الجمعة، 19 يناير 2024

16-سورة النحل مكية{ عدد الايات 128}

 16-سورة النحل مكية{ عدد الايات 128}      

سورة النحل

16-سورة النحل مكية{ عدد الايات 128}    

سورةُ النَّحلِ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسُورةِ (النَّحلِ)

فعن أُبيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: ((سَمِعتُ رَجُلًا يقرأُ في سورةِ النَّحلِ قِراءةً تُخالِفُ قراءتي، ثم سمِعتُ آخَرَ يَقرؤُها قراءةً تُخالِفُ ذلك، فانطلقتُ بهما إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقلتُ: إنِّي سَمِعتُ هذين يقرأانِ في سورة النَّحلِ، فسألتُهما: مَن أقرَأهما؟ فقالا: رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...))

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ النَّحلِ سورةٌ مكِّيَّةٌ {عدد آياتها 128.}

مقاصد السورة:

 

مِن أهمِّ مقاصِدِ هذه السُّورةِ:

1- إقامةُ الأدلةِ على وحدانيةِ الله تعالى، وعلى اليومِ الآخرِ، وإثباتُ صِدق الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وما جاء به

.

2- الردُّ على شُبَهِ المشركينَ، وزجرُهم عمَّا هم عليه، وإنذارُهم .

3- بيانُ آلاءِ الله تعالى ونِعمِه على خلقِه

 

موضوعات السورة

 

مِن أهمِّ الموضوعاتِ التي اشْتَمَلت عليها هذه السُّورةُ:

1- التأكيدُ على أنَّ يومَ القيامةِ حقٌّ، وأنَّه آتٍ لا ريبَ فيه.

2- إثباتُ وَحدانيَّةِ اللهِ، وبيانُ قُدرتِه في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، وخَلقِ الإنسانِ والحيوانِ، وإنزالِ الماءِ مِن السماءِ، وتسخيرِ الشمسِ والقمرِ، والليلِ والنهارِ إلى غيرِ ذلك.

3- ذِكرُ النِّعَمِ المتنَوِّعةِ على الإنسانِ، ومنها ما فى الأنعامِ مِن المنافعِ، وما فى المراكبِ من الزِّينةِ، إلى غيرِ ذلك من النِّعَمِ التي لا تُحصى.

4- التَّحذيرُ ممَّا حلَّ بالأممِ التي أشركَت باللهِ وكذَّبَت رسُلَه- عليهم السلامُ- من عذابِ الدنيا، وما ينتظرُهم من عذابِ الآخرة؛ ومقابلةُ ذلك بضِدِّه من نعيمِ المتَّقين المصَدِّقين، والصَّابرين على أذى المشركين، والذين هاجروا في سبيلِ الله تعالى.

5- ذكرُ عادةِ أهلِ الجاهليَّةِ في كراهيةِ البَناتِ، ووأدِهم أحياءً.

6- ضربُ الأمثالِ للمؤمنِ والكافرِ، والشاكرِ والجاحدِ، والإلهِ الحقِّ والآلهةِ الباطلةِ.

7- ذكرُ حالِ المُشرِكينَ مع الأوثانِ يومَ القيامةِ.

8- ذِكرُ بَعضِ مكارِمِ الأخلاقِ؛ مِن العَدلِ والإحسانِ والبَذلِ، والنَّهيِ عن الفَحشاءِ والمُنكَر والبَغيِ، والدَّعوةِ إلى الوفاءِ بالعَهدِ، والنَّهيِ عن نَكثِ العُهودِ والأيمانِ.

9- ذِكرُ بعضِ الشُّبُهاتِ التي أثارها المشركون حولَ القرآنِ، مع الردِّ عليها بما يَدحَضُها.

10- بيانُ بعضِ آدابِ المُؤمِنِ عندَ قراءةِ القُرآنِ.

11- ذِكْرُ جانبٍ مِن قصةِ إبراهيمَ عليه السلامُ، كمثالٍ للشَّاكرينَ.

12- بيانُ أنَّ التَّحليلَ والتَّحريمَ مِن اللهِ وَحدَه.

13- ذِكرُ حُكمِ من يكفُرُ بعد إيمانِه، ومَن يُكرَهُ على الكُفرِ وقَلبُه مُطمئِنٌّ بالإيمانِ، ومن فُتِنوا عن دينِهم ثمَّ هاجَروا وجاهَدوا وصَبروا.

14- ذكرُ أهمِّ الأساليبِ في الدعوةِ إلى الله تعالى، وفي معاملةِ الناس، مِن الدعوةِ بالحكمةِ، والموعظةِ الحسنةِ، والجدالِ بالتي هي أحسنُ، وفضيلةِ الصبرِ إلى غير ذلك.

===========

سورةُ النَّحلِ

الآيات

سورة النحل مكية | رقم السورة: 16 - عدد آياتها : 128 عدد كلماتها : 1,845 - اسمها بالانجليزي : An-Nahl ( The Bees )
سورة النحل مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم

 
 أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ (2) خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ تَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ (3) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ (4) وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ (5) وَلَكُمۡ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسۡرَحُونَ (6) وَتَحۡمِلُ أَثۡقَالَكُمۡ إِلَىٰ بَلَدٖ لَّمۡ تَكُونُواْ بَٰلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ ٱلۡأَنفُسِۚ إِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ (7) وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ (8) وَعَلَى ٱللَّهِ قَصۡدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنۡهَا جَآئِرٞۚ وَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ (9) هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗۖ لَّكُم مِّنۡهُ شَرَابٞ وَمِنۡهُ شَجَرٞ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنۢبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرۡعَ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلۡأَعۡنَٰبَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (14) وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَأَنۡهَٰرٗا وَسُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ (15) وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ (18) وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ (19) وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَخۡلُقُونَ شَيۡـٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ (20) أَمۡوَٰتٌ غَيۡرُ أَحۡيَآءٖۖ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ (21) إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ فَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٞ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡتَكۡبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡ قَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ (24) لِيَحۡمِلُوٓاْ أَوۡزَارَهُمۡ كَامِلَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَمِنۡ أَوۡزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۗ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنۡيَٰنَهُم مِّنَ ٱلۡقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّقۡفُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُخۡزِيهِمۡ وَيَقُولُ أَيۡنَ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمۡ تُشَٰٓقُّونَ فِيهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ إِنَّ ٱلۡخِزۡيَ ٱلۡيَوۡمَ وَٱلسُّوٓءَ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ (27) ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡۖ فَأَلۡقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوٓءِۭۚ بَلَىٰٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (28) فَٱدۡخُلُوٓاْ أَبۡوَٰبَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ فَلَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِينَ (29) ۞وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَيۡرٗاۗ لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۚ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِينَ (30) جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ لَهُمۡ فِيهَا مَا يَشَآءُونَۚ كَذَٰلِكَ يَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلۡمُتَّقِينَ (31) ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (32) هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ أَمۡرُ رَبِّكَۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمۡ سَيِّـَٔاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (34) وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ (35) وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ (36) إِن تَحۡرِصۡ عَلَىٰ هُدَىٰهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَن يُضِلُّۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ (37) وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَا يَبۡعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (40) وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ (41) ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ (43) بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَخۡسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ (45) أَوۡ يَأۡخُذَهُمۡ فِي تَقَلُّبِهِمۡ فَمَا هُم بِمُعۡجِزِينَ (46) أَوۡ يَأۡخُذَهُمۡ عَلَىٰ تَخَوُّفٖ فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٌ (47) أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ (48) وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن دَآبَّةٖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ۩ (50) ۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّٰيَ فَٱرۡهَبُونِ (51) وَلَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبًاۚ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجۡـَٔرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنكُمۡ إِذَا فَرِيقٞ مِّنكُم بِرَبِّهِمۡ يُشۡرِكُونَ (54) لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡۚ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (55) وَيَجۡعَلُونَ لِمَا لَا يَعۡلَمُونَ نَصِيبٗا مِّمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡۗ تَٱللَّهِ لَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَفۡتَرُونَ (56) وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَٰتِ سُبۡحَٰنَهُۥ وَلَهُم مَّا يَشۡتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ (58) يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوۡءِۖ وَلِلَّهِ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (60) وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلۡمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيۡهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ (61) وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ (62) تَٱللَّهِ لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٖ مِّن قَبۡلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلۡيَوۡمَ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (63) وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ (64) وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّٰرِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلۡأَعۡنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرٗا وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ (67) وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡ لَا يَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمٖ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٞ قَدِيرٞ (70) وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ (71) وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ (72) وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ (74) ۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ (75) وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (76) وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَآ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (77) وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (78) أَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ مُسَخَّرَٰتٖ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱللَّهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ (79) وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمۡ سَكَنٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ بُيُوتٗا تَسۡتَخِفُّونَهَا يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَآ أَثَٰثٗا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٖ (80) وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَٰلٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَٰنٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ (81) فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ (82) يَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ (83) وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ (84) وَإِذَا رَءَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلۡعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمۡ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ (85) وَإِذَا رَءَا ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ شُرَكَآءَهُمۡ قَالُواْ رَبَّنَا هَٰٓؤُلَآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدۡعُواْ مِن دُونِكَۖ فَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡهِمُ ٱلۡقَوۡلَ إِنَّكُمۡ لَكَٰذِبُونَ (86) وَأَلۡقَوۡاْ إِلَى ٱللَّهِ يَوۡمَئِذٍ ٱلسَّلَمَۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ (87) ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدۡنَٰهُمۡ عَذَابٗا فَوۡقَ ٱلۡعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفۡسِدُونَ (88) وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ (89) ۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ (92) وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَلَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ فَتَزِلَّ قَدَمُۢ بَعۡدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلسُّوٓءَ بِمَا صَدَدتُّمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ (94) وَلَا تَشۡتَرُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ ثَمَنٗا قَلِيلًاۚ إِنَّمَا عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (95) مَا عِندَكُمۡ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٖۗ وَلَنَجۡزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوٓاْ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (96) مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ (98) إِنَّهُۥ لَيۡسَ لَهُۥ سُلۡطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلۡطَٰنُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوۡنَهُۥ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِۦ مُشۡرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلۡنَآ ءَايَةٗ مَّكَانَ ءَايَةٖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفۡتَرِۭۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ (101) قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ (102) وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ (103) إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَا يَهۡدِيهِمُ ٱللَّهُ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفۡتَرِي ٱلۡكَذِبَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ (105) مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ (106) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (107) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ (110) ۞يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ (111) وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ (112) وَلَقَدۡ جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ (113) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ (115) وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ (116) مَتَٰعٞ قَلِيلٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (117) وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا مَا قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُۖ وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٌ (119) إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (120) شَاكِرٗا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٱجۡتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (121) وَءَاتَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (122) ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبۡتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ (124) ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ (125) وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ (126) وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ (127) إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ (128)/سورة النحل

 

الايات من (1-4)

غريب الكلمات:

 

بِالرُّوحِ: أي: بِالوَحْيِ، وسُمِّيَ رُوحًا؛ لأنَّه حَياةٌ مِن مَوتِ الكُفرِ، فصار يحيا به النَّاسُ كالرُّوحِ الذي يحيا به الجَسدُ، أو: لأنَّ الوحيَ به حياةُ الأرواحِ

نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: المنيُّ ، وقيل: الماءُ الصَّافي قلَّ أو كَثُر، وقيل: الماءُ القليلُ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ .

خَصِيمٌ: أي: مُخاصِمٌ، جَدِلٌ بِالباطِلِ، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على المُنازَعةِ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: قَرُبَ قيامُ السَّاعةِ، وقَضاءُ اللهِ بعَذابِكم- أيُّها الكُفَّارُ- فلا تَستَعجِلوا العذابَ استهزاءً بوعيدِ الرَّسولِ لكم، تنزَّهُ اللهُ عن أن يكونَ له شريكٌ، وعمَّا يَصِفُه به المُشرِكونَ، ينزِّلُ- سُبحانَه- الملائكةَ بالوَحيِ مِن أمْرِه على مَن يشاءُ مِن عبادِه المُصطَفَين للرِّسالةِ: بأنْ أنذِروا- أيُّها الرُّسُلُ- النَّاسَ مِن عاقبةِ الشِّركِ؛ فإنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا أنا، فاتَّقونِ. خلقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ بالعدلِ، لا للعبثِ؛ ليُعبدَ وحدَه، تعاظَمَ- سُبحانَه- عن شِركِ المشركين، خَلَق الإنسانَ مِن منيِّ الرجلِ ومنيِّ المرأةِ، فإذا به يصيرُ شَديدَ الخُصومةِ والجدالِ لرَبِّه الذي خلَقَه وسوَّاه!

تفسير الآيات :

 

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1).

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ.

أي: قَرُبَ مجيءُ يومِ القيامةِ بأهوالِه، وقَضاءُ اللهِ بعَذابِكم- أيُّها الكُفَّارُ- فلا تَستعجِلوا ذلك؛ فإنَّه آتٍ لا مَحالةَ

.

كما قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] .

وقال تبارك وتعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1].

وقال سُبحانه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 53-54] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 18] .

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان الجَزمُ بالأمورِ المُستقبَلةِ لا يليقُ إلَّا عند نفوذِ الأمرِ، ولا نفوذَ إلَّا لِمن لا كفُؤَ له، وكانت العجَلةُ- وهي الإتيانُ بالشَّيءِ قبلَ حينِه الأَولى به- نقصًا ظاهرًا، وكان التأخيرُ لا يكونُ إلَّا عن مُنازِعٍ مُشارِكٍ- نزَّه نفسَه سُبحانَه تنزيهًا مُطلَقًا جامِعًا، بقَولِه تعالى :

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

أي: تنزَّهَ اللهُ عن أن يكونَ له شريكٌ، وعمَّا يَصِفُه به المُشرِكونَ ممَّا لا يليقُ به تعالى، ومِن ذلك وصفُهم له بعدمِ القدرةِ على بَعثِ الأمواتِ .

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تقَرَّرَ- بما سبَقَ- تنَزُّهُه تعالى عن كلِّ نَقصٍ؛ شِركٍ وغَيرِه- شرَعَ يصِفُ نفسَه سُبحانَه بصفاتِ الكَمالِ مِن الأمرِ والخَلقِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان استِعجالُ المُشرِكينَ بالعذابِ استهزاءً بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتكذيبًا له، وكان ناشِئًا عن عقيدةِ الإشراكِ التي مِن أصولِها استحالةُ إرسالِ الرُّسُلِ مِن البشَرِ، وأُتبِعَ تحقيقُ مَجيءِ العذابِ بتَنزيهِ اللهِ عن الشَّريكِ؛ قفِّيَ ذلك بتبرئةِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- من الكَذِبِ فيما يبَلِّغُه عن رَبِّه، ووصَفَ لهم الإرسالَ وصفًا مُوجَزًا، وهذا اعتراضٌ في أثناءِ الاستدلالِ على التوحيدِ .

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.

أي: يُنزِّلُ اللهُ جبريلَ بالوَحيِ- الذي هو كَلامُه- مِنْ أمْرِه ، على من يَشاءُ مِن عِبادِه الذين اختارهم للنبُوَّةِ .

كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] .

وقال سُبحانه: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ [غافر: 15] .

وقال تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] .

أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.

أي: بأن أنذِروا- أيُّها الرُّسُلُ- الناسَ عذابي إن أشرَكوا بي؛ فإنَّه لا يستحِقُّ العبادةَ غَيري، فاحذَروني- أيُّها النَّاسُ- بإخلاصِ العبادةِ لي، وامتثالِ أوامِري، واجتنابِ نواهِيَّ؛ لتَنْجوا مِن عذابي .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وحَّد اللهُ تعالى نفسَه، دلَّ على وحدانيَّتِه، وأنَّه لا إلهَ إلَّا هو، بما ذكَرَ مِمَّا لا يَقدِرُ عليه غيرُه، مِن خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، وإيجادِه أصولَ العالَمِ وفروعَه على وجهِ الحِكمةِ فقال:

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.

أي: خَلقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ بالعَدلِ، ولم يخلُقْهنَّ عَبثًا؛ وذلك ليُعبَدَ وَحدَه، ولِيَعلمَ النَّاسُ عَظَمةَ خالِقها، ويَعلَموا قُدرتَه على إعادةِ خَلقِه يومَ القيامةِ الذي يُجازي فيه كلَّ عاملٍ بحسَبِ عَمَلِه .

تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه المُستقِلُّ بالخَلقِ وَحدَه لا شريكَ له، وكان لذلك يستحِقُّ أن يُعبَدَ وَحدَه لا شريكَ له، ولا يصِحُّ أن يُعبَدَ معه مَن لا يَقدِرُ على شَيءٍ؛ لهذا أتبَعَ قَولَه: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بقولِه :

تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

أي: تعاظَمَ اللهُ عن شِركِ المُشرِكينَ، وترفَّعَ أن يكونَ له شَريكٌ؛ فهو المُنفَرِدُ بالخَلقِ، المُستحِقُّ وَحدَه لعبادةِ خَلقِه؛ فلا يكونُ إلهًا إلَّا مَن يخلُقُ بقُدرتِه مثلَ السَّمواتِ والأرضِ، فيُحدِثُها مِن غيرِ شَيءٍ، على غيرِ مثالٍ سابقٍ، وليس ذلك في قُدرةِ أحدٍ سوى اللهِ الواحِدِ .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما دلَّ على وحدانيَّتِه مِن خَلقِ العالَمِ العُلويِّ والأرضِ- وهو استدلالٌ بالخارجِ- ذكَرَ الاستدلالَ مِن نَفسِ الإنسانِ، فذكَرَ إنشاءَه مِن نُطفةٍ، فإذا هو خَصيمٌ مُبينٌ، وكان حَقُّه والواجِبُ عليه أن يُطيعَ وينقادَ لأمرِ اللهِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الدَّليلَ على توحيدِه؛ ذكَرَ بعده الإنسانَ ومُناكَدتَه وتَعدِّيَ طَورِه .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ.

أي: خلقَ اللهُ الإنسانَ مِن منيِّ الرَّجُلِ ومَنيِّ المرأةِ .

كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم: 45-46] .

وقال سُبحانه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات: 20-23] .

وقال جلَّ جلالُه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 17- 19] .

وقال تبارك وتعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق: 5-7] .

فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.

أي: فإذا بهذا الإنسانِ- الذي خلَقَه اللهُ مِن نُطفةٍ- يُصبِحُ مُخاصِمًا ظاهِرَ الخُصومةِ، يُبِينُ عن خُصومتِه بمَنطِقِه، فيُخاصِمُ خُصومةً شديدةً في قُدرةِ اللهِ على البعثِ وغَيرِه، ويُكَذِّبُ بالحقِّ، ولا يشكُرُ رَبَّه على نِعَمِه !

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 77- 78] .

وقال سُبحانه: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 66-67] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان: 54-55] .

وعن بُسرِ بنِ جِحاشٍ القُرَشيِّ رَضِيَ الله عنه، ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزَقَ يومًا في كَفِّه، فوضع عليها أُصبُعَه، ثمَّ قال: قال الله: ابنَ آدمَ، أنَّى تُعجِزُني، وقد خلقتُك مِن مِثلِ هذه؟! حتى إذا سَوَّيتُك وعَدَّلتُك، مَشَيتَ بين بُردَينِ وللأرضِ مِنك وَئيدٌ ، فجَمَعْتَ ومَنَعْتَ، حتى إذا بلَغَتِ التَّراقيَ، قلتَ: أتصَدَّقُ! وأنَّى أوانُ الصَّدَقةِ؟!) )

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ سمَّى ذلك رُوحًا؛ لِما يحصُلُ به من الحياةِ النَّافِعةِ، فإنَّ الحياةَ بدُونِه لا تنفَعُ صاحِبَها البتَّةَ، بل حياةُ الحيوانِ البَهيمِ خَيرٌ منها، وأسلَمُ عاقِبةً

.

2- قال الله تعالى: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ قد أحاطت جملةُ: أَنْ أَنْذِرُوا إلى قَولِه تعالى: فَاتَّقُونِ بالشَّريعةِ كُلِّها؛ لأنَّ جُملةَ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا تنبيهٌ على ما يَرجِعُ مِن الشَّريعةِ إلى إصلاحِ الاعتقادِ، وهو الأمرُ بكمالِ القُوَّةِ العقليَّةِ، وجملةُ: فَاتَّقُونِ تنبيهٌ على الاجتنابِ والامتثالِ اللَّذينِ هما مُنتهى كمالِ القُوَّةِ العَمَليَّةِ .

3- في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ حثٌّ على استشعارِ التذللِ والتواضعِ، إذ مَن كان خَلْقُه مِن نطفةٍ ضعيفةٍ؛ فإعدادُه نفسَه في عِدَادِ الخُصَماءِ جَهْلٌ به، وإغفالٌ لمراعاة ما خُلِقَ منه .

4- في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ دليلٌ على أنَّ التكبرَ مُتولِّدٌ في الإنسان مِن قِلَّةِ معرفتِه بنفسِه، وفِكْرِهِ فيما خُلِقَ منه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- لفظُ (الأمر) يرادُ به المصدَرُ والمفعولُ؛ فالمفعولُ مخلوقٌ، كما قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وقال: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38] ، فهنا المرادُ به: المأمورُ به، ليس المرادُ به أمْرَه الذي هو كلامُه، وأمَّا في قَولِه: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق: 5] فأمْرُه كلامُه؛ إذ لم يُنزِلْ إلينا الأفعالَ التي أمَرَنا بها، وإنما أنزَلَ القرآنَ، وهذا كقَولِه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] فهذا الأمرُ هو كلامُه

.

2- قولُ الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ يدلُّ على أنَّ نُزولَ الوَحيِ بواسطةِ الملائكةِ، وأنَّ النبُوَّةَ عَطاؤُه تعالى ، فالنبوَّةُ عطائيَّةٌ لا كَسْبيَّةٌ .

3- قال الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ هذه الآيةُ وأمثالُها رَدٌّ على الكُفَّارِ في قَولِهم: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] .

4- قال اللهُ تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ هذه الآيةُ أوَّلُ ما عَدَّدَ اللهُ على عبادِه مِن النِّعَمِ في سورةِ النِّعَمِ، التي تسمَّى سورةَ النَّحلِ .

5- قَولُ الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ حَسُنَت النِّذارةُ هنا- وإن لم يكُنْ في اللَّفظِ ما فيه خَوفٌ- مِن حيثُ كان المُنذَرونَ كافِرينَ بألوهيَّتِه؛ ففي ضِمنِ أمْرِهم مكانُ خَوفٍ، وفي ضِمنِ الإخبارِ بالوحدانيَّةِ نَهيٌ عمَّا كانوا عليه، ووعيدٌ وتحذيرٌ مِن عبادةِ الأوثانِ .

6- قال الله تعالى: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ سبَّبَ عن وحدانيَّتِه- التي هي مُنتهَى كمالِ القُوَّةِ العِلميَّةِ- قَولَه آمِرًا بما هو أقصَى كمالِ القُوَّةِ العَمَليَّةِ: فَاتَّقُونِ .

7- قَولُ الله تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ الاستدلالُ بخَلقِ السَّمواتِ والأرضِ أكبَرُ مِن سائرِ الأدلَّةِ وأجمَعُ؛ لأنَّها مُحتَويةٌ لهما، ولأنَّهما من أعظَمِ الموجوداتِ؛ فلذلك ابتُدئ بهما

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

- قولُه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ لمَّا كان مُعظَمُ أغراضِ هذه السُّورةِ زَجرَ المُشركينَ عن الإشراكِ وتوابِعِه، وإنذارَهم بسُوءِ عاقبةِ ذلك؛ صُدِّرَت السُّورةُ بالوعيدِ المَصوغِ في صُورةِ الخبَرِ بأنْ قد حَلَّ ذلك المُتَوعَّدُ به؛ فجِيءَ بالماضي أَتَى المُرادِ به المُستقبَلُ المُحقَّقُ الوُقوعُ، بقَرينةِ تَفريعِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ؛ لأنَّ النَّهيَ عنِ استعجالِ حُلولِ ذلك اليومِ يَقْتضي أنَّه لَمَّا يحِلَّ بعدُ، وإتيانُه عبارةٌ عن دُنُوِّه واقترابِه، على طريقةِ نَظمِ المُتوقَّعِ في سِلكِ الواقعِ، أو عن إتيانِ مَباديه القريبةِ، على نَهجِ إسنادِ حالِ الأسبابِ إلى المُسبِّباتِ، وفيه تَنبيهٌ على كَمالِ قُربِه مِن الوُقوعِ واتِّصالِه، وتَكميلٌ لحُسنِ مَوقعِ التَّفريعِ في قولِه عَزَّ وجَلَّ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ؛ فإنَّ النَّهيَ عن استعجالِ الشَّيءِ وإنْ صَحَّ تَفريعُه على قُربِ وُقوعِه، أو على وُقوعِ أسبابِه القريبةِ، لكنَّه ليس بمَثابةِ تَفريعِه على وُقوعِه؛ إذ بالوُقوعِ يَستحيلُ الاستعجالُ رأسًا، لا بما ذُكِرَ مِن قُربِ وُقوعِه، ووُقوعِ مَباديه

.

- قولُه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وعُبِّرَ عن ذلك بأمْرِ اللهِ؛ للتَّفخيمِ والتَّهويلِ؛ ففي التَّعبيرِ عنه بأمْرِ اللهِ إبهامٌ يُفيدُ تَهويلَه وعَظَمتَه؛ لإضافتِه لمَن لا يعظُمُ عليه شَيءٌ، وللإيذانِ بأنَّ تَحقُّقَه في نفْسِه وإتيانَه مَنوطٌ بحُكمِه النَّافذِ وقَضائِه الغالبِ .

- وجُملةُ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ تَفريعٌ على أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وهي مِن المقصودِ بالإنذارِ، والمُرادُ مِن النَّهيِ هنا معنى دقيقٌ لم يَذكُروه في مَواردِ صِيَغِ النَّهيِ، ويجدُرُ أنْ يكونَ للتَّسويةِ، كما تَرِدُ صِيغةُ الأمْرِ للتَّسويةِ، أي: لا جَدْوى في استعجالِه؛ لأنَّه لا يُعَجَّلُ قبلَ وَقتِه المُؤجَّلِ له .

- وجُملةُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لأنَّها المقصودُ مِن الوعيدِ؛ إذ الوعيدُ والزَّجرُ إنَّما كانا لأجلِ إبطالِ الإشراكِ، فكانت جُملةُ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ كالمُقدِّمةِ، وجُملةُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ كالمَقصدِ .

- وعُبِّرَ بالاستقبالِ يُشْرِكُونَ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ إشراكِهم واستمرارِه .

- وقولُه أيضًا: يُشْرِكُونَ- على قِراءةِ الجُمهورِ بالتَّحتيَّةِ- على طريقةِ الالْتفاتِ، فعدَلَ عن الخِطابِ إلى الغَيبة؛ للإيذانِ باقتضاءِ ذِكرِ قبائِحِهم للإعراضِ عنهم، وطَرحِهم عن رُتبةِ الخطابِ، وحكايةِ شنائِعِهم لغيرِهم، وعلى تَقديرِ تَخصيصِ الخطابِ بالمُؤمنينَ تَفوتُ هذه النُّكتةُ .

- واتَّصلَ قولُه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ باستعجالِهم؛ لأنَّ استعجالَهم استهزاءٌ وتكذيبٌ، وذلك مِن الشِّركِ .

2- قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ

- قولُه: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ فيه إيثارُ صِيغَةِ الاستقبالِ يُنَزِّلُ؛ للإشعارِ بأنَّ ذلك عادةٌ مُستمرَّةٌ له سُبحانَه .

- قولُه: مِنْ أَمْرِهِ وَجهُ إضافةِ الأمرِ إلى اللهِ تَعالى: أنَّ مَعنى مِنْ أَمْرِهِ الجنسُ، أي: مِن أُمورِه، وهي شُؤونُه ومُقدَّراتُه الَّتي استأثَرَ بها؛ لِمَا تفيدُه الإضافةُ مِن التَّخصيصِ .

- قولُه: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ لمَّا كان الوحيُ به هَدْيُ العُقولِ إلى الحقِّ؛ فشُبِّهَ الوحيُ بالرُّوحِ كما يُشَبَّهُ العِلمُ الحقُّ بالحياةِ، وكما يُشَبَّهُ الجهلُ بالموتِ، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122] .

- قولُه: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ لمَّا كان هذا الخبَرُ مَسوقًا للَّذين اتَّخذوا مع اللهِ آلهةً أُخرى، وكان ذلك ضلالًا يَستحِقُّون عليه العِقابَ؛ جعَلَ إخبارَهم بضِدِّ اعتقادِهم، وتحذيرَهم ممَّا هم فيه إنذارًا، وفرَّعَ عليه فَاتَّقُونِ .

- قولُه: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا الضَّميرُ في أَنَّهُ للشَّأنِ، ومدارُ وَضعِه مَوضعَه ادِّعاءُ شُهرتِه المُغْنيةِ عن التَّصريحِ به، وفائدةُ تَصديرِ الجُملةِ به: الإيذانُ مِن أوَّلِ الأمرِ بفَخامةِ مَضمونِها، معَ ما فيه مِن زيادةِ تَقريرٍ له في الذِّهنِ؛ فإنَّ الضَّميرَ لا يُفْهَمُ منه ابتداءً إلَّا شأنٌ مُبْهَمٌ، له خطرٌ، فيَبْقَى الذِّهنُ مُترقِّبًا لِمَا يعقُبُه؛ فيتمكَّنُ لديه عندَ وُرودِه فضْلَ تمكُّنٍ .

- وقولُه أيضًا: فَاتَّقُونِ خِطابٌ للمُستعجلينَ على طريقةِ الالْتفاتِ .

3- قوله تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشِئٌ عن قولِه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ لأنَّهم إذا سَمِعوا ذلك تَرقَّبوا دليلَ تَنزيهِ اللهِ عن أنْ يكونَ له شُركاءُ، فابتدِئَ بالدَّلالةِ على اختصاصِه بالخلْقِ والتَّقديرِ، وأعقَبَ قولَه: سُبْحَانَهُ بقولِه: وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ تحقيقًا لنتيجةِ الدَّليلِ، كما يُذْكَرُ المطلوبُ قبلَ ذِكْرِ القياسِ- في صِناعةِ المَنطقِ- ثمَّ يُذْكَرُ ذلك المطلوبُ عَقِبَ القياسِ في صُورةِ النَّتيجةِ؛ تحقيقًا للوَحدانيَّةِ .

4- قولُه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ استئنافٌ بَيانيٌّ أيضًا، وهو استدلالٌ آخرُ على انفرادِه تَعالى بالإلهيَّةِ ووَحدانيَّتِه فيها، وتَعريفُ الْإِنْسَانَ للعهدِ الذِّهنيِّ، وهو تعريفُ الجنسِ، أي: خلَقَ الجنسَ المعلومَ الَّذي تَدْعونه بالإنسانِ .

- قولُه: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ الفاءُ تدُلُّ على التَّعقيبِ، وكونُه خَصيمًا مُبينًا لا يكونُ عَقِبَ خلْقِه مِن نُطفةٍ، ولكنَّه إشارةٌ إلى ما تَؤولُ إليه حالُه .

- والتعبير بحرفِ المُفاجأةِ (إِذَا) جعَلَ الكلامَ مُفهِمًا أمرينِ، هما: التَّعجُّبُ مِن تطوُّرِ الإنسانِ مِن أمْهنِ حالةٍ إلى أبدَعِ حالةٍ، وهي حالةُ الخُصومةِ والإبانةِ النَّاشئتَينِ عن التَّفكيرِ والتَّعقُّلِ، والدَّلالةُ على كُفرانِه النِّعمةَ وصَرفِه ما أنعَمَ به عليه في عِصيانِ المُنعِمِ عليه؛ فالجُملةُ في حَدِّ ذاتِها تَنويهٌ، وبضَمِيمةِ حَرفِ المُفاجأةِ أدْمَجَت مع التَّنويهِ التَّعجيبَ، ولو قيل: (فهو خصيمٌ) أو (فكان خصيمًا)، لمْ يحصُلْ هذا المعنى البليغُ

=====================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (5-9)

ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ

غريب الكلمات :

 

تُرِيحُونَ: أي: تَرُدُّونَها بالعَشِيِّ مِن مراعيها إلى مَبارِكِها التي تأوي إليها؛ ومنه الرَّواحُ؛ رَواحُ العَشِيِّ: وهو مِن الزَّوالِ إلى اللَّيلِ، وأصلُ (روح): يدُلُّ على سَعةٍ وفُسحةٍ واطِّرادٍ

.

تَسْرَحُونَ: أي: تُخرِجُونَها بالغداةِ إلى مَراعِيها، وأصلُ (سرح): يدُلُّ على انطِلاقٍ .

بِشِقِّ الْأَنْفُسِ: أي: بمشقَّتِها، والشِّقُّ: المشقَّةُ، والانكسارُ الذي يلحقُ النَّفسَ، والبدنَ، وأصلُ (شقق) يدُلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ .

لَرَءُوفٌ: أي: شديدُ الرَّحمةِ، والرؤوفُ: ذو الرأفةِ، والرأفةُ أعلَى معاني الرحمةِ وأرقُّها، وأصلُ (رأف): يدُلُّ على رِقَّةٍ ورحمةٍ .

قَصْدُ السَّبِيلِ: أي: الطَّريقُ القاصِدُ المُستقيمُ الذي لا اعوِجاجَ فيه؛ يقال: طَريقٌ قَصدٌ وقاصِدٌ: إذا أدَّاك إلى مَطلوبِك، وقصَدَ بك ما تريدُ، وأصلُ (قصد): يدُلُّ على إتيانِ شَيءٍ وأَمِّه .

جَائِرٌ: أي: عادِلٌ عن القَصدِ مائِلٌ، وأصلُ (جور): يدلُّ على مَيلٍ عن الطَّريقِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً

وَالْخَيْلَ: معطوفٌ مَنصوبٌ على (الأنعام) في قَولِه تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا، أي: وخلقَ الخيلَ. لِتَرْكَبُوهَا: منصوبٌ بأن مُضمَرة، والمصدرُ المؤوَّلُ مجرورٌ باللامِ متعلِّقٌ بالفعلِ (خلق) المقَدَّر، وَزِينَةً: مفعولٌ لأجلِه مَنصوبٌ، وهو مَعطوفٌ على محلِّ المصدَرِ المؤوَّلِ، أي: للرُّكوبِ وللزِّينةِ

. وقيل: وَزِينَةً منصوبٌ على إضمارِ فِعلٍ، والتَّقديرُ: وجعَلَها زينةً. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: والإبِلَ والبَقَرَ والغَنَمَ خلَقَها اللهُ لكم- أيُّها النَّاسُ- وجعَلَ لكم فيها دِفئًا مِن البَردِ؛ من الثيابِ المأخوذةِ من أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها، ومنافِعَ أُخَرَ من نسلِها وألبانِها ورُكوبِها وبَيعِها وغيرِ ذلك، ومِن لحومِها تأكلونَ، ولكم فيها زينةٌ تجلِبُ السُّرورَ لكم عندما تَرجِعونَها إلى مَنازِلِها في المَساءِ، وعندما تُخرِجونَها في الصَّباحِ إلى المراعي، وتحمِلُكم هذه الأنعامُ وأمتِعتَكم في سَفَرِكم إلى بلادٍ بعيدةٍ، لم تكونوا مُستَطيعينَ الوُصولَ إليها إلَّا بجَهدٍ شَديدٍ ومشَقَّةٍ بالغةٍ؛ إنَّ رَبَّكم لَرؤوفٌ رَحيمٌ بكم؛ حيث سخَّر لكم هذه الأنعامَ، وخلق اللهُ لكم أيضًا الخَيلَ والبِغالَ والحَميرَ؛ لكي تَركَبوها، وجعَلَها اللهُ لكم زينةً، ويخلُقُ لكم ما لا عِلْمَ لكم به، وإلى اللهِ ينتهي الطَّريقُ المُستَقيمُ فيُوصِلُ إليه- سُبحانَه- وإلى مَرضاتِه، ومِن الطُّرُقِ ما هو مائِلٌ مُعْوَجٌّ لا يُوصِلُ إلى اللهِ، ولو شاء اللهُ هدايتَكم لهداكم جميعًا للإيمانِ.

تفسير الآيات:

 

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى خلْقَ الإنسانِ؛ ذكرَ ما امتَنَّ به عليه في قِوامِ مَعيشتِه، فذكرَ أوَّلًا أكثَرَها منافِعَ، وألزَمَ لِمَن أُنزِلَ القرآنُ بلُغتِهم، وذلك: الأنعامُ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا صار التَّوحيدُ بذلك كالشَّمسِ، وكان كلُّ ما في الكونِ- مع أنَّه دالٌّ على الوحدانيَّةِ- نِعمةً على الإنسانِ يجِبُ عليه شُكرُها؛ شرعَ يعَدِّدُ ذلك تنبيهًا له على وُجوبِ الشُّكرِ بالتبَرُّؤِ من الكُفرِ، فقال مُقَدِّمًا الحيواناتِ؛ لأنَّها أشرَفُ مِن غَيرِها، وقدَّمَ منها ما ينفَعُ الإنسانَ؛ لأنَّه أجلُّ مِن غَيرِه، مُبتَدِئًا بما هو أَولاها بالذِّكرِ؛ لأنَّه أجَلُّها منفعةً في ضروراتِ المَعيشةِ، وألزَمُها لِمَن أُنزِلَ الذِّكرُ بلِسانِهم .

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا.

أي: وخلَقَ اللهُ الإبِلَ والبقَرَ والغنَمَ، فسخَّرها لِمصالِحكم أيُّها النَّاسُ .

لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان أوَّلَ ما يُمكِنُ أن يَلقَى الإنسانُ عادةً مِن نِعَمِها اللِّباسُ؛ بدأ به، فقال تعالى :

لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ.

أي: لكم- أيُّها النَّاسُ- في أصوافِ الأنعامِ وأوبارِها وأشعارِها مَلابِسُ وفُرُشٌ، وأغطيةٌ وأبنيةٌ تُدَفِّئُكم من البَردِ، ولكم فيها فوائِدُ كثيرةٌ مِن نَسلِها وألبانِها ودُهونِها، وبالحَرثِ بها، والسَّقيِ عليها، ورُكوبِها وبَيعِها، وغيرِ ذلك مِن مَنافِعِها .

كما قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل: 80].

وقال سُبحانه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 21-22] .

وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ.

أي: ومِن لُحومِ الأنعامِ تأكُلونَ .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 71 - 73] .

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6).

أي: ولكم- أيُّها النَّاسُ- في الأنعامِ حُسْنٌ وجَمالٌ يَجلِبُ لكم السُّرورَ والسَّعادةَ، وذلك حين تَرجِعونَها مَساءً مِن المَرعَى إلى مَنازِلِها، وحين تَذهَبونَ بها صَباحًا إلى مَراعيها .

كما قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46] .

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7).

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.

أي: وتَحمِلُ الأنعامُ أبدانَكم وأمتِعتَكم في أسفارِكم مِن بلدٍ إلى آخَرَ لم تكونوا واصِلينَ إليه- مِن دُونِ الأنعامِ- إلَّا بجَهدٍ شَديدٍ مِن أنفُسِكم، ومَشقَّةٍ كبيرةٍ .

كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر: 79-80] .

إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.

أي: إنَّ ربَّكم- الذي خلقَ الأنعامَ، وسخَّرها لِمَصالِحكم- لَذو رأفةٍ ورَحمةٍ بكم .

كما قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف: 12-13] .

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى منافِعَ الحَيواناتِ التي ينتَفِعُ الإنسانُ بها في المنافِعِ الضَّروريَّةِ والحاجاتِ الأصليَّةِ؛ ذكَرَ بعدَه منافِعَ الحيواناتِ التي ينتَفِعُ بها الإنسانُ في المنافِعِ التي ليست بضروريَّةٍ .

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً.

أي: وخلَقَ اللهُ لكم- أيُّها النَّاسُ- الخَيلَ والبِغالَ والحَميرَ؛ لِتَركبوا على ظُهورِها، وجعَلَها اللهُ زينةً لكم .

وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

أي: ويَخلقُ ما لا يُحيطُ عِلمُكم به مِن المخلوقاتِ، غيرَ ما أخبَرَكم به، وعدَّدَه لكم .

كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 36] .

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى من الحيواناتِ ما يُسارُ عليه في السُّبُلِ الحِسِّيَّة، نبَّه على الطُّرُقِ المعنويَّةِ الدِّينيَّةِ، وكثيرًا ما يقَعُ في القرآنِ العُبورُ مِن الأمورِ الحسِّيَّةِ إلى الأمورِ المعنويَّةِ النَّافعةِ الدِّينيَّةِ، فلَمَّا ذكَر في هذه السُّورةِ الحيواناتِ مِن الأنعامِ وغَيرِها، التي يركبونَها، ويَبلُغونَ عليها حاجةً في صُدورِهم، وتحمِلُ أثقالَهم إلى البلادِ، والأماكنِ البَعيدةِ، والأسفارِ الشَّاقَّةِ؛ شرعَ في ذِكرِ الطُّرُقِ التي يَسلُكُها النَّاسُ إليه .

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ.

أي: وإلى اللهِ ينتهي طريقُ الحَقِّ المُستَقيمُ، فيُوصِلُ مَن سلَكه إلى اللهِ، ونَيلِ رِضاه وجَنَّتِه .

كما قال تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56] .

وقال سبحانه: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [الليل: 12] .

وعن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((خَطَّ لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطًّا ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ؛ ثم خَطَّ خُطوطًا عن يمينِه وعن شِمالِه؛ ثم قال: هذه سُبُلٌ- قال يَزيدُ هو ابنُ هارونَ أحدُ رواةِ الحديثِ: مُتَفَرِّقةٌ- على كُلِّ سبيلٍ منها شَيطانٌ يدعو إليه، ثمَّ قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] )) .

وَمِنْهَا جَائِرٌ.

أي: ومِن الطُّرُقِ المَسلوكةِ طُرُقٌ مُعوَجَّةٌ، غيرُ مُستقيمةٍ، لا تُوصِلُ سالِكَها إلى اللهِ، ونَيلِ رِضاه وجَنَّتِه .

وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان أكثَرُ الخَلقِ ضَالًّا، كان ربَّما توهَّمَ مُتوَهِّمٌ أنَّه خارِجٌ عن الإرادةِ، فنفَى هذا التوهُّمَ بقَولِه- عَطفًا على ما تقديرُه: فمَن شاء هَداه قَصْدَ السَّبيلِ، ومن شاء أسلَكَه الجائِرَ، وهو قادِرٌ على ما يُريدُ مِن الهدايةِ والإضلالِ .

وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.

أي: ولو شاء اللهُ لَهَداكم جميعًا- أيُّها النَّاسُ- إلى سُلوكِ الطَّريقِ المُستَقيمةِ، ولكِن اقتَضَت حِكمتُه أن يهديَ مَن يشاءُ بفَضلِه، ويُضِلَّ مَن يشاءُ بعَدلِه

 

.

كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [يونس: 99- 100] .

وقال سُبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118-119] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .

الفوائد التربوية:

 

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ عبَّرَ عن نَسلِها ودَرِّها بلَفظِ المَنفعةِ، وهو اللَّفظُ الدَّالُّ على الوَصفِ الأعَمِّ؛ لأنَّ النَّسلَ والدَّرَّ قد يُنتفَعُ به في الأكلِ، وقد يُنتفَعُ به في البَيعِ بالنُّقودِ، وقد يُنتفَعُ به بأن يُبدَّلَ بالثِّيابِ وسائرِ الضَّروريَّاتِ، فعبَّرَ عن جُملةِ هذه الأقسامِ بلَفظِ المَنافِعِ؛ ليتناولَ الكُلَّ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ناسبَ الامتنانَ بهذه النِّعمةِ- مِن حَملِها الأثقالَ- الخَتمُ بصِفةِ الرَّأفةِ والرَّحمةِ؛ لأنَّ مِن رأفتِه تَيسيرَ هذه المصالحِ، وتَسخيرَ الأنعامِ لكم .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ فيه دليلٌ على جوازِ السَّفرِ بالدَّوابِّ وحملِ الأثقالِ عليها، ولكنْ على قدرِ ما تحتملُه مِن غيرِ إسرافٍ في الحملِ معَ الرِّفقِ في السَّيرِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ فيه دليلٌ على جوازِ الحَملِ على البَقَرِ ورُكوبِها ، على اعتبارِ أنَّ الضميرَ يعودُ على الإبلِ والبقرِ.

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً فيه دليلٌ على أنَّ أفعالَ اللهِ تعالى مُعلَّلةٌ بالمَصالحِ والِحكَم؛ فظاهِرُ هذه الآيةِ يقتضي أنَّ هذه الحَيواناتِ مَخلوقةٌ لأجلِ المَنفعةِ المَذكورةِ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ قرنَ الخيلَ بالبِغالِ والحَميرِ، وأخذ المالكيَّةُ من الاقترانِ المذكورِ ردًّا على الحنفيَّةِ في قَولِهم بوُجوبِ الزَّكاةِ فيها .

7- في قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً دليلٌ على جوازِ طَلَبِ العبدِ للجمالِ والزينةِ- إذا جُرِّدَ صاحبُها مِن الفخر والخيلاء؛ وأراد بهما إظهارَ نعمةِ اللهِ عليه- وأنَّه ليس بمؤَثِّرٍ في نُسكِ الناسكِ؛ وليس مِن الدنيا المذمومةِ؛ فقد جعلَه سبحانه في عِدَادِ النعمةِ على خَلْقِه .

8- في قولِه تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وقولِه سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] دليلٌ على أنَّه يجوزُ لنا أنْ ننتفِعَ بالبهائمِ بجميعِ وجوهِ الانتفاعِ .

9- قال الله تعالى عن الأنعام: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وقال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، فلم يَذكُرِ الأكلَ؛ لأنَّ البِغالَ والحُمُرَ مُحَرَّمٌ أكلُها، والخيلَ لا تُستعمَلُ- في الغالبِ- للأكلِ، فلم يذكُرْ مِن منافعِ الخيلِ الأكلَ معَ أنَّه جائزٌ أكلُه، فقد ثبَت في الصَّحيحَينِ : ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أذِنَ في لُحومِ الخَيلِ ))، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّه لا ينبغي أنْ تُجْعَلَ الخيلُ للأكلِ، وإنما تُجْعَلُ للركوبِ، وللزينةِ، وللجهادِ في سبيلِ اللهِ، أمّا الأكلُ فهناك ما يكفي عنها - وهي الأنعامُ -، فالإبلُ أكبرُ منها أجسامًا، وأكثرُ منها لحومًا، والبقرُ، والغنمُ، ولأنها لو اتُّخِذَتْ للأكلِ لَفَنِيَتْ، وبَطَلَ الانتفاعُ بها في الجهادِ في سبيلِ اللهِ، فهذه هي الحكمةُ- واللهُ أعلمُ- في أنها قُرِنَتْ بالبغالِ والحَميرِ .

10- قولُه تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يُوحي بأنَّ هناك أشياءَ ستحدُثُ- لا نعْلَمُها- تُرْكَبُ، وهذا هو الواقعُ

 

، وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ

- قولُه: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا يجوزُ أنْ يُعْطَفَ الْأَنْعَامَ عطْفَ المُفرَدِ على المُفرَدِ عطفًا على الْإِنْسَانَ؛ فيحصُلُ اعتبارٌ بهذا التَّكوينِ العجيبِ لِشَبَهِه بتكوينِ الإنسانِ، وتكونُ جُملةُ خَلَقَهَا بمُتعلِّقاتِها مُستأنَفةً؛ فيحصُلُ بذلك الامتنانُ. ويجوزُ أنْ يكونَ عطْفَ الجُملةِ على الجُملةِ، فيكونُ الكلامُ مُفيدًا للتَّأكيدِ؛ لقَصدِ تَقويةِ الحكمِ؛ اهتمامًا بما في الأنعامِ من الفوائدِ؛ فيكونُ امتنانًا على المُخاطَبينَ، وتعريضًا بهم

.

- قولُه: لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ الخِطابُ صالحٌ لشُمولِ المُشركينَ، وهم المقصودُ ابتداءً مِن الاستدلالِ، وأنْ يشمَلَ جميعَ النَّاسِ، ولا سيَّما فيما تضمَّنَه الكلامُ من الامتنانِ، وفيه الْتفاتٌ من طَريقِ الغَيبةِ الَّذي في قولِه تعالى: عَمَّا يُشْرِكُونَ باعتبارِ بعضِ المُخاطَبينَ .

- وفي قولِه: لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ التَّعبيرُ بـ (مَنَافِعُ) عن دَرِّ الأنعامِ ورُكوبِها وحَملِها والحراثةِ بها وغيرِ ذلك؛ ليتناوَلَ الكلَّ مع أنَّه الأنسبُ بمَقامِ الامتنانِ بالنِّعمِ. وتَقديمُ الدِّفْءِ على المنافعِ؛ لرعايةِ أُسلوبِ التَّرقِّي إلى الأعلى .

- وقدَّم الملبوسَ على المطعومِ؛ لأنَّ الملبوسَ أكثَرُ بقاءً مِن المطعومِ؛ فلهذا قَدَّمَه عليه في الذِّكرِ .

- وخصَّ الدِّفْء بالذِّكرِ مِن بينِ عُمومِ المنافعِ؛ للعِنايةِ به ، وأفرَد منفعةَ الأكلِ بالذكرِ؛ لأنَّها معظمُ المنافعِ ، فمَنفعةٌ الأكلِ ومنفعةُ الدِّفءِ مِن أعظَمِ المَنافِعِ .

- قولُه: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ فيه: تقديمُ الظَّرفِ، وهو مُؤذِنٌ بالاختصاصِ، وقد يُؤْكَلُ مِن غيرِها؛ إلَّا أنَّ الأكلَ منها هو الأصلُ الَّذي يعتمِدُه النَّاسُ في معايشِهم، وأمَّا الأكلُ مِن غيرِها، فكغيرِ المُعتدِّ به، وكالجاري مَجْرى التَّفكُّهِ. ويحتملُ أنَّ طُعمتَكم منها؛ لأنَّكم تَحرُثون بالبقرِ، فالحبُّ والثِّمارُ الَّتي تَأكُلونها منها، وتكتسِبونَ بإكراءِ الإبلِ، وتَبيعونَ نِتاجَها وألبانَها وجُلودَها . وقيل: تَقديمُ المجرورِ في قولِه تعالى: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ للاهتمامِ؛ لأنَّهم شَديدو الرَّغبةِ في أكلِ اللُّحومِ، وللرِّعايةِ على الفاصلةِ .

- والإتيانُ بالمُضارِعِ تَأْكُلُونَ؛ لأنَّ ذلك مِن الأعمالِ المُتكرِّرةِ .

2- قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ

- قوله: حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ خَصَّ هذَينِ الوَقتينِ؛ لأنَّ وجهَ التجمُّلِ بها: أنَّ الرَّاعيَ إذا روَّحَها بالعَشيِّ، وسَرَّحها بالغَداةِ تزيَّنَت عند تِلكَ الإراحةِ والتَّسريحِ الأفنيةُ، وتجاوَبَ فيها الثُّغاءُ والرُّغاءُ ، وفَرِحَت أَربابُها، وعظُمَ وقعُهم عند الناسِ؛ بسَبب كونِهم مالكينَ لها، ولأنَّ هذَينِ الوَقتينِ هما وقتُ نَظَرِ النَّاظِرينَ إليها؛ لأنَّها عند استقرارِها في الحظائِرِ لا يَراها أحَدٌ، وعند كَونِها في مَراعيها هي متفَرِّقةٌ غيرُ مُجتَمِعةٍ؛ كُلُّ واحدٍ منها يَرعَى في جانبٍ .

- وقُدِّمَت الإراحةُ على التَّسريحِ لوجوهٍ:

منها: أنَّ الجَمالَ في الإراحةِ أكثَرُ؛ لأنَّها تُقبِلُ وقد نالت حاجتَها من الأكلِ والشُّربِ، مَلأى البُطونِ، حافلةَ الضُّروعِ، أعظمُ ما تكونُ أسنمةً، مَرِحةً بمسَرَّةِ الشِّبَع، ومَحبَّةِ الرُّجوعِ إلى منازلِها مِن معاطِنَ ومَرابِضَ، ثم اجتَمَعت في الحظائِرِ حاضِرةً لأهلِها، قد توفَّر حسنُها، وعظُم شأنُها، وتعلَّقت القلوبُ بها؛ بخلافِ التَّسريحِ؛ فإنَّها عند خُروجِها إلى المرعى تخرُجُ جائِعةً عادِمةَ اللَّبنِ، ثم تأخُذُ في التفَرُّقِ والانتشارِ، فظهَر أنَّ الجَمالَ في الإراحةِ أكثَرُ منه في التَّسريحِ؛ لتكاملِ درِّها، وسرورِ النفسِ بها إذ ذاك .

ومنها: أنَّ المنافِعَ منها إنَّما تُؤخَذُ بعد الرَّواحِ .

- والإتيانُ بالمُضارعِ في تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ؛ لأنَّ ذلك مِن الأحوالِ المُتكرِّرةِ، وفي تَكرُّرِها تَكررُ النِّعمةِ بمَناظرِها .

3- قولُه تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ لعلَّ تغييرَ النَّظمِ الكريمِ السَّابقِ الدَّالِّ على كونِ الأنعامِ مَدارًا للنِّعمِ السَّابقةِ إلى الجُملةِ الفعليَّةِ المُفيدةِ لمُجرَّدِ الحُدوثِ؛ للإشعارِ بأنَّ هذه النِّعمةَ ليست في العُمومِ- بحسَبِ المنشَأِ وبحسَبِ المُتعلَّقِ، وفي الشُّمولِ للأوقاتِ والاطِّرادِ في الأحيانِ المعهودةِ- بمَثابةِ النِّعمِ السَّالفةِ؛ فإنَّها بحسَبِ المنشَأِ خاصَّةٌ بالإبلِ، وبحسَبِ المُتعلَّقِ: بالضَّاربينَ في الأرضِ، المُتقلِّبينَ فيها للتِّجارةِ وغيرِها في أحايينَ غيرِ مُطَّرِدةٍ، وأمَّا سائرُ النِّعمِ المَعدودةِ فمَوجودةٌ في جميعِ أصنافِ الأنعامِ، وعامَّةٌ لكافَّةِ المُخاطَبينَ دائمًا، أو في عامَّةِ الأوقاتِ .

- وأفاد قولُه: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ معنى: تحمِلُكم وتُبَلِّغُكم، بطَريقةِ الكِنايةِ القريبةِ من التَّصريحِ؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه تعالى: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ .

- وطابَقَ قولُه: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ قولَه: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ، ولم يقُلْ: (لمْ تكونوا حامِليها إليه)؛ لأنَّ طِباقَه مِن حيثُ إنَّ معناه: وتحمِلُ أثقالَكم إلى بلدٍ بعيدٍ قد علِمْتُم أنَّكم لا تبلُغونَه بأنفُسِكم إلَّا بجَهدٍ ومشقَّةٍ، فضلًا أنْ تَحمِلوا على ظُهورِكم أثقالَكم. ويجوزُ أنْ يكونَ المعنى: لمْ تَكونوا بالِغيه بها إلَّا بشِقِّ الأنفُسِ. وقيل: أَثْقَالَكُمْ: أجرامَكم .

- وجُملةُ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ تَعليلٌ لجُملةِ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا، أي: خلَقَها لهذه المنافِعِ؛ لأنَّه رَؤوفٌ رَحيمٌ بكم .

4- قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

- اقتصَرَ على الرُّكوبِ؛ لأنَّه أعظَمُ منافِعِها .

- قولُه: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً لم يَرِدِ المعطوفُ زِينَةً والمعطوفُ عليه مَحَلُّ لِتَرْكَبُوهَا على سَننٍ واحدٍ، حيث لم يقُلْ: (ولتَتزيَّنوا بها)؛ لأنَّ الرُّكوبَ فِعْلُ المُخاطَبين، وأمَّا الزِّينةُ ففِعْلُ الزَّائنِ ، وهو الخالِقُ سُبحانَه وتَعالى . وقيل: التَّحقيقُ فيه أنَّ الرُّكوبَ هو المعتبرُ في المقصودِ، بخلافِ الزينةِ، فكأنَّه سبحانَه قال: خلقتُها لتركَبوها؛ فتَدْفَعوا عن أنفسِكم بواسطتِها ضررَ الإعياءِ والمشقَّةِ، وأمَّا التَّزيُّنُ بها فهو حاصلٌ في نفسِ الأمرِ، ولكنَّه غيرُ مقصودٍ بالذَّاتِ .

- وفيه تأخيرُ الزِّينةِ عن الرُّكوبِ؛ لكونِ الرُّكوبِ أهمَّ منه .

- قولُه: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فيه العُدولُ إلى صِيغَةِ الاستقبالِ؛ للدَّلالةِ على الاستمرارِ والتَّجدُّدِ، أو لاستحضارِ الصُّورةِ، أو يخلُقُ لكم في الجنَّةِ غيرَ ما ذُكِرَ مِن النِّعمِ الدُّنيويَّةِ . وقيل: إنَّ يَخْلُقُ مُضارعٌ مُرادٌ به زمنُ الحالِ لا الاستقبالِ، أي: هو الآن يخلُقُ ما لا تعلمونَ أيُّها النَّاسُ ممَّا هو مَخلوقٌ لنَفعِهم وهم لا يَشعُرون به، فكما خلَقَ لهم الأنعامَ والكُراعَ، خلَقَ لهم ويخلُقُ لهم خلائقَ أُخرى لا يَعلمونها .

5- قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ

- قولُه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ جُملةٌ مُعترِضةٌ؛ اقتضَتِ اعتراضَها مُناسبةُ الامتنانِ بنِعمةِ تَيسيرِ الأسفارِ بالرَّواحلِ والخيلِ والبغالِ والحميرِ، وإضافةُ قَصْدُ إلى السَّبِيلِ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى المَوصوفِ، وهي صِفةٌ مُخصِّصةٌ؛ لأنَّ التَّعريفَ في السَّبِيلِ للجنسِ .

- قولُه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ فيه إيثارُ حَرفِ الاستعلاءِ على أداةِ الانتهاءِ (إلى)؛ لتأكيدِ الاستقامةِ على وَجهٍ تَمثيليٍّ مِن غيرِ أنْ يكونَ هناك استعلاءٌ لشَيءٍ عليه سُبحانَه وتَعالى عنه عُلوًّا كبيرًا، كما في قولِه تَعالى: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41]

======================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (10-18)

ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ

غريب الكلمات :

 

تُسِيمُونَ: أي: تَرعَونَ أنعامَكم، وأصلُ (سوم): يدُلُّ على طلَبِ الشَّيءِ

.

وَسَخَّرَ: أي: ذلَّل، والتَّسْخِيرُ: سياقةٌ إلى الغَرَضِ المختصِّ قَهرًا، وأصل (سخر): يدلُّ على استذلالٍ .

ذَرَأَ: أَي: خلَق؛ يُقالُ: ذرأ اللهُ الخَلقَ: أي: أظهَرَهم بالإيجادِ بعد العدَمِ، وأصلُ (ذرأ): يدُلُّ على الإظهارِ .

مَوَاخِرَ: أي جواريَ تَشُقُّ الماءَ مع صَوتٍ، وأصلُ (مخر): يدُلُّ على شَقٍّ وفَتحٍ .

رَوَاسِيَ: أي: جبالًا ثوابِتَ، وأصلُ (رسو): يدلُّ على ثباتٍ .

تَمِيدَ: أي: تَضطَرِب، وتتحَرَّك يَمنةً ويَسرةً، وأصلُ (ميد): يدُلُّ على حَركةٍ في شَيءٍ .

وَسُبُلًا: أي: طُرُقًا، وسُمِّي الطَّريقُ بذلك؛ لامتِدادِه، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتِدادِ شيءٍ .

وَعَلَامَاتٍ: أي: مَعالمَ للطُّرُقِ نَهارًا، وأصلُ (علم): يدلُّ على أثَرٍ بالشَّيءِ يتميَّزُ به عن غَيرِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: اللهُ الذي أنزلَ لكم مِن السَّحابِ مطَرًا، فجعلَ لكم منه ماءً تَشرَبونَه، وأخرجَ لكم به شجَرًا تَرعَونَ فيه أنعامَكم، يُخرِجُ لكم بهذا الماءِ الزُّروعَ والزَّيتونَ والنَّخيلَ والأعنابَ، ومِن كلِّ أنواعِ الثِّمارِ والفَواكِه. إنَّ في ذلك الإنباتِ لدَلالةً واضِحةً لِقَومٍ يتأمَّلونَ فيَعتَبِرونَ. وسخَّر لكم اللَّيْلَ لراحتِكم، والنَّهارَ لِمَعاشِكم، وسخَّرَ لكم الشَّمسَ والقمَرَ؛ لِمَعرفةِ السِّنينَ والحِسابِ، وغيرِ ذلك من المنافِعِ، والنُّجومُ في السَّماءِ مُذَلَّلاتٌ لكم بأمْرِ اللهِ؛ لتَهتَدوا بها في ظلُماتِ البرِّ والبحرِ. إنَّ في ذلك التَّسخيرِ لَدلائلَ واضِحةً لقومٍ يَعقِلونَ. وسخَّر ما بثَّه لكم في الأرضِ مِن الدوابِّ والثِّمارِ وغيرِ ذلك ممَّا تختلِفُ ألوانُه ومَنافِعُه، إنَّ في ذلك لَعِبرةً لقَومٍ يتَّعِظونَ.

وهو الذي سخَّر لكم البَحرَ لتأكُلوا منه سَمكًا طَريًّا، وتَستخرِجوا منه زينةً- من اللآلئِ وغيرِها- تَلبَسونَها. وترى السُّفُنَ تشُقُّ الماءَ حالَ جَرَيانِها، فيُسمَعُ لذلك صوتٌ، ولتَطلُبوا رِزقَ اللهِ، ولعلَّكم تَشكُرونَ اللهَ تعالى على نِعَمِه العظيمةِ، فلا تعبُدونَ غيرَه. وجعَلَ في الأرضِ جِبالًا تُثَبِّتُها حتى لا تَضْطَربَ بكم، وجعلَ فيها أنهارًا لتشربُوا منها، وتسقيَ أنعامَكم وحرثَكم، وجعل فيها طُرُقًا لتهتَدوا بها في الوُصولِ إلى الأماكنِ التي تُرِيدونها، وجعل في الأرضِ معالِمَ تَستدِلُّونَ بها على الطُّرُقِ نَهارًا، كما جعل النُّجومَ للاهتداءِ بها ليلًا. أفمن يخلُقُ مِثلَ تلك المخلوقاتِ، كمَن لا يخلُقُ شيئًا؟! أفلا تتذكَّرونَ نِعمةَ اللهِ عليكم، فتُفرِدوه بالعبادةِ؟! وإن تعدُّوا نِعَمَ اللهِ عليكم، لا تَستطيعوا حَصرَها؛ لكَثرتِها وتنَوُّعِها، إنَّ اللهَ لَغفورٌ لكم رَحيمٌ بكم.

تفسير الآيات:

 

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا قَرَّر اللهُ تعالى الاستدلالَ على وجودِ الصَّانعِ الحكيمِ بعجائبِ أحوالِ الحيواناتِ؛ أتبَعَه في هذه الآيةِ بذِكرِ الاستدلالِ على وجودِ الصَّانِعِ الحكيمِ بعجائبِ أحوالِ النَّباتِ

.

وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا امتَنَّ بإيجادِهم بعدَ العدَمِ، وإيجادِ ما ينتَفِعونَ به من الأنعامِ وغَيرِها مِن الرُّكوبِ؛ ذكَرَ ما امتَنَّ به عليهم مِن إنزالِ الماءِ الذي هو قِوامُ حياتِهم، وحياةِ الحيوان، وما يتولَّدُ عنه من أقواتِهم وأقواتِها من الزَّرعِ .

وأيضًا لَمَّا كان ما مضَى كفيلًا ببيانِ أنَّه- تعالى- الواحِدُ المُختارُ؛ شرَعَ يوضِّحُ ذلك بتفصيلِ الآياتِ إيضاحًا يدَعُه في أتمِّ انكشافٍ في سياق مُعَدِّدٍ للنِّعَم، مُذَكِّرٍ بها، داعٍ إلى شُكرِها، فقال بعدما دَلَّ به من الإنسانِ، وما يليه في الشَّرفِ مِن الحيوانِ، مُبتدِئًا بما يليهما في الشَّرَف من النباتِ :

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً.

أي: اللهُ الذي أنعَمَ بكُلِّ تلك النِّعَمِ، هو الذي أنزلَ مِن السَّحابِ مطَرًا .

لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ.

أي: لكم مِن المطَرِ ماءٌ عَذْبٌ تَشرَبونَه، وأخرج اللهُ لكم به شجرًا تَرعَونَ فيه أنعامَكم .

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكر- تعالى- الحيواناتِ تفصيلًا وإجمالًا، ذكرَ الثِّمارَ تفصيلًا وإجمالًا .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان الشَّجَرُ عامًّا، شرع سبحانَه يفَصِّلُه تنويعًا للنِّعَم، وتذكيرًا بالتَّفاوُت؛ إشارةً إلى أنَّ الفعلَ بالاختيارِ، فقال مُبتَدِئًا بالأنفَعِ في القُوتيَّةِ والائتدامِ والتَّفَكُّهِ :

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ.

أي: يُخرِجُ اللهُ لكم بماءِ المطَرِ أنواعَ الزُّروعِ، والزَّيتونَ، والنَّخيلَ، والأعنابَ .

وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.

أي: ويخرِجُ لكم به مِن كُلِّ أنواعِ الفَواكِهِ أنواعًا أخرى غيرَ ذلك .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

أي: إنَّ في إنباتِ اللهِ أنواعَ الزُّروعِ والثِّمارِ بالمطَرِ لدَلالةً واضِحةً لِمَن شأنُهم وعادتُهم أن يتفكَّروا في مَخلوقاتِ الله، وما أقامه من الحُجَجِ، فيَستَدِلُّوا بها على وحدانيَّتِه، وكَمالِ قُدرتِه على البَعثِ وغَيرِه، وعلى رَحمتِه، وأنَّه المُبدِعُ الحَكيمُ الذي أنبت أصنافًا مختلفةً مِن ماءٍ واحدٍ .

كما قال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل: 60] .

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا احتَجَّ على إثباتِ وحدانيتِه في المَرتبةِ الأولى بأجرامِ السَّمواتِ، وفي المرتبةِ الثَّانيةِ ببَدَنِ الإنسانِ ونَفسِه، وفي المرتبةِ الثَّالثةِ بعجائِبِ خِلقةِ الحيواناتِ، وفي المرتبةِ الرابعةِ بعجائبِ أحوالِ النَّبات؛ ذكَرَ في المرتبة الخامسةِ الاستدلالَ بعجائبِ أحوالِ العناصرِ، فبدأ منها بالاستدلالِ بعُنصرِ الماءِ .

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.

أي: وذلَّل اللهُ لكم- أيُّها النَّاسُ- اللَّيلَ والنَّهارَ يتعاقبانِ عليكم؛ فالليلُ لسُكونِكم وراحتِكم، والنهارُ لانتِشارِكم في مَعايشِكم ومنافعِكم، وذلَّلَ لكم الشَّمسَ والقمَرَ يَجريانِ باستمرارٍ؛ لتحقيقِ مَنافِعِكم ومصالِحكم؛ كمعرفةِ الأوقاتِ، ونُضجِ الثِّمارِ، وغيرِ ذلك .

كما قال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 13] .

وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ.

أي: والنُّجومُ مُذَلَّلاتٌ لكم في السَّماءِ، تجري في فَلَكِها بإذنِ اللهِ؛ لتَهتَدوا بها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ .

كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

أي: إنَّ في تَسخيرِ اللهِ الليلَ والنهارَ، والشمسَ والقمرَ والنجومَ، لدَلالاتٍ واضحاتٍ لِمَن شأنُهم وعادتُهم أن يفهَموا عن اللهِ ما أخبَرَ به من الحُجَجِ والدَّلالاتِ على قُدرتِه العظيمةِ وغَيرِها .

كما قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3-6] .

وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما نبَّه سبحانَه على معالمِ السمواتِ؛ نبَّه على ما خَلَق في الأرضِ مِن الأمورِ العجيبةِ والأشياءِ المختلفةِ، مِن الحيواناتِ والمعادنِ والنَّباتاتِ والجماداتِ فقال:

وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ.

أي: وسخَّر اللهُ لكم ما بثَّ ونشَرَ في الأرضِ، كالدَّوابِّ والثِّمارِ والنَّباتِ، والمعادنِ والجماداتِ، مُختلِفًا ألوانُها، مُتعَدِّدًا أصنافُها وأشكالُها ومَنافِعُها .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.

أي: إنَّ فيما ذرأ اللهُ في الأرضِ مُختَلِفًا ألوانُه لَدَلالةً وعِبرةً لِمَن شأنُهم وعادتُهم أن يتَّعِظوا فيستدلُّوا بذلك على وحدانيَّةِ اللهِ، وكمالِ قُدرتِه، وسَعةِ رَحمتِه، ويَشكُروه على نِعَمِه .

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [الزمر: 21] .

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكر اللهُ تعالى الاستدلالَ بما ذرأ في الأرضِ، ذكر ما امتَنَّ به من تسخيرِ البَحرِ ، فقال تعالى:

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا.

أي: والذي أنعمَ عليكم بتلك النِّعَمِ، هو اللهُ- وَحدَه- الذي ذلَّلَ لكم البَحرَ- مِلْحًا كان أو عَذبًا- كي تأكُلوا منه سَمكًا طَرِيًّا .

كما قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا [فاطر: 12] .

وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا.

أي: ولِتَستخرِجوا منه اللآلئَ وغيرَها، فتتزَيَّنوا بلُبسِها .

كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 22].

وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ.

أي: وترَى السُّفُنَ جاريةً في البحرِ، وهي تشقُّ المياهَ والرِّياحَ بصَدرِها، فيُسمَعُ لِجَريِها صوتٌ، فتَستَدِلُّونَ بعدَمِ رُسوبِها وغَرَقِها في الماءِ- مع ثِقَلِها ومُيوعةِ الماءِ ورِقَّتِه وشِدَّةِ لطافتِه- على وحدانيَّةِ الإلهِ وقُدرتِه سُبحانَه .

كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 32-34] .

وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.

أي: وسخَّر اللهُ لكم البحرَ لحملِ السُّفنِ؛ لتركبوها في طلبِ معايشِكم، وتنقلوا عليها البضائعَ مِن بلدٍ إلى بلدٍ؛ طلبًا للرزقِ مِن فضلِ الله .

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

أي: وسخَّر الله لكم هذه المَخلوقاتِ؛ لعلَّكم تَشكُرونَ نِعَم اللهِ بالثَّناءِ عليه، وطاعتِه، وتوحيدِه .

وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15).

وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ.

أي: ومِن نِعَمِ اللهِ عليكم- أيُّها النَّاسُ- أنْ جعلَ في الأرضِ جِبالًا تُثَبِّتُ الأرضَ؛ لئلَّا تضطَرِبَ بكم، وتتحَرَّكَ يمينًا وشِمالًا .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء: 31] .

وَأَنْهَارًا.

أي: وجعل اللهُ في الأرضِ أنهارًا تجري بالماءِ مِن مَوضعٍ إلى آخَرَ؛ لِسَقيِ النَّاسِ، والأنعامِ، والحَرثِ .

وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .

أي: وطُرُقًا مُيسَّرةً وممتَدَّةً، تَسلُكونَها بيُسرٍ وسُهولةٍ في قضاءِ حوائِجِكم، وطلَبِ مَعايشِكم وغيرِها؛ رحمةً بكم؛ لِتهتَدوا بهذه الطُّرُقِ إلى كلِّ موضعٍ تُريدونَ الوصولَ إليه، فلا تَضِلُّوا، ولا تتحَيَّروا .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء: 31] .

وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَر أنَّه أظهَر في الأرضِ سُبُلًا مُعَيَّنةً؛ ذكَر أنَّه أظهَر فيها علاماتٍ مخصوصةً؛ حيث يتمَكَّنُ المكَلَّفُ مِن الاستدلالِ بها، فيَصِلُ بواسطتِها إلى مَقصودِه، فقال :

وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16).

أي: وجعلَ لكم- أيُّها النَّاسُ- معالِمَ، كالجِبالِ وغَيرِها، تَستدِلُّونَ بها نهارًا، ونجومًا تستدِلُّونَ بها ليلًا على طُرُقِكم في أسفارِكم .

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ الدلائِلَ الدالَّةَ على وجودِ القادِرِ الحكيمِ على التَّرتيبِ الأحسَنِ، والنَّظمِ الأكمَلِ، وكانت تلك الدلائِلُ كما أنَّها كانت دلائِلَ، فكذلك أيضًا كانت شَرحًا وتفصيلًا لأنواعِ نِعَمِ الله تعالى، وأقسامِ إحسانِه؛ أتبَعَه بذِكرِ إبطالِ عِبادةِ غَيرِ الله تعالى، والمقصودُ أنَّه لَمَّا دلَّت هذه الدَّلائلُ الباهرةُ، والبيِّناتُ الزَّاهِرةُ القاهرةُ على وجودِ إلهٍ قادرٍ حكيمٍ، وثبَت أنَّه هو المُولي لجميعِ هذه النِّعَم، والمُعطي لكُلِّ هذه الخَيراتِ، فكيف يَحسُنُ في العُقولِ الاشتغالُ بعبادةِ موجودٍ سواه؟! لا سيَّما إذا كان ذلك الموجودُ جَمادًا لا يَفهمُ ولا يَقدِرُ؛ فلهذا الوجهِ قال بعدَ تلك الآياتِ :

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ.

أي: أفمن يخلُقُ مِثلَ تلك المخلوقاتِ العَجيبةِ التي أنعَمَ عليكم بها- وهو الله- كمَن لا يَخلقُ شَيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا، ولا يُنعِمُ عليكم بشيءٍ، فتُشرِكونَ معه في العبادةِ غيرَه ؟!

أَفَلَا تَذَكَّرُونَ.

أفلا تتذكَّرونَ- أيُّها المُشرِكونَ- نِعَمَ اللهِ عليكم، وعظيمَ سُلطانِه وقُدرتِه، وعجْزَ مَعبوداتِكم، وأنَّها لا تجلِبُ نفعًا، ولا تَدفَعُ ضُرًّا، فتَعرِفوا بذلك خطأَ ما أنتم عليه مِن الشِّركِ باللهِ، وتَعرِفوا أنَّ المُنفَرِدَ بالخَلقِ أحَقُّ بالعبادةِ كُلِّها، فتُخلِصوا العبادةَ له ؟!

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)   .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّن بالآيةِ المتقَدِّمةِ أنَّ الاشتغالَ بعِبادةِ غيرِ الله باطِلٌ وخَطأٌ؛ بيَّنَ بهذه الآيةِ أنَّ العبدَ لا يُمكِنُه الإتيانُ بعبادةِ الله تعالى، وشُكرِ نِعَمِه، والقيامِ بحُقوقِ كَرَمِه، على سبيلِ الكَمالِ والتَّمامِ، بل العبدُ وإن أتعَبَ نفسَه في القيامِ بالطَّاعاتِ والعباداتِ، وبالغ في شُكرِ نِعمةِ الله تعالى؛ فإنَّه يكونُ مُقَصِّرًا .

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا.

أي: وإن تعُدُّوا- أيُّها النَّاسُ- نِعَمَ اللهِ عليكم، لا تُطيقوا إحصاءَ عَدَدِها، فضلًا عن شُكرِها .

كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20] .

إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كانوا مُستحِقِّينَ لسَلبِ النِّعَمِ بالإعراضِ عن التَّذكيرِ، والعمَى عن التبَصُّر؛ أشار إلى سبَبِ إدرارِها، فقال تعالى :

إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

أي: إنَّ اللهَ يتجاوزُ عن عبادِه تقصيرَهم في شُكرِ نِعَمِه، رحيمٌ بهم، لا يقطَعُ عنهم إحسانَه، ولا يُعذِّبُهم بسبَبِ تَقصيرِهم، يرضى من عبادِه الشُّكرَ القَليلَ، ويُجازيهم عليه الثَّوابَ الكثيرَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لا تَضبِطوا عدَدَها، ولا تبلُغُه طاقتُكم، فضلًا أنْ تُطِيقوا القِيامَ بحَقِّها من أداءِ الشُّكرِ، وقد أتبَعَ بذلك ما عدَّدَ مِن نِعَمِه؛ تنبيهًا على أنَّ وراءها ما لا ينحصِرُ ولا يَنعَدُّ

. وفيه إيماءٌ إلى الاستكثارِ مِن الشُّكرِ على مُجمَلِ النِّعَمِ، وتعريضٌ بفظاعةِ كُفرِ مَن كَفَروا بهذا المُنعِم، وتغليظُ التَّهديدِ لهم .

2- تأمَّلْ خلْقَ الأرضِ على ما هي عليه حينَ خَلَقها واقِفةً ساكِنةً؛ لتكونَ مِهادًا ومُستقَرًّا للحيوانِ والنباتِ والأمتعةِ، ويتمكَّنَ الحيوانُ والنَّاسُ من السَّعيِ عليها في مآرِبِهم، والجلوسِ لراحاتِهم، والنَّومِ لِهدوئِهم، والتمكُّنِ مِن أعمالِهم، ولو كانت رجراجةً مُتكفِّئةً لم يستطيعوا على ظهرِها قرارًا، ولا ثَبَت لهم عليها بناءٌ، ولا أمكَنَهم عليها صناعةٌ ولا تجارةٌ ولا حِراثةٌ ولا مصلحةٌ، وكيف كانوا يتهنَّون بالعيشِ، والأرضُ ترتَجُّ من تحتِهم؟! واعتَبِرْ ذلك بما يصيبُهم من الزلازلِ على قِلَّةِ مُكثِها، كيف تصَيِّرهم إلى تَركِ منازِلِهم، والهَرَبِ عنها؟! وقد نبَّه اللهُ تعالى على ذلك بقَولِه: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا

 

[غافر: 64] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ أتَى بلَفظِ (مِن) التي للتَّبعيضِ؛ لأنَّ كُلَّ الثَّمَراتِ لا تكونُ إلَّا في الجنَّةِ، وإنَّما أُنبِتَ في الأرضِ بعضٌ مِن كُلِّها للتَّذكِرةِ

. وفيه وجهٌ آخر: أنَّه قُصِدَ منها تنويعُ الامتنانِ على كلِّ قَومٍ بما نالَهم مِن نِعَمِ الثَّمَراتِ، وإنما لم تدخُلْ على الزَّرعِ، وما عُطِفَ عليه؛ لأنَّها من الثَّمَراتِ التي تَنبُتُ في كُلِّ مَكانٍ .

2- قال الله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أفرد (الآيةَ)؛ لِوَحدةِ المحَدَّثِ عنه، وهو الماءُ ، فتوحيدُ (الآيةِ) لأنَّ موضِعَ الدَّلالةِ واحِدٌ، وهو الماءُ الذي أنزله من السَّماءِ، فأخرج به كُلَّ ما ذكَرَه من الأرضِ، وهو على اختِلافِ أنواعِه لِقاحُه واحِدٌ، وأمُّه واحدةٌ، فهذا نوعٌ واحدٌ مِن آياتِه !

3- في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ دليلٌ على أنَّ الكَلَأَ مُبَاحٌ كماءِ السماء، لأنَّ الشجرَ- على أحدِ الأقوالِ- هو الكلأ؛ وقَرَنَه في الآيةِ بالماء؛ وأَخبرَ أنَّا نُسِيمُ فيه، أي: نَرعى .

4- قَولُ الله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ فيه سؤالٌ: التَّسخيرُ عِبارةٌ عن القَهرِ والقَسرِ، ولا يليقُ ذلك إلَّا بمن هو قادِرٌ يجوزُ أن يُقهَرَ، فكيف يصِحُّ ذلك في اللَّيلِ والنَّهارِ، وفي الجماداتِ والشَّمسِ والقَمَرِ؟

الجوابُ: أنَّ الله تعالى لَمَّا دبَّر هذه الأشياءَ على طريقةٍ واحدةٍ مُطابِقةٍ لمصالحِ العبادِ، صارت شبيهةً بالعبدِ المنقادِ المِطواعِ؛ فلهذا المعنى أُطلِقَ على هذا النَّوعِ مِن التدبيرِ لَفظُ التسخيرِ. وقيل: إنَّ اللهَ تعالى يحَرِّكُ هذه الكواكِبَ، وهذه الحركةُ قَسريةٌ؛ فلهذا السَّبَبِ ورد فيها لَفظُ التَّسخيرِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا في ذِكرِ الطَّريِّ مَزيدُ فائدةٍ؛ وذلك لأنَّه لو كان السَّمَكُ كُلُّه مالِحًا، لَما عُرِفَ به مِن قُدرةِ الله تعالى ما يُعرَفُ بالطَّريِّ؛ فإنَّه لَمَّا خرَج من البَحرِ المِلحِ الزُّعاقِ الحَيوانُ الذي لَحمُه في غايةِ العُذوبةِ- عُلِمَ أنَّه إنَّما حدث لا بحسَبِ الطَّبيعةِ، بل بقُدرةِ اللهِ وحِكمتِه؛ حيث أظهَرَ الضِّدَّ مِن الضِّدِّ .

6- يجوز أكلُ القديدِ ممَّا في البحرِ بإجماعِ العلماءِ، وقَولُه تعالى: لَحْمًا طَرِيًّا ليس له مفهومُ مخالفةٍ؛ لأنَّه ذكَر اللحمَ الطريَّ في معرضِ الامتنانِ، فلا مفهومَ مخالفةٍ له، فلا يُقال: يُفهَمُ مِن التقييد بكونه طريًّا أنَّ اليابس- كالقديدِ- ممَّا في البحرِ لا يجوزُ أكلُه .

7- قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا التعبيرُ عنه باللَّحمِ مع كونِه حَيوانًا؛ للإشارةِ إلى قِلَّةِ عِظامِه، وضَعفِها في أغلَبِ ما يُصطادُ للأكلِ بالنِّسبةِ إلى الأنعامِ المُمتَنِّ بالأكلِ منها فيما سبق. وقيل: للتَّلويحِ بانحصارِ الانتفاعِ به في الأكلِ .

8- في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ دلالةٌ على أنَّ رُكُوبَ البحرِ للتجارة مُباحٌ، إِذْ مُحالٌ أنْ يجعلَه في جُمْلَةِ النِّعَمِ؛ ويَضمَّ ذِكْرَه في المباحاتِ؛ ويَذْكُرَ ابتغاءَ فضْلِه جملةً فيه؛ ثم يَحْظُرَ رُكُوبَه في حالٍ دونَ حالٍ !

9- قولُ الله تعالى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا فيه دليلٌ على إباحةِ لبسِ النساءِ والرجالِ حليةَ البحرِ مِن الجواهرِ ونحوِها ؛ لأنَّ الله تعالى امتنَّ على الرجالِ والنِّساءِ امتنانًا عامًّا بما يخرجُ مِن البحرِ، فلا يَحرمُ عليهم شيءٌ منه، وإنما حرَّم الله تعالى على الرِّجال الذهبَ والحريرَ .

10- في قوله تعالى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا دلالةٌ على أنَّ الغوصَ في استخراجِ حِلْيَةِ البحرِ مُباحٌ، ولا يكون تعرُّضًا للهلكة ومخاطرةً بالرُّوح! ولكنَّ ذلك لِمَن يُحْسِنُ العَوْمَ .

11- قَولُ الله تعالى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا استدلَّ به من قال: يحنَثُ الحالِفُ لا يلبَسُ حُلِيًّا بلُبسِ اللُّؤلؤِ؛ لأنَّه تعالى سمَّاه حُلِيًّا .

12- قَولُ الله تعالى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَلْقَى أخَصُّ مِن (خلقَ) و(جعَلَ)؛ وذلك أنَّ أَلْقَى تقتضي أنَّ الله أحدثَ الجِبالَ ليس من الأرضِ، لكِنْ مِن قُدرتِه واختِراعِه . وقيل: لمَّا كانت هذه المخلوقاتُ مَجعولةً كالتَّكملةِ للأرضِ، وموضوعةً على ظاهرِ سَطحِها، عبَّرَ عن خلقِها ووضْعِها بالإلقاءِ الَّذي هو رَمْيُ شَيءٍ على الأرضِ، ولعلَّ خَلْقَها كان مُتأخِّرًا عن خَلقِ الأرضِ، وأمَّا السُّبُلُ والعلاماتُ فتأخُّرُ وُجودِها ظاهرٌ، فصار خَلْقُ هذه الأربعةِ شبيهًا بإلقاءِ شَيءٍ في شَيءٍ بعدَ تمامِه .

13- قولُ الله تعالى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا لما كان أكثَرُ الأنهارِ إنَّما تتفجَّرُ مَنابِعُها في الجبالِ؛ فلهذا السَّبَبِ لَمَّا ذكَرَ الله تعالى الجِبالَ أتبَعَ ذِكرَها بتَفجيرِ العُيونِ والأنهارِ .

14- جُملةُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ مُعترِضةٌ، وهو كلامٌ مُوجَّهٌ يصلُحُ للاهتداءِ إلى المقاصِدِ في الأسفارِ؛ مِن رَسمِ الطُّرقِ، وإقامةِ المَراسي على الأنهارِ، واعتبارِ المسافاتِ، وكلُّ ذلك مِن جَعْلِ اللهِ تعالَى؛ لأنَّ ذلك حاصلٌ بإلهامِه، ويصلُحُ للاهتداءِ إلى الدِّينِ الحقِّ، وهو دِينُ التَّوحيدِ؛ لأنَّ في تلك الأشياءِ دَلالةً على الخالقِ المُنْفردِ بالخَلقِ .

15- قَولُ الله تعالى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أصلٌ لِمُراعاةِ النُّجومِ لِمَعرفةِ الأوقاتِ والقِبلةِ والطُّرُقِ .

16- في قوله تعالى: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ دلالةٌ على اعتبارِ النجومِ دليلًا على القبلةِ في السفرِ؛ فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أطلقَ الاهتداءَ بالنجمِ، فالنجمُ يُهتدَى به على الجهاتِ لكلِّ غرضٍ ، وكذلك مِن الفُقَهاءِ مَن يجعَلُ هذه الآية دليلًا على الاستدلالِ بالعَلاماتِ التي في الأرضِ، وهي الجِبالُ والرِّياحُ؛ لأنَّه كما يمكِنُ الاهتداءُ بهذه العلاماتِ في معرفةِ الطُّرُقِ والمَسالِكِ، فكذلك يُمكِنُ الاستدلالُ بها في مَعرفةِ طلَبِ القِبلةِ .

17- الامتِنانُ بما في الأعيانِ مِن المَنافِعِ، وما يتعلَّقُ بها مِن الأفعالِ، هو أحدُ الأمورِ التي يُستفادُ منها الإباحةُ، وذلك نحو قَولِه تعالى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا [النحل: 80] ، ونحو: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ .

18- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ دَلالةٌ على أنَّ المُشرِكينَ كانوا يُقِرُّونَ بنوعٍ مِن التوحيدِ الذي هو نفيُ خالِقِينَ سوى اللهِ تعالى، ولم يكونوا يُنازِعونَ في ذلك .

19- بيَّنَ اللهُ سُبحانَه أنَّه أحقُّ بالكمالِ مِن غَيرِه، وأنَّ غَيرَه لا يُساويه في الكَمالِ في مِثلِ قَولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وقد بيَّنَ أنَّ الخَلقَ صِفةُ كَمالٍ، وأنَّ الذي يخلُقُ أفضَلُ مِن الذي لا يخلُقُ، وأنَّ مَن عدَلَ هذا بهذا فقد ظلَمَ .

20- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ دَلالةٌ على أنَّه سُبحانَه هو المُستحِقُّ للعبادةِ دونَ ما يُعبَدُ مِن دونِه، وأنَّه لا مِثلَ له ، فالتمثيل الذي هو اعتقادُ المُثْبِتِ أنَّ ما أَثْبَتَه مِن صفاتِ اللهِ تعالى مماثلٌ لصفاتِ المخلوقين! هو اعتقاد باطل بدلالة السمع؛ قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] .

21- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا هذا كلامٌ جامِعٌ للتَّنبيهِ على وَفرةِ نِعَمِ اللهِ تعالى على النَّاسِ، بحيثُ لا يمكِنُ إحصاؤُها، وإذا كانت كذلك فقد حصَلَ التَّنبيهُ إلى كَثرتِها بمعرفةِ أصولِها وما يَحويها مِن العَوالِمِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ استئنافٌ لذِكْرِ دليلٍ آخرَ مِن مظاهرِ بَديعِ خَلقِ اللهِ تَعالى، أُدْمِجَ فيه امتنانٌ بما يأتي به ذلك الماءُ العجيبُ مِن المنافعِ

.

- وصِيغَةُ تَعريفِ المسنَدِ إليه والمسنَدِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ أفادتِ الحصرَ، أي: هو لا غيرُه، وهذا قَصرٌ على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ؛ لأنَّ المُخاطَبينَ لا يُنكِرون ذلك، ولا يَدَّعون له شريكًا في ذلك، ولكنَّهم لمَّا عَبَدوا أصنامًا لم تُنْعِمْ عليهم بذلك، كان حالُهم كحالِ مَن يدَّعي أنَّ الأصنامَ أنعَمَت عليهم بهذه النِّعمِ، فنُزِّلوا مَنزلةَ مَن يدَّعي الشَّركةَ للهِ في الخَلقِ؛ فكان القصرُ قَصرَ إفرادٍ؛ تَخريجًا للكلامِ على خِلافِ مُقْتضَى الظَّاهرِ .

- قولُه: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فيه تأخُّرُ المفعولِ مَاءً عن المجرورِ؛ لأنَّ المقصودَ هو الإخبارُ بأنَّه أنزَلَ مِن السَّماءِ شيئًا هو الماءُ، لا أنَّه أنزَلَه مِن السَّماءِ، والسِّرُّ فيه: أنَّه عندَ تأخيرِ ما حَقُّه التَّقديمُ يَبْقَى الذِّهنُ مُترقِّبًا له، مُشتاقًا إليه؛ فيتمكَّنُ لديه عندَ وُرودِه عليه فضْلَ تمكُّنٍ .

- وقولُه: لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ فيه تقديمُ (مِنْ) التَّبعيضيَّةِ، الَّذي يُوهِمُ حصرَ المشروبِ فيه، ولا بأْسَ به؛ لأنَّ مِياهَ العُيونِ والآبارِ منه؛ لقولِه: فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ [الزمر: 21] ، وقولِه: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 18] . وقيل: لَكُمْ مُتعلِّقٌ بـ شَرَابٌ؛ قُدِّمَ عليه للاهتمامِ .

- قولُه: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ فيه إعادةُ حَرفِ الجرِّ (مِن) بعد واوِ العطفِ؛ لأنَّ حرفَ (مِن) هنا للابتداءِ، أو للسَّببيَّةِ؛ فلا يحسُنُ عطفُ شَجَرٌ على شَرَابٌ .

- وفي قولِه: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ تَقديمُ ما يُسامُ فيه على ما يُؤكَلُ منه، وهو ما ذكَرَه في قولِه بعدُ: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؛ لأنَّ ما يُسامُ فيه سيصيرُ غِذاءً حَيوانيًّا، هو أشرَفُ الأغذيةِ .

- ومِن الدَّقائقِ البلاغيَّةِ في قولِه: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ: الإتيانُ بحرفِ (في) الظَّرفيَّةِ؛ فالإسامةُ في الشجرِ تكونُ بالأكلِ منه، والأكلِ ممَّا تحتَه مِن العُشبِ .

2- قوله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

- قولُه: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ... فيه إيثارُ صِيغَةِ الاستقبالِ يُنْبِتُ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ، وأنَّها سُنَّتُه الجاريةُ على مَرِّ الدُّهورِ، أو لاستحضارِ صُورةِ الإنباتِ .

- وقوله: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ... لم يُعطَفْ على جُملةِ لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ؛ لأنَّه ليس ممَّا يَحصُلُ بنزولِ الماءِ وَحدَه، بل لا بُدَّ معه مِن زَرعٍ وغَرسٍ، وهذا الإنباتُ مِن دلائلِ عظيمِ القدرةِ الربانيَّةِ، فالغرضُ منه الاستدلالُ ممزوجًا بالتذكيرِ بالنعمةِ .

- وقولُه: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فيه تَقديمُ الظَّرفَينِ لَكُمْ بِهِ على المفعولِ الصَّريحِ الزَّرْعَ؛ لأنَّه عند تأخيرِ ما حقُّه التَّقديمُ يَبقى الذِّهنُ مُترقِّبًا له، مُشتاقًا إليه؛ فيتمكَّنُ لديه عند وُرودِه عليه فضْلَ تمكُّنٍ، مع ما في تَقديمِ أوَّلِهما من الاهتمامِ به؛ لإدخالِ المَسرَّةِ ابتداءً. وتقديمُ الزَّرْعَ على ما عداه؛ لأنَّه أصلُ الأغذيةِ وعَمودُ المعاشِ، وهو قُوتُ أكثَرِ العالَمِ. وتقديمُ الزَّيْتُونَ؛ لِمَا فيه من الشَّرفِ، من حيث إنَّه إدامٌ من وَجهٍ، وفاكهةٌ من وَجهٍ، بالإضافة إلى الاطِّلاءِ بدُهنِه إلى غيرِ ذلك من فوائدِه. وتقديمُ النَّخِيلَ على الأعنابِ؛ لظُهورِ أصالتِها وبَقائِها، ولأنَّ ثَمرتَه مِن أطيَبِ الفواكِهِ وقُوتٌ في بعضِ البلادِ. وجمْعُ الْأَعْنَابَ؛ للإشارةِ إلى ما فيها مِن الاشتمالِ على الأصنافِ المُختلفةِ. وتَخصيصُ الأنواعِ المعدودةِ بالذِّكرِ مع اندراجِها تحت قولِه تعالى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؛ للإشعارِ بفَضلِها، لأنَّها أشرَفُ ما يَنبُتُ، وأجمَعُه للمنافِعِ.وتقديمُ الشَّجرِ عليها مع كونِه غِذاءً للأنعامِ؛ لحُصولِه بغيرِ صُنعٍ من البشَرِ، أو للإرشادِ إلى مكارمِ الأخلاقِ؛ فإنَّ مُقتضاها أنْ يكونَ اهتمامُ الإنسانِ بأمْرِ ما تحتَ يَدِه أكمَلَ مِن اهتمامِه بأمْرِ نفسِه، أو لأنَّ أكثرَ المُخاطَبينَ مِن أصحابِ المواشي ليس لهم زَرعٌ ولا ثمَرٌ. وقيل: المُرادُ تَقديمُ ما يُسامُ لا تَقديمُ غِذائِه؛ فإنَّه غِذاءٌ حَيوانيٌّ للإنسانِ وهو أشرفُ الأغذيةِ .

- وجُملةُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَذييلٌ، ونِيطَتْ دَلالةُ هذه بوَصفِ التَّفكيرِ؛ لأنَّها دَلالةٌ خَفيَّةٌ؛ لحُصولِها بالتَّدريجِ، وهو تعريضٌ بالمُشركينَ الَّذين لم يهتَدُوا بما في ذلك مِن دَلالةٍ على تفرُّدِ اللهِ بالإلهيَّةِ، بأنَّهم قومٌ لا يتفكَّرونَ .

3- قولُه تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ هذا انتقالٌ للاستدلالِ بإتقانِ الصُّنعِ على وَحدانيَّةِ الصَّانعِ وعلْمِه، وإدماجٌ بين الاستِدلالِ والامتنانِ. ونِيطَتْ هذه الدَّلالاتُ بوَصْفِ العقلِ؛ لأنَّ أصلَ العَقلِ كافٍ في الاستِدلالِ بها على الوَحدانيَّةِ والقُدرةِ؛ إذ هي دَلائلُ بيِّنةٌ واضحةٌ حاصلةٌ بالمُشاهَدةِ كلَّ يومٍ وليلةٍ .

- قولُه: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فيه إيثارُ صِيغَةِ الماضي سَخَّرَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك أمرٌ واحدٌ مُستمِرٌّ، وإنْ تجدَّدت آثارُه .

4- قولُه تعالى: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ

- قوله: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ وصَفَ اختلافَ ألوانِه؛ زيادةً للتَّعجِيبِ. ولكونِ محَلِّ الاستدلالِ هو اختلافَ الألوانِ، مع اتِّحادِ أصلِ الذَّرءِ؛ أُفْرِدَت الآيةُ في قولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً. ونِيطَ الاستدلالُ باختِلافِ الألوانِ بوَصفِ التَّذكُّرِ؛ لأنَّه استدلالٌ يحصُلُ بمُجرَّدِ تذكُّرِ الألوانِ المُختلفةِ؛ إذ هي مَشهورةٌ .

- وفي قولِه: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: 11-13] مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ وحَّدَ (الآيةَ) أوَّلًا وآخرًا، وجمَعَها في المُتوسِّطِ، وفي كلِّ ذلك آياتٌ كثيرةٌ؛ ووجهُ ذلك:

أنَّه وحَّد الآيةَ في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ؛ لأنَّ موضعَ الدَّلالةِ واحدٌ، وهو الماءُ الَّذِي أنزَله مِن السَّماءِ فأخرَج به كلَّ ما ذكَره مِن الأرضِ، وهو على اختلافِ أنواعِه لقاحُه واحدٌ وأُمُّه واحدةٌ، فهذا نوعٌ واحدٌ مِن آياتِه.

وجمعَ الآياتِ في قوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ لأنَّها تضَمَّنَت اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمسَ والقمَرَ والنُّجومَ، وهي آياتٌ متعَدِّدةٌ مُختلِفةٌ في أنفُسِها وخَلقِها وكيفيَّاتِها؛ فإنَّ إظلامَ الجَوِّ لغُروبِ الشَّمسِ ومَجيءِ اللَّيلِ الذي يلبِسُ العالَمَ كالثَّوبِ، ويَسكُنونَ تحتَه؛ آيةٌ باهرةٌ، ثمَّ ورود جَيشِ الضِّياءِ يَقدُمُه بَشَيرُ الصَّباحِ، فيَنهَزِمُ عسكرُ الظَّلامِ وينتَشِرُ الحيوانُ وينكَشِطُ ذلك اللِّباسُ بجُملتِه؛ آيةٌ أخرى، ثمَّ في الشَّمسِ- التي هي آيةُ النَّهارِ- آيةٌ أخرى، وفي القمَرِ- الذي هو آيةُ اللَّيلِ- آيةٌ أخرى، وفي النُّجومِ آياتٌ أُخَرُ، هذا مع ما يَتبَعُها من الآياتِ المُقارِنةِ لها من الرِّياحِ واختلافِها، وسائِرِ ما يُحدِثُه اللهُ بسَبَبِها، آياتٌ أُخَرُ، فالموضِعُ مَوضِعُ جَمعٍ.

ووحَّد الآيةَ في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ؛ لأنَّ ما ذَرَأ في الأرضِ على اختلافِه مِن الجواهرِ والنباتِ والمعادنِ والحيوانِ كلِّه في محلٍّ واحدٍ، فهو نوعٌ مِن أنواعِ آياتِه، وإنْ تعدَّدتْ أصنافُه وأنواعُه . وقيل غير ذلك .

- ومِن المناسَبةِ الحَسَنة أيضًا: أنَّه تَعالى قال في الأُولى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 11] ، وقال في الثَّانيةِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12] ، وفي الثَّالثةِ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: 13] ؛ ووجه ذلك: أنَّ التَّفكُّرَ إعمالُ النَّظرِ لتطلُّبِ فائدةٍ، وهذه المخلوقاتُ الَّتي تنجُمُ من الأرضِ إذا فكَّرَ فيها علِمَ أنَّ مُعظمَها ليس إلَّا للأكلِ، وأنَّ الأكْلَ به قِوامُ ذي رُوحٍ، وأنَّ المُنعَمَ عليه يحتاجُ أنْ يعرِفَ المُنعِمَ به؛ ليقصِدَ شُكرَ إحسانِه، فهذا مَوضِعُ تفكُّرٍ، بُعِث النَّاسُ عليه؛ ليُفْضِيَ بهم إلى المطلوبِ منهم. ولأنَّ إنباتَ الزَّرعِ والزَّيتونِ والنَّخيلِ والأعنابِ ومُختلَفِ الثَّمراتِ بالماءِ المُنزَّلِ من السَّماءِ، مع كونِه واحدًا والمُنْبَتُ مُختلفَ الأنواعِ والطُّعومِ والمنافعِ: أمْرٌ يُوصَلُ إلى تعرُّفِه وارتباطِه باستِعمالِ الفِكْرِ في ذلك وإنْ لم يطُلْ، بشَرطِ السَّلامةِ من الغَفلةِ؛ فيحصُلُ بمُجرَّدِ الفِكْرِ على عظيمِ المُعتبَرِ؛ فختَمَ الآيةَ بالتَّفكيرِ.

وأمَّا تَعقيبُ ذِكْرِ اللَّيلِ والنَّهارِ وما سخَّرَ في الهواءِ مِن الأنوارِ بقولِه: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ فلأنَّ مُتدبِّرَ ذلك أعلى رُتبةً مِن مُتدبِّرِ ما تَقدَّمَ؛ إذ كانتِ المنافعُ المَجعولةُ فيها أخفى وأغمَضَ؛ فمَن استدرَكَ الآياتِ فيها استحَقَّ الوصفَ بما هو أعْلَى مِن رُتبةِ المُتفكِّرِ المُتدبِّرِ؛ لأنَّه المَنزلةُ الثَّانيةُ الَّتي تُؤَدِّي إليها الفِكرةُ، وهو أنْ يعقِلَ مَطلوبَه منها، ويُدْرِكَ فائدتَه منها؛ ففي تَسخيرِ الليلِ والنَّهارِ إلى ما ذُكِرَ معهما لا يُكتفَى في معرفة ذلك، والحصولِ على الاعتبارِ به بمُجرَّدِ الفِكر؛ فإنَّ العِلمَ بتسخيرِ هذه ممَّا يَغمُض ويَخفَى إلَّا على ذَوي البصائرِ والفِطنِ السَّليمةِ والعقولِ الراجحةِ، فوُصِفَ المعتبِرُ بها بما هو فَوقَ الفِكرِ؛ فقيل: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

وأمَّا الثَّالثةُ، وهي قولُه: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ؛ فلأنَّه لَمَّا نبَّهَ في الأُوليَينِ على إثباتِ الصَّانعِ، نبَّهَ في الثَّالثةِ على أنَّه لا شِبْهَ له ممَّا صنَعَ؛ لأنَّ مَن رأى المخلوقاتِ أصنافًا مُزْدَوجةً مُؤتلِفةً أو مُختلِفةً نَفى عنه صِفاتِها، وعلِمَ أنَّ خالقَها يُخالِفُها، لا يُشبِهُها ولا تُشبِهُه؛ فيَعْلَمَ بعدَ العِلمِ بما تقدَّمَ أنَّه لا صاحِبةَ له ولا ولَدَ، ولا مُشْبِهَ له فيما أنشَأَ وبرَأَ، إذا تذكَّرَ حالَه فيها اتَّفقَ منه واختلَفَ؛ فقَصدُ التذكير هنا كافٍ في حُصولِ الاعتبارِ بذلك؛ فورَدَ كلُّ خِتامِ آيةٍ على أَجَلِّ مُناسَبةٍ، وكلُّ آيةٍ مِن هذِه الثَّلاثِ لا يُناسِبُها إلَّا ما أُعقِبَ به .

- وقيل: وَجهُ اختلافِ الأوصافِ في قولِه: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وقولِه: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وقولِه: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ: أنَّ ذلك لمُراعاةِ اختلافِ شِدَّةِ الحاجةِ إلى قُوَّةِ التَّأمُّلِ، فدَلالةُ المخلوقاتِ النَّاجمةِ عن الأرضِ يحتاج إلى التَّفكُّرِ؛ وهو إعمالُ النَّظرِ المُؤَدِّي إلى العلمِ. ودلالةُ ما ذرَأَه في الأرضِ مِن الحيوانِ مُحتاجةٌ إلى مَزيدِ تأمُّلٍ في التَّفكيرِ للاستِدلالِ على اختلافِ أحوالِها وتناسُلِها وفوائدِها، فكانت بحاجةٍ إلى التَّذكُّرِ؛ وهو التَّفكُّرُ مع تذكُّرِ أجناسِها واختلافِ خَصائصِها. وأمَّا دَلالةُ تَسخيرِ اللَّيلِ والنَّهارِ والعوالِمِ العُلويَّةِ؛ فلأنَّها أدَقُّ وأحوجُ إلى التَّعمُّقِ. وعُبِّرَ عنِ المُستدِلِّين عليها بأنَّهم يَعْقِلون، والتَّعقُّلُ هو أعلى أحوالِ الاستدلالِ . وقيل: ذُكِرَ العقلُ في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ لأنَّ الآثارَ العُلويَّةَ أظهَرُ دَلالةً على القُدرةِ الباهرةِ، وأبيَنُ شَهادةً للكِبرياءِ والعظَمةِ ؛ فخصَّصَ الاعتبارَ بأهلِ العَقلِ؛ لأنَّ هذه الآياتِ أعظَمُ ممَّا قبلَها وأدَلُّ وأكبَرُ، والأُولى هي كالبابِ لهذه، فمَنِ استدَلَّ بهذه الآياتِ وأعطاها حقَّها مِن الدَّلالةِ، استحقَّ مِن الوَصفِ ما يستَحِقُّه صاحِبُ الفِكرِ- وهو العَقلُ- وأيضًا لأنَّ مَنزلةَ العَقلِ بعد مَنزلةِ الفِكْرِ؛ فلمَّا دَلَّهم بالآيةِ الأولى على الفِكرِ، نَقَلَهم بالآيةِ الثَّانيةِ- التي هي أعظَمُ منها- إلى العَقلِ الذي هو فوقَ الفِكرِ .

وقد يقال: ذُكِرَ التفكُّرُ أولًا؛ لأنَّ إعمالَ الفِكرِ في ذلك يَقودُه إلى ما بَعدَه، وهو أنْ يَعقِلَ ما دَلَّتْ عليه تِلكَ الآياتُ مِن وَحدانيَّةِ اللهِ، وبُطلانِ عِبادَةِ مَن سواه، وهذا العقلُ يُوصلُه إلى التَّذكُّرِ؛ فلا يكونُ غافلًا، وذلك يَرفَعُهُ إلى مَرتبةِ الشُّكرِ ومَنزلتِه لِمَن أَوْلَى هذِه النِّعمَ وأسْدَاها.

5- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا بدأ أوَّلًا مِن منافِعِه بما هو الأهَمُّ، وهو الأكلُ .

- وجُملةُ: وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ مُعترِضةٌ بين الجُملِ المُتعاطفةِ مع إمكانِ العطفِ؛ لقَصدِ مُخالفةِ الأسلوبِ، للتَّعجُّبِ مِن تَسخيرِ السَّيرِ في البحرِ باستحضارِ الحالةِ العجيبةِ بواسطةِ فعْلِ الرُّؤيةِ؛ فهذا النَّظمُ للكلامِ لإفادةِ هذا المعنى، ولولاها لكان الكلامُ هكذا: (وتَسْتخرِجوا منه حِليةً تلبَسُونها وتَبْتغوا مِن فضلِه في فُلكٍ مُواخِرَ) .

- قولُه: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فيه تَخصيصُه بتَعقيبِ الشُّكرِ؛ ولعلَّ ذلك لأنَّه أقوى في بابِ الإنعامِ، مِن حيث إنَّه جعَلَ المهالِكَ سببًا للانتفاعِ وتَحصيلِ المعاشِ ؛ فإن فيها قطعًا لمسافةٍ طويلةٍ معَ أحمالٍ ثقيلةٍ، في مدَّةٍ قليلةٍ مِن غيرِ مزاولةِ أسبابِ السفرِ، بل مِن غيرِ حركةٍ أصلًا، معَ أنَّها في تضاعيفِ المهالِكِ .

- وعُطِفُ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على بقيَّةِ العِلَلِ؛ لأنَّه مِن الحِكَمِ الَّتي سخَّرَ اللهُ بها البحرَ للنَّاسِ؛ حملًا لهم على الاعترافِ للهِ بالعُبوديَّةِ، ونَبذِهم إشراكَ غيرِ ربِّه فيها، وهو تعريضٌ بالَّذين أشْرَكوا .

6- قولُه تعالى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

- وقولُه: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ تَعليلٌ لإلقاءِ الرَّواسي في الأرضِ، ولمَّا كان المقامُ مقامَ امتنانٍ، عُلِمَ أنَّ المُعلَّلَ به هو انتفاءُ المَيْدِ، لا وقوعُه؛ فالكلامُ جارٍ على حَذفٍ تَقْتضيه القرينةُ .

