازُ إطلاقِ اسمِ الفاعِلِ، فيجوزُ أن يُقالَ: (تبارك اللهُ)، دون (مُتبارِك)، ويجوزُ أن يقال: (تاب اللهُ على آدم) دون (تائب) .

16- إنَّ الأنبياءَ صلوات الله وسلامه عليهم لم يقعْ منهم ما يُزري بمراتبِهم العليةِ، ومناصبِهم الساميةِ، ولا يستوجبُ خطأً منهم، ولا نقصًا فيهم صلواتُ الله وسلامُه عليهم -ولو فرضنا أنَّه وقَع منهم بعضُ الذنوب-؛ لأنهم يتداركون ما وقَع منهم بالتوبةِ، والإخلاصِ، وصدقِ الإنابةِ إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلَى درجاتِهم، فتكونَ بذلك درجاتُهم أعلَى مِن درجةِ مَن لم يرتكِبْ شيئًا مِن ذلك. ومما يوضِّحُ هذا قولُه تعالى: وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى، فانظرْ أيَّ أثرٍ يبقَى للعصيانِ والغيِّ بعدَ توبةِ الله عليه، واجتبائِه أي: اصطفائِه إيَّاه، وهدايتِه له، ولا شكَّ أنَّ بعضَ الزلاتِ ينالُ صاحبُها بالتوبةِ منها درجةً أعلى مِن درجتِه قبلَ ارتكابِ تلك الزلةِ .

17- قال تعالى: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا والإهباطُ تارةً يَذكُرُه بلَفظِ الجَمعِ، وتارةً بلَفظِ التَّثنيةِ، وتارةً بلَفظِ الإفرادِ، كقَولِه في سورةِ الأعرافِ: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا [الأعراف: 13] ، وكذلك في سورة ص، وهذا لإبليسَ وَحدَه، وحيث ورد بصيغةِ الجَمعِ فهو لآدَمَ وزَوجِه وإبليسَ؛ إذ مدارُ القِصَّةِ عليهم، وحيث ورد بلَفظِ التَّثنيةِ فإمَّا أن يكونَ لآدَمَ وزَوجِه؛ إذ هما اللَّذانِ باشرَا الأكلَ مِن الشَّجَرةِ وأقدَمَا على المعصيةِ، وإمَّا أن يكونَ لآدَمَ وإبليسَ؛ إذ هما أبَوَا الثَّقَلينِ وأصلَا الذُّرِّيةِ؛ فذَكَر حالَهما ومآلَ أمرِهما؛ ليكونَ عِظةً وعِبرةً لأولادِهما .

18- في قَولِه تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى بيانُ أنَّ ثوابَ المُتَّبِعِينَ لهداه أنَّهم لا يَضِلُّون ولا يَشقَونَ، ونفيُ الضَّلالِ والشقاءِ عنهم يتضَمَّنُ كمالَ الهدايةِ والسعادةِ في الدُّنيا والآخرةِ ، فالهُدى والسعادةُ مُتلازِمانِ، والضَّلالُ والشَّقاءُ مُتلازِمانِ، وكثيرًا ما يَقْرِن سُبحانَه في القُرآنِ بين الضَّلالِ والشَّقاءِ، وبين الهُدى والفلاحِ، وقد جَمَعَ سبحانَه بين الأمورِ الأربعةِ في قَولِه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فهذا الهدى والسَّعادةُ، ثمَّ قال سُبحانَه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 124-126] فذَكَرَ الضَّلالَ والشَّقاءَ .

19- قال الله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى فلمَّا كَسَره سُبحانَه بإهباطِه مِن الجنَّةِ، جَبَرَه وذريَّتَه بهذا العَهدِ الذي عَهِدَه إليهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا

- افتتاحُ الجُملةِ بحرْفِ التَّحقيقِ ولامِ القسَمِ وَلَقَدْ لمُجرَّدِ الاهتمامِ بالقصَّةِ؛ تَنبيهًا على قصْدِ التَّنظيرِ بين القصَّتينِ في التَّفريطِ في العهْدِ؛ لأنَّ في القصَّةِ الأُولى تَفريطَ بني إسرائيلَ في عهْدِ الله، كما قال فيها: أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ [طه: 86] ، وفي قصَّةِ آدمَ تَفريطًا في العهْدِ أيضًا

.

- قولُه: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ فالمعهودُ مَحذوفٌ يدُلُّ عليه ما بعْدَه، واللَّامُ جوابُ قسَمٍ مَحذوفٍ، أيْ: وأُقسِمُ لقد أمَرْناهُ ووصَّيناهُ .

- قولُه: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا إنْ كان من الوُجودِ العِلْميِّ، فـ لَهُ عَزْمًا مفعولَاهُ؛ قُدِّمَ الثَّاني على الأوَّلِ لكونِه ظرْفًا، وإنْ كان من الوُجودِ المُقابِلِ للعدَمِ -وهو الأنسبُ؛ لأنَّ مَصبَّ الفائدةِ هو المفعولُ، وليس في الإخبارِ بكونِ العزْمِ المعدومِ له مَزيدُ مَزيَّةٍ- فـ لَهُ مُتعلِّقٌ به؛ قُدِّمَ على مفعولِه للاهتمامِ بالمُقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ، أو بمَحذوفٍ هو حالٌ من مفعولِه المُنَكَّرِ؛ كأنَّه قيل: ولم نُصادِفْ له عزْمًا .

- واستُعمِلَ نفْيُ وِجْدانِ العزْمِ عندَ آدمَ عليه السَّلامُ في مَعْنى عدَمِ وُجودِ العزْمِ من صِفَتِه فيما عُهِدَ إليه؛ تَمثيلًا لحالِ طلَبِ حُصولِه عنده بحالِ الباحثِ على عزْمِه، فلم يجِدْه عنده بعْدَ البحثِ .

2- قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى

- قولُه: وَإِذْ قُلْنَا، أي: واذكُرْ إذ قُلْنا، وتَعليقُ الذِّكْرِ بالوقتِ، مع أنَّ المقصودَ تَذكيرُ ما وقَعَ فيه من الحوادثِ؛ للمُبالَغةِ في إيجابِ ذِكْرِها؛ فإنَّ الوقتَ مُشتمِلٌ على تَفاصيلِ الأُمورِ الواقعةِ فيه؛ فالأمْرُ بذِكْرِه أمْرٌ بذِكْرِ تَفاصيلِ ما وقَعَ فيه بالطَّريقِ البُرهانيِّ ، ولأنَّ الوقتَ مُشتمِلٌ على أعيانِ الحوادثِ، فإذا ذُكِرَ صارت الحوادثُ كأنَّها مَوجودةٌ في ذِهْنِ المُخاطَبِ بوُجوداتِها العينيَّةِ، أي: اذكُرْ ما وقَعَ في ذلك الوقتِ مِنَّا ومنه؛ حتَّى يَتبيَّنَ لك نِسيانُه وفُقدانُ عزْمِه .

- وجُملةُ: أَبَى مُستأنَفةٌ، وقعَتْ جَوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ عن الإخبارِ بعدَمِ سُجودِه؛ كأنَّه قِيلَ: ما بالُه لم يَسجُدْ؟ فقِيلَ: أبى واستكبَرَ. ومَفعولُ أَبَى إمَّا مَحذوفٌ، أي: أبى السُّجودَ، كما في قولِه تعالى: أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ، أو غيرُ مَنْويٍّ رأسًا بتَنزيلِه مَنزِلَةَ اللَّازمِ، أي: فعَلَ الإباءَ وأظْهَره .

3- قوله تعالى: فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى

- قولُه: فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ الفاءُ في قولِه: فَقُلْنَا لتَرتيبِ مُوجبِ النَّهيِ على عَداوتِه لهما، أو على الإخبارِ بها .

- وهَذَا إشارةٌ إلى الشَّيطانِ؛ إشارةً مُرادًا منها التَّحقيرُ .

- وفي قولِه: إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال في سُورةِ (الأعرافِ): إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: 22] ؛ فعبَّرَ عنه باسْمِه. وقولُه: عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، هو كقولِه في (الأعرافِ): وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأعراف: 22] ؛ فذُكِرَتْ عَداوتُه لهما جُملةً هنالك، وذُكِرَت تَفصيلًا هنا، فابْتُدِئَ في ذِكْرِ مُتعلِّقِ عَداوتِه بآدمَ؛ لأنَّ آدمَ هو منشَأُ عَداوةِ الشَّيطانِ لحسَدِه، ثمَّ أُتْبِعَ بذِكْرِ زوجِه؛ لأنَّ عَداوتَه إيَّاها تبَعٌ لعَداوتِه آدمَ زوجَها، وكانت عَداوتُه مُتعلِّقةً بكلَيهما؛ لاتِّحادِ عِلَّةِ العَداوةِ .

- قولُه: فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى تَفريعٌ على الإخبارِ بعَداوةِ إبْليسَ له ولزوجِه، بأنْ نُهِيَا نهْيَ تَحذيرٍ عن أنْ يتسبَّبَ إبليسُ في خُروجِهما من الجنَّةِ؛ لأنَّ العَدُوَّ لا يَروقُه صَلاحُ حالِ عدُوِّه. ووقَعَ النَّهيُ في صُورةِ نهْيٍ عن عمَلٍ هو من أعمالِ الشَّيطانِ لا من أعمالِ آدمَ؛ كِنايةً عن نهْيِ آدمَ عن التَّأثُّرِ بوَسائلِ إخراجِهما من الجنَّةِ .

- وإنَّما أُسْنِدَ إلى آدمَ وحْدَه فِعْلُ الشَّقاءِ دونَ حوَّاءَ بعْدَ إشراكِهما في الخُروجِ؛ لأنَّ في ضِمْنِ شَقاءِ الرَّجلِ -وهو قَيِّمُ أهْلِه وأميرُهم- شَقاءَهم، كما أنَّ في ضِمْنِ سَعادتِه سعادتَهم؛ فاخْتُصِرَ الكلامُ بإسنادِه إليه دونَها، مع المُحافَظةِ على الفاصلةِ. أو أُرِيدَ بالشَّقاءِ التَّعبُ في طلَبِ القوتِ، وذلك مُتعلِّقٌ بالرَّجلِ، وهو راجعٌ إليه ؛ لِيُعلِمَنا أنَّ نَفَقةَ الزَّوجةِ على الزَّوجِ ، وأنَّ عليه التَّكَفُّلَ بأمْرِها، وهو القائِمُ عليها، فجرى اللفظُ بتَوحيدِه مِن هذه الجِهةِ .

4- قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى

- وجْهُ إفرادِه عليه السَّلامُ بما ذُكِرَ: أنَّ حواءَ تابعةٌ له في ذلك .

- وجُملةُ: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى تَعليلٌ للشَّقاءِ المُترتِّبِ على الخُروجِ من الجنَّةِ المَنْهيِّ عنه؛ لأنَّه لمَّا كان مُمَتَّعًا في الجنَّةِ برَفاهيةِ العيشِ؛ من مأكْلٍ ومَلْبَسٍ، ومَشْربٍ واعتدالِ جَوٍّ مُناسبٍ للمزاجِ: كان الخُروجُ منها مُقتضِيًا فُقدانَ ذلك .

