الجمعة، 19 يناير 2024

16-سورة النحل مكية{ عدد الايات 128}

 16-سورة النحل مكية{ عدد الايات 128}      

سورة النحل

16-سورة النحل مكية{ عدد الايات 128}    

سورةُ النَّحلِ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسُورةِ (النَّحلِ)

فعن أُبيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: ((سَمِعتُ رَجُلًا يقرأُ في سورةِ النَّحلِ قِراءةً تُخالِفُ قراءتي، ثم سمِعتُ آخَرَ يَقرؤُها قراءةً تُخالِفُ ذلك، فانطلقتُ بهما إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقلتُ: إنِّي سَمِعتُ هذين يقرأانِ في سورة النَّحلِ، فسألتُهما: مَن أقرَأهما؟ فقالا: رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم...))

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ النَّحلِ سورةٌ مكِّيَّةٌ {عدد آياتها 128.}

مقاصد السورة:

 

مِن أهمِّ مقاصِدِ هذه السُّورةِ:

1- إقامةُ الأدلةِ على وحدانيةِ الله تعالى، وعلى اليومِ الآخرِ، وإثباتُ صِدق الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، وما جاء به

.

2- الردُّ على شُبَهِ المشركينَ، وزجرُهم عمَّا هم عليه، وإنذارُهم .

3- بيانُ آلاءِ الله تعالى ونِعمِه على خلقِه

 

موضوعات السورة

 

مِن أهمِّ الموضوعاتِ التي اشْتَمَلت عليها هذه السُّورةُ:

1- التأكيدُ على أنَّ يومَ القيامةِ حقٌّ، وأنَّه آتٍ لا ريبَ فيه.

2- إثباتُ وَحدانيَّةِ اللهِ، وبيانُ قُدرتِه في خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، وخَلقِ الإنسانِ والحيوانِ، وإنزالِ الماءِ مِن السماءِ، وتسخيرِ الشمسِ والقمرِ، والليلِ والنهارِ إلى غيرِ ذلك.

3- ذِكرُ النِّعَمِ المتنَوِّعةِ على الإنسانِ، ومنها ما فى الأنعامِ مِن المنافعِ، وما فى المراكبِ من الزِّينةِ، إلى غيرِ ذلك من النِّعَمِ التي لا تُحصى.

4- التَّحذيرُ ممَّا حلَّ بالأممِ التي أشركَت باللهِ وكذَّبَت رسُلَه- عليهم السلامُ- من عذابِ الدنيا، وما ينتظرُهم من عذابِ الآخرة؛ ومقابلةُ ذلك بضِدِّه من نعيمِ المتَّقين المصَدِّقين، والصَّابرين على أذى المشركين، والذين هاجروا في سبيلِ الله تعالى.

5- ذكرُ عادةِ أهلِ الجاهليَّةِ في كراهيةِ البَناتِ، ووأدِهم أحياءً.

6- ضربُ الأمثالِ للمؤمنِ والكافرِ، والشاكرِ والجاحدِ، والإلهِ الحقِّ والآلهةِ الباطلةِ.

7- ذكرُ حالِ المُشرِكينَ مع الأوثانِ يومَ القيامةِ.

8- ذِكرُ بَعضِ مكارِمِ الأخلاقِ؛ مِن العَدلِ والإحسانِ والبَذلِ، والنَّهيِ عن الفَحشاءِ والمُنكَر والبَغيِ، والدَّعوةِ إلى الوفاءِ بالعَهدِ، والنَّهيِ عن نَكثِ العُهودِ والأيمانِ.

9- ذِكرُ بعضِ الشُّبُهاتِ التي أثارها المشركون حولَ القرآنِ، مع الردِّ عليها بما يَدحَضُها.

10- بيانُ بعضِ آدابِ المُؤمِنِ عندَ قراءةِ القُرآنِ.

11- ذِكْرُ جانبٍ مِن قصةِ إبراهيمَ عليه السلامُ، كمثالٍ للشَّاكرينَ.

12- بيانُ أنَّ التَّحليلَ والتَّحريمَ مِن اللهِ وَحدَه.

13- ذِكرُ حُكمِ من يكفُرُ بعد إيمانِه، ومَن يُكرَهُ على الكُفرِ وقَلبُه مُطمئِنٌّ بالإيمانِ، ومن فُتِنوا عن دينِهم ثمَّ هاجَروا وجاهَدوا وصَبروا.

14- ذكرُ أهمِّ الأساليبِ في الدعوةِ إلى الله تعالى، وفي معاملةِ الناس، مِن الدعوةِ بالحكمةِ، والموعظةِ الحسنةِ، والجدالِ بالتي هي أحسنُ، وفضيلةِ الصبرِ إلى غير ذلك.

===========

سورةُ النَّحلِ

الآيات

سورة النحل مكية | رقم السورة: 16 - عدد آياتها : 128 عدد كلماتها : 1,845 - اسمها بالانجليزي : An-Nahl ( The Bees )
سورة النحل مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

بسم الله الرحمن الرحيم

 
 أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ (2) خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ تَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ (3) خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٖ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٞ مُّبِينٞ (4) وَٱلۡأَنۡعَٰمَ خَلَقَهَاۖ لَكُمۡ فِيهَا دِفۡءٞ وَمَنَٰفِعُ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ (5) وَلَكُمۡ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسۡرَحُونَ (6) وَتَحۡمِلُ أَثۡقَالَكُمۡ إِلَىٰ بَلَدٖ لَّمۡ تَكُونُواْ بَٰلِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ ٱلۡأَنفُسِۚ إِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ (7) وَٱلۡخَيۡلَ وَٱلۡبِغَالَ وَٱلۡحَمِيرَ لِتَرۡكَبُوهَا وَزِينَةٗۚ وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ (8) وَعَلَى ٱللَّهِ قَصۡدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنۡهَا جَآئِرٞۚ وَلَوۡ شَآءَ لَهَدَىٰكُمۡ أَجۡمَعِينَ (9) هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗۖ لَّكُم مِّنۡهُ شَرَابٞ وَمِنۡهُ شَجَرٞ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنۢبِتُ لَكُم بِهِ ٱلزَّرۡعَ وَٱلزَّيۡتُونَ وَٱلنَّخِيلَ وَٱلۡأَعۡنَٰبَ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ وَٱلنُّجُومُ مُسَخَّرَٰتُۢ بِأَمۡرِهِۦٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُخۡتَلِفًا أَلۡوَٰنُهُۥٓۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ ٱلَّذِي سَخَّرَ ٱلۡبَحۡرَ لِتَأۡكُلُواْ مِنۡهُ لَحۡمٗا طَرِيّٗا وَتَسۡتَخۡرِجُواْ مِنۡهُ حِلۡيَةٗ تَلۡبَسُونَهَاۖ وَتَرَى ٱلۡفُلۡكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبۡتَغُواْ مِن فَضۡلِهِۦ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (14) وَأَلۡقَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ رَوَٰسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمۡ وَأَنۡهَٰرٗا وَسُبُلٗا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ (15) وَعَلَٰمَٰتٖۚ وَبِٱلنَّجۡمِ هُمۡ يَهۡتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ (18) وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَ (19) وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَخۡلُقُونَ شَيۡـٔٗا وَهُمۡ يُخۡلَقُونَ (20) أَمۡوَٰتٌ غَيۡرُ أَحۡيَآءٖۖ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ (21) إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۚ فَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٞ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعۡلِنُونَۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡتَكۡبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡ قَالُوٓاْ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ (24) لِيَحۡمِلُوٓاْ أَوۡزَارَهُمۡ كَامِلَةٗ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَمِنۡ أَوۡزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيۡرِ عِلۡمٍۗ أَلَا سَآءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنۡيَٰنَهُم مِّنَ ٱلۡقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيۡهِمُ ٱلسَّقۡفُ مِن فَوۡقِهِمۡ وَأَتَىٰهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يُخۡزِيهِمۡ وَيَقُولُ أَيۡنَ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمۡ تُشَٰٓقُّونَ فِيهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ إِنَّ ٱلۡخِزۡيَ ٱلۡيَوۡمَ وَٱلسُّوٓءَ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ (27) ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ظَالِمِيٓ أَنفُسِهِمۡۖ فَأَلۡقَوُاْ ٱلسَّلَمَ مَا كُنَّا نَعۡمَلُ مِن سُوٓءِۭۚ بَلَىٰٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمُۢ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (28) فَٱدۡخُلُوٓاْ أَبۡوَٰبَ جَهَنَّمَ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ فَلَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلۡمُتَكَبِّرِينَ (29) ۞وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ مَاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمۡۚ قَالُواْ خَيۡرٗاۗ لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۚ وَلَدَارُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞۚ وَلَنِعۡمَ دَارُ ٱلۡمُتَّقِينَ (30) جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ لَهُمۡ فِيهَا مَا يَشَآءُونَۚ كَذَٰلِكَ يَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلۡمُتَّقِينَ (31) ٱلَّذِينَ تَتَوَفَّىٰهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَٰمٌ عَلَيۡكُمُ ٱدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (32) هَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ أَوۡ يَأۡتِيَ أَمۡرُ رَبِّكَۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمۡ سَيِّـَٔاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ (34) وَقَالَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ لَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ مَا عَبَدۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖ نَّحۡنُ وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمۡنَا مِن دُونِهِۦ مِن شَيۡءٖۚ كَذَٰلِكَ فَعَلَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ فَهَلۡ عَلَى ٱلرُّسُلِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ (35) وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ هَدَى ٱللَّهُ وَمِنۡهُم مَّنۡ حَقَّتۡ عَلَيۡهِ ٱلضَّلَٰلَةُۚ فَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِينَ (36) إِن تَحۡرِصۡ عَلَىٰ هُدَىٰهُمۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَن يُضِلُّۖ وَمَا لَهُم مِّن نَّٰصِرِينَ (37) وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَا يَبۡعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُۚ بَلَىٰ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي يَخۡتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوۡلُنَا لِشَيۡءٍ إِذَآ أَرَدۡنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ (40) وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَكۡبَرُۚ لَوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ (41) ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ (43) بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِۗ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن يَخۡسِفَ ٱللَّهُ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَشۡعُرُونَ (45) أَوۡ يَأۡخُذَهُمۡ فِي تَقَلُّبِهِمۡ فَمَا هُم بِمُعۡجِزِينَ (46) أَوۡ يَأۡخُذَهُمۡ عَلَىٰ تَخَوُّفٖ فَإِنَّ رَبَّكُمۡ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٌ (47) أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيۡءٖ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَٰلُهُۥ عَنِ ٱلۡيَمِينِ وَٱلشَّمَآئِلِ سُجَّدٗا لِّلَّهِ وَهُمۡ دَٰخِرُونَ (48) وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن دَآبَّةٖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَهُمۡ لَا يَسۡتَكۡبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوۡقِهِمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ۩ (50) ۞وَقَالَ ٱللَّهُ لَا تَتَّخِذُوٓاْ إِلَٰهَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَإِيَّٰيَ فَٱرۡهَبُونِ (51) وَلَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلدِّينُ وَاصِبًاۚ أَفَغَيۡرَ ٱللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعۡمَةٖ فَمِنَ ٱللَّهِۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ ٱلضُّرُّ فَإِلَيۡهِ تَجۡـَٔرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ ٱلضُّرَّ عَنكُمۡ إِذَا فَرِيقٞ مِّنكُم بِرَبِّهِمۡ يُشۡرِكُونَ (54) لِيَكۡفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيۡنَٰهُمۡۚ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ (55) وَيَجۡعَلُونَ لِمَا لَا يَعۡلَمُونَ نَصِيبٗا مِّمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡۗ تَٱللَّهِ لَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَفۡتَرُونَ (56) وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ ٱلۡبَنَٰتِ سُبۡحَٰنَهُۥ وَلَهُم مَّا يَشۡتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلۡأُنثَىٰ ظَلَّ وَجۡهُهُۥ مُسۡوَدّٗا وَهُوَ كَظِيمٞ (58) يَتَوَٰرَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ مِن سُوٓءِ مَا بُشِّرَ بِهِۦٓۚ أَيُمۡسِكُهُۥ عَلَىٰ هُونٍ أَمۡ يَدُسُّهُۥ فِي ٱلتُّرَابِۗ أَلَا سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ مَثَلُ ٱلسَّوۡءِۖ وَلِلَّهِ ٱلۡمَثَلُ ٱلۡأَعۡلَىٰۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ (60) وَلَوۡ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلۡمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيۡهَا مِن دَآبَّةٖ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمۡ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗىۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمۡ لَا يَسۡتَـٔۡخِرُونَ سَاعَةٗ وَلَا يَسۡتَقۡدِمُونَ (61) وَيَجۡعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكۡرَهُونَۚ وَتَصِفُ أَلۡسِنَتُهُمُ ٱلۡكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفۡرَطُونَ (62) تَٱللَّهِ لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٖ مِّن قَبۡلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلۡيَوۡمَ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (63) وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ (64) وَٱللَّهُ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَآۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمۡ فِي ٱلۡأَنۡعَٰمِ لَعِبۡرَةٗۖ نُّسۡقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِۦ مِنۢ بَيۡنِ فَرۡثٖ وَدَمٖ لَّبَنًا خَالِصٗا سَآئِغٗا لِّلشَّٰرِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلۡأَعۡنَٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنۡهُ سَكَرٗا وَرِزۡقًا حَسَنًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ (67) وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمۡۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡ لَا يَعۡلَمَ بَعۡدَ عِلۡمٖ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٞ قَدِيرٞ (70) وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِۚ فَمَا ٱلَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزۡقِهِمۡ عَلَىٰ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُهُمۡ فَهُمۡ فِيهِ سَوَآءٌۚ أَفَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَجۡحَدُونَ (71) وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَزۡوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَتِ ٱللَّهِ هُمۡ يَكۡفُرُونَ (72) وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَمۡلِكُ لَهُمۡ رِزۡقٗا مِّنَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ شَيۡـٔٗا وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ (74) ۞ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلًا عَبۡدٗا مَّمۡلُوكٗا لَّا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَمَن رَّزَقۡنَٰهُ مِنَّا رِزۡقًا حَسَنٗا فَهُوَ يُنفِقُ مِنۡهُ سِرّٗا وَجَهۡرًاۖ هَلۡ يَسۡتَوُۥنَۚ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ (75) وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا رَّجُلَيۡنِ أَحَدُهُمَآ أَبۡكَمُ لَا يَقۡدِرُ عَلَىٰ شَيۡءٖ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَيۡنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأۡتِ بِخَيۡرٍ هَلۡ يَسۡتَوِي هُوَ وَمَن يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (76) وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَمَآ أَمۡرُ ٱلسَّاعَةِ إِلَّا كَلَمۡحِ ٱلۡبَصَرِ أَوۡ هُوَ أَقۡرَبُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (77) وَٱللَّهُ أَخۡرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ شَيۡـٔٗا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (78) أَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ مُسَخَّرَٰتٖ فِي جَوِّ ٱلسَّمَآءِ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱللَّهُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ (79) وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُيُوتِكُمۡ سَكَنٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَٰمِ بُيُوتٗا تَسۡتَخِفُّونَهَا يَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَيَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَآ أَثَٰثٗا وَمَتَٰعًا إِلَىٰ حِينٖ (80) وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلَٰلٗا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡجِبَالِ أَكۡنَٰنٗا وَجَعَلَ لَكُمۡ سَرَٰبِيلَ تَقِيكُمُ ٱلۡحَرَّ وَسَرَٰبِيلَ تَقِيكُم بَأۡسَكُمۡۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡلِمُونَ (81) فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ (82) يَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ (83) وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ (84) وَإِذَا رَءَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ٱلۡعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمۡ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ (85) وَإِذَا رَءَا ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ شُرَكَآءَهُمۡ قَالُواْ رَبَّنَا هَٰٓؤُلَآءِ شُرَكَآؤُنَا ٱلَّذِينَ كُنَّا نَدۡعُواْ مِن دُونِكَۖ فَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡهِمُ ٱلۡقَوۡلَ إِنَّكُمۡ لَكَٰذِبُونَ (86) وَأَلۡقَوۡاْ إِلَى ٱللَّهِ يَوۡمَئِذٍ ٱلسَّلَمَۖ وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَفۡتَرُونَ (87) ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ زِدۡنَٰهُمۡ عَذَابٗا فَوۡقَ ٱلۡعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفۡسِدُونَ (88) وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ (89) ۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍۚ إِنَّمَا يَبۡلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ (92) وَلَوۡ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَلَتُسۡـَٔلُنَّ عَمَّا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ فَتَزِلَّ قَدَمُۢ بَعۡدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلسُّوٓءَ بِمَا صَدَدتُّمۡ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَكُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ (94) وَلَا تَشۡتَرُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ ثَمَنٗا قَلِيلًاۚ إِنَّمَا عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ (95) مَا عِندَكُمۡ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٖۗ وَلَنَجۡزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوٓاْ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (96) مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحٗا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةٗ طَيِّبَةٗۖ وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ (98) إِنَّهُۥ لَيۡسَ لَهُۥ سُلۡطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلۡطَٰنُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوۡنَهُۥ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِۦ مُشۡرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلۡنَآ ءَايَةٗ مَّكَانَ ءَايَةٖ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفۡتَرِۭۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ (101) قُلۡ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلۡقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدٗى وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ (102) وَلَقَدۡ نَعۡلَمُ أَنَّهُمۡ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُۥ بَشَرٞۗ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلۡحِدُونَ إِلَيۡهِ أَعۡجَمِيّٞ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيّٞ مُّبِينٌ (103) إِنَّ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَا يَهۡدِيهِمُ ٱللَّهُ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفۡتَرِي ٱلۡكَذِبَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ (105) مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ (106) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (107) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَسَمۡعِهِمۡ وَأَبۡصَٰرِهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡغَٰفِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَٰهَدُواْ وَصَبَرُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ (110) ۞يَوۡمَ تَأۡتِي كُلُّ نَفۡسٖ تُجَٰدِلُ عَن نَّفۡسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ (111) وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ (112) وَلَقَدۡ جَآءَهُمۡ رَسُولٞ مِّنۡهُمۡ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَهُمۡ ظَٰلِمُونَ (113) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَٱشۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ (115) وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ (116) مَتَٰعٞ قَلِيلٞ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (117) وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمۡنَا مَا قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ مِن قَبۡلُۖ وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُوٓاْ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورٞ رَّحِيمٌ (119) إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (120) شَاكِرٗا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٱجۡتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (121) وَءَاتَيۡنَٰهُ فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗۖ وَإِنَّهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ (122) ثُمَّ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَٰهِيمَ حَنِيفٗاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبۡتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ (124) ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ (125) وَإِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِۦۖ وَلَئِن صَبَرۡتُمۡ لَهُوَ خَيۡرٞ لِّلصَّٰبِرِينَ (126) وَٱصۡبِرۡ وَمَا صَبۡرُكَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَلَا تَكُ فِي ضَيۡقٖ مِّمَّا يَمۡكُرُونَ (127) إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ (128)/سورة النحل

 

الايات من (1-4)

غريب الكلمات:

 

بِالرُّوحِ: أي: بِالوَحْيِ، وسُمِّيَ رُوحًا؛ لأنَّه حَياةٌ مِن مَوتِ الكُفرِ، فصار يحيا به النَّاسُ كالرُّوحِ الذي يحيا به الجَسدُ، أو: لأنَّ الوحيَ به حياةُ الأرواحِ

نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: المنيُّ ، وقيل: الماءُ الصَّافي قلَّ أو كَثُر، وقيل: الماءُ القليلُ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ .

خَصِيمٌ: أي: مُخاصِمٌ، جَدِلٌ بِالباطِلِ، وأصلُ (خصم): يدُلُّ على المُنازَعةِ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: قَرُبَ قيامُ السَّاعةِ، وقَضاءُ اللهِ بعَذابِكم- أيُّها الكُفَّارُ- فلا تَستَعجِلوا العذابَ استهزاءً بوعيدِ الرَّسولِ لكم، تنزَّهُ اللهُ عن أن يكونَ له شريكٌ، وعمَّا يَصِفُه به المُشرِكونَ، ينزِّلُ- سُبحانَه- الملائكةَ بالوَحيِ مِن أمْرِه على مَن يشاءُ مِن عبادِه المُصطَفَين للرِّسالةِ: بأنْ أنذِروا- أيُّها الرُّسُلُ- النَّاسَ مِن عاقبةِ الشِّركِ؛ فإنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا أنا، فاتَّقونِ. خلقَ اللهُ السَّمَواتِ والأرضَ بالعدلِ، لا للعبثِ؛ ليُعبدَ وحدَه، تعاظَمَ- سُبحانَه- عن شِركِ المشركين، خَلَق الإنسانَ مِن منيِّ الرجلِ ومنيِّ المرأةِ، فإذا به يصيرُ شَديدَ الخُصومةِ والجدالِ لرَبِّه الذي خلَقَه وسوَّاه!

تفسير الآيات :

 

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1).

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ.

أي: قَرُبَ مجيءُ يومِ القيامةِ بأهوالِه، وقَضاءُ اللهِ بعَذابِكم- أيُّها الكُفَّارُ- فلا تَستعجِلوا ذلك؛ فإنَّه آتٍ لا مَحالةَ

.

كما قال تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 1] .

وقال تبارك وتعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1].

وقال سُبحانه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 53-54] .

وقال عزَّ وجلَّ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [الشورى: 18] .

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان الجَزمُ بالأمورِ المُستقبَلةِ لا يليقُ إلَّا عند نفوذِ الأمرِ، ولا نفوذَ إلَّا لِمن لا كفُؤَ له، وكانت العجَلةُ- وهي الإتيانُ بالشَّيءِ قبلَ حينِه الأَولى به- نقصًا ظاهرًا، وكان التأخيرُ لا يكونُ إلَّا عن مُنازِعٍ مُشارِكٍ- نزَّه نفسَه سُبحانَه تنزيهًا مُطلَقًا جامِعًا، بقَولِه تعالى :

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

أي: تنزَّهَ اللهُ عن أن يكونَ له شريكٌ، وعمَّا يَصِفُه به المُشرِكونَ ممَّا لا يليقُ به تعالى، ومِن ذلك وصفُهم له بعدمِ القدرةِ على بَعثِ الأمواتِ .

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تقَرَّرَ- بما سبَقَ- تنَزُّهُه تعالى عن كلِّ نَقصٍ؛ شِركٍ وغَيرِه- شرَعَ يصِفُ نفسَه سُبحانَه بصفاتِ الكَمالِ مِن الأمرِ والخَلقِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان استِعجالُ المُشرِكينَ بالعذابِ استهزاءً بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتكذيبًا له، وكان ناشِئًا عن عقيدةِ الإشراكِ التي مِن أصولِها استحالةُ إرسالِ الرُّسُلِ مِن البشَرِ، وأُتبِعَ تحقيقُ مَجيءِ العذابِ بتَنزيهِ اللهِ عن الشَّريكِ؛ قفِّيَ ذلك بتبرئةِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- من الكَذِبِ فيما يبَلِّغُه عن رَبِّه، ووصَفَ لهم الإرسالَ وصفًا مُوجَزًا، وهذا اعتراضٌ في أثناءِ الاستدلالِ على التوحيدِ .

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.

أي: يُنزِّلُ اللهُ جبريلَ بالوَحيِ- الذي هو كَلامُه- مِنْ أمْرِه ، على من يَشاءُ مِن عِبادِه الذين اختارهم للنبُوَّةِ .

كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] .

وقال سُبحانه: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ [غافر: 15] .

وقال تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى: 52] .

أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.

أي: بأن أنذِروا- أيُّها الرُّسُلُ- الناسَ عذابي إن أشرَكوا بي؛ فإنَّه لا يستحِقُّ العبادةَ غَيري، فاحذَروني- أيُّها النَّاسُ- بإخلاصِ العبادةِ لي، وامتثالِ أوامِري، واجتنابِ نواهِيَّ؛ لتَنْجوا مِن عذابي .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وحَّد اللهُ تعالى نفسَه، دلَّ على وحدانيَّتِه، وأنَّه لا إلهَ إلَّا هو، بما ذكَرَ مِمَّا لا يَقدِرُ عليه غيرُه، مِن خَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، وإيجادِه أصولَ العالَمِ وفروعَه على وجهِ الحِكمةِ فقال:

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.

أي: خَلقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ بالعَدلِ، ولم يخلُقْهنَّ عَبثًا؛ وذلك ليُعبَدَ وَحدَه، ولِيَعلمَ النَّاسُ عَظَمةَ خالِقها، ويَعلَموا قُدرتَه على إعادةِ خَلقِه يومَ القيامةِ الذي يُجازي فيه كلَّ عاملٍ بحسَبِ عَمَلِه .

تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه المُستقِلُّ بالخَلقِ وَحدَه لا شريكَ له، وكان لذلك يستحِقُّ أن يُعبَدَ وَحدَه لا شريكَ له، ولا يصِحُّ أن يُعبَدَ معه مَن لا يَقدِرُ على شَيءٍ؛ لهذا أتبَعَ قَولَه: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بقولِه :

تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.

أي: تعاظَمَ اللهُ عن شِركِ المُشرِكينَ، وترفَّعَ أن يكونَ له شَريكٌ؛ فهو المُنفَرِدُ بالخَلقِ، المُستحِقُّ وَحدَه لعبادةِ خَلقِه؛ فلا يكونُ إلهًا إلَّا مَن يخلُقُ بقُدرتِه مثلَ السَّمواتِ والأرضِ، فيُحدِثُها مِن غيرِ شَيءٍ، على غيرِ مثالٍ سابقٍ، وليس ذلك في قُدرةِ أحدٍ سوى اللهِ الواحِدِ .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما دلَّ على وحدانيَّتِه مِن خَلقِ العالَمِ العُلويِّ والأرضِ- وهو استدلالٌ بالخارجِ- ذكَرَ الاستدلالَ مِن نَفسِ الإنسانِ، فذكَرَ إنشاءَه مِن نُطفةٍ، فإذا هو خَصيمٌ مُبينٌ، وكان حَقُّه والواجِبُ عليه أن يُطيعَ وينقادَ لأمرِ اللهِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الدَّليلَ على توحيدِه؛ ذكَرَ بعده الإنسانَ ومُناكَدتَه وتَعدِّيَ طَورِه .

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ.

أي: خلقَ اللهُ الإنسانَ مِن منيِّ الرَّجُلِ ومَنيِّ المرأةِ .

كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم: 45-46] .

وقال سُبحانه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ [الإنسان: 2] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات: 20-23] .

وقال جلَّ جلالُه: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 17- 19] .

وقال تبارك وتعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق: 5-7] .

فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ.

أي: فإذا بهذا الإنسانِ- الذي خلَقَه اللهُ مِن نُطفةٍ- يُصبِحُ مُخاصِمًا ظاهِرَ الخُصومةِ، يُبِينُ عن خُصومتِه بمَنطِقِه، فيُخاصِمُ خُصومةً شديدةً في قُدرةِ اللهِ على البعثِ وغَيرِه، ويُكَذِّبُ بالحقِّ، ولا يشكُرُ رَبَّه على نِعَمِه !

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 77- 78] .

وقال سُبحانه: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 66-67] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان: 54-55] .

وعن بُسرِ بنِ جِحاشٍ القُرَشيِّ رَضِيَ الله عنه، ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزَقَ يومًا في كَفِّه، فوضع عليها أُصبُعَه، ثمَّ قال: قال الله: ابنَ آدمَ، أنَّى تُعجِزُني، وقد خلقتُك مِن مِثلِ هذه؟! حتى إذا سَوَّيتُك وعَدَّلتُك، مَشَيتَ بين بُردَينِ وللأرضِ مِنك وَئيدٌ ، فجَمَعْتَ ومَنَعْتَ، حتى إذا بلَغَتِ التَّراقيَ، قلتَ: أتصَدَّقُ! وأنَّى أوانُ الصَّدَقةِ؟!) )

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ سمَّى ذلك رُوحًا؛ لِما يحصُلُ به من الحياةِ النَّافِعةِ، فإنَّ الحياةَ بدُونِه لا تنفَعُ صاحِبَها البتَّةَ، بل حياةُ الحيوانِ البَهيمِ خَيرٌ منها، وأسلَمُ عاقِبةً

.

2- قال الله تعالى: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ قد أحاطت جملةُ: أَنْ أَنْذِرُوا إلى قَولِه تعالى: فَاتَّقُونِ بالشَّريعةِ كُلِّها؛ لأنَّ جُملةَ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا تنبيهٌ على ما يَرجِعُ مِن الشَّريعةِ إلى إصلاحِ الاعتقادِ، وهو الأمرُ بكمالِ القُوَّةِ العقليَّةِ، وجملةُ: فَاتَّقُونِ تنبيهٌ على الاجتنابِ والامتثالِ اللَّذينِ هما مُنتهى كمالِ القُوَّةِ العَمَليَّةِ .

3- في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ حثٌّ على استشعارِ التذللِ والتواضعِ، إذ مَن كان خَلْقُه مِن نطفةٍ ضعيفةٍ؛ فإعدادُه نفسَه في عِدَادِ الخُصَماءِ جَهْلٌ به، وإغفالٌ لمراعاة ما خُلِقَ منه .

4- في قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ دليلٌ على أنَّ التكبرَ مُتولِّدٌ في الإنسان مِن قِلَّةِ معرفتِه بنفسِه، وفِكْرِهِ فيما خُلِقَ منه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- لفظُ (الأمر) يرادُ به المصدَرُ والمفعولُ؛ فالمفعولُ مخلوقٌ، كما قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وقال: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38] ، فهنا المرادُ به: المأمورُ به، ليس المرادُ به أمْرَه الذي هو كلامُه، وأمَّا في قَولِه: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ [الطلاق: 5] فأمْرُه كلامُه؛ إذ لم يُنزِلْ إلينا الأفعالَ التي أمَرَنا بها، وإنما أنزَلَ القرآنَ، وهذا كقَولِه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] فهذا الأمرُ هو كلامُه

.

2- قولُ الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ يدلُّ على أنَّ نُزولَ الوَحيِ بواسطةِ الملائكةِ، وأنَّ النبُوَّةَ عَطاؤُه تعالى ، فالنبوَّةُ عطائيَّةٌ لا كَسْبيَّةٌ .

3- قال الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ هذه الآيةُ وأمثالُها رَدٌّ على الكُفَّارِ في قَولِهم: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] .

4- قال اللهُ تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ هذه الآيةُ أوَّلُ ما عَدَّدَ اللهُ على عبادِه مِن النِّعَمِ في سورةِ النِّعَمِ، التي تسمَّى سورةَ النَّحلِ .

5- قَولُ الله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ حَسُنَت النِّذارةُ هنا- وإن لم يكُنْ في اللَّفظِ ما فيه خَوفٌ- مِن حيثُ كان المُنذَرونَ كافِرينَ بألوهيَّتِه؛ ففي ضِمنِ أمْرِهم مكانُ خَوفٍ، وفي ضِمنِ الإخبارِ بالوحدانيَّةِ نَهيٌ عمَّا كانوا عليه، ووعيدٌ وتحذيرٌ مِن عبادةِ الأوثانِ .

6- قال الله تعالى: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ سبَّبَ عن وحدانيَّتِه- التي هي مُنتهَى كمالِ القُوَّةِ العِلميَّةِ- قَولَه آمِرًا بما هو أقصَى كمالِ القُوَّةِ العَمَليَّةِ: فَاتَّقُونِ .

7- قَولُ الله تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ الاستدلالُ بخَلقِ السَّمواتِ والأرضِ أكبَرُ مِن سائرِ الأدلَّةِ وأجمَعُ؛ لأنَّها مُحتَويةٌ لهما، ولأنَّهما من أعظَمِ الموجوداتِ؛ فلذلك ابتُدئ بهما

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ

- قولُه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ لمَّا كان مُعظَمُ أغراضِ هذه السُّورةِ زَجرَ المُشركينَ عن الإشراكِ وتوابِعِه، وإنذارَهم بسُوءِ عاقبةِ ذلك؛ صُدِّرَت السُّورةُ بالوعيدِ المَصوغِ في صُورةِ الخبَرِ بأنْ قد حَلَّ ذلك المُتَوعَّدُ به؛ فجِيءَ بالماضي أَتَى المُرادِ به المُستقبَلُ المُحقَّقُ الوُقوعُ، بقَرينةِ تَفريعِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ؛ لأنَّ النَّهيَ عنِ استعجالِ حُلولِ ذلك اليومِ يَقْتضي أنَّه لَمَّا يحِلَّ بعدُ، وإتيانُه عبارةٌ عن دُنُوِّه واقترابِه، على طريقةِ نَظمِ المُتوقَّعِ في سِلكِ الواقعِ، أو عن إتيانِ مَباديه القريبةِ، على نَهجِ إسنادِ حالِ الأسبابِ إلى المُسبِّباتِ، وفيه تَنبيهٌ على كَمالِ قُربِه مِن الوُقوعِ واتِّصالِه، وتَكميلٌ لحُسنِ مَوقعِ التَّفريعِ في قولِه عَزَّ وجَلَّ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ؛ فإنَّ النَّهيَ عن استعجالِ الشَّيءِ وإنْ صَحَّ تَفريعُه على قُربِ وُقوعِه، أو على وُقوعِ أسبابِه القريبةِ، لكنَّه ليس بمَثابةِ تَفريعِه على وُقوعِه؛ إذ بالوُقوعِ يَستحيلُ الاستعجالُ رأسًا، لا بما ذُكِرَ مِن قُربِ وُقوعِه، ووُقوعِ مَباديه

.

- قولُه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ وعُبِّرَ عن ذلك بأمْرِ اللهِ؛ للتَّفخيمِ والتَّهويلِ؛ ففي التَّعبيرِ عنه بأمْرِ اللهِ إبهامٌ يُفيدُ تَهويلَه وعَظَمتَه؛ لإضافتِه لمَن لا يعظُمُ عليه شَيءٌ، وللإيذانِ بأنَّ تَحقُّقَه في نفْسِه وإتيانَه مَنوطٌ بحُكمِه النَّافذِ وقَضائِه الغالبِ .

- وجُملةُ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ تَفريعٌ على أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وهي مِن المقصودِ بالإنذارِ، والمُرادُ مِن النَّهيِ هنا معنى دقيقٌ لم يَذكُروه في مَواردِ صِيَغِ النَّهيِ، ويجدُرُ أنْ يكونَ للتَّسويةِ، كما تَرِدُ صِيغةُ الأمْرِ للتَّسويةِ، أي: لا جَدْوى في استعجالِه؛ لأنَّه لا يُعَجَّلُ قبلَ وَقتِه المُؤجَّلِ له .

- وجُملةُ: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لأنَّها المقصودُ مِن الوعيدِ؛ إذ الوعيدُ والزَّجرُ إنَّما كانا لأجلِ إبطالِ الإشراكِ، فكانت جُملةُ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ كالمُقدِّمةِ، وجُملةُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ كالمَقصدِ .

- وعُبِّرَ بالاستقبالِ يُشْرِكُونَ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ إشراكِهم واستمرارِه .

- وقولُه أيضًا: يُشْرِكُونَ- على قِراءةِ الجُمهورِ بالتَّحتيَّةِ- على طريقةِ الالْتفاتِ، فعدَلَ عن الخِطابِ إلى الغَيبة؛ للإيذانِ باقتضاءِ ذِكرِ قبائِحِهم للإعراضِ عنهم، وطَرحِهم عن رُتبةِ الخطابِ، وحكايةِ شنائِعِهم لغيرِهم، وعلى تَقديرِ تَخصيصِ الخطابِ بالمُؤمنينَ تَفوتُ هذه النُّكتةُ .

- واتَّصلَ قولُه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ باستعجالِهم؛ لأنَّ استعجالَهم استهزاءٌ وتكذيبٌ، وذلك مِن الشِّركِ .

2- قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ

- قولُه: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ فيه إيثارُ صِيغَةِ الاستقبالِ يُنَزِّلُ؛ للإشعارِ بأنَّ ذلك عادةٌ مُستمرَّةٌ له سُبحانَه .

- قولُه: مِنْ أَمْرِهِ وَجهُ إضافةِ الأمرِ إلى اللهِ تَعالى: أنَّ مَعنى مِنْ أَمْرِهِ الجنسُ، أي: مِن أُمورِه، وهي شُؤونُه ومُقدَّراتُه الَّتي استأثَرَ بها؛ لِمَا تفيدُه الإضافةُ مِن التَّخصيصِ .

- قولُه: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ لمَّا كان الوحيُ به هَدْيُ العُقولِ إلى الحقِّ؛ فشُبِّهَ الوحيُ بالرُّوحِ كما يُشَبَّهُ العِلمُ الحقُّ بالحياةِ، وكما يُشَبَّهُ الجهلُ بالموتِ، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122] .

- قولُه: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ لمَّا كان هذا الخبَرُ مَسوقًا للَّذين اتَّخذوا مع اللهِ آلهةً أُخرى، وكان ذلك ضلالًا يَستحِقُّون عليه العِقابَ؛ جعَلَ إخبارَهم بضِدِّ اعتقادِهم، وتحذيرَهم ممَّا هم فيه إنذارًا، وفرَّعَ عليه فَاتَّقُونِ .

- قولُه: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا الضَّميرُ في أَنَّهُ للشَّأنِ، ومدارُ وَضعِه مَوضعَه ادِّعاءُ شُهرتِه المُغْنيةِ عن التَّصريحِ به، وفائدةُ تَصديرِ الجُملةِ به: الإيذانُ مِن أوَّلِ الأمرِ بفَخامةِ مَضمونِها، معَ ما فيه مِن زيادةِ تَقريرٍ له في الذِّهنِ؛ فإنَّ الضَّميرَ لا يُفْهَمُ منه ابتداءً إلَّا شأنٌ مُبْهَمٌ، له خطرٌ، فيَبْقَى الذِّهنُ مُترقِّبًا لِمَا يعقُبُه؛ فيتمكَّنُ لديه عندَ وُرودِه فضْلَ تمكُّنٍ .

- وقولُه أيضًا: فَاتَّقُونِ خِطابٌ للمُستعجلينَ على طريقةِ الالْتفاتِ .

3- قوله تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشِئٌ عن قولِه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ لأنَّهم إذا سَمِعوا ذلك تَرقَّبوا دليلَ تَنزيهِ اللهِ عن أنْ يكونَ له شُركاءُ، فابتدِئَ بالدَّلالةِ على اختصاصِه بالخلْقِ والتَّقديرِ، وأعقَبَ قولَه: سُبْحَانَهُ بقولِه: وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ تحقيقًا لنتيجةِ الدَّليلِ، كما يُذْكَرُ المطلوبُ قبلَ ذِكْرِ القياسِ- في صِناعةِ المَنطقِ- ثمَّ يُذْكَرُ ذلك المطلوبُ عَقِبَ القياسِ في صُورةِ النَّتيجةِ؛ تحقيقًا للوَحدانيَّةِ .

4- قولُه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ استئنافٌ بَيانيٌّ أيضًا، وهو استدلالٌ آخرُ على انفرادِه تَعالى بالإلهيَّةِ ووَحدانيَّتِه فيها، وتَعريفُ الْإِنْسَانَ للعهدِ الذِّهنيِّ، وهو تعريفُ الجنسِ، أي: خلَقَ الجنسَ المعلومَ الَّذي تَدْعونه بالإنسانِ .

- قولُه: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ الفاءُ تدُلُّ على التَّعقيبِ، وكونُه خَصيمًا مُبينًا لا يكونُ عَقِبَ خلْقِه مِن نُطفةٍ، ولكنَّه إشارةٌ إلى ما تَؤولُ إليه حالُه .

- والتعبير بحرفِ المُفاجأةِ (إِذَا) جعَلَ الكلامَ مُفهِمًا أمرينِ، هما: التَّعجُّبُ مِن تطوُّرِ الإنسانِ مِن أمْهنِ حالةٍ إلى أبدَعِ حالةٍ، وهي حالةُ الخُصومةِ والإبانةِ النَّاشئتَينِ عن التَّفكيرِ والتَّعقُّلِ، والدَّلالةُ على كُفرانِه النِّعمةَ وصَرفِه ما أنعَمَ به عليه في عِصيانِ المُنعِمِ عليه؛ فالجُملةُ في حَدِّ ذاتِها تَنويهٌ، وبضَمِيمةِ حَرفِ المُفاجأةِ أدْمَجَت مع التَّنويهِ التَّعجيبَ، ولو قيل: (فهو خصيمٌ) أو (فكان خصيمًا)، لمْ يحصُلْ هذا المعنى البليغُ

=====================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (5-9)

ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ

غريب الكلمات :

 

تُرِيحُونَ: أي: تَرُدُّونَها بالعَشِيِّ مِن مراعيها إلى مَبارِكِها التي تأوي إليها؛ ومنه الرَّواحُ؛ رَواحُ العَشِيِّ: وهو مِن الزَّوالِ إلى اللَّيلِ، وأصلُ (روح): يدُلُّ على سَعةٍ وفُسحةٍ واطِّرادٍ

.

تَسْرَحُونَ: أي: تُخرِجُونَها بالغداةِ إلى مَراعِيها، وأصلُ (سرح): يدُلُّ على انطِلاقٍ .

بِشِقِّ الْأَنْفُسِ: أي: بمشقَّتِها، والشِّقُّ: المشقَّةُ، والانكسارُ الذي يلحقُ النَّفسَ، والبدنَ، وأصلُ (شقق) يدُلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ .

لَرَءُوفٌ: أي: شديدُ الرَّحمةِ، والرؤوفُ: ذو الرأفةِ، والرأفةُ أعلَى معاني الرحمةِ وأرقُّها، وأصلُ (رأف): يدُلُّ على رِقَّةٍ ورحمةٍ .

قَصْدُ السَّبِيلِ: أي: الطَّريقُ القاصِدُ المُستقيمُ الذي لا اعوِجاجَ فيه؛ يقال: طَريقٌ قَصدٌ وقاصِدٌ: إذا أدَّاك إلى مَطلوبِك، وقصَدَ بك ما تريدُ، وأصلُ (قصد): يدُلُّ على إتيانِ شَيءٍ وأَمِّه .

جَائِرٌ: أي: عادِلٌ عن القَصدِ مائِلٌ، وأصلُ (جور): يدلُّ على مَيلٍ عن الطَّريقِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً

وَالْخَيْلَ: معطوفٌ مَنصوبٌ على (الأنعام) في قَولِه تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا، أي: وخلقَ الخيلَ. لِتَرْكَبُوهَا: منصوبٌ بأن مُضمَرة، والمصدرُ المؤوَّلُ مجرورٌ باللامِ متعلِّقٌ بالفعلِ (خلق) المقَدَّر، وَزِينَةً: مفعولٌ لأجلِه مَنصوبٌ، وهو مَعطوفٌ على محلِّ المصدَرِ المؤوَّلِ، أي: للرُّكوبِ وللزِّينةِ

. وقيل: وَزِينَةً منصوبٌ على إضمارِ فِعلٍ، والتَّقديرُ: وجعَلَها زينةً. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: والإبِلَ والبَقَرَ والغَنَمَ خلَقَها اللهُ لكم- أيُّها النَّاسُ- وجعَلَ لكم فيها دِفئًا مِن البَردِ؛ من الثيابِ المأخوذةِ من أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها، ومنافِعَ أُخَرَ من نسلِها وألبانِها ورُكوبِها وبَيعِها وغيرِ ذلك، ومِن لحومِها تأكلونَ، ولكم فيها زينةٌ تجلِبُ السُّرورَ لكم عندما تَرجِعونَها إلى مَنازِلِها في المَساءِ، وعندما تُخرِجونَها في الصَّباحِ إلى المراعي، وتحمِلُكم هذه الأنعامُ وأمتِعتَكم في سَفَرِكم إلى بلادٍ بعيدةٍ، لم تكونوا مُستَطيعينَ الوُصولَ إليها إلَّا بجَهدٍ شَديدٍ ومشَقَّةٍ بالغةٍ؛ إنَّ رَبَّكم لَرؤوفٌ رَحيمٌ بكم؛ حيث سخَّر لكم هذه الأنعامَ، وخلق اللهُ لكم أيضًا الخَيلَ والبِغالَ والحَميرَ؛ لكي تَركَبوها، وجعَلَها اللهُ لكم زينةً، ويخلُقُ لكم ما لا عِلْمَ لكم به، وإلى اللهِ ينتهي الطَّريقُ المُستَقيمُ فيُوصِلُ إليه- سُبحانَه- وإلى مَرضاتِه، ومِن الطُّرُقِ ما هو مائِلٌ مُعْوَجٌّ لا يُوصِلُ إلى اللهِ، ولو شاء اللهُ هدايتَكم لهداكم جميعًا للإيمانِ.

تفسير الآيات:

 

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى خلْقَ الإنسانِ؛ ذكرَ ما امتَنَّ به عليه في قِوامِ مَعيشتِه، فذكرَ أوَّلًا أكثَرَها منافِعَ، وألزَمَ لِمَن أُنزِلَ القرآنُ بلُغتِهم، وذلك: الأنعامُ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا صار التَّوحيدُ بذلك كالشَّمسِ، وكان كلُّ ما في الكونِ- مع أنَّه دالٌّ على الوحدانيَّةِ- نِعمةً على الإنسانِ يجِبُ عليه شُكرُها؛ شرعَ يعَدِّدُ ذلك تنبيهًا له على وُجوبِ الشُّكرِ بالتبَرُّؤِ من الكُفرِ، فقال مُقَدِّمًا الحيواناتِ؛ لأنَّها أشرَفُ مِن غَيرِها، وقدَّمَ منها ما ينفَعُ الإنسانَ؛ لأنَّه أجلُّ مِن غَيرِه، مُبتَدِئًا بما هو أَولاها بالذِّكرِ؛ لأنَّه أجَلُّها منفعةً في ضروراتِ المَعيشةِ، وألزَمُها لِمَن أُنزِلَ الذِّكرُ بلِسانِهم .

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا.

أي: وخلَقَ اللهُ الإبِلَ والبقَرَ والغنَمَ، فسخَّرها لِمصالِحكم أيُّها النَّاسُ .

لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان أوَّلَ ما يُمكِنُ أن يَلقَى الإنسانُ عادةً مِن نِعَمِها اللِّباسُ؛ بدأ به، فقال تعالى :

لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ.

أي: لكم- أيُّها النَّاسُ- في أصوافِ الأنعامِ وأوبارِها وأشعارِها مَلابِسُ وفُرُشٌ، وأغطيةٌ وأبنيةٌ تُدَفِّئُكم من البَردِ، ولكم فيها فوائِدُ كثيرةٌ مِن نَسلِها وألبانِها ودُهونِها، وبالحَرثِ بها، والسَّقيِ عليها، ورُكوبِها وبَيعِها، وغيرِ ذلك مِن مَنافِعِها .

كما قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل: 80].

وقال سُبحانه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 21-22] .

وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ.

أي: ومِن لُحومِ الأنعامِ تأكُلونَ .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 71 - 73] .

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6).

أي: ولكم- أيُّها النَّاسُ- في الأنعامِ حُسْنٌ وجَمالٌ يَجلِبُ لكم السُّرورَ والسَّعادةَ، وذلك حين تَرجِعونَها مَساءً مِن المَرعَى إلى مَنازِلِها، وحين تَذهَبونَ بها صَباحًا إلى مَراعيها .

كما قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46] .

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7).

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.

أي: وتَحمِلُ الأنعامُ أبدانَكم وأمتِعتَكم في أسفارِكم مِن بلدٍ إلى آخَرَ لم تكونوا واصِلينَ إليه- مِن دُونِ الأنعامِ- إلَّا بجَهدٍ شَديدٍ مِن أنفُسِكم، ومَشقَّةٍ كبيرةٍ .

كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر: 79-80] .

إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.

أي: إنَّ ربَّكم- الذي خلقَ الأنعامَ، وسخَّرها لِمَصالِحكم- لَذو رأفةٍ ورَحمةٍ بكم .

كما قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف: 12-13] .

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى منافِعَ الحَيواناتِ التي ينتَفِعُ الإنسانُ بها في المنافِعِ الضَّروريَّةِ والحاجاتِ الأصليَّةِ؛ ذكَرَ بعدَه منافِعَ الحيواناتِ التي ينتَفِعُ بها الإنسانُ في المنافِعِ التي ليست بضروريَّةٍ .

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً.

أي: وخلَقَ اللهُ لكم- أيُّها النَّاسُ- الخَيلَ والبِغالَ والحَميرَ؛ لِتَركبوا على ظُهورِها، وجعَلَها اللهُ زينةً لكم .

وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

أي: ويَخلقُ ما لا يُحيطُ عِلمُكم به مِن المخلوقاتِ، غيرَ ما أخبَرَكم به، وعدَّدَه لكم .

كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 36] .

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى من الحيواناتِ ما يُسارُ عليه في السُّبُلِ الحِسِّيَّة، نبَّه على الطُّرُقِ المعنويَّةِ الدِّينيَّةِ، وكثيرًا ما يقَعُ في القرآنِ العُبورُ مِن الأمورِ الحسِّيَّةِ إلى الأمورِ المعنويَّةِ النَّافعةِ الدِّينيَّةِ، فلَمَّا ذكَر في هذه السُّورةِ الحيواناتِ مِن الأنعامِ وغَيرِها، التي يركبونَها، ويَبلُغونَ عليها حاجةً في صُدورِهم، وتحمِلُ أثقالَهم إلى البلادِ، والأماكنِ البَعيدةِ، والأسفارِ الشَّاقَّةِ؛ شرعَ في ذِكرِ الطُّرُقِ التي يَسلُكُها النَّاسُ إليه .

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ.

أي: وإلى اللهِ ينتهي طريقُ الحَقِّ المُستَقيمُ، فيُوصِلُ مَن سلَكه إلى اللهِ، ونَيلِ رِضاه وجَنَّتِه .

كما قال تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56] .

وقال سبحانه: قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى [الليل: 12] .

وعن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((خَطَّ لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطًّا ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ؛ ثم خَطَّ خُطوطًا عن يمينِه وعن شِمالِه؛ ثم قال: هذه سُبُلٌ- قال يَزيدُ هو ابنُ هارونَ أحدُ رواةِ الحديثِ: مُتَفَرِّقةٌ- على كُلِّ سبيلٍ منها شَيطانٌ يدعو إليه، ثمَّ قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] )) .

وَمِنْهَا جَائِرٌ.

أي: ومِن الطُّرُقِ المَسلوكةِ طُرُقٌ مُعوَجَّةٌ، غيرُ مُستقيمةٍ، لا تُوصِلُ سالِكَها إلى اللهِ، ونَيلِ رِضاه وجَنَّتِه .

وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان أكثَرُ الخَلقِ ضَالًّا، كان ربَّما توهَّمَ مُتوَهِّمٌ أنَّه خارِجٌ عن الإرادةِ، فنفَى هذا التوهُّمَ بقَولِه- عَطفًا على ما تقديرُه: فمَن شاء هَداه قَصْدَ السَّبيلِ، ومن شاء أسلَكَه الجائِرَ، وهو قادِرٌ على ما يُريدُ مِن الهدايةِ والإضلالِ .

وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ.

أي: ولو شاء اللهُ لَهَداكم جميعًا- أيُّها النَّاسُ- إلى سُلوكِ الطَّريقِ المُستَقيمةِ، ولكِن اقتَضَت حِكمتُه أن يهديَ مَن يشاءُ بفَضلِه، ويُضِلَّ مَن يشاءُ بعَدلِه

 

.

كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [يونس: 99- 100] .

وقال سُبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118-119] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .

الفوائد التربوية:

 

 

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ عبَّرَ عن نَسلِها ودَرِّها بلَفظِ المَنفعةِ، وهو اللَّفظُ الدَّالُّ على الوَصفِ الأعَمِّ؛ لأنَّ النَّسلَ والدَّرَّ قد يُنتفَعُ به في الأكلِ، وقد يُنتفَعُ به في البَيعِ بالنُّقودِ، وقد يُنتفَعُ به بأن يُبدَّلَ بالثِّيابِ وسائرِ الضَّروريَّاتِ، فعبَّرَ عن جُملةِ هذه الأقسامِ بلَفظِ المَنافِعِ؛ ليتناولَ الكُلَّ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ناسبَ الامتنانَ بهذه النِّعمةِ- مِن حَملِها الأثقالَ- الخَتمُ بصِفةِ الرَّأفةِ والرَّحمةِ؛ لأنَّ مِن رأفتِه تَيسيرَ هذه المصالحِ، وتَسخيرَ الأنعامِ لكم .

3- قولُ اللهِ تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ فيه دليلٌ على جوازِ السَّفرِ بالدَّوابِّ وحملِ الأثقالِ عليها، ولكنْ على قدرِ ما تحتملُه مِن غيرِ إسرافٍ في الحملِ معَ الرِّفقِ في السَّيرِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ فيه دليلٌ على جوازِ الحَملِ على البَقَرِ ورُكوبِها ، على اعتبارِ أنَّ الضميرَ يعودُ على الإبلِ والبقرِ.

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً فيه دليلٌ على أنَّ أفعالَ اللهِ تعالى مُعلَّلةٌ بالمَصالحِ والِحكَم؛ فظاهِرُ هذه الآيةِ يقتضي أنَّ هذه الحَيواناتِ مَخلوقةٌ لأجلِ المَنفعةِ المَذكورةِ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ قرنَ الخيلَ بالبِغالِ والحَميرِ، وأخذ المالكيَّةُ من الاقترانِ المذكورِ ردًّا على الحنفيَّةِ في قَولِهم بوُجوبِ الزَّكاةِ فيها .

7- في قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً دليلٌ على جوازِ طَلَبِ العبدِ للجمالِ والزينةِ- إذا جُرِّدَ صاحبُها مِن الفخر والخيلاء؛ وأراد بهما إظهارَ نعمةِ اللهِ عليه- وأنَّه ليس بمؤَثِّرٍ في نُسكِ الناسكِ؛ وليس مِن الدنيا المذمومةِ؛ فقد جعلَه سبحانه في عِدَادِ النعمةِ على خَلْقِه .

8- في قولِه تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وقولِه سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29] دليلٌ على أنَّه يجوزُ لنا أنْ ننتفِعَ بالبهائمِ بجميعِ وجوهِ الانتفاعِ .

9- قال الله تعالى عن الأنعام: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وقال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً، فلم يَذكُرِ الأكلَ؛ لأنَّ البِغالَ والحُمُرَ مُحَرَّمٌ أكلُها، والخيلَ لا تُستعمَلُ- في الغالبِ- للأكلِ، فلم يذكُرْ مِن منافعِ الخيلِ الأكلَ معَ أنَّه جائزٌ أكلُه، فقد ثبَت في الصَّحيحَينِ : ((أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم أذِنَ في لُحومِ الخَيلِ ))، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّه لا ينبغي أنْ تُجْعَلَ الخيلُ للأكلِ، وإنما تُجْعَلُ للركوبِ، وللزينةِ، وللجهادِ في سبيلِ اللهِ، أمّا الأكلُ فهناك ما يكفي عنها - وهي الأنعامُ -، فالإبلُ أكبرُ منها أجسامًا، وأكثرُ منها لحومًا، والبقرُ، والغنمُ، ولأنها لو اتُّخِذَتْ للأكلِ لَفَنِيَتْ، وبَطَلَ الانتفاعُ بها في الجهادِ في سبيلِ اللهِ، فهذه هي الحكمةُ- واللهُ أعلمُ- في أنها قُرِنَتْ بالبغالِ والحَميرِ .

10- قولُه تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ يُوحي بأنَّ هناك أشياءَ ستحدُثُ- لا نعْلَمُها- تُرْكَبُ، وهذا هو الواقعُ

 

، وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ

- قولُه: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا يجوزُ أنْ يُعْطَفَ الْأَنْعَامَ عطْفَ المُفرَدِ على المُفرَدِ عطفًا على الْإِنْسَانَ؛ فيحصُلُ اعتبارٌ بهذا التَّكوينِ العجيبِ لِشَبَهِه بتكوينِ الإنسانِ، وتكونُ جُملةُ خَلَقَهَا بمُتعلِّقاتِها مُستأنَفةً؛ فيحصُلُ بذلك الامتنانُ. ويجوزُ أنْ يكونَ عطْفَ الجُملةِ على الجُملةِ، فيكونُ الكلامُ مُفيدًا للتَّأكيدِ؛ لقَصدِ تَقويةِ الحكمِ؛ اهتمامًا بما في الأنعامِ من الفوائدِ؛ فيكونُ امتنانًا على المُخاطَبينَ، وتعريضًا بهم

.

- قولُه: لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ الخِطابُ صالحٌ لشُمولِ المُشركينَ، وهم المقصودُ ابتداءً مِن الاستدلالِ، وأنْ يشمَلَ جميعَ النَّاسِ، ولا سيَّما فيما تضمَّنَه الكلامُ من الامتنانِ، وفيه الْتفاتٌ من طَريقِ الغَيبةِ الَّذي في قولِه تعالى: عَمَّا يُشْرِكُونَ باعتبارِ بعضِ المُخاطَبينَ .

- وفي قولِه: لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ التَّعبيرُ بـ (مَنَافِعُ) عن دَرِّ الأنعامِ ورُكوبِها وحَملِها والحراثةِ بها وغيرِ ذلك؛ ليتناوَلَ الكلَّ مع أنَّه الأنسبُ بمَقامِ الامتنانِ بالنِّعمِ. وتَقديمُ الدِّفْءِ على المنافعِ؛ لرعايةِ أُسلوبِ التَّرقِّي إلى الأعلى .

- وقدَّم الملبوسَ على المطعومِ؛ لأنَّ الملبوسَ أكثَرُ بقاءً مِن المطعومِ؛ فلهذا قَدَّمَه عليه في الذِّكرِ .

- وخصَّ الدِّفْء بالذِّكرِ مِن بينِ عُمومِ المنافعِ؛ للعِنايةِ به ، وأفرَد منفعةَ الأكلِ بالذكرِ؛ لأنَّها معظمُ المنافعِ ، فمَنفعةٌ الأكلِ ومنفعةُ الدِّفءِ مِن أعظَمِ المَنافِعِ .

- قولُه: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ فيه: تقديمُ الظَّرفِ، وهو مُؤذِنٌ بالاختصاصِ، وقد يُؤْكَلُ مِن غيرِها؛ إلَّا أنَّ الأكلَ منها هو الأصلُ الَّذي يعتمِدُه النَّاسُ في معايشِهم، وأمَّا الأكلُ مِن غيرِها، فكغيرِ المُعتدِّ به، وكالجاري مَجْرى التَّفكُّهِ. ويحتملُ أنَّ طُعمتَكم منها؛ لأنَّكم تَحرُثون بالبقرِ، فالحبُّ والثِّمارُ الَّتي تَأكُلونها منها، وتكتسِبونَ بإكراءِ الإبلِ، وتَبيعونَ نِتاجَها وألبانَها وجُلودَها . وقيل: تَقديمُ المجرورِ في قولِه تعالى: وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ للاهتمامِ؛ لأنَّهم شَديدو الرَّغبةِ في أكلِ اللُّحومِ، وللرِّعايةِ على الفاصلةِ .

- والإتيانُ بالمُضارِعِ تَأْكُلُونَ؛ لأنَّ ذلك مِن الأعمالِ المُتكرِّرةِ .

2- قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ

- قوله: حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ خَصَّ هذَينِ الوَقتينِ؛ لأنَّ وجهَ التجمُّلِ بها: أنَّ الرَّاعيَ إذا روَّحَها بالعَشيِّ، وسَرَّحها بالغَداةِ تزيَّنَت عند تِلكَ الإراحةِ والتَّسريحِ الأفنيةُ، وتجاوَبَ فيها الثُّغاءُ والرُّغاءُ ، وفَرِحَت أَربابُها، وعظُمَ وقعُهم عند الناسِ؛ بسَبب كونِهم مالكينَ لها، ولأنَّ هذَينِ الوَقتينِ هما وقتُ نَظَرِ النَّاظِرينَ إليها؛ لأنَّها عند استقرارِها في الحظائِرِ لا يَراها أحَدٌ، وعند كَونِها في مَراعيها هي متفَرِّقةٌ غيرُ مُجتَمِعةٍ؛ كُلُّ واحدٍ منها يَرعَى في جانبٍ .

- وقُدِّمَت الإراحةُ على التَّسريحِ لوجوهٍ:

منها: أنَّ الجَمالَ في الإراحةِ أكثَرُ؛ لأنَّها تُقبِلُ وقد نالت حاجتَها من الأكلِ والشُّربِ، مَلأى البُطونِ، حافلةَ الضُّروعِ، أعظمُ ما تكونُ أسنمةً، مَرِحةً بمسَرَّةِ الشِّبَع، ومَحبَّةِ الرُّجوعِ إلى منازلِها مِن معاطِنَ ومَرابِضَ، ثم اجتَمَعت في الحظائِرِ حاضِرةً لأهلِها، قد توفَّر حسنُها، وعظُم شأنُها، وتعلَّقت القلوبُ بها؛ بخلافِ التَّسريحِ؛ فإنَّها عند خُروجِها إلى المرعى تخرُجُ جائِعةً عادِمةَ اللَّبنِ، ثم تأخُذُ في التفَرُّقِ والانتشارِ، فظهَر أنَّ الجَمالَ في الإراحةِ أكثَرُ منه في التَّسريحِ؛ لتكاملِ درِّها، وسرورِ النفسِ بها إذ ذاك .

ومنها: أنَّ المنافِعَ منها إنَّما تُؤخَذُ بعد الرَّواحِ .

- والإتيانُ بالمُضارعِ في تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ؛ لأنَّ ذلك مِن الأحوالِ المُتكرِّرةِ، وفي تَكرُّرِها تَكررُ النِّعمةِ بمَناظرِها .

3- قولُه تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ لعلَّ تغييرَ النَّظمِ الكريمِ السَّابقِ الدَّالِّ على كونِ الأنعامِ مَدارًا للنِّعمِ السَّابقةِ إلى الجُملةِ الفعليَّةِ المُفيدةِ لمُجرَّدِ الحُدوثِ؛ للإشعارِ بأنَّ هذه النِّعمةَ ليست في العُمومِ- بحسَبِ المنشَأِ وبحسَبِ المُتعلَّقِ، وفي الشُّمولِ للأوقاتِ والاطِّرادِ في الأحيانِ المعهودةِ- بمَثابةِ النِّعمِ السَّالفةِ؛ فإنَّها بحسَبِ المنشَأِ خاصَّةٌ بالإبلِ، وبحسَبِ المُتعلَّقِ: بالضَّاربينَ في الأرضِ، المُتقلِّبينَ فيها للتِّجارةِ وغيرِها في أحايينَ غيرِ مُطَّرِدةٍ، وأمَّا سائرُ النِّعمِ المَعدودةِ فمَوجودةٌ في جميعِ أصنافِ الأنعامِ، وعامَّةٌ لكافَّةِ المُخاطَبينَ دائمًا، أو في عامَّةِ الأوقاتِ .

- وأفاد قولُه: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ معنى: تحمِلُكم وتُبَلِّغُكم، بطَريقةِ الكِنايةِ القريبةِ من التَّصريحِ؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه تعالى: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ .

- وطابَقَ قولُه: لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ قولَه: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ، ولم يقُلْ: (لمْ تكونوا حامِليها إليه)؛ لأنَّ طِباقَه مِن حيثُ إنَّ معناه: وتحمِلُ أثقالَكم إلى بلدٍ بعيدٍ قد علِمْتُم أنَّكم لا تبلُغونَه بأنفُسِكم إلَّا بجَهدٍ ومشقَّةٍ، فضلًا أنْ تَحمِلوا على ظُهورِكم أثقالَكم. ويجوزُ أنْ يكونَ المعنى: لمْ تَكونوا بالِغيه بها إلَّا بشِقِّ الأنفُسِ. وقيل: أَثْقَالَكُمْ: أجرامَكم .

- وجُملةُ: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ تَعليلٌ لجُملةِ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا، أي: خلَقَها لهذه المنافِعِ؛ لأنَّه رَؤوفٌ رَحيمٌ بكم .

4- قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ

- اقتصَرَ على الرُّكوبِ؛ لأنَّه أعظَمُ منافِعِها .

- قولُه: لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً لم يَرِدِ المعطوفُ زِينَةً والمعطوفُ عليه مَحَلُّ لِتَرْكَبُوهَا على سَننٍ واحدٍ، حيث لم يقُلْ: (ولتَتزيَّنوا بها)؛ لأنَّ الرُّكوبَ فِعْلُ المُخاطَبين، وأمَّا الزِّينةُ ففِعْلُ الزَّائنِ ، وهو الخالِقُ سُبحانَه وتَعالى . وقيل: التَّحقيقُ فيه أنَّ الرُّكوبَ هو المعتبرُ في المقصودِ، بخلافِ الزينةِ، فكأنَّه سبحانَه قال: خلقتُها لتركَبوها؛ فتَدْفَعوا عن أنفسِكم بواسطتِها ضررَ الإعياءِ والمشقَّةِ، وأمَّا التَّزيُّنُ بها فهو حاصلٌ في نفسِ الأمرِ، ولكنَّه غيرُ مقصودٍ بالذَّاتِ .