7- قولُه تعالى: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ

- قولُه: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ فيه الْتفاتٌ، حيث أُخْرِجَ الكلامُ عن سَننِ الخطابِ؛ فقدِ الْتفَتَ مِن الخطابِ إلى الغَيبةِ، والفائدةُ منه: أنَّه لمَّا كانتِ الدَّلالةُ مِن النَّجمِ أنفَعَ الدَّلالاتِ وأوضَحَها في البَرِّ والبحرِ، نبَّهَ على عِظَمِها بالالتفاتِ إلى مقامِ الغَيبةِ؛ لإفهامِ العُمومِ، ولئلا يُظَنَّ أنَّ المُخاطَبَ مَخصوصٌ بذلك . وقيل: إنه عدَل عن الخطابِ إلى الغَيبةِ الْتفاتًا يُومِئُ إلى فريقٍ خاصٍّ، وهم السَّيَّارةُ والملَّاحونَ؛ فإنَّ هِدايتَهم بهذه النُّجومِ لا غيرُ .وقيل: إن قريشًا كانت تُكثِرُ أسفارَها لطلبِ المال، ومَن كثُرتْ أسفارُه كان علمُه بالمنافعِ الحاصلةِ مِن الاهتداءِ بالنجومِ أكثرَ وأتمَّ، فقولُه: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إشارةٌ إلى قريشٍ لهذا السببِ .

- وتَقديمُ الجارِّ والضَّميرِ وَبِالنَّجْمِ هُمْ؛ للتَّخصيصِ، كأنَّه قيل: وبالنَّجمِ خُصوصًا هؤلاء خُصوصًا يَهْتدونَ؛ فالاعتِبارُ بذلك والشُّكرُ عليه بالتَّوحيدِ ألْزَمُ لهم، وأوجَبُ عليهم . أو قُدِّمَ المُتعلِّقُ في قولِه: وَبِالنَّجْمِ تقديمًا يُفيدُ الاهتمامَ، وكذلك بالمُسنَدِ الفِعليِّ في قولِه تعالى: هُمْ يَهْتَدُونَ، وتقديمُ المُسنَدِ إليه على الخبرِ الفِعليِّ في قولِه تعالى: هُمْ يَهْتَدُونَ لمُجرَّدِ تَقَوِّي الحُكمِ؛ إذ لا يَسمَحُ المقامُ بقَصدِ القصرِ .

8- قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

- قولُه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ إنكارٌ بعدَ إقامةِ الدَّلائلِ المُتكاثرةِ على كَمالِ قُدرتِه، وتَناهي حِكمتِه، والتَّفرُّدِ بخَلقِ ما عدَّدَ مِن مُبدعاتِه: لِأَنْ يُساويَه ويستحِقَّ مُشاركتَه ما لا يقدِرُ على خَلقِ شَيءٍ من ذلك، بل على إيجادِ شَيءٍ ما، وهذا مِن عكسِ التَّشبيهِ؛ إذ مُقْتضى الظَّاهرِ العكسُ، فكان حَقُّ الكلامِ: (أفمَن لا يَخلُقُ كمَن يَخلُقُ؟!)؛ لأنَّ الخِطابَ لعُبَّادِ الأوثانِ حيث سَمَّوها آلهةً؛ تشبيهًا به تعالى، فجعَلوا غيرَ الخالقِ كالخالقِ؛ فخُولِفَ في خِطابِهم؛ لأنَّهم بالَغوا في عِبادتِها، حتَّى صارت عندهم أصلًا في العِبادةِ، والخالقُ فرعًا، وعكَسَ تنبيهًا على أنَّهم بالإشراكِ باللهِ سُبحانَه وتعالى جَعَلوه من جِنسِ المخلوقاتِ العَجَزةِ شبيهًا بها؛ فجاء الإنكارُ على وَفقِ ذلك؛ ليَفْهموا المُرادَ على مُعتقدِهم ، وأيضًا فالمرادُ منه أنَّ مَن يخلُقُ هذه الأشياءَ العظيمةَ، ويُعطي هذه المنافِعَ الجليلةَ: كيف يُسَوَّى بينَه وبينَ هذه الجماداتِ الخسيسةِ في التَّسميةِ باسمِ الإلهِ، وفي الاشتِغالِ بعبادتِها والإقدامِ على غايةِ تَعظيمِها؟! فوقعَ التعبيرُ عن هذا المعنى بقولِه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ .

- قولُه: أَفَمَنْ فيه تَعقيبُ الهمزةِ بالفاءِ؛ لتَوجيهِ الإنكارِ إلى تَوهُّمِ المُشابهةِ المذكورةِ على ما فُصِّلَ من الأُمورِ العظيمةِ الظَّاهرةِ الاختصاصُ به تَعالى، المعلومةِ كذلك فيما بينَهم .

- وعبَّر عن الأصنامِ بقولِه: كَمَنْ، والأصنامُ جماداتٌ، ولفظةُ (مَن) تكونُ لمن يُوصَفُ بالعلمِ؛ وذلك لأنَّ الكُفَّارَ لَمَّا سَمَّوها آلهةً وعَبدُوها، لا جرَمَ أُجرِيَت مجرَى مَن يُوصَفُ بالعلمِ، أو أنَّ السَّببَ فيه المُشاكَلةُ بينَه وبينَ (مَن يَخلُقُ) .

- وفُرِّعَ على إنكارِ التَّسويةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ استفهامٌ عن عدَمِ التَّذكُّرِ في انتفائِها؛ فالاستفهامُ في قولِه: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ مُستعمَلٌ في الإنكارِ على انتفاءِ التَّذكُّرِ، وذلك يختلِفُ باختلافِ المُخاطَبينَ؛ فهو إنكارٌ على إعراضِ المُشركينَ عن التَّذكُّرِ في ذلك .

9- قولُه تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

- جُملةُ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا عَطفٌ على جُملةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ وهي كالتَّكمِلةِ لها؛ لأنَّها نتيجةٌ لِمَا تضَمَّنَته تلك الأدِلَّةُ مِن الامتنانِ كما تقَدَّم، وهي بمنزلةِ التَّذييلِ للامتنانِ؛ لأنَّ فيها عمومًا يشمَلُ النِّعَمَ المذكورةَ وغيرَها .

- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ استئنافٌ عقَّبَ به تَغليظَ الكُفرِ والتَّهديدَ عليه؛ تنبيهًا على تَمكُّنِهم من تَدارُكِ أمرِهم بأنْ يُقْلِعوا عن الشِّركِ، ويتأهَّبوا للشُّكرِ بما يُطيقونَ، على عادةِ القُرآنِ من تَعقيبِ الزَّواجرِ بالرَّغائبِ؛ كَيْلَا يقنَطَ المُسرِفون .

- وفي قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَقديمُ وَصفِ المغفرةِ على نَعتِ الرَّحمةِ؛ لتقدُّمِ التَّخليةِ على التَّحليةِ .

- وأيضًا في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث خُولِفَ بين خِتامِ هذه الآيةِ وخِتامِ آيةِ سُورةِ إبراهيمَ؛ إذ وقَعَ هنالك: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] ؛ لأنَّ تلك جاءت في سِياقِ وعيدٍ وتَهديدٍ عَقِبَ قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا [إبراهيم: 28] ، فكان المُناسِبُ لها تَسجيلَ ظُلمِهم وكُفرِهم بنِعمةِ اللهِ، وأمَّا هذه الآيةُ فقد جاءت خِطابًا للفريقَينِ كما كانت النِّعمُ المعدودةُ عليهم مُنتفِعًا بها كِلاهما، ثمَّ كان من اللَّطائفِ: أنْ قُوبِلَ الوصفانِ اللَّذانِ في آيةِ سُورةِ إبراهيمَ: لَظَلُومٌ كَفَّارٌ بوَصفينِ هنا: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ؛ إشارةً إلى أنَّ تلك النِّعمَ كانت سببًا لظُلمِ الإنسانِ وكُفرِه، وهي سبَبٌ لغُفرانِ اللهِ ورحمتِه، والأمرُ في ذلك مَنوطٌ بعمَلِ الإنسانِ

=======================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (19-25)

ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ

غريب الكلمات:

 

أَيَّانَ: أي: متى، أو: أيُّ حينٍ أو وقتٍ، وهو سُؤالٌ عن زمَانٍ، وقيل: أصلُه: أيُّ أوانٍ، أي: أيُّ وقتٍ، فحُذِف الألفُ ثم جُعل الواوُ ياءً فأُدغِم فصار أيَّان

.

لَا جَرَمَ: أي: حقًّا، وأصلُ (جرم): يدُلُّ على قَطعٍ .

أَسَاطِيرُ: أي: أباطيلُ وتُرَّهات؛ جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم .

يَزِرُونَ: أي: يَحمِلونَ، والوِزرُ: الثِّقلُ المُثقِلُ للظَّهرِ، وأصلُ (وزر): يدُلُّ على الثِّقلِ في الشَّيءِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ

لَا جَرَمَ: كلمةُ جزمٍ ويقينٍ جَرَت مجرى المَثَل. وفي هذا التَّركيبِ أقوالٌ: أحدها: أنَّ لَا جَرَمَ بمعنى (لا بُدَّ ولا محالةَ)، فـ (لا) نافيةٌ للجِنسِ، و(جَرَم) اسمُها مبنيٌّ على الفَتحِ في محلِّ نَصبٍ، والمصدرُ المؤوَّلُ من أنَّ ومعمولَيها في محلِّ جَرٍّ بحَرفِ جَرٍّ محذوفٍ، فيصيرُ المعنى: لا بدَّ مِن علمِ اللهِ سِرَّهم وعَلانيَتَهم، ولا محالةَ فيه. الثاني: أنَّ لَا جَرَمَ كلمةٌ واحِدةٌ مرَكَّبةٌ تركيبَ خَمسةَ عشَرَ، وبعدَ التَّركيبِ صار معناها معنى فعلٍ، وهو (حَقَّ) ، والمصدرُ المؤوَّلُ من أنَّ ومعمولَيها فاعِلٌ لمَجموعِ لَا جَرَمَ لتأويلِه بالفعلِ (حقَّ)، وقيل: مُؤَوَّلٌ بمصدرٍ قائمٍ مقامَه، وهو (حَقًّا)، فيصيرُ المعنى: حَقَّ عِلمُ اللهِ سِرَّهم وعلانيَتَهم. الثالث: أنَّ (لا) نافيةٌ لكلامٍ سابقٍ مُقَدَّرٍ، والوقفُ على (لا) تامٌّ، ثم قال: (جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ...)، أي: حَقَّ وثبَتَ عِلمُه، وعليه فالمصدرُ المؤَوَّلُ مِن أنَّ ومَعمولَيها في محلِّ رَفعٍ فاعِلٌ لـ جَرَمَ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: واللهُ- سُبحانَه- يعلَمُ ما تُخفُونَه في أنفُسِكم- أيُّها النَّاسُ- وما تُظهِرونَه، وسيُجازيكم عليه يومَ القيامةِ، والأصنامُ التي يعبُدُها المُشرِكونَ لا تَخلُقُ شَيئًا بل هي مَخلوقةٌ، فكيف يَعبُدونَها مِن دونِ الله؟ هي جميعًا جماداتٌ لا حياةَ فيها، ولا تدري متى يبعَثُها اللهُ. إلهُكم المُستحِقُّ للعبادةِ إلهٌ واحِدٌ، فالكافِرون الذين لا يُؤمِنون بالآخِرةِ وما فيها مِن ثوابٍ وعِقابٍ، قلوبُهم جاحِدةٌ لنِعَمِ اللهِ ولوحدانيَّتِه سُبحانَه وقدرتِه، وهم مُتكَبِّرونَ عن قَبولِ الحَقِّ. حقًّا أنَّ اللهَ يعلَمُ ما يُخفيه المُشرِكون مِن إنكارِ الحَقِّ وما يُظهِرونه مِن الكُفرِ والعِصيانِ، وسيُجازيهم على ذلك، إنَّه عزَّ وجَلَّ لا يُحِبُّ المُستكبِرينَ. وإذا قيل لهؤلاء المُشرِكينَ: ما الذي أنزل الله على النبيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالوا كَذِبًا وزُورًا: ما نزل عليه شَيءٌ، وإنَّما هذا القُرآنُ قَصَصُ السَّابقينَ وأباطيلُهم؛ ليَحمِلوا آثامَهم كامِلةً يومَ القيامةِ ويَحمِلوا بعضَ آثامِ الذين أضَلُّوهم بغيرِ عِلمٍ. ألا بئسَ ما يَحمِلونَه مِن ذُنوبٍ ثِقالٍ!

تفسير الآيات:

 

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الكُفَّارَ كانوا- مع اشتِغالِهم بعبادةِ غَيرِ اللهِ تعالى- يُسِرُّونَ ضُروبًا مِن الكُفرِ في مكايدِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- فجُعِلَ هذا زَجرًا لهم عنها

.

وأيضًا فإنَّه تعالى زيَّفَ في الآيةِ الأولى عِبادةَ الأصنامِ؛ بسبَبِ أنَّه لا قُدرةَ لها على الخَلقِ والإنعامِ، وزَيَّفَ في هذه الآيةِ أيضًا عبادتَها؛ بسبَبِ أنَّ الإلهَ يجِبُ أن يكونَ عالِمًا بالسِّرِّ والعَلانِيةِ، وهذه الأصنامُ جَماداتٌ لا مَعرِفةَ لها بشيءٍ أصلًا، فكيف تَحسُنُ عبادتُها ؟!

وأيضًا فإنَّها عَطفٌ على جُملةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النحل: 17] ؛ فبعدَ أن أثبتَ أنَّ الله منفَرِدٌ بصِفةِ الخَلقِ دُونَ غَيرِه بالأدلَّةِ العديدةِ، ثمَّ باستنتاجِ ذلك بقَولِه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، انتقل هنا إلى إثباتِ أنَّه مُنفَرِدٌ بعُمومِ العِلمِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا جرت العادةُ بأنَّ المكفورَ إحسانُه يُبادِرُ إلى قَطعِه عند عِلمِه بالكُفرِ، فكان ربَّما توهَّمَ مُتوَهِّمٌ أنَّ سبَبَ مُواترةِ الإحسانِ عدمُ العِلمِ بالكُفرانِ، أو عدَمُ العِلمِ بكُفرانٍ لا يدخُلُ تحت المَغفرةِ- قال مهدِّدًا مُبرِزًا للضَّميرِ بالاسمِ الأعظَمِ الذي بُنِيَت عليه السُّورةُ؛ للفَصلِ بالفَرقِ بين الخالقِ وغَيرِه، ولئلَّا يُتوهَّمَ تقيُّدُ التهديدِ بحيثيَّةِ المغفرةِ؛ إيماءً إلى أنَّ ذلك نتيجةُ ما مضَى :

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19).

أي: واللهُ يعلَمُ- أيُّها النَّاسُ- الذي تُخفُونَه في أنفُسِكم، ويعلَمُ الذي تُظهِرونَه أمامَ الآخرينَ مِن الأقوالِ والأفعالِ، فيُحصِيها عليكم ويُجازيكم بها يومَ القيامةِ؛ إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ .

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أثبت اللهُ تعالى لنَفسِه كمالَ القُدرةِ، وتمامَ العِلمِ، وأنَّه المُنفَرِدُ بالخَلقِ؛ شرعَ يُقيمُ الأدلَّةَ على بُعدِ ما يُشرِكونَه به مِن الآلهةِ، بسَلبِ تلك الصِّفاتِ .

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20).

أي: والأصنامُ التي يعبُدُها المُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ لا تستطيعُ أن تخلُقَ شَيئًا، بل هي مخلوقةٌ، فكيف يكون إلهًا ما كان مخلوقًا لا يَملِكُ نَفعًا ولا ضَرًّا ؟!

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان مِن المخلوقاتِ الميِّتُ والحَيُّ، وكان الميِّتُ أبعَدَ شَيءٍ عن صِفةِ الإلهِ؛ نفَى عن الأصنامِ الحياةَ- بعدَ أن نفَى القُدرةَ والعِلمَ- المُستلزِمِ لأن يكونَ عَبَدتُها أشرَفَ منها، المُستلزِمِ لأنَّهم بخُضوعِهم لها في غايةِ السَّفَهِ .

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ.

أي: الأصنامُ التي يعبُدُها المُشرِكونَ جَماداتٌ لا أرواحَ فيها، فلا تسمَعُ ولا تُبصِرُ ولا تَعقِلُ شيئًا، فكيف تُتَّخَذُ هذه آلِهةً ؟

وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.

أي: وما تدري هذه الأصنامُ متى يَبعَثُها اللهُ، فكيف يُرتجَى عندَ هذه نفعٌ أو ثوابٌ وجزاءٌ ؟

كما قال تعالى: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65] .

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا زيَّفَ- فيما تقَدَّمَ- طريقةَ عبَدةِ الأوثانِ والأصنامِ، وبيَّنَ فسادَ مَذهَبِهم بالدَّلائِلِ القاهرةِ؛ قال: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، ثمَّ ذكَر تعالى ما لأجلِه أصرَّ الكفارُ على القولِ بالشركِ، وإنكارِ التوحيدِ .

وأيضًا فإنَّ اللهُ تعالى لَمَّا ذكر ما اتَّصَفَت به آلِهةُ المُشرِكينَ بما يُنافي الألوهيَّةَ؛ أخبَرَ تعالى أنَّ إلهَ العالَمِ هو واحِدٌ، وأنَّ الذين لا يُؤمِنونَ بالجَزاءِ بعد وُضوحِ بُطلانِ أن تكونَ الإلهيَّةُ لِغَيرِه، بل له وَحدَه؛ هم مُستَمِرُّونَ على شِركِهم، مُنكِرونَ وحدانيَّتَه، مُستَكبِرونَ عن الإقرارِ بها؛ لاعتقادِهم الإلهيَّةَ لأصنامِهم .

وأيضًا فهو استئنافُ نتيجةٍ لحاصلِ المُحاجَّةِ الماضيةِ، أي: قد ثبت بما تقَدَّمَ إبطالُ إلهيَّةِ غيرِ الله، فثبَت أنَّ لكم إلهًا واحدًا لا شريكَ له .

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ.

أي: مَعبودُكم- أيُّها النَّاسُ- الذي يستحِقُّ عبادتَكم دونَ سائِرِ الأشياءِ، مَعبودٌ واحِدٌ؛ فلا تُشرِكوا به شيئًا .

فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ.

أي: فالذين لا يُؤمِنونَ بيومِ القيامةِ والجنَّةِ والنَّارِ، قُلوبُهم تُنكِرُ ما أخبَرَ به مِن قُدرتِه وعَظَمتِه ونِعَمِه، وتُنكِرُ إفرادَ اللهِ بالعبادةِ، وأنَّ الألوهيَّةَ لا تَصلُحُ لِغَيرِه، وهم مُمتَنِعونَ كِبرًا عن قَبولِ الحَقِّ، والانقيادِ إليه .

كما قال تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 4-5] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45] .

وقال سُبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: 35] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] .

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23).

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ.

أي: حقًّا أنَّ اللهَ يَعلَمُ ما يُسِرُّه المُشرِكونَ في قُلوبِهم مِن إنكارِهم للحَقِّ، واعتقادِهم بالباطِلِ، ويعلَمُ حَقًّا ما يُعلِنونَه مِن الكُفرِ والمعاصي، وسيُجازيهم على أعمالِهم الظَّاهِرةِ والباطنةِ .

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان في قَولِه تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ معنى التَّهديدِ؛ لأنَّ المرادَ: فلَيُجازيَنَّهم على دِقِّ ذلك وَجِلِّه مِن غَيرِ أن يَغفِرَ منه شَيئًا، كما يأتي التَّصريحُ به في قَولِه: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً [النحل: 25] - علَّلَ هذا المعنى بقَولِه :

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.

أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُستكبِرينَ عن تَوحيدِه، وإفرادِه بالعبادةِ، فهو يُبغِضُهم وسيُعاقِبُهم .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بالغَ في تقريرِ دلائِلِ التَّوحيدِ، وأوردَ الدَّلائِلَ القاهِرةَ في إبطالِ مذاهِبِ عَبدةِ الأصنامِ؛ ذكَرَ بعد ذلك شُبُهاتِ مُنكِري النبُوَّةِ مع الجوابِ عنها .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ.

أي: وإذا قيلَ لهَؤلاء المُشرِكينَ: ما الذي أنزَلَه ربُّكم مِن الوحيِ على نبيِّه مُحمَّدٍ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ؟

قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.

أي: قال المُشرِكونَ: لم يَنزِلْ عليه شيءٌ، وهذا القُرآنُ الذي يزعُمُ محمَّدٌ أنَّ الله أنزَلَه عليه، هو ما سَطَره الأقدَمونَ في كُتُبِهم من الأكاذيبِ والأباطيلِ والقِصَص التي يتناقَلُها النَّاسُ جِيلًا بعد جِيلٍ .

كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 31] .

وقال سُبحانه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] .

لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25).

لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

أي: لِيحمِلوا ذُنوبَهم كامِلةً يومَ القيامةِ .

وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

أي: ولِيحملَ المُشرِكونَ المَتبوعونَ أيضًا بعضَ ذُنوبِ أتباعِهم الذين يُضِلُّونَهم فيقلدونهم بغيرِ عِلمٍ .

كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 12-13] .

وعن أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن دعا إلى هُدًى، كان له مِن الأجرِ مِثلُ أجُورِ مَن تَبِعَه، لا يَنقُصُ ذلك مِن أجورِهم شَيئًا، ومَن دعا إلى ضَلالةٍ، كان عليه مِن الإثمِ مِثلُ آثامِ مَن تَبِعَه، لا يَنقُصُ ذلك مِن آثامِهم شَيئًا ) ) .

أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ.

أي: ألا بِئسَ ما يحمِلُه المُشرِكونَ على ظُهورِهم مِن الذُّنوبِ الثَّقيلةِ

 

.

كما قال تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام: 31] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ المعنى: أنَّ الذين يُؤمِنونَ بالآخرةِ، ويَرغَبونَ في الفَوزِ بالثَّوابِ الدَّائمِ، ويخافونَ الوُقوعَ في العِقابِ الدَّائمِ؛ إذا سَمِعوا الدَّلائِلَ والتَّرغيبَ والتَّرهيبَ، خافوا العِقابَ فتأمَّلوا وتفَكَّروا فيما يَسمَعونَه؛ فلا جرَمَ ينتَفِعونَ بسَماعِ الدَّلائِلِ، ويَرجِعونَ مِن الباطِلِ إلى الحَقِّ، أمَّا الذين لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ ويُنكِرونَها، فإنَّهم لا يَرغَبونَ في حُصولِ الثَّوابِ، ولا يَرهَبونَ مِن الوقوعِ في العِقابِ، فيَبقَونَ مُنكِرينَ لكُلِّ كلامٍ يُخالِفُ قَولَهم، ويَستَكبِرونَ عن الرُّجوعِ إلى قَولِ غَيرِهم، فلا جرَمَ يَبقَونَ مُصِرِّينَ على ما كانوا عليه مِن الجَهلِ والضَّلالِ

.

2- كثيرًا ما يكونُ الكِبْرُ مانِعًا مِن قَبولِ الحَقِّ؛ قال تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ .

3- قَولُه تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ قال العُلماءُ: (كُلُّ ذَنبٍ يُمكِنُ التسَتُّرُ منه وإخفاؤُه إلَّا الكِبْرَ؛ فإنَّه فِسقٌ يَلزَمُه الإعلانُ، وهو أصلُ العِصيانِ كُلِّه) .

4- قَولُ الله تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عامٌّ في الكافرينَ والمُؤمِنينَ، يأخُذُ كُلُّ واحِدٍ منهم بقِسطِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ فيه سُؤالٌ: أليس أنَّ قَولَه تعالى في أوَّلِ الآيةِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ يدُلُّ على أنَّ هذه الأصنامَ لا تخلُقُ شَيئًا، وقولَه هاهنا: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا يدُلُّ على نفسِ هذا المعنى، فكان هذا مَحضَ التَّكريرِ؟

الجوابُ: أنَّ المذكورَ في أوَّلِ الآيةِ أنَّهم لا يَخلُقونَ شَيئًا، والمذكورَ هاهنا أنَّهم لا يخلُقونَ شَيئًا، وأنَّهم مَخلوقونَ لِغَيرِهم، فكان هذا زيادةً في المعنى، وكأنَّه تعالى بدأ بشَرحِ نَقصِهم في ذَواتِهم وصِفاتِهم؛ فبيَّنَ أوَّلًا أنَّها لا تخلُقُ شَيئًا، ثمَّ ثانيًا أنَّها كما لا تَخلُقُ غَيرَها فهي مخلوقةٌ لِغَيرِها

، وأيضًا فقولُه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ لبيانِ المستحقِّ للعبادةِ، وأمَّا قولُه: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا فلبيانِ عجزِ هذه الأصنامِ وضعفِها.

2- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ أنَّ الجَمادَ يُسَمَّى مَيِّتًا، وإن كان غيرَ قابِلٍ للحياةِ؛ فإنَّ اللهَ في هذه الآيةِ سَمَّى الأصنامَ أمواتًا، وهي حِجارةٌ .

3- قال الله تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ قيل: فيه دليلٌ على أنَّ الأصنام تُجعَلُ فيها الحياةُ، وتُبعَثُ يومَ القيامةِ حتَّى تتبَرَّأَ مِن عابديها، وذلك على اعتبارِ أنَّ قولَه: وَمَا يَشْعُرُونَ يعني به هذه الأصنامَ . وقيل: إنَّما عبَّر عنها كما عبَّر عن الآدميينَ؛ لأنَّهم زعموا أنَّها تعقلُ عنهم، وتعلمُ وتشفعُ لهم عندَ الله تعالى، فجرَى خطابُهم على ذلك .

4- قال الله تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ نفَى عنهم مُطلَقَ الشُّعورِ الذي هو أعمُّ مِن العِلمِ، فيَنتفي كلُّ ما هو أخَصُّ منه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وصَفَهم بأنَّهم لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ؛ مُبالغةً في نِسبةِ الكُفرِ إليهم؛ إذ عَدَمُ التَّصديقِ بالجَزاءِ في الآخِرةِ يتضَمَّنُ التَّكذيبَ باللهِ تعالى وبالبَعثِ؛ إذ مَن آمَنَ بالبَعثِ يَستحيلُ أن يُكَذِّبَ بالله عَزَّ وجَلَّ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أي: أنَّه تعالى لا يُخفِّفُ مِن عقابِهم شَيئًا، بل يُوصِلُ ذلك العِقابَ بكُلِّيَّتِه إليهم. وهذا يدُلُّ على أنَّه تعالى قد يُسقِطُ بعضَ العِقابِ عن المُؤمِنينَ؛ إذ لو كان هذا المعنى حاصِلًا في حَقِّ الكُلِّ، لم يكُنْ لتَخصيصِ هؤلاء الكُفَّارِ بهذا التَّكميلِ معنًى .

7- في قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ دليلٌ على أنَّ مَن أَفْتَى بغير علمٍ فَعُمِلَ بفتواه؛ كان إِثْمُ العاملِ عليه .

8- قال الله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فلم يُكفَّرْ عنهم شَيءٌ مِن ذُنوبِهم بما يُصيبُهم في الدُّنيا مِن نَكبةٍ وبَليَّةٍ، كما يُكَفَّرُ عن المُؤمِنينَ .

9- قَولُ اللهِ تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ لا يُعارِضُه قَولُه تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] ؛ فمعناه: وِزْرًا لا مَدخَلَ لها فيه، ولا تعَلُّقَ له بها بتسبُّبٍ ولا غَيرِه، ونظيرُ هاتينِ الآيتينِ سُؤالًا وجَوابًا، قَولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 12- 13] .