- والعُدولُ عن التَّصريحِ بأنَّ له عليه السَّلامُ فيها تَنعُّمًا بفُنونِ النِّعمِ، مع أنَّ فيه من التَّرغيبِ في البقاءِ فيها ما لا يَخْفى، إلى ما ذُكِرَ من نفْيِ نَقائِضِها الَّتي هي الجوعُ والعطشُ، والعُرْي والضُّحِيُّ: لتَذكيرِ تلك الأُمورِ المُنْكَرةِ، والتَّنبيهِ على ما فيها من أنواعِ الشِّقوةِ الَّتي حَذَّرَه عنها؛ ليُبالِغَ في التَّحامي عن السَّببِ المُؤدِّي إليها، على أنَّ التَّرغيبَ قد حصَلَ بما سُوِّغَ له من التَّمتُّعِ بجَميعِ ما فيها، سِوى ما استُثنِيَ من الشَّجرةِ حسَبَما نطَقَ به قولُه تعالى: يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا [البقرة: 35] ، وقد طُوِيَ ذِكْرُه هَاهُنا اكتفاءً بما ذُكِرَ في مَوضعٍ آخرَ، واقتُصرَ على ما ذُكِرَ منَ التَّرغيبِ المُتضمِّنِ التَّرهيبَ .

- وفيه فَنٌّ بَديعٌ يُسمَّى قطْعَ النَّظيرِ عن النَّظيرِ؛ ففي الآيةِ فُصِلَ الظَّمأُ عن الجوعِ في الذِّكْرِ مع تَجانُسِهما وتَقارُنِهما في الذِّكْرِ عادةً، وكذا حالُ العُرْيِ والضَّحْوِ المُتجانسَينِ؛ لتَوفيةِ مَقامِ الامتنانِ حَقَّه، بالإشارةِ إلى أنَّ نفْيَ كلِّ واحدٍ مِن تلك الأُمورِ نِعْمةٌ على حِيالِها، ولو جُمِعَ بين الجوعِ والظَّمأِ لرُبَّما تُوُهِّمَ أنَّ نفْيَهما نِعْمةٌ واحدةٌ، وكذا الحالُ في الجمْعِ بين العُرْيِ والضَّحْوِ على مِنهاجِ قصَّةِ البقرةِ، ولزيادةِ التَّقريرِ بالتَّنبيهِ على أنَّ نفْيَ كلِّ واحدٍ من الأُمورِ المذكورةِ مَقصودةٌ بالذَّاتِ، مَذكورةٌ بالأصالةِ، لا أنَّ نفْيَ بعْضِها مَذكورةٌ بطَّريقِ التَّبعيةِ لنفْيِ بعْضٍ آخَرَ، كما عسى يُتَوهَّمُ لو جُمِعَ بين كلٍّ منَ المُتجانسَينِ .

- وأيضًا في قولِه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى مُقابَلةٌ مَعنويَّة حسَنَةٌ؛ فالجوعُ خُلوُّ الباطِنِ، والتعرِّي خُلوُّ الظاهِرِ، فهما مُتناسِبانِ في المَعنى، والظمأُ إحراقُ الباطِنِ، فهو مُوجِبٌ لحرارةِ الباطنِ، والضَّحوُ إحراقُ الظاهِرِ؛ فهو مُوجِبٌ لحرارةِ الظَّاهرِ، فقابَلَ الخُلوَّ بالخلوِّ، والإحراقَ بالإحراقِ، واقتَضَتِ الآيةُ نفيَ جميعِ الآفاتِ ظاهِرًا وباطِنًا .

- وأُكِّدَتِ الجُملةُ بـ (إنَّ) في قوله: إِنَّ لَكَ المكسورةِ، و(أنَّ) المفتوحةِ في قولِه: وَأَنَّكَ .

5- قوله تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى

- الفاءُ في قولِه: فَوَسْوَسَ لتَعقيبِ مَضمونِ جُملتِها على مَضمونِ الَّتي قبْلَها، وهو تَعقيبٌ نِسْبيٌّ بما يُناسِبُ مُدَّةَ تقلُّبٍ في خلالِها بخَيراتِ الجنَّةِ، حتَّى حسَدَه الشَّيطانُ، واشتَدَّ حسَدُه .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث عُدِّيَ فعْلُ (وسوَسَ) هنا بحرْفِ (إلى)، وباللَّامِ في سُورةِ (الأعرافِ): فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف: 20] ؛ وذلك باعتبارِ كيفيَّةِ تَعليقِ المجرورِ بذلك الفِعْلِ في قصْدِ المُتكلِّمِ، فإنَّه فِعْلٌ قاصرٌ، لا غِنَى له عن التَّعديةِ بالحرفِ؛ فتَعديتُه بحرْفِ (إلى) هنا باعتبارِ انتهاءِ الوَسوسةِ إلى آدمَ، وبُلوغِها إيَّاهُ، وتَعديتُه باللَّامِ في (الأعرافِ) باعتبارِ أنَّ الوَسوسةَ كانتْ لأجْلِهما ، وأيضًا كأنَّه عبَّر بـ (إلى)؛ لأنَّ المقامَ لبَيانِ سُرعةِ قَبولِ هذا النَّوعِ للنَّقائصِ وإنْ أتَتْه مِن بَعدُ، أو لأنَّه ما أنهَى إليه ذلك إلَّا بواسطةِ زَوجِه؛ لذلك عَدَّى الفِعلَ عند ذِكرِهما باللَّامِ .

- وقال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ولم يقلْ: (فيه)؛ لأنَّ المعنى أنَّه ألقَى إليه ذلك، وأوصَله إليه، فدخَل في قلبِه .

- قولُه: قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ ... إمَّا بدَلٌ من (وَسْوَسَ)، أو استئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ منه؛ كأنَّه قيلَ: فماذا قال في وَسوسَتِه؟ فقيل: قال... ، أو بَيانٌ لجُملةِ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ .

- وقولُه: هَلْ أَدُلُّكَ استفهامٌ مُستعمَلٌ في العرْضِ ، وجاء على سَبيلِ الاستفهامِ الَّذي يُشعِرُ بالنُّصحِ، ويُؤثِرُ قَبولَ مَن يُخاطِبُه .

- في قولِه: شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى سمَّاها هنا شجرةَ الخُلْدِ بالإجمالِ؛ للتَّشويقِ إلى تَعيينِها حتَّى يُقبِلَ عليها، ثمَّ عيَّنَها له عَقِبَ ذلك، بما أنبَأَ به قولُه تعالى: فَأَكَلَا مِنْهَا ، وأضافَ الشَّجرةَ إلى الخُلدِ، وهو الخُلودُ؛ لأنَّ مَن أكَلَ منها خُلِّدَ بزَعْمِه .

- في (الأعرافِ): مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ [الأعراف: 20] الآيةَ، وهنا هَلْ أَدُلُّكَ، والجمْعُ بينهما: أنَّ قولَه: هَلْ أَدُلُّكَ يكونُ سابِقًا على قولِه: مَا نَهَاكُمَا؛ لمَّا رأى إصغاءَه ومَيْلَه إلى ما عرَضَ عليه، انتقَلَ إلى الإخبارِ والحصْرِ .

6- قوله تعالى: فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى

- الفاءُ في قولِه: فَأَكَلَا مِنْهَا للتَّفريعِ على ما قبْلَه، ويُوجَدُ جُملةٌ مَحذوفةٌ دَلَّ عليها العرْضُ، أي: فعمِلَ آدمُ بوَسوسةِ الشَّيطانِ، فأكَلَ من الشَّجرةِ، وأكَلَت حوَّاءُ معه .

7- قولُه تعالى: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى جُملةٌ مُعترِضةٌ بين جُملةِ وَعَصَى آَدَمُ، وجُملةِ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا؛ لأنَّ الاجتباءَ والتَّوبةَ على آدمَ كانا بعْدَ أنْ عُوقِبَ وزوجُه بالخُروجِ من الجنَّةِ، كما في سُورةِ (البقرةِ)، وهو المُناسِبُ لتَرتُّبِ الإخراجِ منَ الجنَّةِ على المعصيةِ دونَ أنْ يترتَّبَ على التَّوبةِ. وفائدةُ هذا الاعتراضِ: التَّعجيلُ ببَيانِ مآلِ آدمَ إلى صَلاحٍ .

- وفي التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه السَّلامُ في قولِه: ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ: مَزيدُ تَشريفٍ له عليه السَّلامُ ، وإفرادُه عليه السَّلامُ بالاجتباءِ، وقَبولِ التَّوبةِ؛ لأنَّ حوَّاءَ تابِعةٌ له في ذلك .

8- قوله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى

- قولُه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ استئنافٌ بَيانيٌّ، مَبْنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من الإخبارِ بأنَّه تعالى قَبِلَ توبتَه وهداهُ؛ كأنَّه قيل: فماذا أمَرَهُ تعالى بعْدَ ذلك ؟

- قولُه: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا لمَّا كان آدمُ وحوَّاءُ عليهما السَّلامُ أصلَيِ البشرِ، والسَّببينِ اللَّذينِ منهما نشَؤُوا وتفرَّعُوا: جُعِلَا كأنَّهما البشَرُ في أنفُسِهما، فخُوطِبا مُخاطبَتَهم. ولمَّا كانا أصلَيِ الذُّرِّيةِ خاطَبَهما مُخاطبَتَهم، فقال: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، ويُؤيِّدُه قولُه: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى، وذلك على القولِ بأنَّ الخِطابَ لآدَمَ وحوَّاءَ. وأما على القولِ بأنَّ الخِطابَ لآدَمَ وإبليسَ، فقد خُوطِبَا بضَميرِ الجمْعِ في قولِه: بَعْضُكُمْ؛ لأنَّه أُرِيدَ عداوةُ نَسلَيْهما؛ فإنَّهما أصلانِ لنوعينِ: نوعِ الإنسانِ، ونوعِ الشَّيطانِ .

- وتَفريعُ جُملةِ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى على الأمْرِ بالهُبوطِ من الجنَّةِ إلى الدُّنيا: إنباءٌ بأنَّهم يَستقبِلونَ في هذه الدُّنيا سِيرةً غيرَ الَّتي كانوا عليها في الجنَّةِ؛ لأنَّهم أُودِعوا في عالَمٍ خليطٍ خيرُه بشَرِّه، وحَقائِقُه بأوهامِه، بعْدَ أنْ كانوا في عالَمِ الحقائقِ المَحْضةِ، والخيرِ الخالِصِ، وفي هذا: إنباءٌ بطَورٍ طرَأَ على أصْلِ الإنسانِ في جِبلَّتِه كان مُعَدًّا له من أصْلِ تَركيبِه .