- وفيه تأخيرُ الزِّينةِ عن الرُّكوبِ؛ لكونِ الرُّكوبِ أهمَّ منه .

- قولُه: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فيه العُدولُ إلى صِيغَةِ الاستقبالِ؛ للدَّلالةِ على الاستمرارِ والتَّجدُّدِ، أو لاستحضارِ الصُّورةِ، أو يخلُقُ لكم في الجنَّةِ غيرَ ما ذُكِرَ مِن النِّعمِ الدُّنيويَّةِ . وقيل: إنَّ يَخْلُقُ مُضارعٌ مُرادٌ به زمنُ الحالِ لا الاستقبالِ، أي: هو الآن يخلُقُ ما لا تعلمونَ أيُّها النَّاسُ ممَّا هو مَخلوقٌ لنَفعِهم وهم لا يَشعُرون به، فكما خلَقَ لهم الأنعامَ والكُراعَ، خلَقَ لهم ويخلُقُ لهم خلائقَ أُخرى لا يَعلمونها .

5- قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ

- قولُه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ جُملةٌ مُعترِضةٌ؛ اقتضَتِ اعتراضَها مُناسبةُ الامتنانِ بنِعمةِ تَيسيرِ الأسفارِ بالرَّواحلِ والخيلِ والبغالِ والحميرِ، وإضافةُ قَصْدُ إلى السَّبِيلِ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى المَوصوفِ، وهي صِفةٌ مُخصِّصةٌ؛ لأنَّ التَّعريفَ في السَّبِيلِ للجنسِ .

- قولُه: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ فيه إيثارُ حَرفِ الاستعلاءِ على أداةِ الانتهاءِ (إلى)؛ لتأكيدِ الاستقامةِ على وَجهٍ تَمثيليٍّ مِن غيرِ أنْ يكونَ هناك استعلاءٌ لشَيءٍ عليه سُبحانَه وتَعالى عنه عُلوًّا كبيرًا، كما في قولِه تَعالى: هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ [الحجر: 41]

======================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (10-18)

ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ

غريب الكلمات :

 

تُسِيمُونَ: أي: تَرعَونَ أنعامَكم، وأصلُ (سوم): يدُلُّ على طلَبِ الشَّيءِ

.

وَسَخَّرَ: أي: ذلَّل، والتَّسْخِيرُ: سياقةٌ إلى الغَرَضِ المختصِّ قَهرًا، وأصل (سخر): يدلُّ على استذلالٍ .

ذَرَأَ: أَي: خلَق؛ يُقالُ: ذرأ اللهُ الخَلقَ: أي: أظهَرَهم بالإيجادِ بعد العدَمِ، وأصلُ (ذرأ): يدُلُّ على الإظهارِ .

مَوَاخِرَ: أي جواريَ تَشُقُّ الماءَ مع صَوتٍ، وأصلُ (مخر): يدُلُّ على شَقٍّ وفَتحٍ .

رَوَاسِيَ: أي: جبالًا ثوابِتَ، وأصلُ (رسو): يدلُّ على ثباتٍ .

تَمِيدَ: أي: تَضطَرِب، وتتحَرَّك يَمنةً ويَسرةً، وأصلُ (ميد): يدُلُّ على حَركةٍ في شَيءٍ .

وَسُبُلًا: أي: طُرُقًا، وسُمِّي الطَّريقُ بذلك؛ لامتِدادِه، وأصلُ (سبل): يدُلُّ على امتِدادِ شيءٍ .

وَعَلَامَاتٍ: أي: مَعالمَ للطُّرُقِ نَهارًا، وأصلُ (علم): يدلُّ على أثَرٍ بالشَّيءِ يتميَّزُ به عن غَيرِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: اللهُ الذي أنزلَ لكم مِن السَّحابِ مطَرًا، فجعلَ لكم منه ماءً تَشرَبونَه، وأخرجَ لكم به شجَرًا تَرعَونَ فيه أنعامَكم، يُخرِجُ لكم بهذا الماءِ الزُّروعَ والزَّيتونَ والنَّخيلَ والأعنابَ، ومِن كلِّ أنواعِ الثِّمارِ والفَواكِه. إنَّ في ذلك الإنباتِ لدَلالةً واضِحةً لِقَومٍ يتأمَّلونَ فيَعتَبِرونَ. وسخَّر لكم اللَّيْلَ لراحتِكم، والنَّهارَ لِمَعاشِكم، وسخَّرَ لكم الشَّمسَ والقمَرَ؛ لِمَعرفةِ السِّنينَ والحِسابِ، وغيرِ ذلك من المنافِعِ، والنُّجومُ في السَّماءِ مُذَلَّلاتٌ لكم بأمْرِ اللهِ؛ لتَهتَدوا بها في ظلُماتِ البرِّ والبحرِ. إنَّ في ذلك التَّسخيرِ لَدلائلَ واضِحةً لقومٍ يَعقِلونَ. وسخَّر ما بثَّه لكم في الأرضِ مِن الدوابِّ والثِّمارِ وغيرِ ذلك ممَّا تختلِفُ ألوانُه ومَنافِعُه، إنَّ في ذلك لَعِبرةً لقَومٍ يتَّعِظونَ.

وهو الذي سخَّر لكم البَحرَ لتأكُلوا منه سَمكًا طَريًّا، وتَستخرِجوا منه زينةً- من اللآلئِ وغيرِها- تَلبَسونَها. وترى السُّفُنَ تشُقُّ الماءَ حالَ جَرَيانِها، فيُسمَعُ لذلك صوتٌ، ولتَطلُبوا رِزقَ اللهِ، ولعلَّكم تَشكُرونَ اللهَ تعالى على نِعَمِه العظيمةِ، فلا تعبُدونَ غيرَه. وجعَلَ في الأرضِ جِبالًا تُثَبِّتُها حتى لا تَضْطَربَ بكم، وجعلَ فيها أنهارًا لتشربُوا منها، وتسقيَ أنعامَكم وحرثَكم، وجعل فيها طُرُقًا لتهتَدوا بها في الوُصولِ إلى الأماكنِ التي تُرِيدونها، وجعل في الأرضِ معالِمَ تَستدِلُّونَ بها على الطُّرُقِ نَهارًا، كما جعل النُّجومَ للاهتداءِ بها ليلًا. أفمن يخلُقُ مِثلَ تلك المخلوقاتِ، كمَن لا يخلُقُ شيئًا؟! أفلا تتذكَّرونَ نِعمةَ اللهِ عليكم، فتُفرِدوه بالعبادةِ؟! وإن تعدُّوا نِعَمَ اللهِ عليكم، لا تَستطيعوا حَصرَها؛ لكَثرتِها وتنَوُّعِها، إنَّ اللهَ لَغفورٌ لكم رَحيمٌ بكم.

تفسير الآيات:

 

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا قَرَّر اللهُ تعالى الاستدلالَ على وجودِ الصَّانعِ الحكيمِ بعجائبِ أحوالِ الحيواناتِ؛ أتبَعَه في هذه الآيةِ بذِكرِ الاستدلالِ على وجودِ الصَّانِعِ الحكيمِ بعجائبِ أحوالِ النَّباتِ

.

وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا امتَنَّ بإيجادِهم بعدَ العدَمِ، وإيجادِ ما ينتَفِعونَ به من الأنعامِ وغَيرِها مِن الرُّكوبِ؛ ذكَرَ ما امتَنَّ به عليهم مِن إنزالِ الماءِ الذي هو قِوامُ حياتِهم، وحياةِ الحيوان، وما يتولَّدُ عنه من أقواتِهم وأقواتِها من الزَّرعِ .

وأيضًا لَمَّا كان ما مضَى كفيلًا ببيانِ أنَّه- تعالى- الواحِدُ المُختارُ؛ شرَعَ يوضِّحُ ذلك بتفصيلِ الآياتِ إيضاحًا يدَعُه في أتمِّ انكشافٍ في سياق مُعَدِّدٍ للنِّعَم، مُذَكِّرٍ بها، داعٍ إلى شُكرِها، فقال بعدما دَلَّ به من الإنسانِ، وما يليه في الشَّرفِ مِن الحيوانِ، مُبتدِئًا بما يليهما في الشَّرَف من النباتِ :

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً.

أي: اللهُ الذي أنعَمَ بكُلِّ تلك النِّعَمِ، هو الذي أنزلَ مِن السَّحابِ مطَرًا .

لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ.

أي: لكم مِن المطَرِ ماءٌ عَذْبٌ تَشرَبونَه، وأخرج اللهُ لكم به شجرًا تَرعَونَ فيه أنعامَكم .

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكر- تعالى- الحيواناتِ تفصيلًا وإجمالًا، ذكرَ الثِّمارَ تفصيلًا وإجمالًا .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان الشَّجَرُ عامًّا، شرع سبحانَه يفَصِّلُه تنويعًا للنِّعَم، وتذكيرًا بالتَّفاوُت؛ إشارةً إلى أنَّ الفعلَ بالاختيارِ، فقال مُبتَدِئًا بالأنفَعِ في القُوتيَّةِ والائتدامِ والتَّفَكُّهِ :

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ.

أي: يُخرِجُ اللهُ لكم بماءِ المطَرِ أنواعَ الزُّروعِ، والزَّيتونَ، والنَّخيلَ، والأعنابَ .

وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.

أي: ويخرِجُ لكم به مِن كُلِّ أنواعِ الفَواكِهِ أنواعًا أخرى غيرَ ذلك .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

أي: إنَّ في إنباتِ اللهِ أنواعَ الزُّروعِ والثِّمارِ بالمطَرِ لدَلالةً واضِحةً لِمَن شأنُهم وعادتُهم أن يتفكَّروا في مَخلوقاتِ الله، وما أقامه من الحُجَجِ، فيَستَدِلُّوا بها على وحدانيَّتِه، وكَمالِ قُدرتِه على البَعثِ وغَيرِه، وعلى رَحمتِه، وأنَّه المُبدِعُ الحَكيمُ الذي أنبت أصنافًا مختلفةً مِن ماءٍ واحدٍ .

كما قال تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل: 60] .

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا احتَجَّ على إثباتِ وحدانيتِه في المَرتبةِ الأولى بأجرامِ السَّمواتِ، وفي المرتبةِ الثَّانيةِ ببَدَنِ الإنسانِ ونَفسِه، وفي المرتبةِ الثَّالثةِ بعجائِبِ خِلقةِ الحيواناتِ، وفي المرتبةِ الرابعةِ بعجائبِ أحوالِ النَّبات؛ ذكَرَ في المرتبة الخامسةِ الاستدلالَ بعجائبِ أحوالِ العناصرِ، فبدأ منها بالاستدلالِ بعُنصرِ الماءِ .

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.

أي: وذلَّل اللهُ لكم- أيُّها النَّاسُ- اللَّيلَ والنَّهارَ يتعاقبانِ عليكم؛ فالليلُ لسُكونِكم وراحتِكم، والنهارُ لانتِشارِكم في مَعايشِكم ومنافعِكم، وذلَّلَ لكم الشَّمسَ والقمَرَ يَجريانِ باستمرارٍ؛ لتحقيقِ مَنافِعِكم ومصالِحكم؛ كمعرفةِ الأوقاتِ، ونُضجِ الثِّمارِ، وغيرِ ذلك .

كما قال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 13] .

وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ.

أي: والنُّجومُ مُذَلَّلاتٌ لكم في السَّماءِ، تجري في فَلَكِها بإذنِ اللهِ؛ لتَهتَدوا بها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحرِ .

كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

أي: إنَّ في تَسخيرِ اللهِ الليلَ والنهارَ، والشمسَ والقمرَ والنجومَ، لدَلالاتٍ واضحاتٍ لِمَن شأنُهم وعادتُهم أن يفهَموا عن اللهِ ما أخبَرَ به من الحُجَجِ والدَّلالاتِ على قُدرتِه العظيمةِ وغَيرِها .

كما قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3-6] .

وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما نبَّه سبحانَه على معالمِ السمواتِ؛ نبَّه على ما خَلَق في الأرضِ مِن الأمورِ العجيبةِ والأشياءِ المختلفةِ، مِن الحيواناتِ والمعادنِ والنَّباتاتِ والجماداتِ فقال:

وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ.

أي: وسخَّر اللهُ لكم ما بثَّ ونشَرَ في الأرضِ، كالدَّوابِّ والثِّمارِ والنَّباتِ، والمعادنِ والجماداتِ، مُختلِفًا ألوانُها، مُتعَدِّدًا أصنافُها وأشكالُها ومَنافِعُها .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.

أي: إنَّ فيما ذرأ اللهُ في الأرضِ مُختَلِفًا ألوانُه لَدَلالةً وعِبرةً لِمَن شأنُهم وعادتُهم أن يتَّعِظوا فيستدلُّوا بذلك على وحدانيَّةِ اللهِ، وكمالِ قُدرتِه، وسَعةِ رَحمتِه، ويَشكُروه على نِعَمِه .

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [الزمر: 21] .

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكر اللهُ تعالى الاستدلالَ بما ذرأ في الأرضِ، ذكر ما امتَنَّ به من تسخيرِ البَحرِ ، فقال تعالى:

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا.

أي: والذي أنعمَ عليكم بتلك النِّعَمِ، هو اللهُ- وَحدَه- الذي ذلَّلَ لكم البَحرَ- مِلْحًا كان أو عَذبًا- كي تأكُلوا منه سَمكًا طَرِيًّا .

كما قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا [فاطر: 12] .

وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا.

أي: ولِتَستخرِجوا منه اللآلئَ وغيرَها، فتتزَيَّنوا بلُبسِها .

كما قال تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 22].

وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ.

أي: وترَى السُّفُنَ جاريةً في البحرِ، وهي تشقُّ المياهَ والرِّياحَ بصَدرِها، فيُسمَعُ لِجَريِها صوتٌ، فتَستَدِلُّونَ بعدَمِ رُسوبِها وغَرَقِها في الماءِ- مع ثِقَلِها ومُيوعةِ الماءِ ورِقَّتِه وشِدَّةِ لطافتِه- على وحدانيَّةِ الإلهِ وقُدرتِه سُبحانَه .

كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 32-34] .

وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.

أي: وسخَّر اللهُ لكم البحرَ لحملِ السُّفنِ؛ لتركبوها في طلبِ معايشِكم، وتنقلوا عليها البضائعَ مِن بلدٍ إلى بلدٍ؛ طلبًا للرزقِ مِن فضلِ الله .

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

أي: وسخَّر الله لكم هذه المَخلوقاتِ؛ لعلَّكم تَشكُرونَ نِعَم اللهِ بالثَّناءِ عليه، وطاعتِه، وتوحيدِه .

وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15).

وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ.

أي: ومِن نِعَمِ اللهِ عليكم- أيُّها النَّاسُ- أنْ جعلَ في الأرضِ جِبالًا تُثَبِّتُ الأرضَ؛ لئلَّا تضطَرِبَ بكم، وتتحَرَّكَ يمينًا وشِمالًا .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء: 31] .

وَأَنْهَارًا.

أي: وجعل اللهُ في الأرضِ أنهارًا تجري بالماءِ مِن مَوضعٍ إلى آخَرَ؛ لِسَقيِ النَّاسِ، والأنعامِ، والحَرثِ .

وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .

أي: وطُرُقًا مُيسَّرةً وممتَدَّةً، تَسلُكونَها بيُسرٍ وسُهولةٍ في قضاءِ حوائِجِكم، وطلَبِ مَعايشِكم وغيرِها؛ رحمةً بكم؛ لِتهتَدوا بهذه الطُّرُقِ إلى كلِّ موضعٍ تُريدونَ الوصولَ إليه، فلا تَضِلُّوا، ولا تتحَيَّروا .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء: 31] .

وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَر أنَّه أظهَر في الأرضِ سُبُلًا مُعَيَّنةً؛ ذكَر أنَّه أظهَر فيها علاماتٍ مخصوصةً؛ حيث يتمَكَّنُ المكَلَّفُ مِن الاستدلالِ بها، فيَصِلُ بواسطتِها إلى مَقصودِه، فقال :

وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16).

أي: وجعلَ لكم- أيُّها النَّاسُ- معالِمَ، كالجِبالِ وغَيرِها، تَستدِلُّونَ بها نهارًا، ونجومًا تستدِلُّونَ بها ليلًا على طُرُقِكم في أسفارِكم .

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ الدلائِلَ الدالَّةَ على وجودِ القادِرِ الحكيمِ على التَّرتيبِ الأحسَنِ، والنَّظمِ الأكمَلِ، وكانت تلك الدلائِلُ كما أنَّها كانت دلائِلَ، فكذلك أيضًا كانت شَرحًا وتفصيلًا لأنواعِ نِعَمِ الله تعالى، وأقسامِ إحسانِه؛ أتبَعَه بذِكرِ إبطالِ عِبادةِ غَيرِ الله تعالى، والمقصودُ أنَّه لَمَّا دلَّت هذه الدَّلائلُ الباهرةُ، والبيِّناتُ الزَّاهِرةُ القاهرةُ على وجودِ إلهٍ قادرٍ حكيمٍ، وثبَت أنَّه هو المُولي لجميعِ هذه النِّعَم، والمُعطي لكُلِّ هذه الخَيراتِ، فكيف يَحسُنُ في العُقولِ الاشتغالُ بعبادةِ موجودٍ سواه؟! لا سيَّما إذا كان ذلك الموجودُ جَمادًا لا يَفهمُ ولا يَقدِرُ؛ فلهذا الوجهِ قال بعدَ تلك الآياتِ :

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ.

أي: أفمن يخلُقُ مِثلَ تلك المخلوقاتِ العَجيبةِ التي أنعَمَ عليكم بها- وهو الله- كمَن لا يَخلقُ شَيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا، ولا يُنعِمُ عليكم بشيءٍ، فتُشرِكونَ معه في العبادةِ غيرَه ؟!

أَفَلَا تَذَكَّرُونَ.

أفلا تتذكَّرونَ- أيُّها المُشرِكونَ- نِعَمَ اللهِ عليكم، وعظيمَ سُلطانِه وقُدرتِه، وعجْزَ مَعبوداتِكم، وأنَّها لا تجلِبُ نفعًا، ولا تَدفَعُ ضُرًّا، فتَعرِفوا بذلك خطأَ ما أنتم عليه مِن الشِّركِ باللهِ، وتَعرِفوا أنَّ المُنفَرِدَ بالخَلقِ أحَقُّ بالعبادةِ كُلِّها، فتُخلِصوا العبادةَ له ؟!

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)   .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّن بالآيةِ المتقَدِّمةِ أنَّ الاشتغالَ بعِبادةِ غيرِ الله باطِلٌ وخَطأٌ؛ بيَّنَ بهذه الآيةِ أنَّ العبدَ لا يُمكِنُه الإتيانُ بعبادةِ الله تعالى، وشُكرِ نِعَمِه، والقيامِ بحُقوقِ كَرَمِه، على سبيلِ الكَمالِ والتَّمامِ، بل العبدُ وإن أتعَبَ نفسَه في القيامِ بالطَّاعاتِ والعباداتِ، وبالغ في شُكرِ نِعمةِ الله تعالى؛ فإنَّه يكونُ مُقَصِّرًا .

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا.

أي: وإن تعُدُّوا- أيُّها النَّاسُ- نِعَمَ اللهِ عليكم، لا تُطيقوا إحصاءَ عَدَدِها، فضلًا عن شُكرِها .

كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان: 20] .

إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كانوا مُستحِقِّينَ لسَلبِ النِّعَمِ بالإعراضِ عن التَّذكيرِ، والعمَى عن التبَصُّر؛ أشار إلى سبَبِ إدرارِها، فقال تعالى :

إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

أي: إنَّ اللهَ يتجاوزُ عن عبادِه تقصيرَهم في شُكرِ نِعَمِه، رحيمٌ بهم، لا يقطَعُ عنهم إحسانَه، ولا يُعذِّبُهم بسبَبِ تَقصيرِهم، يرضى من عبادِه الشُّكرَ القَليلَ، ويُجازيهم عليه الثَّوابَ الكثيرَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لا تَضبِطوا عدَدَها، ولا تبلُغُه طاقتُكم، فضلًا أنْ تُطِيقوا القِيامَ بحَقِّها من أداءِ الشُّكرِ، وقد أتبَعَ بذلك ما عدَّدَ مِن نِعَمِه؛ تنبيهًا على أنَّ وراءها ما لا ينحصِرُ ولا يَنعَدُّ

. وفيه إيماءٌ إلى الاستكثارِ مِن الشُّكرِ على مُجمَلِ النِّعَمِ، وتعريضٌ بفظاعةِ كُفرِ مَن كَفَروا بهذا المُنعِم، وتغليظُ التَّهديدِ لهم .

2- تأمَّلْ خلْقَ الأرضِ على ما هي عليه حينَ خَلَقها واقِفةً ساكِنةً؛ لتكونَ مِهادًا ومُستقَرًّا للحيوانِ والنباتِ والأمتعةِ، ويتمكَّنَ الحيوانُ والنَّاسُ من السَّعيِ عليها في مآرِبِهم، والجلوسِ لراحاتِهم، والنَّومِ لِهدوئِهم، والتمكُّنِ مِن أعمالِهم، ولو كانت رجراجةً مُتكفِّئةً لم يستطيعوا على ظهرِها قرارًا، ولا ثَبَت لهم عليها بناءٌ، ولا أمكَنَهم عليها صناعةٌ ولا تجارةٌ ولا حِراثةٌ ولا مصلحةٌ، وكيف كانوا يتهنَّون بالعيشِ، والأرضُ ترتَجُّ من تحتِهم؟! واعتَبِرْ ذلك بما يصيبُهم من الزلازلِ على قِلَّةِ مُكثِها، كيف تصَيِّرهم إلى تَركِ منازِلِهم، والهَرَبِ عنها؟! وقد نبَّه اللهُ تعالى على ذلك بقَولِه: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا

 

[غافر: 64] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ أتَى بلَفظِ (مِن) التي للتَّبعيضِ؛ لأنَّ كُلَّ الثَّمَراتِ لا تكونُ إلَّا في الجنَّةِ، وإنَّما أُنبِتَ في الأرضِ بعضٌ مِن كُلِّها للتَّذكِرةِ

. وفيه وجهٌ آخر: أنَّه قُصِدَ منها تنويعُ الامتنانِ على كلِّ قَومٍ بما نالَهم مِن نِعَمِ الثَّمَراتِ، وإنما لم تدخُلْ على الزَّرعِ، وما عُطِفَ عليه؛ لأنَّها من الثَّمَراتِ التي تَنبُتُ في كُلِّ مَكانٍ .

2- قال الله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أفرد (الآيةَ)؛ لِوَحدةِ المحَدَّثِ عنه، وهو الماءُ ، فتوحيدُ (الآيةِ) لأنَّ موضِعَ الدَّلالةِ واحِدٌ، وهو الماءُ الذي أنزله من السَّماءِ، فأخرج به كُلَّ ما ذكَرَه من الأرضِ، وهو على اختِلافِ أنواعِه لِقاحُه واحِدٌ، وأمُّه واحدةٌ، فهذا نوعٌ واحدٌ مِن آياتِه !

3- في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ دليلٌ على أنَّ الكَلَأَ مُبَاحٌ كماءِ السماء، لأنَّ الشجرَ- على أحدِ الأقوالِ- هو الكلأ؛ وقَرَنَه في الآيةِ بالماء؛ وأَخبرَ أنَّا نُسِيمُ فيه، أي: نَرعى .

4- قَولُ الله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ فيه سؤالٌ: التَّسخيرُ عِبارةٌ عن القَهرِ والقَسرِ، ولا يليقُ ذلك إلَّا بمن هو قادِرٌ يجوزُ أن يُقهَرَ، فكيف يصِحُّ ذلك في اللَّيلِ والنَّهارِ، وفي الجماداتِ والشَّمسِ والقَمَرِ؟

الجوابُ: أنَّ الله تعالى لَمَّا دبَّر هذه الأشياءَ على طريقةٍ واحدةٍ مُطابِقةٍ لمصالحِ العبادِ، صارت شبيهةً بالعبدِ المنقادِ المِطواعِ؛ فلهذا المعنى أُطلِقَ على هذا النَّوعِ مِن التدبيرِ لَفظُ التسخيرِ. وقيل: إنَّ اللهَ تعالى يحَرِّكُ هذه الكواكِبَ، وهذه الحركةُ قَسريةٌ؛ فلهذا السَّبَبِ ورد فيها لَفظُ التَّسخيرِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا في ذِكرِ الطَّريِّ مَزيدُ فائدةٍ؛ وذلك لأنَّه لو كان السَّمَكُ كُلُّه مالِحًا، لَما عُرِفَ به مِن قُدرةِ الله تعالى ما يُعرَفُ بالطَّريِّ؛ فإنَّه لَمَّا خرَج من البَحرِ المِلحِ الزُّعاقِ الحَيوانُ الذي لَحمُه في غايةِ العُذوبةِ- عُلِمَ أنَّه إنَّما حدث لا بحسَبِ الطَّبيعةِ، بل بقُدرةِ اللهِ وحِكمتِه؛ حيث أظهَرَ الضِّدَّ مِن الضِّدِّ .

6- يجوز أكلُ القديدِ ممَّا في البحرِ بإجماعِ العلماءِ، وقَولُه تعالى: لَحْمًا طَرِيًّا ليس له مفهومُ مخالفةٍ؛ لأنَّه ذكَر اللحمَ الطريَّ في معرضِ الامتنانِ، فلا مفهومَ مخالفةٍ له، فلا يُقال: يُفهَمُ مِن التقييد بكونه طريًّا أنَّ اليابس- كالقديدِ- ممَّا في البحرِ لا يجوزُ أكلُه .

7- قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا التعبيرُ عنه باللَّحمِ مع كونِه حَيوانًا؛ للإشارةِ إلى قِلَّةِ عِظامِه، وضَعفِها في أغلَبِ ما يُصطادُ للأكلِ بالنِّسبةِ إلى الأنعامِ المُمتَنِّ بالأكلِ منها فيما سبق. وقيل: للتَّلويحِ بانحصارِ الانتفاعِ به في الأكلِ .

8- في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ دلالةٌ على أنَّ رُكُوبَ البحرِ للتجارة مُباحٌ، إِذْ مُحالٌ أنْ يجعلَه في جُمْلَةِ النِّعَمِ؛ ويَضمَّ ذِكْرَه في المباحاتِ؛ ويَذْكُرَ ابتغاءَ فضْلِه جملةً فيه؛ ثم يَحْظُرَ رُكُوبَه في حالٍ دونَ حالٍ !

9- قولُ الله تعالى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا فيه دليلٌ على إباحةِ لبسِ النساءِ والرجالِ حليةَ البحرِ مِن الجواهرِ ونحوِها ؛ لأنَّ الله تعالى امتنَّ على الرجالِ والنِّساءِ امتنانًا عامًّا بما يخرجُ مِن البحرِ، فلا يَحرمُ عليهم شيءٌ منه، وإنما حرَّم الله تعالى على الرِّجال الذهبَ والحريرَ .

10- في قوله تعالى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا دلالةٌ على أنَّ الغوصَ في استخراجِ حِلْيَةِ البحرِ مُباحٌ، ولا يكون تعرُّضًا للهلكة ومخاطرةً بالرُّوح! ولكنَّ ذلك لِمَن يُحْسِنُ العَوْمَ .

11- قَولُ الله تعالى: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا استدلَّ به من قال: يحنَثُ الحالِفُ لا يلبَسُ حُلِيًّا بلُبسِ اللُّؤلؤِ؛ لأنَّه تعالى سمَّاه حُلِيًّا .

12- قَولُ الله تعالى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَلْقَى أخَصُّ مِن (خلقَ) و(جعَلَ)؛ وذلك أنَّ أَلْقَى تقتضي أنَّ الله أحدثَ الجِبالَ ليس من الأرضِ، لكِنْ مِن قُدرتِه واختِراعِه . وقيل: لمَّا كانت هذه المخلوقاتُ مَجعولةً كالتَّكملةِ للأرضِ، وموضوعةً على ظاهرِ سَطحِها، عبَّرَ عن خلقِها ووضْعِها بالإلقاءِ الَّذي هو رَمْيُ شَيءٍ على الأرضِ، ولعلَّ خَلْقَها كان مُتأخِّرًا عن خَلقِ الأرضِ، وأمَّا السُّبُلُ والعلاماتُ فتأخُّرُ وُجودِها ظاهرٌ، فصار خَلْقُ هذه الأربعةِ شبيهًا بإلقاءِ شَيءٍ في شَيءٍ بعدَ تمامِه .

13- قولُ الله تعالى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا لما كان أكثَرُ الأنهارِ إنَّما تتفجَّرُ مَنابِعُها في الجبالِ؛ فلهذا السَّبَبِ لَمَّا ذكَرَ الله تعالى الجِبالَ أتبَعَ ذِكرَها بتَفجيرِ العُيونِ والأنهارِ .

14- جُملةُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ مُعترِضةٌ، وهو كلامٌ مُوجَّهٌ يصلُحُ للاهتداءِ إلى المقاصِدِ في الأسفارِ؛ مِن رَسمِ الطُّرقِ، وإقامةِ المَراسي على الأنهارِ، واعتبارِ المسافاتِ، وكلُّ ذلك مِن جَعْلِ اللهِ تعالَى؛ لأنَّ ذلك حاصلٌ بإلهامِه، ويصلُحُ للاهتداءِ إلى الدِّينِ الحقِّ، وهو دِينُ التَّوحيدِ؛ لأنَّ في تلك الأشياءِ دَلالةً على الخالقِ المُنْفردِ بالخَلقِ .

15- قَولُ الله تعالى: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أصلٌ لِمُراعاةِ النُّجومِ لِمَعرفةِ الأوقاتِ والقِبلةِ والطُّرُقِ .

16- في قوله تعالى: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ دلالةٌ على اعتبارِ النجومِ دليلًا على القبلةِ في السفرِ؛ فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى أطلقَ الاهتداءَ بالنجمِ، فالنجمُ يُهتدَى به على الجهاتِ لكلِّ غرضٍ ، وكذلك مِن الفُقَهاءِ مَن يجعَلُ هذه الآية دليلًا على الاستدلالِ بالعَلاماتِ التي في الأرضِ، وهي الجِبالُ والرِّياحُ؛ لأنَّه كما يمكِنُ الاهتداءُ بهذه العلاماتِ في معرفةِ الطُّرُقِ والمَسالِكِ، فكذلك يُمكِنُ الاستدلالُ بها في مَعرفةِ طلَبِ القِبلةِ .

17- الامتِنانُ بما في الأعيانِ مِن المَنافِعِ، وما يتعلَّقُ بها مِن الأفعالِ، هو أحدُ الأمورِ التي يُستفادُ منها الإباحةُ، وذلك نحو قَولِه تعالى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا [النحل: 80] ، ونحو: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ .

18- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ دَلالةٌ على أنَّ المُشرِكينَ كانوا يُقِرُّونَ بنوعٍ مِن التوحيدِ الذي هو نفيُ خالِقِينَ سوى اللهِ تعالى، ولم يكونوا يُنازِعونَ في ذلك .

19- بيَّنَ اللهُ سُبحانَه أنَّه أحقُّ بالكمالِ مِن غَيرِه، وأنَّ غَيرَه لا يُساويه في الكَمالِ في مِثلِ قَولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ وقد بيَّنَ أنَّ الخَلقَ صِفةُ كَمالٍ، وأنَّ الذي يخلُقُ أفضَلُ مِن الذي لا يخلُقُ، وأنَّ مَن عدَلَ هذا بهذا فقد ظلَمَ .

20- في قَولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ دَلالةٌ على أنَّه سُبحانَه هو المُستحِقُّ للعبادةِ دونَ ما يُعبَدُ مِن دونِه، وأنَّه لا مِثلَ له ، فالتمثيل الذي هو اعتقادُ المُثْبِتِ أنَّ ما أَثْبَتَه مِن صفاتِ اللهِ تعالى مماثلٌ لصفاتِ المخلوقين! هو اعتقاد باطل بدلالة السمع؛ قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] .

21- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا هذا كلامٌ جامِعٌ للتَّنبيهِ على وَفرةِ نِعَمِ اللهِ تعالى على النَّاسِ، بحيثُ لا يمكِنُ إحصاؤُها، وإذا كانت كذلك فقد حصَلَ التَّنبيهُ إلى كَثرتِها بمعرفةِ أصولِها وما يَحويها مِن العَوالِمِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ استئنافٌ لذِكْرِ دليلٍ آخرَ مِن مظاهرِ بَديعِ خَلقِ اللهِ تَعالى، أُدْمِجَ فيه امتنانٌ بما يأتي به ذلك الماءُ العجيبُ مِن المنافعِ

.

- وصِيغَةُ تَعريفِ المسنَدِ إليه والمسنَدِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ أفادتِ الحصرَ، أي: هو لا غيرُه، وهذا قَصرٌ على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ؛ لأنَّ المُخاطَبينَ لا يُنكِرون ذلك، ولا يَدَّعون له شريكًا في ذلك، ولكنَّهم لمَّا عَبَدوا أصنامًا لم تُنْعِمْ عليهم بذلك، كان حالُهم كحالِ مَن يدَّعي أنَّ الأصنامَ أنعَمَت عليهم بهذه النِّعمِ، فنُزِّلوا مَنزلةَ مَن يدَّعي الشَّركةَ للهِ في الخَلقِ؛ فكان القصرُ قَصرَ إفرادٍ؛ تَخريجًا للكلامِ على خِلافِ مُقْتضَى الظَّاهرِ .

- قولُه: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فيه تأخُّرُ المفعولِ مَاءً عن المجرورِ؛ لأنَّ المقصودَ هو الإخبارُ بأنَّه أنزَلَ مِن السَّماءِ شيئًا هو الماءُ، لا أنَّه أنزَلَه مِن السَّماءِ، والسِّرُّ فيه: أنَّه عندَ تأخيرِ ما حَقُّه التَّقديمُ يَبْقَى الذِّهنُ مُترقِّبًا له، مُشتاقًا إليه؛ فيتمكَّنُ لديه عندَ وُرودِه عليه فضْلَ تمكُّنٍ .

- وقولُه: لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ فيه تقديمُ (مِنْ) التَّبعيضيَّةِ، الَّذي يُوهِمُ حصرَ المشروبِ فيه، ولا بأْسَ به؛ لأنَّ مِياهَ العُيونِ والآبارِ منه؛ لقولِه: فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ [الزمر: 21] ، وقولِه: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 18] . وقيل: لَكُمْ مُتعلِّقٌ بـ شَرَابٌ؛ قُدِّمَ عليه للاهتمامِ .

- قولُه: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ فيه إعادةُ حَرفِ الجرِّ (مِن) بعد واوِ العطفِ؛ لأنَّ حرفَ (مِن) هنا للابتداءِ، أو للسَّببيَّةِ؛ فلا يحسُنُ عطفُ شَجَرٌ على شَرَابٌ .

- وفي قولِه: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ تَقديمُ ما يُسامُ فيه على ما يُؤكَلُ منه، وهو ما ذكَرَه في قولِه بعدُ: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؛ لأنَّ ما يُسامُ فيه سيصيرُ غِذاءً حَيوانيًّا، هو أشرَفُ الأغذيةِ .

- ومِن الدَّقائقِ البلاغيَّةِ في قولِه: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ: الإتيانُ بحرفِ (في) الظَّرفيَّةِ؛ فالإسامةُ في الشجرِ تكونُ بالأكلِ منه، والأكلِ ممَّا تحتَه مِن العُشبِ .

2- قوله تعالى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

- قولُه: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ... فيه إيثارُ صِيغَةِ الاستقبالِ يُنْبِتُ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ، وأنَّها سُنَّتُه الجاريةُ على مَرِّ الدُّهورِ، أو لاستحضارِ صُورةِ الإنباتِ .

- وقوله: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ... لم يُعطَفْ على جُملةِ لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ؛ لأنَّه ليس ممَّا يَحصُلُ بنزولِ الماءِ وَحدَه، بل لا بُدَّ معه مِن زَرعٍ وغَرسٍ، وهذا الإنباتُ مِن دلائلِ عظيمِ القدرةِ الربانيَّةِ، فالغرضُ منه الاستدلالُ ممزوجًا بالتذكيرِ بالنعمةِ .

- وقولُه: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فيه تَقديمُ الظَّرفَينِ لَكُمْ بِهِ على المفعولِ الصَّريحِ الزَّرْعَ؛ لأنَّه عند تأخيرِ ما حقُّه التَّقديمُ يَبقى الذِّهنُ مُترقِّبًا له، مُشتاقًا إليه؛ فيتمكَّنُ لديه عند وُرودِه عليه فضْلَ تمكُّنٍ، مع ما في تَقديمِ أوَّلِهما من الاهتمامِ به؛ لإدخالِ المَسرَّةِ ابتداءً. وتقديمُ الزَّرْعَ على ما عداه؛ لأنَّه أصلُ الأغذيةِ وعَمودُ المعاشِ، وهو قُوتُ أكثَرِ العالَمِ. وتقديمُ الزَّيْتُونَ؛ لِمَا فيه من الشَّرفِ، من حيث إنَّه إدامٌ من وَجهٍ، وفاكهةٌ من وَجهٍ، بالإضافة إلى الاطِّلاءِ بدُهنِه إلى غيرِ ذلك من فوائدِه. وتقديمُ النَّخِيلَ على الأعنابِ؛ لظُهورِ أصالتِها وبَقائِها، ولأنَّ ثَمرتَه مِن أطيَبِ الفواكِهِ وقُوتٌ في بعضِ البلادِ. وجمْعُ الْأَعْنَابَ؛ للإشارةِ إلى ما فيها مِن الاشتمالِ على الأصنافِ المُختلفةِ. وتَخصيصُ الأنواعِ المعدودةِ بالذِّكرِ مع اندراجِها تحت قولِه تعالى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؛ للإشعارِ بفَضلِها، لأنَّها أشرَفُ ما يَنبُتُ، وأجمَعُه للمنافِعِ.وتقديمُ الشَّجرِ عليها مع كونِه غِذاءً للأنعامِ؛ لحُصولِه بغيرِ صُنعٍ من البشَرِ، أو للإرشادِ إلى مكارمِ الأخلاقِ؛ فإنَّ مُقتضاها أنْ يكونَ اهتمامُ الإنسانِ بأمْرِ ما تحتَ يَدِه أكمَلَ مِن اهتمامِه بأمْرِ نفسِه، أو لأنَّ أكثرَ المُخاطَبينَ مِن أصحابِ المواشي ليس لهم زَرعٌ ولا ثمَرٌ. وقيل: المُرادُ تَقديمُ ما يُسامُ لا تَقديمُ غِذائِه؛ فإنَّه غِذاءٌ حَيوانيٌّ للإنسانِ وهو أشرفُ الأغذيةِ .

- وجُملةُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَذييلٌ، ونِيطَتْ دَلالةُ هذه بوَصفِ التَّفكيرِ؛ لأنَّها دَلالةٌ خَفيَّةٌ؛ لحُصولِها بالتَّدريجِ، وهو تعريضٌ بالمُشركينَ الَّذين لم يهتَدُوا بما في ذلك مِن دَلالةٍ على تفرُّدِ اللهِ بالإلهيَّةِ، بأنَّهم قومٌ لا يتفكَّرونَ .

3- قولُه تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ هذا انتقالٌ للاستدلالِ بإتقانِ الصُّنعِ على وَحدانيَّةِ الصَّانعِ وعلْمِه، وإدماجٌ بين الاستِدلالِ والامتنانِ. ونِيطَتْ هذه الدَّلالاتُ بوَصْفِ العقلِ؛ لأنَّ أصلَ العَقلِ كافٍ في الاستِدلالِ بها على الوَحدانيَّةِ والقُدرةِ؛ إذ هي دَلائلُ بيِّنةٌ واضحةٌ حاصلةٌ بالمُشاهَدةِ كلَّ يومٍ وليلةٍ .

- قولُه: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فيه إيثارُ صِيغَةِ الماضي سَخَّرَ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك أمرٌ واحدٌ مُستمِرٌّ، وإنْ تجدَّدت آثارُه .

4- قولُه تعالى: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ

- قوله: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ وصَفَ اختلافَ ألوانِه؛ زيادةً للتَّعجِيبِ. ولكونِ محَلِّ الاستدلالِ هو اختلافَ الألوانِ، مع اتِّحادِ أصلِ الذَّرءِ؛ أُفْرِدَت الآيةُ في قولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً. ونِيطَ الاستدلالُ باختِلافِ الألوانِ بوَصفِ التَّذكُّرِ؛ لأنَّه استدلالٌ يحصُلُ بمُجرَّدِ تذكُّرِ الألوانِ المُختلفةِ؛ إذ هي مَشهورةٌ .

- وفي قولِه: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: 11-13] مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ وحَّدَ (الآيةَ) أوَّلًا وآخرًا، وجمَعَها في المُتوسِّطِ، وفي كلِّ ذلك آياتٌ كثيرةٌ؛ ووجهُ ذلك:

أنَّه وحَّد الآيةَ في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ؛ لأنَّ موضعَ الدَّلالةِ واحدٌ، وهو الماءُ الَّذِي أنزَله مِن السَّماءِ فأخرَج به كلَّ ما ذكَره مِن الأرضِ، وهو على اختلافِ أنواعِه لقاحُه واحدٌ وأُمُّه واحدةٌ، فهذا نوعٌ واحدٌ مِن آياتِه.

وجمعَ الآياتِ في قوله: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ لأنَّها تضَمَّنَت اللَّيلَ والنَّهارَ والشَّمسَ والقمَرَ والنُّجومَ، وهي آياتٌ متعَدِّدةٌ مُختلِفةٌ في أنفُسِها وخَلقِها وكيفيَّاتِها؛ فإنَّ إظلامَ الجَوِّ لغُروبِ الشَّمسِ ومَجيءِ اللَّيلِ الذي يلبِسُ العالَمَ كالثَّوبِ، ويَسكُنونَ تحتَه؛ آيةٌ باهرةٌ، ثمَّ ورود جَيشِ الضِّياءِ يَقدُمُه بَشَيرُ الصَّباحِ، فيَنهَزِمُ عسكرُ الظَّلامِ وينتَشِرُ الحيوانُ وينكَشِطُ ذلك اللِّباسُ بجُملتِه؛ آيةٌ أخرى، ثمَّ في الشَّمسِ- التي هي آيةُ النَّهارِ- آيةٌ أخرى، وفي القمَرِ- الذي هو آيةُ اللَّيلِ- آيةٌ أخرى، وفي النُّجومِ آياتٌ أُخَرُ، هذا مع ما يَتبَعُها من الآياتِ المُقارِنةِ لها من الرِّياحِ واختلافِها، وسائِرِ ما يُحدِثُه اللهُ بسَبَبِها، آياتٌ أُخَرُ، فالموضِعُ مَوضِعُ جَمعٍ.

ووحَّد الآيةَ في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ؛ لأنَّ ما ذَرَأ في الأرضِ على اختلافِه مِن الجواهرِ والنباتِ والمعادنِ والحيوانِ كلِّه في محلٍّ واحدٍ، فهو نوعٌ مِن أنواعِ آياتِه، وإنْ تعدَّدتْ أصنافُه وأنواعُه . وقيل غير ذلك .

- ومِن المناسَبةِ الحَسَنة أيضًا: أنَّه تَعالى قال في الأُولى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 11] ، وقال في الثَّانيةِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12] ، وفي الثَّالثةِ: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: 13] ؛ ووجه ذلك: أنَّ التَّفكُّرَ إعمالُ النَّظرِ لتطلُّبِ فائدةٍ، وهذه المخلوقاتُ الَّتي تنجُمُ من الأرضِ إذا فكَّرَ فيها علِمَ أنَّ مُعظمَها ليس إلَّا للأكلِ، وأنَّ الأكْلَ به قِوامُ ذي رُوحٍ، وأنَّ المُنعَمَ عليه يحتاجُ أنْ يعرِفَ المُنعِمَ به؛ ليقصِدَ شُكرَ إحسانِه، فهذا مَوضِعُ تفكُّرٍ، بُعِث النَّاسُ عليه؛ ليُفْضِيَ بهم إلى المطلوبِ منهم. ولأنَّ إنباتَ الزَّرعِ والزَّيتونِ والنَّخيلِ والأعنابِ ومُختلَفِ الثَّمراتِ بالماءِ المُنزَّلِ من السَّماءِ، مع كونِه واحدًا والمُنْبَتُ مُختلفَ الأنواعِ والطُّعومِ والمنافعِ: أمْرٌ يُوصَلُ إلى تعرُّفِه وارتباطِه باستِعمالِ الفِكْرِ في ذلك وإنْ لم يطُلْ، بشَرطِ السَّلامةِ من الغَفلةِ؛ فيحصُلُ بمُجرَّدِ الفِكْرِ على عظيمِ المُعتبَرِ؛ فختَمَ الآيةَ بالتَّفكيرِ.

وأمَّا تَعقيبُ ذِكْرِ اللَّيلِ والنَّهارِ وما سخَّرَ في الهواءِ مِن الأنوارِ بقولِه: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ فلأنَّ مُتدبِّرَ ذلك أعلى رُتبةً مِن مُتدبِّرِ ما تَقدَّمَ؛ إذ كانتِ المنافعُ المَجعولةُ فيها أخفى وأغمَضَ؛ فمَن استدرَكَ الآياتِ فيها استحَقَّ الوصفَ بما هو أعْلَى مِن رُتبةِ المُتفكِّرِ المُتدبِّرِ؛ لأنَّه المَنزلةُ الثَّانيةُ الَّتي تُؤَدِّي إليها الفِكرةُ، وهو أنْ يعقِلَ مَطلوبَه منها، ويُدْرِكَ فائدتَه منها؛ ففي تَسخيرِ الليلِ والنَّهارِ إلى ما ذُكِرَ معهما لا يُكتفَى في معرفة ذلك، والحصولِ على الاعتبارِ به بمُجرَّدِ الفِكر؛ فإنَّ العِلمَ بتسخيرِ هذه ممَّا يَغمُض ويَخفَى إلَّا على ذَوي البصائرِ والفِطنِ السَّليمةِ والعقولِ الراجحةِ، فوُصِفَ المعتبِرُ بها بما هو فَوقَ الفِكرِ؛ فقيل: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

وأمَّا الثَّالثةُ، وهي قولُه: لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ؛ فلأنَّه لَمَّا نبَّهَ في الأُوليَينِ على إثباتِ الصَّانعِ، نبَّهَ في الثَّالثةِ على أنَّه لا شِبْهَ له ممَّا صنَعَ؛ لأنَّ مَن رأى المخلوقاتِ أصنافًا مُزْدَوجةً مُؤتلِفةً أو مُختلِفةً نَفى عنه صِفاتِها، وعلِمَ أنَّ خالقَها يُخالِفُها، لا يُشبِهُها ولا تُشبِهُه؛ فيَعْلَمَ بعدَ العِلمِ بما تقدَّمَ أنَّه لا صاحِبةَ له ولا ولَدَ، ولا مُشْبِهَ له فيما أنشَأَ وبرَأَ، إذا تذكَّرَ حالَه فيها اتَّفقَ منه واختلَفَ؛ فقَصدُ التذكير هنا كافٍ في حُصولِ الاعتبارِ بذلك؛ فورَدَ كلُّ خِتامِ آيةٍ على أَجَلِّ مُناسَبةٍ، وكلُّ آيةٍ مِن هذِه الثَّلاثِ لا يُناسِبُها إلَّا ما أُعقِبَ به .

- وقيل: وَجهُ اختلافِ الأوصافِ في قولِه: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وقولِه: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وقولِه: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ: أنَّ ذلك لمُراعاةِ اختلافِ شِدَّةِ الحاجةِ إلى قُوَّةِ التَّأمُّلِ، فدَلالةُ المخلوقاتِ النَّاجمةِ عن الأرضِ يحتاج إلى التَّفكُّرِ؛ وهو إعمالُ النَّظرِ المُؤَدِّي إلى العلمِ. ودلالةُ ما ذرَأَه في الأرضِ مِن الحيوانِ مُحتاجةٌ إلى مَزيدِ تأمُّلٍ في التَّفكيرِ للاستِدلالِ على اختلافِ أحوالِها وتناسُلِها وفوائدِها، فكانت بحاجةٍ إلى التَّذكُّرِ؛ وهو التَّفكُّرُ مع تذكُّرِ أجناسِها واختلافِ خَصائصِها. وأمَّا دَلالةُ تَسخيرِ اللَّيلِ والنَّهارِ والعوالِمِ العُلويَّةِ؛ فلأنَّها أدَقُّ وأحوجُ إلى التَّعمُّقِ. وعُبِّرَ عنِ المُستدِلِّين عليها بأنَّهم يَعْقِلون، والتَّعقُّلُ هو أعلى أحوالِ الاستدلالِ . وقيل: ذُكِرَ العقلُ في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ لأنَّ الآثارَ العُلويَّةَ أظهَرُ دَلالةً على القُدرةِ الباهرةِ، وأبيَنُ شَهادةً للكِبرياءِ والعظَمةِ ؛ فخصَّصَ الاعتبارَ بأهلِ العَقلِ؛ لأنَّ هذه الآياتِ أعظَمُ ممَّا قبلَها وأدَلُّ وأكبَرُ، والأُولى هي كالبابِ لهذه، فمَنِ استدَلَّ بهذه الآياتِ وأعطاها حقَّها مِن الدَّلالةِ، استحقَّ مِن الوَصفِ ما يستَحِقُّه صاحِبُ الفِكرِ- وهو العَقلُ- وأيضًا لأنَّ مَنزلةَ العَقلِ بعد مَنزلةِ الفِكْرِ؛ فلمَّا دَلَّهم بالآيةِ الأولى على الفِكرِ، نَقَلَهم بالآيةِ الثَّانيةِ- التي هي أعظَمُ منها- إلى العَقلِ الذي هو فوقَ الفِكرِ .

وقد يقال: ذُكِرَ التفكُّرُ أولًا؛ لأنَّ إعمالَ الفِكرِ في ذلك يَقودُه إلى ما بَعدَه، وهو أنْ يَعقِلَ ما دَلَّتْ عليه تِلكَ الآياتُ مِن وَحدانيَّةِ اللهِ، وبُطلانِ عِبادَةِ مَن سواه، وهذا العقلُ يُوصلُه إلى التَّذكُّرِ؛ فلا يكونُ غافلًا، وذلك يَرفَعُهُ إلى مَرتبةِ الشُّكرِ ومَنزلتِه لِمَن أَوْلَى هذِه النِّعمَ وأسْدَاها.

5- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا بدأ أوَّلًا مِن منافِعِه بما هو الأهَمُّ، وهو الأكلُ .

- وجُملةُ: وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ مُعترِضةٌ بين الجُملِ المُتعاطفةِ مع إمكانِ العطفِ؛ لقَصدِ مُخالفةِ الأسلوبِ، للتَّعجُّبِ مِن تَسخيرِ السَّيرِ في البحرِ باستحضارِ الحالةِ العجيبةِ بواسطةِ فعْلِ الرُّؤيةِ؛ فهذا النَّظمُ للكلامِ لإفادةِ هذا المعنى، ولولاها لكان الكلامُ هكذا: (وتَسْتخرِجوا منه حِليةً تلبَسُونها وتَبْتغوا مِن فضلِه في فُلكٍ مُواخِرَ) .

- قولُه: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فيه تَخصيصُه بتَعقيبِ الشُّكرِ؛ ولعلَّ ذلك لأنَّه أقوى في بابِ الإنعامِ، مِن حيث إنَّه جعَلَ المهالِكَ سببًا للانتفاعِ وتَحصيلِ المعاشِ ؛ فإن فيها قطعًا لمسافةٍ طويلةٍ معَ أحمالٍ ثقيلةٍ، في مدَّةٍ قليلةٍ مِن غيرِ مزاولةِ أسبابِ السفرِ، بل مِن غيرِ حركةٍ أصلًا، معَ أنَّها في تضاعيفِ المهالِكِ .

- وعُطِفُ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على بقيَّةِ العِلَلِ؛ لأنَّه مِن الحِكَمِ الَّتي سخَّرَ اللهُ بها البحرَ للنَّاسِ؛ حملًا لهم على الاعترافِ للهِ بالعُبوديَّةِ، ونَبذِهم إشراكَ غيرِ ربِّه فيها، وهو تعريضٌ بالَّذين أشْرَكوا .

6- قولُه تعالى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

- وقولُه: أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ تَعليلٌ لإلقاءِ الرَّواسي في الأرضِ، ولمَّا كان المقامُ مقامَ امتنانٍ، عُلِمَ أنَّ المُعلَّلَ به هو انتفاءُ المَيْدِ، لا وقوعُه؛ فالكلامُ جارٍ على حَذفٍ تَقْتضيه القرينةُ .

7- قولُه تعالى: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ

- قولُه: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ فيه الْتفاتٌ، حيث أُخْرِجَ الكلامُ عن سَننِ الخطابِ؛ فقدِ الْتفَتَ مِن الخطابِ إلى الغَيبةِ، والفائدةُ منه: أنَّه لمَّا كانتِ الدَّلالةُ مِن النَّجمِ أنفَعَ الدَّلالاتِ وأوضَحَها في البَرِّ والبحرِ، نبَّهَ على عِظَمِها بالالتفاتِ إلى مقامِ الغَيبةِ؛ لإفهامِ العُمومِ، ولئلا يُظَنَّ أنَّ المُخاطَبَ مَخصوصٌ بذلك . وقيل: إنه عدَل عن الخطابِ إلى الغَيبةِ الْتفاتًا يُومِئُ إلى فريقٍ خاصٍّ، وهم السَّيَّارةُ والملَّاحونَ؛ فإنَّ هِدايتَهم بهذه النُّجومِ لا غيرُ .وقيل: إن قريشًا كانت تُكثِرُ أسفارَها لطلبِ المال، ومَن كثُرتْ أسفارُه كان علمُه بالمنافعِ الحاصلةِ مِن الاهتداءِ بالنجومِ أكثرَ وأتمَّ، فقولُه: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ إشارةٌ إلى قريشٍ لهذا السببِ .

- وتَقديمُ الجارِّ والضَّميرِ وَبِالنَّجْمِ هُمْ؛ للتَّخصيصِ، كأنَّه قيل: وبالنَّجمِ خُصوصًا هؤلاء خُصوصًا يَهْتدونَ؛ فالاعتِبارُ بذلك والشُّكرُ عليه بالتَّوحيدِ ألْزَمُ لهم، وأوجَبُ عليهم . أو قُدِّمَ المُتعلِّقُ في قولِه: وَبِالنَّجْمِ تقديمًا يُفيدُ الاهتمامَ، وكذلك بالمُسنَدِ الفِعليِّ في قولِه تعالى: هُمْ يَهْتَدُونَ، وتقديمُ المُسنَدِ إليه على الخبرِ الفِعليِّ في قولِه تعالى: هُمْ يَهْتَدُونَ لمُجرَّدِ تَقَوِّي الحُكمِ؛ إذ لا يَسمَحُ المقامُ بقَصدِ القصرِ .

8- قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

- قولُه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ إنكارٌ بعدَ إقامةِ الدَّلائلِ المُتكاثرةِ على كَمالِ قُدرتِه، وتَناهي حِكمتِه، والتَّفرُّدِ بخَلقِ ما عدَّدَ مِن مُبدعاتِه: لِأَنْ يُساويَه ويستحِقَّ مُشاركتَه ما لا يقدِرُ على خَلقِ شَيءٍ من ذلك، بل على إيجادِ شَيءٍ ما، وهذا مِن عكسِ التَّشبيهِ؛ إذ مُقْتضى الظَّاهرِ العكسُ، فكان حَقُّ الكلامِ: (أفمَن لا يَخلُقُ كمَن يَخلُقُ؟!)؛ لأنَّ الخِطابَ لعُبَّادِ الأوثانِ حيث سَمَّوها آلهةً؛ تشبيهًا به تعالى، فجعَلوا غيرَ الخالقِ كالخالقِ؛ فخُولِفَ في خِطابِهم؛ لأنَّهم بالَغوا في عِبادتِها، حتَّى صارت عندهم أصلًا في العِبادةِ، والخالقُ فرعًا، وعكَسَ تنبيهًا على أنَّهم بالإشراكِ باللهِ سُبحانَه وتعالى جَعَلوه من جِنسِ المخلوقاتِ العَجَزةِ شبيهًا بها؛ فجاء الإنكارُ على وَفقِ ذلك؛ ليَفْهموا المُرادَ على مُعتقدِهم ، وأيضًا فالمرادُ منه أنَّ مَن يخلُقُ هذه الأشياءَ العظيمةَ، ويُعطي هذه المنافِعَ الجليلةَ: كيف يُسَوَّى بينَه وبينَ هذه الجماداتِ الخسيسةِ في التَّسميةِ باسمِ الإلهِ، وفي الاشتِغالِ بعبادتِها والإقدامِ على غايةِ تَعظيمِها؟! فوقعَ التعبيرُ عن هذا المعنى بقولِه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ .

- قولُه: أَفَمَنْ فيه تَعقيبُ الهمزةِ بالفاءِ؛ لتَوجيهِ الإنكارِ إلى تَوهُّمِ المُشابهةِ المذكورةِ على ما فُصِّلَ من الأُمورِ العظيمةِ الظَّاهرةِ الاختصاصُ به تَعالى، المعلومةِ كذلك فيما بينَهم .

- وعبَّر عن الأصنامِ بقولِه: كَمَنْ، والأصنامُ جماداتٌ، ولفظةُ (مَن) تكونُ لمن يُوصَفُ بالعلمِ؛ وذلك لأنَّ الكُفَّارَ لَمَّا سَمَّوها آلهةً وعَبدُوها، لا جرَمَ أُجرِيَت مجرَى مَن يُوصَفُ بالعلمِ، أو أنَّ السَّببَ فيه المُشاكَلةُ بينَه وبينَ (مَن يَخلُقُ) .

- وفُرِّعَ على إنكارِ التَّسويةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ استفهامٌ عن عدَمِ التَّذكُّرِ في انتفائِها؛ فالاستفهامُ في قولِه: أَفَلَا تَذَكَّرُونَ مُستعمَلٌ في الإنكارِ على انتفاءِ التَّذكُّرِ، وذلك يختلِفُ باختلافِ المُخاطَبينَ؛ فهو إنكارٌ على إعراضِ المُشركينَ عن التَّذكُّرِ في ذلك .

9- قولُه تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

- جُملةُ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا عَطفٌ على جُملةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ وهي كالتَّكمِلةِ لها؛ لأنَّها نتيجةٌ لِمَا تضَمَّنَته تلك الأدِلَّةُ مِن الامتنانِ كما تقَدَّم، وهي بمنزلةِ التَّذييلِ للامتنانِ؛ لأنَّ فيها عمومًا يشمَلُ النِّعَمَ المذكورةَ وغيرَها .

- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ استئنافٌ عقَّبَ به تَغليظَ الكُفرِ والتَّهديدَ عليه؛ تنبيهًا على تَمكُّنِهم من تَدارُكِ أمرِهم بأنْ يُقْلِعوا عن الشِّركِ، ويتأهَّبوا للشُّكرِ بما يُطيقونَ، على عادةِ القُرآنِ من تَعقيبِ الزَّواجرِ بالرَّغائبِ؛ كَيْلَا يقنَطَ المُسرِفون .

- وفي قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ تَقديمُ وَصفِ المغفرةِ على نَعتِ الرَّحمةِ؛ لتقدُّمِ التَّخليةِ على التَّحليةِ .

- وأيضًا في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث خُولِفَ بين خِتامِ هذه الآيةِ وخِتامِ آيةِ سُورةِ إبراهيمَ؛ إذ وقَعَ هنالك: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] ؛ لأنَّ تلك جاءت في سِياقِ وعيدٍ وتَهديدٍ عَقِبَ قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا [إبراهيم: 28] ، فكان المُناسِبُ لها تَسجيلَ ظُلمِهم وكُفرِهم بنِعمةِ اللهِ، وأمَّا هذه الآيةُ فقد جاءت خِطابًا للفريقَينِ كما كانت النِّعمُ المعدودةُ عليهم مُنتفِعًا بها كِلاهما، ثمَّ كان من اللَّطائفِ: أنْ قُوبِلَ الوصفانِ اللَّذانِ في آيةِ سُورةِ إبراهيمَ: لَظَلُومٌ كَفَّارٌ بوَصفينِ هنا: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ؛ إشارةً إلى أنَّ تلك النِّعمَ كانت سببًا لظُلمِ الإنسانِ وكُفرِه، وهي سبَبٌ لغُفرانِ اللهِ ورحمتِه، والأمرُ في ذلك مَنوطٌ بعمَلِ الإنسانِ

=======================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (19-25)

ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ

غريب الكلمات:

 

أَيَّانَ: أي: متى، أو: أيُّ حينٍ أو وقتٍ، وهو سُؤالٌ عن زمَانٍ، وقيل: أصلُه: أيُّ أوانٍ، أي: أيُّ وقتٍ، فحُذِف الألفُ ثم جُعل الواوُ ياءً فأُدغِم فصار أيَّان

.

لَا جَرَمَ: أي: حقًّا، وأصلُ (جرم): يدُلُّ على قَطعٍ .

أَسَاطِيرُ: أي: أباطيلُ وتُرَّهات؛ جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم .

يَزِرُونَ: أي: يَحمِلونَ، والوِزرُ: الثِّقلُ المُثقِلُ للظَّهرِ، وأصلُ (وزر): يدُلُّ على الثِّقلِ في الشَّيءِ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ

لَا جَرَمَ: كلمةُ جزمٍ ويقينٍ جَرَت مجرى المَثَل. وفي هذا التَّركيبِ أقوالٌ: أحدها: أنَّ لَا جَرَمَ بمعنى (لا بُدَّ ولا محالةَ)، فـ (لا) نافيةٌ للجِنسِ، و(جَرَم) اسمُها مبنيٌّ على الفَتحِ في محلِّ نَصبٍ، والمصدرُ المؤوَّلُ من أنَّ ومعمولَيها في محلِّ جَرٍّ بحَرفِ جَرٍّ محذوفٍ، فيصيرُ المعنى: لا بدَّ مِن علمِ اللهِ سِرَّهم وعَلانيَتَهم، ولا محالةَ فيه. الثاني: أنَّ لَا جَرَمَ كلمةٌ واحِدةٌ مرَكَّبةٌ تركيبَ خَمسةَ عشَرَ، وبعدَ التَّركيبِ صار معناها معنى فعلٍ، وهو (حَقَّ) ، والمصدرُ المؤوَّلُ من أنَّ ومعمولَيها فاعِلٌ لمَجموعِ لَا جَرَمَ لتأويلِه بالفعلِ (حقَّ)، وقيل: مُؤَوَّلٌ بمصدرٍ قائمٍ مقامَه، وهو (حَقًّا)، فيصيرُ المعنى: حَقَّ عِلمُ اللهِ سِرَّهم وعلانيَتَهم. الثالث: أنَّ (لا) نافيةٌ لكلامٍ سابقٍ مُقَدَّرٍ، والوقفُ على (لا) تامٌّ، ثم قال: (جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ...)، أي: حَقَّ وثبَتَ عِلمُه، وعليه فالمصدرُ المؤَوَّلُ مِن أنَّ ومَعمولَيها في محلِّ رَفعٍ فاعِلٌ لـ جَرَمَ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: واللهُ- سُبحانَه- يعلَمُ ما تُخفُونَه في أنفُسِكم- أيُّها النَّاسُ- وما تُظهِرونَه، وسيُجازيكم عليه يومَ القيامةِ، والأصنامُ التي يعبُدُها المُشرِكونَ لا تَخلُقُ شَيئًا بل هي مَخلوقةٌ، فكيف يَعبُدونَها مِن دونِ الله؟ هي جميعًا جماداتٌ لا حياةَ فيها، ولا تدري متى يبعَثُها اللهُ. إلهُكم المُستحِقُّ للعبادةِ إلهٌ واحِدٌ، فالكافِرون الذين لا يُؤمِنون بالآخِرةِ وما فيها مِن ثوابٍ وعِقابٍ، قلوبُهم جاحِدةٌ لنِعَمِ اللهِ ولوحدانيَّتِه سُبحانَه وقدرتِه، وهم مُتكَبِّرونَ عن قَبولِ الحَقِّ. حقًّا أنَّ اللهَ يعلَمُ ما يُخفيه المُشرِكون مِن إنكارِ الحَقِّ وما يُظهِرونه مِن الكُفرِ والعِصيانِ، وسيُجازيهم على ذلك، إنَّه عزَّ وجَلَّ لا يُحِبُّ المُستكبِرينَ. وإذا قيل لهؤلاء المُشرِكينَ: ما الذي أنزل الله على النبيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالوا كَذِبًا وزُورًا: ما نزل عليه شَيءٌ، وإنَّما هذا القُرآنُ قَصَصُ السَّابقينَ وأباطيلُهم؛ ليَحمِلوا آثامَهم كامِلةً يومَ القيامةِ ويَحمِلوا بعضَ آثامِ الذين أضَلُّوهم بغيرِ عِلمٍ. ألا بئسَ ما يَحمِلونَه مِن ذُنوبٍ ثِقالٍ!