10- في قَولِه تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ تحذيرٌ للذي يُحدِثُ البِدعةَ؛ أنَّه قد يَتهاوَنُ بها لِخفَّةِ أمرِها في أوَّلِ الأمرِ، ولا يَشعرُ بما يترتَّبُ عليها مِن المفسَدةِ، وهو أن يَلحقَه إثمُ مَن عَمِلَ بها مِن بَعدِه، ولو لم يكُنْ هو عَمِلَ بها، بل لِكَونِه كان الأصلَ في إحداثِها .

11- في قَولِه تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ دَلالةٌ على أنَّ ما تَوَلَّدَ عن فِعلِ العبدِ يَحصُلُ له منه ثوابٌ وعِقابٌ وإنْ لم يَقصِدْه ؛ فاللهُ سُبحانَه يُعاقِبُ على الأسبابِ المحَرَّمة وعلى ما تولَّدَ منها، كما يُثيبُ على الأسبابِ المأمورِ بها وعلى ما يتولَّدُ منها؛ ولذا كان من دعا إلى بِدعةٍ وضلالةٍ فعليه مِن الوِزرِ مِثلُ أوزارِ مَن اتَّبَعه؛ لأنَّ اتِّباعَهم له تولَّدَ عن فِعلِه؛ ولذلك كان على ابنِ آدَمَ القاتِلِ لأخيه كِفلٌ مِن ذنبِ كُلِّ قاتلٍ إلى يومِ القيامةِ، وقد قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وقال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13] .

12- قَولُه تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ يدُلُّ على أنَّ الكافِرَ غَيرُ مَعذورٍ بعد إبلاغِ الرُّسُلِ المؤَيَّدِ بالمُعجِزاتِ، الذي لا لبْسَ معه في الحَقِّ، ولو كان يَظُنُّ أنَّ كُفرَه هُدًى؛ لأنَّه ما منَعَه من معرفةِ الحَقِّ مع ظُهورِه إلَّا شِدَّةُ التعَصُّبِ للكُفرِ؛ كما قال تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 30] ، وقَوله: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103- 104] ، وقَوله: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ

 

[الزمر: 47] .

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ

- قولُه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ فيه تَقديمُ السِّرِّ على العلَنِ؛ لتَحقيقِ المُساواةِ بين عِلمَيه المُتعلِّقَينِ بهما على أبلَغِ وَجهٍ، كأنَّ عِلمَه تَعالى بالسِّرِّ أقدَمُ منه بالعلَنِ، أو لأنَّ كلَّ شَيءٍ يُعْلَنُ فهو قبلَ ذلك مُضمَرٌ في القلبِ، فتعلُّقُ علمِه تَعالى بحالتِه الأُولى أقدَمُ مِن تعلُّقِه بحالتِه الثَّانيةِ

.

- وفي قولِه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ تَعريضٌ بالتَّهديدِ والوعيدِ بأنَّ اللهَ مُحاسِبُهم على كُفرِهم، وفيه إعلامٌ بأنَّ أصنامَهم بخلافِ ذلك، كما دَلَّ عليه تَقديمُ المُسنَدِ إليه وَاللَّهُ على الخبرِ الفعليِّ يَعْلَمُ؛ فإنَّه يفيدُ القصرَ لرَدِّ دعوى الشَّركةِ .

2- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ

- شُروعٌ في تَحقيقِ كونِ الأصنامِ بمَعزِلٍ مِن استحقاقِ العِبادةِ، وتَوضيحِه بحيث لا يَبْقَى فيه شائبةُ رَيبٍ بتعديدِ أوصافِها وأحوالِها المُنافيةِ لذلك مُنافاةً ظاهرةً، وتلك الأحوالُ وإنْ كانت غَنيَّةً عن البَيانِ لكنَّها شُرِحَت للتَّنبيهِ على كَمالِ حَماقةِ عَبَدَتِها، وأنَّهم لا يعرِفونَ ذلك إلَّا بالتَّصريحِ، أي: والآلهةُ الَّذين يعبُدُهم الكُفَّارُ .

- والمقصودُ من هذه الجُملةِ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ... التَّصريحُ بما اسْتُفِيدَ ضِمنًا ممَّا قبلَها، وهو نَفيُ الخالِقيَّةِ، ونفيُ العلمِ عن الأصنامِ؛ فالخبرُ الأوَّلُ- وهو جُملةُ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا- اسْتُفِيدَ من جُملةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، وعُطِفَ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ارتقاءً في الاستدلالِ على انتفاءِ إلهيَّتِها، والخبرُ الثَّاني- وهو جُملةُ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ- تَصريحٌ بما اسْتُفِيدَ من جُملةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ بطَريقةِ نَفيِ الشَّيءِ بنَفيِ مَلزومِه، وهي طريقةُ الكِنايةِ الَّتي هي كذِكْرِ الشَّيءِ بدَليلِه .

- وبِناءُ الفعلِ يُخْلَقُونَ للمفعولِ؛ لتَحقيقِ التَّضادِّ والمُقابَلةِ بينَ ما أُثِبتَ لهم، وبينَ ما نُفِيَ عنهم مِن وَصفَيِ المخلوقيَّةِ والخالقيَّةِ، وللإيذانِ بعدَمِ الافتقارِ إلى بَيانِ الفاعلِ؛ لظُهورِ اختصاصِ الفعلِ بفاعلِه جَلَّ جلالُه. ويجوزُ أنْ يُجعَلَ الخلقُ الثَّاني عبارةً عن النَّحتِ والتَّصويرِ؛ رِعايةً للمُشاكَلَةِ بينه وبين الأوَّلِ، ومُبالغةً في كونِها مَصنوعةً لعَبَدَتِها وأعجَزَ عنهم، وإيذانًا بكَمالِ رَكاكةِ عُقولِهم حيث أشْرَكوا بخالقِهم مَخلوقَهم.

- ولأنَّ إثباتَ المخلوقيَّةِ لهم غيرُ مُستَدْعٍ لنَفيِ الحياةِ عنهم لِمَا أنَّ بعضَ المخلوقينَ أحياءٌ، فقد صُرِّحَ بذلك، فقيل: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ .

3- قوله تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ

- قولُه: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، جُملةُ غَيْرُ أَحْيَاءٍ تأكيدٌ لمَضمونِ جُملةِ أَمْوَاتٌ؛ للدَّلالةِ على عَراقةِ وَصفِ الموتِ فيهم بأنَّه ليس فيهم شَائبةُ حياةٍ؛ لأنَّهم حِجارةٌ ، وفيه احتراسٌ ؛ إذ قد وصَفَ الأصنامَ بـ غَيْرُ أَحْيَاءٍ بعدَ قولِه: أَمْوَاتٌ؛ لأنَّ الأصنامَ أمواتٌ لا يَعْقُبُ موتَها حياةٌ؛ احترازًا عن أمواتٍ يعقُبُ موتَها حياةٌ؛ كالنُّطَفِ، والبَيضِ، والأجسادِ الميتةِ، وذلك أبلغُ في موتِها، كأنَّه قال: أمواتٌ في الحالِ، غيرُ أحياءٍ في المآلِ .

- وجُملةُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إدماجٌ ؛ لإثباتِ البعثِ عَقِبَ الكلامِ على إثباتِ الوَحدانيَّةِ للهِ تَعالى؛ لأنَّ هذينِ هما أصلُ إبطالِ عَقيدةِ المُشركينَ، وتَمهيدٌ لوَجهِ التَّلازُمِ بين إنكارِ البعثِ وبين إنكارِ التَّوحيدِ في قولِه تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ .

- وقولُه أيضًا: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فيه تَهكُّمٌ بالمُشركينَ، وأنَّ آلهتَهم لا يَعْلمون وقتَ بَعثِهم؛ فكيف يكونُ لهم وقتُ جزاءٍ منهم على عِبادتِهم ؟! وهو أيضًا على طَريقةِ التَّهكُّمِ بهم؛ لأنَّ شُعورَ الجمادِ بالأُمورِ الظَّاهرةِ بَديهيُّ الاستحالةِ عند كلِّ أحدٍ؛ فكيف بما لا يعلَمُه إلَّا العليمُ الخبيرُ ؟! وهذا على أحدِ أوجهِ التأويلِ.

4- قوله تعالى: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ

- قولُه: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ فَذلَكةٌ لِمَا سبَق، وإعادةٌ لأمْرِ الأُلوهيَّةِ مُجمَلًا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليها مُفصَّلًا؛ والمعنى: قد ثبَتَ بالدَّلائلِ الدالَّةِ على أنَّ الإلهيَّةَ مُختصَّةٌ باللهِ تعالى، وأنَّه واحدٌ متفرِّدٌ بالألوهيَّة، وهو المعبودُ الحقُّ، وإذا كان كذلك؛ فمِن حَقِّه أنْ يَختَصَّ بالعبادةِ، وأنْ لا تُنكَرَ إلهيتُه، وهؤلاء عكَسوا واستمرُّوا على شِركِهم، وقلوبُهم منكرةٌ للوحدانيَّة .

- وفي قولِه: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث عَرِيَت الجُملةُ عن المُؤكِّدِ؛ لكون ما مَضى قبلَ هذا الموضعِ كافيًا في إبطالِ إنكارِ المُشركينَ الوَحدانيَّةَ؛ تَنزيلًا لحالِ المُشركينَ بعدما سَمِعوا من الأدلَّةِ مَنزلةَ مَن لا يُظَنُّ به أنَّه يتردَّدُ في ذلك، بخلافِ قولِه تعالى في سُورةِ الصَّافاتِ: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات: 4] ؛ لأنَّ ذلك ابتداءُ كلامٍ لم يتقدَّمْه دليلٌ .

- قولُه: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ بيانٌ لِمَا اقْتَضى إصرارَهم بعدَ وُضوحِ الحقِّ، وذلك عدَمُ إيمانِهم بالآخرةِ- فإنَّ المُؤمنَ بها يكونُ طالبًا للدَّلائلِ، مُتأمِّلًا فيما يسمَعُ، فينتفِعُ به، والكافرُ بها يكونُ حالُه بالعكسِ- وإنكارُ قُلوبِهم ما لا يُعْرَفُ إلَّا بالبُرهانِ اتِّباعًا للأسلافِ، ورُكونًا إلى المألوفِ؛ فإنَّه يُنافي النَّظرَ- والاستكبارُ عن اتِّباعِ الرَّسولِ وتَصديقِه، والالتفاتِ إلى قولِه، والأوَّلُ- يعني: الذين لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ- هو العُمدةُ في البابِ؛ ولذلك رُتِّبَ عليه ثُبوتُ الآخرينِ- يعني: إنكارَ قُلوبِهم واستكبارَهم .

- والتَّعبيرُ عن المُشركينَ بالموصولِ وصِلَتِه فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ؛ لأنَّهم قد عُرِفُوا بمَضمونِ الصِّلةِ، واشْتُهِرُوا بها اشتهارَ لَمْزٍ وتَنقيصٍ عندَ المُؤمنينَ، وللإيماءِ إلى أنَّ لهذه الصِّلةِ ارتباطًا باستمرارِهم على العِنادِ؛ لأنَّ انتفاءَ إيمانِهم بالبعثِ والحسابِ قد جرَّأَهم على نَبذِ دَعوةِ الإسلامِ ظِهْريًّا، فلم يتوقَّعوا مُؤاخذةً على نَبذِها- على تَقديرِ أنَّها حقٌّ- فيَنْظروا في دَلائلِ أحقِّيَّتِها، مع أنَّهم يُؤمِنون باللهِ، ولكنَّهم لا يُؤمِنون بأنَّه أعَدَّ للنَّاسِ يومَ جزاءٍ على أعمالِهم .

- قولُه: قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، أي: جاحدةٌ بما هو واقعٌ، اسْتُعْمِلَ الإنكارُ في جَحدِ الأمرِ الواقعِ؛ لأنَّه ضِدُّ الإقرارِ، فحُذِفَ مُتعلِّقُ مُنْكِرَةٌ؛ لدَلالةِ المقامِ عليه، أي: مُنكِرةٌ للوَحدانيَّةِ .

- وعُبِّرَ بالجُملةِ الاسميَّةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الإنكارَ ثابتٌ لهم دائمٌ لاستمرارِهم على الإنكارِ بعد ما تبيَّنَ من الأدلَّةِ، وذلك يفيدُ أنَّ الإنكارَ صار لهم سَجِيَّةً، وتمكَّنَ مِن نُفوسِهم؛ لأنَّهم ضَرُوا به- أي: اعتادُوه واجتَرؤوا عليه- من حيث إنَّهم لا يُؤمِنون بالآخرةِ، فاعتادوا عدَمَ التَّبصُّرِ في العواقبِ. وكذلك جُملةُ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ بُنِيَت على الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ الاستكبارِ منهم .

- وفي قولِه: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث بُنِيَت على الاسميَّةِ؛ لما سبَق، وقد خُولِفَ ذلك في آيةِ سُورةِ الفُرقانِ، حيث قال تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الفرقان: 21] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ تلك الآيةَ لم تتقدَّمْها دَلائلُ على الوَحدانيَّةِ مِثلُ الدَّلائلِ المذكورةِ في هذه الآيةِ في سُورةِ النَّحلِ .

5- قوله تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ

- جُملةُ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ خبرٌ مُستعمَلٌ كنايةً عن الوعيدِ بالمُؤاخذةِ بما يُخْفونَ وما يُظهِرون من الإنكارِ والاستكبارِ وغيرِهما، مُؤاخذةَ عِقابٍ وانتقامٍ؛ فلذلك عقَّبَ بجُملةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ الواقعةِ موقعَ التَّعليلِ والتَّذييلِ لها؛ لأنَّ الَّذي لا يُحِبُّ فِعلًا وهو قادرٌ يُجازي فاعلَه بالسُّوءِ .

- قولُه: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ تَعليلٌ لِمَا تضمَّنَه الكلامُ من الوعيدِ، أي: لا يُحِبُّ المُستكبِرين عن التَّوحيدِ، أو عن الآياتِ الدَّالَّةِ عليه، أو لا يحِبُّ جِنسَ المُستكبرينَ؛ فكيف بمَن استكبَرَ عمَّا ذُكِرَ ؟!

- والتَّعريفُ في الْمُسْتَكْبِرِينَ للاستغراقِ؛ لأنَّ شأنَ التَّذييلِ العمومُ، ويشمَلُ هؤلاء المُتحدَّثَ عنهم؛ فيكونُ إثباتُ العِقابِ لهم كإثباتِ الشَّيءِ بدَليلِه .

6- قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ

- قولُه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ذِكْرُ فعْلِ القولِ قِيلَ يَقْتضي صُدورَه عن قائلٍ يسأَلُهم عن أمرٍ حدَثَ بينهم، وليس على سبيلِ الفرضِ، وأنَّهم يُجيبونَ بما ذُكِرَ؛ مَكرًا بالدِّينِ، وتظاهُرًا بمظهَرِ النَّاصحينَ للمُسترشِدين المُستنصِحين، بقرينةِ قولِه تعالى: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وإِذَا ظرْفٌ مُضمَّنٌ معنى الشَّرطِ، وهذا الشَّرطُ يُؤذِنَ بتكرُّرِ هذينِ القولَينِ .

- وفي قولِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال بعدَه: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا؛ فرفَعَ الأوَّلَ أَسَاطِيرُ؛ لأنَّهم أنْكَروا إنزالَ القُرآنِ، فعَدَلوا عن الجوابِ، فقالوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. ونصَبَ الثَّانيَ خَيْرًا من كلامِ المُتَّقينَ، وهم مُقِرُّون بالوحيِ والإنزالِ، فقالوا: خَيْرًا، أي: أنزَلَ خيرًا؛ فيكونُ الجوابُ مُطابِقًا .

7- قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ

- عُبِّرَ بصِيغَةِ الاستقبالِ يُضِلُّونَهُمْ؛ للدَّلالةِ على استمرارِ الإضلالِ، أو باعتبارِ حالِ قولِهم لا حالِ الحمْلِ

=====================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (26-29)

ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

 

تُشَاقُّونَ: أي: تُخالِفونَ، وتُعادونَ، وتُخاصمونَ، والمشاقةُ عبارةٌ عن كونِ كلِّ واحدٍ مِن الخَصمينِ في شقٍّ غيرِ شقِّ صاحبِه، وأصلُ (شقق): يدُلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ

.

السَّلَمَ: أي: الاستِسلامَ والانقيادَ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: قد مكرَ الكُفَّارُ مِن قَبْلِ مُشرِكي قريشٍ مكرًا شديدًا برُسُلِهم، فأتى اللهُ بُنيانَهم مِن أساسِه وقاعِدتِه، فسقطَ عليهم السَّقفُ مِن فَوقِهم، فأهلكَهم اللهُ من حيثُ لا يحتَسِبونَ ولا يتوقَّعونَ. ثمَّ يومَ القيامةِ يَفضَحُهم اللهُ ويُذِلُّهم، ويَقولُ: أين ما كنتُم تعبُدون مِن دُوني، وتُعادُونَ اللهَ وحِزبَه بسَبَبِهم؛ فلْيَدفَعوا عنكم العذابَ.

ثمَّ حكى سُبحانَه ما يَقولُه أولو العِلمِ في هذا الموقِفِ الهائلِ الشَّديدِ، حيث قالُوا: إنَّ الذُّلَّ في هذا اليَومِ والعذابَ على الكافرينَ، الذين تَقبِضُ الملائِكةُ أرواحَهم في حالِ ظُلمِهم لأنفُسِهم بالكُفرِ والمعاصي، فاستسلَموا لأمرِ اللهِ حين عايَنوا الموتَ، وقالوا: ما كُنَّا نَكفُرُ باللهِ، ولا نَعمَلُ شَيئًا مِن المعاصي، فيُقالُ لهم: كَذَبتُم، قد كُنتم تَعمَلون السُّوءَ، إنَّ اللهَ عليمٌ بأعمالِكم كُلِّها، وسيُجازيكم عليها، فادخُلوا أبوابَ جَهنَّم ماكثينَ فيها أبدًا، فلَبِئسَ منزلُ الذينَ تكبَّروا عن الإيمانِ باللهِ وتوحيده: نارُ جهنَّمَ!

تفسير الآيات:

 

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى عاقِبةَ إضلالِ المُشرِكينَ، وصَدِّهم السَّائلينَ عن القُرآنِ والإسلامِ في الآخِرةِ؛ أتبَعَه بالتَّهديدِ بأنْ يقَعَ لهم ما وقَعَ فيه أمثالُهم في الدُّنيا مِن الخِزيِ والعذابِ، مع التَّأييسِ مِن أن يَبلُغوا بصُنعِهم ذلك مبلَغَ مُرادِهم، وأنَّهم خائِبونَ في صُنعِهم، كما خابَ مِن قَبلِهم الذين مَكَروا برُسُلِهم

.

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ.

أي: قد مكرَ الكُفَّارُ- الذين كانوا مِن قَبلِ مُشرِكي قُرَيشٍ- بالرُّسُلِ وأتباعِهم، وصَدُّوا النَّاسَ عن دِينِ اللهِ، فأتاهم عذابُ اللهِ الذي اجتَثَّ بُنيانَهم مِن أصلِه وأساسِه .

كما قال تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا [الرعد: 42] .

وقال سُبحانه: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ [إبراهيم: 46] .

فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ.

أي: فسقَطَ السَّقفُ على أولئك الكُفَّارِ مِن فَوقِ رُؤوسِهم، فأهلَكَهم اللهُ .

وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.

أي: وأتاهم عذابُ اللهِ بَغتةً مِن حيثُ لا يَحتَسِبونَ ولا يتوقَّعونَ؛ إذ ظَنُّوا أنَّهم في أمانٍ منه .

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا بيَّنَ سُبحانَه وتعالى حالَ المكَرَةِ المتمَرِّدينَ عليه في الدُّنيا، أخَذ يذكُرُ حالَهم في الآخرةِ؛ تقريرًا للآخرةِ، وبيانًا لأنَّ عَذابَهم غيرُ مَقصورٍ على الدُّنيويِّ .

وأيضًا فإنَّها عطفٌ على لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النحل: 25] ؛ لأنَّ ذلك وعيدٌ لهم، وهذا تكملةٌ له .

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ.

أي: ثُمَّ يومَ القيامةِ يُذِلُّ اللهُ الكافرينَ ويُهينُهم بالعذابِ، ويُظهِرُ فَضائِحَهم، فما كانت تُخفِيه ضمائِرُهم يَجعَلُه علانِيَةً .

وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ.

أي: ويَقولُ اللهُ يومَ القيامةِ للمُشرِكينَ: أين الذين كُنتُم تَعبُدونَهم في الدُّنيا، وتَزعُمونَ أنَّهم شُركائي، وتتَّخِذونَهم أولياءَ مِن دوني، وتُعادُونَ اللهَ وحِزبَه بسَبَبِهم؟! فلْيَدفَعوا عنكم هذا العَذابَ .

قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ.

أي: قال الذينَ آتاهم اللهُ العِلمَ: إنَّ الذِّلَّةَ والهَوانَ يومَ القيامةِ والعذابَ كائِنٌ على الكافِرينَ .

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

بعدَ أن ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ حُلولِ العَذابِ بمَن حَلَّ بهم الاستِئصالُ، وما يحُلُّ بهم يومَ القِيامةِ؛ ذكَرَ حالةَ وَفاتِهم التي هي بين حالَيِ الدُّنيا والآخِرةِ، وهي حالٌ تَعرِضُ لجَميعِهم، سَواءٌ منهم مَن أدرَكَه الاستِئصالُ ومَن هلك قبلَ ذلك .

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.

أي: إنَّ الخِزيَ والسُّوءَ على الكافِرينَ الذين تَقبِضُ الملائِكةُ أرواحَهم، والحالُ أنَّهم ظالِمونَ لأنفُسِهم بالكُفرِ والشِّركِ والمعاصي، فأورَدوها بذلك موارِدَ الهَلاكِ .

فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ.

أي: فاستسلَمَ أولئك الظَّالِمونَ عندَ المَوتِ لله، وانقادُوا لطاعةِ رَبِّهم حين عايَنوا المَوتَ، وقالوا للمَلائِكةِ الذين يَقبِضونَ أرواحَهم، مُنكِرينَ كُفرَهم ومَعاصِيَهم: ما كُنَّا نَكفُرُ باللهِ، ولا نُشرِكُ به ولا نَعصِيه !

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 97] .

بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

أي: فيُقالُ لهم: ليس الأمرُ كما تَزعُمونَ، بل كُنتُم تَعمَلونَ السُّوءَ، إنَّ اللهَ عَليمٌ بالذي كُنتُم تَعمَلونَه مِن الكُفرِ والشِّركِ والمعاصي، فلا ينفَعُكم إنكارُكم، وسيُجازيكم على أعمالِكم .

فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها تَفريعٌ على إبطالِ نَفيِ المُشرِكينَ عمَلَ السُّوءِ؛ لأنَّ إثباتَ كَونِهم كانوا يَعمَلونَ السُّوءَ يقتضي استِحقاقَهم العذابَ، وذلك عندما كشفَ لهم عن مَقَرِّهم الأخيرِ .

فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا.

أي: يُقالُ لهم: ادخُلوا أبوابَ جَهنَّمَ، فكُلٌّ منكم يُعذَّبُ في طبقةٍ مِن طَبقاتِها بحسَبِ عمَلِه، ماكثينَ في جهنَّمَ أبدًا .

كما قال تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] .

فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.

أي: فلَبِئسَ مَنزِلُ المتكبِّرينَ عن الإيمانِ باللهِ وتَوحيدِه، نارُ جهنَّمَ

 

.

كما قال تعالى: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران: 151] .

الفوائد التربوية:

 

قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ فيه فَضيلةُ أهلِ العِلمِ، وأنَّهم النَّاطِقونَ بالحَقِّ في هذه الدُّنيا، ويومَ يَقومُ الأشهادُ، وأنَّ لِقَولِهم اعتِبارًا عندَ اللهِ، وعند خَلقِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- الإتيانُ والمَجيءُ مِن اللهِ تعالى نوعانِ: مُطلَقٌ ومُقَيَّدٌ.

النوعُ الأولُ: المَجيءُ والإتيانُ المقيَّدُ، كأن يُقيَّدَ المجيءُ بمجيءِ رَحمتِه أو عذابِه وغيرِ ذلك، ومِن المقيَّدِ قولُه تعالى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف: 52] ، وقولُه تعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ [المؤمنون: 71] .

النوعُ الثاني: المجيءُ والإتيانُ المُطلَقُ، كقَولِه تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الفجر: 22] ، وقَولِه تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] ، وهذا لا يكونُ إلَّا مَجيئَه سُبحانَه، هذا إذا كان مُطلَقًا، فكيف إذا قُيِّدَ بما يجعَلُه صريحًا في مجيئِه نَفسِه، كقَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام: 158] ، فعَطَفَ مَجيئَه على مجيءِ الملائِكةِ، ثمَّ عطَفَ مَجيءَ آياتِه على مَجيئِه.

ومِنَ المجيءِ المُقَيَّدِ قَولُه تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فلمَّا قَيَّده بالمفعولِ- وهو البُنيانُ- وبالمجرورِ- وهو القَواعِدُ- دلَّ ذلك على مجيءِ ما بيَّنَه؛ إذ مِن المعلومِ أنَّ اللهَ- سُبحانَه وتعالى- إذا جاء بنَفسِه، لا يَجيءُ مِن أساسِ الحِيطانِ وأسفَلِها، وهذا يُشبِهُ قَولَه تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] فهذا مجيءٌ مُقَيَّدٌ لِقَومٍ مَخصوصينَ، قد أوقَعَ بهم بأسَه، وعَلِمَ السَّامِعونَ أنَّ جُنودَه مِن المَلائِكةِ والمُسلِمينَ أَتَوهم، فكان في هذا السِّياقِ ما يدُلُّ على المرادِ، على أنَّه لا يمتَنِعُ في الآيتَينِ أن يكونَ الإتيانُ على حَقيقتِه، ويكونَ ذلك دُنُوًّا ممَّن يُريدُ إهلاكَهم بغَضَبِه وانتِقامِه، كما يَدنو عَشِيَّةَ عَرَفةَ مِن الحُجَّاجِ برَحمتِه

.

2- قال الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عدلَ عن أن يقولَ: (أعداؤُهم) أو (المُؤمِنونَ) ونحوُه؛ إجلالًا لهم بوَصفِهم بالعِلمِ الذي هو أشرَفُ الصِّفاتِ؛ لِكَونِه مَنشأَ كُلِّ فَضيلةٍ، وتَعريضًا بأنَّ الحامِلَ للكُفَّارِ على الاستِكبارِ الجَهلُ الذي هو سبَبُ كُلِّ رَذيلةٍ .

3- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إن قيلَ: هذه الآياتُ تدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ يكتُمونَ يومَ القيامةِ ما كانوا عليه مِن الكُفرِ والمعاصي، كقَولِه تعالى عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وقَولِه تعالى عنهم: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، ونحوِ ذلك، مع أنَّ اللهَ صَرَّحَ بأنَّهم لا يَكتُمونَ حَديثًا في قَولِه تعالى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] .

فالجوابُ: هو أنَّهم يقولونَ بألسِنَتِهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فيَختِمُ اللهُ على أفواهِهم، وتتكَلَّمُ أيديهم وأرجُلُهم بما كانوا يَكسِبونَ، فالكَتمُ باعتِبارِ النُّطقِ بالجُحودِ وبالألسِنةِ، وعدمُ الكَتمِ باعتبارِ شَهادةِ أعضائِهم عليهم، وهذا الجمعُ يُشيرُ إليه قولُه تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65] . وأجاب بعضُ العلماءِ بتعدُّدِ الأماكنِ، فيكتمونَ في وقتٍ، ولا يكتمونَ في وقتٍ آخرَ، والعلم عند الله تعالى .