- وفي قولِه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ وُضِعَ الظَّاهرُ مَوضِعَ المُضمرِ -حيث لم يقُلْ: (فمَنِ اتَّبَعه)- مع الإضافةِ إلى ضَميرِه تعالى؛ لتَشريفِه، والمُبالَغةِ في إيجابِ اتِّباعِه

===================

 

سورةُ طه

الآيات (124-127)

ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ

غريب الكلمات:

 

ضَنْكًا: أي: ضَيِّقةً، والضَّنكُ مِن المنازِلِ والأماكِنِ والمعايشِ: الشَّديدُ، وأصلُ (ضنك): يدلُّ على ضيقٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبينًا سوءَ عاقبةِ من أعرضَ عن ذكرِه وطاعتِه: ومَن أعرَضَ عن كِتابي فلم يتدَبَّرْه ولم يَعمَلْ بما فيه؛ فإنَّ له مَعيشةً ضَيِّقةً شاقَّةً في حياتِه وبعد مماتِه وفي الآخِرةِ، ونحشُرُه يومَ القيامةِ أعمى.

قال هذا المُعرِضُ عن ذِكرِ الله: ربِّ، لِمَ حَشَرْتَني أعمى، وقد كنتُ بَصيرًا في الدُّنيا؟ قال اللهُ تعالى له: كذلك أتَتْك آياتي البيِّناتُ، فأعرَضْتَ عنها، ولم تؤمِنْ بها، وكما تركتَها في الدُّنيا فكذلك اليومَ تُترَكُ في النَّارِ، وهكذا نُعاقِبُ مَن أسرَفَ على نَفسِه فعَصى رَبَّه، ولم يؤمِنْ بآياتِه، ولَعذابُ الآخرةِ المُعَدُّ لهم أشَدُّ ألَمًا وأدوَمُ وأثبَتُ بلا انقِطاعٍ.

تفسير الآيات:

 

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وعد اللهُ تعالى من يتَّبِعُ الهدى، أتبَعَه بالوعيدِ فيمن أعرَضَ، فقال

:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا.

أي: ومَن أعرَضَ عن كتابي فلم يتدَبَّرْه ولم يعمَلْ بما فيه؛ فإنَّ له معيشةً ضَيِّقةً مُدَّةَ حياتِه في الدُّنيا، وبعدَ مَوتِه في البَرزَخِ، وفي معادِه في الآخرةِ .

وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.

أي: ونحشُرُ المُعرِضَ عن ذِكري يومَ القيامةِ أعمى لا يُبصِرُ .

قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125).

أي: قال: يا رَبِّ، لماذا حَشَرتَني أعمى، وقد كنتُ في الدُّنيا مُبصِرًا، وما الذي صيَّرني إلى ذلك ؟!

قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126).

قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا.

أي: قال اللهُ له: كذلك جاءتك آياتُ كتابي فترَكْتَ الإيمانَ بها وتدبُّرَها، وأعرضتَ عن العَمَلِ بها .

كما قال تعالى: ...وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر: 55 - 59] .

وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى.

أي: فكما تركتَ آياتي في الدُّنيا ولم تعمَلْ بها، فكذلك يومَ القيامة تُترَكُ في العذابِ .

كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف: 51] .

وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127).

وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ.

أي: ومِثلَ ذلك الجزاءِ الشَّديدِ لِمن أعرَضَ عن ذِكري، نجزي كُلَّ مَن جاوزَ الحَدَّ، فعصى رَبَّه ولم يؤمِنْ بآياتِه .

وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى.

أي: وللعذابُ الواقِعُ في الآخرةِ أشدُّ ألَمًا ، وأدوَمُ على أصحابِه بلا انقِطاعٍ

 

.

كما قال تعالى: لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ [الرعد: 34] .

وقال سُبحانَه: فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [الزمر: 26] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى [فصلت: 16] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا أصلُ الضَّنكِ في اللُّغةِ: الضِّيقُ والشِّدَّةُ، فهذه المعيشةُ الضَّنكُ في مقابلةِ التَّوسيعِ على النَّفسِ والبَدَنِ بالشَّهَواتِ واللَّذَّاتِ والرَّاحةِ؛ فإنَّ النَّفسَ كُلَّما وَسَّعْتَ عليها ضَيَّقْتَ على القَلبِ، حتى تصيرَ معيشةً ضنكًا، وكلَّما ضَيَّقْتَ عليها وسَّعْتَ على القَلبِ حتى ينشَرِحَ وينفَسِحَ، فضَنكُ المعيشةِ في الدنيا بموجِبِ التقوى سَعَتُها في البرزخِ والآخرةِ، وسَعَةُ المعيشةِ في الدنيا بحُكمِ الهوى ضَنكُها في البَرزخِ والآخرةِ؛ فآثِرْ أحسَنَ المعيشتَينِ وأطيبَهما وأدوَمَهما، وأشْقِ البَدَنَ بنَعيمِ الرُّوحِ، ولا تُشْقِ الروحَ بنعيمِ البَدَنِ؛ فإنَّ نَعيمَ الرُّوحِ وشقاءَها أعظَمُ وأدوَمُ، ونعيمُ البَدَنِ وشَقاؤه أقصَرُ وأهوَنُ، واللهُ المستعانُ

.

2- قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى تضَمَّنَت هذه الآيةُ أنَّ مَن أعرَضَ عن الهُدى المُنَزَّلِ -وإنْ لم يُكَذِّبْ به- فإنَّه يكونُ يومَ القيامةِ في العذابِ المُهينِ، وأنَّ معيشتَه تكون ضَنْكًا في هذه الحياةِ وفي البَرزخِ والآخرةِ، وهي المضنوكةُ النَّكِدَةُ المحشوَّةُ بأنواعِ الهُمومِ والغُمومِ والأحزانِ، كما أنَّ الحياةَ الطيِّبةَ هي لِمَن آمنَ وعَمِلَ صالِحًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي عَبَّر سُبحانَه عن الإعراضِ عن الهدى المُنَزَّلِ بـ «الإعراضِ عن ذِكْرِه»؛ لأنَّ فيما أنزلَه مِن الهُدى تذكيرًا للإنسانِ، وإنذارًا له وتخويفًا

.

2- قولُه تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا يَشْمَلُ الكافرَ -وله منها حقُّ الوعيدِ- ويَشملُ المؤمِنَ المرتكِبَ الكبيرة -وله نصيبٌ مِن ضَنْكِ العيشِ بقَدْرِ إعراضِه عن الذِّكْرِ- ومذهَبُ أهلِ السُّنَّة أنَّ الشَّخْصَ الواحِدَ تَجتَمِعُ فيه الحَسَناتُ والسيِّئاتُ، فيسْتَحِقُّ الثَّوابَ والعِقابَ جَميعًا .

3- قَولُه تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا فسَّرَها غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ بعذابِ القَبرِ، وجَعَلوا هذه الآية أحَدَ الأدلَّةِ الدالَّةِ على عذابِ القَبرِ؛ ولهذا قال: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى أي: تُترَكُ في العذابِ، كما تَرَكتَ العمَلَ بآياتِنا، فذَكَر عذابَ البَرزخِ وعذابَ دار البوارِ، ونظيرُه قَولُه تعالى في حَقِّ آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا فهذا في البرزخِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46] فهذا في القيامةِ الكُبرى، ونظيرُه قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] ، فقول الملائكة: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ المرادُ به: عذابُ البرزخِ الذي أوَّلُه يومُ القَبضِ والموتِ، ونظيرُه قَولُه تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال: 50] فهذه الإذاقةُ هي في البرزخِ وأولها حينَ الوفاةِ؛ فإنَّه معطوفٌ على قَولِه: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، وهو من القَولِ المحذوفِ مَقولُه؛ لِدَلالةِ الكلامِ عليه كنظائِرِه، وكلاهما واقِعٌ وَقتَ الوفاةِ .

4- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى فيه سؤالٌ: أنَّنا نرى من المُعرِضينَ عن الإيمانِ من يكون في أخصَبِ عيشةٍ؟!

والجواب: أنَّ المعرضَ عن الإيمانِ وإن تنعَّم في الدنيا بأصنافِ النِّعم، ففي قلبِه مِن الوحشةِ والذلِّ والحسراتِ التي تقطعُ القلوبَ، والأماني الباطلةِ والعذابِ الحاضرِ ما فيه، وإنما يواريه عنه سكراتُ الشهواتِ، والعشقُ وحبُّ الدنيا والرياسةِ، وإن لم ينضمَّ إلى ذلك سكرُ الخمرِ، فسكرُ هذه الأمورِ أعظمُ مِن سكرِ الخمرِ، فإنه يفيقُ صاحبُه ويصحو، وسكرُ الهوى وحبِّ الدنيا لا يصحو صاحبُه إلا إذا كان صاحبُه في عسكرِ الأمواتِ، فالمعيشةُ الضنكُ لازمةٌ لمن أعرضَ عن ذكرِ الله الذي أنزله على رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم في دُنياه وفي البرزخِ ويومَ معادِه .

5- نسيانُ ما أُمر المرء بحفظِه مذمومٌ، قال تعالى: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وهذا النسيانُ وإن كان متضمنًا لتركِ العملِ بها مع حفظِها، فإذا نُسِيت الآياتُ بالكليةِ حتى لا يعرفَ ما فيها كان ذلك أبلغَ في تركِ العملِ بها؛ فكان هذا مذمومًا .

6- قال تعالى: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ليس داخلًا في هذا الوعيدِ الخاصِّ نسيانُ لفظِ القرآنِ مع فهمِ معناه، والقيامِ بمقتضاه، وإن كان الإعراضُ عن تلاوةِ القرآنِ، وتعريضُه للنسيانِ، وعدمُ الاعتناءِ به؛ فيه تهاونٌ كبيرٌ، وتفريطٌ شديدٌ .

7- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ يؤكِّدُ القَولَ أنَّ السَّرَفَ هو: مجاوزةُ الحَدِّ في الفِعلِ كلِّه، لا في الإنفاقِ وَحدَه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى

- قولُه: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى ... مُستأنَفٌ استئنافًا ابتدائيًّا

.

- وجُملةُ: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا واقِعةٌ في طَريقِ المُحاوَرةِ؛ فلذلك فُصِلَت عن الَّتي قبْلَها، ولم تُعْطَفْ عليها .

- وفيه ثلاثةُ احتباكاتٍ ؛ فتَقديرُ الأوَّلِ: ونحشُرُه يومَ القِيامة أعمَى ونَنساهُ. وتَقديرُ الثَّاني والثَّالثِ: قال: كذلك أتَتْك آياتُنا، فنَسِيتَها وعَمِيتَ عنها؛ فكذلك اليومَ تُنْسى وتُحشَرُ أعْمى .

2- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى

- جُملةُ: َكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ تَذييلٌ؛ يجوزُ أنْ تكونَ من حِكايةِ ما يُخاطِبُ اللهُ به مَن يُحْشَرُ يومَ القيامةِ أعمى؛ قُصِدَ منها التَّوبيخُ له والتَّنكيلُ؛ فالواوُ عاطفةٌ الجُملةَ على الَّتي قبْلَها. ويجوزُ أنْ تكونَ تَذييلًا للقصَّةِ، وليست من الخِطابِ المُخاطَبِ به مَن يُحْشَرُ يومَ القيامةِ أعْمى؛ قُصِدَ منها موعظةُ السَّامعينَ؛ ليَحْذَروا مِن أنْ يَصيروا إلى مثْلِ ذلك المصيرِ، فالواوُ اعتراضيَّةٌ؛ لأنَّ التَّذييلَ اعتراضٌ في آخرِ الكلامِ، والواوُ الاعتراضيَّةُ راجعةٌ إلى الواوِ العاطفةِ، إلَّا أنَّها عاطفةٌ مجموعَ كلامٍ على مَجموعِ كلامٍ آخرَ، لا على بعْضِ الكلامِ المعطوفِ عليه .

- قولُه: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى يجوزُ أنْ يكونَ تَذييلًا للقصَّةِ، وليس من حِكايةِ خِطابِ اللهِ للَّذي حشَرَه يومَ القيامةِ أعْمَى؛ فالمُرادُ بعذابِ الآخرةِ مُقابِلُ عذابِ الدُّنيا المُفادِ من قولِه: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124] الآيةَ -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، والواوُ اعتراضيَّةٌ. ويجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ من حِكايةِ خِطابِ اللهِ للَّذي يَحشُرُه أعْمى؛ فالمُرادُ بعذابِ الآخرةِ: العذابُ الَّذي وقَعَ فيه المُخاطَبُ، أي: أشدُّ من عَذابِ الدُّنيا -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، وأبْقى منه؛ لأنَّه أطوَلُ مُدَّةً

=========

 

سورةُ طه

الآيات (128-130)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات :

 

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ: أي: يُبَيِّنْ لهم، أو يَتَبيَّنْ لهم، وأصلُ (هدي) هنا: التَّقدُّمُ للإرشادِ

.

لِأُولِي النُّهَى: أي: أصحابِ العقولِ، والنُّهَى جمعٌ، مفردُه نُهْيَةٌ، وسُمِّي العقلُ بذلك؛ لأنَّه يَنهَى عن قبيحِ الفعلِ، وأصلُ (نهي): يدُلُّ على غايةٍ وبلوغٍ .

لِزَامًا: أي: ملازمًا لا يفارقُ، أو: لازمًا، أو: حتمًا واقعًا، واللِّزامُ مصدرُ لازَمَ، وأصلُ (لَزِمَ): يَدُلُّ على مُصاحبةِ الشَّيءِ بالشَّيءِ دائمًا .

وَأَجَلٌ مُسَمًّى: أصلُ الأجَلِ: غايةُ الوَقتِ، والمُدَّةُ المضروبةُ للشَّيءِ، ومُسَمًّى أَي: مُثبَتٌ مُعَيَّنٌ .

آَنَاءِ اللَّيْلِ: أي: ساعاتِه، وأصلُ (أني) هنا: ساعةٌ مِن الزَّمانِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى

قولُه تعالى: وَأَجَلٌ مَرفوعٌ بالعَطفِ على كَلِمَةٌ أي: ولولا كَلِمةٌ وأجَلٌ مُسمًّى لكان الأخذُ العاجِلُ لِزامًا لهم. وقيل: مَرفوعٌ عطفًا على الضَّميرِ المُستَترِ في (كان) العائدِ على الأخذِ العاجلِ المدلولِ عليه بالسِّياقِ، وقام الفَصلُ بـ (لِزَامًا) مَقامَ التأكيدِ. والتقديرُ: ولولا كَلِمةٌ سَبقَت مِن ربِّك، لكان الأخذُ العاجِلُ وأجَلٌ مُسَمًّى لازِمَين لهم

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى موبخًا هؤلاء الذين لم ينتفِعوا بآياتِه: أفلَمْ يتبَيَّنْ لِمُشرِكي العَرَبِ -يا محمَّدُ- كَثرةُ مَن أهلَكْنا مِن الأمَمِ المكَذِّبةِ قَبْلَهم، وهم يمشونَ في ديارِهم، ويَرَون آثارَ هلاكِهم بسَبَبِ كُفرِهم؟! إنَّ في إهلاكِ تلك الأمَمِ المكذِّبةِ لَعِبَرًا وعظاتٍ لأهلِ العُقولِ الواعيةِ، ولولا تقديرُ اللهِ تأخيرَ عذابِهم إلى وقتٍ مقدَّرٍ، لحاقَ بهم الهلاكُ العاجِلُ.

ثمَّ يأمرُ الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بالمداومةِ على الصبرِ، والإكثارِ مِن ذكرِه، فيقول: فاصبِرْ على ما يقولُه المكَذِّبونَ بك مِن كُفَّارِ قَومِك، وسبِّحْ بحَمدِ رَبِّك قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ بأن تصلِّيَ صَلاةَ الفَجرِ، وقبلَ غروبِها بأن تصلِّيَ صلاةَ العَصرِ، ومِن ساعاتِ اللَّيلِ فَصَلِّ، وأطرافَ النَّهارِ؛ كي تَرْضى بما تُثابُ عليه.

تفسير الآيات:

 

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما بيَّنَ الله تعالى أنَّ من أعرَضَ عن ذِكرِه كيف يُحشَرُ يوم القيامة، أتبَعَه بما يَعتَبِرُ به المكَلَّفُ من الأحوالِ الواقعةِ في الدنيا بمن كَذَّبَ الرسُلَ

.

وأيضًا لما كان ما مضَى من هذه السورةِ وما قبلَها مِن ذكرِ مصارعِ الأقدمينَ، وأحاديثِ المكذبينَ، بسببِ العصيانِ على الرسلِ، سببًا عظيمًا للاستبصارِ والبيانِ، كانوا أهلًا لأن يُنكِرَ عليهم لزومَهم لعماهم؛ فقال تعالى :

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ.

أي: أفلَمْ يتبَيَّنْ لِمُشرِكي العَرَبِ كثرةُ من أهلَكْنا قبلهم من الأُمَمِ الماضيةِ، وهم يسيرونَ في مساكِنِهم إذا سافروا، ويَرَونَ آثارَ هَلاكِهم بسَبَبِ كُفرِهم، أفلا يخافونَ أنْ نُهلِكَهم مِثْلَهم، إن لم يؤمِنوا ويُذعِنوا للحَقِّ الذي جاءَهم ؟!

كما قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ [الأنعام: 6] .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى.

أي: إنَّ في إهلاك الأمَمِ المكذِّبةِ لَدلالاتٍ وعِظاتٍ لِذَوي العُقولِ الصَّحيحةِ .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] .

وقال سُبحانَه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 36، 37].

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 51].

وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا هَدَّدَهم الله تعالى بإهلاكِ الماضين، ذكرَ سَبَبَ التأخيرِ عنهم .

وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).

أي: ولولا تَقديرُ الله تأخيرَ العذابِ إلى وَقتٍ مُقَدَّرٍ ؛ للزِمَهم الهلاكُ عاجِلًا .

كما قال تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان: 77] .

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا أخبَرَ الله تعالى نبيَّه بأنَّه لا يُهلِكُ أحدًا قبلَ استيفاءِ أجَلِه؛ أمَرَه بالصبر على ما يقولونَ، فرَغَّبَه تعالى في الصبرِ، وبعَثه على الإدامةِ على الدعاءِ إلى الله تعالى، وإبلاغِ ما حُمِّلَ مِن الرسالةِ، وألَّا يكونَ ما يُقدِمونَ عليه صارفًا له عن ذلك .

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ.

أي: فاصبِرْ -يا محمَّدُ- على ما يقولُ كُفَّارُ قَومِك مِن تكذيبِك، والاستهزاءِ بك، وإيذائِك، كقولهم: هو ساحِرٌ ومجنونٌ؛ فلا تستعجِلْ لهم العذابَ، ولا تحفِلْ بهم؛ فإنَّ لعذابِهم وَقتًا مضروبًا لا يُتقَدَّمُ عنه، ولا يُتأخَّرُ .

وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا.

أي: ونزِّه -يا محمَّدُ- ربَّك عن كلِّ نَقصٍ، حامدًا له بإثباتِ كُلِّ كَمالٍ مع محبَّتِه وتَعظيمِه سُبحانَه، وذلك بأن تصلِّيَ له وَحدَه قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ: صلاةَ الفَجرِ، وقبل غُروبِها، صلاةَ العَصرِ .

كما قال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 97، 98].

وعن جريرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنه قال: ((كنَّا عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذ نظَرَ إلى القَمَرِ ليلة البَدرِ فقال: أمَا إنَّكم ستَرَونَ رَبَّكم كما تَرَونَ هذا، لا تضامُّونَ -أو لا تضاهون - في رؤيتِه، فإن استطعتُم ألَّا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوعِ الشَّمسِ وقبل غُروبِها، فافعَلوا)) ثم قال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا .

وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ.

أي: ومِن ساعاتِ اللَّيلِ فَصَلِّ -يا محمَّدُ .

كما قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 39، 40].

وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى.

أي: وصلِّ -يا محمَّد- في أطرافِ النَّهارِ؛ كي ترضى بما يعطيك ربُّك مِن الثوابِ العاجِلِ والآجِلِ، ويطمَئِنَّ قَلْبُك وتقَرَّ عَينُك بعبادةِ رَبِّك، وتتسلَّى بها عن أذيَّتِهم، ويَهونَ عليك الصَّبرُ .

عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولون: لبَّيك ربَّنا وسَعدَيك ، فيقولُ: هل رَضِيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خَلقِك؟! فيقولُ: أنا أُعطيكم أفضَلَ مِن ذلك، قالوا: يا رَبِّ، وأيُّ شَيءٍ أفضَلُ مِن ذلك؟! فيقولُ: أحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى فيه أنَّه ما كُلُّ أحدٍ ينتَفِعُ بالآياتِ، إنما ينتَفِعُ بها أولو النُّهى، أي: العقولِ السليمةِ، والفِطَرِ المُستقيمة، والألبابِ التي تَزجُرُ أصحابَها عمَّا لا ينبغي

.

2- قال الله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى أمَرَ تعالى عَقيبَ الصَّبرِ بالتَّسبيحِ؛ لأنَّ ذِكرَ اللهِ تعالى يفيدُ السَّلوةَ والرَّاحةَ؛ إذ لا راحةَ للمُؤمِنينَ دونَ لقاءِ الله تعالى

 

، على أحدِ القولينِ في المرادِ بالتسبيحِ.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى حُجَّةٌ على القَدَريَّةِ والمُعتزلةِ في ذِكْرِ سابقِ الكَلِمةِ، وهو -واللهُ أعلمُ- نظيرُ قَولهِ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68] في معنى السَّبْقِ

.