تفسير الآيات:

 

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الكُفَّارَ كانوا- مع اشتِغالِهم بعبادةِ غَيرِ اللهِ تعالى- يُسِرُّونَ ضُروبًا مِن الكُفرِ في مكايدِ الرَّسولِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- فجُعِلَ هذا زَجرًا لهم عنها

.

وأيضًا فإنَّه تعالى زيَّفَ في الآيةِ الأولى عِبادةَ الأصنامِ؛ بسبَبِ أنَّه لا قُدرةَ لها على الخَلقِ والإنعامِ، وزَيَّفَ في هذه الآيةِ أيضًا عبادتَها؛ بسبَبِ أنَّ الإلهَ يجِبُ أن يكونَ عالِمًا بالسِّرِّ والعَلانِيةِ، وهذه الأصنامُ جَماداتٌ لا مَعرِفةَ لها بشيءٍ أصلًا، فكيف تَحسُنُ عبادتُها ؟!

وأيضًا فإنَّها عَطفٌ على جُملةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النحل: 17] ؛ فبعدَ أن أثبتَ أنَّ الله منفَرِدٌ بصِفةِ الخَلقِ دُونَ غَيرِه بالأدلَّةِ العديدةِ، ثمَّ باستنتاجِ ذلك بقَولِه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، انتقل هنا إلى إثباتِ أنَّه مُنفَرِدٌ بعُمومِ العِلمِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا جرت العادةُ بأنَّ المكفورَ إحسانُه يُبادِرُ إلى قَطعِه عند عِلمِه بالكُفرِ، فكان ربَّما توهَّمَ مُتوَهِّمٌ أنَّ سبَبَ مُواترةِ الإحسانِ عدمُ العِلمِ بالكُفرانِ، أو عدَمُ العِلمِ بكُفرانٍ لا يدخُلُ تحت المَغفرةِ- قال مهدِّدًا مُبرِزًا للضَّميرِ بالاسمِ الأعظَمِ الذي بُنِيَت عليه السُّورةُ؛ للفَصلِ بالفَرقِ بين الخالقِ وغَيرِه، ولئلَّا يُتوهَّمَ تقيُّدُ التهديدِ بحيثيَّةِ المغفرةِ؛ إيماءً إلى أنَّ ذلك نتيجةُ ما مضَى :

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19).

أي: واللهُ يعلَمُ- أيُّها النَّاسُ- الذي تُخفُونَه في أنفُسِكم، ويعلَمُ الذي تُظهِرونَه أمامَ الآخرينَ مِن الأقوالِ والأفعالِ، فيُحصِيها عليكم ويُجازيكم بها يومَ القيامةِ؛ إنْ خَيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ .

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أثبت اللهُ تعالى لنَفسِه كمالَ القُدرةِ، وتمامَ العِلمِ، وأنَّه المُنفَرِدُ بالخَلقِ؛ شرعَ يُقيمُ الأدلَّةَ على بُعدِ ما يُشرِكونَه به مِن الآلهةِ، بسَلبِ تلك الصِّفاتِ .

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20).

أي: والأصنامُ التي يعبُدُها المُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ لا تستطيعُ أن تخلُقَ شَيئًا، بل هي مخلوقةٌ، فكيف يكون إلهًا ما كان مخلوقًا لا يَملِكُ نَفعًا ولا ضَرًّا ؟!

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان مِن المخلوقاتِ الميِّتُ والحَيُّ، وكان الميِّتُ أبعَدَ شَيءٍ عن صِفةِ الإلهِ؛ نفَى عن الأصنامِ الحياةَ- بعدَ أن نفَى القُدرةَ والعِلمَ- المُستلزِمِ لأن يكونَ عَبَدتُها أشرَفَ منها، المُستلزِمِ لأنَّهم بخُضوعِهم لها في غايةِ السَّفَهِ .

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ.

أي: الأصنامُ التي يعبُدُها المُشرِكونَ جَماداتٌ لا أرواحَ فيها، فلا تسمَعُ ولا تُبصِرُ ولا تَعقِلُ شيئًا، فكيف تُتَّخَذُ هذه آلِهةً ؟

وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.

أي: وما تدري هذه الأصنامُ متى يَبعَثُها اللهُ، فكيف يُرتجَى عندَ هذه نفعٌ أو ثوابٌ وجزاءٌ ؟

كما قال تعالى: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65] .

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا زيَّفَ- فيما تقَدَّمَ- طريقةَ عبَدةِ الأوثانِ والأصنامِ، وبيَّنَ فسادَ مَذهَبِهم بالدَّلائِلِ القاهرةِ؛ قال: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، ثمَّ ذكَر تعالى ما لأجلِه أصرَّ الكفارُ على القولِ بالشركِ، وإنكارِ التوحيدِ .

وأيضًا فإنَّ اللهُ تعالى لَمَّا ذكر ما اتَّصَفَت به آلِهةُ المُشرِكينَ بما يُنافي الألوهيَّةَ؛ أخبَرَ تعالى أنَّ إلهَ العالَمِ هو واحِدٌ، وأنَّ الذين لا يُؤمِنونَ بالجَزاءِ بعد وُضوحِ بُطلانِ أن تكونَ الإلهيَّةُ لِغَيرِه، بل له وَحدَه؛ هم مُستَمِرُّونَ على شِركِهم، مُنكِرونَ وحدانيَّتَه، مُستَكبِرونَ عن الإقرارِ بها؛ لاعتقادِهم الإلهيَّةَ لأصنامِهم .

وأيضًا فهو استئنافُ نتيجةٍ لحاصلِ المُحاجَّةِ الماضيةِ، أي: قد ثبت بما تقَدَّمَ إبطالُ إلهيَّةِ غيرِ الله، فثبَت أنَّ لكم إلهًا واحدًا لا شريكَ له .

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ.

أي: مَعبودُكم- أيُّها النَّاسُ- الذي يستحِقُّ عبادتَكم دونَ سائِرِ الأشياءِ، مَعبودٌ واحِدٌ؛ فلا تُشرِكوا به شيئًا .

فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ.

أي: فالذين لا يُؤمِنونَ بيومِ القيامةِ والجنَّةِ والنَّارِ، قُلوبُهم تُنكِرُ ما أخبَرَ به مِن قُدرتِه وعَظَمتِه ونِعَمِه، وتُنكِرُ إفرادَ اللهِ بالعبادةِ، وأنَّ الألوهيَّةَ لا تَصلُحُ لِغَيرِه، وهم مُمتَنِعونَ كِبرًا عن قَبولِ الحَقِّ، والانقيادِ إليه .

كما قال تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: 4-5] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الزمر: 45] .

وقال سُبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: 35] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] .

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23).

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ.

أي: حقًّا أنَّ اللهَ يَعلَمُ ما يُسِرُّه المُشرِكونَ في قُلوبِهم مِن إنكارِهم للحَقِّ، واعتقادِهم بالباطِلِ، ويعلَمُ حَقًّا ما يُعلِنونَه مِن الكُفرِ والمعاصي، وسيُجازيهم على أعمالِهم الظَّاهِرةِ والباطنةِ .

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كان في قَولِه تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ معنى التَّهديدِ؛ لأنَّ المرادَ: فلَيُجازيَنَّهم على دِقِّ ذلك وَجِلِّه مِن غَيرِ أن يَغفِرَ منه شَيئًا، كما يأتي التَّصريحُ به في قَولِه: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً [النحل: 25] - علَّلَ هذا المعنى بقَولِه :

إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.

أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُستكبِرينَ عن تَوحيدِه، وإفرادِه بالعبادةِ، فهو يُبغِضُهم وسيُعاقِبُهم .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بالغَ في تقريرِ دلائِلِ التَّوحيدِ، وأوردَ الدَّلائِلَ القاهِرةَ في إبطالِ مذاهِبِ عَبدةِ الأصنامِ؛ ذكَرَ بعد ذلك شُبُهاتِ مُنكِري النبُوَّةِ مع الجوابِ عنها .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ.

أي: وإذا قيلَ لهَؤلاء المُشرِكينَ: ما الذي أنزَلَه ربُّكم مِن الوحيِ على نبيِّه مُحمَّدٍ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ؟

قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.

أي: قال المُشرِكونَ: لم يَنزِلْ عليه شيءٌ، وهذا القُرآنُ الذي يزعُمُ محمَّدٌ أنَّ الله أنزَلَه عليه، هو ما سَطَره الأقدَمونَ في كُتُبِهم من الأكاذيبِ والأباطيلِ والقِصَص التي يتناقَلُها النَّاسُ جِيلًا بعد جِيلٍ .

كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 31] .

وقال سُبحانه: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5] .

لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25).

لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

أي: لِيحمِلوا ذُنوبَهم كامِلةً يومَ القيامةِ .

وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

أي: ولِيحملَ المُشرِكونَ المَتبوعونَ أيضًا بعضَ ذُنوبِ أتباعِهم الذين يُضِلُّونَهم فيقلدونهم بغيرِ عِلمٍ .

كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 12-13] .

وعن أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن دعا إلى هُدًى، كان له مِن الأجرِ مِثلُ أجُورِ مَن تَبِعَه، لا يَنقُصُ ذلك مِن أجورِهم شَيئًا، ومَن دعا إلى ضَلالةٍ، كان عليه مِن الإثمِ مِثلُ آثامِ مَن تَبِعَه، لا يَنقُصُ ذلك مِن آثامِهم شَيئًا ) ) .

أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ.

أي: ألا بِئسَ ما يحمِلُه المُشرِكونَ على ظُهورِهم مِن الذُّنوبِ الثَّقيلةِ

 

.

كما قال تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام: 31] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ المعنى: أنَّ الذين يُؤمِنونَ بالآخرةِ، ويَرغَبونَ في الفَوزِ بالثَّوابِ الدَّائمِ، ويخافونَ الوُقوعَ في العِقابِ الدَّائمِ؛ إذا سَمِعوا الدَّلائِلَ والتَّرغيبَ والتَّرهيبَ، خافوا العِقابَ فتأمَّلوا وتفَكَّروا فيما يَسمَعونَه؛ فلا جرَمَ ينتَفِعونَ بسَماعِ الدَّلائِلِ، ويَرجِعونَ مِن الباطِلِ إلى الحَقِّ، أمَّا الذين لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ ويُنكِرونَها، فإنَّهم لا يَرغَبونَ في حُصولِ الثَّوابِ، ولا يَرهَبونَ مِن الوقوعِ في العِقابِ، فيَبقَونَ مُنكِرينَ لكُلِّ كلامٍ يُخالِفُ قَولَهم، ويَستَكبِرونَ عن الرُّجوعِ إلى قَولِ غَيرِهم، فلا جرَمَ يَبقَونَ مُصِرِّينَ على ما كانوا عليه مِن الجَهلِ والضَّلالِ

.

2- كثيرًا ما يكونُ الكِبْرُ مانِعًا مِن قَبولِ الحَقِّ؛ قال تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ .

3- قَولُه تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ قال العُلماءُ: (كُلُّ ذَنبٍ يُمكِنُ التسَتُّرُ منه وإخفاؤُه إلَّا الكِبْرَ؛ فإنَّه فِسقٌ يَلزَمُه الإعلانُ، وهو أصلُ العِصيانِ كُلِّه) .

4- قَولُ الله تعالى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ عامٌّ في الكافرينَ والمُؤمِنينَ، يأخُذُ كُلُّ واحِدٍ منهم بقِسطِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ فيه سُؤالٌ: أليس أنَّ قَولَه تعالى في أوَّلِ الآيةِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ يدُلُّ على أنَّ هذه الأصنامَ لا تخلُقُ شَيئًا، وقولَه هاهنا: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا يدُلُّ على نفسِ هذا المعنى، فكان هذا مَحضَ التَّكريرِ؟

الجوابُ: أنَّ المذكورَ في أوَّلِ الآيةِ أنَّهم لا يَخلُقونَ شَيئًا، والمذكورَ هاهنا أنَّهم لا يخلُقونَ شَيئًا، وأنَّهم مَخلوقونَ لِغَيرِهم، فكان هذا زيادةً في المعنى، وكأنَّه تعالى بدأ بشَرحِ نَقصِهم في ذَواتِهم وصِفاتِهم؛ فبيَّنَ أوَّلًا أنَّها لا تخلُقُ شَيئًا، ثمَّ ثانيًا أنَّها كما لا تَخلُقُ غَيرَها فهي مخلوقةٌ لِغَيرِها

، وأيضًا فقولُه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ لبيانِ المستحقِّ للعبادةِ، وأمَّا قولُه: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا فلبيانِ عجزِ هذه الأصنامِ وضعفِها.

2- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ أنَّ الجَمادَ يُسَمَّى مَيِّتًا، وإن كان غيرَ قابِلٍ للحياةِ؛ فإنَّ اللهَ في هذه الآيةِ سَمَّى الأصنامَ أمواتًا، وهي حِجارةٌ .

3- قال الله تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ قيل: فيه دليلٌ على أنَّ الأصنام تُجعَلُ فيها الحياةُ، وتُبعَثُ يومَ القيامةِ حتَّى تتبَرَّأَ مِن عابديها، وذلك على اعتبارِ أنَّ قولَه: وَمَا يَشْعُرُونَ يعني به هذه الأصنامَ . وقيل: إنَّما عبَّر عنها كما عبَّر عن الآدميينَ؛ لأنَّهم زعموا أنَّها تعقلُ عنهم، وتعلمُ وتشفعُ لهم عندَ الله تعالى، فجرَى خطابُهم على ذلك .

4- قال الله تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ نفَى عنهم مُطلَقَ الشُّعورِ الذي هو أعمُّ مِن العِلمِ، فيَنتفي كلُّ ما هو أخَصُّ منه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وصَفَهم بأنَّهم لا يُؤمِنونَ بالآخِرةِ؛ مُبالغةً في نِسبةِ الكُفرِ إليهم؛ إذ عَدَمُ التَّصديقِ بالجَزاءِ في الآخِرةِ يتضَمَّنُ التَّكذيبَ باللهِ تعالى وبالبَعثِ؛ إذ مَن آمَنَ بالبَعثِ يَستحيلُ أن يُكَذِّبَ بالله عَزَّ وجَلَّ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أي: أنَّه تعالى لا يُخفِّفُ مِن عقابِهم شَيئًا، بل يُوصِلُ ذلك العِقابَ بكُلِّيَّتِه إليهم. وهذا يدُلُّ على أنَّه تعالى قد يُسقِطُ بعضَ العِقابِ عن المُؤمِنينَ؛ إذ لو كان هذا المعنى حاصِلًا في حَقِّ الكُلِّ، لم يكُنْ لتَخصيصِ هؤلاء الكُفَّارِ بهذا التَّكميلِ معنًى .

7- في قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ دليلٌ على أنَّ مَن أَفْتَى بغير علمٍ فَعُمِلَ بفتواه؛ كان إِثْمُ العاملِ عليه .

8- قال الله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ فلم يُكفَّرْ عنهم شَيءٌ مِن ذُنوبِهم بما يُصيبُهم في الدُّنيا مِن نَكبةٍ وبَليَّةٍ، كما يُكَفَّرُ عن المُؤمِنينَ .

9- قَولُ اللهِ تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ لا يُعارِضُه قَولُه تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] ؛ فمعناه: وِزْرًا لا مَدخَلَ لها فيه، ولا تعَلُّقَ له بها بتسبُّبٍ ولا غَيرِه، ونظيرُ هاتينِ الآيتينِ سُؤالًا وجَوابًا، قَولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 12- 13] .

10- في قَولِه تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ تحذيرٌ للذي يُحدِثُ البِدعةَ؛ أنَّه قد يَتهاوَنُ بها لِخفَّةِ أمرِها في أوَّلِ الأمرِ، ولا يَشعرُ بما يترتَّبُ عليها مِن المفسَدةِ، وهو أن يَلحقَه إثمُ مَن عَمِلَ بها مِن بَعدِه، ولو لم يكُنْ هو عَمِلَ بها، بل لِكَونِه كان الأصلَ في إحداثِها .

11- في قَولِه تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ دَلالةٌ على أنَّ ما تَوَلَّدَ عن فِعلِ العبدِ يَحصُلُ له منه ثوابٌ وعِقابٌ وإنْ لم يَقصِدْه ؛ فاللهُ سُبحانَه يُعاقِبُ على الأسبابِ المحَرَّمة وعلى ما تولَّدَ منها، كما يُثيبُ على الأسبابِ المأمورِ بها وعلى ما يتولَّدُ منها؛ ولذا كان من دعا إلى بِدعةٍ وضلالةٍ فعليه مِن الوِزرِ مِثلُ أوزارِ مَن اتَّبَعه؛ لأنَّ اتِّباعَهم له تولَّدَ عن فِعلِه؛ ولذلك كان على ابنِ آدَمَ القاتِلِ لأخيه كِفلٌ مِن ذنبِ كُلِّ قاتلٍ إلى يومِ القيامةِ، وقد قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وقال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13] .

12- قَولُه تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ يدُلُّ على أنَّ الكافِرَ غَيرُ مَعذورٍ بعد إبلاغِ الرُّسُلِ المؤَيَّدِ بالمُعجِزاتِ، الذي لا لبْسَ معه في الحَقِّ، ولو كان يَظُنُّ أنَّ كُفرَه هُدًى؛ لأنَّه ما منَعَه من معرفةِ الحَقِّ مع ظُهورِه إلَّا شِدَّةُ التعَصُّبِ للكُفرِ؛ كما قال تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 30] ، وقَوله: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف: 103- 104] ، وقَوله: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ

 

[الزمر: 47] .

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ

- قولُه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ فيه تَقديمُ السِّرِّ على العلَنِ؛ لتَحقيقِ المُساواةِ بين عِلمَيه المُتعلِّقَينِ بهما على أبلَغِ وَجهٍ، كأنَّ عِلمَه تَعالى بالسِّرِّ أقدَمُ منه بالعلَنِ، أو لأنَّ كلَّ شَيءٍ يُعْلَنُ فهو قبلَ ذلك مُضمَرٌ في القلبِ، فتعلُّقُ علمِه تَعالى بحالتِه الأُولى أقدَمُ مِن تعلُّقِه بحالتِه الثَّانيةِ

.

- وفي قولِه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ تَعريضٌ بالتَّهديدِ والوعيدِ بأنَّ اللهَ مُحاسِبُهم على كُفرِهم، وفيه إعلامٌ بأنَّ أصنامَهم بخلافِ ذلك، كما دَلَّ عليه تَقديمُ المُسنَدِ إليه وَاللَّهُ على الخبرِ الفعليِّ يَعْلَمُ؛ فإنَّه يفيدُ القصرَ لرَدِّ دعوى الشَّركةِ .

2- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ

- شُروعٌ في تَحقيقِ كونِ الأصنامِ بمَعزِلٍ مِن استحقاقِ العِبادةِ، وتَوضيحِه بحيث لا يَبْقَى فيه شائبةُ رَيبٍ بتعديدِ أوصافِها وأحوالِها المُنافيةِ لذلك مُنافاةً ظاهرةً، وتلك الأحوالُ وإنْ كانت غَنيَّةً عن البَيانِ لكنَّها شُرِحَت للتَّنبيهِ على كَمالِ حَماقةِ عَبَدَتِها، وأنَّهم لا يعرِفونَ ذلك إلَّا بالتَّصريحِ، أي: والآلهةُ الَّذين يعبُدُهم الكُفَّارُ .

- والمقصودُ من هذه الجُملةِ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ... التَّصريحُ بما اسْتُفِيدَ ضِمنًا ممَّا قبلَها، وهو نَفيُ الخالِقيَّةِ، ونفيُ العلمِ عن الأصنامِ؛ فالخبرُ الأوَّلُ- وهو جُملةُ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا- اسْتُفِيدَ من جُملةِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، وعُطِفَ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ارتقاءً في الاستدلالِ على انتفاءِ إلهيَّتِها، والخبرُ الثَّاني- وهو جُملةُ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ- تَصريحٌ بما اسْتُفِيدَ من جُملةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ بطَريقةِ نَفيِ الشَّيءِ بنَفيِ مَلزومِه، وهي طريقةُ الكِنايةِ الَّتي هي كذِكْرِ الشَّيءِ بدَليلِه .

- وبِناءُ الفعلِ يُخْلَقُونَ للمفعولِ؛ لتَحقيقِ التَّضادِّ والمُقابَلةِ بينَ ما أُثِبتَ لهم، وبينَ ما نُفِيَ عنهم مِن وَصفَيِ المخلوقيَّةِ والخالقيَّةِ، وللإيذانِ بعدَمِ الافتقارِ إلى بَيانِ الفاعلِ؛ لظُهورِ اختصاصِ الفعلِ بفاعلِه جَلَّ جلالُه. ويجوزُ أنْ يُجعَلَ الخلقُ الثَّاني عبارةً عن النَّحتِ والتَّصويرِ؛ رِعايةً للمُشاكَلَةِ بينه وبين الأوَّلِ، ومُبالغةً في كونِها مَصنوعةً لعَبَدَتِها وأعجَزَ عنهم، وإيذانًا بكَمالِ رَكاكةِ عُقولِهم حيث أشْرَكوا بخالقِهم مَخلوقَهم.

- ولأنَّ إثباتَ المخلوقيَّةِ لهم غيرُ مُستَدْعٍ لنَفيِ الحياةِ عنهم لِمَا أنَّ بعضَ المخلوقينَ أحياءٌ، فقد صُرِّحَ بذلك، فقيل: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ .

3- قوله تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ

- قولُه: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ، جُملةُ غَيْرُ أَحْيَاءٍ تأكيدٌ لمَضمونِ جُملةِ أَمْوَاتٌ؛ للدَّلالةِ على عَراقةِ وَصفِ الموتِ فيهم بأنَّه ليس فيهم شَائبةُ حياةٍ؛ لأنَّهم حِجارةٌ ، وفيه احتراسٌ ؛ إذ قد وصَفَ الأصنامَ بـ غَيْرُ أَحْيَاءٍ بعدَ قولِه: أَمْوَاتٌ؛ لأنَّ الأصنامَ أمواتٌ لا يَعْقُبُ موتَها حياةٌ؛ احترازًا عن أمواتٍ يعقُبُ موتَها حياةٌ؛ كالنُّطَفِ، والبَيضِ، والأجسادِ الميتةِ، وذلك أبلغُ في موتِها، كأنَّه قال: أمواتٌ في الحالِ، غيرُ أحياءٍ في المآلِ .

- وجُملةُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إدماجٌ ؛ لإثباتِ البعثِ عَقِبَ الكلامِ على إثباتِ الوَحدانيَّةِ للهِ تَعالى؛ لأنَّ هذينِ هما أصلُ إبطالِ عَقيدةِ المُشركينَ، وتَمهيدٌ لوَجهِ التَّلازُمِ بين إنكارِ البعثِ وبين إنكارِ التَّوحيدِ في قولِه تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ .

- وقولُه أيضًا: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فيه تَهكُّمٌ بالمُشركينَ، وأنَّ آلهتَهم لا يَعْلمون وقتَ بَعثِهم؛ فكيف يكونُ لهم وقتُ جزاءٍ منهم على عِبادتِهم ؟! وهو أيضًا على طَريقةِ التَّهكُّمِ بهم؛ لأنَّ شُعورَ الجمادِ بالأُمورِ الظَّاهرةِ بَديهيُّ الاستحالةِ عند كلِّ أحدٍ؛ فكيف بما لا يعلَمُه إلَّا العليمُ الخبيرُ ؟! وهذا على أحدِ أوجهِ التأويلِ.

4- قوله تعالى: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ

- قولُه: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ فَذلَكةٌ لِمَا سبَق، وإعادةٌ لأمْرِ الأُلوهيَّةِ مُجمَلًا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليها مُفصَّلًا؛ والمعنى: قد ثبَتَ بالدَّلائلِ الدالَّةِ على أنَّ الإلهيَّةَ مُختصَّةٌ باللهِ تعالى، وأنَّه واحدٌ متفرِّدٌ بالألوهيَّة، وهو المعبودُ الحقُّ، وإذا كان كذلك؛ فمِن حَقِّه أنْ يَختَصَّ بالعبادةِ، وأنْ لا تُنكَرَ إلهيتُه، وهؤلاء عكَسوا واستمرُّوا على شِركِهم، وقلوبُهم منكرةٌ للوحدانيَّة .

- وفي قولِه: إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث عَرِيَت الجُملةُ عن المُؤكِّدِ؛ لكون ما مَضى قبلَ هذا الموضعِ كافيًا في إبطالِ إنكارِ المُشركينَ الوَحدانيَّةَ؛ تَنزيلًا لحالِ المُشركينَ بعدما سَمِعوا من الأدلَّةِ مَنزلةَ مَن لا يُظَنُّ به أنَّه يتردَّدُ في ذلك، بخلافِ قولِه تعالى في سُورةِ الصَّافاتِ: إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ [الصافات: 4] ؛ لأنَّ ذلك ابتداءُ كلامٍ لم يتقدَّمْه دليلٌ .

- قولُه: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ بيانٌ لِمَا اقْتَضى إصرارَهم بعدَ وُضوحِ الحقِّ، وذلك عدَمُ إيمانِهم بالآخرةِ- فإنَّ المُؤمنَ بها يكونُ طالبًا للدَّلائلِ، مُتأمِّلًا فيما يسمَعُ، فينتفِعُ به، والكافرُ بها يكونُ حالُه بالعكسِ- وإنكارُ قُلوبِهم ما لا يُعْرَفُ إلَّا بالبُرهانِ اتِّباعًا للأسلافِ، ورُكونًا إلى المألوفِ؛ فإنَّه يُنافي النَّظرَ- والاستكبارُ عن اتِّباعِ الرَّسولِ وتَصديقِه، والالتفاتِ إلى قولِه، والأوَّلُ- يعني: الذين لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ- هو العُمدةُ في البابِ؛ ولذلك رُتِّبَ عليه ثُبوتُ الآخرينِ- يعني: إنكارَ قُلوبِهم واستكبارَهم .

- والتَّعبيرُ عن المُشركينَ بالموصولِ وصِلَتِه فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ؛ لأنَّهم قد عُرِفُوا بمَضمونِ الصِّلةِ، واشْتُهِرُوا بها اشتهارَ لَمْزٍ وتَنقيصٍ عندَ المُؤمنينَ، وللإيماءِ إلى أنَّ لهذه الصِّلةِ ارتباطًا باستمرارِهم على العِنادِ؛ لأنَّ انتفاءَ إيمانِهم بالبعثِ والحسابِ قد جرَّأَهم على نَبذِ دَعوةِ الإسلامِ ظِهْريًّا، فلم يتوقَّعوا مُؤاخذةً على نَبذِها- على تَقديرِ أنَّها حقٌّ- فيَنْظروا في دَلائلِ أحقِّيَّتِها، مع أنَّهم يُؤمِنون باللهِ، ولكنَّهم لا يُؤمِنون بأنَّه أعَدَّ للنَّاسِ يومَ جزاءٍ على أعمالِهم .

- قولُه: قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، أي: جاحدةٌ بما هو واقعٌ، اسْتُعْمِلَ الإنكارُ في جَحدِ الأمرِ الواقعِ؛ لأنَّه ضِدُّ الإقرارِ، فحُذِفَ مُتعلِّقُ مُنْكِرَةٌ؛ لدَلالةِ المقامِ عليه، أي: مُنكِرةٌ للوَحدانيَّةِ .

- وعُبِّرَ بالجُملةِ الاسميَّةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الإنكارَ ثابتٌ لهم دائمٌ لاستمرارِهم على الإنكارِ بعد ما تبيَّنَ من الأدلَّةِ، وذلك يفيدُ أنَّ الإنكارَ صار لهم سَجِيَّةً، وتمكَّنَ مِن نُفوسِهم؛ لأنَّهم ضَرُوا به- أي: اعتادُوه واجتَرؤوا عليه- من حيث إنَّهم لا يُؤمِنون بالآخرةِ، فاعتادوا عدَمَ التَّبصُّرِ في العواقبِ. وكذلك جُملةُ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ بُنِيَت على الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ الاستكبارِ منهم .

- وفي قولِه: وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث بُنِيَت على الاسميَّةِ؛ لما سبَق، وقد خُولِفَ ذلك في آيةِ سُورةِ الفُرقانِ، حيث قال تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الفرقان: 21] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ تلك الآيةَ لم تتقدَّمْها دَلائلُ على الوَحدانيَّةِ مِثلُ الدَّلائلِ المذكورةِ في هذه الآيةِ في سُورةِ النَّحلِ .

5- قوله تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ

- جُملةُ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ خبرٌ مُستعمَلٌ كنايةً عن الوعيدِ بالمُؤاخذةِ بما يُخْفونَ وما يُظهِرون من الإنكارِ والاستكبارِ وغيرِهما، مُؤاخذةَ عِقابٍ وانتقامٍ؛ فلذلك عقَّبَ بجُملةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ الواقعةِ موقعَ التَّعليلِ والتَّذييلِ لها؛ لأنَّ الَّذي لا يُحِبُّ فِعلًا وهو قادرٌ يُجازي فاعلَه بالسُّوءِ .

- قولُه: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ تَعليلٌ لِمَا تضمَّنَه الكلامُ من الوعيدِ، أي: لا يُحِبُّ المُستكبِرين عن التَّوحيدِ، أو عن الآياتِ الدَّالَّةِ عليه، أو لا يحِبُّ جِنسَ المُستكبرينَ؛ فكيف بمَن استكبَرَ عمَّا ذُكِرَ ؟!

- والتَّعريفُ في الْمُسْتَكْبِرِينَ للاستغراقِ؛ لأنَّ شأنَ التَّذييلِ العمومُ، ويشمَلُ هؤلاء المُتحدَّثَ عنهم؛ فيكونُ إثباتُ العِقابِ لهم كإثباتِ الشَّيءِ بدَليلِه .

6- قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ

- قولُه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ذِكْرُ فعْلِ القولِ قِيلَ يَقْتضي صُدورَه عن قائلٍ يسأَلُهم عن أمرٍ حدَثَ بينهم، وليس على سبيلِ الفرضِ، وأنَّهم يُجيبونَ بما ذُكِرَ؛ مَكرًا بالدِّينِ، وتظاهُرًا بمظهَرِ النَّاصحينَ للمُسترشِدين المُستنصِحين، بقرينةِ قولِه تعالى: وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وإِذَا ظرْفٌ مُضمَّنٌ معنى الشَّرطِ، وهذا الشَّرطُ يُؤذِنَ بتكرُّرِ هذينِ القولَينِ .

- وفي قولِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال بعدَه: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا؛ فرفَعَ الأوَّلَ أَسَاطِيرُ؛ لأنَّهم أنْكَروا إنزالَ القُرآنِ، فعَدَلوا عن الجوابِ، فقالوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. ونصَبَ الثَّانيَ خَيْرًا من كلامِ المُتَّقينَ، وهم مُقِرُّون بالوحيِ والإنزالِ، فقالوا: خَيْرًا، أي: أنزَلَ خيرًا؛ فيكونُ الجوابُ مُطابِقًا .

7- قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ

- عُبِّرَ بصِيغَةِ الاستقبالِ يُضِلُّونَهُمْ؛ للدَّلالةِ على استمرارِ الإضلالِ، أو باعتبارِ حالِ قولِهم لا حالِ الحمْلِ

=====================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (26-29)

ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات:

 

تُشَاقُّونَ: أي: تُخالِفونَ، وتُعادونَ، وتُخاصمونَ، والمشاقةُ عبارةٌ عن كونِ كلِّ واحدٍ مِن الخَصمينِ في شقٍّ غيرِ شقِّ صاحبِه، وأصلُ (شقق): يدُلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ

.

السَّلَمَ: أي: الاستِسلامَ والانقيادَ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: قد مكرَ الكُفَّارُ مِن قَبْلِ مُشرِكي قريشٍ مكرًا شديدًا برُسُلِهم، فأتى اللهُ بُنيانَهم مِن أساسِه وقاعِدتِه، فسقطَ عليهم السَّقفُ مِن فَوقِهم، فأهلكَهم اللهُ من حيثُ لا يحتَسِبونَ ولا يتوقَّعونَ. ثمَّ يومَ القيامةِ يَفضَحُهم اللهُ ويُذِلُّهم، ويَقولُ: أين ما كنتُم تعبُدون مِن دُوني، وتُعادُونَ اللهَ وحِزبَه بسَبَبِهم؛ فلْيَدفَعوا عنكم العذابَ.

ثمَّ حكى سُبحانَه ما يَقولُه أولو العِلمِ في هذا الموقِفِ الهائلِ الشَّديدِ، حيث قالُوا: إنَّ الذُّلَّ في هذا اليَومِ والعذابَ على الكافرينَ، الذين تَقبِضُ الملائِكةُ أرواحَهم في حالِ ظُلمِهم لأنفُسِهم بالكُفرِ والمعاصي، فاستسلَموا لأمرِ اللهِ حين عايَنوا الموتَ، وقالوا: ما كُنَّا نَكفُرُ باللهِ، ولا نَعمَلُ شَيئًا مِن المعاصي، فيُقالُ لهم: كَذَبتُم، قد كُنتم تَعمَلون السُّوءَ، إنَّ اللهَ عليمٌ بأعمالِكم كُلِّها، وسيُجازيكم عليها، فادخُلوا أبوابَ جَهنَّم ماكثينَ فيها أبدًا، فلَبِئسَ منزلُ الذينَ تكبَّروا عن الإيمانِ باللهِ وتوحيده: نارُ جهنَّمَ!

تفسير الآيات:

 

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى عاقِبةَ إضلالِ المُشرِكينَ، وصَدِّهم السَّائلينَ عن القُرآنِ والإسلامِ في الآخِرةِ؛ أتبَعَه بالتَّهديدِ بأنْ يقَعَ لهم ما وقَعَ فيه أمثالُهم في الدُّنيا مِن الخِزيِ والعذابِ، مع التَّأييسِ مِن أن يَبلُغوا بصُنعِهم ذلك مبلَغَ مُرادِهم، وأنَّهم خائِبونَ في صُنعِهم، كما خابَ مِن قَبلِهم الذين مَكَروا برُسُلِهم

.

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ.

أي: قد مكرَ الكُفَّارُ- الذين كانوا مِن قَبلِ مُشرِكي قُرَيشٍ- بالرُّسُلِ وأتباعِهم، وصَدُّوا النَّاسَ عن دِينِ اللهِ، فأتاهم عذابُ اللهِ الذي اجتَثَّ بُنيانَهم مِن أصلِه وأساسِه .

كما قال تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا [الرعد: 42] .

وقال سُبحانه: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ [إبراهيم: 46] .

فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ.

أي: فسقَطَ السَّقفُ على أولئك الكُفَّارِ مِن فَوقِ رُؤوسِهم، فأهلَكَهم اللهُ .

وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.

أي: وأتاهم عذابُ اللهِ بَغتةً مِن حيثُ لا يَحتَسِبونَ ولا يتوقَّعونَ؛ إذ ظَنُّوا أنَّهم في أمانٍ منه .

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا بيَّنَ سُبحانَه وتعالى حالَ المكَرَةِ المتمَرِّدينَ عليه في الدُّنيا، أخَذ يذكُرُ حالَهم في الآخرةِ؛ تقريرًا للآخرةِ، وبيانًا لأنَّ عَذابَهم غيرُ مَقصورٍ على الدُّنيويِّ .

وأيضًا فإنَّها عطفٌ على لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [النحل: 25] ؛ لأنَّ ذلك وعيدٌ لهم، وهذا تكملةٌ له .

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ.

أي: ثُمَّ يومَ القيامةِ يُذِلُّ اللهُ الكافرينَ ويُهينُهم بالعذابِ، ويُظهِرُ فَضائِحَهم، فما كانت تُخفِيه ضمائِرُهم يَجعَلُه علانِيَةً .

وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ.

أي: ويَقولُ اللهُ يومَ القيامةِ للمُشرِكينَ: أين الذين كُنتُم تَعبُدونَهم في الدُّنيا، وتَزعُمونَ أنَّهم شُركائي، وتتَّخِذونَهم أولياءَ مِن دوني، وتُعادُونَ اللهَ وحِزبَه بسَبَبِهم؟! فلْيَدفَعوا عنكم هذا العَذابَ .

قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ.

أي: قال الذينَ آتاهم اللهُ العِلمَ: إنَّ الذِّلَّةَ والهَوانَ يومَ القيامةِ والعذابَ كائِنٌ على الكافِرينَ .

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

بعدَ أن ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ حُلولِ العَذابِ بمَن حَلَّ بهم الاستِئصالُ، وما يحُلُّ بهم يومَ القِيامةِ؛ ذكَرَ حالةَ وَفاتِهم التي هي بين حالَيِ الدُّنيا والآخِرةِ، وهي حالٌ تَعرِضُ لجَميعِهم، سَواءٌ منهم مَن أدرَكَه الاستِئصالُ ومَن هلك قبلَ ذلك .

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.

أي: إنَّ الخِزيَ والسُّوءَ على الكافِرينَ الذين تَقبِضُ الملائِكةُ أرواحَهم، والحالُ أنَّهم ظالِمونَ لأنفُسِهم بالكُفرِ والشِّركِ والمعاصي، فأورَدوها بذلك موارِدَ الهَلاكِ .

فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ.

أي: فاستسلَمَ أولئك الظَّالِمونَ عندَ المَوتِ لله، وانقادُوا لطاعةِ رَبِّهم حين عايَنوا المَوتَ، وقالوا للمَلائِكةِ الذين يَقبِضونَ أرواحَهم، مُنكِرينَ كُفرَهم ومَعاصِيَهم: ما كُنَّا نَكفُرُ باللهِ، ولا نُشرِكُ به ولا نَعصِيه !

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 97] .

بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

أي: فيُقالُ لهم: ليس الأمرُ كما تَزعُمونَ، بل كُنتُم تَعمَلونَ السُّوءَ، إنَّ اللهَ عَليمٌ بالذي كُنتُم تَعمَلونَه مِن الكُفرِ والشِّركِ والمعاصي، فلا ينفَعُكم إنكارُكم، وسيُجازيكم على أعمالِكم .

فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها تَفريعٌ على إبطالِ نَفيِ المُشرِكينَ عمَلَ السُّوءِ؛ لأنَّ إثباتَ كَونِهم كانوا يَعمَلونَ السُّوءَ يقتضي استِحقاقَهم العذابَ، وذلك عندما كشفَ لهم عن مَقَرِّهم الأخيرِ .

فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا.

أي: يُقالُ لهم: ادخُلوا أبوابَ جَهنَّمَ، فكُلٌّ منكم يُعذَّبُ في طبقةٍ مِن طَبقاتِها بحسَبِ عمَلِه، ماكثينَ في جهنَّمَ أبدًا .

كما قال تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] .

فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ.

أي: فلَبِئسَ مَنزِلُ المتكبِّرينَ عن الإيمانِ باللهِ وتَوحيدِه، نارُ جهنَّمَ

 

.

كما قال تعالى: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران: 151] .

الفوائد التربوية:

 

قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ فيه فَضيلةُ أهلِ العِلمِ، وأنَّهم النَّاطِقونَ بالحَقِّ في هذه الدُّنيا، ويومَ يَقومُ الأشهادُ، وأنَّ لِقَولِهم اعتِبارًا عندَ اللهِ، وعند خَلقِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- الإتيانُ والمَجيءُ مِن اللهِ تعالى نوعانِ: مُطلَقٌ ومُقَيَّدٌ.

النوعُ الأولُ: المَجيءُ والإتيانُ المقيَّدُ، كأن يُقيَّدَ المجيءُ بمجيءِ رَحمتِه أو عذابِه وغيرِ ذلك، ومِن المقيَّدِ قولُه تعالى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف: 52] ، وقولُه تعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ [المؤمنون: 71] .

النوعُ الثاني: المجيءُ والإتيانُ المُطلَقُ، كقَولِه تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الفجر: 22] ، وقَولِه تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ [البقرة: 210] ، وهذا لا يكونُ إلَّا مَجيئَه سُبحانَه، هذا إذا كان مُطلَقًا، فكيف إذا قُيِّدَ بما يجعَلُه صريحًا في مجيئِه نَفسِه، كقَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام: 158] ، فعَطَفَ مَجيئَه على مجيءِ الملائِكةِ، ثمَّ عطَفَ مَجيءَ آياتِه على مَجيئِه.

ومِنَ المجيءِ المُقَيَّدِ قَولُه تعالى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فلمَّا قَيَّده بالمفعولِ- وهو البُنيانُ- وبالمجرورِ- وهو القَواعِدُ- دلَّ ذلك على مجيءِ ما بيَّنَه؛ إذ مِن المعلومِ أنَّ اللهَ- سُبحانَه وتعالى- إذا جاء بنَفسِه، لا يَجيءُ مِن أساسِ الحِيطانِ وأسفَلِها، وهذا يُشبِهُ قَولَه تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] فهذا مجيءٌ مُقَيَّدٌ لِقَومٍ مَخصوصينَ، قد أوقَعَ بهم بأسَه، وعَلِمَ السَّامِعونَ أنَّ جُنودَه مِن المَلائِكةِ والمُسلِمينَ أَتَوهم، فكان في هذا السِّياقِ ما يدُلُّ على المرادِ، على أنَّه لا يمتَنِعُ في الآيتَينِ أن يكونَ الإتيانُ على حَقيقتِه، ويكونَ ذلك دُنُوًّا ممَّن يُريدُ إهلاكَهم بغَضَبِه وانتِقامِه، كما يَدنو عَشِيَّةَ عَرَفةَ مِن الحُجَّاجِ برَحمتِه

.

2- قال الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ عدلَ عن أن يقولَ: (أعداؤُهم) أو (المُؤمِنونَ) ونحوُه؛ إجلالًا لهم بوَصفِهم بالعِلمِ الذي هو أشرَفُ الصِّفاتِ؛ لِكَونِه مَنشأَ كُلِّ فَضيلةٍ، وتَعريضًا بأنَّ الحامِلَ للكُفَّارِ على الاستِكبارِ الجَهلُ الذي هو سبَبُ كُلِّ رَذيلةٍ .

3- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إن قيلَ: هذه الآياتُ تدُلُّ على أنَّ الكُفَّارَ يكتُمونَ يومَ القيامةِ ما كانوا عليه مِن الكُفرِ والمعاصي، كقَولِه تعالى عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، وقَولِه تعالى عنهم: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، ونحوِ ذلك، مع أنَّ اللهَ صَرَّحَ بأنَّهم لا يَكتُمونَ حَديثًا في قَولِه تعالى: وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 42] .

فالجوابُ: هو أنَّهم يقولونَ بألسِنَتِهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فيَختِمُ اللهُ على أفواهِهم، وتتكَلَّمُ أيديهم وأرجُلُهم بما كانوا يَكسِبونَ، فالكَتمُ باعتِبارِ النُّطقِ بالجُحودِ وبالألسِنةِ، وعدمُ الكَتمِ باعتبارِ شَهادةِ أعضائِهم عليهم، وهذا الجمعُ يُشيرُ إليه قولُه تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس: 65] . وأجاب بعضُ العلماءِ بتعدُّدِ الأماكنِ، فيكتمونَ في وقتٍ، ولا يكتمونَ في وقتٍ آخرَ، والعلم عند الله تعالى .

4- قَولُ اللهِ تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يدُلُّ على تَفاوُتِ مَنازِلِهم في العِقابِ، فيكونُ عِقابُ بَعضِهم أعظَمَ مِن عِقابِ بَعضٍ .

5- قال الله تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ إنَّما صرَّحَ تعالى بذِكرِ الخُلودِ؛ ليَكونَ الغَمُّ والحُزنُ أعظَمَ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَصفُ التكَبُّرِ دَليلٌ على استِحقاقِ صاحِبِه النَّارَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ

- قولُه: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فيه تَشبيهٌ، حيث شُبِّهَت حالُ أولئك الماكِرينَ في تَسويتِهم المكايدَ؛ للإيقاعِ بالرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وفي إبطالِه تعالى تلك الحيلَ، وجَعْلِه إيَّاها أسبابًا لهلاكِهم، بحالِ قومٍ بَنَوا بُنيانًا وعَمَدوه بالأساطينِ، فأُتِيَ ذلك مِن قِبَلِ أساطينِه بأنْ ضُعْضِعَت، فسقَطَ عليهم السَّقفُ فهَلَكوا؛ ووَجْهُ الشَّبهِ: أنَّ ما عَدُّوه سبَبَ بقائِهم، عاد سبَبَ استئصالِهم وفَنائِهم، كقولِهم: مَن حفَرَ لأخيه جُبًّا، وقَعَ فيه مُنكبًّا

، وهذا الوجهُ على اعتبارِ أنَّ المذكورَ مِن بابِ المثلِ.

- وقولُه: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ فيه احتراسٌ، حيث أتَى بذِكْرِ مِنْ فَوْقِهِمْ مع أنَّ السَّقفَ لا يكونُ إلَّا مِن فوق؛ للاحتراسِ من احتمالِ أنَّ السَّقفَ قد يكونُ أرضًا بالنِّسبةِ لغيرِهم؛ فإنَّ كثيرًا من السُّقوفِ يكونُ أرضًا لقومٍ وسَقفًا لقومٍ آخرينَ؛ فرفَعَ اللهُ تعالى هذا الاحتمالَ بجُملتَينِ، وهما قولُه: عَلَيْهِمُ، وقولُه: خَرَّ؛ لأنَّها لا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فيما يهبِطُ أو يسقُطُ مِن العُلوِّ إلى السُّفلِ . وقولُه: مِنْ فَوْقِهِمْ تأكيدٌ لجُملةِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ . وقيل: إنَّ السَّقفَ رُبَّما يخِرُّ ولا يكونُ تحتَه أحَدٌ، فلمَّا قال: مِنْ فَوْقِهِمْ، عُلِم أنَّهم كانوا تَحتَه، فخرَّ عليهم فأُهلِكوا جميعًا .

2- قوله تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ

- قولُه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ فيه الجَمعُ بينَ الإهانةِ بالفعلِ، والإهانةِ بالقولِ بالتَّقريعِ والتَّوبيخِ، وأضاف تَعالى الشُّركاءَ إليه، والإضافةُ تكونُ بأدْنَى مُلابَسةٍ، والمعنى: شُركائي في زَعمِكم؛ فالإضافةُ إلى نفْسِه حكايةٌ لإضافتِهم؛ ليُوبِّخَهم بها على طريقِ الاستهزاءِ بهم ، وهو أقطَعُ في تَوبيخِهم، وأدَلُّ على تناهي الغَضَبِ .

-  وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ الاستفهامُ عن المكانِ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ؛ لأنَّ المقامَ هنا مقامُ تَهكُّمٍ؛ ليظهَرَ لهم كالطَّماعيَةِ للبحثِ عن آلهتِهم، وهم عَلِموا أنْ لا وُجودَ لهم، ولا مكانَ لحُلولِهم .

- قولُه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ، ثُمَّ للإيماءِ إلى ما بينَ الجَزاءَينِ مِن التَّفاوُتِ، مع ما يدُلُّ عليه من التَّراخي الزَّمانيِّ. وتَغييرُ السَّبكِ بتقديمِ الظَّرفِ يَوْمَ ليس لقَصرِ الخِزْيِ على يومِ القيامةِ- كما هو المُتبادِرُ مِن تَقديمِ الظَّرفِ على الفعلِ- بل لأنَّ الإخبارَ بجزائِهم في الدُّنيا مُؤْذِنٌ بأنَّ لهم جزاءً أُخروِيًّا، فتبْقَى النَّفسُ مُترقِّبةً إلى وُرودِه، سائلةً عنه بأنَّه ماذا؟ مع تَيقُّنِها بأنَّه في الآخرةِ؛ فسيقَ الكلامُ على وَجْهٍ يُؤْذِنُ بأنَّ المقصودَ بالذِّكرِ إخزاؤُهم، لا كونُه يومَ القيامةِ .

- قولُه: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ هذا القولُ قاله الَّذين أُوتوا العلمَ؛ توبيخًا لهم، وإظهارًا للشَّماتةِ بهم، وتَقريرًا لِمَا كانوا يَعِظونهم، وتحقيقًا لِمَا أَوعَدوهم به. وإيثارُ صِيغَةِ الماضي قَالَ؛ للدَّلالةِ على تَحقُّقِه وتَحتُّمِ وُقوعِه، حسْبَما هو المُعتادُ في إخبارِه سُبحانَه .

- وإيرادُ الظَّرفِ الْيَوْمَ؛ للإشعارِ بأنَّهم كانوا قبلَ ذلك في عِزَّةٍ وشِقاقٍ .

- وَجِيءَ بجُملةِ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ غيرَ معطوفةٍ؛ لأنَّها واقعةٌ مَوقِعَ الجوابِ لقولِه: أَيْنَ شُرَكَائِيَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ الَّذين أُوتوا العلمَ ابْتَدروا الجوابَ لَمَّا وجَمَ المُشركونَ، فلم يُحِيروا جوابًا، فأجاب الَّذين أُوتوا العلمَ جوابًا جامعًا؛ لنَفيِ أنْ يكونَ الشُّركاءُ المَزْعومون مُغْنِينَ عن الَّذين أشركوا شيئًا، وأنَّ الخِزيَ والسُّوءَ أحاطَا بالكافِرين .

- وقولُه: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ يدُلُّ على حَصرِ الخزيِ والضَّرِّ يومَ القيامةِ في الكونِ على الكافرينَ، وهو قَصرٌ ادِّعائيٌّ لبُلوغِ المُعرَّفِ بلامِ الجنسِ الْخِزْيَ حَدَّ النِّهايةِ في جنسِه، حتَّى كأنَّ غيرَه من جنسِه ليس من ذلك الجنسِ. وتأكيدُ الجُملةِ بحَرفِ التَّوكيدِ إِنَّ، وبصِيغَةِ القصرِ، والإتيانُ بحَرفِ الاستعلاءِ عَلَى الدَّالِّ على تمكُّنِ الخزيِ والسُّوءِ منهم: يفيدُ معنى التَّعجُّبِ مِن هَولِ ما أُعِدَّ لهم .

3- قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

- قولُه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ... فيه التَّعبيرُ بصِيغَةِ المُضارِعِ تَتَوَفَّاهُمُ؛ لاستحضارِ صُورةِ تَوفِّيهم إيَّاهم لِمَا فيها مِن الهَولِ. والعُدولُ إلى صِيغَةِ الماضي فَأَلْقَوُا؛ للدَّلالةِ على تحقُّقِ الوُقوعِ .

- قولُه: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ هو عطفٌ على قولِه: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ... وما بينهما- يعني قولَه تعالى: قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ- جُملةٌ اعتراضيَّةٌ جِيءَ بها؛ تحقيقًا لِمَا حاق بهم من الخِزيِ على رُؤوسِ الأشهادِ .

4- قوله تعالى: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ

- جُملةُ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ تَذييلٌ، ولم يُعبِّرْ عن جهنَّمَ بالدَّارِ كما عبَّرَ عن الجنَّةِ فيما يأتي بقولِه تعالى: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ؛ تَحقيرًا لهم، وأنَّهم ليسوا في جَهنَّمَ بمنزلةِ أهلِ الدَّارِ، بل هم مُتراصُّونَ في النَّارِ وهم في مَثْوًى، أي: محَلِّ ثَواءٍ . وذِكْرُهم بعُنوانِ التَّكبُّرِ للإشعارِ بعِلِّيتِه لثَوائِهم فيها .

- قولُه: فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال في سُورةِ الزُّمرِ: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72] ، وقال في سُورةِ غافرٍ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غافر: 76] ؛ فخُصَّتِ الآيةُ في سُورةِ النَّحلِ وحدَها بدُخولِ اللَّامِ على (بِئْسَ) فيها، وخَلَتِ الآيتانِ مِن السُّورتينِ منها؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ من هذه السُّورةِ في ذِكْرِ قومٍ قد ضَلُّوا في أنفُسِهم وأضَلُّوا غيرَهم، وهم الَّذين أخبَرَ اللهُ تعالى عن أتباعِهم أنَّهم سأَلُوهم عن القُرآنِ، فقالوا: ليس من عند اللهِ، وإنَّما هو أساطيرُ الأوَّلينَ، وهؤلاء أكثرُ النَّاسِ وأشَدُّهم آثامًا، وأشدُّهم عِقابًا، ومَن هذه صِفَتُه احْتِيجَ عند تَغليظِ العِقابِ له إلى المُبالغةِ في تأكيدِ لفظِه، فاختِيرَت اللَّامُ هنا لذلك، ولأنَّ بعدها في ذِكْرِ أهلِ الجنَّةِ قولَه: وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] ؛ فاللَّامُ في وَلَنِعْمَ بإزاءِ اللَّامِ في لَبِئْسَ، وليس كذلك الآيتانُ في سُورتيِ الزُّمَرِ وغافرٍ؛ لأنَّهما في ذِكْرِ جُملةِ الكُفَّارِ؛ فلمَّا كان المَذكورونَ في سُورةِ النَّحلِ ممَّن لزِمَهم وِزْرانِ؛ عن ذُنوبِهم الَّتي أَتَوها، وعن ذُنوبِ غيرِهم الَّتي حملوا عليها، ولم يذكُرْ مَن سِواهم في الآيتينِ الأُخريينِ بحمْلِ أثقالِهم: حسُنَ التَّوكيدُ هناك فضلَ حُسنٍ؛ فلذلك خُصَّ باللَّامِ . وقيل غير ذلك

===============

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (30-32)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: وقيلَ للمُتَّقين: ما الذي أنزلَ اللهُ على النبيِّ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالوا: أنزلَ اللهُ عليه القُرآنَ، وهو الخيرُ والهُدى. للَّذينَ آمنُوا باللهِ ورَسولِه وأحسَنوا في هذه الدُّنيا ثوابٌ حَسَنٌ؛ مِن النَّصرِ وسَعةِ الرِّزقِ، وغيرِ ذلك مِن خيرِ الدُّنيا، ولَدارُ الآخرةِ لهم خَيرٌ وأعظَمُ ممَّا أُوتوه في الدُّنيا، ولَنِعمَ دارُ المتَّقين في الآخرةِ جنَّاتُ إقامةٍ لهم، يستَقِرُّون فيها تجري مِن تحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ، لهم فيها كُلُّ ما تَشتَهيه أنفُسُهم. مِثلَ هذا الجزاءِ الطَّيِّبِ يَجزي اللهُ المتَّقين الذين تَقبِضُ الملائِكةُ أرواحَهم طاهرينَ مِن الكُفرِ والمعاصي، تقولُ الملائِكةُ لهم: سَلامٌ عليكم، ادخُلوا الجنَّةَ بما كُنتُم تَعمَلونَ مِن الإيمانِ باللهِ والأعمالِ الصَّالحةِ.

تفسير الآيات:

 

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قِيلَ المُكَذِّبينَ بما أنزَلَ اللهُ؛ ذكَرَ ما قالَه المتَّقونَ، وأنَّهم اعتَرَفوا وأقَرُّوا بأنَّ ما أنزَلَه اللهُ نِعمةٌ عَظيمةٌ، وخَيرٌ عَظيمٌ امتَنَّ اللهُ به على العِبادِ، فقَبِلوا تلك النِّعمةَ، وتلَقَّوها بالقَبولِ والانقيادِ، وشَكَروا اللهَ عليها، فعَلِموها وعَمِلوا لها

، فلمَّا افْتُتِحَت صِفَةُ سيِّئاتِ الكافرينَ وعواقِبِها بأنَّهم إذا قيل لهم: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، جاءت هنا مُقابَلةُ حالِهم بحالِ حَسناتِ المُؤمنينَ، وحُسْنِ عواقبِها؛ فافْتُتِحَ ذلك بمُقابلِ ما افْتُتِحَت به قِصَّةُ الكافرينَ، فجاء التَّنظيرُ بين القِصَّتينِ في أبدعِ نَظمٍ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ الكُفَّارِ في الدُّنيا والآخرةِ، ذكَرَ حالَ المؤمِنينَ في الدارَينِ، فقال تعالى :

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا.

أي: وقيلَ للمُتَّقينَ: ماذا أنزَلَ ربُّكم مِن الوَحيِ على نَبيِّه مُحمَّدٍ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؟ قالوا: أنزَلَ اللهُ خَيرًا عَظيمًا في الدُّنيا والآخِرةِ- وهو القُرآنُ- رَحمةً وهُدًى وبَرَكةً لِمَن آمنَ به واتَّبَعَه .

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ.

أي: للمُؤمِنينَ الذين أحسَنوا في عِبادةِ اللهِ، وأحسَنوا إلى عِبادِ اللهِ، ثوابٌ حَسَنٌ عاجِلٌ في الدُّنيا، بالحياةِ الطَّيِّبةِ والرِّزقِ الحسَنِ، وحُصولِ السُّرورِ، وتحَقُّقِ السَّعادةِ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41] .

وقال سُبحانه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] .

وقال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ [الزمر: 10] .

وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كانت دارُ الدُّنيا سريعةَ الزَّوالِ، أخبَرَ عن حالِهم في الآخرةِ، فقال:

وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ.

أي: ولَجزاءُ المُؤمِنينَ في الدَّارِ الآخرةِ في الجنَّةِ خَيرٌ لهم مِن الجزاءِ المُعَجَّلِ لهم في دارِ الدُّنيا .

كما قال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ [آل عمران: 198] .

وقال سُبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [القصص: 80] .

وقال عزَّ وجلَّ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16-17] .

وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ.

أي: ولَنِعْمَ دارُ المُتَّقينَ- الذين يَمتَثِلونَ أوامِرَ اللهِ، ويَجتَنِبونَ نواهيَه- الجنةُ في الآخرةِ .

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان المَدحُ في قَولِه: وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ مُشَوِّقًا لتفصيلِ ذلك، قيلَ هنا :

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

أي: بَساتينُ إقامةٍ يَدخُلُها المُتَّقونَ، ولا يَرحَلونَ عنها، تَجري مِن تَحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ .

لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ.

أي: للمتَّقينَ في جناتِ عدنٍ كُلُّ ما تَشتَهيه أنفُسُهم وما يُريدونَه .

كما قال تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف: 71] .

كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ.

أي: مِثلَ هذا الجَزاءِ الحسَنِ يَجزي اللهُ كُلَّ مَن آمنَ به واتَّقاه، وأحسَنَ عَمَلَه .

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى عاد إلى وَصفِ المتَّقينَ، فقال: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ في مُقابلةِ قَولِه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النحل: 28] .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكر الْمُتَّقِينَ في الآيةِ السَّابقةِ، حَثَّ هنا على مُلازَمةِ التَّقوى بالتَّنبيهِ على أنَّ العِبرةَ بحالِ المَوتِ، فقال تعالى :

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ.

أي: يَجزي اللهُ بذلك المتَّقينَ الذين تَقبِضُ ملائِكةُ المَوتِ أرواحَهم، والحالُ أنَّهم طَيِّبونَ بطَهارتِهم من الشِّركِ والمعاصي، ومِن كُلِّ ما يُخِلُّ بإيمانِهم .

يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ.

أي: تقولُ ملائِكةُ الموتِ للمُتَّقينَ عند قَبضِ أرواحِهم: سَلامٌ عليكم، تحيَّةٌ كامِلةٌ لكم، وسَلامةٌ لكم مِن كُلِّ مَكروهٍ وآفةٍ .

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

أي: ويقولون أيضًا: ادخُلوا الجنَّةَ بسبَبِ ما كُنتُم تَعمَلونَه في حياتِكم الدُّنيا مِن الأعمالِ الصَّالحةِ؛ طلبًا لِمَرضاةِ اللهِ تعالى

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت: 30-31] .

وقال سُبحانَه: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 73- 74] .

الفوائد التربوية:

 

1- قولُ الله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الإيمانِ باللهِ والانقيادِ لأمرِه؛ فإنَّ العمَلَ هو السَّببُ والمادَّةُ والأصلُ في دخولِ الجنَّةِ، والنَّجاةِ مِن النَّارِ، وذلك العمَلُ حصل لهم برحمةِ الله ومِنَّتِه عليهم، لا بحَولِهم وقوَّتِهم

.

2- دلَّ القُرآنُ في غيرِ مَوضِعٍ على أنَّ لكلِّ مَن عَمِلَ خيرًا أجرينِ: عَمَلُه في الدُّنيا، ويُكَمَّلُ له أجرُه في الآخرةِ، كقَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ، وفي الآيةِ الأخرى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [النحل: 41] ، وقال في هذه السُّورةِ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] ، وقال فيها عن خليلِه: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: 122] فقد تكرَّر هذا المعنى في هذه السُّورةِ دونَ غَيرِها في أربعةِ مَواضِعَ لسِرٍّ بديعٍ؛ فإنَّها سورةُ النِّعَمِ التي عَدَّد اللَّهُ سبحانَه فيها أصُولَ النِّعَمِ وفُروعَها، فعرَّفَ عبادَه أنَّ لهم عنده في الآخرةِ مِن النِّعَمِ أضعافَ هذه بما لا يُدرَكُ تَفاوُتُه، وأنَّ هذه مِن بَعضِ نِعَمِه العاجِلةِ عليهم، وأنَّهم إن أطاعوه زادَهم إلى هذه النِّعَمِ نِعَمًا أخرى، ثمَّ في الآخرةِ يُوَفِّيهم أجورَ أعمالِهم تمامَ التَّوفيةِ .

3- في قَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ بيانُ أنَّه سُبحانَه يُسعِدُ المُحسِنَ بإحسانِه في الدُّنيا وفي الآخِرةِ- كما أخبَرَ أنَّه يُشقي المُسيءَ بإساءَتِه في الدُّنيا والآخرةِ؛ قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَومَ الْقيَامَة أَعْمَى

 

[طه: 124] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ، فهذه الحالةُ لا تَحصُلُ إلَّا في الجنَّةِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ يفيدُ الحصرَ، وذلك يدُلُّ على أنَّ الإنسانَ لا يجِدُ كُلَّ ما يُريدُه في الدُّنيا

.

2- أسندَ هنا- جلَّ وعلا- التَّوفِّيَ للمَلائكةِ في قَولِه تعالى: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وأسنده في (السجدة) لملَكِ الموتِ في قَولِه تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] ، وأسنَدَه في (الزُّمَر) إلى نفسِه- جلَّ وعلا- في قَولِه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] ، ولا مُعارَضةَ بين الآياتِ المذكورةِ؛ فإسنادُه تعالى التَّوفِّيَ لنَفسِه؛ لأنَّه لا يموتُ أحدٌ إلَّا بمَشيئتِه تعالى، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران: 145] ، وأسنده لمَلَك الموتِ؛ لأنَّه هو المأمورُ بقَبضِ الأرواحِ، وأسنَدَه إلى الملائِكةِ؛ لأنَّ لِمَلَك الموتِ أعوانًا مِن الملائكةِ، يَنزِعونَ الرُّوحَ مِن الجسَدِ إلى الحُلقومِ فيأخُذُها ملَكُ الموتِ، كما قاله بعضُ العُلَماءِ. والعِلمُ عندَ الله تعالى .

3- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ هذا النَّصُّ وأمثالُه صَريحٌ بإثباتِ المَلائِكةِ، وأفعالِها، وكَلامِها، وتأثيرِها في العالَمِ بالقَولِ والفِعلِ، وهذا يُبطِلُ قولَ مَن قال: (إنَّ المُؤَثِّرَ في العالَم هو القُوى النَّفسانيَّةُ أو القُوى الطبيعيَّةُ)؛ فإنَّ الملائِكةَ خارِجةٌ عن هذا وهذا، وحينئذٍ فما يَحصُلُ مِن خوارِقِ العاداتِ بأفعالِ الملائِكةِ أعظَمُ ممَّا يَحصُلُ بمُجَرَّدِ القُوى النَّفسانيَّةِ .

4- قد حرَّمَ اللهُ الجنَّةَ على كلِّ خَبيثٍ، بل جعَلَها مأوى الطَّيِّبينَ، ولا يَدخُلُها إلَّا طَيِّبٌ؛ قال اللهُ تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وقال تعالى: وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73] استحَقُّوا سلامَ المَلائِكةِ ودُخولَ الجنَّةِ بِسبَبِ طِيبِهم .

5- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دليلٌ على أنَّ الملائكةَ تُسَلِّمُ على المُؤمِنِ عند قَبضِ رُوحِه، وتُبَشِّرُه بما له عند ربِّه مِن الثَّوابِ .

6- في قوله تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دليلٌ على نعيمِ القبرِ؛ لأنَّه قال: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ الآنَ، مِن موتكِم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ

- قولُه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ يجوزُ أنْ يكونَ كلامًا مُبتدَأً عِدَةً للقائلينَ، ويُجْعَلَ قولُهم من جُملةِ إحسانِهم، ويُحْمَدوا عليه

.

- قولُه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ الَّذين أحْسَنوا هم المُتَّقونَ؛ فهو مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ توصُّلًا بالإتيانِ بالموصولِ إلى الإيماءِ إلى وَجهِ بِناءِ الخبرِ، أي: جزاؤُهم حَسنةٌ؛ لأنَّهم أحْسَنوا .

2- قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ

- قولُه: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ فيه تَقديمُ فِيهَا؛ للاحترازِ عن تَوهُّمِ تعلُّقِه بالمشيئةِ، أو لأنَّ تأخيرَ ما حَقُّه التَّقديمُ يُوجِبُ تَرقُّبَ النَّفسِ إليه، فيتمكَّنُ عند وُرودِه عليها فضْلَ تمكُّنٍ .