4- قَولُ اللهِ تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يدُلُّ على تَفاوُتِ مَنازِلِهم في العِقابِ، فيكونُ عِقابُ بَعضِهم أعظَمَ مِن عِقابِ بَعضٍ .

5- قال الله تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ إنَّما صرَّحَ تعالى بذِكرِ الخُلودِ؛ ليَكونَ الغَمُّ والحُزنُ أعظَمَ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَصفُ التكَبُّرِ دَليلٌ على استِحقاقِ صاحِبِه النَّارَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ

- قولُه: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فيه تَشبيهٌ، حيث شُبِّهَت حالُ أولئك الماكِرينَ في تَسويتِهم المكايدَ؛ للإيقاعِ بالرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وفي إبطالِه تعالى تلك الحيلَ، وجَعْلِه إيَّاها أسبابًا لهلاكِهم، بحالِ قومٍ بَنَوا بُنيانًا وعَمَدوه بالأساطينِ، فأُتِيَ ذلك مِن قِبَلِ أساطينِه بأنْ ضُعْضِعَت، فسقَطَ عليهم السَّقفُ فهَلَكوا؛ ووَجْهُ الشَّبهِ: أنَّ ما عَدُّوه سبَبَ بقائِهم، عاد سبَبَ استئصالِهم وفَنائِهم، كقولِهم: مَن حفَرَ لأخيه جُبًّا، وقَعَ فيه مُنكبًّا

، وهذا الوجهُ على اعتبارِ أنَّ المذكورَ مِن بابِ المثلِ.

- وقولُه: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فيه احتراسٌ، حيث أتَى بذِكْرِ مِنْ فَوْقِهِمْ مع أنَّ السَّقفَ لا يكونُ إلَّا مِن فوق؛ للاحتراسِ من احتمالِ أنَّ السَّقفَ قد يكونُ أرضًا بالنِّسبةِ لغيرِهم؛ فإنَّ كثيرًا من السُّقوفِ يكونُ أرضًا لقومٍ وسَقفًا لقومٍ آخرينَ؛ فرفَعَ اللهُ تعالى هذا الاحتمالَ بجُملتَينِ، وهما قولُه: عَلَيْهِمُ، وقولُه: خَرَّ؛ لأنَّها لا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فيما يهبِطُ أو يسقُطُ مِن العُلوِّ إلى السُّفلِ . وقولُه: مِنْ فَوْقِهِمْ تأكيدٌ لجُملةِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ . وقيل: إنَّ السَّقفَ رُبَّما يخِرُّ ولا يكونُ تحتَه أحَدٌ، فلمَّا قال: مِنْ فَوْقِهِمْ، عُلِم أنَّهم كانوا تَحتَه، فخرَّ عليهم فأُهلِكوا جميعًا .

2- قوله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ

- قولُه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ فيه الجَمعُ بينَ الإهانةِ بالفعلِ، والإهانةِ بالقولِ بالتَّقريعِ والتَّوبيخِ، وأضاف تَعالى الشُّركاءَ إليه، والإضافةُ تكونُ بأدْنَى مُلابَسةٍ، والمعنى: شُركائي في زَعمِكم؛ فالإضافةُ إلى نفْسِه حكايةٌ لإضافتِهم؛ ليُوبِّخَهم بها على طريقِ الاستهزاءِ بهم ، وهو أقطَعُ في تَوبيخِهم، وأدَلُّ على تناهي الغَضَبِ .

-  وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ الاستفهامُ عن المكانِ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ؛ لأنَّ المقامَ هنا مقامُ تَهكُّمٍ؛ ليظهَرَ لهم كالطَّماعيَةِ للبحثِ عن آلهتِهم، وهم عَلِموا أنْ لا وُجودَ لهم، ولا مكانَ لحُلولِهم .

- قولُه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ، ثُمَّ للإيماءِ إلى ما بينَ الجَزاءَينِ مِن التَّفاوُتِ، مع ما يدُلُّ عليه من التَّراخي الزَّمانيِّ. وتَغييرُ السَّبكِ بتقديمِ الظَّرفِ يَوْمَ ليس لقَصرِ الخِزْيِ على يومِ القيامةِ- كما هو المُتبادِرُ مِن تَقديمِ الظَّرفِ على الفعلِ- بل لأنَّ الإخبارَ بجزائِهم في الدُّنيا مُؤْذِنٌ بأنَّ لهم جزاءً أُخروِيًّا، فتبْقَى النَّفسُ مُترقِّبةً إلى وُرودِه، سائلةً عنه بأنَّه ماذا؟ مع تَيقُّنِها بأنَّه في الآخرةِ؛ فسيقَ الكلامُ على وَجْهٍ يُؤْذِنُ بأنَّ المقصودَ بالذِّكرِ إخزاؤُهم، لا كونُه يومَ القيامةِ .

- قولُه: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ هذا القولُ قاله الَّذين أُوتوا العلمَ؛ توبيخًا لهم، وإظهارًا للشَّماتةِ بهم، وتَقريرًا لِمَا كانوا يَعِظونهم، وتحقيقًا لِمَا أَوعَدوهم به. وإيثارُ صِيغَةِ الماضي قَالَ؛ للدَّلالةِ على تَحقُّقِه وتَحتُّمِ وُقوعِه، حسْبَما هو المُعتادُ في إخبارِه سُبحانَه .

- وإيرادُ الظَّرفِ الْيَوْمَ؛ للإشعارِ بأنَّهم كانوا قبلَ ذلك في عِزَّةٍ وشِقاقٍ .

- وَجِيءَ بجُملةِ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ غيرَ معطوفةٍ؛ لأنَّها واقعةٌ مَوقِعَ الجوابِ لقولِه: أَيْنَ شُرَكَائِيَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ الَّذين أُوتوا العلمَ ابْتَدروا الجوابَ لَمَّا وجَمَ المُشركونَ، فلم يُحِيروا جوابًا، فأجاب الَّذين أُوتوا العلمَ جوابًا جامعًا؛ لنَفيِ أنْ يكونَ الشُّركاءُ المَزْعومون مُغْنِينَ عن الَّذين أشركوا شيئًا، وأنَّ الخِزيَ والسُّوءَ أحاطَا بالكافِرين .

- وقولُه: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ يدُلُّ على حَصرِ الخزيِ والضَّرِّ يومَ القيامةِ في الكونِ على الكافرينَ، وهو قَصرٌ ادِّعائيٌّ لبُلوغِ المُعرَّفِ بلامِ الجنسِ الْخِزْيَ حَدَّ النِّهايةِ في جنسِه، حتَّى كأنَّ غيرَه من جنسِه ليس من ذلك الجنسِ. وتأكيدُ الجُملةِ بحَرفِ التَّوكيدِ إِنَّ، وبصِيغَةِ القصرِ، والإتيانُ بحَرفِ الاستعلاءِ عَلَى الدَّالِّ على تمكُّنِ الخزيِ والسُّوءِ منهم: يفيدُ معنى التَّعجُّبِ مِن هَولِ ما أُعِدَّ لهم .

3- قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

- قولُه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ... فيه التَّعبيرُ بصِيغَةِ المُضارِعِ تَتَوَفَّاهُمُ؛ لاستحضارِ صُورةِ تَوفِّيهم إيَّاهم لِمَا فيها مِن الهَولِ. والعُدولُ إلى صِيغَةِ الماضي فَأَلْقَوُا؛ للدَّلالةِ على تحقُّقِ الوُقوعِ .

- قولُه: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ هو عطفٌ على قولِه: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ... وما بينهما- يعني قولَه تعالى: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ- جُملةٌ اعتراضيَّةٌ جِيءَ بها؛ تحقيقًا لِمَا حاق بهم من الخِزيِ على رُؤوسِ الأشهادِ .

4- قوله تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ

- جُملةُ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ تَذييلٌ، ولم يُعبِّرْ عن جهنَّمَ بالدَّارِ كما عبَّرَ عن الجنَّةِ فيما يأتي بقولِه تعالى: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ؛ تَحقيرًا لهم، وأنَّهم ليسوا في جَهنَّمَ بمنزلةِ أهلِ الدَّارِ، بل هم مُتراصُّونَ في النَّارِ وهم في مَثْوًى، أي: محَلِّ ثَواءٍ . وذِكْرُهم بعُنوانِ التَّكبُّرِ للإشعارِ بعِلِّيتِه لثَوائِهم فيها .

- قولُه: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال في سُورةِ الزُّمرِ: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72] ، وقال في سُورةِ غافرٍ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غافر: 76] ؛ فخُصَّتِ الآيةُ في سُورةِ النَّحلِ وحدَها بدُخولِ اللَّامِ على (بِئْسَ) فيها، وخَلَتِ الآيتانِ مِن السُّورتينِ منها؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ من هذه السُّورةِ في ذِكْرِ قومٍ قد ضَلُّوا في أنفُسِهم وأضَلُّوا غيرَهم، وهم الَّذين أخبَرَ اللهُ تعالى عن أتباعِهم أنَّهم سأَلُوهم عن القُرآنِ، فقالوا: ليس من عند اللهِ، وإنَّما هو أساطيرُ الأوَّلينَ، وهؤلاء أكثرُ النَّاسِ وأشَدُّهم آثامًا، وأشدُّهم عِقابًا، ومَن هذه صِفَتُه احْتِيجَ عند تَغليظِ العِقابِ له إلى المُبالغةِ في تأكيدِ لفظِه، فاختِيرَت اللَّامُ هنا لذلك، ولأنَّ بعدها في ذِكْرِ أهلِ الجنَّةِ قولَه: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] ؛ فاللَّامُ في وَلَنِعْمَ بإزاءِ اللَّامِ في لَبِئْسَ، وليس كذلك الآيتانُ في سُورتيِ الزُّمَرِ وغافرٍ؛ لأنَّهما في ذِكْرِ جُملةِ الكُفَّارِ؛ فلمَّا كان المَذكورونَ في سُورةِ النَّحلِ ممَّن لزِمَهم وِزْرانِ؛ عن ذُنوبِهم الَّتي أَتَوها، وعن ذُنوبِ غيرِهم الَّتي حملوا عليها، ولم يذكُرْ مَن سِواهم في الآيتينِ الأُخريينِ بحمْلِ أثقالِهم: حسُنَ التَّوكيدُ هناك فضلَ حُسنٍ؛ فلذلك خُصَّ باللَّامِ . وقيل غير ذلك

===============

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (30-32)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: وقيلَ للمُتَّقين: ما الذي أنزلَ اللهُ على النبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالوا: أنزلَ اللهُ عليه القُرآنَ، وهو الخيرُ والهُدى. للَّذينَ آمنُوا باللهِ ورَسولِه وأحسَنوا في هذه الدُّنيا ثوابٌ حَسَنٌ؛ مِن النَّصرِ وسَعةِ الرِّزقِ، وغيرِ ذلك مِن خيرِ الدُّنيا، ولَدارُ الآخرةِ لهم خَيرٌ وأعظَمُ ممَّا أُوتوه في الدُّنيا، ولَنِعمَ دارُ المتَّقين في الآخرةِ جنَّاتُ إقامةٍ لهم، يستَقِرُّون فيها تجري مِن تحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ، لهم فيها كُلُّ ما تَشتَهيه أنفُسُهم. مِثلَ هذا الجزاءِ الطَّيِّبِ يَجزي اللهُ المتَّقين الذين تَقبِضُ الملائِكةُ أرواحَهم طاهرينَ مِن الكُفرِ والمعاصي، تقولُ الملائِكةُ لهم: سَلامٌ عليكم، ادخُلوا الجنَّةَ بما كُنتُم تَعمَلونَ مِن الإيمانِ باللهِ والأعمالِ الصَّالحةِ.

تفسير الآيات:

 

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قِيلَ المُكَذِّبينَ بما أنزَلَ اللهُ؛ ذكَرَ ما قالَه المتَّقونَ، وأنَّهم اعتَرَفوا وأقَرُّوا بأنَّ ما أنزَلَه اللهُ نِعمةٌ عَظيمةٌ، وخَيرٌ عَظيمٌ امتَنَّ اللهُ به على العِبادِ، فقَبِلوا تلك النِّعمةَ، وتلَقَّوها بالقَبولِ والانقيادِ، وشَكَروا اللهَ عليها، فعَلِموها وعَمِلوا لها

، فلمَّا افْتُتِحَت صِفَةُ سيِّئاتِ الكافرينَ وعواقِبِها بأنَّهم إذا قيل لهم: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، جاءت هنا مُقابَلةُ حالِهم بحالِ حَسناتِ المُؤمنينَ، وحُسْنِ عواقبِها؛ فافْتُتِحَ ذلك بمُقابلِ ما افْتُتِحَت به قِصَّةُ الكافرينَ، فجاء التَّنظيرُ بين القِصَّتينِ في أبدعِ نَظمٍ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ الكُفَّارِ في الدُّنيا والآخرةِ، ذكَرَ حالَ المؤمِنينَ في الدارَينِ، فقال تعالى :

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا.

أي: وقيلَ للمُتَّقينَ: ماذا أنزَلَ ربُّكم مِن الوَحيِ على نَبيِّه مُحمَّدٍ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ قالوا: أنزَلَ اللهُ خَيرًا عَظيمًا في الدُّنيا والآخِرةِ- وهو القُرآنُ- رَحمةً وهُدًى وبَرَكةً لِمَن آمنَ به واتَّبَعَه .

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ.

أي: للمُؤمِنينَ الذين أحسَنوا في عِبادةِ اللهِ، وأحسَنوا إلى عِبادِ اللهِ، ثوابٌ حَسَنٌ عاجِلٌ في الدُّنيا، بالحياةِ الطَّيِّبةِ والرِّزقِ الحسَنِ، وحُصولِ السُّرورِ، وتحَقُّقِ السَّعادةِ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41] .

وقال سُبحانه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] .

وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ [الزمر: 10] .

وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كانت دارُ الدُّنيا سريعةَ الزَّوالِ، أخبَرَ عن حالِهم في الآخرةِ، فقال:

وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ.

أي: ولَجزاءُ المُؤمِنينَ في الدَّارِ الآخرةِ في الجنَّةِ خَيرٌ لهم مِن الجزاءِ المُعَجَّلِ لهم في دارِ الدُّنيا .

كما قال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [آل عمران: 198] .

وقال سُبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص: 80] .

وقال عزَّ وجلَّ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16-17] .

وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ.

أي: ولَنِعْمَ دارُ المُتَّقينَ- الذين يَمتَثِلونَ أوامِرَ اللهِ، ويَجتَنِبونَ نواهيَه- الجنةُ في الآخرةِ .

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان المَدحُ في قَولِه: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ مُشَوِّقًا لتفصيلِ ذلك، قيلَ هنا :

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

أي: بَساتينُ إقامةٍ يَدخُلُها المُتَّقونَ، ولا يَرحَلونَ عنها، تَجري مِن تَحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ .

لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ.

أي: للمتَّقينَ في جناتِ عدنٍ كُلُّ ما تَشتَهيه أنفُسُهم وما يُريدونَه .

كما قال تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] .

كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ.

أي: مِثلَ هذا الجَزاءِ الحسَنِ يَجزي اللهُ كُلَّ مَن آمنَ به واتَّقاه، وأحسَنَ عَمَلَه .

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى عاد إلى وَصفِ المتَّقينَ، فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ في مُقابلةِ قَولِه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النحل: 28] .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكر الْمُتَّقِينَ في الآيةِ السَّابقةِ، حَثَّ هنا على مُلازَمةِ التَّقوى بالتَّنبيهِ على أنَّ العِبرةَ بحالِ المَوتِ، فقال تعالى :

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ.

أي: يَجزي اللهُ بذلك المتَّقينَ الذين تَقبِضُ ملائِكةُ المَوتِ أرواحَهم، والحالُ أنَّهم طَيِّبونَ بطَهارتِهم من الشِّركِ والمعاصي، ومِن كُلِّ ما يُخِلُّ بإيمانِهم .

يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ.

أي: تقولُ ملائِكةُ الموتِ للمُتَّقينَ عند قَبضِ أرواحِهم: سَلامٌ عليكم، تحيَّةٌ كامِلةٌ لكم، وسَلامةٌ لكم مِن كُلِّ مَكروهٍ وآفةٍ .

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

أي: ويقولون أيضًا: ادخُلوا الجنَّةَ بسبَبِ ما كُنتُم تَعمَلونَه في حياتِكم الدُّنيا مِن الأعمالِ الصَّالحةِ؛ طلبًا لِمَرضاةِ اللهِ تعالى

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت: 30-31] .

وقال سُبحانَه: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 73- 74] .

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ الله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الإيمانِ باللهِ والانقيادِ لأمرِه؛ فإنَّ العمَلَ هو السَّببُ والمادَّةُ والأصلُ في دخولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ مِن النَّارِ، وذلك العمَلُ حصل لهم برحمةِ الله ومِنَّتِه عليهم، لا بحَولِهم وقوَّتِهم

.

2- دلَّ القُرآنُ في غيرِ مَوضِعٍ على أنَّ لكلِّ مَن عَمِلَ خيرًا أجرينِ: عَمَلُه في الدُّنيا، ويُكَمَّلُ له أجرُه في الآخرةِ، كقَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ، وفي الآيةِ الأخرى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41] ، وقال في هذه السُّورةِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] ، وقال فيها عن خليلِه: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: 122] فقد تكرَّر هذا المعنى في هذه السُّورةِ دونَ غَيرِها في أربعةِ مَواضِعَ لسِرٍّ بديعٍ؛ فإنَّها سورةُ النِّعَمِ التي عَدَّد اللَّهُ سبحانَه فيها أصُولَ النِّعَمِ وفُروعَها، فعرَّفَ عبادَه أنَّ لهم عنده في الآخرةِ مِن النِّعَمِ أضعافَ هذه بما لا يُدرَكُ تَفاوُتُه، وأنَّ هذه مِن بَعضِ نِعَمِه العاجِلةِ عليهم، وأنَّهم إن أطاعوه زادَهم إلى هذه النِّعَمِ نِعَمًا أخرى، ثمَّ في الآخرةِ يُوَفِّيهم أجورَ أعمالِهم تمامَ التَّوفيةِ .

3- في قَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ بيانُ أنَّه سُبحانَه يُسعِدُ المُحسِنَ بإحسانِه في الدُّنيا وفي الآخِرةِ- كما أخبَرَ أنَّه يُشقي المُسيءَ بإساءَتِه في الدُّنيا والآخرةِ؛ قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَومَ الْقيَامَة أَعْمَى

 

[طه: 124] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ، فهذه الحالةُ لا تَحصُلُ إلَّا في الجنَّةِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ يفيدُ الحصرَ، وذلك يدُلُّ على أنَّ الإنسانَ لا يجِدُ كُلَّ ما يُريدُه في الدُّنيا

.

2- أسندَ هنا- جلَّ وعلا- التَّوفِّيَ للمَلائكةِ في قَولِه تعالى: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وأسنده في (السجدة) لملَكِ الموتِ في قَولِه تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] ، وأسنَدَه في (الزُّمَر) إلى نفسِه- جلَّ وعلا- في قَولِه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] ، ولا مُعارَضةَ بين الآياتِ المذكورةِ؛ فإسنادُه تعالى التَّوفِّيَ لنَفسِه؛ لأنَّه لا يموتُ أحدٌ إلَّا بمَشيئتِه تعالى، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران: 145] ، وأسنده لمَلَك الموتِ؛ لأنَّه هو المأمورُ بقَبضِ الأرواحِ، وأسنَدَه إلى الملائِكةِ؛ لأنَّ لِمَلَك الموتِ أعوانًا مِن الملائكةِ، يَنزِعونَ الرُّوحَ مِن الجسَدِ إلى الحُلقومِ فيأخُذُها ملَكُ الموتِ، كما قاله بعضُ العُلَماءِ. والعِلمُ عندَ الله تعالى .

3- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ هذا النَّصُّ وأمثالُه صَريحٌ بإثباتِ المَلائِكةِ، وأفعالِها، وكَلامِها، وتأثيرِها في العالَمِ بالقَولِ والفِعلِ، وهذا يُبطِلُ قولَ مَن قال: (إنَّ المُؤَثِّرَ في العالَم هو القُوى النَّفسانيَّةُ أو القُوى الطبيعيَّةُ)؛ فإنَّ الملائِكةَ خارِجةٌ عن هذا وهذا، وحينئذٍ فما يَحصُلُ مِن خوارِقِ العاداتِ بأفعالِ الملائِكةِ أعظَمُ ممَّا يَحصُلُ بمُجَرَّدِ القُوى النَّفسانيَّةِ .

4- قد حرَّمَ اللهُ الجنَّةَ على كلِّ خَبيثٍ، بل جعَلَها مأوى الطَّيِّبينَ، ولا يَدخُلُها إلَّا طَيِّبٌ؛ قال اللهُ تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وقال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73] استحَقُّوا سلامَ المَلائِكةِ ودُخولَ الجنَّةِ بِسبَبِ طِيبِهم .

5- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دليلٌ على أنَّ الملائكةَ تُسَلِّمُ على المُؤمِنِ عند قَبضِ رُوحِه، وتُبَشِّرُه بما له عند ربِّه مِن الثَّوابِ .

6- في قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دليلٌ على نعيمِ القبرِ؛ لأنَّه قال: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ الآنَ، مِن موتكِم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ

- قولُه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ يجوزُ أنْ يكونَ كلامًا مُبتدَأً عِدَةً للقائلينَ، ويُجْعَلَ قولُهم من جُملةِ إحسانِهم، ويُحْمَدوا عليه

.

- قولُه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ الَّذين أحْسَنوا هم المُتَّقونَ؛ فهو مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ توصُّلًا بالإتيانِ بالموصولِ إلى الإيماءِ إلى وَجهِ بِناءِ الخبرِ، أي: جزاؤُهم حَسنةٌ؛ لأنَّهم أحْسَنوا .

2- قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ

- قولُه: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ فيه تَقديمُ فِيهَا؛ للاحترازِ عن تَوهُّمِ تعلُّقِه بالمشيئةِ، أو لأنَّ تأخيرَ ما حَقُّه التَّقديمُ يُوجِبُ تَرقُّبَ النَّفسِ إليه، فيتمكَّنُ عند وُرودِه عليها فضْلَ تمكُّنٍ .

- ومَضمونُ جُملةِ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ مُكمِّلٌ لِمَا في جُملةِ يَدْخُلُونَهَا مِن استحضارِ الحالةِ البديعةِ .

- وجُملةُ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مُستأنَفةٌ، والإتيانُ باسمِ الإشارةِ كَذَلِكَ؛ لتَمييزِ الجزاءِ والتَّنويهِ به، وجَعلِ الجزاءِ لتَمييزِه وكمالِه بحيث يُشَبَّهُ به جَزاءُ المُتَّقينَ. والتَّقديرُ: يَجْزي اللهُ المُتَّقينَ جَزاءً كذلك الجزاءِ الَّذي عَلِمْتموه، وهو تَذييلٌ؛ لأنَّ التَّعريفَ في الْمُتَّقِينَ للعُمومِ .

3- قولُه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُقابِلُ قولِه في أضدادِهم: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ .

- وجُملةُ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ هو سَلامُ تأنيسٍ وإكرامٍ حين مَجيئِهم ليتوفَّوْهم. وقولُهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُقابِلُ قولِهم لأضدادِهم: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ

==================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيتان (33-34)

ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

غريب الكلمات:

 

وَحَاقَ: أي: أحاطَ، ونزَل، وأصلُ (حيق): يدُلُّ على نُزولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: ما ينتظِرُ المُشرِكونَ إلَّا أن تأتيَهم الملائِكةُ؛ لِتَقبِضَ أرواحَهم وهم على الكُفرِ، أو يأتيَ أمرُ اللهِ بحَشرِهم يومَ القيامةِ، كذلك أصَرَّ الكافِرونَ مِن قَبلِهم على الكُفرِ، فأتاهم أمرُ اللهِ فهَلَكوا، وما ظَلَمَهم اللهُ، ولكِنَّهم كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم، فاستحَقُّوا عذابَ اللهِ، فأصابَتْهم عُقوبةُ ذُنوبِهم التي عَمِلوها، وأحاط بهم العَذابُ الذي كانوا يَسخَرونَ منه، ومن الرسلِ إذا توعَّدوهم به.

تفسير الآيتين:

 

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا طعَن القَومُ في القُرآنِ بأن قالوا: إنَّه أساطيرُ الأوَّلينَ، وذكَرَ اللهُ تعالى أنواعَ التَّهديدِ والوعيدِ لهم، ثمَّ أتبَعَه بذِكرِ الوَعدِ لِمَن وصفَ القُرآنَ بكَونِه خَيرًا وصِدقًا وصَوابًا- عاد إلى بيانِ أنَّ أولئك الكُفَّارَ لا يَنزَجِرونَ عن الكُفرِ بسَبَبِ البياناتِ التي ذَكَرناها، بل كانوا لا يَنزَجِرونَ عن تلك الأقوالِ الباطِلةِ إلَّا إذا جاءَتهم الملائِكةُ بالتَّهديدِ، وأتاهم أمرُ رَبِّك، وهو عذابُ الاستِئصالِ

.

وأيضًا فلَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن أحوالِ الكُفَّارِ السَّائلينَ في نُزولِ الملائكةِ بعدَ أن وهَّى شُبَهَهم، وأخبَرَ عن تَوفِّي الملائِكةِ لهم ولأضدادِهم المُؤمِنينَ، مُشيرًا بذلك إلى أنَّ سُنَّتَه جَرَت بأنَّهم لا يَنزِلونَ إلَّا لإنزالِ الرُّوحِ مِن أمْرِه على مَن يختَصُّه لذلك، أو لأمرٍ فَيصلٍ لا مُهلةَ فيه- قال مُنكِرًا عليهم :

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.

أي: هل يَنتَظِرُ هؤلاء المُشرِكونَ- المُتقاعِسونَ عن الإيمانِ بالرُّسُلِ فيما أنزلَ إليهم ربُّهم- إلَّا أن تأتيَهم الملائِكةُ لِقَبضِ أرواحِهم وهم ظالِمونَ لأنفُسِهم ؟

أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ.

أي: أو يأتي أمرُ اللهِ بحَشرِهم يومَ القيامةِ .

كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.

أي: كما يفعَلُ هؤلاءِ المُشرِكونَ فعَل أسلافُهم الكفرةُ ذلك أيضًا، فأصرُّوا على كفرِهم، وتَمادَوا في شركِهم إلى أن هلكوا .

وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

أي: وما ظلَمَ اللهُ الكافرينَ بعدَ أن أقامَ عليهم الحُجَّةَ بإرسالِ الرُّسُلِ، وإنزالِ الكتُبِ، ولكِنْ كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي، ومُخالَفةِ الرُّسُلِ، فاستحَقُّوا عذابَ اللهِ .

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34).

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا.

أي: فأصاب أولئك الكافرينَ مِن الأُمَمِ الماضيةِ- الذين فَعَلوا فِعلَ مُشرِكي قُرَيشٍ- عُقوباتُ كُفرِهم، وأعمالِهم السَّيِّئةِ التي اكتَسَبوها .

وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.