2- تَسبيحُ اللهِ تعالى كثيرًا ما يُقرَنُ بتَحميدِه؛ فإنَّ الله تعالى يَذكُرُ في غيرِ مَوضِعٍ التَّسبيحَ بحَمدِه، كقَولِه جَلَّ وعلا: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، وقَولِه: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] ، وقَولِه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر: 7] ، وقَولِه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48]. والتَّسبيحُ والتَّحميدُ يَجمَعُ النفيَ والإثباتَ، وهو نفيُ المعائِبِ، وإثباتُ المحامِدِ؛ وذلك يتضَمَّنُ التعظيمَ؛ فالتسبيحُ يتضَمَّنُ التنزيهَ المُستَلزِمَ للتَّعظيمِ، والحمدُ يتضَمَّنُ إثباتَ المحامِدِ المتضَمِّنَ لِنَفي نقائِصِها .

3- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ أفاد بذِكرِ الجارِّ في (الآناءِ) التبعيضَ؛ لأنَّ الليلَ محَلُّ الراحةِ، ونَزعُه من الأطرافِ لتيسُّرِ استغراقِها بالذِّكرِ؛ لأنَّ النَّهارَ مَوضِعُ النشاطِ واليَقَظةِ .

4- قول الله تعالى: وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وجهُ الاهتمامِ بآناءِ اللَّيلِ: أنَّ اللَّيلَ وقتٌ تَميلُ فيه النُّفوسُ إلى الدَّعَةِ، فيُخشى أن يُتساهَلَ في أداءِ الصَّلاةِ فيه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى

- قولُه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَقريرِ ما قبْلَه مِن قولِه تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الآيةَ، والهمزةُ للإنكارِ التَّوبيخيِّ، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ. واستعمالُ الهدايةِ باللَّامِ؛ إمَّا لتَنزيلِها مَنزِلةَ اللَّازمِ، فلا حاجةَ إلى المفعولِ، أو لأنَّها بمعنى التَّبيينِ، والمفعولُ مَحذوفٌ

.

- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى تَعليلٌ للإنكارِ، وتَقريرٌ للهدايةِ مع عدَمِ اهتدائِهم، وذلك إشارةٌ إلى مَضمونِ قولِه تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا إلخ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإشعارِ ببُعْدِ مَنزلتِه وعُلوِّ شأْنِه في بابِه .

- وحرْفُ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ بالخبرِ، وللإيذانِ بالتَّعليلِ. وفي هذا تَعريضٌ بالَّذين لم يَهْتَدوا بتلك الآياتِ بأنَّهم عَديمو العُقولِ، كقولِه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ بالفاءِ مِن غيرِ (مِن)، وفي (السَّجدةِ): أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ [السجدة: 26] بالواوِ وبعْدَه (مِن). ووجْهُه: أنَّ الفاءَ للتَّعقيبِ والاتِّصالِ بالأوَّلِ، فطال الكلامُ، فحسُنَ حذْفُ (مِن). والواوُ تدُلُّ على الاستئنافِ، وإثباتُ (مِن) مُسْتثقَلٌ .

وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّ قولَه في الآيةِ الأُولى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كلامٌ لم يَتقدَّمْه ما يكونُ هذا معطوفًا عليه، وإنَّما هو كلامٌ مُستأنفٌ مُبتدأٌ، فما تقدَّمَ قبْلَه من قولِه تعالى إخبارًا عمَّن أعرَضَ عمَّا جاءت به الرُّسلُ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124] إلى قولِه: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127] ، هذا إخبارٌ عن جَزاءِ مَن أعرَضَ ولم يُؤمِنْ، ثمَّ ورَدَ ما بعْدُ مُسْتأنَفًا واردًا مَورِدَ ما يَرِدُ من الكلامِ الْتِفاتًا، ثمَّ ابتدَأَ تَوبيخَهم وتذكيرَهم، فقال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ، وإذا كان قولُه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مُبتدأً مُستأنَفًا، فالموضعُ للفاءِ، ومثله ما أتى ممَّا الوجْهُ فيه الاستئنافُ، ولم يُقْصَدْ عطْفُه على ما قبْلَه، وإنَّما ارتباطُه بما تقدَّمَه من جِهَةِ المعنى، ولا مدخَلَ فيه للعطفِ، مع أنَّ الالْتِحامَ حاصلٌ من وجْهٍ كما بيَّنَّا.

وأمَّا آيةُ (السَّجدةِ) فالْواوُ فيها عاطفةٌ على مُقدَّرٍ؛ لمَّا قال اللهُ تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [السجدة: 22] ، كأنْ قد قِيلَ: أفلَا تذكَّروا ولم يُعرِضوا أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ [السجدة: 26] ، أولَمْ يُبيِّنْ لهم إهلاكُ مَن تقدَّمَهم منَ القُرونِ.

وأمَّا زِيادةُ (مِن) في قولِه في آيةِ (السَّجدةِ): مِنْ قَبْلِهِمْ [السجدة: 26] ، فإنَّها مقصودٌ فيها استغراقُ عُمومٍ لمُناسَبةِ ما تقدَّمَ هذه الآيةَ مِن حصْرِ التَّقسيمِ في قولِه: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18] ، وأُعْقِبَت به، ممَّا يُفْهِمُه قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] ؛ إذ ليس هنا الواردُ كالواردِ في سُورةِ (طه) من قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [طه: 128] ، فهذا يُشعِرُ بخُصوصٍ يُناسِبُه سُقوطُ (مِن) الاستغراقيَّةِ، وما في آيةِ (السَّجدةِ) يُشعِرُ بعُمومٍ واستغراقٍ تُناسِبُه (مِن) في قولِه: مِنْ قَبْلِهِمْ، فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ ويَجِبُ .

2- قولُه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى كَلامٌ مُستأنَفٌ سِيقَ لبَيانِ حِكْمةِ عدَمِ وُقوعِ ما يُشْعِرُ به قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الآيةَ، مِن أنْ يُصيبَهم مثْلُ ما أصاب القُرونَ المُهلَكةَ. وفي التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه السَّلامُ: تَلويحٌ بأنَّ ذلك التَّأخيرَ لتَشريفِه عليه السَّلامُ، كما يُنْبِئُ عنه قولُه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] .

- و(اللِّزامُ) إمَّا مصْدرُ (لازَمَ)؛ وُصِفَ به لقصْدِ المُبالَغةِ في قُوَّةِ المعنى؛ كأنَّه حاصِلٌ من عِدَّةِ ناسٍ، وإمَّا (فِعال) بمعنى (مُفعِل)، أي: مُلْزِم، كأنَّه آلةُ اللُّزومِ؛ لفرْطِ لُزومِه .

- قولُه: أَجَلٍ مُسَمًّى معطوفٌ على كَلِمَةٌ، وفصْلُه عمَّا عُطِفَ عليه؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ جَوابِ (لولا)، وللإشعارِ باستقلالِ كلٍّ منهما بنفْيِ لُزومِ العذابِ، ومُراعاةِ فواصلِ الآيِ الكريمةِ .

- وفي الآيةِ تَقديمٌ وتأخيرٌ، أي: ولولا كلمةٌ سبَقَتْ من ربِّك وأجَلٌ مُسمًّى، لكان العذابُ لِزامًا، أي: لازِمًا لهم كما لزِمَ الأُمَمَ الَّتي قبْلَهم .

3- قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى

- قولُه: وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ المُرادُ به المغربُ والعشاءُ -على أحدِ الأقوالِ- وتَقديمُ الوقْتِ فيهما؛ لاختصاصِهما بمَزيدِ الفضْلِ؛ فإنَّ القلْبَ فيهما أجمَعُ، والنَّفسَ إلى الاستراحةِ أميَلُ، فتكونُ العِبادةُ فيهما أشَقَّ .

- قولُه: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ قيل: هو تَكريرٌ لصَلاتيِ الصُّبحِ والمغربِ إرادةَ الاختصاصِ، ومَجيئُه بلفْظِ الجمْعِ لأمْنِ الإلباسِ. وقيل: هو أمْرٌ بصَلاةِ الظُّهرِ؛ فإنَّه نِهايةُ النِّصفِ الأوَّلِ من النَّهارِ وبِدايةُ النِّصفِ الآخرِ، وجمْعُه باعتبارِ النِّصفينِ، أو لأنَّ النَّهارَ جنْسٌ، أو بالتَّطوُّعِ في أجزاءِ النَّهارِ . وقيل: هو تكريرٌ لصَلاتَيِ الصُّبحِ والعَصرِ؛ إعلامًا بمزيد فَضلِهما .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: 130] ، وفي سُورةِ (ق): فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39] ، فقال في الأُولى: وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وفي الثَّانيةِ: وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وفي سُورةِ الطُّورِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ [الطور: 48، 49]، وذلك لرَعْيِ الفواصلِ ومَقاطعِ الآيِ؛ فقد تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (ق) من قولِه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38]، فناسَبَ هذا قولُه: وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وأمَّا آيةُ (طه) فقدِ اكتنَفَها آيٌ، مَقاطِعُها الألِفُ المفتوحُ ما قبْلَها نُطْقًا وتقديرًا، فجاء ذلك على ما يجِبُ في السُّورتينِ.

أمَّا قولُه تعالى في السُّورتينِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [طه: 130] [ق: 39] ، بناءً على المُتقدِّمِ فيهما من قولِه تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48] واتِّصالِه به، فَبِيِّنُ الوُضوحِ؛ لأنَّ المُرادَ أمْرُه عليه السَّلامُ بالصَّبرِ على أذاهمْ في قولِهم: كاهنٌ، ومجنونٌ، وساحرٌ، إلى غيرِ ذلك ممَّا نزَّهَ اللهُ نَبِيَّه عليه السَّلامُ منه، فأُمِرَ بالصَّبرِ على ذلك، وأُمِرَ أنْ يَستعينَ بصبْرِه وصَلاتِه، كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] ، وهو المُرادُ أيضًا هنا، وعن الصَّلاةِ عبَّرَ بالتَّسبيحِ -في قولِ أكثرِ المُفسِّرينَ-، وإنْ أُرِيدَ بالتَّسبيحِ معنى التَّنزيهِ بالذِّكرِ المعروفِ، فذلك أيضًا بَيِّنٌ، والمعنى مُتعارَفٌ، ويكونُ مأمورًا بالصَّبرِ والذِّكرِ والتَّنزيهِ، فالالْتِحامُ بيِّنٌ .