- ومَضمونُ جُملةِ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ مُكمِّلٌ لِمَا في جُملةِ يَدْخُلُونَهَا مِن استحضارِ الحالةِ البديعةِ .

- وجُملةُ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ مُستأنَفةٌ، والإتيانُ باسمِ الإشارةِ كَذَلِكَ؛ لتَمييزِ الجزاءِ والتَّنويهِ به، وجَعلِ الجزاءِ لتَمييزِه وكمالِه بحيث يُشَبَّهُ به جَزاءُ المُتَّقينَ. والتَّقديرُ: يَجْزي اللهُ المُتَّقينَ جَزاءً كذلك الجزاءِ الَّذي عَلِمْتموه، وهو تَذييلٌ؛ لأنَّ التَّعريفَ في الْمُتَّقِينَ للعُمومِ .

3- قولُه تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُقابِلُ قولِه في أضدادِهم: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ .

- وجُملةُ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ هو سَلامُ تأنيسٍ وإكرامٍ حين مَجيئِهم ليتوفَّوْهم. وقولُهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُقابِلُ قولِهم لأضدادِهم: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ

==================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيتان (33-34)

ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ

غريب الكلمات:

 

وَحَاقَ: أي: أحاطَ، ونزَل، وأصلُ (حيق): يدُلُّ على نُزولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: ما ينتظِرُ المُشرِكونَ إلَّا أن تأتيَهم الملائِكةُ؛ لِتَقبِضَ أرواحَهم وهم على الكُفرِ، أو يأتيَ أمرُ اللهِ بحَشرِهم يومَ القيامةِ، كذلك أصَرَّ الكافِرونَ مِن قَبلِهم على الكُفرِ، فأتاهم أمرُ اللهِ فهَلَكوا، وما ظَلَمَهم اللهُ، ولكِنَّهم كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم، فاستحَقُّوا عذابَ اللهِ، فأصابَتْهم عُقوبةُ ذُنوبِهم التي عَمِلوها، وأحاط بهم العَذابُ الذي كانوا يَسخَرونَ منه، ومن الرسلِ إذا توعَّدوهم به.

تفسير الآيتين:

 

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا طعَن القَومُ في القُرآنِ بأن قالوا: إنَّه أساطيرُ الأوَّلينَ، وذكَرَ اللهُ تعالى أنواعَ التَّهديدِ والوعيدِ لهم، ثمَّ أتبَعَه بذِكرِ الوَعدِ لِمَن وصفَ القُرآنَ بكَونِه خَيرًا وصِدقًا وصَوابًا- عاد إلى بيانِ أنَّ أولئك الكُفَّارَ لا يَنزَجِرونَ عن الكُفرِ بسَبَبِ البياناتِ التي ذَكَرناها، بل كانوا لا يَنزَجِرونَ عن تلك الأقوالِ الباطِلةِ إلَّا إذا جاءَتهم الملائِكةُ بالتَّهديدِ، وأتاهم أمرُ رَبِّك، وهو عذابُ الاستِئصالِ

.

وأيضًا فلَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن أحوالِ الكُفَّارِ السَّائلينَ في نُزولِ الملائكةِ بعدَ أن وهَّى شُبَهَهم، وأخبَرَ عن تَوفِّي الملائِكةِ لهم ولأضدادِهم المُؤمِنينَ، مُشيرًا بذلك إلى أنَّ سُنَّتَه جَرَت بأنَّهم لا يَنزِلونَ إلَّا لإنزالِ الرُّوحِ مِن أمْرِه على مَن يختَصُّه لذلك، أو لأمرٍ فَيصلٍ لا مُهلةَ فيه- قال مُنكِرًا عليهم :

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.

أي: هل يَنتَظِرُ هؤلاء المُشرِكونَ- المُتقاعِسونَ عن الإيمانِ بالرُّسُلِ فيما أنزلَ إليهم ربُّهم- إلَّا أن تأتيَهم الملائِكةُ لِقَبضِ أرواحِهم وهم ظالِمونَ لأنفُسِهم ؟

أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ.

أي: أو يأتي أمرُ اللهِ بحَشرِهم يومَ القيامةِ .

كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.

أي: كما يفعَلُ هؤلاءِ المُشرِكونَ فعَل أسلافُهم الكفرةُ ذلك أيضًا، فأصرُّوا على كفرِهم، وتَمادَوا في شركِهم إلى أن هلكوا .

وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

أي: وما ظلَمَ اللهُ الكافرينَ بعدَ أن أقامَ عليهم الحُجَّةَ بإرسالِ الرُّسُلِ، وإنزالِ الكتُبِ، ولكِنْ كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي، ومُخالَفةِ الرُّسُلِ، فاستحَقُّوا عذابَ اللهِ .

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34).

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا.

أي: فأصاب أولئك الكافرينَ مِن الأُمَمِ الماضيةِ- الذين فَعَلوا فِعلَ مُشرِكي قُرَيشٍ- عُقوباتُ كُفرِهم، وأعمالِهم السَّيِّئةِ التي اكتَسَبوها .

وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.

أي: ونزَل وأحاطَ بالكافرينَ عذابُ اللهِ الذي كانوا يَسخَرونَ منه، ومِن الرُّسُلِ إذا توعَّدوهم به

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال الله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ القَومُ لم ينتَظِروا هذه الأشياءَ؛ لأنَّهم ما آمَنوا بها، ولكِنَّ امتِناعَهم عن الإيمانِ أوجبَ عليهم العذابَ، فأُضيفَ ذلك إليهم، أي: عاقِبَتُهم العذابُ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

- قولُه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن جُملةِ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، والاستفهامُ إنكاريٌّ في معنى النَّفيِ؛ ولذلك جاء بعدَه الاستثناءُ. ويَنْظُرُونَ هنا بمعنى الانتظارِ، وهو النَّظِرَةُ، والكلامُ مُوَجَّهٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تذكيرًا بتَحقيقِ الوعيدِ، وعدَمِ استبطائِه، وتعريضًا بالمُشركينَ بالتَّحذيرِ من اغتِرارِهم بتأخُّرِ الوعيدِ، وحَثًّا لهم على المُبادرةِ بالإيمانِ، وهذا قَريبٌ من تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه، وما هو بذلك

.

- وإسنادُ الانتظارِ المذكورِ إليهم جارٍ على خِلافِ مُقْتضَى الظَّاهِرِ بتَنزيلِهم منزلةَ مَن ينتظِرُ أحدَ الأمرينِ؛ لأنَّ حالَهم من الإعراضِ عن الوعيدِ، وعدَمِ التَّفكُّرِ في دَلائلِ صِدْقِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مع ظُهورِ تلك الدَّلائلِ، وإفادتِها التَّحقُّقَ- كحالِ مَن أيقَنَ حُلولَ أحدِ الأمرينِ به، فهو يترقَّبُ أحدَهما .

- وجُملةُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ مُعترِضةٌ بينَ جُملةِ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وجُملةِ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا؛ ووَجْهُ هذا الاعتراضِ: أنَّ التَّعرُّضَ إلى ما فعَلَه الَّذين مِن قبلِهم يُشيرُ إلى ما كان مِن عاقبتِهم، وهو استئصالُهم، فعُقِّبَ بقولِه تعالى: وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، أي: فيما أصابَهم، ولمَّا كان هذا الاعتراضُ مُشتمِلًا على أنَّهم ظَلموا أنفُسَهم، صار تَفريعُ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا عليه أو على ما قبلَه، وهو أسلوبٌ مِن نَظْمِ الكلامِ عزيزٌ. وتَقديرُ أصلِه: كذلك فعَلَ الَّذين من قبلِهم وظَلموا أنفُسَهم، فأصابَهم سَيِّئاتُ ما عَمِلوا، وما ظَلَمهم اللهُ؛ ففي تَغييرِ الأُسلوبِ المُتعارفِ تَشويقٌ إلى الخبرِ، وتَهويلٌ له بأنَّه ظُلْمُ أنفُسِهم، وأنَّ اللهَ لم يظلِمْهم، فيترَقَّبُ السَّامعُ خبرًا مُفظِعًا، وهو: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا .

- قولُه: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ كان الظَّاهرُ أنْ يُقال: وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ كما في سُورةِ الزُّخرفِ (آية: 76)، لكنَّه أُوثِرَ هنا ما عليه النَّظمُ الكريمُ؛ لإفادةِ أنَّ غائِلةَ ظُلْمِهم آيلةٌ إليهم، وعاقِبَتَه مَقصورةٌ عليهم، مع استلزامِ اقتصارِ ظُلْمِ كلِّ أحدٍ على نفسِه مِن حيثُ الوقوعُ اقتصارَه عليه من حيث الصُّدورُ .

2- قوله تعالى: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ

- قولُه: فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال هنا وفي الجاثيةِ: مَا عَمِلُوا [الجاثية: 33] ، أمَّا في سُورةِ الزُّمرِ فقال: مَا كَسَبُوا [الزمر: 51] ؛ مُوافقةً لِمَا قبلَ كلٍّ منها، أو بعدَ، أو قبلَه وبعدَه؛ إذْما هنا قبلَه: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [النحل: 28] وتَعْمَلُونَ مرَّتينِ، وقبلَ ما في الجاثيةِ: مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28] وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية: 30] ، وبعدَه سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا [الجاثية: 33] ، وقبلَ ما في الزُّمرِ وَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: 24] وبعدَه: فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الزمر: 50] .

-  فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وإصابةُ السَّيِّئاتِ إمَّا بتَقديرِ مُضافٍ، أي: أصابهم جزاؤُها، أو جُعِلَت أعمالُهم السَّيِّئةُ كأنَّها هي الَّتي أصابَتْهم؛ لأنَّها سبَبُ ما أصابَهم .

- قولُه: وَحَاقَ بِهِمْ، أي: أحاط بهم، مِن: الحَيْقِ الَّذي هو إحاطةُ الشَّرِّ، وهو أبلغُ مِن الإصابةِ، وأفظَعُ

============================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (35-37)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ

غريب الكلمات:

 

الطَّاغُوتَ: الطَّاغُوتُ هو كُلُّ ذِي طُغْيَانٍ عَلَى الله، فكلُّ مَعْبُودٍ مِن دُونِ الله إذا لم يَكُنْ كارِهًا لذلك: طاغوتٌ؛ إنسانًا كان ذلك المعبودُ، أو شَيْطانًا، أو وَثنًا، أو صَنَمًا، كَائِنًا ما كان من شيءٍ، والمُطاعُ في معصيةِ اللَّهِ طاغوتٌ، وكذلك السَّاحِرُ والكاهِنُ، واشتقاقُه من الطُّغْيان: وهو الظُّلْم والبغْيُ، يقال: طَغَا فُلانٌ يَطْغَى: إذا عَدا قَدْرَه فتجاوَز حَدَّه، وأصلُ (طغو): يدلُّ على مُجاوَزةِ الحَدِّ في العِصيانِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: وقال المُشرِكونَ: لو شاء اللهُ أن نَعبُدَه وَحدَه ما عَبدْنا أحدًا غَيرَه نحنُ ولا آباؤُنا مِن قَبلِنا، ولا حَرَّمْنا شَيئًا لم يُحَرِّمْه. مِثلَ هذا الإشراكِ، وتحريمِ ما أحلَّ الله، والاحتِجاجِ الباطِلِ، فعَل الكُفَّارُ السَّابِقونَ، فليس على الرُّسُلِ إلَّا التَّبليغُ الواضِحُ، وقد وضَّحوا لكم طريقَ الحَقِّ بما لا يَبقَى معه حُجَّةٌ لأحدٍ.

ولقد بعَثْنا في كلِّ أمَّةٍ سبقَت رَسولًا يأمُرُهم بعِبادةِ اللهِ وَحدَه وتَرْكِ عبادةِ غَيرِه، فكان منهم مَن هداه اللهُ فاتَّبَع الرُّسُلَ، ومنهم من وجَبَت عليه الضَّلالةُ فهَلَك. فامشُوا في الأرضِ، وانظروا كيف كان مآلُ هؤلاء المكَذِّبينَ؛ لتَعتَبِروا.

ثم أخبَر الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّ حرصَه على هدايةِ المشركينَ  المصرِّينَ على ضلالِهم، لن يغيِّرَ مِن واقعِ أمرِهم شيئًا؛ لأنَّ اللهَ لا يَهدي إليه مَن قدَّر بحِكمتِه وعَدلِه دوامَ ضَلالِه، وما للضَّالِّينَ مِن ناصِرينَ.

تفسير الآيات:

 

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تَمَّ ما هو عجَبٌ مِن مَقالِ المُشرِكينَ ومآلِهم، في سوءِ أحوالِهم، وخَتَم بتَهديدِهم؛ عطَفَ على قَولِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ مُوجِبًا آخَرَ للتهديدِ، مُعَجِّبًا مِن حالهم فيه، فقال

:

وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ.

أي: وقال المُشرِكونَ مُحتَجِّينَ- كَذِبًا- بالقَدَرِ على شِركِهم، وتَحريمِهم ما لم يُحَرِّمْه اللهُ: لو شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا شَيئًا مِن دُونِه، ولا حَرَّمْنا شيئًا مِن الأنعامِ التي ابتَدَعْنا تحريمَها، ففِعْلُنا إذَن لذلك دليلٌ على رِضاه عن أعمالِنا، وإلَّا لقدَّرَ غيرَ ذلك !

كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.

أي: مثلَ هذا الإشراكِ وتحريمِ ما أحَلَّ اللهُ والاحتجاجِ الباطِلِ الصَّادِرِ مِن المُشرِكينَ على مَشروعيَّةِ ذلك تكذيبًا للرُّسُلِ، فعَلَ مَن قَبلَهم مِن المُشرِكينَ، فأهلَكَهم اللهُ، فهلَّا استَدَلُّوا بهلاكِ أولئك على أنَّ اللهَ غيرُ راضٍ عن فِعلِهم، وعلى عدَمِ صِحَّةِ حُجَّتِهم ؟!

كما قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 148-149] .

فقال اللهُ أيضًا ردًّا على شُبهتِهم:

فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.

أي: ليس الأمرُ كما تقولونَ مِن أنَّ اللهَ رَضِيَ أفعالَكم هذه، بل أنكَرَها عليكم، ونهاكم عنها على ألسِنَةِ رُسُلِه، فإنَّما وظيفتُهم تبليغُ الرِّسالةِ تبليغًا واضِحًا مُوضِّحًا لطريقِ الحَقِّ بما لا يَبقَى معه حُجَّةٌ لأحدٍ، فقد بلَّغُوكم، وأوضَحُوا لكم، فصار وَبالُ كُفْرِكم وعِصيانِكم عليكم .

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36).

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.

أي: ولقد بعَثْنا في كلِّ طائفةٍ مِن النَّاسِ رَسولًا يأمُرُهم بعبادةِ اللهِ وَحدَه، وتَرْكِ عبادةِ كُلِّ مَن دونَه، كالشَّياطينِ والأصنامِ، فحُجَّتُه سُبحانَه قد قامَتْ على جميعِ الأُمَمِ .

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ.

أي: فمِنَ الأُمَمِ مَن هداهم اللهُ، فأرشَدَهم إلى دينِه، ووفَّقَهم للإيمانِ به، واتِّباعِ رُسُلِه وطاعتِه .

وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ.

أي: ومِن الأُمَمِ مَن وجَبَت عليهم الضَّلالةُ، ولَزِمَهم الكُفرُ، فأهلَكَهم اللهُ .

كما قال تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105] .

وقال سُبحانه: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 28-30] .

فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ.

أي: فسِيروا في الأرضِ للاعتبارِ، فانظُروا إلى آثارِ عَذابِ اللهِ للأُمَمِ السَّابقةِ مِن الذين كَذَّبوا الرُّسُلَ، فصار آخِرَ أمرِهم الهَلاكُ .

كما قال سُبحانه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 45-46] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] .

وقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الملك: 18] .

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37).

القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسيرِ:

قولُه تعالى: يَهْدِي فيه قِراءتانِ:

1-  قراءةُ يَهْدِي بفتحِ الياءِ، وكسرِ الدالِ، والمعنى: إنَّ الله لا يَهْدِي مَن قدَّر دوامَ ضلالِه. وقيل: المعنى: إنَّ الله مَن يُضلُّ لا يَهْدي، أي: لا يَهْتَدي .

2- قراءةُ يُهْدَى بضمِّ الياءِ، وفتحِ الدالِ، أي: من أضلَّهُ الله لَا يهديه أحدٌ، كما قال تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ [الأعراف : 186] .

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ.

أي: إنْ تَحرِصْ- يا مُحمَّدُ- على هدايةِ المُشرِكينَ لاتِّباعِ الحَقِّ، فإنَّ اللهَ لا يَهدي إليه مَن قدَّر بحِكمتِه وعَدلِه دوامَ ضَلالِه، فلن يهتَديَ أبدًا ولو حَرَصْتَ على هدايتِه، فلا تُجهِدْ نَفسَك في أمْرِه، وبلِّغْه ما أُرسِلْتَ به؛ لِتقومَ عليه الحُجَّةُ .

كما قال تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة: 41] .

وقال سُبحانه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .

وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.

أي: وما للضَّالِّينَ مِن ناصِرينَ يَمنَعونَ عنهم عُقوبةَ اللهِ، ويُنقِذونَهم مِن عَذابِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ فهم استدلُّوا على محبَّتِه سُبحانه لشِركِهم ورضاه عنه، بمَشيئتِه لذلك، وعارضوا بهذا الدَّليلِ أمرَه ونهيَه، وقد أنكَر اللهُ سُبحانه وتعالى عليهم؛ فالمَشيئةُ والمحبَّةُ ليسا واحِدًا؛ ولا هما مُتلازِمَينِ، بل قد يشاءُ سُبحانَه ما لا يُحبُّه؛ ويُحِبُّ ما لا يَشاءُ كَونَه

، ولم يكُنْ قَصدُهم بقولِهم هذا إلَّا ردَّ الحَقِّ الذي جاءت به الرسُلُ، وإلَّا فعندهم عِلمٌ أنَّه لا حُجَّةَ لهم على الله؛ فإنَّ الله أمَرَهم ونهاهم، ومكَّنَهم من القيامِ بما كلَّفَهم، وجعلَ لهم قُوَّةً ومَشيئةً تصدُرُ عنها أفعالُهم، فاحتِجاجُهم بالقضاءِ والقَدرِ مِن أبطلِ الباطِلِ، هذا وكلُّ أحدٍ يعلَمُ بالحِسِّ قُدرةَ الإنسانِ على كُلِّ فعلٍ يُريدُه، من غيرِ أن ينازِعَه مُنازِعٌ، فجمعوا بين تكذيبِ اللهِ وتكذيبِ رسُلِه، وتكذيبِ الأمورِ العَقليَّةِ والحسِّيَّةِ !

2- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ يدُلُّ على أنَّه تعالى كان أبدًا في جميعِ المِلَلِ والأُمَمِ آمِرًا بالإيمانِ، وناهيًا عن الكُفرِ .

3- البعثُ المذكورُ في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هو البعثُ الدِّينيُّ، ويُقابِلُه: البعثُ الكونيُّ، كما في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا [الإسراء: 5] .

4- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فيه دلالةٌ على إجماعِ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على الدَّعوةِ إلى التَّوحيدِ؛ وأنَّهم أُرسِلُوا به ، وأنَّه أعظمُ ما دعَوْا إليه مِن أوَّلِهم؛ نوحٍ عليه الصلاةُ والسَّلامُ، إلى آخرِهم؛ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم .

5- قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ لا بُدَّ لتَحقيقِ شهادةِ (أنْ لَا إله إلَّا اللهُ) مِن اجتنابِ الطَّاغوتِ، وهو كلُّ ما عُبِدَ مِن دونِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أو تحاكَمَ النَّاسُ إليه مِن دونِ اللهِ .

6- قَولُ الله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فيه أبيَنُ دَليلٍ على أنَّ الهاديَ والمُضِلَّ هو اللهُ تعالى؛ لأنَّه المتصَرِّفُ في عبادِه؛ يهدي من يَشاءُ، ويُضِلُّ مَن يَشاءُ، لا اعتِراضَ عليه فيما حكَمَ به لسابِقِ عِلمِه .

7- قَولُ الله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فيه ردٌّ على القَدَريَّةِ .

8- قَولُ الله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فيه التَّعريضُ بالثَّناءِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حِرصِه على خَيرِهم، مع ما لقِيَه منهم من الأذى الذي شأنُه أن يُثيرَ الحَنَقَ في نَفسِ مَن يَلحَقُه الأذى، ولكِنَّ نفسَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُطَهَّرةٌ مِن كُلِّ نَقصٍ ينشأُ عن الأخلاقِ الحيوانيَّةِ .

9- في قَولِه تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ بيانُ أنَّ مُجرَّدَ دُعاءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتبليغِه وحِرصِه على هدايةِ الخَلقِ؛ أنَّه  ليس بمُوجِبٍ لذلك، وإنَّما يحصُلُ ذلك إذا شاء اللهُ هُداهم، فشَرَح صُدورَهم للإسلامِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

- قولُه: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا فيه العُدولُ عن الإضمارِ إلى الموصولِ- حيثُ لم يقُلْ: (وقالوا)-؛ لتَقريعِهم بما في حيِّزِ الصِّلةِ، وذَمِّهم بذلك من أوَّلِ الأمرِ

.

- وضَميرُ (نحن) في قولِهم: مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا تأكيدٌ للضَّميرِ المُتَّصلِ في عَبَدْنَا، وإعادةُ حَرفِ النَّفيِ في قولِه تعالى: وَلَا آبَاؤُنَا لتأكيدِ (ما) النَّافيةِ .

- قولُه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ الاستفهامُ بـ (هل) إنكاريٌّ بمعنى النَّفيِ؛ ولذلك جاء الاستثناءُ عَقِبَه .

- والقصرُ المُستفادُ من النَّفيِ والاستثناءِ (فهل... إلَّا) قَصرٌ إضافيٌّ؛ لقلْبِ اعتقادِ المُشركينَ مِن مُعاملتِهم الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ للرَّسولِ غرضًا شخصيًّا فيما يَدْعو إليه .

- وفي قولِه: عَلَى الرُّسُلِ أثْبتَ الحُكمَ لعُمومِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، وإنْ كان المَردودُ عليهم لم يخطُرْ ببالِهم أمْرُ الرُّسلِ الأوَّلينَ؛ لتكونَ الجُملةُ تذييلًا للمُحاجَّةِ، فتفيدَ ما هو أعمُّ من المَردودِ، والكلامُ مُوجَّهٌ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تعليمًا وتَسليةً، ويتضمَّنُ تعريضًا بإبلاغِ المُشركينَ .

2- قولُه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ عُطِفَ على جُملةِ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وهو تَكملةٌ لإبطالِ شُبهةِ المُشركينَ؛ إبطالًا بطريقةِ التَّفصيلِ بعدَ الإجمالِ؛ لزيادةِ تَقريرِ الحُجَّةِ؛ فقولُه تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ بيانٌ لمَضمونِ جُملةِ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وجُملةُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ إلى آخرِها بيانٌ لمَضمونِ جُملةِ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .

- قولُه: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فيه إسنادُ هِدايةِ بعضِهم إلى اللهِ تعالى، مع أنَّه أمَرَ جميعَهم بالهُدى؛ تَنبيهًا للمُشركينَ على إزالةِ شُبهتِهم في قولِهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ بأنَّ اللهَ بيَّنَ لهم الهُدى؛ فاهتداءُ المُهتدينَ بسبَبِ بيانِه، فهو الهادي لهم .

- والتَّعبيرُ في جانبِ الضَّلالةِ بلفظِ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ دونَ إسنادِ الإضلالِ إلى اللهِ: إشارةٌ إلى أنَّ اللهَ لمَّا نهاهم عن الضَّلالةِ، فقد كان تَصميمُهم عليها إبقاءً لضَلالتِهم السَّابقةِ؛ فحقَّتْ عليهم الضَّلالةُ، أي: ثبَتَتْ ولم ترتفِعْ، وفي ذلك إيماءٌ إلى أنَّ بَقاءَ الضَّلالةِ مِن كَسبِ أنفُسِهم .

- قولُه: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فيه تَرتيبُ الأمرِ بالسَّيرِ على مُجرَّدِ الإخبارِ بثُبوتِ الضَّلالةِ عليهم مِن غيرِ إخبارٍ بحُلولِ العذابِ؛ للإيذانِ بأنَّه غَنِيٌّ عن البَيانِ، وأنْ ليس الخبرُ كالعِيانِ، وتَرتيبُ النَّظرِ على السَّيرِ؛ لأنَّه بعدَه، وأنَّ مِلاكَ الأمرِ في تلك العاقبةِ هو التَّكذيبُ، والتَّعللُ بأنَّه لو شاء اللهُ ما عبَدْنا من دونِه مِن شَيءٍ .

3- قولُه تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ تَقسيمَ كلِّ أمَّةٍ ضالَّةٍ إلى مُهتدٍ منها، وباقٍ على الضَّلالِ يُثيرُ سُؤالًا في نفْسِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن حالِ هذه الأمَّةِ: أهو جارٍ على حالِ الأُمَمِ الَّتي قبلَها، أو أنَّ اللهَ يَهديهم جميعًا؟ وذلك مِن حرصِه على خيرِهم، ورأفَتِه بهم؛ فأعلَمَه اللهُ أنَّه مع حِرْصِه على هُداهم، فإنَّهم سيَبْقَى منهم فَريقٌ على ضَلالةٍ .

- والشَّرطُ- إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ- هنا ليس لتَعليقِ حُصولِ مَضمونِ الجوابِ على حُصولِ مَضمونِ الشَّرطِ؛ لأنَّ مَضمونَ الشَّرطِ معلومُ الحُصولِ؛ لأنَّ علاماتِه ظاهرةٌ بحيثُ يعلَمُه النَّاسُ، كما قال تعالى: حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة: 128] ، وإنَّما هو لتَعليقِ العلمِ بمَضمونِ الجوابِ على دَوامِ حُصولِ مَضمونِ الشَّرطِ؛ فالمعنى: إنْ كنتَ حريصًا على هُداهم حِرصًا مُستمِرًّا، فاعلَمْ أنَّ مَن أضلَّه اللهُ لا تستطيعُ هَدْيَه، ولا تجِدُ لهَدْيه وسيلةً، ولا يَهْديه أحدٌ؛ فالمُضارعُ تَحْرِصْ مُستعمَلٌ في معنى التَّجدُّدِ لا غيرُ .

- قولُه: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ فيه جَعلُ المُسنَدِ إليه في جُملةِ الإخبارِ عن استمرارِ ضَلالِهم اسمَ الجلالةِ؛ للتَّهويلِ المُشوِّقِ إلى استطلاعِ الخبرِ، والخبرُ هو أنَّ هُداهم لا يحصُلُ إلَّا إذا أراده اللهُ، ولا يستطيعُ أحدٌ تَحصيلَه لا أنتَ ولا غيرُك، فمَن قدَّرَ اللهُ دَوامَ ضَلالِه فلا هادِيَ له، ولولا هذه النُّكتةُ لكان مُقْتضى الظَّاهِرِ أنْ يكونَ المُسنَدُ إليه ضَميرَ المُتحدَّثِ عنهم بأنْ يُقال: (فإنَّهم لا يَهْديهم غيرُ اللهِ) ، وإنَّما وُضِعَ الموصولُ (مَنْ) موضِعَ الضَّميرِ في قولِه: فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ؛ للتَّنصيصِ على أنَّهم ممَّن حَقَّت عليه الضَّلالةُ، وللإشعارِ بعِلَّةِ الحُكمِ، ويجوزُ أنْ يكونَ المذكورُ عِلَّةً للجزاءِ المحذوفِ، أي: إنْ تحرِصْ على هُداهم فلسْتَ بقادرٍ على ذلك؛ لأنَّ اللهَ لا يَهْدي مَن يُضِلُّه، وهؤلاء مِن جُملتِهم

==================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (38-40)

ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات:

 

جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: أي: أقوَى الأيمانِ وأغلَظَها مُجتَهِدينَ في تَوكيدِها. وحقيقةُ الجَهدِ: التَّعَبُ والمشَقَّةُ، ومُنتهى الطَّاقةِ، ثمَّ أطلِقَ على أشَدِّ الفِعلِ ونِهايةِ قُوَّتِه؛ لِما بينَ الشِّدَّةِ والمَشقَّةِ مِن المُلازَمةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: حلفَ هؤلاء المُشرِكونَ باللهِ أيمانًا مُغلَّظةً أنَّ اللهَ لا يَبعَثُ مَن يموتُ بعدما بَلِيَ وتفَرَّق، بلى سيبعَثُهم اللهُ حَتمًا، وعدًا عليه حَقًّا، ولكِنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ. يبعَثُ اللهُ جميعَ العِبادِ؛ لِيُبيِّنَ لهم الحقَّ الذي كانوا يَختَلِفونَ فيه في الدُّنيا، ومِن ذلك أمرُ البعثِ، وليحكُمَ بينهم ويُجازيَ كلًّا بعملِه، ولِيعلَمَ الكُفَّارُ المُنكِرونَ للبعثِ أنَّهم على باطلٍ، وأنَّهم كاذِبونَ حين حَلَفوا أنْ لا بَعْثَ. إنَّ أمْرَ البَعثِ يَسيرٌ على الله؛ فإنَّه سبحانَه إذا أرادَ شيئًا فإنَّما يقولُ له: كُنْ، فإذا هو كائِنٌ.

تفسير الآيات:

 

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38).

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ.

أي: وحلفَ مُشرِكو قُرَيشٍ باللهِ، وغَلَّظوا الأيمانَ وأكَّدُوها، على أنَّ اللهَ لا يَبعَثُ الموتَى بعدَ أنْ صاروا تُرابًا

!

بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا.

أي: بلى سيبعَثُ اللهُ الموتى، وعَدَ سبحانَه بذلك وعدًا، ولا يُخلِفُ اللهُ وَعدَه .

وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمونَ أنَّ اللهَ باعِثُهم يومَ القيامةِ بعد مَوتِهم، فيُخالِفونَ الرُّسُلَ؛ لجَهلِهم، ويَقَعونَ في الكُفرِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قال اللهُ: كَذَّبَني ابنُ آدمَ ولم يكُنْ له ذلك، وشَتَمَني ولم يكُنْ له ذلك؛ فأمَّا تكذيبُه إيَّايَ فقَولُه: لن يُعيدَني كما بَدَأني، وليس أوَّلُ الخَلقِ بأهْوَنَ عليَّ مِن إعادتِه، وأمَّا شَتمُه إيَّايَ فقَولُه: اتَّخذَ اللهُ ولدًا، وأنا الأحَدُ الصَّمَدُ، لم ألِدْ ولم أُولَدْ، ولم يكُنْ لي كُفْئًا أحَدٌ )) .

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39).

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.

أي: سيَبعَثُ اللهُ الموتى؛ لِيُظهرَ لهم في الآخرةِ الحقَّ الذي كانوا يَختَلِفونَ فيه في الدُّنيا- ومِن ذلك اختِلافُهم في ثُبوتِ البَعثِ- ويَحكُمَ بينهم، ويَجزيَ كلًّا بما عَمِلَه .

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ.

أي: ولِيَعلَمَ الذين كَفَروا باللهِ تعالى، وأنكَروا البَعثَ أنَّهم كانوا في الدُّنيا كاذِبينَ في حَلِفِهم على أنَّ اللهَ لا يَبعَثُ مَن يَموتُ .

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى تحتُّمَ البَعثِ، وحِكمَتَه؛ بيَّنَ إمكانَه ويُسْرَه عليه تعالى، وخِفَّتَه لَديه .

وأيضًا فإنَّ هذه الجُملةَ مُتَّصِلةٌ بجُملةِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ؛ لبَيانِ أنَّ جَهلَ المُشرِكينَ بمَدى قُدرةِ اللهِ تعالى هو الذي جرَّأهم على إنكارِ البَعثِ واستحالتِه عِندَهم؛ فهي بيانٌ للجُملةِ التي قبلَها؛ ولذلك فُصِلَت، ووقَعَت جُملةُ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا... إلى آخِرِها اعتِراضًا بينَ البيانِ والمُبيَّنِ .

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

أي: إنَّما قَولُنا لشَيءٍ نُريدُ إيجادَه أن نقولَ له مَرَّةً واحِدةً: كُنْ، فيكونُ كما أرَدْنا بلا تأخيرٍ، ولا تعَبٍ، ولا مشَقَّةٍ علينا، ومن ذلك إحياءُ الموتى

 

.

كما قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 78-82] .

وقال سُبحانه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50].

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ذكَرَ اللهُ حِكمتَينِ بالغتَينِ في بَعثةِ اللهِ سُبحانَه للأمواتِ بَعدَما أماتهم:

إحداهما: أن يُبَيِّنَ للنَّاسِ الذي اختَلَفوا فيه، وهذا بيانٌ عِيانِيٌّ تَشتَرِكُ فيه الخلائِقُ كلُّهم، والذي حصلَ في الدنيا بيانٌ إيمانيٌّ اختصَّ به بعضُهم.

والحكمةُ الثانيةُ: عِلْمُ المُبطِلِ بأنَّه كان كاذِبًا، وأنَّه كان على باطلٍ، وأنَّ نسبةَ أهلِ الحقِّ إلى الباطلِ هي مِن افترائِه وكَذِبِهِ وبُهتانِه، فيُخزيه ذلك أعظمَ خِزيٍ

.

2- قولُه تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، قال البُويطيُّ: (خلقَ اللهُ الخَلقَ كُلَّه بقَولِه كُنْ، فلو كان «كُنْ» مخلوقًا لكان قد خَلَق الخلقَ بمخلوقٍ، وليس كذلك)

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ

- قولُه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ القسَمُ على نَفيِ البعثِ، أرادوا به الدَّلالةَ على يَقينِهم بانتفائِه، وإنَّما أيقنوا بذلك، وأقْسَموا عليه؛ لأنَّهم تَوهَّموا أنَّ سلامةَ الأجسامِ، وعدَمَ انخرامِها شَرطٌ لقَبولِها الحياةَ، وقد رَأَوْا أجسادَ الموتَى مُعرَّضةً للاضمحلالِ، فكيف تُعادُ كما كانت

؟!

- قولُه: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ فيه إيثارُ التَّعبيرِ بـ مَنْ يَمُوتُ على التَّعبيرِ بـ (الموتى)؛ لقَصدِ إيذانِ الصِّلةِ بتَعليلِ نَفيِ البعثِ؛ فإنَّ الصِّلةَ أقوَى دَلالةً على التَّعليلِ مِن دَلالةِ المُشتقِّ على عِلِّيةِ الاشتقاقِ؛ فهم جَعَلوا الاضمحلالَ مُنافيًا لإعادةِ الحياةِ، كما حُكِيَ عنهم وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ [النمل: 67] .

2- قوله تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ

- قولُه: لِيُبَيِّنَ تَعليلٌ لقولِه تعالى: وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا؛ لقَصدِ بَيانِ حِكمةِ جَعْلِه وعدًا لازمًا لا يتخلَّفُ؛ لأنَّه مَنوطٌ بحِكمةٍ، واللهُ تعالى حكيمٌ لا تَجْري أفعالُه على خِلافِ الحكمةِ التَّامَّةِ، أي: جعَلَ البعثَ ليُبيِّنَ للنَّاسِ الشَّيءَ الَّذي يختلِفون فيه مِن الحقِّ والباطِلِ، فيظهَرُ حَقُّ المُحِقِّ، ويظهَرُ باطلُ المُبِطلِ في العقائدِ ونحوِها مِن أصولِ الدِّينِ وما أُلْحِقَ بها .

- قولُه: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فيه التَّعبيرُ عن الحقِّ بالموصولِ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ؛ للدَّلالةِ على فَخامتِه، وللإشعارِ بعِلِّيةِ ما ذُكِرَ في حيِّزِ الصِّلةِ للتَّبيينِ وما عُطِفَ عليه، وجعَلَهما غايةً للبعثِ المُشارِ إليه باعتبارِ وُرودِه في معرِضِ الرَّدِّ على المُخالِفينَ، وإبطالِ مَقالةِ المُعاندين المُستدْعي للتَّعرُّضِ لِمَا يردَعُهم عن المُخالفةِ، ويُلْجِئُهم إلى الإذعانِ للحقِّ .

3- قولُه تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ استئنافٌ لبَيانِ كيفيَّةِ التَّكوينِ على الإطلاقِ إبداءً وإعادةً، بعد التَّنبيهِ على آنيَّةِ البعثِ، ومنه يظهَرُ كيفيَّتُه .

- قولُه: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أفادت إِنَّمَا قَصرًا هو قَصرُ وُقوعِ التَّكوينِ على صُدورِ الأمرِ به، وهو قَصرُ قلبٍ؛ لإبطالِ اعتقادِ المُشركينَ تعذُّرَ إحياءِ الموتى؛ ظنًّا منهم أنَّه لا يحصُلُ إلَّا إذا سلِمَت الأجسادُ من الفسادِ، فإذا كان سبَبُ التَّكوينِ ليس زائدًا على قولِ: كُنْ، فقد بطَلَ تعذُّرُ إحياءِ الموتى؛ ولذلك كان هذا قَصرَ قلبٍ لإبطالِ اعتقادِ المُشركينَ .

- قولُه: لِشَيْءٍ أُطْلِقَ (الشَّيءُ) هنا على المعدومِ باعتبارِ إرادةِ وُجودِه، فهو من إطلاقِ اسمِ ما يَؤُول إليه، أو المُرادُ بالشَّيءِ مُطلَقُ الحقيقةِ المعلومةِ وإنْ كانت مَعدومةً، وإطلاقُ الشَّيءِ على المعدومِ مُستعمَلٌ

========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيتان (41-42)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ

غريب الكلمات:

 

لَنُبَوِّئَنَّهُمْ: أي: لَنُسكِنَنَّهم ولَنُنزِلَنَّهم؛ مِن التبَوُّءِ: وهو الحُلولُ بالمكانِ، والنُّزولُ به، وأصلُ (بوأ): يدلُّ على الرُّجوعِ إلى الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: والذين تَرَكوا ديارَهم ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ، بَعدَما وقَعَ عليهم الظُّلمُ، لَنُسكِنَنَّهم في الدُّنيا بلدًا حَسنًا، ولَنَرزُقَنَّهم رِزقًا واسعًا، ولأجرُ الآخرةِ أكبَرُ؛ لأنَّ ثوابَهم فيها الجنَّةُ، لو كان المتخَلِّفونَ عن الهِجرةِ يَعلَمونَ أجرَ اللهِ وثوابَه للمُهاجِرينَ في سَبيلِه، ما تخلَّفَ منهم أحدٌ عن الهجرة. هؤلاء المُهاجِرونَ في سبيلِ اللهِ هم الذين صَبَروا على أوامِرِ الله وعن نواهِيه وعلى أقدارِه المُؤلِمةِ؛ وعلى رَبِّهم وَحدَه يَعتَمِدونَ.

تفسير الآيتين:

 

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عن الكُفَّارِ أنَّهم أقسَموا باللهِ جَهدَ أيمانِهم على إنكارِ البَعثِ والقيامةِ؛ دلَّ ذلك على أنَّهم تمادَوا في الغَيِّ والجَهلِ والضَّلالِ، وفي مِثلِ هذه الحالةِ لا يَبعُدُ إقدامُهم على إيذاءِ المُسلِمينَ وضَرِّهم، وإنزالِ العُقوباتِ بهم، وحينئذٍ يلزَمُ على المُؤمِنينَ أن يُهاجِروا عن تلك الدِّيارِ والمَساكِنِ، فذكر تعالى في هذه الآيةِ حُكمَ تلك الهجرةِ، وبيَّنَ ما لهؤلاءِ المهاجرينَ مِن الحَسَناتِ في الدُّنيا، والأجرِ في الآخرةِ؛ مِن حيثُ هاجروا وصَبَروا وتوكَّلوا على اللهِ، وذلك ترغيبٌ لغَيرِهم في طاعةِ الله تعالى

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَر الله تعالى حِكمةَ البَعثِ بأنَّها تبيينُ الذي اختلَفَ فيه النَّاسُ مِن هُدًى وضَلالةٍ، وتبيينُ أنَّ الذين كَفَروا كانوا كاذِبينَ؛ وعُلم من ذلك أنَّه يتبيَّنُ بالبَعثِ أنَّ الذين آمنوا كانوا صادِقينَ بدَلالةِ المُضادَّةِ، وأنَّهم مُثابُونَ ومُكرَمونَ، فلمَّا عُلِمَ ذلك من السِّياقِ، وقَع التصريحُ به في هذه الآيةِ .

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً.

أي: والذين تَرَكوا أوطانَهم وقَومَهم؛ ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ مِن بعدِ ما ظَلَمَهم الكُفَّارُ وعَذَّبوهم لِيَردُّوهم عن دينِهم- لَنُسكِنَنَّهم في الدُّنيا بلدًا يَرضَونَها، ولَنَرزُقَنَّهم رِزقًا واسعًا، وعيشًا هنيئًا، ولنجازينَّهم جزاءً حَسَنًا .

كما قال تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء: 100] .

وقال سُبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] .

وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.

أي: ولَثوابُ اللهِ للمُهاجِرينَ في الجنَّةِ أعظَمُ مِن ثوابِه لهم في الدُّنيا. لو كان المتخَلِّفونَ عن الهِجرةِ يَعلَمونَ ثوابَ اللهِ للمُهاجرينَ في الدُّنيا والآخرةِ، لَمَا تخلَّفَ أحدٌ منهم عن الهِجرةِ .

كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة: 20-22] .

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42).

الَّذِينَ صَبَرُوا.

أي: المُهاجِرونَ الذين وصَفَهم اللهُ هم الذين صَبَروا في اللهِ على امتثالِ أوامِرِه، وتجنُّبِ نواهيه، وصَبَروا على أقدارِه المُؤلِمةِ، وأذَى النَّاسِ .

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.

أي: وعلى ربِّهم يَعتَمِدونَ، وبه وَحدَه يَثِقونَ، ويُفوِّضونَ إليه أمورَهم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ فيه دليلٌ على إخلاصِ العمَلِ لله

.

2- قال الله تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الصَّبرُ والتوكُّلُ مِلاكُ الأمورِ كُلِّها، فما فات أحدًا شَيءٌ مِن الخيرِ إلَّا لعَدمِ صَبرِه وبَذْلِ جُهدِه فيما أُريدَ منه، أو لعَدَمِ توَكُّلِه واعتمادِه على الله .

3- قال تعالى: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً فإنَّهم ترَكوا مساكِنَهم وأموالَهم، فعوَّضَهم اللهُ خيرًا منها في الدُّنيا، فإنَّ من ترك شيئًا لله عوَّضه الله بما هو خيرٌ له منه، وكذلك وقَعَ؛ فإنَّهم مكَّن اللهُ لهم في البلادِ، وحكَّمَهم على رقابِ العِبادِ، فصاروا أمراءَ حُكَّامًا، وكلٌّ منهم للمُتَّقين إمامًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا أي: وقَع ظلمُهم مِن الكفَّارِ، بناه للمفعولِ؛ لأنَّ المحذورَ وقوعُ الظلمِ، لا كونُه مِن معيَّنٍ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ

- قولُه: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مُعترِضةٌ، وهي استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن جُملةِ الوعدِ كلِّها؛ لأنَّ ذلك الوعدَ العظيمَ بخيرِ الدُّنيا والآخرةِ يُثيرُ في نُفوسِ السَّامعينَ أنْ يسألوا: كيف لم يقتَدِ بهم مَن بَقُوا على الكُفرِ؟ فتقَعُ جُملةُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بَيانًا لِمَا استَبْهَم على السَّائلِ، والتَّقديرُ: لو كانوا يعلمونَ ذلك لاقتدَوا بهم ولكنَّهم لا يعلمونَ

.

2- قوله تعالى: الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

- قولُه: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ؛ للدَّلالةِ على قَصرِ التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى، أي: لا يتوكَّلونَ إلَّا على رَبِّهم دونَ التَّوكُّلِ على سَادةِ المُشركين ووَلائِهم .

- والتَّعبيرُ في جانبِ الصَّبرِ بالمُضيِّ، وفي جانبِ التوكُّلِ بالمُضارعِ إيماءٌ إلى أنَّ صَبرَهم قد آذنَ بالانقضاءِ؛ لانقضاءِ أسبابِه، وأنَّ اللهَ قد جعلَ لهم فَرَجًا بالهِجرةِ الواقعةِ والهِجرةِ المُترَقَّبةِ؛ فهذا بشارةٌ لهم، وأنَّ التوكُّلَ دَيدَنُهم؛ لأنَّهم يَستَقبِلونَ أعمالًا جليلةً تتِمُّ لهم بالتوكُّلِ على اللهِ في أمورِهم، فهم يُكَرِّرونَه؛ وفي هذا بِشارةٌ بضَمانِ النَّجاحِ ، ففي صِيغَةِ الاستقبالِ يَتَوَكَّلُونَ دَلالةٌ على دَوامِ التَّوكُّلِ

=========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (43-47)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ

غريب الكلمات:

 

بِالْبَيِّنَاتِ: أي: بالحُجَجِ والأدِلَّةِ الواضِحةِ؛ يُقالُ: بان الشَّيءُ وأبانَ: إذا اتَّضحَ وانكَشفَ

.

وَالزُّبُرِ: أي: الكُتُبِ، جمْعُ زَبورٍ، وأصلُ (زبر): يدُلُّ على الفَخامةِ والغِلَظ؛ يقال: زبَرْتُ الكِتابَ: إذا كَتبْتَه كِتابةً غليظةً، وكلُّ كتابٍ غليظِ الكِتابةِ يُقالُ له: زَبُورٌ .

تَقَلُّبِهِمْ: أي: تَصَرُّفِهم في البِلادِ، وتَردُّدِهم في أسفارِهم، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على رَدِّ شَيءٍ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ .

تَخَوُّفٍ: أي: تَنَقُّصٍ؛ إمَّا بقَتلٍ أو بمَوتٍ، يَنقُصُ مِن أطرافِهم ونَواحيهم الشَّيءَ بعد الشَّيءِ حتى يُهْلِكَ جميعَهم. أو: حالَ تخَوُّفٍ وتوَقُّعٍ للبَلايا. وعلى المعنى الثَّاني فأصلُ (خوف): يدلُّ على ذُعرٍ وفَزَعٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ

قولُه: بِالْبَيِّنَاتِ فيما يتعَلَّقُ به أوجهٌ؛ أحدُها: أنَّه مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ، على أنَّه صِفةٌ لـ  رِجَالًا أي: رِجالًا مُتَلبِّسينَ بالبَيِّناتِ. الثاني: أنَّه مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ جوابًا لسُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كأنَّه قيل: بمَ أُرسِلوا؟ فقيل: أرسَلْناهم بالبَيِّناتِ والزُّبُرِ. الثالث: أنَّه مُتعَلِّقٌ بـ أَرْسَلْنَا داخِلٌ تحتَ حُكمِ الاستثناءِ مع رِجَالًا، أي: وما أرسَلْنا إلَّا رِجالًا بالبَيِّناتِ

. وقيلَ غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول عزَّ وجلَّ: وما أرسَلْنا في السَّابقينَ قَبلَك- يا مُحمَّدُ- إلَّا رُسُلًا مِن الرِّجالِ لا مِن الملائكةِ، نُوحي إليهم، فاسألوا - أيُّها المُشرِكونَ- أهلَ الكُتُبِ السَّابقةِ يُخبِروكم أنَّ الأنبياءَ كانوا بشرًا، إنْ كُنتُم لا تعلمونَ، أرسَلْنا الأنبياءَ السَّابِقينَ بالحُجَجِ الواضِحةِ وبالكُتُبِ السَّماويَّةِ، وأنزَلْنا إليك- يا مُحمَّدُ- القُرآنَ؛ لتُوضِّحَ للنَّاسِ ما نزَّلَ اللهُ إليهم فيه، ولكي يتدَبَّروه ويهتَدوا به.

أفأمِنَ الكُفَّارُ المُدبِّرونَ للمكايدِ أن يخسِفَ اللهُ بهم الأرضَ، أو يأتيَهم عذابُ اللهِ مِن حيثُ لا يَشعُرونَ، أو يأخُذَهم اللهُ بالعذابِ وهم يتقَلَّبونَ في سَفَرِهم ومَعايشِهم؟ فما هم بمُمتَنِعينَ على اللهِ، ولا ناجينَ مِن عذابِه، أو يأخُذَهم اللهُ بنَقصٍ من نَواحيهم شيئًا بعد شَيءٍ حتى يُهلِكَ جميعَهم؛ فإنَّ رَبَّكم لرؤوفٌ بعباده رَحيمٌ بهم.

تفسير الآيات:

 

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه بعثَ الرُّسُلَ، وكان عاقِبةَ مَن كَذَّبَهم الهَلاكُ، بدَلالةِ آثارِهم، وكانوا قد قَدَحوا في الرِّسالةِ بكَونِ الرَّسولِ بشَرًا، ثمَّ بكَونِه ليس معه ملَكٌ يُؤيِّدُه- ردَّ ذلك بقَولِه مُخاطِبًا لأشرَفِ خَلقِه صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم؛ لكَونِه أفهَمَهم عنه، مع أنَّه أجَلُّ مَن توكَّلَ وصبَرَ، عائدًا إلى مَظهَرِ الجَلالِ بيانًا لأنَّه يُظهِرُ من يشاءُ على مَن يشاءُ

:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.

أي: وما أرسَلْنا الأنبياءَ مِن قَبلِك- يا مُحمَّدُ- إلَّا رِجالًا بَشَرًا مِن بني آدمَ لا ملائِكةً، نُوحي إليهم الشَّرائِعَ والأحكامَ .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف: 109] .

وقال سُبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان: 20] .

فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

أي: فاسألوا- أيُّها المُشرِكونَ- أهلَ الكِتابِ الذين قَرَؤوا الكُتُبَ مِن قَبلِكم كالتَّوراةِ والإنجيلِ، إنْ كُنتُم لا تَعلَمونَ أنَّ رُسُلَ اللهِ كانوا رِجالًا من البشَرِ لا مَلائِكةً، فاسألُوهم: هل كان الأنبياءُ والرُّسُلُ بشرًا أو ملائِكةً ؟!

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44).

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ.

أي: أرسَلْنا الأنبياءَ السَّابِقينَ بالحُجَجِ والكُتُبِ .

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.

أي: وأنزَلْنا إليك- يا مُحمَّدُ - القُرآنَ؛ لتوضِّحَ للنَّاسِ ما نزَّلَ اللهُ إليهم فيه- لفظًا بتلاوتِه، ومَعنًى بتفسيرِه، وبيانِ ما أشكَلَ عليهم منه- وتُفصِّلَ لهم بسُنَّتِك القَوليَّةِ والفِعليَّةِ ما أُجمِلَ مِن أحكامِه .

كما قال سُبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء: 105] .

وقال سُبحانه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل: 64] .

وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.

أي: وأنزَلْنا إليك القُرآنَ؛ كي يتفكَّرَ النَّاسُ في آياتِه، ويَعتَبِروا بها ويتَّعِظوا، فيَهتَدوا بالعمَلِ بها .

كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعدَ أن ذُكِرَت مَساوئُ المُشرِكينَ ومكايدُهم، وبعدَ تهديدِهم بعذابِ يومِ البَعثِ تَصريحًا وبعذابِ الدُّنيا تعريضًا، فرَّع على ذلك تهديدَهم الصَّريحَ بعذابِ الدُّنيا .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا نَبَّه اللهُ سُبحانَه على التفكُّرِ، وكان داعيًا للعاقِلِ إلى تجويزِ المُمكِنِ، والبُعدِ مِن الخطَرِ، سبَّبَ عنه إنكارَ الأمنِ مِن ذلك، فقال تعالى :

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ.

أي: أفأمِنَ الذين كَفَروا باللهِ وعَصَوه- ومِن ذلك سَعيُهم في إبطالِ الإسلامِ، وكَيدُهم بالمُسلِمينَ لإيذائِهم- أن تبتَلِعَهم الأرضُ فيَغيبوا في بَطنِها ؟

كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك: 16] .

أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.

أي: أو يأتيَهم عذابُ اللهِ غِرَّةً مِن حيثُ لا يَشعُرونَ بمَجيئِه إليهم، ولا يَدرونَ مِن أين يأتيهم .

أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46).

أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ.

أي: أو يُهلِكَ اللهُ الكافرينَ بالعذابِ في حالِ سَفَرِهم وتصَرُّفِهم في مَعايشِهم وأشغالِهم .

كما قال تعالى: أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف: 98- 99] .

فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كانت هذه الأحوالُ الثَّلاثةُ مَفروضةً في حالِ أمنِهم من العذابِ، وكان الأمنُ مِن العدُوِّ يكونُ عن ظَنِّ عدَمِ قُدرتِه عليه؛ علَّلَ ذلك بقَولِه تعالى :

فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ.

أي: فلَيسوا بفائِتينَ اللهَ، ولا مُمتَنِعينَ عليه؛ فهُم في قَبضتِه، يُهلِكُهم متى شاء، ولا مَهرَبَ لهم .

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47).

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ.

أي: أو يُهلِكَهم بنَقصٍ مِن أطرافِهم ونَواحيهم شيئًا بعد شَيءٍ، حتى يُهلِكَ جميعَهم .

فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.

أي: فإنَّ ربَّكم لا يُعاجِلُ الكافرينَ والعاصينَ بالعُقوبةِ؛ لأنَّه رؤوفٌ رَحيمٌ بعبادِه، يَرزُقُهم ويُعافيهم، ويُمهِلُهم ليتُوبوا .

عن أبي موسى رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما أحدٌ أصبَرَ على أذًى يَسمَعُه مِن الله تعالى؛ إنَّهم يجعَلونَ له نِدًّا، ويَجعَلونَ له ولدًا، وهو مع ذلك يَرزُقُهم ويُعافيهم ويُعطيهم! )) .

وعن أبي موسى رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملي للظَّالمِ حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه. قال: ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ عمومُ هذه الآيةِ فيه مَدحُ أهلِ العِلمِ، وأنَّ أعلى أنواعِه العِلمُ بكتابِ اللهِ المُنَزَّلِ؛ فإنَّ اللهَ أمَرَ مَن لا يعلَمُ بالرُّجوعِ إليهم في جميعِ الحوادِثِ، وفي ضِمنِه تعديلٌ لأهلِ العِلمِ وتَزكيةٌ لهم؛ حيث أمَرَ بسُؤالِهم، وأنَّه بذلك يخرُجُ الجاهِلُ مِن التَّبِعةِ، فدَلَّ على أنَّ الله ائتَمَنهم على وحْيِه وتَنزيلِه، وأنَّهم مأمورونَ بتَزكيةِ أنفُسِهم، والاتِّصافِ بصِفاتِ الكَمالِ

.

2- قَولُ الله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ هذا تخويفٌ مِن الله تعالى لأهلِ الكُفرِ والتَّكذيبِ وأنواعِ المعاصي مِن أن يأخُذَهم بالعذابِ على غِرَّةٍ، وهم لا يشعُرونَ؛ إمَّا أن يأخُذَهم العذابُ مِن فَوقِهم، أو مِن أسفَلَ منهم بالخَسفِ وغَيرِه، وإمَّا في حالِ تقَلُّبِهم وشُغلِهم، وعدمِ خُطورِ العذابِ ببالهم، وإمَّا في حالِ تَخَوُّفِهم مِن العَذابِ- على وجهٍ في التفسيرِ- فليسُوا بمُعجِزينَ لله في حالةٍ مِن هذه الأحوالِ، بل هم تحتَ قَبضتِه، ونواصيهم بيَدِه، ولكِنَّه رؤوفٌ رَحيمٌ لا يُعاجِلُ العاصينَ بالعُقوبةِ، بل يُمهِلُهم ويُعافيهم ويَرزُقُهم، وهم يُؤذونَه، ويُؤذونَ أولياءَه، ومع هذا يفتَحُ لهم أبوابَ التَّوبةِ، ويدعوهم إلى الإقلاعِ عن السَّيِّئاتِ التي تضُرُّهم، ويَعِدُهم بذلك أفضَلَ الكَراماتِ، ومغفرةَ ما صدَرَ منهم من الذُّنوبِ؛ فلْيَستَحِ المُجرِمُ مِن رَبِّه أن تكونَ نِعَمُ اللهِ عليه نازِلةً في جميعِ اللَّحظاتِ، ومعاصيه صاعِدةً إلى رَبِّه في كلِّ الأوقاتِ، ولْيَعلَمْ أنَّ اللهَ يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، وأنَّه إذا أخذ العاصِيَ أخَذَه أخْذَ عزيزٍ مُقتَدِرٍ؛ فلْيَتُبْ إليه، ولْيَرجِعْ في جميعِ أمورِه إليه؛ فإنَّه رَؤوفٌ رحيمٌ، فالبِدارَ البِدارَ إلى رحمتِه الواسعةِ، وبِرِّه العَميمِ، وسُلوكِ الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلى فَضلِ الرَّبِّ الرحيم، ألا وهي تَقواه، والعمَلُ بما يُحبُّه ويَرضاه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يدُلُّ على أنَّه تعالى ما أرسلَ أحدًا مِن النِّساءِ

.

2- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ دَلالةٌ على أنَّه سُبحانَه لم يَبعَثْ نبيًّا إلَّا بآيةٍ تُبَيِّنُ صِدْقَه، وتقومُ بها الحُجَّةُ؛ إذ تصديقُه بما لا يدُلُّ على صِدقِه غيرُ جائزٍ ، وذلك لِكَمالِ عَدلِه- سُبحانَه- ورَحمتِه، وإحسانِه، وحِكمتِه، ومحبَّتِه للعُذْرِ، وإقامتِه للحُجَّةِ .

3- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ حُجَّةٌ في تثبيتِ خَبَرِ الواحدِ؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مِن المسؤولينَ مُخبِرٌ عن ذلك على الانفرادِ، والحُجَّةَ لازِمةٌ على المُخْبَرِ بقَولِه .

4- في قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أنَّه يجوزُ التَّقليدُ في العَقائدِ، مِمَّا لا يُتَمَكَّنُ مَعرِفتُه بالدَّليلِ، فسؤالُنا أهلَ الذِّكْرِ عن هؤلاءِ الرُّسُلِ معناه أن نُقَلِّدَ المَسؤولَ، ونأخذَ بقَولِه، فالتَّقليدُ في المَسائلِ العَقَدِيَّةِ كالتَّقليدِ في المَسائلِ العَمَليَّةِ تمامًا ولا فَرقَ، فالذي لا يستطيعُ الوصولَ إلى الحقِّ بنفسِه ففَرضُه التَّقليدُ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ، فالتَّقليدُ جائِزٌ لِمَن لا يَصِلُ إلى العِلمِ بنَفسِه .

5- ليس في كلامِ اللهِ ورَسولِه شيءٌ لا يَعرِفُ معناه جميعُ الأُمَّةِ، بل لا بُدَّ أن يكونَ مَعروفًا لجميعِ الأُمَّةِ أو بَعضِها؛ لِقَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، وقَولِه تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] ، ولأنَّه لو كان فيه ما لا يَعلَمُ معناه أحدٌ لكان بعضُ الشَّريعةِ مجهولًا للأمَّةِ، ولكِنَّ المَعرِفةَ والخفاءَ أمرانِ نِسبيَّانِ؛ فقد يكونُ معروفًا لشَخصٍ ما كان خَفيًّا على غَيرِه، إمَّا لنَقصٍ في عِلمِه، أو قُصورٍ في فَهمِه، أو تَقصيرٍ في طَلَبِه، أو سوءٍ في قَصدِه .

6- لله تعالى حِكَمٌ في إبقاءِ أهلِ الكِتابينِ بينَ أظهُرِنا؛ فإنَّهم مع كُفرِهم شاهِدونَ بأصلِ النبُوَّاتِ والتَّوحيدِ، واليومِ الآخِرِ والجنَّةِ والنَّارِ، وفي كُتُبِهم من البِشاراتِ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وذِكرِ نُعوتِه وصِفاتِه، وصفاتِ أُمَّتِه، ما هو مِن آياتِ نُبوَّتِه وبراهينِ رسالتِه، وما يَشهَدُ بصِدقِ الأوَّلِ والآخِرِ، وهذه الحِكمةُ تختَصُّ بأهلِ الكتابِ دونَ عَبَدةِ الأوثانِ، فبَقاؤُهم مِن أقوى الحُجَجِ على مُنكِرِ النبُوَّاتِ والمعادِ والتوحِيدِ، وقد قال تعالى لمُنكري ذلك: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، ذكَرَ هذا عَقِبَ قَولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ يعني: سَلُوا أهلَ الكِتابِ: هل أرسلنا قبلَ محمَّدٍ رِجالًا يُوحَى إليهم، أم كان محمَّدٌ بِدْعًا مِن الرُّسُلِ لم يتقَدَّمْه رَسولٌ، حتى يكونَ إرسالُه أمرًا مُنكَرًا لم يَطرُقِ العالَمَ رَسولٌ قبله ؟!

7- في قَولِه تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ دَلالةٌ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى وَكَلَ بيانَ ما أَشكَلَ مِن التَّنزيلِ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

8- قَولُ الله تعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في الاقتِصارِ على إنزالِ الذِّكرِ عَقِبَ قَولِه تعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إيماءٌ إلى أنَّ الكِتابَ المُنَزَّلَ على مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو بَيِّنةٌ وزَبورٌ مَعًا، أي: هو مُعجِزةٌ وكِتابُ شَرعٍ، وذلك مِن مزايا القُرآنِ التي لم يُشارِكْه فيها كِتابٌ آخَرُ، ولا مُعجِزةٌ أخرى .

9- قال الله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ إنَّما سَمَّاه ذِكرًا؛ لأنَّ فيه مواعِظَ، وتَنبيهًا للغافِلينَ .

10- قال الإمامُ أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ بنُ إدريسَ الشَّافِعيُّ: (كلُّ ما حكَمَ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم فهو ممَّا فَهِمَه من القُرآنِ؛ قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105] ، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ، وقال تعالى: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل: 64] ) .

11- الدِّينُ الذي اجتَمع عليه المُسلِمونَ اجتِماعًا ظاهِرًا مَعلومًا، هو مَنقولٌ عن نبيِّهم نَقلًا متواتِرًا، نقلوا القرآنَ، ونَقلوا سُنَّتَه؛ وسُنَّتُه مُفَسِّرةٌ للقرآنِ، مُبَيِّنةٌ له، كما قال تعالى له: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ؛ فبَيَّنَ ما أنزَلَ اللهُ لَفْظَه ومَعناه، فصارت معاني القُرآنِ التي اتَّفقَ عليها المُسلِمونَ اتِّفاقًا ظاهِرًا ممَّا توارثَتْه الأمَّةُ عن نبيِّها، كما توارَثَت عنه ألفاظَ القرآنِ، فلم يكُنْ- ولله الحمدُ- فيما اتَّفَقَت عليه الأمَّةُ شَيءٌ مُحَرَّفٌ مُبدَّلٌ مِن المعاني، فكيف بألفاظِ تلك المعاني؟! فإنَّ نَقْلَها والاتِّفاقَ عليها أظهَرُ منه في الألفاظِ، فكان الدِّينُ الظَّاهِرُ للمُسلِمينَ- الذي اتَّفَقوا عليه ممَّا نقلوه عن نبيِّهم- لفظه ومعناه، فلم يكُنْ فيه تحريفٌ ولا تبديلٌ، لا لِلَّفظِ ولا للمَعنى، بخلافِ التَّوراةِ والإنجيلِ؛ فإنَّ مِن ألفاظِها ما بَدَّلَ معانيَه وأحكامَه اليهودُ والنَّصارى- أو مَجموعَهما- تبديلًا ظاهِرًا مَشهورًا في عامَّتِهم .

12- قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] قد ذكرَ جلَّ وعلا في هذه الآيةِ حِكمَتَينِ مِن حِكَمِ إنزالِ القُرآنِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:

إحداهما: أنْ يُبَيِّنَ للنَّاسِ ما نُزِّلَ إليهم في هذا الكِتابِ مِن الأوامِرِ والنَّواهي، والوعدِ والوعيدِ، ونحوِ ذلك.

الحكمةُ الثانيةُ: هي التفَكُّرُ في آياتِه والاتِّعاظُ بها

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

- قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فيه تَغييرُ أُسلوبِ نَظْمِ الكلامِ هنا بتَوجيهِ الخِطابِ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بعدَ أنْ كان جاريًا على أُسلوبِ الغَيبةِ ابتداءً مِن قولِه تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، وقولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا...؛ تأنيسًا للنَّبيِّ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ فيما مَضى من الكلامِ آنفًا حكايةَ تكذيبِهم إيَّاه تصريحًا وتعريضًا، فأقبَلَ اللهُ على الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالخِطابِ؛ لِمَا في هذا الكلامِ مِن تَنويهِ مَنزلتِه بأنَّه في مَنزلةِ الرُّسلِ الأوَّلين عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وفي هذا الخطابِ تَعريضٌ بالمُشركينَ؛ ولذلك الْتفَتَ إلى خِطابِهم بقولِه تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ

.