أي: ونزَل وأحاطَ بالكافرينَ عذابُ اللهِ الذي كانوا يَسخَرونَ منه، ومِن الرُّسُلِ إذا توعَّدوهم به

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال الله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ القَومُ لم ينتَظِروا هذه الأشياءَ؛ لأنَّهم ما آمَنوا بها، ولكِنَّ امتِناعَهم عن الإيمانِ أوجبَ عليهم العذابَ، فأُضيفَ ذلك إليهم، أي: عاقِبَتُهم العذابُ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

- قولُه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن جُملةِ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، والاستفهامُ إنكاريٌّ في معنى النَّفيِ؛ ولذلك جاء بعدَه الاستثناءُ. ويَنْظُرُونَ هنا بمعنى الانتظارِ، وهو النَّظِرَةُ، والكلامُ مُوَجَّهٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تذكيرًا بتَحقيقِ الوعيدِ، وعدَمِ استبطائِه، وتعريضًا بالمُشركينَ بالتَّحذيرِ من اغتِرارِهم بتأخُّرِ الوعيدِ، وحَثًّا لهم على المُبادرةِ بالإيمانِ، وهذا قَريبٌ من تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه، وما هو بذلك

.

- وإسنادُ الانتظارِ المذكورِ إليهم جارٍ على خِلافِ مُقْتضَى الظَّاهِرِ بتَنزيلِهم منزلةَ مَن ينتظِرُ أحدَ الأمرينِ؛ لأنَّ حالَهم من الإعراضِ عن الوعيدِ، وعدَمِ التَّفكُّرِ في دَلائلِ صِدْقِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مع ظُهورِ تلك الدَّلائلِ، وإفادتِها التَّحقُّقَ- كحالِ مَن أيقَنَ حُلولَ أحدِ الأمرينِ به، فهو يترقَّبُ أحدَهما .

- وجُملةُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وجُملةِ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا؛ ووَجْهُ هذا الاعتراضِ: أنَّ التَّعرُّضَ إلى ما فعَلَه الَّذين مِن قبلِهم يُشيرُ إلى ما كان مِن عاقبتِهم، وهو استئصالُهم، فعُقِّبَ بقولِه تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، أي: فيما أصابَهم، ولمَّا كان هذا الاعتراضُ مُشتمِلًا على أنَّهم ظَلموا أنفُسَهم، صار تَفريعُ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا عليه أو على ما قبلَه، وهو أسلوبٌ مِن نَظْمِ الكلامِ عزيزٌ. وتَقديرُ أصلِه: كذلك فعَلَ الَّذين من قبلِهم وظَلموا أنفُسَهم، فأصابَهم سَيِّئاتُ ما عَمِلوا، وما ظَلَمهم اللهُ؛ ففي تَغييرِ الأُسلوبِ المُتعارفِ تَشويقٌ إلى الخبرِ، وتَهويلٌ له بأنَّه ظُلْمُ أنفُسِهم، وأنَّ اللهَ لم يظلِمْهم، فيترَقَّبُ السَّامعُ خبرًا مُفظِعًا، وهو: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا .

- قولُه: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ كان الظَّاهرُ أنْ يُقال: وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ كما في سُورةِ الزُّخرفِ (آية: 76)، لكنَّه أُوثِرَ هنا ما عليه النَّظمُ الكريمُ؛ لإفادةِ أنَّ غائِلةَ ظُلْمِهم آيلةٌ إليهم، وعاقِبَتَه مَقصورةٌ عليهم، مع استلزامِ اقتصارِ ظُلْمِ كلِّ أحدٍ على نفسِه مِن حيثُ الوقوعُ اقتصارَه عليه من حيث الصُّدورُ .

2- قوله تعالى: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

- قولُه: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال هنا وفي الجاثيةِ: مَا عَمِلُوا [الجاثية: 33] ، أمَّا في سُورةِ الزُّمرِ فقال: مَا كَسَبُوا [الزمر: 51] ؛ مُوافقةً لِمَا قبلَ كلٍّ منها، أو بعدَ، أو قبلَه وبعدَه؛ إذْما هنا قبلَه: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل: 28] وتَعْمَلُونَ مرَّتينِ، وقبلَ ما في الجاثيةِ: مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28] وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية: 30] ، وبعدَه سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا [الجاثية: 33] ، وقبلَ ما في الزُّمرِ وَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: 24] وبعدَه: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الزمر: 50] .

-  فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وإصابةُ السَّيِّئاتِ إمَّا بتَقديرِ مُضافٍ، أي: أصابهم جزاؤُها، أو جُعِلَت أعمالُهم السَّيِّئةُ كأنَّها هي الَّتي أصابَتْهم؛ لأنَّها سبَبُ ما أصابَهم .

- قولُه: وَحَاقَ بِهِمْ، أي: أحاط بهم، مِن: الحَيْقِ الَّذي هو إحاطةُ الشَّرِّ، وهو أبلغُ مِن الإصابةِ، وأفظَعُ

============================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (35-37)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ

غريب الكلمات:

 

الطَّاغُوتَ: الطَّاغُوتُ هو كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى الله، فكلُّ مَعْبُودٍ مِن دُونِ الله إذا لم يَكُنْ كارِهًا لذلك: طاغوتٌ؛ إنسانًا كان ذلك المعبودُ، أو شَيْطانًا، أو وَثنًا، أو صَنَمًا، كَائِنًا ما كان من شيءٍ، والمُطاعُ في معصيةِ اللَّهِ طاغوتٌ، وكذلك السَّاحِرُ والكاهِنُ، واشتقاقُه من الطُّغْيان: وهو الظُّلْم والبغْيُ، يقال: طَغَا فُلانٌ يَطْغَى: إذا عَدا قَدْرَه فتجاوَز حَدَّه، وأصلُ (طغو): يدلُّ على مُجاوَزةِ الحَدِّ في العِصيانِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: وقال المُشرِكونَ: لو شاء اللهُ أن نَعبُدَه وَحدَه ما عَبدْنا أحدًا غَيرَه نحنُ ولا آباؤُنا مِن قَبلِنا، ولا حَرَّمْنا شَيئًا لم يُحَرِّمْه. مِثلَ هذا الإشراكِ، وتحريمِ ما أحلَّ الله، والاحتِجاجِ الباطِلِ، فعَل الكُفَّارُ السَّابِقونَ، فليس على الرُّسُلِ إلَّا التَّبليغُ الواضِحُ، وقد وضَّحوا لكم طريقَ الحَقِّ بما لا يَبقَى معه حُجَّةٌ لأحدٍ.

ولقد بعَثْنا في كلِّ أمَّةٍ سبقَت رَسولًا يأمُرُهم بعِبادةِ اللهِ وَحدَه وتَرْكِ عبادةِ غَيرِه، فكان منهم مَن هداه اللهُ فاتَّبَع الرُّسُلَ، ومنهم من وجَبَت عليه الضَّلالةُ فهَلَك. فامشُوا في الأرضِ، وانظروا كيف كان مآلُ هؤلاء المكَذِّبينَ؛ لتَعتَبِروا.

ثم أخبَر الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ حرصَه على هدايةِ المشركينَ  المصرِّينَ على ضلالِهم، لن يغيِّرَ مِن واقعِ أمرِهم شيئًا؛ لأنَّ اللهَ لا يَهدي إليه مَن قدَّر بحِكمتِه وعَدلِه دوامَ ضَلالِه، وما للضَّالِّينَ مِن ناصِرينَ.

تفسير الآيات:

 

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تَمَّ ما هو عجَبٌ مِن مَقالِ المُشرِكينَ ومآلِهم، في سوءِ أحوالِهم، وخَتَم بتَهديدِهم؛ عطَفَ على قَولِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ مُوجِبًا آخَرَ للتهديدِ، مُعَجِّبًا مِن حالهم فيه، فقال

:

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ.

أي: وقال المُشرِكونَ مُحتَجِّينَ- كَذِبًا- بالقَدَرِ على شِركِهم، وتَحريمِهم ما لم يُحَرِّمْه اللهُ: لو شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا شَيئًا مِن دُونِه، ولا حَرَّمْنا شيئًا مِن الأنعامِ التي ابتَدَعْنا تحريمَها، ففِعْلُنا إذَن لذلك دليلٌ على رِضاه عن أعمالِنا، وإلَّا لقدَّرَ غيرَ ذلك !

كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.

أي: مثلَ هذا الإشراكِ وتحريمِ ما أحَلَّ اللهُ والاحتجاجِ الباطِلِ الصَّادِرِ مِن المُشرِكينَ على مَشروعيَّةِ ذلك تكذيبًا للرُّسُلِ، فعَلَ مَن قَبلَهم مِن المُشرِكينَ، فأهلَكَهم اللهُ، فهلَّا استَدَلُّوا بهلاكِ أولئك على أنَّ اللهَ غيرُ راضٍ عن فِعلِهم، وعلى عدَمِ صِحَّةِ حُجَّتِهم ؟!

كما قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 148-149] .

فقال اللهُ أيضًا ردًّا على شُبهتِهم:

فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.

أي: ليس الأمرُ كما تقولونَ مِن أنَّ اللهَ رَضِيَ أفعالَكم هذه، بل أنكَرَها عليكم، ونهاكم عنها على ألسِنَةِ رُسُلِه، فإنَّما وظيفتُهم تبليغُ الرِّسالةِ تبليغًا واضِحًا مُوضِّحًا لطريقِ الحَقِّ بما لا يَبقَى معه حُجَّةٌ لأحدٍ، فقد بلَّغُوكم، وأوضَحُوا لكم، فصار وَبالُ كُفْرِكم وعِصيانِكم عليكم .

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36).

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.

أي: ولقد بعَثْنا في كلِّ طائفةٍ مِن النَّاسِ رَسولًا يأمُرُهم بعبادةِ اللهِ وَحدَه، وتَرْكِ عبادةِ كُلِّ مَن دونَه، كالشَّياطينِ والأصنامِ، فحُجَّتُه سُبحانَه قد قامَتْ على جميعِ الأُمَمِ .

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ.

أي: فمِنَ الأُمَمِ مَن هداهم اللهُ، فأرشَدَهم إلى دينِه، ووفَّقَهم للإيمانِ به، واتِّباعِ رُسُلِه وطاعتِه .

وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ.

أي: ومِن الأُمَمِ مَن وجَبَت عليهم الضَّلالةُ، ولَزِمَهم الكُفرُ، فأهلَكَهم اللهُ .

كما قال تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105] .

وقال سُبحانه: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 28-30] .

فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.

أي: فسِيروا في الأرضِ للاعتبارِ، فانظُروا إلى آثارِ عَذابِ اللهِ للأُمَمِ السَّابقةِ مِن الذين كَذَّبوا الرُّسُلَ، فصار آخِرَ أمرِهم الهَلاكُ .

كما قال سُبحانه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 45-46] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .

وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الملك: 18] .

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37).

القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

قولُه تعالى: يَهْدِي فيه قِراءتانِ:

1-  قراءةُ يَهْدِي بفتحِ الياءِ، وكسرِ الدالِ، والمعنى: إنَّ الله لا يَهْدِي مَن قدَّر دوامَ ضلالِه. وقيل: المعنى: إنَّ الله مَن يُضلُّ لا يَهْدي، أي: لا يَهْتَدي .

2- قراءةُ يُهْدَى بضمِّ الياءِ، وفتحِ الدالِ، أي: من أضلَّهُ الله لَا يهديه أحدٌ، كما قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [الأعراف : 186] .

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ.

أي: إنْ تَحرِصْ- يا مُحمَّدُ- على هدايةِ المُشرِكينَ لاتِّباعِ الحَقِّ، فإنَّ اللهَ لا يَهدي إليه مَن قدَّر بحِكمتِه وعَدلِه دوامَ ضَلالِه، فلن يهتَديَ أبدًا ولو حَرَصْتَ على هدايتِه، فلا تُجهِدْ نَفسَك في أمْرِه، وبلِّغْه ما أُرسِلْتَ به؛ لِتقومَ عليه الحُجَّةُ .

كما قال تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة: 41] .

وقال سُبحانه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .

وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.

أي: وما للضَّالِّينَ مِن ناصِرينَ يَمنَعونَ عنهم عُقوبةَ اللهِ، ويُنقِذونَهم مِن عَذابِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ فهم استدلُّوا على محبَّتِه سُبحانه لشِركِهم ورضاه عنه، بمَشيئتِه لذلك، وعارضوا بهذا الدَّليلِ أمرَه ونهيَه، وقد أنكَر اللهُ سُبحانه وتعالى عليهم؛ فالمَشيئةُ والمحبَّةُ ليسا واحِدًا؛ ولا هما مُتلازِمَينِ، بل قد يشاءُ سُبحانَه ما لا يُحبُّه؛ ويُحِبُّ ما لا يَشاءُ كَونَه

، ولم يكُنْ قَصدُهم بقولِهم هذا إلَّا ردَّ الحَقِّ الذي جاءت به الرسُلُ، وإلَّا فعندهم عِلمٌ أنَّه لا حُجَّةَ لهم على الله؛ فإنَّ الله أمَرَهم ونهاهم، ومكَّنَهم من القيامِ بما كلَّفَهم، وجعلَ لهم قُوَّةً ومَشيئةً تصدُرُ عنها أفعالُهم، فاحتِجاجُهم بالقضاءِ والقَدرِ مِن أبطلِ الباطِلِ، هذا وكلُّ أحدٍ يعلَمُ بالحِسِّ قُدرةَ الإنسانِ على كُلِّ فعلٍ يُريدُه، من غيرِ أن ينازِعَه مُنازِعٌ، فجمعوا بين تكذيبِ اللهِ وتكذيبِ رسُلِه، وتكذيبِ الأمورِ العَقليَّةِ والحسِّيَّةِ !

2- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ يدُلُّ على أنَّه تعالى كان أبدًا في جميعِ المِلَلِ والأُمَمِ آمِرًا بالإيمانِ، وناهيًا عن الكُفرِ .

3- البعثُ المذكورُ في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هو البعثُ الدِّينيُّ، ويُقابِلُه: البعثُ الكونيُّ، كما في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [الإسراء: 5] .

4- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فيه دلالةٌ على إجماعِ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ؛ وأنَّهم أُرسِلُوا به ، وأنَّه أعظمُ ما دعَوْا إليه مِن أوَّلِهم؛ نوحٍ عليه الصلاةُ والسَّلامُ، إلى آخرِهم؛ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم .

5- قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ لا بُدَّ لتَحقيقِ شهادةِ (أنْ لَا إله إلَّا اللهُ) مِن اجتنابِ الطَّاغوتِ، وهو كلُّ ما عُبِدَ مِن دونِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أو تحاكَمَ النَّاسُ إليه مِن دونِ اللهِ .

6- قَولُ الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فيه أبيَنُ دَليلٍ على أنَّ الهاديَ والمُضِلَّ هو اللهُ تعالى؛ لأنَّه المتصَرِّفُ في عبادِه؛ يهدي من يَشاءُ، ويُضِلُّ مَن يَشاءُ، لا اعتِراضَ عليه فيما حكَمَ به لسابِقِ عِلمِه .

7- قَولُ الله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فيه ردٌّ على القَدَريَّةِ .

8- قَولُ الله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فيه التَّعريضُ بالثَّناءِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حِرصِه على خَيرِهم، مع ما لقِيَه منهم من الأذى الذي شأنُه أن يُثيرَ الحَنَقَ في نَفسِ مَن يَلحَقُه الأذى، ولكِنَّ نفسَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُطَهَّرةٌ مِن كُلِّ نَقصٍ ينشأُ عن الأخلاقِ الحيوانيَّةِ .

9- في قَولِه تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ بيانُ أنَّ مُجرَّدَ دُعاءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتبليغِه وحِرصِه على هدايةِ الخَلقِ؛ أنَّه  ليس بمُوجِبٍ لذلك، وإنَّما يحصُلُ ذلك إذا شاء اللهُ هُداهم، فشَرَح صُدورَهم للإسلامِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

- قولُه: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فيه العُدولُ عن الإضمارِ إلى الموصولِ- حيثُ لم يقُلْ: (وقالوا)-؛ لتَقريعِهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ، وذَمِّهم بذلك من أوَّلِ الأمرِ

.

- وضَميرُ (نحن) في قولِهم: مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا تأكيدٌ للضَّميرِ المُتَّصلِ في عَبَدْنَا، وإعادةُ حَرفِ النَّفيِ في قولِه تعالى: وَلَا آبَاؤُنَا لتأكيدِ (ما) النَّافيةِ .

- قولُه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ الاستفهامُ بـ (هل) إنكاريٌّ بمعنى النَّفيِ؛ ولذلك جاء الاستثناءُ عَقِبَه .

- والقصرُ المُستفادُ من النَّفيِ والاستثناءِ (فهل... إلَّا) قَصرٌ إضافيٌّ؛ لقلْبِ اعتقادِ المُشركينَ مِن مُعاملتِهم الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ للرَّسولِ غرضًا شخصيًّا فيما يَدْعو إليه .

- وفي قولِه: عَلَى الرُّسُلِ أثْبتَ الحُكمَ لعُمومِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وإنْ كان المَردودُ عليهم لم يخطُرْ ببالِهم أمْرُ الرُّسلِ الأوَّلينَ؛ لتكونَ الجُملةُ تذييلًا للمُحاجَّةِ، فتفيدَ ما هو أعمُّ من المَردودِ، والكلامُ مُوجَّهٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تعليمًا وتَسليةً، ويتضمَّنُ تعريضًا بإبلاغِ المُشركينَ .

2- قولُه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ عُطِفَ على جُملةِ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وهو تَكملةٌ لإبطالِ شُبهةِ المُشركينَ؛ إبطالًا بطريقةِ التَّفصيلِ بعدَ الإجمالِ؛ لزيادةِ تَقريرِ الحُجَّةِ؛ فقولُه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ بيانٌ لمَضمونِ جُملةِ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وجُملةُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ إلى آخرِها بيانٌ لمَضمونِ جُملةِ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .

- قولُه: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فيه إسنادُ هِدايةِ بعضِهم إلى اللهِ تعالى، مع أنَّه أمَرَ جميعَهم بالهُدى؛ تَنبيهًا للمُشركينَ على إزالةِ شُبهتِهم في قولِهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ بأنَّ اللهَ بيَّنَ لهم الهُدى؛ فاهتداءُ المُهتدينَ بسبَبِ بيانِه، فهو الهادي لهم .

- والتَّعبيرُ في جانبِ الضَّلالةِ بلفظِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ دونَ إسنادِ الإضلالِ إلى اللهِ: إشارةٌ إلى أنَّ اللهَ لمَّا نهاهم عن الضَّلالةِ، فقد كان تَصميمُهم عليها إبقاءً لضَلالتِهم السَّابقةِ؛ فحقَّتْ عليهم الضَّلالةُ، أي: ثبَتَتْ ولم ترتفِعْ، وفي ذلك إيماءٌ إلى أنَّ بَقاءَ الضَّلالةِ مِن كَسبِ أنفُسِهم .

- قولُه: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فيه تَرتيبُ الأمرِ بالسَّيرِ على مُجرَّدِ الإخبارِ بثُبوتِ الضَّلالةِ عليهم مِن غيرِ إخبارٍ بحُلولِ العذابِ؛ للإيذانِ بأنَّه غَنِيٌّ عن البَيانِ، وأنْ ليس الخبرُ كالعِيانِ، وتَرتيبُ النَّظرِ على السَّيرِ؛ لأنَّه بعدَه، وأنَّ مِلاكَ الأمرِ في تلك العاقبةِ هو التَّكذيبُ، والتَّعللُ بأنَّه لو شاء اللهُ ما عبَدْنا من دونِه مِن شَيءٍ .

3- قولُه تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ تَقسيمَ كلِّ أمَّةٍ ضالَّةٍ إلى مُهتدٍ منها، وباقٍ على الضَّلالِ يُثيرُ سُؤالًا في نفْسِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن حالِ هذه الأمَّةِ: أهو جارٍ على حالِ الأُمَمِ الَّتي قبلَها، أو أنَّ اللهَ يَهديهم جميعًا؟ وذلك مِن حرصِه على خيرِهم، ورأفَتِه بهم؛ فأعلَمَه اللهُ أنَّه مع حِرْصِه على هُداهم، فإنَّهم سيَبْقَى منهم فَريقٌ على ضَلالةٍ .

- والشَّرطُ- إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ- هنا ليس لتَعليقِ حُصولِ مَضمونِ الجوابِ على حُصولِ مَضمونِ الشَّرطِ؛ لأنَّ مَضمونَ الشَّرطِ معلومُ الحُصولِ؛ لأنَّ علاماتِه ظاهرةٌ بحيثُ يعلَمُه النَّاسُ، كما قال تعالى: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة: 128] ، وإنَّما هو لتَعليقِ العلمِ بمَضمونِ الجوابِ على دَوامِ حُصولِ مَضمونِ الشَّرطِ؛ فالمعنى: إنْ كنتَ حريصًا على هُداهم حِرصًا مُستمِرًّا، فاعلَمْ أنَّ مَن أضلَّه اللهُ لا تستطيعُ هَدْيَه، ولا تجِدُ لهَدْيه وسيلةً، ولا يَهْديه أحدٌ؛ فالمُضارعُ تَحْرِصْ مُستعمَلٌ في معنى التَّجدُّدِ لا غيرُ .

- قولُه: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فيه جَعلُ المُسنَدِ إليه في جُملةِ الإخبارِ عن استمرارِ ضَلالِهم اسمَ الجلالةِ؛ للتَّهويلِ المُشوِّقِ إلى استطلاعِ الخبرِ، والخبرُ هو أنَّ هُداهم لا يحصُلُ إلَّا إذا أراده اللهُ، ولا يستطيعُ أحدٌ تَحصيلَه لا أنتَ ولا غيرُك، فمَن قدَّرَ اللهُ دَوامَ ضَلالِه فلا هادِيَ له، ولولا هذه النُّكتةُ لكان مُقْتضى الظَّاهِرِ أنْ يكونَ المُسنَدُ إليه ضَميرَ المُتحدَّثِ عنهم بأنْ يُقال: (فإنَّهم لا يَهْديهم غيرُ اللهِ) ، وإنَّما وُضِعَ الموصولُ (مَنْ) موضِعَ الضَّميرِ في قولِه: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ؛ للتَّنصيصِ على أنَّهم ممَّن حَقَّت عليه الضَّلالةُ، وللإشعارِ بعِلَّةِ الحُكمِ، ويجوزُ أنْ يكونَ المذكورُ عِلَّةً للجزاءِ المحذوفِ، أي: إنْ تحرِصْ على هُداهم فلسْتَ بقادرٍ على ذلك؛ لأنَّ اللهَ لا يَهْدي مَن يُضِلُّه، وهؤلاء مِن جُملتِهم

==================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (38-40)

ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات:

 

جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: أي: أقوَى الأيمانِ وأغلَظَها مُجتَهِدينَ في تَوكيدِها. وحقيقةُ الجَهدِ: التَّعَبُ والمشَقَّةُ، ومُنتهى الطَّاقةِ، ثمَّ أطلِقَ على أشَدِّ الفِعلِ ونِهايةِ قُوَّتِه؛ لِما بينَ الشِّدَّةِ والمَشقَّةِ مِن المُلازَمةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: حلفَ هؤلاء المُشرِكونَ باللهِ أيمانًا مُغلَّظةً أنَّ اللهَ لا يَبعَثُ مَن يموتُ بعدما بَلِيَ وتفَرَّق، بلى سيبعَثُهم اللهُ حَتمًا، وعدًا عليه حَقًّا، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ. يبعَثُ اللهُ جميعَ العِبادِ؛ لِيُبيِّنَ لهم الحقَّ الذي كانوا يَختَلِفونَ فيه في الدُّنيا، ومِن ذلك أمرُ البعثِ، وليحكُمَ بينهم ويُجازيَ كلًّا بعملِه، ولِيعلَمَ الكُفَّارُ المُنكِرونَ للبعثِ أنَّهم على باطلٍ، وأنَّهم كاذِبونَ حين حَلَفوا أنْ لا بَعْثَ. إنَّ أمْرَ البَعثِ يَسيرٌ على الله؛ فإنَّه سبحانَه إذا أرادَ شيئًا فإنَّما يقولُ له: كُنْ، فإذا هو كائِنٌ.

تفسير الآيات:

 

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38).

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ.

أي: وحلفَ مُشرِكو قُرَيشٍ باللهِ، وغَلَّظوا الأيمانَ وأكَّدُوها، على أنَّ اللهَ لا يَبعَثُ الموتَى بعدَ أنْ صاروا تُرابًا

!

بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا.

أي: بلى سيبعَثُ اللهُ الموتى، وعَدَ سبحانَه بذلك وعدًا، ولا يُخلِفُ اللهُ وَعدَه .

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ أنَّ اللهَ باعِثُهم يومَ القيامةِ بعد مَوتِهم، فيُخالِفونَ الرُّسُلَ؛ لجَهلِهم، ويَقَعونَ في الكُفرِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: كَذَّبَني ابنُ آدمَ ولم يكُنْ له ذلك، وشَتَمَني ولم يكُنْ له ذلك؛ فأمَّا تكذيبُه إيَّايَ فقَولُه: لن يُعيدَني كما بَدَأني، وليس أوَّلُ الخَلقِ بأهْوَنَ عليَّ مِن إعادتِه، وأمَّا شَتمُه إيَّايَ فقَولُه: اتَّخذَ اللهُ ولدًا، وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ، لم ألِدْ ولم أُولَدْ، ولم يكُنْ لي كُفْئًا أحَدٌ )) .

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39).

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.

أي: سيَبعَثُ اللهُ الموتى؛ لِيُظهرَ لهم في الآخرةِ الحقَّ الذي كانوا يَختَلِفونَ فيه في الدُّنيا- ومِن ذلك اختِلافُهم في ثُبوتِ البَعثِ- ويَحكُمَ بينهم، ويَجزيَ كلًّا بما عَمِلَه .

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ.

أي: ولِيَعلَمَ الذين كَفَروا باللهِ تعالى، وأنكَروا البَعثَ أنَّهم كانوا في الدُّنيا كاذِبينَ في حَلِفِهم على أنَّ اللهَ لا يَبعَثُ مَن يَموتُ .

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى تحتُّمَ البَعثِ، وحِكمَتَه؛ بيَّنَ إمكانَه ويُسْرَه عليه تعالى، وخِفَّتَه لَديه .

وأيضًا فإنَّ هذه الجُملةَ مُتَّصِلةٌ بجُملةِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ؛ لبَيانِ أنَّ جَهلَ المُشرِكينَ بمَدى قُدرةِ اللهِ تعالى هو الذي جرَّأهم على إنكارِ البَعثِ واستحالتِه عِندَهم؛ فهي بيانٌ للجُملةِ التي قبلَها؛ ولذلك فُصِلَت، ووقَعَت جُملةُ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا... إلى آخِرِها اعتِراضًا بينَ البيانِ والمُبيَّنِ .

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

أي: إنَّما قَولُنا لشَيءٍ نُريدُ إيجادَه أن نقولَ له مَرَّةً واحِدةً: كُنْ، فيكونُ كما أرَدْنا بلا تأخيرٍ، ولا تعَبٍ، ولا مشَقَّةٍ علينا، ومن ذلك إحياءُ الموتى

 

.

كما قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 78-82] .

وقال سُبحانه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50].

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ذكَرَ اللهُ حِكمتَينِ بالغتَينِ في بَعثةِ اللهِ سُبحانَه للأمواتِ بَعدَما أماتهم:

إحداهما: أن يُبَيِّنَ للنَّاسِ الذي اختَلَفوا فيه، وهذا بيانٌ عِيانِيٌّ تَشتَرِكُ فيه الخلائِقُ كلُّهم، والذي حصلَ في الدنيا بيانٌ