- ومن المُناسَبةِ أيضًا قولُه هنا: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وفي سُورةِ (هودٍ) قال: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ [هود: 114] ؛ قيل: جاءتِ التَّثنيةُ على الأصْلِ، والجمْعُ لأمْنِ اللَّبسِ؛ إذ النَّهارُ ليس له إلَّا طَرفانِ. وقيل: هو على حَقيقةِ الجمْعِ؛ الفجْرُ: الطَّرفُ الأوَّلُ، والظُّهرُ والعصرُ من الطَّرفِ الثَّاني، والطَّرفُ الثَّالثُ: المغرِبُ والعشاءُ. وقيل: النَّهارُ له أربعةُ أطرافٍ: عندَ طُلوعِ الشَّمسِ، وعندَ غُروبِها، وعندَ زَوالِ الشَّمسِ، وعندَ وُقوفِها للزَّوالِ. وقيل: الظُّهرُ في آخرِ طرَفِ النَّهارِ الأوَّلِ، وأوَّلِ طرَفِ النَّهارِ الآخِر، فهي في طَرفينِ منه، والطَّرفُ الثَّالثُ: غُروبُ الشَّمسِ، وهو وقْتُ المغربِ. وقيل: يُجْعَلُ النَّهارُ للجنْسِ، فلكلِّ يومٍ طرَفٌ، فيتكرَّرُ بتَكرُّرِه. وقيل: المُرادُ بالأطرافِ السَّاعاتُ؛ لأنَّ الطَّرفَ آخِرُ الشَّيءِ . وقيل: إنَّه إنَّما جُمِع؛ لأنَّه يتكَرَّرُ في كلِّ نهارٍ ويعودُ

 

====================

 

سورةُ طه

الآيات (131-135)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ

غريب الكلمات:

 

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ: أي: لا تُطِلْ نظرَ عينَيْك، ومدُّ العينينِ هو تطويلُ النظرِ، وأصلُ المَدِّ: الجرُّ، ومنه: المُدَّةُ للوقتِ الممتدِّ

.

أَزْوَاجًا: أي: أصنافًا، وقيل: أشباهًا وأقرانًا، وأصلُ (زوج): يَدُلُّ على مُقارنةِ شيءٍ لشيءٍ .

زَهْرَةَ: أي: بَهْجَةَ وبُهرُجَ وزينةَ، وأصلُ (زهر): يدُلُّ على حُسنٍ وضِياءٍ وصَفاءٍ .

بَيِّنَةُ: أي: بيانُ وبرهانُ، والبيِّنةُ: الدلالةُ الواضحةُ؛ يُقال: بان الشيءُ وأبان، إذا اتَّضح وانكَشف .

الصُّحُفِ الْأُولَى: أي: التوراةِ والإنجيلِ والكُتُبِ المتقَدِّمةِ، وأصلُ (صحف): يدُلُّ على انبِساطٍ في شَيءٍ وسَعَةٍ .

نَذِلَّ: الذِّلَّةُ: الصَّغارُ، وأصلُ الذُّلِّ: الخُضوعُ والاستكانةُ .

وَنَخْزَى: أي: نَهلِك ونَبعَد، والخِزيُ: النَّكالُ والفَضيحةُ، وأصلُه: يدُلُّ على الإبعادِ .

السَّوِيِّ: أي: المستقيمِ المستوي، والسَّوِيُّ يقال فيما يُصانُ عن الإفراطِ والتَّفريطِ من حيثُ القدرُ، والكيفيَّةُ، وأصلُ (سوي): يدُلُّ على استقامةٍ، واعتدالٍ بينَ شيئينِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

قَولُه: زَهْرَةَ منصوبٌ، وفي نَصبِه أوجُهٌ:

أحَدُها: أنَّه مفعولٌ به ثانٍ بتضمينِ مَتَّعْنَا معنى (أعطينا)، وأَزْوَاجًا هو المفعولُ به الأوَّلُ.

الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِن مَا الموصولةِ.

الثالثُ: أنَّه حالٌ من الهاء في بِهِ.

الرَّابعُ: أنَّه منصوبٌ على الذَّمِّ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

ينهَى الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإعجابِ بالدنيا وزينتِها، فيقولُ: ولا تنظُرْ -يا محمَّدُ- إلى ما مَتَّعْنا به هؤلاء المُشرِكينَ مِن أنواعِ المُتَعِ والمَباهِجِ؛ فإنَّها زينةٌ زائِلةٌ في هذه الحياةِ الدُّنيا، مَتَّعناهم بها؛ لنبتَلِيَهم بها، ورِزقُ رَبِّك وثوابُه خَيرٌ لك مِن زينةِ الدُّنيا وأدوَمُ.

وأْمُرْ -يا محمَّدُ- أهلَك بالصَّلاةِ، واصطَبِرْ على أدائِها، لا نسألُك رِزقًا، نحن نَرزُقُك ونعطيك، والعاقِبةُ الصَّالحةُ في الدُّنيا والآخرةِ لأهلِ التَّقوى.

ثمَّ يذكرُ الله تعالى بعضَ الشبهاتِ التي أثارها المشركون حولَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويُبيِّنَ بطلانَها فيقولُ: وقال المُشرِكونَ: هلَّا يأتينا محمَّدٌ بمُعجِزةٍ مِن رَبِّه تدلُّ على صِدقِه. أولَمْ يأتِهم هذا القرآنُ المصدِّقُ لِما في الكُتُبِ السَّابِقةِ مِن الحقِّ؟!

ولو أنَّا أهلَكْنا هؤلاء المُشرِكينَ بعذابٍ مِن قَبلِ أن نُرسِلَ إليهم رسولًا وننَزِّلَ عليهم كِتابًا، لقالوا: ربَّنا، هلَّا أرسَلْتَ إلينا رسولًا مِن عِندِك فنُصَدِّقَه ونتَّبِعَ آياتِك مِن قَبلِ أن نَذِلَّ ونَخزى بعَذابِك.

ثمَّ يأمرُ الله رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يهدِّدَهم بسوءِ العاقبةِ، إذا ما استمرُّوا في طغيانِهم، ويقولُ له: قل لهؤلاء المشركينَ بالله: كلٌّ مِنَّا ومنكم مُنتَظِرٌ دوائِرَ الزمانِ بالآخَرِ، ولِمَن يكونُ النَّصرُ والفَلاحُ، فستَعلَمون -أيُّها المُشرِكونَ: مَن أهلُ الطَّريقِ المُستقيمِ، ومَن المهتدي للحَقِّ منَّا ومنكم!

تفسير الآيات:

 

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ الله تعالى أعقَبَ أمرَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالصَّبرِ على ما يقولونَه بنَهيِه عن الإعجابِ بما يُنَعَّمُ به مَن تنعَّمَ مِن المشركينَ بأموالٍ وبنينَ في حينِ كُفرِهم باللهِ، بأنَّ ذلك لحِكَمٍ يَعلَمُها الله تعالى، منها إقامةُ الحُجَّةِ عليهم، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ

[المؤمنون: 55، 56].

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.

أي: ولا تُطِلِ النَّظَرَ -يا محمَّدُ- بإعجابٍ ورَغبةٍ وتمنٍّ إلى ما أعطَيناه للأغنياءِ المُترَفينَ من هؤلاءِ المُعرِضينَ عن آياتِ رَبِّهم من نِعَمٍ ومَباهِجَ زائلةٍ، يتمتَّعونَ بها مِن زينةِ الدُّنيا الفانيةِ؛ فإنَّما جعلناها لهم لنبتَلِيَهم ونختَبِرَهم بذلك .

عن عُمَرَ رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: ((ادعُ اللهَ يا رسولَ اللهِ أن يوسِّعَ على أمَّتِك؛ فقد وسَّعَ على فارسَ والرُّومِ، وهم لا يَعبُدونَ الله. فاستوى جالسًا، ثمَّ قال: أفي شكٍّ أنت يا ابنَ الخطَّابِ؟! أولئك قومٌ عُجِّلَتْ لهم طيِّباتُهم في الحياةِ الدُّنيا)) .

وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى.

أي: وثوابُ الله لك -يا محمَّدُ- في الآخرةِ خَيرٌ مِن زينةِ الدُّنيا وأدوَمُ؛ لأنَّه ثوابٌ لا ينقَطِعُ .

كما قال تعالى: إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 95، 96].

وقال سُبحانَه: وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 17].

وقال عزَّ وجَلَّ: وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى: 4، 5].

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لمَّا أمر الله تعالى بتزكيةِ النَّفسِ؛ أتبَعَه الإعلامَ بأنَّ منها تزكيةَ الغَيرِ؛ لأنَّ ذلك أدَلُّ على الإخلاصِ، وأجدَرُ بالخلاصِ، فقال :

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا.

أي: وأْمُرْ -يا محمَّدُ- أهلَك بإقامةِ الصَّلاةِ، وحُثَّهم على المحافظةِ عليها، واصبِرْ على القيامِ بها، وأدائِها في أوقاتِها بحُدودِها وأركانِها، وآدابِها وخُشوعِها .

كما قال تعالى عن إسماعيلَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مريم: 55].

وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مُرُوا أولادَكم بالصَّلاةِ وهم أبناءُ سَبعِ سِنينَ، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عَشرٍ)) .

لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ.

أي: لا نُكَلِّفُك -يا محمَّدُ- رِزقًا، بل نكَلِّفُك بإقامةِ الصَّلاةِ وقد تكَفَّلْنا برِزْقِك ورِزقِ جَميعِ الخَلقِ؛ فلا تَنشَغِلْ بطَلَبِ الرِّزقِ عن أداءِ الصَّلاةِ .

قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 56 - 58].

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الله تعالى يقولُ: يا ابنَ آدَمَ، تفَرَّغْ لعبادتي أملأْ صَدْرَك غِنًى، وأسُدَّ فَقْرَك، وإلَّا تفعَلْ ملأتُ يديك شُغلًا، ولم أسُدَّ فَقْرَك)) .

وعن زيدِ بنِ ثابتٍ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن كانت الدُّنيا هَمَّه، فرَّق اللَّهُ عليه أمرَه، وجَعَل فقرَه بينَ عينَيْه، ولم يأْتِهِ مِن الدُّنيا إِلَّا ما كُتِب له. ومَن كانت الآخرةُ نيَّتَه، جَمَع له أمرَه، وجَعَل غِناهُ في قلبِه، وأتَتْه الدُّنيا وهي راغمةٌ)) .

وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى.

أي: والعاقبةُ المحمودةُ في الدُّنيا والآخرةِ لأهلِ التَّقوى .

كما قال تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] .

وقال سُبحانَه: تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] .

وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ سبحانه بعد الوصيَّةِ بالصَّلاةِ، حكى عن المُشرِكينَ شُبهَتَهم، فكأنَّه من تمامِ قَولِه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [طه: 130] .

وأيضًا فإنَّه رجوعٌ إلى التَّنويهِ بشأنِ القُرآنِ، وبأنَّه أعظَمُ المعجِزاتِ، وهو الغَرَضُ الذي انتَقَل منه إلى أغراضٍ مُناسِبةٍ مِن قَولِه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] ، والمناسَبةُ في الانتِقالِ هو ما تضَمَّنه قَولُه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [طه: 130] ؛ فجيءَ هنا بشُنْعٍ مِن أقوالِهم التي أمَرَ اللهُ رَسولَه بأن يَصبِرَ عليها؛ فمِن أقوالِهم التي يَقصِدونَ منها التعَنُّتَ والمكابَرةَ أن قالوا: لولا يأتينا بآيةٍ مِن عندِ رَبِّه فنُؤمِنَ برِسالتِه .

وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ.

أي: وقال المُشرِكونَ: هلَّا يأتينا محمَّدٌ بمُعجِزةٍ مِن رَبِّه، كمعجزاتِ الأنبياءِ مِن قَبْلِه ؟

أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى.