- قولُه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ فيه الإقبالُ عليهم بالخطابِ؛ تَوبيخًا لهم؛ لأنَّ التَّوبيخَ يُناسِبُه الخطابُ لكونِه أوقَعَ في نفْسِ المُوبَّخِ، فاحتجَّ عليهم بقولِه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. ولمَّا كان المقصودُ مِن الخطابِ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَنبيهَ الكُفَّارِ على مَضمونِه، صُرِفَ الخطابُ إليهم فقيل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ .

- وصِيغَةُ القَصرِ (ما... إلَّا) لقلْبِ اعتقادِ المُشركينَ؛ حيثُ قُصِرَ الإرسالُ على التعَلُّقِ برِجالٍ موصوفينَ بأنَّهم يُوحَى إليهم .

- وفي قولِه تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إيماءٌ إلى أنَّهم يَعْلمونَ ذلك، ولكنَّهم قَصَدوا المُكابرةَ والتَّمويهَ لتَضليلِ الدَّهماءِ؛ فلذلك جِيءَ في الشَّرطِ بحَرفِ (إنْ) الَّتي ترِدُ في الشَّرطِ المَظنونِ عدَمُ وُجودِه .

2- قوله تعالى: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

- لعلَّ عطفَ (الزُّبُرِ) على (الْبَيِّنَاتِ) عطفُ تَقسيمٍ بقَصدِ التَّوزيعِ، أي: بعضُهم مَصحوبٌ بالبيِّناتِ، وبعضُهم بالأمرينِ؛ لأنَّه قد تَجِيءُ رسُلٌ بدُونِ كُتُبٍ، وقد تُجْعَلُ الزُّبُرُ خاصَّةً بالكُتبِ الوجيزةِ الَّتي ليست فيها شَريعةٌ واسعةٌ، مثلُ صُحُفِ إبراهيمَ وزَبورِ داودَ عليهما السَّلامُ، والإنجيلِ .

- قولُه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ التَّعريفُ في النَّاسِ للعُمومِ .

3- قوله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ

- قولُه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ... الاستفهامُ للتَّعجيبِ مِن استرسالِهم في المُعانَدةِ غيرَ مُقدِّرينَ أنْ يقَعَ ما يُهدِّدُهم به اللهُ على لِسانِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلا يُقْلِعونَ عن تَدبيرِ المكرِ بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فكانت حالُهم في استرسالِهم كحالِ مَن هم آمِنونَ بأْسَ اللهِ، فالاستفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ المَشوبِ بالتَّوبيخِ .

- قولُه: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أي: من مكانٍ لا يترقَّبونَ أنْ يأتيَهم منه ضَرٌّ؛ فمعناه: أنَّه يأتيهم بَغتةً، لا يَستطيعونَ دفْعَه؛ لأنَّهم لبأْسِهم ومنعَتِهم لا يَبْغَتُهم ما يَحذرونه؛ إذ قد أعَدُّوا له عُدَّتَه، فكان عذابًا غيرَ مَعهودٍ؛ فوقَعَ قولُه: مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ كِنايةً عن عذابٍ لا يُطيقون دفْعَه بحسَبِ اللُّزومِ العُرفيِّ، وإلَّا فقد جاء العذابُ عادًا من مكانٍ يَشعُرون به؛ قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [سورة الأحقاف: 24]، وحَلَّ بقومِ نُوحٍ عذابُ الطُّوفانِ وهم ينظُرونَ، وكذلك عذابُ الغَرقِ لفِرعونَ وقومِه .

4- قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ

- تَفريعُ قولِه: فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ اعتراضٌ، أي: لا يمنَعُهم مِن أخْذِه إيَّاهم في تقلُّبِهم شَيءٌ؛ إذ لا يُعجِزُه اجتماعُهم وتعاونُهم .

5- قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ

- تفرَّعَ قولُه: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ على الجُملِ الماضيةِ تَفريعَ العِلَّةِ على المُعلَّلِ، وحَرفُ (إنَّ) هنا مُفيدٌ للتَّعليلِ ومُغنٍ عن فاءِ التَّفريعِ؛ فهِيَ مُؤكِّدةٌ لِمَا أفادتْه الفاءُ. والتَّعليلُ هنا لِمَا فُهِمَ من مَجموعِ المذكوراتِ في الآيةِ مِن أنَّه تعالى قادرٌ على تَعجيلِ هلاكِهم، وأنَّه أمهَلَهم حتَّى نَسُوا بأسَ اللهِ، فصاروا كالآمنينَ منه بحيث يُستفهَم عنهم: أهم آمِنون من ذلك أمْ لا ؟

==========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (48-55)

ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ

غريب الكلمات:

 

يَتَفَيَّأُ: أي: يَرجِعُ ويَمِيلُ؛ مِن الفَيءِ، يقال: فاء الظِّلُّ يَفيءُ فَيئًا: إذا رجعَ وعادَ، وأصلُه يدلُّ على الرُّجوعِ

.

دَاخِرُونَ: أي: أذِلَّاءُ صاغِرونَ، وأصلُ (دخر): يدلُّ على الذُّلِّ .

وَاصِبًا: أي: دائِمًا ثابِتًا واجِبًا، وأصلُ (وصب): يدلُّ على دوامِ شَيءٍ .

تَجْأَرُونَ: تَرفَعونَ أصواتَكم بالدُّعاءِ وتَستَغيثونَ، وأصلُه: مِن جُؤارِ الثَّورِ: إذا رفع صوتًا شديدًا مِن جُوعٍ أو غيرِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ألمْ يَنظُرْ هؤلاء الكُفَّارُ الذين مَكَروا السَّيِّئاتِ إلى ما خلَقَ اللهُ مِن شَيءٍ له ظِلٌّ- كالجِبالِ والأشجارِ وغيرهما- تَميلُ ظِلالُها تارةً يمينًا وتارةً شِمالًا، فتَسجُدُ لله وتخضَعُ لِعَظمتِه، وهي تحتَ تسخيرِه وتَدبيرِه وقَهرِه سُبحانَه؟

ولله وَحْدَه يَسجُدُ كُلُّ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ مِن دابَّةٍ، والملائِكةُ يَسجُدونَ لله، سجودَ ذلٍّ وخضوعٍ، وهم لا يَستَكبِرونَ عن عبادتِه، يخافُ الملائِكةُ رَبَّهم الذي هو فَوقَهم بذاتِه وقَهرِه وكَمالِ صفاتهِ، ويَفعَلونَ ما يُؤمَرونَ به.

وقال اللهُ لعِبادِه: لا تَعبُدوا إلهَينِ اثنَينِ؛ إنَّما المعبودُ المُستحِقُّ للعبادةِ إلهٌ واحِدٌ، فخافوني وَحدي. ولله ملكُ كلِّ ما في السَّمَواتِ والأرضِ، وله وَحْدَه العِبادةُ والطَّاعةُ والإخلاصُ دائِمًا، أغيرَ اللهِ تخافونَ وتَعبُدونَ؟! وما بكم مِن نِعمةٍ- ظاهِرةً كانت أو باطِنةً- فمِنَ اللهِ وَحدَه، ثمَّ إذا نزل بكم السَّقَمُ والبَلاءُ والفَقرُ، فإلى اللهِ وَحْدَه تَضِجُّون بالدُّعاءِ، ثمَّ إذا كشَفَ عنكم ما أصابكم، إذا جماعةٌ منكم برَبِّهم يُشرِكونَ؛ لِيَجحَدوا نِعَمَنا عليهم- ومنها كَشفُ البَلاءِ عنهم- فاستَمتِعوا بدُنياكم قليلًا، فسوفَ تَعلَمونَ عاقبةَ كُفرِكم!

تفسير الآيات:

 

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا خَوَّف اللهُ تعالى المُشرِكينَ بأنواعٍ مِن العذابِ أربعةٍ، أردَفَه بذِكرِ ما يدُلُّ على كَمالِ قُدرتِه في تَدبيرِ أحوالِ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ، وتدبيرِ أحوالِ الأرواحِ والأجسامِ؛ ليُظهِرَ لهم أنَّه مع كمالِ هذه القُدرةِ القاهرةِ، والقُوَّةِ غَيرِ المُتناهيةِ، لا يَعجِزُ عن إيصالِ العَذابِ إليهم على أحدِ تلك الأقسامِ الأربعةِ

.

وأيضًا فإنَّه بعدَ أن نهَضَت براهينُ انفرادِه تعالى بالخَلقِ بما ذُكِرَ مِن تَعدادِ مَخلوقاتِه العظيمةِ، جاء الانتقالُ إلى دَلالةٍ مِن حالِ الأجسامِ التي على الأرضِ، كلُّها مُشعِرةٌ بخُضوعِها لله تعالى خُضوعًا مُقارِنًا لوُجودِها وتقَلُّبِها آنًا فآنًا، عَلِمَ بذلك مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه. وأنبأ عنه لسانُ الحالِ بالنِّسبةِ لِما لا عِلمَ له، وهو ما خلَقَ اللهُ عليه النِّظامَ الأرضيَّ خَلقًا ينطِقُ لِسانُ حالِه بالعبوديَّةِ لله تعالى، وذلك في أشَدِّ الأعراضِ مُلازَمةً للذَّواتِ، ومُطابَقةً لأشكالِها، وهو الظِّلُّ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى قُدرتَه على تعذيبِ الماكرينَ وإهلاكِهم بأنواعٍ مِن الأخْذِ؛ ذكَرَ تعالى طواعيَةَ ما خلَقَ مِن غَيرِهم وخُضوعَه، ضِدَّ حالِ الماكرينَ؛ ليُنَبِّهَهم على أنَّه ينبغي- بل يجِبُ- عليهم أن يكونوا طائعينَ مُنقادينَ لأمْرِه .

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48).

أي: أولَمْ يَنظُرْ هؤلاء- الذين مَكَروا السَّيِّئاتِ- إلى مخلوقاتِ اللهِ القائِمةِ التي لها ظِلٌّ، كالأشجارِ والجِبالِ وغَيرِها، تَرجِعُ ظِلالُها مِن مَوضِعٍ إلى آخَرَ، فتَميلُ ذاتَ اليَمينِ أوَّلَ النَّهارِ، وذاتَ الشِّمالِ في آخِرِه ، منقادةً لأمْرِه خاضِعةً لعَظَمتِه بمَيَلانِها ودَوَرانِها مِن جانبٍ إلى جانبٍ آخَرَ، وهم صاغِرونَ تحتَ تَسخيرِه وتَدبيرِه وقَهْرِه سُبْحانَه ؟!

كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [الرعد: 15] .

وقال سُبحانَه: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا [الفرقان: 45] .

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى في الآيةِ السَّابِقةِ السُّجودَ القَسْريَّ، ذكَرَ بعدَه هنا سُجودًا آخَرَ بَعضُه اختيارٌ، وفي بَعضِه شِبهُ اختيارٍ .

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ.

أي: ولله وحدَه يسجُدُ جميعُ ما في السَّمواتِ، وجميعُ ما في الأرضِ مِن كلِّ ما يَدِبُّ ويتحَرَّكُ سجودَ ذلٍّ وخضوعٍ، فكلُّ أحدٍ خاضعٌ لربوبيتِه، ذليلٌ لعزَّتِه، مقهورٌ تحتَ سلطانِه .

كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج: 18] .

وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.

أي: والملائِكةُ يَسجُدونَ لله، وهم لا يَستَكبِرونَ عن عِبادتِه، والتَّذَلُّلِ له بطاعتِه .

كما قال تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] .

وقال سُبحانَه: وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19-20] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ [فصلت: 38] .

يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا مدَحَ اللهُ تعالى الملائِكةَ بكَثرةِ الطَّاعةِ والخُضوعِ لله، مدَحَهم بالخَوفِ مِن اللهِ الذي هو فوقَهم بالذَّاتِ والقَهرِ، وكَمالِ الأوصافِ، فهم أذِلَّاءُ تحتَ قَهْرِه سُبْحانَه .

يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ.

أي: يخافُ الملائِكةُ مِن اللهِ الذي هو فَوقَهم بذاتِه وقَهرِه وكَمالِ صِفاتِه .

وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.

أي: ويَفعَلُ الملائِكةُ ما يأمُرُهم اللهُ بفِعلِه، ولا يَعصُونَه .

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا بيَّنَ في الآيةِ الأولى أنَّ كُلَّ ما سِوى اللهِ- سواءٌ كان مِن عالَمِ الأرواحِ أو مِن عالَمِ الأجسامِ- فهو مُنقادٌ خاضِعٌ لجَلالِ اللهِ تعالى وكِبريائِه؛ أتبَعَه في هذه الآيةِ بالنَّهيِ عن الشِّركِ، وبالأمرِ بأنَّ كُلَّ ما سِواه فهو مِلكُه، وأنَّه غَنيٌّ عن الكُلِّ .

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ.

أي: وقال اللهُ لعِبادِه: لا تَعبُدوا مَعبُودَينِ اثنَينِ، فتَجعَلوا لي شَريكًا في العبادةِ .

إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ.

أي: إنَّما المعبودُ المُستحِقُّ للعبادةِ واحِدٌ، وهو اللهُ وَحدَه؛ فلا تَعبُدوا غَيرَه .

فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ.

أي: فخافُوني وَحْدِي، وامتَثِلوا أمْري، واجتَنِبوا نَهْيِي، ولا تُشرِكوا بي شَيئًا .

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ثَبَت بالدَّليلِ الصَّحيحِ، والبُرهانِ الواضِحِ أنَّ اللهَ تعالى هو إلهُ العالَمِ لا شَريكَ له في الإلهيَّةِ؛ وجَبَ أن يكونَ جميعُ المخلوقاتِ عَبيدَه، وفي مِلكِه وتَصَرُّفِه، وتحتَ قَهرِه .

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

أي: ولله وَحْدَه مُلْكُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ مِن خَلقِه، وكُلُّهم عبيدُه .

وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا.

أي: ولله وَحْدَه الطَّاعةُ والإخلاصُ والخُضوعُ والذُّلُّ دائِمًا في جميعِ الأوقاتِ؛ فطاعتُه واجِبةٌ وثابتةٌ على عبادِه أبدًا، لا تنقَطِعُ ولا تزولُ، بخلافِ طاعةِ غَيرِه سُبحانَه .

أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ.

أي: أفغَيرَ اللهِ- أيُّها النَّاسُ- تخافونَ وتُطيعونَ، وهو المَعبودُ الحَقُّ، المتفَرِّدُ بالخَلقِ والمُلْكِ والتدبيرِ ؟!

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ بالآيةِ الأُولَى أنَّ الواجِبَ على العاقِلِ ألَّا يتَّقِيَ غيرَ اللهِ؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّه يجِبُ عليه ألَّا يَشكُرَ أحدًا إلَّا اللهَ تعالى؛ لأنَّ الشُّكرَ إنَّما يلزَمُ على النِّعمةِ، وكلُّ نِعمةٍ حَصَلت للإنسانِ فهي مِن اللهِ تعالى؛ لِقَولِه تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ فثبت بهذا أنَّ العاقِلَ يجِبُ عليه ألَّا يخافَ وألَّا يتَّقِيَ أحدًا إلَّا اللهَ، وألَّا يَشكُرَ أحدًا إلَّا اللهَ تعالى .

وأيضًا فإنَّها انتِقالٌ مِن الاستدلالِ بمَصنوعاتِ اللهِ الكائنةِ في ذاتِ الإنسانِ، وفيما يُحيطُ به مِن الموجوداتِ، إلى الاستدلالِ بما ساق اللهُ مِن النِّعَمِ؛ فمِنَ النَّاسِ مُعرِضونَ عن التدَبُّرِ فيها، وعن شُكرِها، وهم الكافِرونَ، فكان في الأدلَّةِ الماضيةِ القَصدُ إلى الاستدلالِ ابتِداءً مَتبوعًا بالامتِنانِ .

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ.

أي: كلُّ ما لديكم- أيُّها النَّاسُ- من نِعَمٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ، فهو مِن الله وَحْدَه، لا مِن غَيرِه .

ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ.

أي: ثمَّ إذا أصابَكم مَرَضٌ أو فَقرٌ أو شِدَّةٌ وبلاءٌ، فإلى اللهِ تَصرُخونَ بالدُّعاءِ، وبه تَستَغيثونَ؛ ليَكشِفَ عنكم ما أصابَكم مِن شِدَّةٍ؛ لعِلْمِكم أنَّه وَحْدَه القادِرُ على إغاثَتِكم .

ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54).

أي: ثمَّ إذا أزال اللهُ عنكم الشِّدَّةَ، ورفَع البلاءَ، إذا جماعةٌ منكم- أيُّها النَّاسُ- يَجعَلونَ لربِّهم شَريكًا في عبادتِه !

كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 22- 23] .

وقال سُبحانَه: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .

لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55).

لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ.

أي: لِيَكْفُرَ المُشرِكونَ بما آتيناهم مِن نِعمةِ كَشْفِ الضُّرِّ عنهم .

فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ.

أي: فتَمَتَّعوا في حياتِكم الدُّنيا قليلًا- أيُّها المُشرِكونَ- فسوف تَعلَمونَ عاقِبةَ كُفرِكم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُه تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ دليلٌ على أنَّ مَن سجَدَ للهِ فقد بَرِئَ مِن الكِبرِ، ووطَّنَ نَفسَه على الذُّلِّ، ولم يُنازِعْ رَبَّه في كِبريائِه وعظَمتِه، ويُؤيِّدُه ما قال قَبلَ هذه الآيةِ: يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ، فكيف يجِدُ التكَبُّرُ مَساغًا فيمَن صَغَّرَه السُّجودُ، وذَلَّه لِرَبِّه جَلَّ وتعالى

؟!

2- في قَولِه تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أنَّ كلَّ ما نحصُلُ عليه- مِن عِلْمٍ أو قُدرةٍ أو إرادةٍ- فمِنَ اللهِ، فالواجِبُ علينا أن نُضيفَ هذه النِّعَمَ إلى اللهِ سُبحانَه، حتى ولو حصَلَتْ هذه النِّعمَةُ للإنسانِ بعِلْمِه أو مَهارتِه؛ فالذي أعطاه هذا العِلمَ أو المهارةَ هو اللهُ عزَّ وجلَّ، ثمَّ إنَّ المهارةَ أو العِلمَ قد لا يكونُ سببًا لحُصولِ الرِّزْقِ، فكم مِن إنسانٍ عالِمٍ أو ماهرٍ حاذِقٍ؛ ومع ذلك لا يُوَفَّقُ، بل يكونُ عاطلًا ، فجميعُ النِّعَمِ المُكتَسَبةِ منَّا إنَّما هي مِن إيجادِه واختراعِه سُبحانَه، ففي الآيةِ إشارةٌ إلى وجوبِ الشُّكرِ على ما أسدَى مِن النِّعَمِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ فيه سُؤالٌ: ما السَّبَبُ في ذِكْرِ (اليمين) بلَفظِ الواحِدِ، و(الشَّمائل) بصيغةِ الجَمعِ؟

أُجيب عن ذلك من عدةِ وجوهٍ:

منها: أنَّه لما كانت اليمينُ جهةَ الخيرِ والفلاحِ، وأهلُها هم الناجون أُفرِدت، ولما كانت الشمالُ جهةَ أهلِ الباطلِ، وهم أصحابُ الشمالِ جُمعت، فاليمينُ مأخوذٌ مِن اليُمنِ، وذلك راجعٌ إلى طريقِ الحقِّ، والشمالُ راجعٌ إلى طريقِ الباطلِ، بدليلِ قولِه تعالى: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ [الواقعة: 27] وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ [الواقعة: 41] ، وطريقُ الحقِّ واحدةٌ، وطرقُ الباطلِ متعددةٌ

.

ومنها: أنَّ الشمالَ إنَّما جُمِعت في الظلالِ، وأُفرِد اليمينُ؛ لأنَّ الظلَّ حين ينشأُ أوَّلَ النهارِ يكونُ في غايةِ الطولِ، يبدو كذلك ظلًّا واحدًا مِن جهةِ اليمينِ، ثم يأخذُ في النقصانِ، وأمَّا إذا أخَذ في جهةِ الشمالِ فإنَّه يتزايدُ شيئًا فشيئًا، والثاني منه غيرُ الأوَّل، فلمَّا زاد منه شيئًا فهو غيرُ ما كان قبلَه، فصار كلُّ جزءٍ منه كأنَّه ظلٌّ، فحسُنَ جمعُ الشمائلِ في مقابلةِ تعدُّدِ الظلالِ .

ومنها: أنَّ اليمينَ مقصودٌ به الجمعُ أيضًا؛ فإنَّ الألفَ واللَّامَ فيه لِلجنسِ، فقامَ العمومُ مقامَ الجمعِ . وقيل غيرُ ذلك .

2- قَولُ الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ لَمَّا كان حَقُّ المُشرِكينَ المُبادرةَ بالتَّوبةِ، فلم يَفعَلوا؛ أعرَضَ تعالى عنهم، فقال: يَرَوْا .

3- قال الله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ سُجودُ المَخلوقاتِ لله تعالى قِسمانِ: سُجودُ اضطِرارٍ ودَلالةٍ على ما له مِن صِفاتِ الكَمالِ، وهذا عامٌّ لكُلِّ مَخلوقٍ؛ مِن مُؤمِنٍ وكافِرٍ، وبَرٍّ وفاجِرٍ، وحيوانٍ ناطِقٍ وغَيرِه، وسُجودُ اختيارٍ يَختَصُّ بأوليائِه وعِبادِه المُؤمِنينَ مِن الملائِكةِ وغَيرِهم مِنَ المَخلوقاتِ .

4- قَولُ الله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ المقصودُ مِن هذه الآيةِ شَرحُ صِفاتِ الملائكةِ، وهي دَلالةٌ قاهِرةٌ قاطِعةٌ على عِصمةِ الملائِكةِ عن جميعِ الذُّنوبِ؛ لأنَّ قَولَه: وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يدُلُّ على أنَّهم مُنقادونَ لصانِعِهم وخالِقِهم، وأنَّهم ما خالَفوه في أمرٍ مِن الأمورِ، وقَوله: وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ أيضًا يدُلُّ على أنَّهم فعلوا كلَّ ما كانوا مأمورينَ به، وذلك يدُلُّ على عِصمتِهم عن كُلِّ الذُّنوبِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وقال لإبليس: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص: 75] ، وقال أيضًا له: فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا [الأعراف: 13] ، فثبت أنَّ الملائكةَ لا يستكبِرون، وثبت أنَّ إبليسَ تكبَّرَ واستكبَرَ، فوجب أن لا يكونَ مِن الملائكةِ .

6- في قَولِه تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ دَلالةٌ على عُلُوِّ اللهِ تعالى فوقَ خَلْقِه ، وأنَّ اللهَ جلَّ جلالُه بذاتِه في السَّماءِ على العَرشِ، وليس في الأرضِ إلَّا عِلْمُه المحيطُ بكُلِّ شَيءٍ .

7- قَولُ الله تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ فيه سُؤالٌ: إنَّ الإلهَينِ لا بُدَّ أنْ يكونَا اثنَينِ، فما الفائِدةُ في قَولِه: إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ؟

الجوابُ مِن وجوهٍ:

منها: أنَّ الاثنينيَّةَ مُنافِيةٌ للإلهيَّةِ؛ فقَولُه: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ المقصودُ منه التَّنبيهُ على حُصولِ المُنافاةِ، والمُضادَّةِ بين الإلهيَّةِ وبَينَ الاثنينيَّةِ .

ومنها: أن ذِكرَ الاثنينِ لِدَفعِ احتمالِ إرادةِ الجِنسِ، وإذ نُهُوا عن اتِّخاذِ إلهَينِ فقد دَلَّ بدَلالةِ الاقتضاءِ على إبطالِ اتِّخاذِ آلهةٍ كثيرةٍ. وقيل غيرُ ذلك .

8- قَولُ الله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ احتُجَّ به على أنَّ الإيمانَ حصَلَ بخَلقِ اللهِ تعالى؛ فالإيمانُ نِعمةٌ، وكلُّ نِعمةٍ فهي مِنَ الله تعالى .

9- قَولُه تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ يَدخُلُ فيه نِعَمُ الدِّينِ والدُّنيا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ

- قوله: وَهُمْ داخِرُونَ جُمِع بالواو؛ لأنَّ الدخورَ من أوصافِ العُقلاءِ، أو لأنَّ في جملةِ ذلك مَن يَعقِلُ فغُلِّب

.

- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا الاستفهامُ هنا معناه التَّوبيخُ. وقيل: ويجوزُ أنْ يكونَ معناه التَّعجُّبَ .

- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا على قِراءةِ حَمزةَ والكسائيِّ وخَلفٍ : (أولَمْ تَرَوا) بالتَّاءِ المُثنَّاةِ الفوقيَّةِ على الخِطابِ؛ فهو على طَريقةِ الالْتفاتِ .

- قَولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ قولُه: مِنْ شَيْءٍ بيانٌ للإبهامِ الَّذي في (ما) الموصولةِ . فإنْ قيل: كيف بيَّنَ الموصولَ (ما)- وهو مُبهَمٌ- بشَيءٍ هو مُبهَمٌ، بل أبهَمُ ممَّا قَبلَه؟

فالجوابُ: أنَّ مِنْ شَيْءٍ قد اتَّضَح وظَهَر بوَصفِه بالجُملةِ بعدَه يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ. وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ الجُملةَ بيانٌ لـ (ما) .

- وخَصَّ الظِّلَّ بالذِّكرِ؛ لأنَّه سَريعُ التَّغيُّرِ، والتغَيُّرُ يقتضي مُغَيِّرًا غيَّرَه، ومُدَبِّرًا له .

- ولَمَّا كان سجودُ الظلالِ في غايةِ الظهورِ بُدئ به، ثم انتقَل إلى سجودِ ما في السمواتِ والأرضِ .

2- قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ

- قولُه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ تَقديمُ المجرورِ وَلِلَّهِ على فِعْلِه يَسْجُدُ مُؤْذِنٌ بالحصرِ، أي: سجَدَ للهِ لا لغيرِه ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، وهو تَعريضٌ بالمُشركين؛ إذ يَسجُدونَ للأصنامِ .

- قولُه: مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث لم يُعَبِّرْ بـ (مَن) تغلِيبًا للعُقلاءِ مِن الدَّوابِّ على غيرِهم، وإنَّما جاء بـ مَا؛ لأنَّه لو جِيءَ بـ (مَن) لم يكُنْ فيه دَليلٌ على التَّغليبِ؛ فكان مُتناوِلًا للعُقلاءِ خاصَّةً، فجِيءَ بما هو صالحٌ للعُقلاءِ وغيرِهم؛ إرادةً للعُمومِ ، فجاء بـ (ما) الموصوليَّةِ للتَّغليبِ؛ لأنَّ ما لا يعقِلُ أكثرُ ممَّن يعقِلُ في العدَدِ، والحُكمُ للأغلبِ. و(ما) الموصولةُ في أصلِ وضْعِها لِمَا لا يعقِلُ، كما أنَّ (مَن) موضوعةٌ في الأصلِ لمَن يعقِلُ، وقد تَتخالفانِ ، وإنَّما قال: مَا ولم يُغلِّبِ العُقلاءَ مِن الدَّوابِّ على غيرِهم، كما في قولِه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور: 45] ؛ لأنَّه أراد هنا عُمومَ كلِّ دابَّةٍ ولم يقترِنْ بتغليبٍ؛ فجاء بـ  مَا الَّتي تعُمُّ النَّوعينِ، وفي آيةِ النُّورِ- وإنْ أراد العُمومَ- لكنَّه اقترَنَ بتغليبٍ، وهو ذِكْرُ ضَميرِ العُقلاءِ مَنْ في قولِه: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي؛ فجاء بـ مَنْ تَغليبًا للعُقلاءِ . فإنْ قلْتَ: سُجودُ المُكلَّفينَ ممَّا انتظَمَه هذا الكلامُ خِلافَ سُجودِ غيرِهم، فكيف عُبِّرَ عن النَّوعينِ بلفظٍ واحدٍ؟ قلْتُ: المُرادُ بسُجودِ المُكلَّفينَ: طاعتُهم وعِبادتُهم، وبسُجودِ غيرِهم: انقيادُه لإرادةِ اللهِ، وأنَّها غيرُ مُمتنِعةٍ عليها، وكِلَا السُّجودينِ يجمَعُهما معنى الانقيادِ فلم يختلِفَا؛ فلذلك جاز أنْ يُعَبَّرَ عنهما بلفظٍ واحدٍ .

- قولُه: مِنْ دَابَّةٍ يجوزُ أنْ يكونَ بيانًا لِمَا في السَّمواتِ وما في الأرضِ جميعًا، على أنَّ في السَّمواتِ خلقًا للهِ يَدُبُّون فيها كما يدُبُّ الأناسيُّ في الأرضِ، وأنْ يكونَ بيانًا لِمَا في الأرضِ وحدَه، ويُرادُ بـ  مَا فِي السَّمَوَاتِ: الملائكةُ، وكرَّرَ ذِكْرَهم على معنى: والملائكةُ خُصوصًا مِن بين السَّاجدينَ؛ لأنَّهم أطوَعُ الخلقِ وأعبَدُهم. ويجوزُ أنْ يُرادَ بـ مَا فِي السَّمَوَاتِ: ملائكتُهنَّ . وقيل: عَطَفَ وَالْمَلَائِكَةُ على مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وهم مُندَرِجونَ في عُمومِهما؛ تَشريفًا لهم وتكريمًا. ويجوزُ أن يُرادَ بهم الحَفَظةُ التي في الأرضِ، وبـ  مَا فِي السَّمَوَاتِ مَلائِكتُهنَّ، فلم يدخُلوا في العُمومِ .

3- قوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ

- جُملةُ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ يجوزُ أنْ تكونَ حالًا مِن الضَّميرِ في لَا يَسْتَكْبِرُونَ، أي: لا يستكبِرونَ خائفينَ، ويجوزُ أنْ يكونَ بيانًا لنَفيِ الاستكبارِ، وتأكيدًا له وتَقريرًا؛ لأنَّ مَن يخافُ اللهَ سُبحانَه لا يستكبِرُ عن عِبادتِه .

- وفي قولِه: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ تَربيةٌ للمَهابةِ، وإشعارٌ بعِلَّةِ الحُكمِ .

4- قوله تعالى: وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ

- قولُه: وَقَالَ اللَّهُ فيه إظهارُ الفاعِلِ، وتخصيصُ لفظةِ الجلالةِ بالذِّكرِ؛ للإيذانِ بأنَّه متعيِّنُ الأُلوهيَّةِ، وإنَّما المنهيُّ عنه هو الإشراكُ به، لا أنَّ المنهيَّ عنه مُطلَقُ اتِّخاذِ إلَهَينِ بحيث يتَحقَّقُ الانتهاءُ عنه برَفْضِ أيِّهِما كان .

- وجملةُ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ يَجوزُ أن تَكونَ بَيانًا لِجُملةِ: لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ؛ فالجملةُ مَقولَةٌ لِفِعلِ وَقَالَ اللَّهُ؛ لأنَّ عطْفَ البيَانِ تابِعٌ للمبيَّنِ؛ فلِذلك فُصِلَت، أي: لم تُعطَفْ على الجملةِ التي قبْلَها، وبذلك أُفيدَ بالمنطوقِ ما أُفيدَ قبْلُ بدَلالةِ الاقتضاءِ. ويَجوزُ أن تَكونَ جملةُ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ مُعترِضةً، واقعةً تَعليلًا لجملةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، أي: نَهى اللهُ عن اتِّخاذِ إلهَيْنِ؛ لأنَّ اللهَ واحدٌ، أي: واللهُ هو مُسمَّى إلهٍ؛ فاتِّخاذُ إلَهَينِ اثنَينِ قَلْبٌ لِحَقيقةِ الإلهيَّةِ .

- والقَصْرُ في قولِه: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ قَصْرُ موصوفٍ على صِفةٍ، أي: اللهُ مُختصٌّ بصِفَةِ توحُّدِ الإلهيَّةِ، وهو قَصْرُ قَلْبٍ؛ لإبطالِ دَعْوى تَثنيَةِ الإلهِ .

- قولُه: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ فيه نقلٌ للكلامِ عن الغَيْبةِ إلى التَّكلُّمِ، وجاز لأنَّ الغالِبَ هو المتكلِّمُ، وهو مِن طريقةِ الالْتِفاتِ، وهو أبلَغُ في التَّرهيبِ مِن (وإيَّاه فارهَبوه)، ومِن أن يَجيءَ ما قَبْلَه على لَفْظِ المتكلِّمِ ؛ فهذا الالتِفاتُ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ؛ لِتَربيَةِ المهابةِ وإلقاءِ الرَّهبةِ في القُلوبِ؛ ولِذَلك قَدَّم وكرَّر الفِعْلَ، أي: إنْ كُنتُم راهِبين شَيئًا فإيَّايَ ارْهَبوا لا غَيرُ؛ فإنِّي ذلك الواحِدُ الَّذي يَسجُدُ لَه ما في السَّمواتِ والأرضِ .

- وأيضًا قولُه: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ تفريعٌ، يَجوزُ أن يكونَ تَفريعًا على جُملةِ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ؛ فيَكونَ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ مِن مَقولِ القولِ، ويَكونَ في ضَميرِ المتكلِّمِ مِن قولِه: فَارْهَبُونِ الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ. ويَجوزُ أن يَكونَ تَفريعًا على فِعْلِ وَقَالَ اللَّهُ؛ فلا يَكونَ مِن مَقولِ القولِ، وليس في الكلامِ الْتِفاتٌ على هذا الوجهِ .

- وأيضًا قولُه: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ تفريعٌ بصِيغةِ القصرِ، وهو قَصرُ قلبٍ إضافيٌّ، أي: قَصْرُ الرَّهبةِ التَّامَّةِ مِنه عليه؛ فلا اعْتِدادَ بقُدرةِ غيرِه على ضُرِّ أحدٍ.

واقتِرانُ فِعْلِ فَارْهَبُونِ بالفاءِ؛ لِيَكونَ تَفريعًا على تفريعٍ؛ فيُفيدُ مَفادَ التَّأكيدِ؛ لأنَّ تَعلُّقَ فِعلِ (ارْهَبُونِ) بالمفعولِ لَفْظًا يَجعَلُ الضَّميرَ المنفصِلَ المذكورَ قبْلَه في تقديرِ مَعمولٍ لفِعلٍ آخَرَ؛ فيَكونُ التَّقديرُ: فإيَّايَ ارْهَبوا فارْهَبونِ، أي: أمَرتُكم بأن تَقْصُروا رَهبتَكم علَيَّ، فارهَبونِ امتِثالًا للأمرِ .

- قولُه: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ: لَمَّا نَهى عن اتِّخاذِ الإلهَينِ، واستَلزَم النَّهيَ عن اتِّخاذِ آلهةٍ؛ أخبَر تعالى أنَّه إلهٌ واحدٌ كما قال: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة: 163] ، بأَداةِ الحَصْرِ، وبالتَّأكيدِ بالوَحْدةِ، ثمَّ أمَرَهم بأن يَرهَبوه، والْتَفَت مِن الغَيبةِ إلى الحُضورِ؛ لأنَّه أبلَغُ في الرَّهبةِ .

5- قوله تعالى: وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ تقريرٌ لعِلَّةِ انْقِيادِ ما فيها له سُبحانَه خاصَّةً، وتحقيقٌ لتخصيصِ الرَّهبةِ به تعالى .

- قولُه: وَلَهُ مَا فِي السَّمواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِبًا فيه تقديمُ الظَّرفِ (لَهُ) لِتَقْويةِ ما في اللَّامِ مِن مَعنى الاخْتِصاصِ، وكذا في قولِه تعالى: وَلَهُ الدِّينُ ، وهو يُفيدُ الحصْرَ؛ فدخَل جميعُ ما في السَّماءِ والأرضِ في مَفادِ لامِ المِلكِ؛ فأفادَ أنْ ليس لِغَيرِه شيءٌ مِن المخلوقاتِ خيرِها وشَرِّها؛ فانتَفى أن يكونَ معَه إلهٌ آخَرُ؛ لأنَّه لو كان معَه إلهٌ آخَرُ لكان له بعضُ المخلوقاتِ؛ إذْ لا يُعقَلُ إلهٌ بدونِ مخلوقاتٍ. وأمَّا قولُه: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا فالدِّينُ يَحتمِلُ أن يَكونَ المرادُ به الطَّاعةَ؛ مِن قولِهم: دانَتِ القَبيلةُ للمَلِكِ، أي: أطاعَتْه؛ فهو مِن مُتمِّماتِ جُملةِ: وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ لأنَّه لَمَّا قَصَر الموجوداتِ على الكونِ في مُلكِه، كان حَقيقًا بِقَصْرِ الطَّاعةِ عليه؛ ولذلك قدَّم المجرورَ (له) في هذه الجملةِ على فِعْلِه، كما وقَع في الَّتي قبْلَها .

- قولُه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ استفهامٌ تَضمَّنَ التَّوبيخَ والتَّعجُّبَ، أي: بَعدَما عرَفْتُم وَحْدانيَّتَه، وأنَّ ما سِواه له، ومُحتاجٌ إليه؛ كيف تتَّقونَ وتَخافونَ غَيرَه، ولا نَفْعَ ولا ضُرَّ يَقدِرُ علَيه ؟!

6- قوله تعالى: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ

- قولُه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ في إيرادِ النِّعمةِ بالجملةِ الاسميَّةِ الدَّالَّةِ على الدَّوامِ، والتَّعبيرِ عن مُلابَستِها للمُخاطَبين بِباءِ المُصاحَبةِ، وإيرادِ (ما) المُعرِبةِ عن العمومِ، وإيرادِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ بالجملةِ الفعليَّةِ المعْرِبةِ عن الحُدوثِ مع (ثمَّ) الدَّالَّةِ على وُقوعِه بعدَ بُرهةٍ مِن الدَّهرِ، وتَحْليَةِ الضُّرِّ بلامِ الجنسِ المفيدةِ لِمِساسِ أدْنَى ما يَنطلِقُ عليه اسمُ الجنسِ: ما لا يَخْفى مِن الجزالةِ والفَخامةِ. ولعلَّ إيرادَ إِذَا دونَ (إِنْ)؛ للتَّوسُّلِ به إلى تَحقُّقِ وُقوعِ الجوابِ ؛ لأنَّ (إذا) للَّذي يقَعُ، و(إنْ) للَّذي قد يقَعُ أو لا يقَعُ.

- قولُه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ الباءُ بِكُمْ للمُلابَسةِ، أي: ما لابَسَكم واستَقرَّ عِندَكم، ومِنْ نِعْمَةٍ لِبَيانِ إبهامِ مَا الموصولةِ .

- و(مِن) في قولِه: فَمِنَ اللَّهِ ابتدائيَّةٌ، أي: واصِلةٌ إليكم مِن اللهِ، أي: مِن عطاءِ اللهِ. ولَمَّا كان قولُه: ومَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ مُفيدًا للعُمومِ، كان الإخبارُ عنه بأنَّه مِن عِندِ اللهِ مُغنِيًا عن الإتيانِ بصيغةِ قَصْرٍ .

- و(ثُمَّ) في قولِه: ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ للتَّراخي الرُّتْبيِّ، كما هو شأنُها الغالب في عَطْفِها الجُمَل؛ لأنَّ اللَّجَأَ إلى اللهِ عِندَ حُصولِ الضُّرِّ أعجَبُ إخبارًا مِن الإخبارِ بأنَّ النِّعَمَ كلَّها مِن اللهِ، ومضمونُ الجملةِ المعطوفةِ أبعَدُ في النَّظرِ مِن مضمونِ المعطوفِ عليها. والمقصودُ: تقريرُ أنَّ اللهَ تعالى هو مُدبِّرُ أسبابِ ما بهِم مِن خيرٍ وشرٍّ، وأنَّه لا إلهَ يَخلُقُ إلَّا هو، وأنَّهم لا يَلتجِئون إلَّا إليه إذا أصابَهم ضُرٌّ، وهو ضدُّ النِّعمةِ .

7- قوله تعالى: ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ

-  ثُمَّ في قولِه: ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ للتَّرتيبِ الرُّتْبيِّ كما هو شأنُها في عَطفِ الجُمَلِ؛ فليستْ ثُمَّ هنا للدَّلالةِ على تَمادي زَمانِ مِساسِ الضُّرِّ ووُقوعِ الكَشفِ بعدَ بُرهَةٍ مَديدةٍ، بل للدَّلالةِ على تَراخي رُتبةِ ما يتَرتَّبُ عليه مِن مُفاجَأةِ الإشراكِ المدلولِ عليها بقولِه سُبحانَه: إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ؛ فإنَّ ترَتُّبَها على ذلك في أبعَدِ غايةٍ مِن الضَّلالِ. وجيءَ بحرفِ (ثُمَّ)؛ لأنَّ مَضمونَ الجملةِ المعطوفةِ أبعَدُ في النَّظرِ مِن مَضمونِ المعطوفِ عليها؛ فإنَّ الإعراضَ عن المنعِمِ بكَشْفِ الضُّرِّ وإشراكَ غيرِه به في العِبادةِ أعجَبُ حالًا، وأبعَدُ حُصولًا مِن اللَّجَأِ إليه عندَ الشِّدَّةِ .

- قولُه: بِرَبِّهِمْ فيه التَّعرُّضُ لوَصفِ الرُّبوبيَّةِ؛ للإيذانِ بكَمالِ قُبحِ ما ارتَكَبوه مِن الإشراكِ والكُفرِ .

- قولُه: إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ يجوزُ أن يَكونَ الخِطابُ في قولِه: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ عامًّا، ويُريدَ بالفَريقِ: فريقَ الكفَرةِ وأن يَكونَ الخِطابُ للمُشرِكين ومِنْكُمْ للبَيانِ لا للتَّبعيضِ، كأنَّه قال: فإذا فريقٌ كافِرٌ، وهم أنتُم. ويجوزُ أن يكونَ فيهم مَن اعتَبَر، كقولِه: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32] ؛ فمِن تبعيضيَّةٌ أيضًا .

8- قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

- قولُه: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ لامُ التَّعليلِ في لِيَكْفُرُوا- على أحدِ القولينِ- مُتعلِّقةٌ بفِعلِ يُشْرِكُونَ الَّذي هو مِن جوابِ قولِه: إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ، والكُفرُ هنا كفرُ النِّعمةِ؛ ولِذلك عَلَّق به قولَه: بِمَا آتَيْنَاهُمْ، أي: مِن النِّعَمِ، وكُفرُ النِّعمةِ ليس هو الباعِثَ على الإشراكِ؛ فإنَّ إشراكَهم سابِقٌ على ذلك، وقد استَصْحَبوه عَقِبَ كشْفِ الضُّرِّ عنهم، ولكن شُبِّهَت مُقارَنةُ عَوْدِهم إلى الشِّركِ بعدَ كشْفِ الضُّرِّ عنهم بمُقارَنةِ العِلَّةِ الباعِثةِ على عمَلٍ لذلك العمَلِ، ووجهُ الشَّبَهِ: مُبادَرتُهم لكُفرِ النِّعمةِ دونَ تَريُّثٍ .

- قولُه: فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أمرُ تهديدٍ، والالتفاتُ إلى الخطابِ؛ للإيذانِ بتَناهي السُّخطِ .

- قولُه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه وعيدٌ أكيدٌ، مُنْبِئٌ عن أخْذٍ شديدٍ، حيث لم يَذكُرِ المفعولَ؛ إشعارًا بأنَّه ممَّا لا يُوصَفُ .

=======================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (56-60)

ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ

غريب الكلمات :

 

كَظِيمٌ: أي: مُمسِكٌ على حُزنِه، لا يُظهِرُه، ولا يَشكوه، وأصلُ (كظم): يدلُّ على إمساكِ الشَّيءِ، وجَمعِه

.

يَتَوَارَى: أي: يختفي ويتغَيَّبُ، وأصلُه مِن الوَراءِ، وهو جِهةُ الخَلفِ .

هُونٍ: أي: هَوانٍ، وأصلُ (هون): يدلُّ على ذُلٍّ .

يَدُسُّهُ: أي: يُخفِيه ويَئِدُه، وأصلُ (دسس): يدُلُّ على دُخولِ الشَّيءِ تحت خَفاءٍ وسِرٍّ .

الْمَثَلُ الْأَعْلَى: أي: الصفةُ العُلْيا، التي هي أعلَى مِن كلِّ صفةٍ، مِن تنزُّهِه عن الولدِ، وسائرِ ما لا يليقُ بجلالِه، وأصلُ (مثل): يَدُلُّ على مناظرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّ المشركينَ يجعَلُون للأصنامِ التي اتَّخَذوها آلِهةً- وهي لا تعلَمُ شيئًا ولا تنفَعُ ولا تضُرُّ- حظًّا من أموالِهم التي رزَقَهم اللهُ إيَّاها- كالحَرْثِ والأنعامِ-؛ تقَرُّبًا إليها! ثم يتوعَّدُهم الله مقسمًا بذاتِه قائلًا: واللهِ لتُسألُنَّ- أيُّها المُشرِكون- يومَ القيامةِ عمَّا كنتُم تختَلِقونَه مِن الكَذِبِ عليه سُبحانَه. ويجعَلُونَ لله سُبحانَه البَناتِ، فيقولونَ: الملائِكةُ بناتُ الله- تنزَّه اللهُ عن قَولِهم- ولأنفُسِهم ما يحبُّونَ مِن البَنينَ! وإذا أُخبِرَ أحدُهم بولادةِ بِنتٍ له، اسودَّ وَجْهُه؛ كراهِيةً لِما سَمِعَ، وامتلأ غمًّا وحُزنًا، يَستَخفي مِن قَومِه كراهةَ أنْ يَلقاهم مُتلَبِّسًا بما ساءَه مِن الحُزنِ والعارِ؛ بسبَبِ البِنتِ التي وُلِدَت له، يتحَيَّرُ في أمرِ هذه المولودةِ: أيُبقِيها حَيَّةً على ذُلٍّ وهَوانٍ، أم يَدفِنُها حَيَّةً في التُّرابِ؟ ألا بِئسَ الحُكمُ الذي حَكَموه مِن جَعْلِ البناتِ- اللَّاتي لا يَرضَونَهنَّ لأنفُسِهم- لله، والذُّكورِ لهم!

للَّذينَ لا يُؤمِنونَ بالآخرةِ المثَلُ القَبيحُ مِن العَجزِ والحاجة، والعَيبُ والنَّقصُ؛ ولِلَّه الصِّفاتُ العُليا مِن الكَمالِ، والاستغناءِ عن خَلقِه، والتنزُّهِ عن الولدِ، وهو العزيزُ في مُلكِه، الحَكيمُ في تَدبيرِه.

تفسير الآيات:

 

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ بالدَّلائِلِ القاهِرةِ فَسادَ أقوالِ أهلِ الشِّركِ والتَّشبيهِ؛ شرح في هذه الآيةِ تفاصيلَ أقوالِهم، وبَيَّن فَسادَها وسَخافتَها

، فقال تعالى:

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ.

أي: ويجعَلُ المُشرِكونَ للأصنامِ- التي لا يَعلَمونَ لها حَقًّا، ولا ضَرًّا ولا نَفعًا، ولا حُجَّةَ لهم في عِبادتِها- حظًّا مِمَّا رزَقْناهم من الأموالِ، كالحَرْثِ والأنعامِ؛ يتقَرَّبونَ بها إليها !

كما قال تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136] .

تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ.

أي: واللهِ- أيُّها المُشرِكونَ- ليَسألنَّكم اللهُ يومَ القيامةِ عَمَّا كُنتُم تَختَلِقونَه في الدُّنيا مِن الكَذِب عليه، بادِّعائِكم أنَّه أمَرَكم بعبادةِ غَيرِه، وسيُعاقِبُكم على ذلك .

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57).

أي: ويَنسُبُ المُشرِكونَ لله البناتِ- إذ زَعَموا أنَّ الملائِكةَ بَناتُه تعالى- تنزَّه الله عن أن يكونَ له ذلك، ولهم ما يُحِبُّونَ، وهم الذُّكورُ !

كما قال تعالى: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 149 - 159] .

وقال سُبحانَه: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف: 16 - 18] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم: 21- 22] .

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58).

أي: وإذا أُخبِرَ أحدُ المُشرِكينَ- الذين يَجعَلونَ لله البَناتِ- بوِلادةِ بنتٍ له، يظَلُّ وَجهُه متغَيِّرًا؛ من كآبتِه وكراهِيَتِه الشَّديدةِ لذلك، قد امتلأ غمًّا وغَضَبًا وغَيظًا !

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59).

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ.

أي: يَختَفي عن أنظارِ قَومِه؛ مِن كَراهِيَتِه للبِنتِ، ومِمَّا يَلحَقُه مِن الحُزنِ والعارِ والحَياءِ !

أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ.

أي: يتحَيَّرُ ويترَدَّدُ بين أمرينِ: هل يُمسِكُها على هَوانٍ وذِلَّةٍ ، أم يُخفِيها في التُّرابِ بدَفنِها حَيَّةً ؟!

كما قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير: 8-9] .

أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.

أي: ألا بِئسَ الحُكمُ ما يَحكُمُ به هؤلاء المُشرِكونَ، في نِسبتِهم البناتِ- اللاتي لا يَرضَونَهنَّ لأنفُسِهم ويَكرَهونَهنَّ- إلى اللهِ، ونِسبتِهم البَنينَ الذين يُحِبُّونَهم إلى أنفُسِهم !

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ تكَلَّموا بالباطِلِ في جانِبِه تعالى وجانِبِهم؛ بيَّنَ ما هو الحَقُّ في هذا المَقامِ، فقال تعالى- على تقديرِ الجوابِ لمن كأنَّه قال: فما يُقالُ في ذلك -:

لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ.

أي: لهؤلاءِ المُشرِكينَ- الذين لا يُصَدِّقونَ بالبَعثِ والثَّوابِ والعِقابِ- المثَلُ القَبيحُ، والعَيبُ والنَّقصُ .

وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى.

أي: ولله الوَصفُ الأفضَلُ والأطيَبُ والأحسَنُ، مِن تَوحيدِه، وتنَزُّهِه عن الولَدِ، وأنَّ له جميعَ صِفاتِ الكَمالِ المُطلَقِ مِن جَميعِ الوُجوهِ .

كما قال تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 27] .

وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.

أي: واللهُ ذو العِزَّةِ، القاهِرُ لكُلِّ شَيءٍ ، الحَكيمُ الذي يضَعُ الأشياءَ في موَاضِعِها اللَّائقةِ بها، بلا خَللٍ ولا خَطأٍ في تدبيرِه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ عِظَةٌ لِمَن يتسخَّطُ قِسْمةَ اللهِ له في الإناثِ، ولا يُسَلِّمُ لِحُكمِه عليه، ولا تَطيبُ نَفْسُه به

، فالتَّسَخُّطُ بالإناثِ مِن أخلاقِ الجاهِليَّةِ الذين ذَمَّهم اللهُ تعالى .

2- قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وهو كُلُّ صِفةِ كَمالٍ، وكُلُّ كَمالٍ في الوُجودِ فاللهُ أحَقُّ به مِن غَيرِ أن يَستلزِمَ ذلك نقصًا بوَجهٍ، وله المَثَلُ الأعلى في قُلوبِ أوليائِه، وهو: التَّعظيمُ والإجلالُ، والمَحبَّةُ والإنابةُ والمَعرِفةُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ حُجَّةٌ على الجَهميَّةِ والمُعتَزِلةِ في اعتبارِهم الجَعلَ بمعنى الخَلقِ في كلِّ مَوضِعٍ، واستدلالِهم بذلك على خلقِ القرآنِ، فيُقالُ لهم: أخَلَقوا البَناتِ، ولهم البَنونَ في هذه الآيةِ؟ فإن قالوا: نعم، كفَروا برَبِّهم؛ حيث جعَلُوا معه خالِقًا سِواه، وإن قالوا: ليس الجَعلُ بمعنى الخَلقِ، رَجَعوا عن قَولِهم في الجَعلِ، وبطَلَت في الاحتجاجِ به على خَلقِ القُرآنِ

.

2- في قَولِه تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ إلى قَولِه: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى بيانُ أنَّ الربَّ الخالقَ أَولى بأنْ يُنَزَّهَ عن الأمورِ النَّاقِصةِ مِن النَّاسِ، فكيف يَجعَلونَ له ما يَكرَهونَ أن يكونَ لهم، ويَستَخْفونَ مِن إضافتِه إليهم، مع أنَّه واقِعٌ لا مَحالةَ، ولا يُنَزِّهونَه عن ذلك، ويَنفُونَه عنه، وهو أحَقُّ بنَفيِ المكروهاتِ المُنَقِّصاتِ منهم ؟!

3- في قَولِه تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ إلى قَولِه: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى دَلالةٌ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُستعمَلُ في حقِّه قِياسُ الأَولى، كما جاء بذلك القُرآنُ، وهو الطَّريقُ التي يَسلُكُها السَّلَفُ والأئِمَّةُ كأحمدَ وغيرِه مِن الأئمَّة، فكلُّ كمالٍ ثبتَ للمَخلوقِ، فالخالقُ أَولى به- إذا كان مُجَرَّدًا عن النَّقصِ-  وكلُّ نقصٍ يُنَزَّهُ عنه المَخلوقُ، فالخالقُ أَولى أنْ يُنَزَّهَ عنه ، فاللهُ تعالى له المثَلُ الأعلى، فلا يُضرَبُ له المثَلُ المُساوِي؛ إذا لا كُفْوَ ولا نِدَّ له، فضلًا عن أن يُضرَبَ له المثَلُ النَّاقِصُ، ولا يُكتَفى في حَقِّه بالمَثَلِ العالي، بل له المثَلُ الأعلى؛ إذ هو الأعلى سُبحانَه .

4- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا لعَلَّه اختِيرَ لَفظُ (ظَلَّ) الذي معناه العَمَلُ نَهارًا- وإن كان المرادُ العُمومَ في النَّهارِ وغَيرِه- دَلالةً على شُهرةِ هذا الوَصفِ شُهرةَ ما يُشاهَدُ نَهارًا .

5- لَمَّا كان المُشرِكونَ يُغَيِّبونَ المَوءُودةَ في الأرضِ على غيرِ هيْئةِ الدَّفنِ، عبَّرَ عنه تعالى بالدَّسِّ، فقال: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فيه سؤالٌ: كيف أضاف المَثَلَ هنا إلى نَفسِه تعالى، وقد قال: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل:74] ؟

الجواب: أنَّ المَثَلَ الذي يَذكُرُه اللهُ حَقٌّ وصِدقٌ، والذي يَذكُرُه غَيرُه فهو الباطِلُ . وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ قَولَه تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، أي: الأمثالَ التي تُوجِبُ الأشباهَ والنَّقائِصَ، أي: لا تَضرِبوا لله مَثَلًا يَقتَضي نَقصًا، وتَشَبُّهًا بالخَلقِ. والمثَلُ الأعلى: أي: الصفةُ العُليا، ووَصفُه بما لا شَبيهَ له ولا نَظيرَ، جَلَّ وتعالى عمَّا يقولُ الظَّالِمونَ والجاحِدونَ عُلُوًّا كَبيرًا .

7- صِفاتُ اللهِ تعالى كُلُّها صِفاتُ كَمالٍ لا نَقْصَ فيها بوَجهٍ مِن الوُجوهِ، كالحياةِ، والعِلمِ، والقُدرةِ، والسَّمعِ، والبَصَرِ، والرَّحمةِ، والعِزَّة، والحِكمةِ، والعُلوِّ، والعَظَمةِ، وغيرِ ذلك. وممَّا دَلَّ على ذلك قَولُه تعالى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالَآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والمثَلُ الأعلى: هو الوَصفُ الأعلى .

8- اللهُ تعالى أثبَتَ لنَفسِه الصِّفاتِ إجمالًا وتَفصيلًا مع نَفيِ المُماثَلةِ، فقال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل: 60] ، وقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] . وهذا يدُلُّ على أنَّ إثباتَ الصِّفاتِ لا يَستلزِمُ التَّمثيلَ، ولو كان يَستلزِمُ التَّمثيلَ لكان كلامُ اللهِ مُتناقِضًا .

9- قَولُه تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فيه أنَّ كُلَّ صفةِ عَيْبٍ- كالعَمى، والصَّمَمِ، والخَرَسِ، والنَّومِ، والموتِ، ونحوِ ذلك- مَنفيَّةٌ عن اللهِ تعالى؛ فإنَّ ثُبوتَ المَثَلِ الأعلى له- وهو الوَصفُ الأعلى- يَستَلزِمُ انتفاءَ كلِّ صفةِ عَيبٍ .

10- في قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى دَلالةٌ على القاعدةِ: «لا يُوجَدُ في صِفاتِ اللهِ نفيٌ مُجَرَّدٌ»، والنَّفيُ المُجَرَّدُ ليس مَثلًا أعلى، المَثَلُ الأعلى، أي: الوصفُ الأعلى والأكمَلُ، والنفيُ المُجَرَّدُ عَدَمٌ، والعَدَمُ ليس بشَيءٍ، فضلًا عن أن يكونَ وصْفًا أعلى

 

!

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ

- قولُه: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَصَفَ النَّصيبَ بأنَّه ممَّا رزَقْناهم؛ لِتَشنيعِ ظُلمِهم؛ إذْ ترَكوا المنعِمَ فلَم يتَقرَّبوا إليه بما يُرْضيه في أموالِهم ممَّا أمَرَهم بالإنفاقِ فيه، كإعطاءِ المحتاجِ، وأنفَقوا ذلك في التَّقرُّبِ إلى أشياءَ موهومةٍ لم تَرزُقْهم شيئًا. ثمَّ وُجِّه الخِطابُ إليهم على طريقةِ الالْتِفاتِ؛ لِقَصدِ التَّهديدِ، ولا مانِعَ مِن الالْتفاتِ هنا؛ لِعَدمِ وُجودِ فاءِ التَّفريعِ، كما في قولِه تعالى: فَتَمَتَّعُوا

.

- قولُه: تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ في تَصْديرِ الجملةِ بالقَسَمِ، وصَرْفِ الكلامِ مِن الغَيبةِ إلى الخطابِ المنبِئِ عن كمالِ الغضَبِ- مِن شِدَّةِ الوعيدِ ما لا يَخْفَى . وتصديرُ جملةِ التَّهديدِ والوَعيدِ بالقَسَمِ أيضًا؛ لتَحْقيقِه؛ إذِ السُّؤالُ الموعودُ به يَكونُ يومَ البَعْثِ، وهُم يُنكِرونه؛ فناسَب أن يُؤكَّدَ . والقسَمُ بالتَّاءِ يَختصُّ بما يَكونُ المقسَمُ عليه أمرًا عَجيبًا ومُستغرَبًا؛ فالإتيانُ في القسَمِ هنا بحرفِ التَّاءِ مُؤْذِنٌ بأنَّهم يُسأَلون سُؤالًا عجيبًا بمِقْدارِ غَرابةِ الجُرْمِ المسؤولِ عنه .

- وقال هنا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ، وفي سورةِ الأنعامِ قال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام: 136] ؛ فاقتَصَر هنا على ذِكْرِ ما جعَلوه لِشُركائِهم دونَ ما جعَلوه للهِ؛ وذلك لِمُناسَبةٍ حسَنةٍ؛ لأنَّ المقامَ هنا لِتَفصيلِ كُفْرانِهِمُ النِّعمةَ، بخِلافِ ما في سورةِ الأنعامِ؛ فهو مَقامُ تَعْدادِ أحوالِ جاهليَّتِهم، وإن كان كلُّ ذلك مُنكَرًا عليهم، إلَّا أنَّ بعضَ الكُفرِ أشَدُّ مِن بعضٍ .

2- قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ

- قولُه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ اعتراضُ سُبْحَانَهُ؛ لِغَرَضِ التَّنزيهِ والتَّعظيمِ، وفيه الشَّناعةُ على مَن جعَل البَناتِ للهِ . وقَدَّم قولَه: سُبْحَانَهُ على قولِه: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ؛ لِيَكونَ نَصًّا في أنَّ التَّنزيهَ عن هذا الجَعْلِ لِذاتِه، وهو نِسبةُ البُنوَّةِ للهِ، لا عَن جَعلِهم له خُصوصَ البَناتِ دونَ الذُّكورِ الَّذي هو أشَدُّ فَظاعةً، كما دلَّ عليه قولُه تعالى: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ؛ لأنَّ ذلك زيادةٌ في التَّفْظيعِ، فقولُه: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ جُملةٌ في موضعِ الحالِ، وتقديمُ الخبَرِ في الجملةِ؛ للاهتِمامِ بهِم في ذلك؛ على طَريقةِ التَّهكُّمِ . وهذا على أحدِ الأوجهِ الإعرابيةِ.

- واقتَصَر هنا على لفظِ الْبَنَاتِ الدَّالِّ على الذَّوَاتِ، واقتَصَر على أنَّهم يَشتَهون الأبناءَ، ولم يتَعرَّضْ إلى كَراهتِهِمُ البَناتِ، وإن كان ذلك مأخوذًا بالمفهومِ؛ لأنَّ ذلك درَجةٌ أخرى مِن كُفرِهم ستُخَصُّ بالذِّكرِ .

3- قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ

- قولُه: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى الواوُ في قولِه: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى يجوزُ أن تَكونَ واوَ الحالِ، ويَجوزُ أن تَكونَ الجملةُ مُعترِضةً والواوُ اعتِراضيَّةً؛ اقْتَضى الإطالةَ بها أنَّها مِن تَفاريعِ شِرْكِهم؛ فهي لذلك جَديرةٌ بأن تَكونَ مقصودةً بالذِّكْرِ كأخَواتِها، وهذا أَوْلى مِن أن تُجعَلَ مَعطوفةً على جُملةِ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ الَّتي هي في مَوضعِ الحالِ؛ لأنَّ ذلك يُفِيتُ قَصْدَها بالعَدِّ، وهذا القَصدُ مِن مُقتضَياتِ المقامِ وإن كان مآلُ الاعتِبارَينِ واحِدًا في حاصلِ المعنى .

- قولُه: وَإِذَا بُشِّرَ المشهورُ أنَّ البِشارةَ أوَّلُ خَبرٍ يَسُرُّ، وهنا قد يُرادُ به مُطلَقُ الإخبارِ، أو تَغيُّرُ البَشرةِ، وهو القَدْرُ المشترَكُ بينَ الخبَرِ السَّارِّ أو المحزنِ، وفي هذا تقبيحٌ لِنِسبَتِهم إلى اللهِ- المنزَّهِ عن الولَدِ- البَناتِ، وأحدُهم أكرهُ الناسِ فيهنَّ، وأنفرُهم طبعًا عنهنَّ . وقيل: لعَلَّه عبَّرَ عنه بهذا اللَّفظِ؛ تنبيهًا على تَعكيسِهم للأُمورِ، في جَعلِهم وسُرورِهم وحُزنِهم وغيرِ ذلك مِن أمْرِهم .

- قوله: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ظَلَّ بمعنى صارَ، ويجوز أن يكونَ واردًا ومستعملًا في الآيةِ بمعناه الأصلىِّ، وهو اتِّصافُ الشَّيءِ بصِفةٍ نهارًا فقط؛ لأنَّ أكثرَ الوضعِ يتَّفقُ باللَّيلِ، فيَظلُّ نَهارَه مُغتمًّا عابسَ الوجهِ مِن الكآبةِ والحياءِ مِن الناسِ؛ فيُرادَ به الظلولُ نَهارًا؛ لقصدِ المبالغةِ في وصْفِهم .

- قولُه: مُسْوَدًّا اسْوِدادُ الوجهِ كِنايةٌ عن الاغْتِمامِ والتَّخْجيلِ .

- وقوله: وَهُوَ كَظِيمٌ يَحتمِلُ أنْ يكونَ كَظِيمٌ للمُبالَغةِ، ويَحتمِلُ أنْ يكونَ بمعنى مَفعول (مَكظُوم) .

4- قوله: يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ

- كانوا يَئِدونَ بَناتِهم، وذلك مِن أفظَعِ أعمالِ الجاهليَّةِ ، وكانوا يَحسَبونَه حَقًّا للأبِ، فلا يُنكِرُها الجَماعةُ على الفاعِلِ؛ ولذلك سَمَّاه اللهُ (حُكمًا) بقَولِه تعالى: أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وأعلَنَ ذَمَّه بحَرفِ أَلَا؛ لأنَّه جَورٌ عَظيمٌ قد تمالَؤوا عليه، وخَوَّلوه للنَّاسِ ظُلمًا للمَخلوقاتِ، فأُسنِدَ الحُكمُ إلى ضَميرِ الجَماعةِ مع أنَّ الكَلامَ كان جاريًا على فِعلِ واحدٍ غَيرِ مُعَيَّنٍ؛ قضاءً لحقِّ هذه النُّكتةِ .

- و(مِن) في قولِه: مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ للابتِداءِ المفيدِ مَعْنى التَّعليلِ، أي: يتَوارى مِن أجْلِ تلك البِشارةِ .

- والتَّعبيرُ عن الإعلامِ بازْدِيادِ الأُنْثى بفِعْلِ بُشِّرَ في مَوضِعَين؛ لأنَّه كذلك في نفْسِ الأمرِ؛ إذِ ازْدِيادُ المولودِ نِعمةٌ على الوالِدِ؛ لِمَا يتَرقَّبُه مِن التَّأنُّسِ به ومِزاحِه والانتفاعِ بخِدْمتِه، وإعانتِه عندَ الاحتياجِ إليه، ولِمَا فيه مِن تَكثيرِ نَسْلِ القَبيلةِ الموجِبِ عِزَّتَها، وآصِرَةِ الصِّهرِ، ثمَّ إنَّ هذا مع كونِه بِشارةً في نَفْسِ الأمرِ فالتَّعبيرُ به يُفيدُ تَعريضًا بالتَّهكُّمِ بهم؛ إذْ يَعُدُّون البِشارةَ مُصيبةً، وذلك مِن تَحريفِهِمُ الحقائقَ، والتَّعريضُ مِن أقسامِ الكِنايةِ، والكِنايةُ تُجامِعُ الحقيقةَ .

5- قوله تعالى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

- قولُه: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ فيه إضافةُ المَثَلِ إلى السُّوءِ؛ للبَيانِ .

- قولُه: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل: 60] فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال في سورةِ (الرُّومِ): وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم: 27] ؛ فزِيدَ في آيةِ (الرُّومِ) قولُه: فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ووجهُ ذلك أنَّ ذلك إنَّما جَرى بحسَبِ مُقتَضى المقصودِ في كلٍّ مِن الآيتَينِ؛ أمَّا آيةُ (النَّحلِ) فقد تَقدَّمها قولُه تعالى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ [النحل: 60] ، فقُوبِلَ بحسَبِ التَّفصيلِ، ومُقتَضى التَّقابُلِ بقَولِه تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى؛ فتَطابَقَ الكلامُ وتَناسَب؛ مُوازَنةَ لفظٍ، وجَليلَ تَقابُلٍ، ولم يقَعْ قَبْلَها ذِكْرُ السَّمواتِ والأرضِ، فلم يَكُنْ لِيُناسِبَ ذلك ذِكرُهما بعدَه. وأمَّا آيةُ (الرُّومِ) فتَقدَّمَها قولُه عزَّ وجلَّ: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم: 26] ، ثمَّ قال بَعدُ: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [الروم: 27] ، ووُضوحُ التَّناسُبِ في هذا غيرُ مُحتاجٍ إلى زيادةِ بَيانٍ .

=====================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (61-64)

ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ

غريب الكلمات:

 

مُفْرَطُونَ: أي: مُخَلَّفونَ، مَتروكونَ في النَّارِ، مَنسيُّونَ فيها. وقيل: مُعَجَّلونَ إلى النَّارِ مُقَدَّمونَ إليها؛ مِن الفَرَطِ: وهو السَّابِقُ إلى الوِرْدِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّه لو يُؤاخِذُ النَّاسَ بكُفرِهم وافتِرائِهم، لأهلكَهم جميعًا وما ترَكَ على الأرضِ مَن يتحرَّكُ، ولكِنْ يُمهلُهم إلى وقتٍ مُحَدَّدٍ وَقَّتَه لهم، فإذا جاء الوَقتُ المُقَدَّرُ لهَلاكِ الظَّالِمينَ، لا يُؤخَّرونَ عن الهَلاكِ ساعةً فيُمهَلونَ، ولا يتقدَّمون عنه فيُهلَكونَ قَبلَه.

ويخبرُ الله سبحانَه عن إحدَى رذائلِ المشركينَ، وهي أنهم يَجعَلونَ لله ما يكرهونَه لأنفُسِهم مِن البَناتِ، وتقولُ ألسِنَتُهم كَذِبًا: إنَّ لهم حُسنَ الجزاءِ في الدُّنيا والآخِرةِ. ويكذِّبُهم الله تعالى على زعمِهم هذا، متوعدًا لهم بقولِه: حقًّا أنَّ لهم النَّارَ، وأنَّهم مُعجَّلون إليها مَتروكونَ مَنسيُّونَ فيها.

ثمَّ قال الله تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم مسلِّيًا له ومثبِّتًا: تاللهِ- يا مُحمَّدُ- لقد أرسَلْنا رسُلًا إلى أمَمٍ مِن قَبلِك، فحسَّن لهم الشَّيطانُ ما عَمِلوه مِن الكُفرِ والتَّكذيبِ، فهو وليُّهم يومَ القيامةِ، ولا قدرةَ له على نصرِهم ولا نفعِهم، ولهم عذابٌ مُوجِعٌ.

وقال له أيضًا: وما أنزَلْنا عليك القُرآنَ- يا مُحمَّدُ- إلَّا لتُوَضِّحَ للنَّاسِ ما اختَلَفوا فيه مِن الدِّينِ والأحكامِ، وأنزَلْنا القُرآنَ هِدايةً ورحمةً للمُؤمِنينَ.

تفسير الآيات:

 

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن القَومِ عَظيمَ كُفرِهم وقَبيحَ قَولِهم؛ ذكَرَ كَمالَ حِلمِه وصَبرِه، وأنَّه يُمهِلُهم، ولا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ

.

وأيضًا لمَّا وصَف جَعْلَهم للهِ البناتِ اللَّاتي يَأنَفون مِنها لأنفُسِهم، ووَصَف ذلك بأنَّه حُكمُ سَوءٍ، ووَصَف حالَهم بأنَّها مَثَلُ سَوءٍ، وعرَّفهم بأخَصِّ عَقائدِهم أنَّهم لا يُؤمِنون بالآخِرةِ؛ أتبَعَ ذلك بالوعيدِ على أقوالِهم وأفعالِهم ، فقال تعالى:

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ.

أي: ولو يُعاجِلُ اللهُ النَّاسَ بالعُقوبةِ؛ بسَبَبِ شِرْكِهم وكُفرِهم، وافتِرائِهم على اللهِ، وعِصيانِهم له- لأهلَكَ بسببِ شؤمِ ذلك جميعَ النَّاسِ وغيرهم مِن الدَّوابِّ .

كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا [فاطر: 45] .

وقال سُبحانَه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58] .

وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

أي: ولكِنْ يُمهِلُ اللهُ بحِلْمِه الظَّالِمينَ، فلا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ إلى وقتٍ وَقَّتَه لهم .

كما قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم: 42] .

وعن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُمْلي للظَّالِمِ حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) .

فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.

أي: فإذا جاء الوَقتُ المُقَدَّرُ لهَلاكِ الظَّالِمينَ، لا يُؤخَّرونَ عن الهَلاكِ ساعةً فيُمهَلونَ، ولا يتقدَّمون عنه فيُهلَكونَ قَبلَه، فلْيَحْذروا ما داموا في وَقتِ الإمهالِ قبل أن يَحِينَ الوَقتُ الذي لا يُمهَلونَ فيه .

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62).

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ.

أي: وينسبُ المُشرِكونَ لله البَناتِ اللَّاتي يَكرَهونَهنَّ لأنفُسِهم، ويَعُدُّونَ نِسبَتَهنَّ إلى أحَدِهم نقصًا وعيبًا، ويَجعَلونَ له شُرَكاءَ مِن عَبيدِه في عبادتِه، وهم يَكرهونَ أن يكونَ عبيدُهم شُرَكاءَ لهم في أموالِهم .

كما قال تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 57 - 59] .

وقال سُبحانَه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف: 15- 19] .

وقال عزَّ وجلَّ: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .

وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى.

أي: ويَكذِبُ المُشِركونَ بألسِنَتِهم، فيَزعُمونَ أنَّ لهم الجَزاءَ الحسَنَ في الدُّنيا وفي الآخِرةِ .

كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [فصلت: 50] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [الكهف: 35-36] .

وقال سُبحانَه: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 77-78] .

لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ.

أي: حَقًّا لا بُدَّ مِنه أنَّ لهم النَّارَ يومَ القيامةِ .

وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ مُفْرِطُونَ بكَسرِ الرَّاءِ وتَخفيفِها، اسِمُ فاعلٍ مِن أفْرَطَ في الأمرِ: إذا أسرَفَ فيه وجاوزَ الحَدَّ. بمعنى: أنَّهم مُفْرِطونَ في الذُّنوبِ والمعاصي، أي: مُسرِفونَ على أنفُسِهم بالإكثارِ منها .

2- قِراءةُ مُفَرِّطُونَ بكَسرِ الرَّاءِ وتَشديدِها، اسمُ فاعلٍ مِن فَرَّط في الأمرِ: إذا ضَيَّعَه وقَصَّر فيه. بمعنى: أنَّهم مُقَصِّرونَ في أداءِ الواجِباتِ، وفَرَّطوا في الدُّنيا فلم يَعمَلوا فيها للآخرةِ .

3- قِراءةُ مُفْرَطُونَ بفَتحِ الرَّاء مُخفَّفةً، اسمُ مَفعولٍ من أُفْرِطَ: إذا نُسِي وتُرِكَ غَيرَ مُلتَفَتٍ إليه. والمعنى: أنَّهم مَتروكونَ في النَّارِ مَنْسِيُّونَ فيها. وقيل: هو مِن أفرَطْتُ فُلانًا في طَلَبِ الماءِ: إذا قَدَّمْتَه. والمعنى: أنَّهم مُعَجَّلونَ ومقدَّمونَ إلى النَّارِ .

وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ.

أي: وحَقًّا أنَّهم مُعجَّلونَ ومُقَدَّمونَ إلى النَّارِ، مَنْسِيُّونَ ومَترُوكونَ فيها أبدًا .

كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا [الأعراف: 51] .

وقال سُبحانَه: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: 14] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [الجاثية: 34] .

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ أنَّ مِثلَ هذا الصُّنعِ الذي يَصدُرُ مِن مُشرِكي قُرَيشٍ، قد صدَرَ مِن سائِرِ الأُمَم السَّابقينَ في حَقِّ الأنبياءِ المتقَدِّمينَ عليهم السَّلامُ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى مآلَ الكافرينَ، وكانوا يقولونَ: إنَّ لهم مَن يَشفَعُ فيهم؛ بيَّنَ لهم ما يكونُ مِن حالِهم، بالقياسِ على أشْكالِهم؛ تهديدًا، وتَسلِيةً للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم .

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ.

أي: واللهِ- يا مُحمَّدُ- لقد أرسَلْنا رُسُلًا إلى أُمَمٍ ماضيةٍ مِن قَبلِك بمِثْلِ ما أرسَلْناك به؛ مِن الدُّعاءِ إلى توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العبادةِ له، وطاعتِه .

فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ.

أي: فحسَّنَ الشَّيطانُ لهم ما كانوا يَعمَلونَه؛ مِن كُفرٍ وشِركٍ باللهِ، وتَكذيبٍ للرُّسُلِ .

فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ.

أي: فالشَّيطانُ يومَ القيامةِ هو وليُّ المشركينَ الذين كذَّبوا الرُّسلَ، وزيَّن لهم سوءَ أعمالِهم، وهو ناصرُهم، ليس لهم ناصرٌ غيرُه، ولا قدرةَ له على نصرِهم، ولا يملكُ خلاصَهم ولا نفعَهم .

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

أي: وللمُشرِكينَ عَذابٌ مُؤلِمٌ في الآخرةِ، فلا تَنفَعُهم وَلايةُ الشَّيطانِ .

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

ذكَرَ تعالى أنَّه مع هذا الوَعيدِ الشَّديدِ المتَقَدِّم قد أقام الحُجَّةَ، وأزاح العِلَّةَ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان حاصِلُ ما مضَى الخِلافَ والضَّلالَ والنِّقمةَ، كان كأنَّه قيل: فبَيِّنْ لهم وخَوِّفْهم ليَرجِعوا؛ فإنَّا ما أرسَلْناك إلَّا لذلك .

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ.

أي: وما أنزَلْنا عليك القُرآنَ- يا مُحمَّدُ- إلَّا من أجلِ أن تُبَيِّنَ للنَّاسِ بواسطةِ بياناتِ هذا القُرآنِ ما اختَلَفوا فيه من الدِّينِ، فتُرشِدَهم إلى الحَقِّ والصَّوابِ .

كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة: 213] .

وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

أي: وأنزَلْنا القُرآنَ هاديًا للقُلوبِ مِن كُلِّ ضَلالةٍ، ورَحمةً في الدُّنيا والآخِرةِ لِقَومٍ يُصَدِّقونَ بما فيه، ويُقِرُّونَ بما تضَمَّنَه، ويَعمَلونَ به

 

.

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس: 57] .

وقال عزَّ وجَلَّ: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111] .

وقال سُبحانَه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .

وقال تبارك وتعالى: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [الجاثية: 20] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ مَن تقَدَّمَه مِن الأنبياءِ قد كَفَرَ بهم قَومُهم

.

2- القُرآنُ فاصِلٌ بين النَّاسِ في كُلِّ ما يَتنازَعونَ فيه؛ قال الله تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ دليلٌ على أنَّ اسمَ الدَّابَّةِ واقِعٌ على النَّاسِ؛ لِدَبيبِهم على الأرضِ

.

2- قال الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى في هذا التَّأخيرِ حِكمةٌ بالِغةٌ:

منها: الإعذارُ إليهم، وإرخاءُ العِنانِ معهم.

ومنها: حُصولُ مَن سبَقَ في عِلمِه مِن أولادِهم.

ومنها: أن يَستَغفِرَ منهم من يَستَغفِرُ، فيُغفَرَ له، ويُصِرَّ مَن يُصِرُّ، فيزدادَ عذابًا، فإذا جاء أجَلُهم الذي سَمَّاه لهم، حَقَّت عليهم كَلِمةُ اللهِ سُبحانَه في ذلك الوَقتِ، مِن دُونِ تقَدُّمٍ عليه ولا تأخُّرٍ عنه .

3- جانِبُ الرَّحمةِ أغلَبُ في هذه الدَّارِ الباطِلةِ الفانِيةِ الزَّائِلةِ عن قُرْبٍ، مِن جانبِ العُقوبةِ والغَضَبِ، ولولا ذلك لَمَا عَمَرَت ، ولا قام لها وُجودٌ، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ .

4- في قَولِه تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ إن قيل: كيف يَعُمُّ بالهَلاكِ مع أنَّ فيهم مؤمِنًا ليس بظالمٍ؟

قيل: يجعلُ هلاكَ الظالمِ انتقامًا وجزاءً، وهلاكَ المؤمنِ معوضًا بثوابِ الآخرةِ، وفي ((صحيح مسلم)) عن عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إذا أراد الله بقومٍ عذابًا أصاب العذابُ مَن كان فيهم ثمَّ بُعثوا على أعمالِهم) ) . وقيل: ظاهرُ الآيةِ العمومُ؛ والإنسانُ لا يخلو مِن تقصيرٍ وإساءةٍ، فهو لا يؤدِّي شكرَ نعمِ الله عليه، على وجهٍ يكافئُها.

5- إنْ قيل: لماذا أبهَمَ سُبحانَه فاعِلَ التَّزيينِ، فقال: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وقال هنا: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، وقال في آيةٍ أخرى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فمَن هو مُزَيِّنُ الأعمالِ للكُفَّارِ في الحَقيقةِ؟

الجوابُ: المُزَيِّنُ في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى، وإنَّما جَعَل الشَّيطانَ آلةً بإلقاءِ الوَسْوسةِ في قُلوبِهم، وليس له قُدرةٌ أن يُضِلَّ أحدًا، أو يَهديَ أحدًا، وإنَّما له الوَسْوسةُ فقط، فمن أراد شَقاوَتَه سَلَّطَه عليه حتى يَقبَلَ وَسْوسَتَه؛ فالتَّزيينُ مِن الشَّيطانِ بالإغواءِ، والإضلالِ، والوَسْوَسةِ، وإيرادِ الشُّبَهِ، ومِنَ الله تعالى بخَلقِ جَميعِ ذلك؛ فصَحَّت الإضافتانِ .

6- قوله تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، فالقرآنُ أهَمُّ مَقاصِدِه هذه الفوائدُ الجامعةُ لأصولِ الخيرِ، وهي كَشفُ الجَهالاتِ، والهُدى إلى المَعارفِ الحقِّ، وحُصولُ أثَرِ ذَيْنِك الأمرَينِ، وهو الرَّحمةُ النَّاشئةُ عن مُجانَبةِ الضَّلالِ واتِّباعِ الهُدى

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ اعتراضٌ في أثناءِ التَّوبيخِ على كفرِهم الَّذي مِن شرائِعِه وَأْدُ البناتِ

.

- قولُه: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ: المؤاخَذةُ: الأخذُ، والمقصودُ منه الجزاءُ، فهو أخذٌ شديدٌ؛ ولذلك صِيغَت له صيغةُ المفاعَلةِ: يُؤاخِذُ الدَّالَّةُ على الكثرةِ، فدَلَّ على أنَّ المؤاخَذةَ المنتفِيَةَ بـ (لو) هي الأخذُ العاجِلُ المناسِبُ للمُجازاةِ؛ لأنَّ شأنَ الجزاءِ في العُرفِ أن لا يتَأخَّرَ عن وقتِ حُصولِ الذَّنبِ .

- والتَّعريفُ في النَّاسَ يُحمَلُ على تعريفِ الجنسِ؛ لِيَشمَلَ جميعَ النَّاسِ؛ لأنَّ ذلك أنسَبُ بمَقامِ الزَّجْرِ، فليس قولُه: النَّاسَ مُرادًا به خُصوصُ المشرِكين مِن أهلِ مكَّةَ الَّذين عادَتْ عليهِم الضَّمائرُ المتقدِّمةُ في قولِه: لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ [النحل: 55] وما بعدَه مِن الضَّمائرِ، وبذلك لا يَكونُ لفظُ النَّاسِ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ .

- قولُه: مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ، أي: على الأرضِ، وإنَّما أضمرَها مِن غيرِ ذِكرٍ؛ لِدَلالةِ النَّاسِ والدَّابَّةِ عليها .

- قولُه: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ فيه التَّعبيرُ بصيغةِ الاستِفْعالِ: يَسْتَأْخِرُونَ؛ للإشعارِ بعَجْزِهم عنه، مع طلَبِهم له .

- وتَعرَّض لذِكْرِ يَسْتَقْدِمُونَ مع أنَّه لا يُتَصوَّرُ الاستِقْدامُ عندَ مَجيءِ الأجَلِ؛ مُبالَغةً في بَيانِ عدَمِ الاستِئْخارِ بنَظْمِه في سِلْكِ ما يَمتنِعُ، كما في قولِه تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء: 18] ؛ فإنَّ مَن مات كافِرًا مع أنَّه لا توبةَ له رأسًا قد ذُكِر معَ مَن لم تُقبَلْ توبتُه؛ للإيذانِ بأنَّهما سِيَّانِ في ذلك .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وقال في سورةِ (فاطِرٍ): وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45] ؛ فقال في الأُولى: بِظُلْمِهِمْ ومَا تَرَكَ عَلَيْهَا، وقال في الثَّانيةِ: بِمَا كَسَبُوا ومَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا؛ فقيل: إنَّ وجهَ ذلك أنَّ آيةَ (النَّحلِ) تَقدَّمَها قولُه تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ، فلَمَّا أشار في الآيةِ إلى وَأْدِهِمُ البَناتِ- وهو ظلمٌ عظيمٌ شنيعٌ؛ إذْ لم يتَقدَّمْ للمَوْءودةِ جَريمةٌ ولا شُبهةٌ يتَعلَّقُ بها قاتِلُها- ناسَب هذا ذِكْرُ الظُّلمِ؛ فقال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ؛ فناسَب ما أُشيرَ إليه مِن عَظيمِ ظُلمِهم التَّوبيخُ بذِكْرِ الظُّلمِ. ولَمَّا لم يتَقدَّمْ في آيةِ سورةِ (فاطِرٍ) إفصاحٌ بذِكْرِ الظُّلمِ، بل تَقدَّمَها قولُه: فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [فاطر: 42- 43] فأشيرَ إلى اجْتِراماتِهم وسَيِّئِ اكتِسابِهم بنُفورِهم ومَكْرِهم السَّيِّئِ؛ فناسَبَ ذلك قولُه: بِمَا كَسَبُوا؛ فورَدَ كلٌّ على ما يُناسِبُه . وقيل: لأنَّ مَا كَسَبُوا [فاطر: 45] يعمُّ الظلمَ وغيرَه .

وقيل: آيةُ (النحلِ) جاءتْ بعدَ أوصافِ الكفارِ بأنواعِ كفرِهم في اتخاذِهم إلهينِ اثنينِ، وكفرِهم وشركِهم في عبادةِ الله سبحانَه، وجعلِهم للأصنامِ نصيبًا مِن مالِهم، ووأدِ البناتِ، وغيرِ ذلك، وكلٌّ ظلمٌ منهم، فناسَب قولُه تعالى : بِظُلْمِهِمْ، ولم يتقدَّمْ مثلُ ذلك في (فاطرٍ) . وقال هنا : مَا تَرَكَ عَلَيْهَا وقال في (فاطر): مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا وهو تفنُّنٌ .

2- قوله تعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ

- قولُه: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ تكريرٌ لما سبَق؛ تثنيةً للتَّقريعِ وتَوطِئةً لقولِه تعالى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ .

- وخَصَّ في هذه الآيةِ ذِكْرَ الكَراهيةِ تَصريحًا؛ ولذلك كان الإتيانُ بالموصولِ والصِّلةِ: مَا يَكْرَهُونَ هو مُقتَضى المقامِ الَّذي هو تَفظيعُ قولِهم، وتَشنيعُ استِئْثارِهم. وقد يَكونُ الموصولُ للعُمومِ؛ فيُشيرُ إلى أنَّهم جعَلوا للهِ أشياءَ يَكْرَهونها لأنفُسِهم مِثلَ الشَّريكِ في التَّصرُّفِ، وأشياءَ لا يَرْضَونها لآلهتِهم ونَسَبوها للهِ، كما أشار إليه قولُه تعالى: فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الأنعام: 136] .

3- قوله تعالى: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

- قولُه: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ استئنافٌ ابتِدائيٌّ داخِلٌ في الكلامِ الاعتِراضيِّ؛ قُصِد منه تَنظيرُ حالِ المشرِكين المتحدَّثِ عنهم، وكُفْرِهم في سوءِ أعمالِهم وأحكامِهم بحالِ الأُممِ الضَّالَّةِ مِن قَبلِهم الَّذين استَهْواهم الشَّيطانُ مِن الأُممِ البائدةِ، مِثلِ عادٍ وثمودَ، والحاضرةِ كاليَهودِ والنَّصارى .

- قولُه: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حكايةُ الحالِ الماضِيَةِ الَّتي كان يُزيِّنُ لهم الشَّيطانُ أعمالَهم فيها. أو فهُو وليُّهم في الدُّنيا، فجَعَل اليومَ عِبارةً عن زَمانِ الدُّنيا. أو يُجعَلُ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حِكايةً للحالِ الآتيَةِ، وهي حالُ كونِهم معذَّبين في النَّارِ، أي: فهُو ناصِرُهم اليومَ لا ناصِرَ لهم غيرُه؛ نفيًا للنَّاصرِ لهم على أبلَغِ الوُجوهِ . وقيل: الْيَوْمَ مُستعمَلٌ في زمانٍ معهودٍ بعهدِ الحضورِ، أي: فهو وَلِيُّهم الآنَ، وهو كنايةٌ عن استمرارِ ولايتِه لهم إلى زمَنِ المتكلِّمِ مُطلَقًا بدونِ قصدٍ .

- قولُه: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ: فيه تأكيدُ إرسالِ الرُّسلِ إلى الأُممِ السَّابقةِ بالقَسَمِ تَاللَّهِ، وبـ (قَد) الَّتي تقتَضي تحقيقَ الأمرِ؛ على سَبيلِ التَّسْليَةِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِمَا كان يَنالُه بسبَبِ جَهالاتِ قومِه، ونِسْبتِهم إلى اللهِ ما لا يَجوزُ .

- قولُه: فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ تَزْيينُ الشَّيطانِ أعمالَهم كِنايةٌ عن المَعاصي؛ فمِن ذلك عدَمُ الإيمانِ بالرُّسلِ، وهو كَمالُ التَّنظيرِ بحالِ المشرِكين المكذِّبين بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حيث سلَكوا مَسلَكَ مَن قبلَهم مِن الأممِ الَّتي زيَّن لهم الشَّيطانُ أعمالَهم .

4- قوله تعالى: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هذه الآيةُ بمنزِلَةِ التَّذييلِ للعِبَرِ والحُجَجِ النَّاشئةِ عن وصفِ أحوالِ المخلوقاتِ، ونِعَمِ الخالقِ على النَّاسِ، المبتدِئَةِ مِن قولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ [النحل: 17] .

- قولُه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ: فيه الإتيانُ بصِيغةِ القَصْرِ (ما... إلَّا)؛ لِقَصدِ الإحاطةِ بالأَهمِّ مِن غايةِ القرآنِ وفائدتِه الَّتي أُنزِل لأجلِها؛ فهو قصرٌ ادِّعائيٌّ؛ لِيَرغَبَ السَّامِعون في تَلَقِّيه وتَدبُّرِه مِن مؤمنٍ وكافرٍ كلٌّ بما يَليقُ بحالِه، حتَّى يَستَوُوا في الاهتِداءِ. ثمَّ إنَّ هذا القصرَ يُعرِّضُ بتَفْنيدِ أقوالِ مَن حَسِبوا مِن المشرِكين أنَّ القرآنَ أُنزِلَ لِذِكْرِ القَصصِ؛ لِتَعليلِ الأنفُسِ في الأسمارِ ونَحوِها، حتَّى قال مُضِلُّهم: أنا آتيكُم بأحسَنَ مِمَّا جاء به محمَّدٌ !

- في قَولِ الله تعالى: وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَصْفُ القُرآنِ بكَونِه هُدًى ورَحمةً لِقَومٍ يُؤمِنونَ، لا ينفي كَونَه كذلك في حَقِّ الكُلِّ، كما أنَّ قَولَه تعالى في أوَّلِ سُورةِ (البَقَرة): هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] لا ينفي كَونَه هُدًى لكُلِّ النَّاسِ، كما ذكَرَه في قَولِه: هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185] ، وإنَّما خَصَّ المُؤمِنينَ بالذِّكرِ؛ مِن حيثُ إنَّهم قَبِلوه فانتَفَعوا به، كما في قَولِه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] ؛ لأنَّه إنما انتفَعَ بإنذارِه هذا القَومُ فقط .

- وعبَّر بقولِه: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ دونَ (للمُؤمِنين)، أو (للَّذين آمَنوا)؛ إشارةً إلى أنَّ إيمانَ هؤلاءِ كالسَّجيَّةِ والعادةِ الرَّاسِخةِ الَّتي تتَقوَّمُ بها قَوميَّتُهم؛ لأنَّ إجراءَ الوَصفِ على لَفْظِ (قوم) يُشيرُ إلى أنَّ ذلك الوَصفَ سجيَّةٌ فيهم، ومِن مُكمِّلاتِ قوميَّتِهم؛ فإنَّ للقَبائِلِ والأُممِ خَصائِصَ تُميِّزُها وتَشتهرُ بها .

====================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (65-69)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ

غريب الكلمات:

 

لَعِبْرَةً: أي: اعتِبارًا وموعظةً، ودلالةً على قدرةِ الله، والاعْتبارُ والعِبرةُ: الحالةُ التي يتوصَّلُ بها مِن معرفةِ المشاهَدِ إلى ما ليسَ بمشاهَدٍ، وأصلُ (العَبْرِ): تجاوزٌ مِن حالٍ إلى حالٍ

.

فَرْثٍ: أي: ما في الكَرِشِ مِن فَضَلاتٍ، وأصلُ (فرث): يدُلُّ على شَيءٍ مُتفَتِّتٍ .

سَائِغًا: أي: سَهلًا هَنيئًا لا يَغَصُّ به شارِبُه، وأصلُ (سوغ): يدُلُّ على سُهولةِ الشَّيءِ واستِمرارِه في الحَلقِ خاصَّةً .

سَكَرًا: أي خَمْرًا، وأصلُ (سكر): يدُلُّ على حَيرةٍ .

يَعْرِشُونَ: أي: يَبْنونَ ويَسقُفونَ، وأكثَرُ ما يُستعمَلُ فيما يكونُ مِن إتقانِ الأغصانِ والخَشَبِ وتَرتيبِ ظِلالِها، وأصلُ (عرش): يدلُّ على ارتفاعٍ في شَيءٍ مَبنيٍّ .

ذُلُلًا: أي: مُسَهَّلةً مُستَقيمةً مُذَلَّلةً، وأصلُ (ذلل): يدلُّ على اللِّينِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ اللهُ تعالى ألوانًا مِن نعمِه على خلقِه، فهو سبحانه أنزلَ مِن السَّماءِ مَطرًا، فأخرجَ به النَّباتَ مِن الأرضِ بعد أن كانت يابِسةً. إنَّ في ذلك لَدليلًا على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى وقُدرتِه على البَعثِ لِقَومٍ يَسمَعونَ ويَتدَبَّرونَ.

ثم يُرشدُ إلى مظهرٍ آخرَ مِن مظاهرِ وحدانيتِه، وعظيمِ قدرتِه، فيقولُ تعالى: وإنَّ لكم- أيُّها النَّاسُ- في الأنعامِ لَعِظةً تَستَدِلُّونَ بها على استحقاقِ الله للعبادةِ؛ يخرِجُ لكم مِمَّا في بُطونِها مِن بينِ فَرْثٍ ودمٍ لَبنًا خالِصًا مِن كُلِّ الشَّوائبِ، لَذيذًا لا يَغَصُّ به مَن شَرِبَه، وتأخُذونَ مِن ثَمَراتِ النَّخيلِ والأعنابِ ما تَجعَلونَه خَمرًا مُسْكِرًا- وهذا قبلَ تَحريمِها- ورزقًا حسنًا كالتمرِ والعنبِ والعصيرِ، إنَّ في هذا الإنعامِ لَدليلًا على قُدرةِ الله، لِقَومٍ يَعقِلونَ آياتِ اللهِ فيَعتَبِرون بها.

ثمَّ يقولُ تعالى مبينًا دليلًا آخرَ مِن دلائلِ وحدانيتِه وقدرتِه: وألْهَمَ ربُّك- يا مُحمَّدُ- النَّحلَ بأن اجعَلِي لكِ بُيوتًا مِن الجِبالِ، ومِن الشَّجَرِ، ومِمَّا يبني النَّاسُ، ثُمَّ كُلي مِن كُلِّ الثِّمارِ، فاسلُكي طُرُقَ رَبِّك مُذَلَّلةً لكِ؛ لطَلَبِ الرِّزقِ. يَخرُجُ مِن بُطونِ النَّحلِ عَسَلٌ مُختَلِفُ الألوانِ مِن بياضٍ وصُفرةٍ وحُمرةٍ وغيرِ ذلك، فيه شِفاءٌ للنَّاسِ مِن الأمراضِ. إنَّ في ذلك لَدلالةً قَويَّةً على عظمةِ اللهِ وقُدرتِه، لِقَومٍ يتفَكَّرونَ فيَعتَبِرون.

تفسير الآيات:

 

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان المقصودُ الأعظَمُ مِن هذا القُرآنِ العَظيمِ تَقريرَ أصُولٍ أربعةٍ: الإلهيَّاتِ، والنُّبُوَّاتِ، والمَعادِ، وإثباتِ القَضاءِ والقَدَرِ، والمقصودُ الأعظَمُ مِن هذه الأُصولِ الأربعةِ تقريرَ الإلهيَّاتِ؛ فلِهذا السَّبَبِ كُلَّما امتَدَّ الكَلامُ في فَصلٍ مِن الفُصولِ في وعيدِ الكُفَّارِ، عاد إلى تقريرِ الإلهيَّاتِ

، فشرَع في أدلةِ الوحدانيةِ والقدرةِ والفعلِ بالاختيارِ المستلزمِ للقدرةِ على البعثِ على وجهٍ غيرِ المتقدِّمِ، وقال قولًا جامعًا في الدليلِ بينَ العالمِ العلويِّ والعالمِ السفليِّ ، مع ما أُدمِجَ فيه مِن التَّذكيرِ بالنِّعَمِ؛ فهذه مِنَّةٌ مِن المِنَنِ، وعِبرةٌ مِن العِبَرِ، وحُجَّةٌ مِن الحُجَجِ المُتفَرِّعةِ عن التَّذكيرِ بنِعَمِ الله والاعتبارِ بعَجيبِ صُنعِه .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه بتَبيينِ ما اختُلِفَ فيه؛ نَصَّ على العِبَرِ المؤدِّيةِ إلى تَبيينِ أمرِ الرُّبوبيَّةِ، فبدأ بنِعمةِ المطَرِ التي هي أبيَنُ العِبَرِ، وهي مِلاكُ الحياةِ، وهي في غايةِ الظُّهورِ لا يُخالِفُ فيها عاقِلٌ .

وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.

أي: واللهُ وَحْدَه أنزَلَ مِن السَّحابِ مَطرًا، فأخرَجَ به نَباتَ الأرضِ بعد أن كانت يابِسةً لا زَرْعَ فيها .

كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9-11] .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.

أي: إنَّ في إحياءِ اللهِ الأرضَ المَيْتةَ بالمطَرِ لدَلالةً واضِحةً على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وقُدرتِه على البَعثِ، لِقَومٍ يَسمَعونَ هذه الحُجَّةَ، فيتدَبَّرونَها ويَفهمونَها .

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى إحياءَ الأرضِ بعد مَوتِها، ذكَرَ ما يَنشأُ عَمَّا ينشأُ عن المطَرِ، وهو: حياةُ الأنعامِ التي هي مألوفُ العَرَبِ، بما يتناوَلُه مِن النَّباتِ النَّاشِئِ عن المطَرِ، ونَبَّه على العِبرةِ العَظيمةِ، وهو: خروجُ اللَّبَنِ مِن بينِ فَرْثٍ ودَمٍ، فقال تعالى :

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً.

أي: وإنَّ لكم- أيُّها النَّاسُ- في الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ لَدَلالةً تَستَدِلُّونَ بها على قُدرةِ اللهِ ورَحمتِه، وحِكمَتِه ولُطفِه وعَظَمتِه، وأنَّه وَحْدَه المُستَحِقُّ للعِبادةِ .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 71-73] .

نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ.

أي: نُسْقِيكم لبنًا نُخرِجُه لكم- أيُّها النَّاسُ- مِمَّا في بُطونِ الأنعامِ مِن بينِ فَرْثِها ودَمِها صافِيًا، غيرَ مُختَلِطٍ برائِحةِ الفَرْثِ، ولا لَونِ الدَّمِ، سَهْلَ المُرورِ في الحَلقِ، لذيذًا هنيئًا لا يَغَصُّ به شارِبُه .

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى بعضَ مَنافِعِ الحَيواناتِ في الآيةِ المتَقَدِّمةِ؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ بَعضَ مَنافِعِ النَّباتِ .

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا.

النَّاسِخُ والمَنسوخُ:

قيل: هذه الآيةُ مَنسوخةٌ بقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 90- 91] .

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا.

أي: ولكم أيضًا- أيُّها النَّاسُ- عِبرةٌ فيما نُسقِيكم ونَرزُقُكم مِن ثَمَراتِ النَّخيلِ ومِنَ الأعنابِ ، فتَتَّخِذونَ منه شَرابًا مُسْكِرًا- وهو الخَمرُ- ورِزْقًا حَسَنًا لا ينشَأُ عنه ضَرَرٌ في بَدَنٍ ولا عَقلٍ، كالتَّمرِ والرُّطَب، والعِنَب والزَّبيب، والعَصيرِ والخَلِّ .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

أي: إنَّ في إنعامِنا على النَّاسِ بلَبنِ الأنعامِ وثَمَراتِ النَّخيلِ والأعنابِ لَدَلالةً واضِحةً لِقَومٍ يَفهَمونَ حُجَجَ اللهِ ومَواعِظَه، فيتَدَبَّرونَها ويتَّعِظونَ بها، ويُقِرُّونَ بوَحدانيَّتِه وكَمالِ قُدرتِه سُبحانَه .

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ أنَّ إخراجَ الألبانِ مِن النَّعَمِ، وإخراجَ السَّكَرِ والرِّزقِ الحَسَنِ مِن ثَمَراتِ النَّخيلِ والأعنابِ؛ دلائِلُ قاهِرةٌ، وبَيِّناتٌ باهِرةٌ على أنَّ لهذا العالَمِ إلهًا قادِرًا مُختارًا حَكيمًا- فكذلك إخراجُ العَسَلِ مِن النَّحلِ دَليلٌ قاطِعٌ وبُرهانٌ ساطِعٌ على إثباتِ هذا المَقصودِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان أمرُ النَّحلِ في الدَّلالةِ على تَمامِ القُدرةِ وكَمالِ الحِكمةِ أعجَبَ مِمَّا تقَدَّمَ وأنْفَسَ، ثلَّثَ به وأخَّرَه؛ لأنَّه أقَلُّ الثَّلاثةِ عِندَهم، وغيَّرَ الأُسلوبَ وجعَلَه مِن وَحْيِه؛ إيماءً إلى ما فيه من غَريبِ الأمرِ، وبَديعِ الشَّأنِ .

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68).

أي: وألْهَم ربُّك- يا مُحمَّدُ- النَّحلَ أن اتَّخِذي مِن الجِبالِ بُيوتًا تَأوينَ إليها، ومِن الأشجارِ، ومِمَّا يبني النَّاسُ .

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان أهَمَّ شَيءٍ للحَيوانِ بعدَ الرَّاحةِ مِن همِّ المَقيلِ الأكلُ، ثَنَّى به ، فقال تعالى:

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.

أي: ثمَّ ألْهَمَ اللهُ النَّحلَ أنْ كُلِي مِن كُلِّ أنواعِ الثِّمارِ .

فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا أذِنَ اللهُ تعالى لها في ذلك كُلِّه، وكان مِن المعلومِ عادةً أنَّ تَعاطِيَه لا يكونُ إلَّا بمشَقَّةٍ عظيمةٍ في مُعاناةِ السَّيرِ إليه؛ نَبَّه على خَرْقِه للعادةِ في تَيسيرِه لها، فقال تعالى :

فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا.

أي: فادخُلي- أيُّها النَّحلُ- طُرُقَ رَبِّكِ مُذَلَّلةً لكِ ؛ لتَطلُبي الرِّزقَ حيثما توجَّهْتِ .

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ.

أي: يَخرُجُ مِن بُطونِ النَّحلِ عَسَلٌ مُختَلِفُ الألوانِ؛ ما بينَ أحمَرَ وأصفَرَ وأبيضَ وغَيرِ ذلك مِن الألوانِ الحَسَنةِ، على اختلافِ مَراعيها ومَأكَلِها منها .

فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ.

أي: في العسَلِ شِفاءٌ للنَّاسِ مِن الأمراضِ .

عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَجلًا أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أخي يَشتكي بَطْنَه، فقال: اسْقِه عَسَلًا، ثمَّ أتى الثَّانيةَ فقال: اسْقِه عَسَلًا، ثمَّ أتاه الثَّالِثةَ فقال: اسْقِه عَسَلًا، ثمَّ أتاه فقال: قد فَعَلْتُ، فقال: صدَقَ اللهُ، وكَذَب بَطنُ أخيك، اسْقِه عَسَلًا، فسَقاه فبَرَأ) ) .

وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنْ كان في شيءٍ مِن أدوِيَتِكم- أو: يكونُ في شَيءٍ مِن أدوِيَتِكم- خيرٌ، ففي شَرطةِ مِحْجَمٍ، أو شَربةِ عَسَلٍ، أو لَذعةٍ بنارٍ تُوافِقُ الدَّاءَ، وما أُحِبُّ أن أكتَويَ )) .

وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الشِّفاءُ في ثلاثةٍ: في شَرطَةِ مِحجَمٍ، أو شَربةِ عَسَلٍ، أو كيَّةٍ بنارٍ، وأنا أنهى أمَّتي عنِ الكيِّ )) .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

أي: إنَّ في إلهامِ الله للنحلِ باتخاذِ البيوتِ مِن الجبالِ والشَّجر والعُروشِ، والسلوكِ في المراعي للاجتناءِ مِن سائرِ الثِّمار؛ ليَخرجَ مِن بطونِها هذا العسلُ ذو الألوانِ المتعددةِ، الذي جعَل الله فيه شفاءً للناسِ مِن الأمراضِ؛ إنَّ في ذلك لدلالةً وحجةً واضحةً لقومٍ يتفكَّرون في عظمةِ خالقِها ومسخِّرِها، فيَستدِلُّون بذلك على أنَّه القادرُ، الحكيمُ، العليمُ، الكريمُ، الرحيمُ، اللطيفُ الذي يستحقُّ العبادةَ وَحْدَه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في خَلقِ هذه النَّحْلةِ الصَّغيرةِ التي هداها اللهُ هذه الهِدايةَ العَجيبةَ، ويَسَّرَ لها المراعيَ، ثمَّ الرُّجوعَ إلى بُيوتِها التي أصلَحَتْها بتَعليمِ اللهِ لها، وهِدايتِه لها، ثمَّ يَخرُجُ مِن بُطونِها هذا العسَلُ اللَّذيذُ مختَلِفَ الألوانِ بحَسَبِ اختلافِ أرْضِها ومَراعيها، فيه شِفاءٌ للنَّاسِ مِن أمراضٍ عديدةٍ- في ذلك دَليلٌ على كَمالِ عِنايةِ الله تعالى، وتمامِ لُطفِه بعِبادِه، وأنَّه الذي لا ينبغي أن يُحَبَّ غَيرُه، ويُدعَى سِواه

.

2- قال الله تعالى: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ تأمَّلِ العِبرةَ التي ذكَرَها اللهُ عزَّ وجَلَّ في الأنعامِ، وما سَقانا مِن بُطونِها مِنَ اللَّبَنِ الخالِصِ السَّائِغِ، الهَنيءِ المَريءِ، الخارجِ مِن بينِ الفَرثِ والدَّمِ؛ فاللهُ تعالى إنَّما خلَقَ اللَّبَنَ مِن فَضلةِ الدَّمِ، وإنَّما خَلَقَ الدَّمَ مِن الغِذاءِ الذي يَتناوَلُه الحَيوانُ، فالشَّاةُ لَمَّا تناوَلَت العُشبَ والماءَ، فاللهُ تعالى خلَقَ الدَّمَ مِن لَطيفِ تلك الأجزاءِ، ثمَّ خلَقَ اللَّبَنَ مِن بَعضِ أجزاءِ ذلك الدَّمِ، وسَلِ المُعَطِّلَ الجاحِدَ: مَنِ الذي دبَّرَ هذا التَّدبيرَ، وقَدَّرَ هذا التَّقديرَ، وأتقَنَ هذا الصُّنعَ، ولَطَفَ هذا اللُّطفَ سوى اللَّطيفِ الخَبيرِ؟! فهذه الأحوالُ إنَّما تَحدُثُ بتَدبيرِ فاعِلٍ حَكيمٍ رَحيمٍ، يُدَبِّرُ أحوالَ هذا العالَمِ على وَفقِ مَصالِحِ العِبادِ، فسُبحانَ مَن تَشهَدُ جَميعُ ذَرَّاتِ العالَمِ الأعلى والأسفَل بكَمالِ قُدرتِه، ونِهايةِ حِكمَتِه ورَحمتِه، له الخَلقُ والأمرُ تَبارَك اللهُ رَبُّ العالَمينَ

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَالَ اللهُ تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا، ثمَّ خَتَمَها بقَولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وهذا يدُلُّ على ظُهورِ هذا المُعتَبَرِ فيه وبَيانِه؛ لأنَّه لا يَحتاجُ إلى تفَكُّرٍ، ولا نظَرِ قَلبٍ، وإنَّما يَحتاجُ المُنَبَّهُ إلى أن يَسمَعَ القَولَ فقط

. وقيل: بل المرادُ سماعُ تدبرٍ وإنصافٍ ونظر؛ لأنَّ سماعَ القلوب هو النافعُ لا سماع الآذانِ، فمن سمِع آياتِ القرآنِ بقلبِه وتدبرها، وتفكَّر فيها انتفَع، ومَن لم يسمَعْ بقلبِه فكأنَّه أصمُّ لم يسمعْ، فلم ينتفعْ بالآياتِ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا استُدِلَّ به على طَهارةِ لَبَنِ المأكولِ، وإباحةِ شُربِه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا، لَمَّا كان اللَّبَنُ لا يَحتاجُ إلى مُعالجةٍ مِن النَّاسِ، أخبَرَ عن نَفسِه تعالى بقَولِه: نُسْقِيكُمْ، ولَمَّا كان السَّكَرُ والرِّزقُ الحسَنُ يَحتاجُ إلى مُعالَجةٍ قال: تَتَّخِذُونَ .

4- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ دَلالةٌ على أنَّ مُلاقاةَ المائِعِ للنَّجِسِ في الباطِنِ لا حُكْمَ لها .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا فيه سؤالٌ: الخَمرُ مُحَرَّمةٌ، فلماذا ذكَرَها اللهُ تعالى في مَعرِضِ الإنعامِ؟

والجوابُ مِن وَجهَينِ:

الوجه الأوَّل: أنَّ هذه السُّورةَ مَكِّيَّةٌ، وتحريمُ الخَمرِ نَزَل في سُورةِ (المائدةِ)، فكان نُزولُ هذه الآيةِ في الوَقتِ الذي كانت الخَمرُ فيه غَيرَ مُحَرَّمةٍ.

الوجه الثَّاني: أنَّه تعالى ذكَرَ ما في هذه الأشياءِ مِنَ المنافِعِ، وخاطَبَ المُشرِكينَ بها، والخَمرُ مِن أشرِبَتِهم، فهي مَنفعةٌ في حَقِّهم، ثمَّ إنَّه تعالى نَبَّه في هذه الآيةِ أيضًا على تَحريمِها؛ وذلك لأنَّه مَيَّزَ بينها وبينَ الرِّزقِ الحَسَنِ في الذِّكرِ، فوجَبَ ألَّا يكونَ السَّكَرُ رِزقًا حَسَنًا .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا دَلَّ على التَّسويةِ بين السَّكَرِ المُتَّخَذِ مِن العِنَب، والمُتَّخَذِ مِن النَّخلِ، كما هو مذهَبُ مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمدَ وجُمهورِ العُلَماء، وكذا حُكمُ سائِرِ الأشربةِ المتَّخَذةِ مِن الحِنطةِ والشَّعِيرِ والذُّرَةِ والعَسَلِ، كما جاءت السُّنَّةُ بتَفصيلِ ذلك .

7- قالَ اللهُ تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ناسَبَ ذِكْرُ العَقلِ هاهنا؛ فإنَّه أشرَفُ ما في الإنسانِ؛ ولهذا حَرَّمَ اللهُ على هذه الأمَّةِ الأشرِبةَ المُسكِرةَ؛ صِيانةً لِعُقولِها .

8- قَولُه تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا استُدِلَّ به على أنَّ الخَمرَ لا يَحِلُّ ثمنُها؛ ولا تُعَدُّ في عِدَادِ الأملاكِ؛ لإفرادِ ذِكْرِها بالسَّكَرِ؛ وسائرِها بالرِّزقِ الحَسَنِ، فما لم يكُنْ رِزْقًا لم يَجُزْ أنْ يكونَ مِلْكًا، ولو كان أيضًا رِزقًا لكان خَبيثًا؛ لِتَسميتِه سائِرَها بالحَسَنِ، والخبيثُ لا ثَمَنَ له .

9- قَولُه تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا، في تركِ تعليمِه خلقَه كيفيةَ اتِّخاذِ الرِّزقِ الحسنِ، وإخبارِه عن اتِّخاذِهم معدودًا في ذكرِ النعمِ- دليلٌ على أنَّ اتخاذَه كيفَ أحبُّوه مباحٌ لهم .

10- في قَولِه تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا بيانُ أنَّ النَّحلَ خَلْقٌ يَسوقُه اللهُ حيث يشَاءُ، فإذا اتَّخَذتْ بيتًا في مِلْكِ بَشَرٍ كان ما يَخرُجُ مِن بطونِها رِزقًا لصاحِبِ المِلْكِ؛ لحُدوثِه في مِلْكِه، فإذا تَحَوَّلَ النَّحلُ إلى غيرِ مِلْكِه لم يكُنْ له المُطالبةُ به، فإنِ اتُّخِذَ في أرضٍ مَوَاتٍ- لا مالكَ لها- كان عَسَلُه لِمَن بادرَ إلى أخْذِه، وتحصيله بالحِيازةِ والنُّقْلةِ .

11- ليس كلُّ مَن أُوحيَ إليه الوحيَ العامَّ يكونُ نبيًّا؛ فاللهُ تعالى قد أوحى إلى غيرِ النَّاسِ، قال تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ .

12- قال اللهُ تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ فأُشيرَ إلى أنَّ بُيوتَها تُتَّخَذُ في أحسَنِ البِقاعِ مِن الجِبالِ أو الشَّجَرِ أو العَرشِ دونَ بُيوتِ الحَشَراتِ الأخرى؛ وذلك لشرَفِها بما تَحتويه مِن المنافِعِ، وبما تَشتَمِلُ عليه مِن دقائِقِ الصَّنعةِ، ألا ترى إلى قَولِه تعالى في ضِدِّها: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ [العنكبوت: 41] .

13- مِن الحِكَمِ في أنَّ الله تعالى قال: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، ولم يَقُلْ: (مِن الثمرات كلِّها)- أنه تقدَّمَها في النَّظْم قولُه تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ فلو قال بعدها: (كُلِي مِن الثمراتِ كُلِّها) لذهبَ الوهمُ إلى أنه يريدُ الثمراتِ المذكورةَ قَبْلُ - ثمراتِ النخيلِ والأعنابِ -، لأنَّ اللامَ إنما تنصرفُ إلى المعهود، فكان الابتداءُ بـ كُلِّ أَحْصَنَ للمعنى، وأجمعَ للجنس، وأرفعَ للَّبْسِ، وأبدعَ في النَّظْمِ .

14- قَولُ اللهِ تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ عَبَّرَ عن العَسَلِ باسمِ الشَّرابِ دُونَ العَسَلِ؛ لِما يُومِئُ إليه اسمُ الجِنسِ مِن مَعنَى الانتفاعِ به، وهو محَلُّ المِنَّةِ، ولِيُرَتِّبَ عليه جُملةَ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وسُمِّيَ شَرابًا؛ لأنَّه مائعٌ يُشرَبُ شُربًا، ولا يُمضَغُ .

15- قَولُه تعالى: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ أصلٌ في الطِّبِّ ، وفيه دليلٌ على إباحةِ التَّداوي .

16- قال الله تعالى: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ، وقال وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت: 44] لم يَصِفِ اللهُ في كتابِه بالشِّفاءِ إلَّا القُرآنَ والعَسَلَ، فهما الشِّفاءانِ؛ هذا شِفاءُ القُلوبِ مِن أمراضِ غَيِّها وضَلالِها، وأدواءِ شُبُهاتِها وشَهَواتِها، وهذا شِفاءٌ للأبدانِ مِن كثيرٍ مِن أسقامِها وأخلاطِها وآفاتِها، وتأمَّلْ إخبارَه سُبحانَه وتعالى عن القُرآنِ بأنَّه نَفسَه شِفاءٌ، وقال عن العَسَل: فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ وما كان نَفسُه شِفاءً أبلَغُ ممَّا جُعِلَ فيه شِفاءٌ !

17- قال اللهُ تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تأمَّلْ أحوالَ النَّحلِ وما فيها مِنَ العِبَرِ والآياتِ، فانظُرْ إليها وإلى اجتِهادِها في صَنعةِ العَسَلِ، وبِنائِها البُيوتَ المُسَدَّسةَ التي هي مِن أتَمِّ الأشكالِ وأحسَنِها استِدارةً، وأحكَمِها صُنعًا، فإذا انضَمَّ بَعضُها إلى بعضٍ لم يكُنْ بينَها فُرجةٌ ولا خَلَلٌ، كُلُّ هذا بغيرِ مِقياسٍ ولا آلةٍ، وتلك مِن أثَرِ صُنعِ اللهِ، وإلهامِه إيَّاها، وإيحائِه إليها، كما قال تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا إلى قَولِه تعالى: لَآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ. فسَلِ المُعَطِّلَ مَن الذي أوحى إليها أمْرَها، وجعَلَ ما جعَلَ في طِباعِها؟ ومَن الذي سَهَّلَ لها سُبُلَه ذُلُلًا مُنقادةً، لا تَستَعصي عليها، ولا تَستَوعِرُها، ولا تَضِلُّ عنها على بُعدِها، ومَن الذي هداها لِشَأنِها

 

؟!

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ

- قولُه: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً: فيه بِناءُ الجُملَةِ على المسنَدِ الفِعْليِّ؛ لإفادةِ التَّخصيصِ، أي: اللهُ لا غَيرُه أنزَل مِن السَّماءِ ماءً

، وقولُه: وَاللَّهُ أَنْزَلَ تَكريرٌ لِمَا سبَق؛ تأكيدًا لمضمونِه، وتَوطِئةً لِمَا يَعقُبُه مِن أدلَّةِ التَّوحيدِ .

- وفي قولِه: مِنَ السَّمَاءِ مَاءً تقديمُ المجرورِ على المنصوبِ؛ للتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ .

2- قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ

- جملةُ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً معطوفةٌ على جملةِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، أي: كما كان القومُ يَسمَعون عِبرةً في إنزالِ الماءِ من السَّماءِ، لكم في الأنعامِ عِبرةٌ أيضًا؛ إذْ قد كان المخاطَبون- وهم المؤمِنون- القومَ الَّذين يَسمَعون. وضَميرُ الخطابِ لَكُمْ الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ، وتوكيدُها بـ (إنَّ) ولامِ الابتِداءِ كتَأكيدِ الجُملةِ قَبلَها .

- قولُه: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ استِئْنافٌ بيانيٌّ، كأنَّه قيل: كيف العِبرةُ؟ فقيل: نُسْقيكُم مِن بَينِ فَرثٍ ودَمٍ، أي: يَخلُقُ اللهُ اللَّبنَ وسَطًا بينَ الفَرْثِ والدَّمِ يَكتَنِفانِه، وبينَه وبينَهما برزَخٌ مِن قُدرةِ اللهِ لا يَبْغي أحَدُهما عليه بلَونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةٍ، بل هو خالِصٌ مِن ذلك كلِّه .

- وفي قولِه: مِمَّا في بُطونِه أفرَد ضَميرَ الأنعامِ؛ مُراعاةً لِكَونِ اللَّفظِ مُفرَدًا؛ لأنَّ اسْمَ الجمعِ لفظٌ مُفرَدٌ؛ إذْ ليس مِن صِيَغِ الجُموعِ، فقد يُراعَى اللَّفظُ فيَأتي ضَميرُه مُفرَدًا، وقد يُراعى مَعناه فيُعامَلُ مُعامَلةَ الجُموعِ، كما في سورةِ (المؤمِنون) في قولِه: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا [المؤمنون: 21] بِجَمعِه مؤنَّثًا . وفي هذا مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث أعاد في أحَدِ الموضِعَينِ ذِكْرَ المذكَّرِ، وفي الآخَرِ ذِكْرَ المؤنَّثِ، واللَّفظانِ سَواءٌ؛ ووَجهُ ذلك: أنَّ (الأنعامَ) في سورةِ (النَّحلِ) وإنْ أُطلِقَ لفظُ جَمعِها، فإنَّ المرادَ به بَعضُها؛ لأنَّ الدَّرَّ لا يَكونُ لِجَميعِها، وأنَّ اللَّبَنَ لِبَعضِ إناثِها، فكأنَّه قال: وإنَّ لكم في بعضِ الأنعامِ لَعِبرَةً نُسْقيكم ممَّا في بُطونِه؛ ولهذا ذهَب مَن ذهَب إلى أنَّه رُدَّ على النَّعَمِ؛ لأنَّه يُؤدِّي ما يؤدِّيه الأنعامُ مِن المعنى. وليس كذلك ذِكْرُها في سورةِ (المؤمِنون)؛ لأنَّه قال: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 21، 22]، فأخبَر عَن النِّعَمِ التي في أصنافِ النَّعَمِ إناثِها وذُكورِها؛ فلَم يَحتمِلْ أن يُرادَ بها البعضُ كما كان في الأوَّلِ ذلك .

- قولُه: مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا (مِن) ابتدائيَّةٌ، لابتداءِ الغايةِ؛ لأنَّ بينَ الفَرْثِ والدَّمِ مَكانَ الإسقاءِ الَّذي مِنه يُبتَدَأُ؛ فهو صِلَةٌ لـ  نُسْقِيكُمْ ومُتعلِّقةٌ به، كقولِك: سَقيتُه مِن الحوضِ. وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ؛ لأنَّ تقديمَ ما حقُّه التَّأخيرُ يَبعَثُ للنَّفسِ شوقًا إلى المؤخَّرِ، موجِبًا لِفَضلِ تَمْكينِه عندَ وُرودِه عليها، لا سيَّما إذا كان المقدَّمُ مُتضمِّنًا لوصفٍ مُنافٍ لوصفِ المؤخَّرِ، كالَّذي نحنُ فيه؛ فإنَّ بينَ وَصْفَيِ المقدَّمِ والمؤخَّرِ تَنافِيًا وتَنائِيًا بحيث لا يتَراءى ناراهُما؛ فإنَّ ذلك ممَّا يَزيدُ الشَّوقَ والاستِشْرافَ إلى المؤخَّرِ . أو مَوْقِعُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ مَوقِعُ الصِّفةِ لـ لَبَنًا، قُدِّمَت عليه للاهتمامِ بها؛ لأنَّها مَوضِعُ العِبرةِ، فكان لها مَزيدُ اهتِمامٍ، وقد صارَتْ بالتَّقديمِ حالًا .

- ولَمَّا كانت المَشروباتُ مِن اللَّبَنِ وغَيرِه هي الغالِبةَ في النَّاسِ أكثَرَ مِنَ العَسَلِ، قَدَّمَ اللَّبَنَ وغَيرَه عليه، وقَدَّمَ اللَّبَنَ على ما بَعدَه؛ لأنَّه المُحتاجُ إليه كثيرًا .

3- قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

- قولُه: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تَعلَّق قولُه: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ بمحذوفٍ تقديرُه: ونُسْقيكم مِن ثَمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ، أي: مِن عَصيرِها، وحُذِفَ لِدَلالةِ نُسْقيكم قَبلَه عليه. أو يتَعلَّقُ بـ تَتَّخِذُونَ، ويَجوزُ أن يَكونَ تَتَّخِذُونَ صِفةَ مَوصوفٍ محذوفٍ، تقديرُه: ومِن ثَمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ ثَمرٌ تتَّخِذون مِنه سَكَرًا ورِزقًا حسَنًا؛ لأنَّهم يَأكُلون بعضَها ويتَّخِذون مِن بَعضِها السَّكَرَ. ومِنْهُ مِن تكريرِ الظَّرفِ للتَّوكيدِ، وعلى هذا يَرجِعُ الضَّميرُ في مِنْهُ إلى المضافِ المحذوفِ الَّذي هو العصيرُ كما رجَع في قولِه تعالى: أَوْ هُمْ قَائِلُونَ [الأعراف: 4] إلى الأهلِ المحذوفِ .

- وجملةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تكريرٌ لِتَعدادِ الآيةِ؛ لأنَّها آيةٌ مُستقِلَّةٌ .

4- قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ

- افتُتِحَتِ الجُمْلةُ بفِعْلِ أَوْحَى دونَ أن تُفتتَحَ باسْمِ الجَلالةِ مِثلَ جُملةِ وَاللَّهُ أَنْزَلَ؛ لِمَا في أَوْحَى مِن الإيماءِ إلى إلهامِ تلك الحشَرةِ الضَّعيفةِ تَدبيرًا عَجيبًا، وعَملًا مُتقَنًا، وهَندَسةً في الجِبِلَّةِ. وأُطلِقَ الوحيُ هنا على التَّكوينِ الخَفيِّ الَّذي أودعَه اللهُ في طبيعةِ النَّحلِ، بحيث تَنْساقُ إلى عمَلٍ مُنظَّمٍ مُرتَّبٍ بَعضُه على بعضٍ، لا يَختلِفُ فيه آحادُها؛ تَشبيهًا للإلهامِ بكلامٍ خفيٍّ يتَضمَّنُ ذلك التَّرتيبَ الشَّبيهَ بعمَلِ المتعلِّمِ بتَعليمِ المعلِّمِ، أو المؤتَمِرِ بإرشادِ الآمِرِ، الذي تَلقَّاه سِرًّا .

- وفي قولِه: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا تَنْكيتٌ ، وهو هُنا في قولِه: مِنَ الْجِبَالِ؛ إذْ مَعْنى (مِنْ) هُنا للتَّبعيضِ، وهي مُتعلِّقةٌ باتِّخاذِ البُيوتِ، ولم يَقُلْ: في الجِبالِ؛ لأنَّها لا تَبْني بُيوتَها في كلِّ جبلٍ وفي كلِّ شجرٍ وكلِّ ما يُعْرَشُ، فلم يَترُكْ لها الحُرِّيَّةَ في بِناءِ البُيوتِ، كأنَّه تعالى وَكَلَ الأكلَ إلى شَهوَتِها واختيارِها، فلم يَحجُرْ عليها فيه، وإنْ حجَر عليها في البيوتِ، وأُمِرَت باتِّخاذِها في بعضِ المواضِعِ دونَ بعضٍ؛ فلم يَكِلِ الأمرَ إلى شَهواتِها كما وَكَلَه إليها في قولِه: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، وإنَّما خولِف ذلك وحَجَر عليها في المسكَنِ، ولم يَحجُرْ عليها في المأكَلِ؛ لأنَّ مَصلَحةَ الأكلِ على الإطلاقِ باستِمْراءِ مُشْتَهاها مِنه، وأمَّا البُيوتُ فلا تَحصُلُ مَصلَحتُها في كلِّ مَوضِعٍ؛ ولهذا المعنى دخَلَتْ ثُمَّ لِتَفاوُتِ الأمرِ بينَ الحَجْرِ عليها في اتِّخاذِ البيوتِ والإطلاقِ لها في تَناوُلِ الثَّمراتِ؛ فتوسُّط ثُمَّ لِتَفاوُتِ الحَجْرِ والإطلاقِ .

- وقَدَّمَ البُيوتَ مِن الجبالِ؛ لأنَّ أكثَرَ بُيوتِها في الجِبالِ، ثُمَّ في الأشجارِ وهي مِن أكثَرِ بُيوتِها، ثمَّ مِمَّا يَعرِشُ النَّاسُ وهي أقَلُّ بُيوتِها بينهم حيثُ يَعرِشونَ، وأمَّا في الجِبالِ والشَّجَرِ فبُيوتٌ عَظيمةٌ يُؤخَذُ منها مِن العَسَلِ الكثيرُ جِدًّا .

5- قوله تعالى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

- قولُه: ثُمَّ للتَّرتيبِ الرُّتْبيِّ؛ لأنَّ إلهامَ النَّحلِ للأكلِ مِن الثَّمراتِ يتَرتَّبُ عليه تَكوُّنُ العَسلِ في بُطونِها، وذلك أعلى رُتبةً مِن اتِّخاذِها البُيوتَ؛ لاخْتِصاصِها بالعَسلِ دونَ غيرِها مِن الحشَراتِ التي تَبْني البُيوتَ، ولأنَّه أعظَمُ فائدةً للإنسانِ، ولأنَّ مِنه قُوتَها الَّذي به بَقاؤُها. وسُمِّي امْتِصاصُها أكْلًا؛ لأنَّها تَقْتاتُه، فلَيس هو بِشُربٍ .

- قولُه: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا فيه إضافةُ السُّبلِ إلى ربِّك؛ للإشارةِ إلى أنَّ النَّحلَ مُسخَّرةٌ لسُلوكِ تلك السُّبلِ لا يَعدِلُها عنها شيءٌ؛ لأنَّها لو لم تَسلُكْها لَاختَلَّ نِظامُ إفرازِ العسَلِ منها. وجُملةُ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ما تَقدَّم مِن الخبَرِ عن إلهامِ النَّحلِ تلك الأعمالَ يُثيرُ في نفْسِ السَّامِعِ أن يَسأَلَ عن الغايةِ مِن هذا التَّكوينِ العَجيبِ، فيَكونُ مضمونُ جملةِ يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ بيانًا لِما سأَل عنه. وهو أيضًا موضِعُ المِنَّةِ كما كان تَمامَ العِبْرةِ .

- قولُه: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا استئنافٌ عُدِل به عن خِطابِ النَّحلِ؛ لِبَيانِ ما يَظهَرُ مِنها مِن تَعاجيبِ صُنعِ اللهِ تعالى الَّتي هي مَوضِعُ العبرةِ بعدَما أُمِرَت بما أُمِرَت .