مُناسَبتُها لما قَبلَها:

لَمَّا تضَمَّنَ قَولُهم السَّابِقُ أنَّهم لم يَعُدُّوا شيئًا من هذه البيِّناتِ -التي أدلَى بها على مَن تقَدَّمَه- آيةً؛ مكابرةً- استحَقُّوا الإنكارَ، فقال :

أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى.

أي: أولمْ يأتِ المشركينَ الذين يَطلُبونَ الآياتِ، القرآنُ الذي يخبِرُهم بما في كتُبِ الأنبياءِ السَّابِقينَ، كالبِشارةِ بمحَمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، الذي جاء مصَدِّقًا لها، ومطابقًا لأخبارِها، ومِن ذلك أخبارُ الأُمَمِ الذين سألوا أنبياءَهم الآياتِ، فلم يؤمِنوا بها فأهلَكْناهم؟ فماذا يُؤمِّنُ هؤلاء المُشرِكينَ إن أتَتْهم آيةٌ أن يكونَ حالُهم كحالِ أولئك فيَهلِكوا مِثلَهم ؟

كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: 76] .

وقال سُبحانه: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 50، 51].

وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [الإسراء: 59].

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما من الأنبياءِ نبيٌّ إلَّا أُعطِيَ ما مِثلُه آمَنَ عليه البَشَرُ، وإنما كان الذي أُوتيتُ وَحيًا أوحاه اللهُ إليَّ، فأرجو أن أكونَ أكثَرَهم تابِعًا يومَ القيامةِ )) .

وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا تَبيَّنَ بما سبق أنَّ المُشرِكينَ يَطعَنونَ بما لا شُبهةَ لهم فيه أصلًا؛ أتبعه ما كان لهم فيه نوعُ شُبهةٍ لو وقَعَ، فقال :

وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ.

أي: ولو أنَّا أهلَكْنا هؤلاء المُشرِكينَ المُكَذِّبينَ بالقرآنِ بعَذابٍ مِن قَبلِ نُزولِ القُرآنِ عليهم، وإرسالِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم إليهم؛ لقالوا يومَ القيامةِ محتَجِّينَ على اللهِ: رَبَّنا، هلَّا أرسَلْتَ إلينا رسولًا فنُؤمِنَ ونَعمَلَ بما جاء به مِن آياتِ كِتابِك !

كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .

مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى.

أي: مِن قَبلِ أن نَذِلَّ بالعذابِ، ونَخزَى في النَّارِ .

كما قال تعالى: رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] .

قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا عَلِمَ الله تعالى أنَّ إيمانَ هؤلاء المشركينَ كالمُمتَنِعِ، وجدالَهم لا ينقَطِعُ، بل إنْ جاءهم الهُدى طعنوا فيه، وإنْ عُذِّبوا قبله تظَلَّموا، كان كأنَّه قيل: فما الذي أفعَلُ معهم؟ فقال :

قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا.

أي: قُلْ لهم -يا محمَّدُ: كلٌّ منا ومنكم مُنتَظِرٌ دوائِرَ الزَّمانِ بالآخَرِ، ولِمَن يكون النَّصرُ؛ فداوِموا على انتظارِكم .

كما قال تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة: 52] .

فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى.

أي: فستَعلَمونَ -أيُّها المُشرِكونَ- مَن هم أهلُ الطَّريقِ المُستَقيمِ المُعتَدِلِ الذي لا اعوِجاجَ فيه أنحن أم أنتم، وستَعلَمونَ مَن كان مُهتَديًا إلى الحَقِّ، ومَنِ الحائِدُ عنه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فيه النَّهيُ عن التشَوُّفِ إلى ما في أيدي النَّاسِ

.

2- قولُه تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ فيه أنَّه ينبغي للمُوَفَّقِ ألَّا ينظُرَ إلى زينةِ الدُّنيا نَظرةَ المُعجَبِ المَفتونِ، وأن يقنَعَ برِزقِ رَبِّه، وأن يتعَوَّضَ ممَّا مُنِعَ منه من الدُّنيا بزادِ التقوى الذي هو عبادةُ اللهِ، واللَّهَجُ بذِكرِه .

3- قال الله تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ لقد شَدَّدَ المتَّقونَ في وجوبِ غَضِّ البَصَرِ عن أبنيةِ الظَّلَمةِ وعُدَدِ الفَسَقةِ في اللِّباسِ والمركوبِ وغيرِ ذلك؛ لأنَّهم اتَّخَذوا هذه الأشياءَ لِعُيونَ النظَّارةِ؛ فالنَّاظِرُ إليها مُحَصِّلٌ لغَرَضِهم،؛ وكالمقَوِّي لهم على اتخاذِها .

4- في قَولِه تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: لا تنظُرْ إلى أهلِ الدنيا، وما مُتِّعُوا به مِن النعيمِ، ومِن المراكبِ، والملابسِ، والمساكنِ.. وغير ذلك؛ فكلُّ هذا زهرةُ الدنيا، والزهرةُ آخرُ مآلِها الذُّبولُ واليَبَسُ والزَّوالُ، وهي أسرعُ أوراقِ الشجرةِ ذُبولًا وزوالًا؛ ولهذا قال: زَهْرَةَ، وهي زهرةٌ حسنةٌ في رونقِها وجمالها وريحِها -إنْ كانت ذاتَ ريحٍ- لكنها سريعةُ الذُّبول، وهكذا الدنيا؛ زهرةٌ تَذْبُلُ سريعًا، نسأل الله أن يجعل لنا حظًّا ونصيبًا في الآخرةِ .

5- مجالسةُ المساكينِ تُوجِبُ رضا من يجالِسُهم برِزقِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وتُعظِّمُ عنده نِعمةَ الله عزَّ وجَلَّ عليه بنَظَرِه في الدُّنيا إلى مَن دُونَه، ومجالسةُ الأغنياءِ تُوجِبُ التسَخُّطَ بالرِّزقِ، ومدَّ العَينِ إلى زينَتِهم وما هم فيه، وقد نهى الله عزَّ وجَلَّ نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم عن ذلك، فقال تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى .

6- قال أُبَيُّ بنُ كَعبٍ رَضِيَ الله عنه في هذه الآيةِ: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ...: (فمَن لم يتَعزَّ بعزاءِ اللهِ تقَطَّعَت نفسُه حَسَراتٍ على الدُّنيا، ومَن يُتبِعْ بَصرَه ما في أيدي النَّاسِ يَطُلْ حُزنُه، ولا يَشْفِ غَيظَه، ومَن لم يَرَ للهِ عليه نِعمةً إلَّا في مَطعَمِه ومَشرَبِه، نَقَص عِلمُه، وحَضَر عذابُه) .

7- عن هشامِ بنِ عروةَ، قال: (كان عُروةُ إذا رأَى ما عندَ السَّلاطينِ دَخَل دارَه، فقالَ: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى، ثُمَّ يُنادي: الصَّلاةَ الصَّلاةَ، يرحَمُكمُ اللَّهُ) .

8- قَولُ الله تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى في هذه الآيةِ إشارةٌ إلى أنَّ العَبدَ إذا رأى مِن نَفسِه طُموحًا إلى زينةِ الدُّنيا، وإقبالًا عليها، أن يذكِّرَها ما أمامَها مِن رِزقِ رَبِّه، وأن يوازِنَ بين هذا وهذا .

9- قولُ الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ فيه أنَّه يجِبُ على الإنسانِ أمرُ أهلِه مِن زَوجةٍ ووَلَدٍ وسائِرِ عِيالِه بالتقوى والطَّاعةِ، خُصوصًا الصَّلاةَ .

10- قَولُ الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا المراد: كما تأمُرُهم فحافظْ عليها فِعلًا؛ فإنَّ الوَعظَ بلِسانِ الفِعلِ أتَمُّ منه بلسانِ القَولِ .

11- قال الله تعالى: نَحْنُ نَرْزُقُكَ أي: رزقُك علينا قد تكفَّلْنا به، كما تكفَّلْنا بأرزاقِ الخلائقِ كلِّهم، فكيف بمن قام بأمرِنا، واشتغَل بذكرِنا؟! ورزقُ الله عامٌّ للمتقي وغيرِه، فينبغي الاهتمامُ بما يجلبُ السعادةَ الأبديةَ، وهو: التقوَى؛ ولهذا قال: وَالْعَاقِبَةُ في الدُّنيا والآخرةِ لِلتَّقْوَى التي هي فعلُ المأمورِ وتركُ المنهيِّ، فمَن قام بها، كان له العاقبةُ، كما قال تعالى وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

 

[الأعراف: 128] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ فيه أنَّ النَّظَرَ غَيرَ الممدودِ مَعفُوٌّ عنه، وذلك كما إذا نظَرَ الإنسانُ إلى شيءٍ مَرَّةً ثمَّ غَضَّ

.

2- الصلاةُ جالبةٌ للرزقِ ، وفي قولِه تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى إشارةٌ إلى أنَّها تجلِبُ الرزقَ، وإيضاحُ ذلك: أنَّ العبد إذا قام بين يَدَي رَبِّه يناجيه، ويتلو كتابَه، هان عليه كلُّ ما في الدُّنيا؛ رغبةً فيما عندَ اللهِ ورَهبةً منه، فيتباعَدُ عن كلِّ ما لا يُرضي اللهَ، فيَرزُقُه اللهُ ويهديه ، فقولُه: لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ يعني: إذا أقمتَ الصلاةَ أتاك الرزقُ مِن حيثُ لا تحتسبُ . وكان بكرُ بنُ عبدِ الله المُزَنيُّ إذا أصاب أهلَه خَصاصةٌ يقولُ: قوموا فصلُّوا، ثم يقولُ: بهذا أمَر الله رسولَه، ويتلو هذه الآيةَ .

3- قول الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ الأمرَ بها، إنما هو لفلاحِ المأمورِ ومنفعتِه، ولا يعودُ على الآمرِ بها نفعٌ ما؛ لتعاليه وتنزهِه بقولِه: لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ أي: لا نسألُك مالًا، بل نكلفُك عملًا ببدنِك، نؤتيك عليه أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلًا .

4- قَولُ الله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى فيه دليلٌ على أنَّ التقوى هي مِلاكُ الأمرِ .