- في قولِه: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ الْتِفاتٌ مِن الخطابِ إلى الغَيبةِ، ولو جاء الكلامُ على النَّسقِ الأوَّلِ لقيلَ: مِن بُطونِكِ، وإنَّما صرَف الكلامَ هاهنا مِن الخِطابِ إلى الغَيبةِ لِفائدةٍ، وهي أنَّه ذَكَر للبَشرِ العَسلَ وأوصافَه وألوانَه المختلِفةَ، وأخبَرهم أنَّ فيه فَوائدَ شَتَّى لهم؛ لِيَلفِتَ انتِباهَهم إليه، ولو قال: (مِن بُطونِكِ) لَذَهَبَت تلك الفائدةُ التي أنتَجَها خِطابُ الغَيبةِ، وليس ذلك بخافٍ عن نقَدةِ الكَلامِ . وقيل: لأنَّه محَلُّ الإنعامِ عليهم، والمقصودُ مِن خَلقِ النَّحلِ وإلهامه لأجْلِهم .

- وقال: مِنْ بُطُونِهَا لأنَّ استحالةَ الأطعمةِ لا تكونُ إلَّا في البُطونِ، فيخرجُ بَعضُها من الفَمِ، كالرِّيقِ الدائِمِ الذي يخرُجُ مِن فَمِ ابنِ آدمَ، فالنَّحلُ تُخرِجُ العسَلَ مِن بُطونِها إلى أفواهِها .

- في قولِه: فِيهِ شِفَاءٌ: تنكيرُ شِفَاءٌ؛ إمَّا لِتَعظيمِ الشِّفاءِ الَّذي فيه، فيَكونُ المعنى: فيه شِفاءٌ أيُّ شِفاءٍ، وإمَّا لِدَلالَتِه على مُطلَقِ الشِّفاءِ، أي: فيه بعضُ الشِّفاءِ، وكِلاهُما مُحتمِلٌ؛ لأنَّه مِن جُملةِ الأشفِيَةِ والأدويَةِ المشهورةِ النَّافعةِ، وليس الغرَضُ أنَّه شفاءٌ لكلِّ مَريضٍ، كما أنَّ كلَّ دَواءٍ كذلك؛ فنَكَّر قولَه: فِيهِ شِفَاءٌ ولم يَقُلْ: (فيه الشِّفاءُ لكلِّ النَّاسِ)؛ فاندَفَع الاعتِراضُ بأنَّ كَثيرينَ يَأكُلون العَسَلَ ولا يُشفَوْن ممَّا ألَمَّ بهِم، فيُلاحَظُ أنَّ النَّكِرةَ في سياقِ الإثباتِ لا تُفيدُ العُمومَ .

- وفي قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ...، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيث قال: يَسْمَعُونَ في الأُولى، ويَعْقِلُونَ في الثَّانيةِ، ويَتَفَكَّرُونَ في الثَّالثةِ؛ ووجهُ ذلك: أنَّه إنَّما ذكَر يَسْمَعُونَ في الأُولى توبيخًا لِمَن أنكَر البَعثَ، واستَبْعَدَ الحياةَ الثَّانيَةَ، فكأنَّه قيل له: إنَّ ذلك قبلَ التَّدبُّرِ مُقرَّرٌ في أوَّلِ العَقلِ حتَّى إنَّ مَن يَسمَعُه يَعترِفُ به، وهو أنَّ الأرضَ المَيْتةَ يُحْييها اللهُ تعالى بماءِ السَّماءِ، فتَعودُ حَيَّةً بنَباتِها، فكذلك لا يُستنكَرُ أن يُحيِيَ الخَليقةَ بعدَ موتِها. وأمَّا اختِصاصُ الثَّانيةِ بقَولِه: يَعْقِلُونَ؛ فلأنَّه قال: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، والفَرْثُ والدَّمُ لا يَنعصِرُ مِنه ما يَسوغُ للشَّارِبِ، والدَّمُ أحمَرُ، فيُحوَّلُ بقُدرةِ اللهِ تعالى لبَنًا أبيَضَ طيِّبًا بَعدَ بُعدِه ممَّا استَحالَ عنه في اللَّونِ والطِّيبِ؛ ففيه عِبرةٌ لِمَن اعتَبَر، ولَمَّا قُرِن إليه ثَمراتُ النَّخيلِ والأعنابِ وما يتَحوَّلُ مِن عَصيرِهما إلى ما يُستَلذُّ، ويَجلِبُ ما يَسُرُّ سِوى طِيبِ رَطْبِها ويابِسِها؛ احْتاج ذلك إلى تَدبُّرٍ يُعقَلُ به صُنعُ صانِعٍ لا يَقدِرُ غيرُه عليه؛ فلذلك قال في الثَّانيةِ: يَعْقِلُونَ . ولأنَّه لَمَّا كان مُفتَتَحُ الكَلامِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً، ناسَبَ الختْمُ بِقَولِه: يَعْقِلُونَ؛ لأنَّه لا يَعتبِرُ إلَّا ذَوُو العُقولِ . وأمَّا اختِصاصُ الثَّالثةِ بقَولِه: يَتَفَكَّرُونَ؛ فلأنَّ التَّفكُّرَ استِعْمالُ الفِكرِ حالًا بعدَ حالٍ، وفي النَّحلِ عَجائِبُ مِن صُنعِ اللهِ تعالى وهي أشياءُ تَقتَضي فِكرًا بعدَ فكرٍ، ونظرًا بعدَ نظَرٍ؛ فلِذلك عُقِّبَت بقولِه: يَتَفَكَّرُونَ ، فاختِيرَ وَصفُ (التفكُّر) هنا؛ لأنَّ الاعتبارَ بتَفصيلِ ما أجمَلَتْه الآيةُ في نظامِ النَّحلِ مُحتاجٌ إلى إعمالِ فِكرٍ دَقيقٍ، ونظَرٍ عميقٍ .

==========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (70-72)

ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ

غريب الكلمات :

 

أَرْذَلِ الْعُمُرِ: أي: أردَئِه وأوضَعِه. والرَّذْلُ: المَرغوبُ عنه لِرَداءتِه، والدُّونُ مِن كُلِّ شَيءٍ

.

بِرَادِّي: أي: بمُعْطِي، وأصلُ (رد): يدلُّ على رَجعِ الشَّيءِ .

وَحَفَدَةً: أي: ولَدَ ولَدِ الرَّجُلِ، الذين يُعينونَه ويَخدُمونَه. وقيل: هم الأنصارُ والأعوانُ والخَدَمُ، وأصلُ (حفد): يدُلُّ على الخِفَّةِ في الخِدمةِ والعَمَلِ، والتجمُّعِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخاطبُ الله تعالى عبادَه قائلًا: واللهُ وحدَه خلَقَكم- أيُّها النَّاسُ- من العَدَمِ، ثمَّ يُميتُكم، ومِنكم مَن يصيرُ إلى أردأِ العُمُرِ، وهو الهَرَمُ، فيَضعُفُ، وتَنقُصُ قُوَّتُه وعَقلُه، ليصيرَ لا يعلَمُ شيئًا ممَّا كان يَعلَمُه. ثم ختم الله الآيةَ بما يدلُّ على كمالِ علمِه، وتمامِ قدرتِه فقال: إنَّ اللهَ عَليمٌ قَديرٌ.

ثمَّ ذكَر الله تعالى التفاوُتَ بينَ الناسِ في أرزاقِهم، فقال: واللهُ فَضَّل بَعضَكم على بَعضٍ فيما أعطاكم مِن الرِّزقِ في الدُّنيا؛ فمنكم غنيٌّ ومنكم فقيرٌ، ومِنكم مالِكٌ ومنكم مَملوكٌ، فلا يُعطي المالِكونَ مَملوكِيهم ممَّا أعطاهم اللهُ ما يَصيرونَ به شُرَكاءَ لهم، مُتَساوينَ معهم في المالِ، فإذا لم يَرْضَوا أن يُشرِكوا معهم بعضَ خَلقِ اللهِ فيما رزقَهم سبحانَه، فلماذا رَضُوا أن يُشرِكوا مع ربِّهم في العبادةِ بَعضَ خَلقِه، وهو أعظم؟! إنَّ هذا لَمِن أعظَمِ الظُّلمِ والجُحودِ لحَقِّ اللهِ ونِعَمِه.

ثمَّ ذكَر الله تعالى نعمةً أُخرَى مِن نِعمِه على الناسِ، فقال: واللهُ سُبحانَه خلقَ لكم- أيُّها النَّاسُ- مِن جِنسِكم أزواجًا؛ لِتَسكنوا إليهنَّ، وجعل لكم مِنهنَّ الأبناءَ، ومِن نَسلِهنَّ الأحفادَ المُسرِعين في عَونِكم وخِدمتِكم، ورَزَقَكم مِن الأموالِ الحلالِ، والأطعمةِ الطَّيِّبةِ، أفبالباطِلِ مِن ألوهيَّةِ شُرَكائِهم يُؤمِنونَ، وبنِعَمِ اللهِ التي لا تُحصَى يَجحَدونَ؟!

تفسير الآيات:

 

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الآياتِ التي في الأنعامِ والثَّمَراتِ والنَّحْلِ؛ ذكَرَ ما نبَّهَنا به على قُدرتِه التَّامَّةِ في إنشائِنا مِن العَدَمِ وإماتَتِنا، وتنَقُّلِنا في حالِ الحياةِ مِن حالةِ الجَهلِ إلى حالةِ العِلمِ، وذلك كُلُّه دليلٌ على القُدرةِ التَّامَّةِ، والعِلمِ الواسِعِ

.

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ.

أي: واللهُ وَحْدَه أوجَدَكم- أيُّها النَّاسُ- من العَدَمِ، ثمَّ يُميتُكم عندَ انتهاءِ آجالِكم .

وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ.

أي: ومِنكم مَن يُؤخِّرُ اللهُ مَوتَه، ويُترَكُ إلى أخَسِّ العُمُرِ وأردَئِه، وهو الذي يَهرَمُ فيه، فيَضعُفُ وتَنقُصُ قُوَّتُه وعَقلُه .

كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54] .

وقال سُبحانَه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر: 67] .

وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَدعو: ((أعوذُ بك مِن البُخلِ والكَسَلِ، وأرذَلِ العُمُرِ، وعذابِ القَبرِ، وفِتنةِ الدَّجَّالِ، وفِتنةِ المَحْيا والمَماتِ ) .

وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((تعوَّذُوا بكَلِماتٍ كان النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعَوَّذُ بهنَّ: اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن الجُبنِ، وأعوذُ بك مِن البُخلِ، وأعوذُ بك من أن أُرَدَّ إلى أرذَلِ العُمُرِ، وأعوذُ بك مِن فِتنةِ الدُّنيا، وعذابِ القَبرِ) ) .

لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا.

أي: نَرُدُّ مَن نشاءُ إلى أرذَلِ العُمُرِ؛ لِيَصيرَ جاهِلًا لا يعلَمُ بعد عِلمِه بالأمورِ شَيئًا، فيَنسى ما كان يَعلَمُه مِن قبلُ، فالذي ردَّه إلى هذه الحالِ قادرٌ- سُبحانَه- على أن يُميتَه ثُمَّ يُحيِيَه ويَبعَثَه للحِسابِ والجزاءِ يومَ القيامةِ .

كما قال تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج: 5] .

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَر ما يَعرِضُ في الهَرَمِ من ضعفِ القُوى والقُدرةِ، وانتفاءِ العِلمِ؛ ذكَرَ عِلمَه وقدرتَه اللَّذَينِ لا يتبدَّلانِ ولا يتغيَّرانِ، ولا يدخُلُهما الحوادثُ، وولِيَت صفةُ العلمِ ما جاورَها مِن انتفاءِ العلمِ .

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.

أي: إنَّ اللهَ عليمٌ بكُلِّ ما كان ويكونُ، فلا يَنسى ولا يتغيَّرُ عِلمُه، ولا يَجهَلُ شَيئًا، قديرٌ على كلِّ شيءٍ سُبحانَه .

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا مِن الاستدلالِ على أنَّ التصَرُّفَ القاهِرَ لله تعالى؛ وذلك أنَّه أعقَبَ الاستِدلالَ بالإحياءِ والإماتةِ وما بينهما مِن هَرَمٍ، بالاستدلالِ بالرِّزقِ، ولَمَّا كان الرِّزقُ حاصِلًا لكُلِّ مَوجودٍ، بُنِيَ الاستدلالُ على التَّفاوُتِ فيه بخِلافِ الاستدلالِ بقَولِه تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [النحل: 70] .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ تعالى خَلْقَنا ثمَّ إماتَتَنا وتفاوُتَنا في السِّنِّ، ذكَرَ تفاوُتَنا في الرِّزق، وأنَّ رِزقَنا أفضَلُ مِن رِزقِ المماليكِ، وهم بشَرٌ مِثلُنا .

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.

أي: واللهُ فضَّل بَعضَكم- أيُّها النَّاسُ- على بَعضٍ فيما رزَقَكم مِن الأموالِ، فجعَلَ بَعضَكم غنيًّا، وبَعضَكم فَقيرًا، وبَعضَكم حُرًّا له مالٌ، وبَعضَكم مملوكًا لا مالَ له .

فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ.

أي: فليس الذين فضَّلهم الله على غَيرِهم بالرِّزقِ بجاعِلي رِزْقِهم لعَبيدِهم، فيَكونوا هم وعبيدُهم شُرَكاءَ فيه بالسَّوِيَّة؛ فإذا لم يكُنْ عَبيدُكم معكم سواءً في أموالِكم، ولا تَرضَونَ هذه الحالَ لأنفُسِكم، فكيف تجعَلونَ مع اللهِ شُرَكاءَ له في العبادةِ وهم عبيدٌ له، ليس لهم من المُلْك مِثقالُ ذَرَّةٍ ؟!

كما قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .

أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

أي: أفبِنعمَةِ اللهِ التي أنعَمَ بها مِن الرِّزقِ يَجحَدُ هؤلاء الكافِرونَ، بإشراكِهم غَيرَه في عبادتِه، واستعمالِ نِعَمِه في مَعصِيَتِه ؟!

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا نوعٌ آخَرُ مِن أحوالِ النَّاسِ، ذكَرَه اللهُ تعالى ليُستَدَلَّ به على وجودِ الإلهِ المُختارِ الحَكيمِ، وليكونَ ذلك تنبيهًا على إنعامِ اللهِ تعالى على عَبيدِه بمِثلِ هذه النِّعَمِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى امتِنانَه بالإيجادِ ثُمَّ بالرِّزقِ المُفَضَّلِ فيه؛ ذكَرَ امتِنانَه بما يقومُ بمصالحِ الإنسانِ ممَّا يأنَسُ به ويَستنصِرُ به ويَخدُمُه .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا.

أي: واللهُ خلَقَ لكم- أيُّها النَّاسُ- مِن جِنسِكم البَشَريِّ وعلى هَيئتِكم أزواجًا، فتَسكنونَ إليها، ويحصُلُ الائتلافُ والمودَّةُ بينكم .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] .

وقال سُبحانَه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] .

وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً.

أي: وخلَقَ لكم مِن نسائِكم أبناءً، وأبناءً لأبنائِكم، يُسرِعونَ في خِدمتِكم، ويَقضُونَ حَوائِجَكم، وتَنتَفِعونَ بهم .

وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى إنعامَه على عَبيدِه بالمَنكوحِ، وما فيه مِن المنافِعِ والمَصالحِ؛ ذكَرَ إنعامَه عليهم بالمَطعوماتِ الطَّيِّبةِ، فقال :

وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.

أي: ورزَقَكم اللهُ- أيُّها النَّاسُ- مِن حلالِ الأموالِ والأطعِمةِ والأشرِبةِ اللَّذيذةِ الصَّالحةِ .

أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ.

أي: أفَبِالباطِلِ يُؤمنُ هؤلاء المُشرِكونَ، وبِنِعَمِ اللهِ التي أنعَمَ بها عليهم يَكفُرونَ، فلا يَشكُرونَ اللهَ عليها، ولا يُوَحِّدونَه، ويَنسُبونَ نِعَمَه إلى غيرِه، ويَستَعمِلونَها في مَعصِيَتِه، والكُفرِ به

 

؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ انتقالٌ مِن الاستدلالِ بدَقائقِ صُنعِ اللهِ على وَحْدانيَّتِه إلى الاستدلالِ بتَصرُّفِه في الخَلْقِ التَّصرُّفَ الغالِبَ لهم الَّذي لا يَستطيعونَ دَفْعَه، على انفِرادِه برُبوبيَّتِهم، وعلى عَظيمِ قُدرتِه، كما دلَّ عليه تَذييلُها بجُملةِ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ؛ فهو خَلَقَهم بدونِ اختِيارٍ مِنهم، ثمَّ يتَوفَّاهم كُرْهًا علَيهم، أو يَرُدُّهم إلى حالةٍ يَكرَهونها، فلا يَستَطيعون ردًّا لذلك، ولا خَلاصًا منه، وبذلك يتَحقَّقُ معنى العبوديَّةِ بأوضَحِ مَظهَرٍ

.

2- قال الله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ هذه الآيةُ الكريمةُ نَصٌّ صَريحٌ في إبطالِ مَذهَبِ الاشتراكِيَّةِ القائِلِ: بأنَّه لا يكونُ أحَدٌ أفضَلَ مِن أحدٍ في الرِّزقِ، ولله في تفضيلِ بَعضِهم على بعضٍ في الرِّزقِ حِكمةٌ؛ قال تعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف: 32] ، وقال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] ، وقال: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة: 236] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ .

3- قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ممتنًّا على بني آدمَ بأنَّ أزواجَهم مِن نوعِهم وجنسِهم، يُفهمُ منه عدمُ جوازِ مناكحةِ الإنسِ الجنَّ؛ لأنَّه ما جعَل لهم أزواجًا تُباينُهم .

4- الجَعْلُ المذكورُ في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا هو جَعْلٌ كونيٌّ، ويُقابِلُه: الجَعلُ الدِّينيُّ، كما في قَولِه تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة: 103] أي: ما شَرَعَ ذلك ولا أمَرَ به، وإلَّا فهو مَخلوقٌ له، واقِعٌ بقدَرِه ومَشيئَتِه .

5- قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الوَصفُ بالزَّوجِ يُؤذِنُ بمُلازمتِه لآخَرَ؛ فلذا سُمِّيَ بالزَّوجِ قَرينُ المرأةِ وقَرينةُ الرَّجُلِ، وهذه نِعمةٌ اختَصَّ بها الإنسانُ؛ إذ ألهَمَه اللهُ جَعْلَ قَرينٍ له، وجَبَله على نظامِ مَحبَّةٍ وغَيرَةٍ، لا يَسمَحانِ له بإهمالِ زَوجِه، كما تُهمِلُ العَجْماواتُ إناثَها، وتَنصَرِفُ إناثُها عن ذكورِها .

6- قولُه تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً فيه استدلالٌ ببديعِ الصُّنعِ فِي خلقِ النَّسْلِ؛ إذ جُعِل مُقارِنًا للتَّأنُّسِ بينَ الزَّوجينِ؛ إذْ جُعِل النَّسلُ مِنهُما، ولم يجعَلْه مُفارِقًا لأحدِ الأبوَينِ أو كِلَيهما .

7- قال الله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً أُطلِقَ الحَفيدُ على ابنِ الابنِ؛ لأنَّه يَكثُرُ أن يَخدُمَ جَدَّه؛ لِضَعفِ الجَدِّ بسَبَبِ الكِبَر، فأنعم اللهُ على الإنسانِ بحِفظِ سِلسلةِ نَسَبِه بسَبَبِ ضَبطِ الحَلقةِ الأولى منها، وهي كَونُ أبنائِه مِن زَوجِه، ثمَّ كَونِ أبناءِ أبنائِه مِن أزواجِهم، فانضبَطَت سِلسلةُ الأنسابِ بهذا النِّظامِ المُحكَمِ البَديعِ. وغيرُ الإنسانِ مِن الحَيوانِ لا يَشعُرُ بحَفَدتِه أصلًا، لا يَشعُرُ بالبُنُوَّةِ إلَّا أُنثَى الحيوانِ مُدَّةً قليلةً، قَريبةً مِن الإرضاعِ !

8- كَلِمةُ (مِنْ) في قَولِ الله تعالى: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ للتَّبعيضِ؛ لأنَّ كُلَّ الطَّيِّباتِ في الجنَّةِ، وما طَيِّباتُ الدُّنيا إلَّا أُنموذَجٌ منها

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ

- قولُه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ...: فيه ابتِداءُ الجُملةِ باسْمِ الجَلالةِ، كما في قولِه تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [النحل: 65] ؛ لأنَّ دلالةَ الاسْمِ العلَمِ أوضَحُ وأصرَحُ؛ فهو مُقتَضَى مَقامِ تحقيقِ الانفِرادِ بالخَلْقِ والتَّوفِّي دونَ غيرِه مِن شُرَكائِهم؛ لأنَّ المشرِكين يُقِرُّون بأنَّ اللهَ هو فاعِلُ هذه الأشياءِ. وأمَّا إعادةُ اسْمِ الجَلالَةِ هنا دونَ الإضمارِ؛ فلأنَّ مَقامَ الاستدلالِ يَقْتضي تَكريرَ اسمِ المستدَلِّ على إثباتِ صفاتِه تَصريحًا واضِحًا، ولِقَصدِ التَّنويهِ بالخبَرِ إذ افتُتِح بهذا الاسمِ. وجيء بالمسنَدِ فِعليًّا خَلَقَكُمْ؛ لإفادةِ تَخصيصِ المسنَدِ إليه بالمسنَدِ الفِعليِّ في الإثباتِ

.

- قولُه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ فيه خُصَّ آخِرُ العُمُرِ بالرَّذيلةِ، وإن كانت حالُ الطُّفُوليَّةِ كذلك؛ مِن حيثُ كانت هذه لا رجاءَ بعدها لإصلاحِ ما فسدَ، والطُّفُوليَّةُ حالةٌ يُنتَقَلُ منها إلى القُوَّةِ، وإدراكِ الأشياءِ .

- قولُه: بَعْدَ عِلْمٍ تَنكيرُ (عِلْمٍ) هنا تنكيرُ الجنسِ، أي: لِكَيلا يَعلَمَ شَيئًا بعدَ أن كان له عِلمٌ، أي: لِيَزولَ منه قَبولُ العِلمِ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ تذييلٌ؛ تنبيهًا على أنَّ المقصودَ مِن الجملةِ الدَّلالةُ على عِظَمِ قُدرةِ اللهِ وعِظَمِ عِلمِه، وقدَّم وصْفَ (العَليمِ)؛ لأنَّ القُدرَةَ تتَعلَّقُ على وَفْقِ العِلمِ، وبمِقْدارِ سَعةِ العلمِ يَكونُ عِظمُ القُدرةِ؛ فضَعيفُ القُدرةِ يَنالُه تعَبٌ مِن قوَّةِ عِلمِه؛ لأنَّ هِمَّتَه تَدْعوه إلى ما لَيس بالنَّائلِ .

- وقال هنا في سورةِ (النَّحلِ): وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا، وقال في سورةِ (الحجِّ): ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج: 5] ، فاختَصَّتِ الآيةُ الَّتي في سورةِ (الحجِّ) بـ (من)، وخَلَتْ منها الآيةُ في سورةِ (النَّحلِ)، وفي ذلك مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ ووَجهُها: أنَّه حذف (من) فى قوله: بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا؛ لأَنه أَجملَ الكلامَ فى هذه السورةِ، فقال: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ، وفصَّله فى (الحجِّ) فقال: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُّضْغَةٍ إلى قوله: وَمِنكُمْ مَّنْ يُتَوَفَّى فاقتضى الإِجمالُ الحذفَ، والتفصيلُ الإِثباتَ، فجاءَ فى كلِّ سورةٍ ما اقتضاه الحالُ .

2- قوله تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ

- أسنَد التَّفضيلَ في الرِّزقِ إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّ أسبابَه خارِجةٌ عن إحاطةِ عُقولِ البشَرِ. وتُفيدُ وَراءَ الاستِدْلالِ مَعْنى الامْتِنانِ؛ لاقتِضائِها حُصولَ الرِّزقِ للجَميعِ؛ فجُملةُ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ مُقدِّمةٌ للدَّليلِ، ومِنَّةٌ مِن المننِ، وقد تمَّ الاستدلالُ عندَ قولِه تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ بطَريقةِ الإيجازِ، وفُرِّع على هذه الجملةِ بالفاءِ على وجهِ الإدماجِ قولُه تعالى: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، وهو إدماجٌ جاء على وجهِ التَّمثيلِ؛ لِتِبيانِ ضَلالِ أهلِ الشِّركِ حينَ سَوَّوْا بعضَ المخلوقاتِ بالخالقِ، فأشرَكوها في الإلهيَّةِ فَسادًا في تَفكيرِهم، فمَثَّل بُطلانَ عَقيدةِ الإشراكِ باللهِ بعضَ مَخلوقاتِه بحالةِ أهلِ النِّعمةِ المرزوقينَ؛ لأنَّهم لا يَرضَون أن يُشرِكوا عَبيدَهم معَهم في فَضلِ رِزقِهم، فكيف يُسوُّون باللهِ عَبيدَه في صِفَتِه العُظْمى، وهي الإلهيَّةُ؟! ورَشاقةُ هذا الاستِدْلالِ أنَّ الحالَتَينِ المشبَّهَتينِ والمشبَّهَ بهِما حالَتا مَولًى وعَبدٍ. والغرَضُ مِن التَّمثيلِ تَشنيعُ مَقالتِهم واستِحالةُ صِدقِها بحسَبِ العُرفِ، ثمَّ زيادةُ التَّشنيعِ بأنَّهم رضُوا للهِ ما لا يَرضَونه لأنفُسِهم. وقَرينةُ التَّمثيلِ والمقصِدُ منه دَلالةُ المقامِ .

- قولُه: فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ في إيثارِ الجملةِ الاسميَّةِ: دَلالةٌ على استِمْرارِهم على عدَمِ الرَّدِّ .

- والفاءُ في قولِه: فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ؛ للدَّلالةِ على تَرتيبِ التَّساوي على الرَّدِّ، أي: لا يَرُدُّونه عليهم ردًّا مُستتبِعًا للتَّساوي، وإنَّما يَرُدُّون عليهم مِنه شيئًا يسيرًا .

- وفُرِّعَت جملةُ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ على جُملةِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ، أي: لا يُشاطِرون عَبيدَهم رِزقَهم فيَستَوُوا فيه، أي: لا يقَعُ ذلك فيقَعَ هذا؛ فمَوقِعُ هذه الجملةِ الاسميَّةِ شَبيهٌ بمَوقِعِ الفعلِ بعدَ فاءِ السَّببيَّةِ في جوابِ النَّفيِ .

- وفي قولِه: أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ عُدِّي فِعلُ يَجْحَدُونَ بالباءِ؛ لِتَضَمُّنِه مَعنى (يَكْفُرون)، وتَكونُ الباءُ لِتَوكيدِ تَعلُّقِ الفعلِ بالمفعولِ، كقولِه تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ [المائدة: 6] . وتقديمُ (بنِعْمةِ اللهِ) على مُتعلَّقِه وهو يَجْحَدُونَ؛ للرِّعايةِ على الفاصلةِ .

3- قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ

- قولُه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً فيه وضعُ الظَّاهرِ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ موضِعَ المضمَرِ (مِنهنَّ)؛ للإيذانِ بأنَّ المرادَ: جَعَلَ لكلٍّ منكم مِن زوجِه لا مِن زوجِ غيرِه .

- قولُه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً فيه تأخيرُ المنصوبِ في الموضِعَينِ (أزواجًا - بَنينَ) عن المجرورِ (مِنْ أَنْفُسِكُمْ - مِنْ أَزْواجِكُمْ)؛ للتَّشويقِ وللاهتمامِ. وتَقديمُ المجرورِ باللَّامِ على المجرورِ بـ (مِن)؛ للإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بعَودِ مَنفَعةِ الجَعْلِ إليهِم، إمدادًا للتَّشويقِ، وتَقْويةً له .

- قولُه: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ استِفهامُ تَوبيخٍ على إيمانِهم بالباطِلِ .

- وفيه تقديمُ الصِّلةِ أَفَبِالْبَاطِلِ على الفعلِ يُؤْمِنُونَ؛ للاهتِمامِ، أو لإيهامِ الاختِصاصِ؛ مُبالَغةً، أو لِرِعايةِ الفَواصِلِ .

- وقولُه: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ فيه الْتِفاتٌ عن الخطابِ السَّابقِ إلى الغَيبةِ؛ للإيذانِ بأنَّ حالَهم استَوْجَبت الإعراضَ عنهم، وصَرَفَ الخِطابَ إلى غيرِهم مِن السَّامِعينَ؛ تَعجُّبًا لهم ممَّا فعَلوه؛ فإنَّه لَمَّا كان المقصودُ مِن الاستدلالِ المشرِكين، فكانوا مَوضِعَ التَّوبيخِ: ناسَب أن يُعرِضَ عن خِطابِهم، ويَنالَهم المقصودُ مِن التَّوبيخِ بالتَّعريضِ . وعلى قراءةِ تُؤْمِنُونَ بالتَّاءِ؛ فهو خِطابُ إنكارٍ وتقريعٍ لهم، والجملةُ بعدَ ذلك مُجرَّدُ إخبارٍ عنهم .

- وقولُه تعالى: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ عَطفٌ على جُملةِ التَّوبيخِ، وهو توبيخٌ مُتوجِّهٌ على ما تَضمَّنَه قولُه تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا إلى قولِه: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ مِن الامْتِنانِ بذَلك الخَلْقِ والرِّزقِ بعدَ كونِهما دَليلًا على انفرادِ اللهِ بالإلهيَّةِ .

- وضميرُ الغَيبةِ هُمْ في قولِه: هُمْ يَكْفُرُونَ ضميرُ فَصلٍ؛ لتأكيدِ الحُكمِ بكُفرانِهم النِّعمةَ؛ لأنَّ كُفْرانَ النِّعمةِ أخْفَى مِن الإيمانِ بالباطلِ؛ لأنَّ الكُفْرانَ يتَعلَّقُ بحالاتِ القلبِ، فاجتَمَع في هذه الجملةِ تَأكيدانِ: التَّأكيدُ الَّذي أفادَه التَّقديمُ، والتَّأكيدُ الَّذي أفادَه ضميرُ الفصلِ .

- والإتيانُ بالمضارِعِ يُؤْمِنُونَ ويَكْفُرُونَ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والتَّكريرِ .

- وفي قولِه: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال في سورةِ (العنكبوتِ): أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت: 67] ؛ فزِيدَ في الآيةِ مِن سورةِ (النَّحلِ) هُمْ، وخَلَتْ مِنها الآيةُ مِن سورةِ (العنكَبوتِ)؛ ووجهُ ذلك: أَنَّ فى هذه السورةِ اتَّصل الخطابُ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ثم عاد إلى الغَيبةِ فقال: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ فلا بدَّ مِن تقييده بهم؛ لئلا يلتبسَ الغَيْبَةُ بالخطابِ والتاءُ بالياءِ، وما فى العنكبوت اتَّصل بآياتٍ استمرَّت على الغَيبةِ، فلم يحتجْ إلى تقييدِه بالضميرِ .

========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (73-77)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ

غريب الكلمات:

 

أَبْكَمُ: هو الذي يُولَدُ أخرَسَ، فالخرسُ ملازمٌ له منذُ ولادتِه، وكلُّ أبكمَ أخرسُ، وليس كلُّ أخرسَ أبكمَ، والبَكَمُ: آفَةٌ في اللِّسانِ مانِعةٌ من الكلامِ

.

كَلٌّ: أي: ثقيلٌ، عالةٌ على غَيرِه، وأصلُه مِن الغِلَظِ الذي هو نَقيضُ الحِدَّةِ، يقالُ: كَلَّ السِّكينُ كُلولًا: إذا غَلُظَت شَفْرتُه فلم يَقطَعْ .

كَلَمْحِ : اللمحُ: النظرُ بسرعةٍ، واللَّمْحُ أيضًا: لمعانُ البرقِ، وأصلُ (لمح): يدلُّ على لمعِ شيءٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ

شَيْئًا: في نَصْبِه ثلاثةُ أوجُهٍ، أحدُها: أنَّه نائبٌ عن المَصدَرِ منصوبٌ على المفعوليَّةِ المُطلَقةِ، أي: ما لا يَملِكُ لهم شَيئًا مِن المِلكِ، لا قليلًا ولا كثيرًا. والثاني: أنَّه منصوبٌ على المفعوليَّةِ بـ  رِزْقًا أي: ما لا يملِكُ لهم أن يَرزُقَهم شيئًا. الثالث: أنَّه مَنصوبٌ على البَدَليَّةِ مِن رِزْقًا، أي: ما لا يَملِكُ لهم شيئًا مِن الرِّزقِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّ المُشرِكينَ يَعبُدُون أصنامًا لا تَملِكُ أن تُعطيَهم شيئًا مِن الرِّزقِ؛ لا مِن السَّماءِ كالمطَرِ، ولا مِن الأرضِ كالزَّرعِ، ولا يَقدِرونَ على شَيءٍ، فهذه صفةُ آلهتِهم، فكيف يعبدونَها مع اللهِ؛ لذا قال سبحانه: فلا تجعَلوا- أيُّها النَّاسُ- لله أندادًا وأمثالًا مِن خَلْقِه، تُشرِكونَهم معه في العبادةِ، إنَّ اللهَ يَعلَمُ، وأنتم لا تَعلَمونَ.

ثمَّ ساق الله تعالى مثلينِ يدُلَّانِ على وحدانيتِه وقدرتِه، وعلى بُطلانِ الشِّركِ، فقال تعالى مبيِّنًا المثلَ الأوَّلَ: ضرَبَ اللهُ مثَلًا عبدًا مَملوكًا لا يَملِكُ شيئًا، ورجلًا آخَرَ حُرًّا، له مالٌ حَلالٌ رزَقَه اللهُ إيَّاه، يَملِكُ التصَرُّفَ فيه، ويُعطي منه في السِّرِّ والعَلَنِ، فهل يستوي هذان الرَّجُلانِ؟ فكذلك اللهُ الخالِقُ المالِكُ المتصَرِّفُ؛ لا يَستوي مع خَلقِه وعَبيدِه، فكيف تُسَوُّونَ بينهما؟! الحمدُ للهِ وَحدَه؛ فهو المُستَحِقُّ للحَمدِ والثَّناءِ، بل أكثَرُ المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ أنَّ الله وَحْدَه هو المُستحِقُّ للعبادةِ والحَمدِ.

ثم قال تعالى مبيِّنًا المثلَ الثاني: وضرَبَ اللهُ مثَلًا آخَرَ: رَجُلينِ: أحدُهما أخرَسُ أصَمُّ لا يَعقِلُ ولا يَقدِرُ على مَنفعةِ نَفسِه أو غيرِه، وهو عِبءٌ ثقيلٌ على مَن يَلي أمْرَه ويَعولُه، إذا أرسَلَه مولاه لقضاءِ أمرٍ، لا ينجَحُ، ولا يعودُ عليه بخَيرٍ؛ ورجُلٌ آخَرُ سَليمُ الحَواسِّ، يَنفَعُ نَفسَه وغَيرَه، يأمُرُ بالإنصافِ، وهو على طريقٍ واضحٍ لا عِوَجَ فيه، فهل يستوي هذان الرَّجُلانِ؟! فكيف تُسَوُّون بين الصَّنَمِ الأبكَمِ الأصمِّ وبين اللهِ القادِرِ القائِمِ بالقِسطِ، المُنعِمِ بكُلِّ خَيرٍ؟!

ولله سُبحانَه وتعالى عِلْمُ ما غاب في السَّمَواتِ والأرضِ، وما أمرُ القيامةِ في سُرعةِ مَجيئِها إلَّا كنَظرةٍ سَريعةٍ بالبَصَرِ، بل هو أسرَعُ من ذلك، إنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.

تفسير الآيات:

 

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها تَبيينٌ لِقَولِه تعالى: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ [النحل:72] ، نعى عليهم فَسادَ نَظَرِهم في عبادةِ ما لا يُمكِنُ أن يقَعَ منه ما يَسعَى عابِدُه في تَحصيلِه منه، وهو الرِّزقُ، ولا هو في استطاعتِه

.

وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا شَرَح الدَّلائِلَ الدَّالَّةَ على صِحَّةِ التَّوحيدِ، وأتبَعَها بذِكرِ أقسامِ النِّعَمِ العَظيمةِ؛ أتبَعَها بالرَّدِّ على عَبَدةِ الأصنامِ .

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا.

أي: ويَعبُدُ المُشرِكونَ مِن دُونِ اللهِ أصنامًا ومَعبوداتٍ لا تَملِكُ أن تَرزُقَهم شَيئًا؛ لا مَطَرًا مِن السَّماءِ ولا نباتًا مِنَ الأرضِ .

وَلَا يَسْتَطِيعُونَ.

أي: ولا تَقدِرُ الأصنامُ والمَعبوداتُ مِن دُونِ اللهِ أن تَرزُقَ عابِديها شَيئًا؛ فليس لهم أيُّ نَوعٍ مِن أنواعِ الاستطاعةِ أصلًا .

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

بعدَ أن بيَّنَ اللهُ تعالى ضَعفَ هذه المعبوداتِ الباطلةِ وعَجزَها؛ رتَّب على ذلك ما هو كالنتيجةِ له، فقال :

فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ.

أي: فلا تَجعَلوا لله أندادًا وأمثالًا مِن مَخلوقاتِه؛ فإنَّه سُبحانَه لا مِثْلَ له، ولا نَظيرَ .

كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] .

وقال سُبحانَه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص: 4] .

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

أي: فلا تَضرِبوا لله الأمثالَ؛ لأنَّ اللهَ يَعلَمُ حقائِقَ الأشياءِ، وأنَّه لا شريكَ له، ولا مثيلَ له، ولا يخفَى عليه شيءٌ مِن أعمالِكم، وأنتم- أيُّها المُشرِكونَ- لا تَعلَمونَ ذلك، فتَقَعونَ بجَهلِكم في الشِّركِ به سُبحانَه .

ثم أكَّدَ اللهُ تعالى إبطالَ مَذهَبِ عَبَدةِ الأصنامِ بهذا المثالِ، فقال تعالى :

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أي: بالمعلوماتِ التي مِن جُملَتِها كيف يَضرِبُ الأمثالَ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ؛ عَلَّمَهم سُبحانَه كيف تُضرَبُ الأمثالُ ، فقال:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا.

أي: بيَّن اللهُ مثلًا لنَفسِه- تعالى- وللأصنامِ؛ كعَبدٍ مَملوكٍ عاجزٍ، لا يَملِكُ شَيئًا، فلا يَقدِرُ على شيءٍ مِنَ المالِ، ولا مِن أمْرِ نَفْسِه ورجُلٍ حُرٍّ غَنيٍّ آتاه اللهُ رِزقًا واسِعًا طيِّبًا، يَملِكُ التصرُّفَ فيه، فيُنفِقُ منه دائمًا في السرِّ والعَلانِيَةِ؛ إحسانًا منه إلى الآخَرينَ .

هَلْ يَسْتَوُونَ.

أي: هل يستوي العَبدُ والحُرُّ الموصوفان بما تقَدَّمَ مِن الصِّفاتِ؟ فكذلك اللهُ الذي له المُلْكُ وبِيَدِه الرِّزقُ، المتصَرِّفُ في مُلكِه كما يشاءُ؛ لا يستوي مع المَعبوداتِ العاجزةِ التي لا تَملِكُ شيئًا، ولا قُدرةَ لها على شَيءٍ، وأنتم تتَّخِذونَها شُرَكاءَ لله تعالى في عبادتِه، فكيف تُسَوُّونَ بينهما ؟!

الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.

أي: الحَمدُ الكامِلُ الخالِصُ لله المُنعِمِ المُستَحِقِّ لعبادةِ خَلقِه وشُكرِهم، دونَ ما يُعبَدُ مِن دُونِه؛ إذ لا نِعمةَ لتلك المَعبوداتِ على أحدٍ حتى تُحمَدَ عليها، ولكنَّ أكثَرَ المُشرِكينَ لا يَعلَمونَ أنَّ الله وَحْدَه هو المُستحِقُّ للعبادةِ والشُّكرِ؛ فهم يَعبُدونَ ويَحمَدونَ غَيرَه لجَهلِهم .

كما قال تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنبياء: 24] .

وقال سُبحانَه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 29] .

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76).

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ .

أي: وضرَبَ اللهُ لكم مثلًا لنَفسِه- تعالى- وللأصنامِ التي تُعبَدُ مِن دونِه؛ كرَجُلَينِ أحَدُهما لا يَنطِقُ، ولا يَسمَعُ، ولا يَعقِلُ، عاجِزٌ لا يَقدِرُ على فِعلِ شَيءٍ مِن جَلبِ نَفعٍ، أو دَفْعِ ضُرٍّ، فكذلك الأصنامُ لا تَسمَعُ، ولا تَنطِقُ، ولا تَعقِلُ شَيئًا؛ فهي مصنوعةٌ مِن خَشَبٍ ونُحاسٍ وغَيرِ ذلك .

وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ.

أي: وهو مع عدَمِ نُطقِه وعَجزِه ثَقيلٌ على مَن يلي أمْرَه ويَعولُه، فكذلك الصَّنَمُ ذو كُلفةٍ ومَشَقَّةٍ على من يَعبُدُه؛ حيثُ يَقومُ بحَملِه، ووَضْعِه، وخِدْمتِه .

أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ.

أي: أينما يُرسِلْه مَولاه في عمَلٍ لِيَعمَلَه لا ينجَحْ فيه، فهو لا يأتي بخَيرٍ، ولا يَقضي حاجةً؛ لعَجزِه وعدَمِ فَهمِه لِما يُقالُ له، وعَدَمِ قُدرتِه على التَّعبيرِ عمَّا يُريدُ؛ فكذلك الصَّنَمُ لا يَعقِلُ ما يُقالُ له، ولا يَنطِقُ بشَيءٍ، فلا يأتي بخيرٍ، أو يقضي حاجةً .

هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .

أي: هل يستوي هذا الأبكَمُ الكَلُّ على مَولاه الذي لا يأتي بخيرٍ حيثما توجَّهَ، ومَن هو ناطقٌ متكلِّمٌ قادِرٌ يأمُرُ بالحقِّ والقِسطِ، ويدعو إليه، وهو في نفسِه- مع ما ذُكِرَ مِن نَفعِه العامِّ- على طريقِ الحقِّ لا يَنحَرِفُ عنه، عامِلٌ بما يأمُرُ به، ويدعو إليه، ولا يتوجَّهُ إلى مطلَبٍ إلَّا ويبلُغُه بأقرَبِ سَعيٍ وأسهَلِه، فهو عادِلٌ في أقوالِه، مُستقيمٌ في أفعالِه؟! فإذا امتنَعَ التَّساوي بين هذين الصِّنفَينِ المَذكورَينِ، فكذلك يمتنِعُ التَّساوي بينَ الله سُبحانَه العادِلِ الذي يأمُرُ بالعَدلِ، وهو قائِمٌ بالقِسطِ على صراطٍ مُستقيمٍ، وبينَ ما يَجعَلونَه شُرَكاءَ له .

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ في الآيةِ الأولى مَثَلَ الكُفَّارِ بالأبكَمِ العاجِزِ، ومَثَلَ نَفسِه تعالى بالذي يأمُرُ بالعَدلِ، وهو على صِراطٍ مُستقيمٍ، ومعلومٌ أنَّه يَمتَنِعُ أن يكونَ آمِرًا بالعَدلِ، وأن يكونَ على صراطٍ مُستقيمٍ إلَّا إذا كان كامِلًا في العِلمِ والقُدرةِ- ذكَرَ في هذه الآيةِ بَيانَ كَونِه كامِلًا في العِلمِ والقُدرةِ .

وأيضًا لَمَّا تمَّ هذانِ المَثَلانِ الدَّالَّانِ على تَمامِ عِلمِه وشُمولِ قُدرتِه؛ عطَفَ على قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ التصريحَ بتمامِ عِلمِه، وشُمولِ قُدرتِه ، فقال تعالى:

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

أي: ولله وَحْدَه مُلْكُ ما غاب عن عِبادِه في السَّمَواتِ والأرضِ، وهو العالِمُ بكُلِّ شَيءٍ مِن الغُيوبِ سُبحانَه، دونَ الآلهةِ التي تُعبَدُ مِن دُونِه، ودونَ كُلِّ مَن سواه، لا يَملِكُ ذلك أحَدٌ غَيرُه، ولا اطِّلاعَ لأحدٍ على شَيءٍ مِن الغَيبِ إلَّا أن يُطلِعَه اللهُ عليه .

وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.

أي: وما أمرُ قيامِ السَّاعةِ في سُرعةِ وُجودِها، وبَعثِ الخَلقِ وسُهولتِه إلَّا كنَظرةٍ سَريعةٍ مِن البَصَرِ أو هي أسرَعُ مِن ذلك .

قال تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر: 50].

وقال عزَّ وجلَّ: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28] .

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أي: إنَّ اللهَ قادِرٌ على كلِّ شَيءٍ، ولا يُعجِزُه شَيءٌ، ومن ذلك قدرتُه على إقامةِ السَّاعةِ، والمجيءِ بها في أسرعِ ما يكونُ؛ فهو سبحانَه يقولُ للشَّيءِ: كُنْ. فيَكونُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الفائِدةُ في لَفظةِ يَسْتَطِيعُونَ أنَّ مَن لا يَملِكُ شَيئًا قد يكونُ مَوصوفًا باستطاعةِ أن يتَمَلَّكَه بطريقٍ مِن الطُّرُقِ، فبَيَّنَ تعالى أنَّ هذه الأصنامَ لا تَملِكُ، وليس لها أيضًا استطاعةُ تَحصيلِ المُلْك وذلك على أحدِ أوجُهِ التَّفسيرِ

.

2- قال الله تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يعتَقِدَ أنَّ اللهَ تبارك وتعالى مُماثِلٌ لأحدٍ مِن المَخلوقينَ؛ ولا أنَّ أحدًا مُماثِلٌ للهِ تعالى .

3- التَّعبيرُ بنَفيِ التَّمثيلِ- في الأسماءِ والصِّفاتِ- أَولى مِن التَّعبيرِ بنَفيِ التَّشبيهِ؛ وذلك لأمورٍ:

أولًا: أنَّه المُوافِقُ لِلَفظِ القُرآنِ في قَولِه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، و فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، ولم يَقُلْ: «ليس كشِبْهِه شَيءٌ»، ولا قال: «فلا تَضرِبوا للهِ الأشباهَ».

ثانيًا: أنَّ التَّشبيهَ صار وصْفًا يختَلِفُ النَّاسُ في فَهمِه؛ فعند بَعضِ النَّاسِ إثباتُ الصِّفاتِ يُسمَّى تَشبيهًا، ويُسَمُّونَ مَن أثبَتَ صِفةً لله مُشَبِّهًا!

ثالثًا: أنَّ نَفيَ التَّشبيهِ على الإطلاقِ بين صِفاتِ الخالِقِ وصِفاتِ المَخلوقِ لا يَصِحُّ؛ لأنَّه ما مِن صِفَتينِ ثابِتَتينِ إلَّا وبينهما اشتِراكٌ في أصلِ المعنى، وهذا الاشتِراكُ نَوعٌ مِن المُشابَهةِ؛ فالعِلمُ مثلًا: للإنسانِ عِلمٌ، وللرَّبِّ سُبحانَه عِلمٌ، فاشتَرَكا في أصلِ المعنى، لكِنْ لا يَستَويانِ، أمَّا التَّمثيلُ فيَصِحُّ أن تنفِيَه نَفيًا مُطلقًا !

4- قال الله تعالى: هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. قَولُه: هَلْ يَسْتَوُونَ إنَّما جُمِعَ الضَّميرُ وإن تقَدَّمَه اثنانِ؛ لأنَّ المُرادَ: جِنسُ العَبيدِ والأحرارِ المدلولِ عليهما بـ عَبْدًا وبـ (مَنْ رَزَقْنَاهُ). وقيل: على الأغنياءِ والفُقَراءِ المدلولِ عليهما بهما أيضًا. وقيل: اعتبارًا بمعنى مَنْ فإنَّ معناها جمعٌ، فراعَى معناها بعدَ أنْ راعى لَفظَها . وقيل: جَمَعَه نظرًا إلى أنَّ أقَلَّ الجَمعِ اثنانِ .

5- قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ لَمَّا كان الجوابُ قَطعًا: لا، وعُلِمَ أنَّ الفاضِلَ ما كان مِثالًا له سُبحانَه؛ عُلِمَ أنَّ مَن سَوَّى بينهما أو فعَلَ ما يَؤُولُ إلى التَّسويةِ أجهَلُ الجَهَلةِ، فثَبَت مَضمونُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وأنَّ غَيرَه تعالى لا يُساوي شيئًا، فثَبَت بلا رَيبٍ أنَّه المختَصُّ بالمَثَلِ الأعلى، فعبَّرَ عن ذلك بقَولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .

6- في قَولِه تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ جُعِلَ نفيُ صفةِ الكَلامِ مُوجِبًا لبُطلانِ الإلهيَّةِ، وهذا أمرٌ معلومٌ بالفِطَرِ والعُقولِ السَّليمةِ والكُتُبِ: أنَّ فاقِدَ صِفاتِ الكَمالِ لا يكونُ إلهًا، ولا مُدَبِّرًا، ولا ربًّا، بل هو مَذمومٌ مَعيبٌ ناقِصٌ، ليس له الحَمدُ لا في الأُولى، ولا في الآخرةِ، وإنَّما الحَمدُ في الأُولى والآخِرةِ لِمَن له صِفاتُ الكَمالِ، ونُعوتُ الجَلالِ، التي لأجْلِها استحَقَّ الحَمدَ .

7- قَولُه تعالى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بيَّنَ أنَّ التَّفضيلَ إنَّما يكونُ بالكَلامِ المتضَمِّنِ للعَدلِ، وبالعَمَلِ المُستقيمِ، وإلَّا فإنَّ مجرَّدَ الكلامِ والعَمَلِ قد يكونُ مَحمودًا، وقد يكونُ مَذمومًا؛ فالمحمودُ هو الذي يَستَحِقُّ صاحِبُه الحمدَ، فلا يستوي هذا والعاجزَ عن الكَلامِ والفِعلِ .

8- قال الله تعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ السَّاعةُ هي الوَقتُ الذي تقومُ فيه القيامةُ، سُمِّيَت ساعةً؛ لأنَّها تَفجَأُ الإنسانَ في ساعةٍ فيَموتُ الخَلقُ بصَيحةٍ واحدةٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ عَطفٌ على جُملتَيِ التَّوبيخِ، وهو مَزيدٌ مِن التَّوبيخِ؛ فإنَّ الجُملَتَينِ المعطوفَ عليهِما أفادَتَا تَوبيخًا على إيمانِهم بالآلهةِ الباطلةِ، وكُفرِهم بنِعْمةِ المعبودِ الحقِّ، وهذه الجُملةُ المعطوفةُ أفادَتِ التَّوبيخَ على شُكرِ ما لا يَستحِقُّ الشُّكرَ؛ فإنَّ العبادةَ شُكرٌ، فهُم عبَدوا ما لا يَستحِقُّ العبادةَ، ولا بِيَدِه نِعمةٌ، وهو الأصنامُ؛ لأنَّها لا تَملِكُ ما يَأتيهم مِن الرِّزقِ لاحْتِياجِها، ولا تَستطيعُ رِزقَهم لِعَجزِها؛ فمُفادُ هذه الجملةِ مُؤكِّدٌ لِمُفادِ ما قَبلَها مع اختِلافِ الاعتبارِ بمُوجِبِ التَّوبيخِ في كِلْتَيهِما

.

- قولُه: مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ فيه التَّعبيرُ عن الأصنامِ بصيغةِ مَا وهي لغيرِ أُولي العِلمِ، ثمَّ قال: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ والجمعُ بالواوِ والنُّونِ مُختصٌّ بأُولي العلمِ؛ وذلك لأنَّه عبَّر عنها بلفظِ مَا؛ اعتِبارًا لِمَا هو الحقيقةُ في نفسِ الأمرِ، وذكَر الجمعَ بالواوِ والنُّونِ اعتِبارًا لِمَا يَعتقِدون فيها أنَّها آلهةٌ؛ فأُجرِيَتْ عليها صيغةُ جمعِ العُقَلاءِ؛ مُجاراةً لاعتِقادِهم أنَّها تَعقِلُ وتَشفَعُ وتَستجيبُ .

- وأفرَد يَمْلِكُ نَظرًا إلى لفظِ مَا، وجَمَع يَسْتَطِيعُونَ نَظرًا إلى مَعناها، كما قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف: 12-13] .

- وقولُه: شَيْئًا مُبالَغةٌ في المنفيِّ، أي: ولا يَملِكون جُزءًا قَليلًا مِن الرِّزقِ .

- قوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ يجوزُ أن يكونَ عطفًا على لَا يَمْلِكُ، وأن يكونَ مُستأنفًا للإخبارِ عن حالِ الآلهةِ، ومفعولُ يَسْتَطِيعُونَ محذوفٌ، هو ضميرُ المِلْكِ، أي: لا يستطيعون أن يملِكوا ذلك ولا يُمكِنُهم، فالكلامُ تتميمٌ لسابِقِه، وفيه من الترقِّي ما فيه، فلا يكونُ نفيُ استطاعةِ المِلكِ بعد نفيِ مِلكِ الرِّزقِ غيرَ مُحتاجٍ إليه.

وإن جُعِلَ المفعولُ ضَميرَ الرِّزقِ يكونُ هذا النفيُ تأكيدًا لِما قبلَه.

وقيل: حُذِف مفعولُ يَسْتَطِيعُونَ لقَصدِ التَّعْمِيمِ، أي: لا يستطيعونَ شَيئًا.

ويجوزُ أن يكونَ الفِعلُ مُنزَّلًا منزلةَ اللازمِ، فيكونَ المرادُ نفيَ الاستطاعةِ عنهم مطلقًا، فالمعنى أنَّهم أمواتٌ لا قُدرةَ لهم أصلًا، فيكونَ تذييلًا للكلامِ السَّابقِ .

2- قوله تعالى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ

- قولُه: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ تفريعٌ على جميعِ ما سبَق مِن الآياتِ والعِبَرِ والمِنَنِ؛ إذْ قد استَقامَ مِن جَميعِها انفرادُ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ، ونَفيُ الشَّريكِ له فيما خلَق وأنعَم، وبالأولَى نفيُ أن يكونَ له ولَدٌ؛ فلا جَرَمَ استَتَبَّ للمَقامِ أن يُفرَّعَ على ذلك زجرُ المشرِكين عن تَمثيلِهم غيرَ اللهِ باللهِ في شيءٍ مِن ذلك، وأن يُمثِّلوه بالموجوداتِ .

- وفي قولِه: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ... الْتِفاتٌ إلى الخِطابِ؛ للإيذانِ بالاهتمامِ بشَأنِ النَّهيِ، أي: لا تُشرِكوا به شيئًا. والتَّعبيرُ عن ذلك بضَربِ المثَلِ؛ للقَصدِ إلى النَّهيِ عن الإشراكِ به تعالى في شأنٍ مِن الشُّؤونِ؛ فإنَّ ضرْبَ المثَلِ مَبْناه تشبيهُ حالةٍ بحالةٍ، وقِصَّةٍ بقِصَّةٍ، أي: لا تُشبِّهوا بشأنِه تعالى شأنًا مِن الشُّؤونِ .

- قولُه: فَلَا الفاءُ للدَّلالةِ على تَرتُّبِ النَّهيِ على ما عَدَّد مِن النِّعَمِ الفائضةِ عليهم مِن جِهَتِه سُبحانَه .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ تعليلٌ للنَّهيِ المذكورِ، وهو النَّهيُ عن الشِّركِ، ووعيدٌ على المنهيِّ عنه، وتنبيه على أنَّ جهلَهم هو الذي أوقَعهم في تلك السخافاتِ مِن العقائدِ، وأنَّ الله إذ نهاهم وزجَرهم عن أن يشبِّهوه بما شبَّهوه إنَّما نهاهم لعلمِه ببطلانِ اعتقادِهم . ويجوزُ أن يُرادَ: فلا تَضرِبوا للهِ الأمثالَ؛ إنَّ اللهَ يَعلَمُ كيف يَضرِبُ الأمثالَ، وأنتُم لا تَعلَمون . وقيل غيرُ ذلك.

3- قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أعقَب زَجْرَهم عن أن يُشبِّهوا اللهَ بخَلقِه، أو أن يُشبِّهوا الخلقَ بربِّهم بتمثيلِ حالِهم في ذلك بحالِ مَن مَثَّل عبدًا بسيِّدِه في الإنفاقِ، فجُملةُ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا... مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا ناشِئًا عن قولِه تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [النحل: 73] ، فشبَّه حالَ أصنامِهم في العجزِ عن رزقِهم بحالِ مملوكٍ لا يَقدِرُ على تَصرُّفٍ في نفسِه، ولا يَملِكُ مالًا، وشبَّه شأنَ اللهِ تعالى في رزقِه إيَّاهم بحالِ الغَنيِّ المالِكِ أمْرَ نفسِه بما شاء مِن إنفاقٍ وغيرِه، ومعرفةُ الحالَين المشبَّهتَين يَدُلُّ عليها المَقامُ، والمقصودُ نفيُ المماثَلةِ بينَ الحالَتَينِ، فكيف يَزعُمون مُماثَلةَ أصنامِهم للهِ تعالى في الإلهيَّةِ؟! ولذلك أُعقِب بجُملةِ: هَلْ يَسْتَوُونَ، وذيَّل هذا التَّمثيلَ بقولِه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .

- قولُه: عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فائدةُ ذِكْرِه مَمْلُوكًا بعدَ قولِه: عَبْدًا الاحترازُ عن الحُرِّ؛ فإنَّه عبدٌ للهِ تعالى، وليس مَملوكًا لغيرِه، وفائدةُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ بعدَ قولِه: مَمْلُوكًا الاحترازُ عن المأذونِ له، والمكاتَبِ؛ لقُدرتِهما على التَّصرُّفِ استِقلالًا ؛ فوصَف عَبْدًا هنا بقولِه: مَمْلُوكًا تأكيدًا للمَعْنى المقصودِ، وإشعارًا لِمَا في لفظِ (عبدٍ) مِن معنى المملوكيَّةِ المقتضِيَةِ أنَّه لا يتَصرَّفُ في عمَلِه تَصرُّفَ الحُرِّيَّةِ .

- قولُه: وَمَنْ رَزَقْنَاهُ فيه الْتِفاتٌ إلى التَّكلُّمِ؛ للإشعارِ باختلافِ حالَيْ ضَرْبِ المثَلِ والرِّزقِ .

- في قولِه: فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا الفاءُ لِتَرتيبِ الإنفاقِ على الرِّزقِ، كأنَّه قيل: ومَن رزَقْناه مِنَّا رِزقًا حسَنًا فأنفَق. وإيثارُ ما عليه النَّظْمُ الكريمُ مِن الجملةِ الاسميَّةِ الفعليَّةِ الخَبرِ؛ للدَّلالةِ على ثَباتِ الإنفاقِ، واستِمْرارِه التَّجدُّديِّ . وفُرِّعَت جملةُ فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ على الَّتي قَبلَها دونَ أن تُجعَلَ صِفةً للرِّزقِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ مَضمونَ كِلْتا الجُملَتَينِ مَقصودٌ لِذاتِه كَمالٌ في مَوصوفِه؛ فكَونُه صاحِبَ رِزقٍ حسَنٍ كَمالٌ، وكونُه يتَصرَّفُ في رزقِه بالإعطاءِ كمالٌ آخَرُ، وكِلاهُما بضِدِّ نَقائِصِ المملوكِ الَّذي لا يَقدِرُ على شيءٍ من الإنفاقِ، ولا ما يُنفَقُ مِنه. وجعَل المسنَدَ فِعلًا يُنْفِقُ؛ للدَّلالةِ على التَّقوِّي، أي: يُنفِقُ إنفاقًا ثابتًا. وجعَل الفِعلَ مُضارِعًا؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والتَّكرُّرِ، أي: يُنفِقُ ويَزيدُ .

- قولُه: سِرًّا وَجَهْرًا حالانِ مِن ضميرِ يُنْفِقُ، وهما مَصْدَرانِ مُؤوَّلانِ بالصِّفةِ، أي: مُسِرًّا وجاهِرًا بإنفاقِه، والمقصودُ مِن ذِكرِهما: تعميمُ الإنفاقِ، كنايةً عن استِقْلالِ التَّصرُّفِ، وعدَمِ الوِقايةِ مِن مانعٍ إيَّاه عن الإنفاقِ .

- وفي قولِه: سِرًّا وَجَهْرًا تقديمُ السِّرِّ على الجهرِ؛ للإيذانِ بفَضلِه عليه. والعُدولُ عن تَطبيقِ القَرينَتَينِ بأن يُقالَ: (وحُرًّا مالِكًا للأموالِ)- مع كونِه أدَلَّ على تَبايُنِ الحالِ بينَه وبينَ قَسِيمِه- لِتَوخِّي تحقيقِ الحقِّ بأنَّ الأحرارَ أيضًا تحتَ رِبْقةِ عُبوديَّتِه سُبحانَه وتَعالى، وأنَّ مالِكيَّتَهم لِمَا يَملِكونه ليسَت إلَّا بأن يَرزُقَهم اللهُ تعالى إيَّاه مِن غيرِ أن يكونَ لهم مَدخَلٌ في ذلك .

- وجملةُ: هَلْ يَسْتَوُونَ بيانٌ لجُملةِ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، فبيَّن غرَضَ التَّشبيهِ بأنَّ المثَلَ مُرادٌ منه عدَمُ تَساوي الحالَتَينِ؛ لِيَستدِلَّ به على عدَمِ مُساواةِ أصحابِ الحالةِ الأُولى لِصاحِبِ الصِّفةِ المشبَّهةِ بالحالةِ الثَّانيةِ. والاستِفْهامُ مُستعمَلٌ في الإنكارِ .

- وجملةُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مُعترِضةٌ بينَ الاستِفْهامِ المفيدِ للنَّفيِ في هَلْ يَسْتَوُونَ وبينَ الإضرابِ بـ (بل) الانتقاليَّةِ في بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، والمقصودُ مِن هذه الجملةِ: أنَّه تبيَّن مِن المثَلِ اختِصاصُ اللهِ بالإنعامِ، فوجَب أن يَختَصَّ بالشُّكرِ، وأنَّ أصنامَهم لا تَستحِقُّ أن تُشكَرَ، وجيءَ بهذه الجملةِ البَليغةِ الدَّلالةِ، المفيدةِ انحِصارَ الحَمدِ في مُلكِ اللهِ تعالى، وهو إمَّا حَصرٌ ادِّعائيٌّ؛ لأنَّ الحمدَ إنَّما يَكونُ على نِعمةٍ، وغيرُ اللهِ إذا أنعَم فإنَّما إنعامُه مَظهَرٌ لِنِعمةِ اللهِ تعالى الَّتي جَرَتْ على يدَيْه، وإمَّا قصرٌ إضافيٌّ، قصرَ إفرادٍ للرَّدِّ على المشرِكين؛ إذ قسَّموا حَمْدَهم بيْنَ اللهِ وبينَ آلِهَتِهم .

- قولُه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فيه إسنادُ نَفْيِ العلمِ إلى أكثَرِهم؛ لأنَّ مِنهم مَن يَعلَمُ الحقَّ ويُكابِرُ؛ استِبْقاءً للسِّيادةِ، واستِجْلابًا لِطاعةِ دَهْمائِهم؛ فهذا ذَمٌّ لأكثَرِهم بالصَّراحةِ، وهو ذمٌّ لأقَلِّهم بوَصْمةِ المكابَرةِ والعِنادِ بطَريقِ التَّعريضِ .

4- قوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَمثيلٌ ثانٍ للحالَتَينِ بحالَتَينِ باختلافِ وجْهِ الشَّبَهِ، وقد قرَنَ في التَّمثيلِ هنا حالَ الرَّجُلَينِ ابتِداءً، ثمَّ فَصَّل في آخِرِ الكلامِ مع ذِكْرِ عدَمِ التَّسويةِ بينَهما بأسلوبٍ مِن نَظْمِ الكلامِ بَديعِ الإيجازِ؛ إذ حُذِف مِن صدْرِ التَّمثيلِ ذِكْرُ الرَّجلِ الثَّاني؛ للاقتصارِ على ذِكْرِه في استِنْتاجِ عدَمِ التَّسويةِ؛ تَفنُّنًا في المخالَفةِ بينَ أسلوبِ هذا التَّمثيلِ، وأسلوبِ سابِقِه الَّذي في قولِه تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا...، ومِثلُ هذا التَّفنُّنِ مِن مَقاصِدِ البُلَغاءِ؛ كَراهيةً للتَّكريرِ؛ لأنَّ تَكريرَ الأسلوبِ بمَنزِلةِ تَكريرِ الألفاظِ . وقيل: ومُقابِلُه رجلٌ موصوفٌ بما يُقابِلُ تلك الصِّفاتِ مِن النُّطقِ والقدرةِ والكفايةِ، ولكنَّه حذَفَ المقابِلَ؛ لِدَلالةِ مُقابِلِه عليه .