5- قولُه تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ... قالوهُ تَعنُّتًا وعِنادًا، فألْزَمَهم بإتيانِه بالقُرآنِ الَّذي هو أُمُّ المُعجِزاتِ، وأعْظمُها وأبقاها؛ لأنَّ حَقيقةَ المُعجِزةِ اختصاصُ مُدَّعِي النُّبوَّةِ بنَوعٍ من العِلْمِ أو العمَلِ على وجْهٍ خارقٍ للعادةِ، ولا شكَّ أنَّ العِلْمَ أصْلُ العمَلِ، وأعْلى منه قدْرًا، وأبقى أثرًا، فكذا ما كان من هذا القَبِيلِ، ونَبَّهَهم أيضًا على وجْهٍ أبينَ من وُجوهِ الإعجازِ المُختصَّةِ بهذا البابِ، فقال: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى من التَّوراةِ والإنجيلِ وسائرِ الكُتبِ السَّماويَّةِ؛ فإنَّ اشتمالَها على زُبدةِ ما فيها من العقائدِ والأحكامِ الكُلِّيَّةِ، مع أنَّ الآتِيَ بها أُمِّيٌّ لم يَرَها، ولم يتعلَّمْ ممَّن عَلِمَها: إعجازٌ بَيِّنٌ، وفيه إشعارٌ بأنَّه -كما يدُلُّ على نُبوَّتِه- بُرهانٌ لِمَا تقدَّمَه من الكُتبِ من حيث إنَّه مُعجِزٌ، وتلك ليست كذلك، بل هي مُفتقِرةٌ إلى ما يَشهَدُ على صِحَّتِها .

6- قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى دلَّ ذلك على أنَّ المقتضيَ لِعَذابِهم قائمٌ، ولكِنَّ شَرطَ العذابِ هو بلوغُ الرِّسالةِ؛ ولهذا قال: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] .

7- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ الله لا يُؤاخِذُ أهلَ الفترةِ على الإشراكِ حتى يبعثَ إليهم رسولًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى

- وقولُه: وَلَا تَمُدَّنَّ أقْوى من (لا تنظُرْ)؛ لأنَّ مَدَّ البصرِ يَقْتضي الإدامةَ والاستحسانَ، بخِلافِ النَّظرِ، فإنَّه قد لا يكونُ ذلك معه، والعينُ لا تُمَدُّ، فهو على حذْفِ مُضافٍ، أي: لا تمُدَّنَّ نظَرَ عينَيْك

.

- قولُه: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ مُتعلِّقٌ بـ مَتَّعْنَا؛ جِيءَ به للتَّنفيرِ عنه ببَيانِ سُوءِ عاقبتِه مآلًا، إثْرَ إظْهارِ بَهجتِه حالًا .

- وجُملةُ: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى تَذييلٌ؛ لأنَّ قولَه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى آخرِه، يُفِيدُ أنَّ ما يَبْدو للنَّاظرِ مِن حُسْنِ هيئتِهم مَشوبٌ ومُبطَّنٌ بفِتْنةٍ في النَّفسِ، وشَقاءٍ في العيشِ، وعِقابٍ عليه في الآخرةِ؛ فذُيِّلَ بأنَّ الرِّزقَ المُيسَّرَ من اللهِ للمُؤمِنينَ خيرٌ من ذلك وأبْقى في الدُّنيا، ومَنفعتُه باقيةٌ في الآخرةِ لِمَا يُقارِنُه في الدُّنيا من الشُّكرِ؛ فالإضافةُ في (رِزْقُ رَبِّكَ) إضافةُ تَشريفٍ، وإلَّا فإنَّ الرِّزقَ كلَّه من اللهِ، ولكنَّ رِزْقَ الكافرينَ لَمَّا خالَطَه وحَفَّ به حالُ أصحابِه من غضَبِ اللهِ عليهم، ولِمَا فيه من التَّبِعَةِ على أصحابِه في الدُّنيا والآخرةِ لكُفْرانِهم النِّعمةَ: جُعِلَ كالمَنكورِ انتسابُه إلى اللهِ، وجُعِلَ رِزْقُ اللهِ هو السَّالِمَ من مُلابَسةِ الكُفْرانِ، ومن تَبِعاتِ ذلك السَّيِّئةِ؛ فتَفضيلُ الخَيريَّةِ جاء مُجْمَلًا يظهَرُ بالتَّدبُّرِ .

2- قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى

- قولُه: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ذِكْرُ الأهْلِ هنا مُقابِلٌ لذِكْرِ الأزواجِ في قولِه: إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [طه: 131] ؛ فإنَّ مِن أهْلِ الرَّجلِ أزواجَه، أي: مُتْعَتُك ومُتْعَةُ أهْلِك الصَّلاةُ؛ فلا تَلْتَفِتوا إلى زَخارفِ الدُّنيا. وأهْلُ الرَّجلِ يَكونونَ أمثَلَ مَن يَنْتَمون إليه .

- وقولُه: وَاصْطَبِرْ أبلغُ مِن الأمرِ بالصَّبرِ بأن يُقالَ مثلًا: (اصبِرْ)؛ لأنَّ الألفاظَ أدلَّةٌ على المعاني، فإذا زيدَتْ في الألفاظِ وَجَب زيادةُ المعاني ضرورةً .

- وجُملةُ: لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا مُعترِضةٌ بين الَّتي قبْلَها وبين جُملةِ نَحْنُ نَرْزُقُكَ، جُعِلَت تَمهيدًا لِهَاتِه الأخيرةِ .

- وجُملةُ: نَحْنُ نَرْزُقُكَ مُبيِّنةٌ لجُملةِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] ، أي: إنَّ رِزْقَ ربِّك خيرٌ، وهو مَسوقٌ إليك. والمقصودُ من هذا الخِطابِ ابتداءً هو النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ويَشمَلُ أهْلَه والمُؤمِنين؛ لأنَّ المُعلَّلَ به هذه الجُملةُ مُشترِكٌ في حُكْمِه جميعُ المُسلِمين .

- قولُه: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى، أي: لأهْلِ التَّقوى، على حذْفِ المُضافِ وإقامةِ المُضافِ إليه مُقامَه؛ تَنبيهًا على أنَّ مَلاكَ الأمْرِ هو التَّقوى .

- وجُملةُ: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى تَذييلٌ؛ لِمَا فيها من معنى العُمومِ، أي: لا تكونُ العاقبةُ إلَّا للتَّقوى؛ فهذه الجُملةُ أُرْسِلَت مَجْرى المثَلِ .

3- قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى

- قولُه: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى في إيرادِه بعُنوانِ كونِه بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى من التَّوراةِ والإنجيلِ وسائرِ الكُتبِ السَّماويَّةِ ما لا يَخْفى من تَنويهِ شأْنِه، وإنارةِ بُرهانِه، ومَزيدُ تَقريرٍ وتَحقيقٍ لإتيانِه .

- وإسنادُ الإتيانِ إليه مع جعْلِهم إيَّاهُ مأْتيًّا به؛ للتَّنبيهِ على أصالتِه فيه، مع ما فيه من المُناسَبةِ للبيِّنةِ. والهمزةُ في أَوَلَمْ لإنكارِ الوُقوعِ، والواوُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ؛ كأنَّه قِيلَ: ألَمْ تأْتِهم سائرُ الآياتِ؟ ولم تأْتِهم خاصَّةً بيِّنةُ ما في الصُّحفِ الأُولى؛ تَقريرًا لإتيانِه، وإيذانًا بأنَّه من الوُضوحِ بحيث لا يتأَتَّى منهم إنكارُه أصْلًا، وإنِ اجْتَرؤوا على إنكارِ سائرِ الآياتِ مُكابَرةً وعِنادًا .

- وفي هذا الاستفهامِ تَوبيخٌ لهم وإنكارٌ؛ أنكَرَ به نفْيَ إتيانِ آيةٍ لهم، الَّذي اقتضاهُ تَحضيضُهم على الإتيانِ بآيةٍ .

- ووجْهُ اختيارِ (الصُّحف) هنا على (الكُتب): أنَّ في كلِّ صَحيفةٍ من الكُتبِ عِلْمًا، وأنَّ جَميعَه حَواهُ القُرآنُ؛ فكان كلُّ جُزءٍ من القُرآنِ آيةً ودَليلًا .

4- قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى

- جُملةٌ مُستأنَفةٌ سِيقَتْ لتَقريرِ ما قبْلَها، من كونِ القُرآنِ آيةً بَيِّنةً لا يُمكِنُ إنكارُها، ببَيانِ أنَّهم يَعترِفونَ بها يومَ القيامةِ . أو معطوفةٌ على جُملةِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى [طه: 133] .

5- قولُه تعالى: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى جوابٌ عن قولِهم: لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ [طه: 133] ، وما بينهما اعتراضٌ ، وصِيغَةُ الأمْرِ فيه قُلْ مُستعمَلةٌ في الإنذارِ، ويُسمَّى المُتارَكةَ، أي: نَتْركُكم وتَربُّصَكم؛ لأنَّا مُؤمِنونَ بسُوءِ مَصيرِكم .

- وأُفْرِدَ الخبرُ -وهو مُتَرَبِّصٌ- حمْلًا على لفْظِ كُلٌّ، كقولِه: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ [الإسراء: 84] .

- قولُه: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى جمَعَ بين هذين، مع أنَّ أحدهما يُغْني عن الآخرِ؛ إذ المُرادُ بالأوَّلِ: السَّالِكون لِزامًا، وبالثَّاني: الواصِلونَ. أو بالأوَّلِ: الَّذين ما زالوا على الصِّراطِ المُستقيمِ، وبالثَّاني: الَّذين لم يَكونوا على الصِّراطِ المُستقيمِ، ثمَّ صاروا عليه. أو بالأوَّلِ: أهْلُ دِينِ الحقِّ في الدُّنيا، وبالثَّاني: المُهتَدونَ إلى طَريقِ الجنَّةِ في العُقْبى؛ فكأنَّه قِيلَ: ستَعْلمون مَن النَّاجي في الدُّنيا، والفائزُ في الآخرةِ .

- وفيه تَعريضٌ بأنَّ المُؤمِنينَ هم أصحابُ الصِّراطِ المُستقيمِ المُهتَدونَ؛ لأنَّ مِثْلَ هذا الكلامِ لا يَقولُه في مَقامِ المُحاجَّةِ والمُتارَكةِ إلَّا المُوقِنُ بأنَّه المُحِقُّ .

- وقد جاءت خاتِمةُ هذه السُّورةِ كأبلَغِ خواتمِ الكلامِ؛ لإيذانِها بانتهاءِ المُحاجَّةِ وانطواءِ بِساطِ المُقارَعةِ. ومن مَحاسِنِها: أنَّ فيها شَبيهَ رَدِّ العجُزِ على الصَّدرِ؛ لأنَّها تنظُرُ إلى فاتحةِ السُّورةِ، وهي قولُه: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه: 2- 3] ؛ لأنَّ الخاتِمةَ تدُلُّ على أنَّه قد بلَّغَ كلَّ ما بُعِثَ به من الإرشادِ والاستدلالِ، فإذا لم يَهْتَدوا به، فكَفاهُ -انثلاجَ صَدْرِه- أنَّه أدَّى الرِّسالةَ والتَّذكرةَ، فلم يَكونوا من أهْلِ الخشيةِ؛ فترَكَهم وضَلالَهم حتَّى يتبيَّنَ لهم أنَّه الحقُّ .

والآية معناها أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ومَن اتبعه هم السعداءُ الأغنياءُ الراضون في الدُّنيا والآخرةِ، وهو عينُ قولِه تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى؛ فقد انطبق الآخرُ على الأوَّلِ =

قلت المدون/=الاتي إن شاء الله سورة الأنبياء=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...