5- قوله تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

- قولُه: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ اللَّامُ فيه لامُ المِلْكِ، والإخبارُ بأنَّ الأشياءَ الخَفيَّةَ والعوالِمَ الَّتي لا تَصِلُ إلى مُشاهَدتِها حواسُّ المخلوقاتِ الأرضيَّةِ مِلكٌ للهِ؛ يَقتَضي بطَريقِ الكِنايةِ أيضًا أنَّه عالِمٌ بها. وتقديمُ المجرورِ وَلِلَّهِ أفاد الحَصْرَ، أي: له لا لغيرِه، ولامُ المِلْكِ أفادَتِ الحصرَ؛ فيكونُ التَّقديمُ مُفيدًا تأكيدَ الحَصْرِ، أو هو للاهتِمامِ .

- ووجهُ الشَّبَهِ هو كونُ لَمْحِ البصَرِ مَقدورًا بدونِ كُلفةٍ؛ لأنَّ لَمْحَ البصَرِ هو أمكَنُ وأسرَعُ حرَكاتِ الجَوارِحِ؛ فهو أيسَرُ وأسرَعُ مِن نقلِ الأرجُلِ في المشيِ، ومِن الإشارةِ باليَدِ. ويجوزُ أن يكونَ وجْهُ الشَّبهِ السُّرعةَ، أي: سُرعةَ الحُصولِ عندَ إرادةِ اللهِ، أي: ذلك يَحصُلُ فجأةً بدونِ أَماراتٍ، كقولِه: لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف: 187] ، والمقصودُ: إنذارُهم وتحذيرُهم مِن أن تَبْغَتَهم السَّاعةُ؛ لِيُقلِعوا عمَّا هم فيه مِن وقتِ الإنذارِ .

- قولُه: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ (أو) للإضرابِ الانتقاليِّ- على قولٍ-؛ إضرابًا عن التَّشبيهِ الأوَّلِ بأنَّ المشبَّهَ أقوى في وجهِ الشَّبهِ من المشبَّهِ به؛ فالمتكلِّمُ يُخيِّلُ للسَّامِعِ أنَّه يُريدُ تَقْريبَ المعنى إليه بطَريقِ التَّشبيهِ، ثمَّ يُعرِضُ عن التَّشبيهِ، بأنَّ المشبَّهَ أقْوى في وجهِ الشَّبهِ وأنَّه لا يَجِدُ له شَبيهًا، فيُصرِّحُ بذلك، فيَحصُلُ التَّقريبُ ابتِداءً ثمَّ الإعرابُ عن الحقيقةِ ثانيًا. ثمَّ المرادُ بالقُربِ في قولِه تعالى: أَقْرَبُ على الوجهِ الأوَّلِ في تفسيرِ لَمْحِ البصَرِ: هو القُربُ المكانيُّ؛ كنايةً عن كَونِه في المقدوريَّةِ بمنزِلةِ الشَّيءِ القريبِ التَّناوُلِ، كقولِه تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ، وعلى الوجهِ الثَّاني في تفسيرِه يَكونُ القُربُ قُربَ الزَّمانِ، أي: أقرَبُ مِن لَمْحِ البصَرِ حِصَّةً، أي: أسرَعُ حُصولًا .

===================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (78-83)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ

غريب الكلمات :

 

مُسَخَّرَاتٍ: أي: مُذَلَّلاتٍ، وأصلُ (سخر): يدُلُّ على استِذلالٍ

.

تَسْتَخِفُّونَهَا: أي: يَخِفُّ عليكم حَمْلُها، وأصلُ (خفف): يُخالِفُ الثِّقَلَ والرَّزانةَ .

ظَعْنِكُمْ: أي: سَفَرِكم وتَرْحالِكم، وأصلُ (ظعن): يدُلُّ على الشُّخوصِ مِن مكانٍ إلى مكانٍ .

وَأَوْبَارِهَا: جمعُ وبرٍ، وهو للإبلِ كالصوفِ للغنمِ، وهو خاصٌّ بالإبلِ .

أَثَاثًا: أي: مَتاعَ البَيتِ، وأصلُه: مِن الكَثرةِ والاجتِماعِ؛ اجتِماعِ بَعضِ المَتاعِ إلى بَعضٍ حتى يَكثُرَ، كالشَّعرِ الأثيثِ، وهو الكثيرُ المُلتَفُّ .

أَكْنَانًا: أي: مَواضِعَ تَستَكِنُّونَ بها، كالكُهوفِ والأسرابِ وغَيرِها، وأصلُ (كنن): يدُلُّ على سَترٍ وصَونٍ .

سَرَابِيلَ: أي: جميعَ ما يُلبَسُ على البَدَنِ، كالقُمُصِ والدُّروعِ وغيرِها .

بَأْسَكَمْ: أي: شِدَّةَ الطَّعنِ والضَّربِ والرَّميِ في الحَربِ، وأصلُ (بأس): يدلُّ على الشِّدَّةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخاطبُ اللهُ تعالى عبادَه معدِّدًا أنواعًا مِن نعمِه عليهم، فيقولُ: واللهُ أخرَجَكم- أيُّها النَّاسُ- مِن بُطونِ أمَّهاتِكم لا عِلمَ لكم بشَيءٍ، وجعَلَ لكم السَّمعَ والأبصارَ والقُلوبَ؛ لعَلَّكم تَشكُرونَ اللهَ، وتُفرِدونَه عزَّ وجَلَّ بالعبادةِ.

ثم ساق الله تعالى دَليلًا آخَرَ على وحدانيتِه، وكَمالِ قُدرتِه، فقال تعالى: ألم يَنظُروا إلى الطَّيرِ مُذَلَّلاتٍ للطَّيَرانِ في الهَواءِ بين السَّماءِ والأرضِ بأمرِ اللهِ تعالى؟ ما يُمسِكُهنَّ في الجوِّ، ويمنعُهنَّ مِن الوُقوعِ غيرُه سُبحانَه، إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى، لِقَومٍ يُؤمِنونَ.

ثمَّ ساق الله تعالى ألوانًا مِن النِّعمِ، منها ما يتعلَّقُ بنعمةِ المسكنِ، فقال: واللهُ سُبحانَه جعَلَ لكم مِن بُيوتِكم راحةً واستقرارًا، تأوُونَ إليها، وتَستَتِرونَ بها، وجعَلَ لكم مِن جُلودِ الأنعامِ خيامًا يَخِفُّ عليكم حَمْلُها وَقتَ تَرْحالِكم وحِلِّكم، وجعَلَ لكم مِن أصوافِ الغَنَمِ، وأوبارِ الإبِلِ، وأشعارِ المَعْزِ، أثاثًا لبُيوتِكم، ومتاعًا تتمَتَّعونَ به إلى أجلٍ مُسمًّى.

ثمَّ ذكَر الله تعالى نعمةَ الظِّلالِ والجبالِ واللباسِ فقال: والله جعَلَ لكم ما تَستَظِلُّون به مِن الأشجارِ وغَيرِها، وجعَلَ لكم مِن الجبالِ مغاراتٍ وكُهوفًا تَلجَؤونَ إليها عندَ الحاجةِ، فهي تحميكم مِن الحَرِّ والبَردِ، والأمطارِ والأعداءِ، وجعَلَ لكم ثيابًا تَقيكم الحَرَّ، وجعَلَ لكم مِن الحديدِ دروعًا وغيرَها تقيكم الطَّعنَ في حُروبِكم وتدفَعُ عنكم ضَرَرَ السِّلاحِ، كما أنعَمَ اللهُ عليكم بهذه النِّعَمِ يُتِمُّ نِعمَتَه عليكم؛ لتَخضعوا لأمرِ اللهِ وَحْدَه، ولا تُشرِكوا به شَيئًا في عبادتِه.

ثم قال تعالى مسليًا نبيَّه: فإنْ أعرَضوا عنك- يا مُحمَّدُ- بعدَ ما رأَوا مِن الآياتِ، فما عليك إلَّا البلاغُ الواضِحُ لِما أُرسِلتَ به، ولا لومٌ عليك ولا عتابٌ.

ثمَّ بيَّن الله تعالى موقفَ المشركينَ مِن نعمِ الله، فقال: يَعرِفُ هؤلاءِ المُشرِكونَ نِعمةَ الله عليهم ثمَّ يَجحَدونَها، وأكثَرُهم كافِرون.

تفسير الآيات:

 

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أمْرَ السَّاعةِ، وأنَّها كائِنةٌ لا محالةَ، فكان في ذلك دَلالةٌ على النَّشأةِ الآخرةِ، وتقَدَّمَ وَصفُ الكافرينَ بانتفاءِ العِلمِ؛ ذكَرَ تعالى النَّشأةَ الأُولَى، وهي إخراجُهم مِن بُطونِ أمَّهاتِهم غيرَ عالِمينَ شَيئًا، تنبيهًا على وقوعِ النَّشأةِ الآخِرةِ، ثمَّ ذكَرَ تعالى امتِنانَه عليهم بجَعلِ الحواسِّ التي هي سبَبٌ لإدراكِ الأشياءِ والعِلمِ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا انقضى توبيخُ المُشرِكينَ على إيمانِهم بالباطِلِ، وكُفرانِهم بالحَقِّ وما استتبَعَه، وختَمَ بأمرِ السَّاعةِ؛ عطَفَ على قَولِه تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ما هو مِن أدلَّةِ السَّاعةِ، وكمالِ القُدرةِ والفِعلِ بالاختيارِ مِن النَّشأةِ الأولى .

وأيضًا فإنَّها عَودٌ إلى إكثارِ الدَّلائِلِ على انفرادِ اللهِ بالتصَرُّفِ، وإلى تَعدادِ النِّعَمِ على البشَرِ، عطفًا على جملةِ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا بعدما فصَلَ بينَ تَعدادِ النِّعَمِ بما اقتضاه الحالُ مِن التذكيرِ والإنذارِ .

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا.

أي: واللهُ أخرَجَكم- أيُّها النَّاسُ- بقُدرتِه وعِلمِه مِن بُطونِ أمَّهاتِكم أطفالًا جاهِلينَ، لا عِلمَ لكم بشَيءٍ من أمورِ الدُّنيا والآخرةِ .

وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

أي: وخلَقَ لكم السمعَ الذي به تَسمَعونَ، والأبصارَ التي بها تُبصِرونَ، والأفئِدةَ التي بها تَعقِلونَ؛ كي تَشكُروا اللهَ على ما رزَقَكم، وتَستَعمِلوها في طاعتِه، فتَعبُدوه وَحْدَه ولا تَعصُوه .

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا دَليلٌ آخَرُ على كَمالِ قُدرةِ اللهِ تعالى وحِكمتِه؛ فإنَّه لولا أنَّه تعالى خلَقَ الطَّيرَ خِلقةً معها يُمكِنُه الطَّيرانُ، وخلَقَ الجَوَّ خِلقةً معها يُمكِنُ الطَّيرانُ فيه- لَمَا أمكَنَ ذلك؛ فإنَّه تعالى أعطى الطيرَ جناحًا يَبسُطُه مَرَّةً، ويَكسِرُه أخرى، مِثلَ ما يَعمَلُه السَّابِحُ في الماءِ، وخلَقَ الهواءَ خِلقةً لطيفةً رقيقةً، يَسهُلُ بِسَبَبِها خَرقُه والنَّفاذُ فيه، ولولا ذلك لَمَا كان الطَّيرانُ مُمكِنًا .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى مدارِكَ العِلمِ الثَّلاثةَ: السَّمعَ، والنَّظَر، والعَقلَ، والأوَّلانِ مُدرَكُ المَحسوسِ، والثَّالِثُ مُدرَكُ المَعقولِ؛ اكتفَى مِن ذِكرِ مُدرَكِ المحسوسِ بذِكرِ النَّظَرِ، فإنَّه أغرَبُ لِمَا يُشاهَدُ به مِن عَظيمِ المخلوقاتِ على بُعدِها المُتَفاوِتِ، كمُشاهَدتِه النَّيِّراتِ التي في الأفلاكِ. وجعَلَ هنا مَوضِعَ الاعتبارِ والتعَجُّبِ الحَيوانَ الطَّائِرَ، فإنَّ طَيرانَه في الهواءِ مع ثِقَلِ جِسمِه مِمَّا يُعجَبُ منه ويُعتبَرُ به. وتضَمَّنَت الآيةُ أيضًا ذِكرَ مُدرَكِ العَقلِ في كَونِه لا يَسقُطُ؛ إذ ليس تحتَه ما يَدعَمُه، ولا فَوقَه ما يتعَلَّقُ به، فيُعلَمُ بالعَقلِ أنَّه له مُمسِكٌ قادِرٌ على إمساكِه، وهو الله تعالى، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [الملك: 19] ، فانتظَمَ في الآيةِ ذِكرُ مُدرَكِ الحِسِّ ومُدرَكِ العَقلِ .

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ.

أي: ألم يَنظُرُوا إلى الطُّيورِ التي ذلَّلَ اللهُ لها الطَّيرانَ بأجنِحَتِها في الهواءِ بينَ السَّماءِ والأرضِ .

مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ.

أي: ما يُمسِكُ الطُّيورَ في الجوِّ إلَّا اللهُ بقُدرتِه .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [الملك: 19] .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

أي: إنَّ في تَسخيرِ اللهِ الطُّيورَ للطَّيرانِ في جوِّ السَّماءِ- حيث خلَقَها اللهُ تعالى خِلقةً تَصلُحُ معها للطَّيرانِ، وخلَقَ هذا الهواءَ اللَّطيفَ بحيث يُمكِنُ الطيرانُ فيه، مع إمساكِها في الهواءِ على خلافِ طَبْعِها- لَعَلاماتٍ ودَلالاتٍ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وكَمالِ قُدرتِه، وحِكمتِه وعِلْمِه، لِقَومٍ يُؤمِنونَ باللهِ ورُسُلِه .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)  .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما مَنَّ به عليهم مِن خَلْقِهم، وما خلَقَ لهم مِن مدارِكِ العِلمِ؛ ذكَرَ ما امتَنَّ به عليهم ممَّا يَنتَفِعونَ به في حياتِهم من الأمورِ الخارجةِ عن ذَواتِهم مِنَ البُيوتِ التي يَسكُنونَها، مِن الحَجَرِ والمَدَرِ والأخشابِ وغَيرِها ، فقال تعالى:

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا.

أي: واللهُ جعَل لكم- أيُّها النَّاسُ- مِن بُيوتِكم- كالتي مِن الحَجَرِ والمَدَرِ والخَشَبِ- مساكِنَ لكم تَستَقِرُّونَ فيها، وتأوُونَ إليها، وتَستَتِرونَ بها، وتقيكم الحَرَّ والبَردَ، وغوائِلَ السِّباعِ والهَوامِّ، وتنتَفِعونَ بها في غيرِ ذلك .

وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا

أي: وجعَلَ لكم- أيُّها النَّاسُ- خِيامًا مِن جُلودِ الأنعامِ، أو مِمَّا يَنبُتُ عليها مِن صُوفٍ وشَعرٍ ووَبَرٍ .

تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ.

أي: تَجِدونَ الخِيامَ خَفيفةَ الحَملِ والنَّقلِ في تَرْحالِكم، وفي حِلِّكم .

وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ.

أي: واللهُ جعَلَ لكم مِن أصوافِ الغَنَمِ وأوبارِ الإبِلِ وأشعارِ الماعِزِ أثاثًا تتَّخِذونَه لبُيوتِكم، وبَلاغًا تتبلَّغونَ وتَستَمتِعونَ به إلى أجَلٍ .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما مَنَّ به عليهم ممَّا سبَقَ ذِكرُه، وكانت بِلادُهم غالِبًا عليها الحَرُّ؛ ذكَرَ امتِنانَه عليهم بما يَقيهم الحَرَّ مِن خَلقِ الأجرامِ التي لها ظِلٌّ، كالشَّجرِ وغَيرِه مِمَّا يَمنَعُ مِن أذَى الشَّمسِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى ما يخُصُّ النَّاسَ؛ أتبَعَه ما يُشارِكونَ فيه سائِرَ الحيواناتِ، فقال تعالى :

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا.

أي: واللهُ جعَلَ لكم ممَّا خلَقَ مِن الأشجارِ والسَّحابِ والجِبالِ والبُيوتِ وغَيرِها ظِلالًا تستظلُّون بها من حرارة الشَّمس .

وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا.

أي: وجعل لكم مِن الجِبالِ مَغاراتٍ وحُصونًا تَحمِيكم مِن الحَرِّ والبَردِ، والأمطارِ والأعداءِ .

وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ.

أي: وجعَلَ لكم ثِيابًا تَدفَعُ عنكم ضَرَرَ الحَرِّ .

وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ.

أي: وجعَلَ لكم ثِيابًا- كالدُّروعِ وغَيرِها- تدفَعُ عنكم وقتَ الحَربِ ضَرَرَ السِّلاحِ .

كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ.

أي: كما أعطاكم اللهُ هذه النِّعَمَ، فكذلك يُتِمُّ نِعمَتَه عليكم بما تحتاجونَ إليه في دينِكم ودُنياكم؛ لتُخلِصوا له العِبادةَ، وتَخضَعوا له، وتَنقادوا لأمْرِه؛ لِما تَرَونَ مِن كَثرةِ إحسانِه بما لا يَقدِرُ عليه غيرُه، ولِتَكونَ تلك النِّعَمُ عَونًا لكم على طاعتِه سُبحانَه .

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82).

أي: فإنْ أعرَضَ المُشرِكونَ- يا مُحمَّدُ- عن دَعوتِك بعدَ هذا البَيانِ والامتنانِ، والتَّذكيرِ بالنِّعَم والإحسانِ، فلم يُؤمِنوا بك ويَستَجيبوا لك؛ فما عليك مِن لَومٍ ولا عِتابٍ؛ إذ ليس عليك إلَّا تَبليغُهم ما أرسَلَك اللهُ به تبليغًا واضِحًا، وقد أدَّيتَه إليهم، وليس عليك هدايتُهم ولا حِسابُهم .

يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83).

أي: يَعرِفُ المُشرِكونَ نِعَمَ اللهِ عليهم، ثم يَجحَدونَها، فلا يَشكُرونَ اللهَ عليها، ويَنسُبونَها إلى غَيرِه، ويُشرِكونَ به في عبادتِه ، وأكثرُهم الكافرون

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ هذا الصُّنعُ باعِثٌ على شُكرِ اللهِ بتَوحيدِه، ونَبذِ الإشراكِ؛ فإنَّ الإنعامَ يَبعَثُ العاقِلَ على الشُّكرِ؛ لهذا قال تعالى عَقِبَه: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ خَصَّ هذه الأعضاءَ الثَّلاثةَ؛ لِشَرَفِها وفَضلِها، ولأنَّها مِفتاحٌ لكُلِّ عِلمٍ، فلا وَصَلَ للعبدِ عِلمٌ إلَّا مِن أحَدِ هذه الأبوابِ الثَّلاثةِ، وإلَّا فسائِرُ الأعضاءِ والقُوى الظَّاهِرةِ والباطنةِ هو الذي أعطاهم إيَّاها، وجعَلَ يُنَمِّيها فيهم شيئًا فشيئًا إلى أن يَصِلَ كُلُّ أحدٍ إلى الحالةِ اللَّائقةِ به؛ وذلك لأجلِ أن يَشكُروا اللهَ، باستعمالِ ما أعطاهم مِن هذه الجوارِحِ في طاعةِ اللهِ، فمَنِ استعمَلَها في غيرِ ذلك كانت حُجَّةً عليه، وقابَلَ النِّعمةَ بأقبَحِ المُقابَلةِ .

3- أخبَرَ سُبحانَه أنَّ الشُّكرَ هو الغايةُ مِن خَلقِه وأمْرِه، بل هو الغايةُ التى خلَقَ عَبيدَه لأجْلِها وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فهذه غايةُ الخَلقِ، وغايةُ الأمرِ .

4- المقصودُ مِن قَولِ اللهِ تعالى: وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ الوَعظُ بأنَّهم صائِرونَ إلى زَوالٍ يَحولُ دونَ الانتفاعِ بها؛ لِيَكونَ النَّاسُ على أُهْبةٍ واستعدادٍ للآخِرةِ، فيَتَّبِعوا ما يُرضي اللهَ تعالى، كما قال تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا

 

[الأحقاف: 20] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- الأصلُ في الإنسانِ الجَهلُ، وهو ما يدُلُّ على نَقصِه؛ حيث كان ذلك هو الأصلَ فيه؛ قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، ثمَّ قال عزَّ وجلَّ: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، فبَيَّنَ طُرُقَ العِلمِ: السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وبهما الإدراكُ، ووَالْأَفْئِدَةَ وبها الوعيُ والحِفظُ

. وبما أنَّ الأصلَ في النَّاسِ الجَهلُ- استدلالًا بهذه الآيةِ- فلا يجوزُ استِفتاءُ رَجُلٍ غيرِ مَشهورٍ بالعِلمِ، حتى يُبحَثَ عن عِلمِه، ومَن ادَّعى جَهلَ شَيءٍ كان القَولُ قَولَه؛ لِمُوافقَتِه للأصلِ .

2- في ضِمنِ قَولِه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ إثباتُ النُّطقِ؛ لأنَّ مَن لم يسمَعْ لم يتكَلَّمْ، وإذا وُجِدَت حاسَّةُ السَّمعِ وُجِدَ النُّطقُ .

3- السَّمعُ والبَصَرُ، هاتان الحاسَّتانِ هما الأصلُ في العِلْمِ بالمعلوماتِ التي يمتازُ بها الإنسانُ عن البَهائمِ؛ ولِهذا يَقرُنُ اللهُ تعالى بينهما وبينَ الفُؤادِ في مواضِعَ مِن كِتابِه؛ مِن ذلك قَولُه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، فهما أعظَمُ آلاتِ الإدراكِ؛ إذ بهما إدراكُ أهَمِّ الجُزئيَّاتِ، وهما أقوى الوَسائِلِ لإدراكِ العُلومِ الضَّروريَّةِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ فيه جوازُ الانتفاعِ بجلودِ الأنعامِ ، والانتفاعِ بصوفِ الغنمِ، ووبرِ الإبلِ، وشعرِ المعزِ والبقرِ .

5- مِن الدَّليلِ على خَلقِ أعمالِ العِبادِ قَولُه تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ فأخبَرَ أنَّه هو الذي جعَلَ السَّرابيلَ، وهي الدُّروعُ والثِّيابُ المصنوعةُ، ومادَّتُها لا تُسَمَّى سرابيلَ إلَّا بعدَ أن تُحيلَها صَنعةُ الآدميِّينَ وعَمَلُهم، فإذا كانت مَجعولةً لله فهي مخلوقةٌ له تعالى، بجُملَتِها وصُورتِها، ومادَّتِها وهيئاتِها .

6- قَولُ اللهِ تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ فيه سؤالٌ: ما معنى قَولِه تعالى: وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ مع أنَّه كان كُلُّهم كافرينَ؟

الجوابُ مِن وجهينِ:

الأوَّلُ: أنَّ ظاهِرَ كَلِمةِ (أكثَر) وكَلِمة (الكافِرون) أنَّ الذين وُصِفوا بأنَّهم الكافِرونَ هم غالِبُ المُشرِكينَ لا جَميعُهم، فيُحمَلُ المُرادُ بالغالبِ على دَهماءِ المُشرِكينَ؛ فإنَّ مُعظَمَهم بُسَطاءُ العُقولِ، بُعَداءُ عن النَّظَرِ، فهم لا يشعُرونَ بنِعمةِ الله، فإنَّ نِعمةَ اللهِ تقتضي إفرادَه بالعبادةِ. فكان إشراكُهم راسِخًا، بخلافِ عُقَلائِهم وأهلِ النَّظَرِ؛ فإنَّ لهم ترَدُّدًا في نُفوسِهم، ولكِنْ يَحمِلُهم على الكُفرِ حُبُّ السِّيادةِ في قَومِهم، وقد تقَدَّمَ قَولُه تعالى فيهم: وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] ، وهم الذين قال الله تعالى فيهم في الآيةِ الأخرى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] . أو: لأنَّه كان فيهم مَن لم تقُمْ عليه الحُجَّةُ مِمَّن لم يَبلُغْ حَدَّ التَّكليفِ، أو كان ناقِصَ العَقلِ مَعتوهًا، فأراد بالأكثَرِ البالِغينَ الأصِحَّاءَ. أو: يكون المرادُ بالكافِرِ: الجاحدَ المعانِدَ، وحينَئذٍ يكونُ قد قال: وَأَكْثَرُهُمْ؛ لأنَّه كان فيهم مَن لم يكُنْ مُعانِدًا، بل كان جاهِلًا بصِدقِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما ظهَرَ له كونُه نبيًّا مِن عندِ الله.

الثاني: أنَّه ذكَرَ الأكثَرَ، والمرادُ الجميعُ؛ لأنَّ أكثرَ الشَّيءِ يقومُ مَقامَ الكُلِّ، فذِكرُ الأكثَرِ كذِكْرِ الجَميعِ، وهذا كقولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [لقمان: 25] .

7- في قَولِه تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا اجتماعُ الضِّدَّيْنِ في القلبِ؛ فجَمَعَ بين المعرفةِ والإنكارِ، وهذا كما يجتَمِعُ في الشَّخصِ الواحدِ خَصلةُ إيمانٍ وخَصلةُ كُفْرٍ، وخَصلةُ فُسوقٍ وخَصلةُ عَدالةٍ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

- قولُه: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ فيه تقديمُ المجرورِ لَكُمْ على المَنْصوباتِ؛ للإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بكَوْنِ المجعولِ نافِعًا لهم، ولِتَشويقِ النَّفسِ إلى المؤخَّرِ؛ لِيَتمكَّنَ عِندَ وُرودِه عليها فَضْلَ تَمكُّنٍ

.

- واقتَصَر على السَّمعِ والأبصارِ مِن بينِ الحواسِّ؛ لأنَّهما أهَمُّ، ولأنَّ بهما إدراكَ دَلائلِ الاعتقادِ الحقِّ . وتقديمُ السَّمعِ على البصَرِ؛ لِمَا أنَّه طريقُ تَلقِّي الوحيِ، أو لأنَّ إدراكَه أقدَمُ من إدراكِ البصَرِ، وإفرادُه باعتبارِ كونِه مصدرًا في الأصلِ .

- وجمَع (الأبصار والأفئدة) ولم يَجمعِ (السَّمعَ)، والحِكمةُ في ذلك هي: أنَّ السَّمع قوَّةٌ واحدةٌ، ولها فِعلٌ واحدٌ؛ فالإنسانُ لا يضبطُ في زمانٍ واحدٍ كلامين، والأذنُ مَحلُّ السَّمعِ ولا اختيارَ لها فيه؛ فإنَّ الصوتَ مِن أيِّ جانبٍ كان يَصِلُ إليه، ولا قُدرةَ لها على تَخصيصِ القُوَّةِ بإدراكِ البعضِ دونَ البَعضِ. وأما الإبصارُ فمَحلُّه العينُ ولها فيه شِبهُ اختيارٍ؛ فإنها تتحرَّكُ إلى جانبٍ مرئيٍّ دون آخَرَ، وكذلك الفؤادُ محلُّ الإدراكِ وله نوعُ اختيارٍ يلتفتُ إلى ما يُريدُ دون غَيرِه . وقيل: جَمَعَ (الأبصارَ والأفئِدةَ) دونَ السَّمعِ؛ لأنَّ التَّفاوُتَ فيهما أكثَرُ مِن التَّفاوُتِ فيه، بما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ تعالى . وقيل: جمَع الأبصارَ والأفئدةَ باعتبارِ تعدُّدِ أصحابِها، وأمَّا إفرادُ السَّمعِ فجَرَى على الأصلِ في إفرادِ المصدرِ؛ لأنَّ أصْلَ السَّمعِ أنَّه مَصدرٌ. وقيل: الجمعُ باعتبارِ المُتعلَّقاتِ؛ فلمَّا كان البصرُ يَتعلَّقُ بأنواعٍ كثيرةٍ مِن الموجوداتِ وكانتِ العقولُ تُدرك أجناسًا وأنواعًا، جُمِعَا بهذا الاعتبارِ، وأُفرِدَ السمعُ؛ لأنَّه لا يَتعلَّقُ إلَّا بنوعٍ واحدٍ، وهو الأصواتُ .

2- قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ موقِعُ هذه الجملةِ مَوقِعُ التَّعليلِ والتَّدليلِ على عَظيمِ قُدرةِ اللهِ وبَديعِ صُنعِه وعلى لُطفِه بالمخلوقاتِ، فإنَّه لَمَّا ذَكَر مَوهِبةَ العقلِ والحواسِّ الَّتي بها تَحصيلُ المنافِعِ، ودَفعُ الأضرارِ- نبَّه النَّاسَ إلى لُطفٍ يُشاهِدونه أَجْلى مُشاهَدةٍ لأضعَفِ الحيَوانِ، بأنَّ تَسخيرَ الجوِّ للطَّيرِ وخَلْقَها صالِحةً لأنْ تُرفرِفَ فيه بدُونِ تَعليمٍ هو لُطفٌ بها، اقْتَضاه ضَعفُ بُنيانِها؛ إذ كانَت عادِمةَ وَسائلِ الدِّفاعِ عن حَياتِها، فجعَل اللهُ لها سُرعةَ الانتقالِ معَ الابتعادِ عن تَناوُلِ ما يَعْدو عليها مِن البشَرِ والدَّوابِّ. فلأَجْلِ هذا الموقِعِ لم تُعطَفِ الجملةُ على الَّتي قَبْلَها؛ لأنَّها ليس في مَضمونِها نِعمةٌ على البشَرِ، ولكنَّها آيةٌ على قُدرةِ اللهِ تعالى وعِلْمِه، بخِلافِ نَظيرتِها في سورةِ (المُلكِ): أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ [الملك: 19] ، فإنَّها عُطِفَت على آياتٍ دالَّةٍ على قُدرةِ اللهِ تعالى؛ ولذلك المعنى عُقِّبَت هذه الآيةُ وَحْدَها بجُملةِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

- قولُه: أَلَمْ يَرَوْا... الاستِفْهامُ إنكاريٌّ، معناه: إنكارُ انْتِفاءِ رؤيتِهم الطَّيرَ مُسخَّراتٍ في الجوِّ بتَنْزيلِ رُؤيتِهم إيَّاها مَنزِلةَ عدَمِ الرُّؤيةِ؛ لانْعِدامِ فائدةِ الرُّؤيةِ مِن إدراكِ ما يَدُلُّ عليه المَرْئيُّ مِن انفرادِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ .

- قولُه: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال في سورةِ (المُلكِ): مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ [الملك: 19] ؛ فورَد في الأولى: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ وفي الثَّانيةِ: إِلَّا الرَّحْمَنُ، قيل في وجهِ ذلك: إنَّ آيةَ سورةِ (المُلكِ) لَمَّا انطَوَتْ على ذِكْرِ حالَينِ للطَّائرِ مِن صَفِّ جَناحَيه وقَبْضِهما، وهما حالَتان يَستريحُ إليهِما الطَّائرُ، فتارةً يَصُفُّ جَناحَيه كأنَّه لا حرَكةَ به، وتارَةً يَقبِضُهما إلى جنبَيْه حتَّى يُلزِقَهما بهِما، ثمَّ يَبسُطُهما ويَقبِضُهما مُوالاةً بسُرعةٍ كما يَفعَلُ السَّابِحُ، فناسَب هذا الإنعامَ منه تعالى وُرودُ اسْمِه الرَّحمنِ. أمَّا آيةُ (النَّحلِ) فلَم يَرِدْ فيها ذِكرُ هذه الاستراحةِ، فقيل هنا: مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ، وتَناسَب ذلك، ولم يُناسِبْ عَكسُ الوارِدِ .

- وجملةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ الإنكارَ على المشرِكين عدَمَ الانتفاعِ بما يرَوْنه مِن الدَّلائلِ يُثيرُ سُؤالًا في نَفْسِ السَّامعِ: أكان عدَمُ الانتفاعِ بدَلالةِ رُؤيةِ الطَّيرِ عامًّا في البشَرِ؟ فيُجابُ بأنَّ المؤمِنين يَستدِلُّون مِن ذلك بدَلالاتٍ كثيرةٍ. والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) مُناسِبٌ لاستفهامِ الإنكارِ على الَّذين لم يَرَوْا تلك الآياتِ؛ فأُكِّدَت الجملةُ الدَّالَّةُ على انتِفاعِ المؤمِنين بتلك الدَّلالةِ؛ لأنَّ الكلامَ مُوجَّهٌ للَّذينَ لم يَهْتَدوا بتِلك الدَّلالةِ؛ فهُم بمَنْزلةِ مَن يُنكِرُ أنَّ في ذلك دَلالةً للمُؤمِنين؛ لأنَّ المشرِكين يَنظُرون بمِرْآةِ أنفُسِهم .

- قولُه: لَآيَاتٍ فيه جمْعُ الآياتِ؛ لأنَّ في الطَّيرِ دَلائِلَ مُختلِفةً: مِن خِلْقةِ الهواءِ، وخِلْقةِ أجسادِ الطَّيرِ مُناسِبةً للطَّيَرانِ في الهواءِ، وخَلْقِ الإلهامِ للطَّيرِ بأن يَسبَحَ في الجوِّ، وبأن لا يَسقُطَ إلى الأرضِ إلَّا بإرادتِه ؛ ولِمَا في ذلك مِن الآياتِ: خِفَّةِ الطَّائرِ الَّتي جعَلها اللهُ فيه لأنْ يَرتفِعَ بها، وثِقَلِه الَّذي جعَله فيه لأنْ يَنزِلَ، والفَضاءِ الَّذي بينَ السَّماءِ والأرضِ، والإمساكِ الَّذي للهِ تعالى، أو جَمَع باعتبارِ ما في هذه الآيةِ والَّتي قَبْلَها .

- قولُه: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خُصُّوا بالذِّكرِ؛ لأنَّهم هم الَّذين ينتَفِعون بالاعتبارِ، ويتفَكرونَ فيما جُعِلَت آيةً عليه، وأمَّا غَيرُهم فإنَّ نظَرَهم نظَرُ لَهوٍ وغَفلةٍ، وأيضًا لِتَضمُّنِ الآيةِ أنَّ المسخِّرَ والممسِكَ لها هو اللهُ، فهو إخبارٌ منه تعالى ما يُصدِّقُ به إلَّا المؤمِنُ ، وكذلك خُصَّتِ الآياتُ بالمؤمنينِ؛ لأنَّهم بِخُلقِ الإيمانِ قد أَلِفوا إعمالَ تَفْكيرِهم في الاستدلالِ على حقائقِ الأشياءِ، بخِلافِ أهلِ الكُفرِ، فإنَّ خُلقَ الكُفرِ مَطْبوعٌ على النُّفْرةِ مِن الاقتداءِ بالنَّاصِحينَ وعلى مُكابَرةِ الحقِّ .

3- قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ

- قولُه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا... فيه تقديمُ لَكُمْ على ما سيَأتي مِن المجرورِ والمنصوبِ؛ للإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بأنَّه لِمَصلَحتِهم ومنفَعتِهم، ولِتَشويقِ النَّفسِ إلى وُرودِه .

- وفي هذه الآيَةِ ترتيبٌ بديعٌ، حيث ذكَر أوَّلًا ما غالِبُ البيوتِ عليه؛ مِن كونِها لا تُنقَلُ، بل يَنتقِلُ النَّاسُ إليها. ثمَّ ذكَر ثانيًا ما منَّ به علَينا مِن المتَّخَذِ مِن جُلودِ الأنعامِ، وهو ما يَنتقِلُ مِن القِبابِ والخِيامِ والفَساطيطِ الَّتي مِن الأَدَمِ، أو ذكَرَ أوَّلًا البيوتَ على طَريقِ العُمومِ، ثمَّ ذكَر بُيوتَ الجُلودِ خُصوصًا تَنْبيهًا على حالِ أكثَرِ العربِ؛ فإنَّهم لانْتِجاعِهم إنَّما بُيوتُهم مِن الجُلودِ .

- قوله: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ، اقتَصَر على هذه الثَّلاثةِ؛ لأنَّ بلادَهم لم تكُنْ بِلادَ قُطنٍ وكَتَّانٍ وحريرٍ، واندرَجَت في قَولِه بعدَ ذلك: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ، وإنَّما عدَّد عليهم ما أنعَم به عليهم، وخُوطبوا فيما عرَفوا بما فهِموا، وما قام مَقامَ هذه، وناب منابَها فيدخلُ في الاستعمالِ والنعمةِ مدخلَها .

4- قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ

- قولُه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا فذكَر الجبالَ، ولم يذكُرِ السَّهلَ؛ لأنَّهم كانوا أصحابَ جِبالٍ، ولم يكونوا أصحابَ سَهلٍ، فذكَرَ لهم نِعَمَه التي تختَصُّ بهم، وأيضًا: فذِكْرُ أحدِهما يدُلُّ على الآخَرِ .

- قولُه: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ، أي: والبَرْدَ، وإنَّما حَذَفه؛ لِدَلالةِ ضِدِّه عليه، وخَصَّ الحرَّ بالذِّكرِ؛ لأنَّ الخِطابَ بالقرآنِ أوَّلَ ما وقَع بالحِجازِ، والوِقايةُ مِن الحَرِّ أهَمُّ عندَ أهلِه .

وقيل: حُذِفَ الآخَرُ للعِلمِ به. ويُقالُ: هذا مِن بابِ التَّنبيهِ؛ فإنَّه إذا امتَنَّ عليهم بما يقي الحَرَّ فالامتِنانُ بما يقي البَرْدَ أعظَمُ؛ لأنَّ الحَرَّ أذًى؛ والبَردَ بُؤسٌ، والبَردُ الشَّديدُ يَقتُلُ، والحَرُّ قَلَّ أن يقَعَ فيه هكذا، فإنَّ بابَ التَّنبيهِ والقياسِ كما يكونُ في خِطابِ الأحكامِ يكونُ في خِطابِ الآلاءِ، وخِطابِ الوَعدِ والوَعيدِ.

وقيل: إنَّه قد تقَدَّمَ ذِكرُ وقايةِ البَردِ في أوَّلِ السُّورةِ بقَولِه تعالى: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [النحل: 5] فيُقالُ: لمَ فَرَّقَ هذا؟ فيُقالُ- واللهُ أعلَمُ: المذكورُ في أوَّلِ السُّورةِ النِّعَمُ الضَّروريَّةُ التي لا يقومونَ بدُونِها: مِن الأكلِ وشُربِ الماءِ القَراحِ (الصافي الخالص)، ودَفعِ البَردِ، والرُّكُوبِ الذي لا بُدَّ منه في النُّقلةِ، وفي آخِرِها ذكَرَ كمالَ النِّعَمِ: من الأشْرِبةِ الطَّيِّبةِ، والسُّكونِ في البُيوتِ، وبيوتِ الأَدمِ، والاستِظلالِ بالظِّلالِ، ودَفعِ الحَرِّ والبَأسِ بالسَّرابيلِ، ففي الأوَّلِ الأُصولُ، وفي الآخِرِ الكَمالُ؛ ولهذا قال: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ .

- قولُه: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ تَذييلٌ لِمَا ذكَر مِن النِّعمِ .

5- قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ تفريعٌ على جملةِ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ، وقَع اعتِراضًا بينَ جُملةِ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ، وجُملةِ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا، وقد حوَّل الخِطابَ عنهم إلى خِطابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو نوعٌ مِن الالْتِفاتِ، فيه الْتفاتٌ مِن أسلوبٍ إلى أسلوبٍ، والْتِفاتٌ عمَّن كان الكلامُ مُوجَّهًا إليه بتَوجيهِ الكلامِ إلى شَخصٍ آخَرَ، والمعنى: كذَلك يُتِمُّ نِعمَتَه علَيكم لِتُسلِموا، فإن لم يُسْلِموا فإنَّما عليك البَلاغُ، والمقصودُ: تَسْليةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على عدَمِ استِجابَتِهم .

- قولُه: فَإِنْ تَوَلَّوْا يَحتمِلُ أن يَكونَ ماضِيًا، أي: فإن أعرَضوا عن الإسلامِ، ويَحتمِلُ أن يَكونَ مُضارِعًا، أي: فإن تتَولَّوْا، وحُذِفَت التَّاءُ، ويكونَ جارِيًا على الخِطابِ السَّابقِ، والماضي على الالتفاتِ .

- وفي قولِه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ذكَر سبَبَ العُذرِ وهو البَلاغُ؛ لِيَدُلَّ على المسبَّبِ؛ فالتَّقديرُ: فإن تَولَّوْا فلم يَقبَلوا مِنك فقد تَمهَّد عُذرُك بعدَما أدَّيتَ ما وجَب عليك مِن التَّبليغِ ، والقصرُ إضافيٌّ، أي: ما علَيك إلَّا البلاغُ لا تَقْليبُ قُلوبِهم إلى الإسلامِ، أوْ: لا تَولِّي جَزائِهم على الإعراضِ، بل علَينا جَزاؤُهم، وجُعِل هذا جَوابًا لجُملةِ فَإِنْ تَوَلَّوْا مِن إقامةِ السَّببِ والعِلَّةِ مَقامَ المسبَّبِ والمعلولِ، وتقديرُ الكلامِ: فإنْ تَولَّوْا فلا تَقْصيرَ ولا مُؤاخَذةَ عليك؛ لأنَّك ما عليك إلَّا البَلاغُ .

6- قوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ إخبارٌ عنهم على سَبيلِ التَّقْريعِ والتَّوبيخِ ، وهو استئنافٌ لبيانِ أنَّ تَولِّيَهم وإعراضَهم عن الإسلامِ ليس لِعَدمِ مَعرفتِهم بما عدَّد مِن نِعَمِ اللهِ تعالى أصلًا؛ فإنَّهم يَعرِفونها ويَعترِفون أنَّها مِن اللهِ تعالى ، ولأنَّ تَولِّيَهم عن الإسلامِ مع وَفْرةِ أسبابِ اتِّباعِه يُثيرُ سُؤالًا في نَفْسِ السَّامعِ: كيف خَفِيَت عليهم دَلائلُ الإسلامِ؟ فيُجابُ بأنَّهم عرَفوا نِعمةَ اللهِ، ولكنَّهم أعرَضوا عنها إنكارًا ومُكابَرةً .

- قولُه: ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا معنى (ثُمَّ) هنا: للدَّلالةِ على أنَّ إنكارَهم مُستبعَدٌ بعدَ حُصولِ المعرفةِ؛ لأنَّ حقَّ مَن عرَف النِّعمةَ أن يَعترِفَ لا أن يُنكِرَ ؛ فـ (ثمَّ) للتَّراخي الرُّتْبيِّ، كما هو شأنُها في عَطْفِ الجُمَلِ؛ فهو عطفٌ على جملةِ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ، وكأنَّه قيل: ويُنكِرونها؛ لأنَّ (ثمَّ) لَمَّا كانت للعطفِ اقتَضَتِ التَّشريكَ في الحكمِ، ولَمَّا كانت للتَّراخي الرُّتبيِّ زال عنها مَعْنى المُهْلةِ الزَّمانيَّةِ الموضوعةِ هي له؛ فبَقِي لها معنى التَّشريكِ، وصارت المهلةُ مُهلةً رُتبيَّةً؛ لأنَّ إنكارَ نعمةِ اللهِ أمرٌ غريبٌ .

===================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (84-89)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات :

 

يُسْتَعْتَبُونَ: أي: يُطلَبُ منهم أن يُزيلُوا غَضَبَ رَبِّهم بالتَّوبةِ وصالحِ العَمَلِ؛ مِن الاستِعتابِ: وهو الرُّجُوعُ عَن الإساءَةِ، والتَّعَرُّضُ لِطَلَبِ الرِّضا، وأصلُ الكَلِمةِ مِن (العَتْبِ): وهو الغَضَب والمَلامةُ، يُقالُ: عتَبَ عليه يَعتِبُ: إذا غَضِبَ عليه ولامَه، وأعتَبَه: إذا أزالَ عنه عَتْبَه، واستَعْتَبَه: إذا طلَبَ منه الإعتابَ، أي: الرِّضا

.

السَّلَمَ: أي: الاستِسلامَ والانقيادَ لأمرِ اللهِ وحُكمِه، يُقالُ: سَلَّم واستسلَمَ وأسلَمَ: إذا انقادَ وخضَع، ومنه الإسلامُ: وهو الطَّاعةُ والانْقيادُ لِله عَزَّ وجلَّ، وأصلُ (سلم): يدُلُّ على الصِّحَّةِ والعافيةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ويومَ نَبعَثُ مِن كُلِّ أمَّةٍ رَسولَها الذي أُرسِلَ إليها، يَشهَدُ عليهم، ثمَّ لا يُؤذَنُ للذينَ كَفَروا بالاعتِذارِ عن كُفرِهم، ولا يُطلَبُ منهم إرضاءُ رَبِّهم. وإذا رأى المشركونَ عذابَ اللهِ في الآخرةِ، فلا يُخفَّفُ عنهم منه شَيءٌ، ولا يُمهَلونَ، وإذا رأى المُشرِكونَ يومَ القيامةِ آلهَتَهم التي عَبَدوها مع اللهِ، قالوا: رَبَّنا هؤلاءِ الذين كُنَّا نَعبُدُهم مِن دُونِك، فقالت آلهتُهم المزعومةُ: إنَّكم- أيُّها المُشرِكونَ- لَكاذِبونَ في اتِّخاذِنا شُرَكاءَ لله! وانقاد المُشرِكون لأمرِ اللهِ واستسلَموا وخضَعوا، وغاب عنهم ما كانوا يختَلِقونَه مِن أنَّ آلهتَهم ستَشفَعُ لهم.

ثم قال الله متوعدًا مَن كفَر، وصدَّ عن سبيلِه: الذين كفَروا ومَنَعوا غَيرَهم مِن الإيمانِ باللهِ ورسولِه زِدْناهم عذابًا فوقَ عذابِهم؛ بسَبَبِ إفسادِهم وصَدِّهم النَّاسَ عن الهدى.

واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- يومَ نبعَثُ في كُلِّ أمَّةٍ رَسولَهم شَهيدًا عليهم، وجِئْنا بك شَهيدًا على أمَّتِك يومَ القيامةِ. ونَزَّلْنا عليك القُرآنَ موضِّحًا لكُلِّ شيءٍ، وهاديًا مِن الضَّلالِة، ورَحمةً لِمَن صدَّقَ وعَمِلَ به، ومُبَشِّرًا للمُؤمِنينَ بحُسنِ عاقِبتِهم.

تفسير الآيات:

 

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا بَيَّنَ مِن حالِ القَومِ أنَّهم عَرَفوا نِعمةَ اللهِ ثمَّ أنكَروها، وذكَرَ أيضًا مِن حالِهم أنَّ أكثَرَهم الكافِرونَ؛ أتبَعَه بالوعيدِ، فذكَرَ حالَهم يومَ القيامةِ، فقال

:

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا .

أي: ويومَ نَبعَثُ مِن كُلِّ أمَّةٍ شاهِدًا عليهم- وهو رَسولُهم الذي أُرسِلَ إليهم- لِيَشهَدَ بما أجابَتْه به أُمَّتُه فيما بلَّغَها عن اللهِ تعالى .

ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا.

أي: ثمَّ لا يُعطَى الذين كَفَروا الإذْنَ للاعتذارِ إلى اللهِ مِن كُفرِهم .

كما قال تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35-36] .

وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ .

أي: ولا يُطلَبُ مِن الكافرينَ أن يُرضُوا اللهَ، ولا هم يُرَدُّون إلى الدُّنيا ليَتوبوا، ويَعمَلوا بما أمَرَ اللهُ تعالى به .

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85).

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ.

أي: وإذا رأى المُشرِكونَ النَّارَ، فلا يُخفَّفُ عنهم عَذابُها بأيِّ نَوعٍ مِن أنواعِ التَّخفيفِ .

كما قال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف: 53] .

وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ.

أي: ولا هم يُمهَلونَ عن العَذابِ، ولا يُؤخَّرونَ عن دُخولِ النَّارِ حين يَرَونَها ولو لَحظةً .

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86).

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ .

أي: وإذا رأى المُشرِكونَ يومَ القيامةِ مَعبوداتِهم التي جَعَلوها شُرَكاءَ لله في العبادةِ، قالوا: ربَّنا هؤلاءِ الذين كنَّا نَعبُدُهم مِن دُونِك، ونَجعَلُهم شُرَكاءَ لك .

فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ .

أي: فقال للمُشرِكينَ شُرَكاؤُهم الذين كانوا يَعبُدونَهم: إنَّكم لكاذِبونَ في ادِّعائِكم أنَّنا آلِهةٌ، وما أمَرْناكم بعِبادتِنا .

كما قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ [يونس: 28] .

وقال سُبحانَه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81-82] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت: 25] .

وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5-6] .

وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87).

وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ.

أي: واستسْلَم المُشرِكونَ يومَ القيامةِ لله، وذلُّوا وانقادُوا خاضِعينَ لحُكمِه فيهم، وعَلِموا أنَّهم مُستَحِقُّونَ للعذابِ .

كما قال تعالى: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [الصافات: 25-26] .

وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ.

أي: وغاب عن المُشرِكينَ ما كانوا يَعبُدونَه في الدُّنيا، واضْمَحلَّ ما كانوا يَفتَرونَه مِن أنَّ آلهتَهم ستشفَعُ لهم، وتُقَرِّبُهم إلى اللهِ زُلْفى، فليس لهم ناصرٌ ولا معينٌ !

كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] .

وقال سُبحانَه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [القصص: 74-75] .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى وعيدَ الذين كَفَروا؛ أتبَعَه بوَعيدِ مَن ضَمَّ إلى كُفرِه صَدَّ الغَيرِ عن سَبيلِ الله، فقال تعالى :

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88).

أي: الذين كَفَروا وكَذَّبوا بالحَقِّ لَمَّا جاءَهم، وصَدُّوا النَّاسَ عن اتِّباعِ الإسلامِ؛ زِدْناهم في النَّارِ عذابًا على ما بهم مِن العذابِ؛ لأنَّهم كانوا يُفسِدونَ في الأرضِ بصَدِّهم النَّاسَ عن اتِّباعِ الحَقِّ .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه في قَولِ الله عزَّ وجلَّ: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ قال: (عَقارِب أنيابُها كالنَّخلِ الطِّوالِ) .

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89).

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

أي: واذكُرْ- يا مُحمَّدُ- يومَ نَبعَثُ في كُلِّ أمَّةٍ نَبيًّا شاهِدًا عليهم، وهو منهم، ويتحدَّثُ بلسانِهم .

وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ.

أي: وجِئْنا بك يومَ القيامةِ شاهِدًا على أمَّتِك .

كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] .

وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ ما شَرَّفَه اللهُ به من الشَّهادةِ على أمَّتِه، ذكَرَ ما أنزَلَ عليه مِمَّا فيه بيانُ كُلِّ شَيءٍ مِن أمورِ الدِّينِ؛ ليُزيحَ بذلك عِلَّتَهم فيما كُلِّفوا، فلا حُجَّةَ لهم ولا مَعذِرةَ .

وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ.

أي: ونزَّلْنا عليك القُرآنَ مُبَيِّنًا لكُلِّ شَيءٍ يَحتاجُ النَّاسُ إلى بيانِه، مِن أمورِ دينِهم ودُنياهم وآخِرتِهم .

كما قال تعالى: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف: 111] .

وقال سُبحانَه: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل: 64] .

وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ .

أي: ونَزَّلْنا عليك القُرآنَ هاديًا مِن الضَّلالةِ، ورَحمةً في الدُّنيا والآخرةِ، ومُبَشِّرًا بالخَيرِ في العاجِلِ والآجِلِ للمُسلمينَ المُنقادينَ لحُكمِه، الخاضِعينَ له بتَوحيدِه وطاعتِه سُبحانَه

 

.

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 57-58] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء: 9] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82] .

الفوائد التربوية:

 

قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ أي: هذه الزِّيادةُ مِن العذابِ إنَّما حَصَلَت مُعَلَّلةً بذلك الصَّدِّ، وهذا يدُلُّ على أنَّ مَن دعا غَيرَه إلى الكُفرِ والضَّلالِ، فقد عَظُمَ عَذابُه، فكذلك إذا دعا إلى الدِّينِ واليَقينِ، فقد عَظُمَ جزاؤُه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا أضافوهم إلى أنفُسِهم؛ لأنَّه لا حقيقةَ لِشَرِكتِهم سوى تَسميتِهم لها المُوجِبةِ لضَرِّهم

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ فيه سؤالٌ: لم قالت الأصنامُ للمُشرِكينَ ذلك، مع أنَّهم كانوا صادقينَ فيه؟

الجوابُ من وجوهٍ:

الأول: أنهم قالوه لهم لتظهَرَ فَضيحتُهم؛ حيث عَبَدوا مَن لا يَعلَمُ بعِبادتِهم .

الثاني: أنَّ تكذيبَهم لهم منصبٌّ على زعمِهم أنَّهم آلهةٌ، وأنَّ عبادتَهم حقٌّ، وأنَّها تقرِّبُهم إلى الله زلفى. ولا شكَّ أنَّ كلَّ ذلك مِن أعظمِ الكذبِ وأشنعِ الافتراءِ .

الثالث: أنَّهم لَمَّا كانوا غيرَ راضِينَ بعِبادتِهم، فكأنَّ عِبادتَهم لم تَكُنْ عِبادةً، والدَّليلُ عليه قولُ الملائكةِ: قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 41] ، يَعْنون أنَّ الجِنَّ كانوا راضِينَ بعِبادتِهم، لا نَحن؛ فهُم المعبودونَ دونَنا .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ فيه سُؤالٌ: كيف أثبَتَ للأصنامِ نُطقًا هنا، ونفاه عنها في قَولِه تعالى في الكهفِ: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ؟

الجواب: المُثبَتُ لهم هنا النُّطقُ بتَكذيبِ المُشرِكينَ في دعوى عبادتِهم لها، والمنفيُّ عنهم في الكَهفِ النُّطقُ بالإجابةِ إلى الشَّفاعةِ لهم، ودَفْعِ العذابِ عنهم، فلا تنافيَ .

4- قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ وفائدةُ قولِهم ذلك مع أنَّه تعالى عالِمٌ بهِم: أنَّهم لَمَّا أنكَروا الشِّرْكَ بقولِهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كنَّا مُشْرِكينَ [الأنعام: 23] عاقَبَهم اللهُ بإصماتِ ألسِنَتِهم، وأنطَقَ جوارِحَهم، فقالوا عِندَ مُعايَنةِ آلهتِهم: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا فأقرُّوا بعدَ إنكارِهم؛ طلَبًا للرَّحمةِ، وفِرارًا مِن الغضبِ، فكان هذا القولُ على وَجْهِ الاعترافِ مِنهم بالذَّنبِ، لا على وجهِ إعلامِ مَن لا يَعلَمُ، أو أنَّهم لَمَّا عايَنوا عَظيمَ غضَبِ اللهِ، قالوا ذلك رجاءَ أن يُلزِم اللهُ الأصنامَ ذُنوبَهم فيَخِفَّ عنهم العذابُ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ هذا دليلٌ على تفاوُتِ الكُفَّارِ في عذابِهم، كما يتفاوَتُ المُؤمِنونَ في مَنازِلِهم في الجَنَّة ودَرَجاتِهم، كما قال الله تعالى: قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 38] . وتفاوتُ أهل النارِ في العذابِ، هو بحسبِ تفاوتِ أعمالِهم التي دخلوا بها النارَ، كما قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام: 132] ، وقال تعالى: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ: 26] ، فليس عقابُ مَن تغلَّظ كفرُه، وأفسَد في الأرضِ، ودعا إلى الكفرِ، كمَن ليس كذلك .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ فيه سؤالٌ: إذا كان كذلك، فكيف اختَلَفَت الأئمَّةُ في كثيرٍ مِن الأحكامِ؟

الجوابُ: لأنَّ أكثَرَ الأحكامِ ليس مَنصوصًا عليه فيه، وبعضُها مُستنبَطٌ منه، وطُرُقُ الاستنباطِ مُختَلِفةٌ؛ فبَعضُها بالإحالةِ إمَّا على السُّنَّة، بقَولِه تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ، وقولِه تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم: 3] ، أو على القياسِ بقَولِه تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2] ، والاعتبارُ: النظَرُ والاستدلالُ اللَّذانِ يَحصُلُ بهما القياسُ .

7- قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لَمَّا كان التِّبيانُ قد يكون للضَّلالِ، قال تعالى: وَهُدًى أي: مُوصِلًا إلى المقصودِ، ولَمَّا كان ذلك قد لا يكونُ على سبيلِ الإكرامِ، قال تعالى: وَرَحْمَةً، ولَمَّا كان الإكرامُ قد لا يكونُ بما هو في أعلَى طبقاتِ السُّرورِ، قال سُبحانَه: وَبُشْرَى أي: بشارةً عظيمةً جدًّا لِلْمُسْلِمِينَ .

8- في قَولِه تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ بيانُ أنَّ هذا الدِّينَ شامِلٌ كامِلٌ لا يَحتاجُ إلى زيادةٍ، كما أنَّه لا يجوزُ فيه النَّقصُ؛ فما مِن شَيءٍ يَحتاجُ النَّاسُ إليه في مَعادِهم ومَعاشِهم إلَّا بَيَّنَه اللهُ تعالى في كِتابِه؛ إمَّا نصًّا، أو إيماءً، وإمَّا منطوقًا، وإمَّا مَفهومًا .

9- في قَولِه تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ أنَّه لا يُمكِنُ أنْ يُوجَدَ في القرآنِ آياتٌ مُتشابِهةٌ على جَميعِ النَّاسِ لا يَعرِفونَ معناها! فلا يُوجدُ فيه شَيءٌ غيرُ واضِحٍ، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء: 174] ، فلا يُمكِنُ إطلاقًا أن يُوجَدَ فيه آيةٌ أو كَلِمةٌ لا يُفْهَمُ معناها، لكنَّ الذي يَخفى هو حقيقةُ مَدلولاتِ الآياتِ، مِثْلَ ما أَخْبَرَ اللهُ به عن نفْسِه واليومِ الآخرِ؛ فإنَّنا لا نَعرِفُ حقيقتَه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ

- قولُه: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا بَقِي الظَّرفُ (يَوْمَ) بدونِ مُتعلَّقٍ فلم يَكُنْ للسَّامعِ بُدٌّ مِن تقديرِه بما تَذهَبُ إليه نفْسُه، وذلك يُفيدُ التَّهويلَ والتَّفظيعَ، وهو مِن بديعِ الإيجازِ

.

- قولُه: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ثُمَّ للتَّراخي الرُّتْبيِّ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ابتلاءَهم بالمنعِ عن الاعتذارِ المنبئِ عن الإقناطِ الكليِّ- وهو عندَما يُقالُ لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] - أشدُّ مِن ابتلائِهم بشهادةِ الأنبياءِ- عليهم السلامُ- عليهم .

- ويجوزُ أن يَكونَ نَفْيُ الإذنِ ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ كِنايةً عن الطَّرْدِ، كما كان الإذنُ كِنايةً عن الإكرامِ، وعليه فيُقالُ: استَعتَب فلم يُستَعتَبْ، ويُقالُ على الأصلِ: استَعتَب فُلانٌ فلم يُعتَبْ، وهذا استِعمالٌ نشَأ عن الحذفِ، وأصلُه: استُعتِبَ له، أي: طُلِب منه أن يَستعتِبَ؛ فكَثُر في الاستعمالِ حتَّى قَلَّ استِعْمالُ استُعتِبَ مَبنيًّا للمجهولِ في غيرِ هذا المعنى .

2- قَولُه تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ

- قولُه: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ الَّذين ظلَموا هم الَّذين كفَروا؛ فالتَّعبيرُ به مِن الإظهارِ في مقامِ الإضمارِ؛ لِقَصدِ إجراءِ الصِّفاتِ المتلبِّسينَ بها علَيهم .

- وجاء المسنَدُ إليه في قَولِه تعالى: فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ مُخبَرًا عنه بالجملةِ الفعليَّةِ؛ لأنَّ الإخبارَ بالجملةِ الفعليَّةِ عن الاسمِ يُفيدُ تَقوِّيَ الحكمِ، فأُريدَ تَقوِّي حُكمِ النَّفيِ، أي: إنَّ عدَمَ تَخفيفِ العذابِ عَنهم مُحقَّقُ الوقوعِ، لا طَماعيَةَ في إخلافِه؛ فحصَل تأكيدُ هذه الجملةِ، كما حصَل تأكيدُ الجملةِ الَّتي قبْلَها بالفاءِ، أي: فهُم يُلْقَون بسُرعةٍ في العذابِ .

3- قَولُه تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ

- قولُه: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ الَّذين أشرَكوا هم الَّذين ظلَموا، الَّذين يَرَوْن العذابَ، وهم الَّذين كفَروا، الَّذين لا يُؤذَنُ لهم، وإجراءُ هذه الصِّلاتِ الثَّلاثِ علَيهم؛ لزيادةِ التَّسجيلِ عليهم بأنواعِ إجرامِهم الرَّاجعةِ إلى تَكذيبِ ما دَعاهم اللهُ إليه، وهو نُكتةُ الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ هنا .

- قولُه: فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ الفاءُ في فَأَلْقَوْا للتَّعقيبِ؛ للدَّلالةِ على المبادَرةِ بتكذيبِ ما تَضمَّنَه مَقالُهم، أنطَق اللهُ تلك الأصنامَ فكَذَّبَت ما تَضمَّنَه مَقالُهم مِن كونِ الأصنامِ شُركاءَ للهِ، أو مِن كونِ عِبادتِهم بإغراءٍ منها؛ تَفْضيحًا لهم وحَسْرةً عليهِم. والجمعُ في اسمِ الإشارةِ واسمِ الموصولِ: هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ جمعُ العُقَلاءِ؛ جَريًا على اعتِقادِهم إلهيَّةَ الأصنامِ. ولَمَّا كان نُطقُ الأصنامِ غيرَ جارٍ على المتعارَفِ عَبَّر عنه بالإلقاءِ المؤْذِنِ بكَونِ القولِ أجْراه اللهُ على أفواهِ الأصنامِ مِن دونِ أن يَكونوا ناطِقين، فكأنَّه سقَط منها. وأجرَى عليهم ضَميرَ جَمعِ العُقلاءِ في فِعْلِ أَلْقَوْا مُشاكَلةً لاسْمِ الإشارةِ واسمِ الموصولِ للعُقلاءِ .

4- قَولُه تعالى: وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ أعيدَ فِعلُ أَلْقَوْا؛ لاختلافِ فاعلِ الإلقاءِ؛ فضَميرُ القَولِ الثَّاني عائِدٌ إلى الَّذين أشرَكوا .

5- قَولُه تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ

- قولُه: زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ تعريفُ الْعَذَابِ تعريفُ الجنسِ المعهودِ؛ حيث تَقدَّم ذِكرُه في قولِه تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ؛ لأنَّ عَذابَ كُفرِهم لَمَّا كان مَعلومًا بكَثرةِ الحديثِ عنه صارَ كالمعهودِ، وأمَّا عذابُ صَدِّهِمُ النَّاسَ فلا يَخطُرُ بالبالِ؛ فكان مَجهولًا؛ فناسَبه التَّنكيرُ .

6- قَولُه تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ

- قولُه: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ تكريرٌ لجُملةِ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا؛ لِيُبنَى عليه عَطفُ جُملةِ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ على جُملةِ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ ولَمَّا كان تَكْريرًا أُعيدَ نَظيرُ الجملةِ على صورةِ الجملةِ المؤكِّدةِ مُقترِنةً بالواوِ، ولأنَّ في هذه الجملةِ زِيادةَ وصْفِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فحَصَلَت مُغايَرةٌ معَ الجملةِ السَّابقةِ، والمغايَرةُ مُقتضِيَةٌ للعطفِ أيضًا، ومِن دَواعي تَكْريرِ مَضمونِ الجملةِ السَّابقةِ أنَّه لِبُعدِ ما بينَ الجُملتَينِ بما اعتَرض بينَهما مِن قولِه تعالى: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إلى قولِه: بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ مع أنَّ الإعادةَ هنا أجْدَرُ؛ لأنَّ الفَصْلَ أطوَلُ، وقد حصَل مِن هذه الإعادةِ تأكيدُ التَّهديدِ والتَّسجيلِ. وعُدِّي فِعلُ نَبْعَثُ هنا بحَرفِ (في)، وعُدِّي نَظيرُه في الجملةِ السَّابقةِ بحَرفِ (مِنْ)؛ لِيَحصُلَ التَّفنُّنُ بينَ المكرَّرين؛ تجديدًا لِنَشاط السَّامِعين .

-  وَيَوْمَ نَبْعَثُ عبَّر بالمضارِعِ عن بَعْثِ الشُّهداءِ للأُممِ الماضيَةِ؛ لأنَّه مُرادٌ به بَعثُهم يومَ القيامةِ .

- قولُه: وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ فيه إيثارُ لفظِ (المَجيءِ) على (البَعْثِ)؛ لكَمالِ العنايةِ بشأنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وصيغةُ الماضي وَجِئْنَا للدَّلالةِ على تَحقُّقِ الوقوعِ .

- ولم يُوصَفْ هنا نبيُّنا محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه مِن أنفُسِهم كما وُصِفَ كلُّ شَهيدِ أُمَّةٍ بقوله: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؛ وذلك لأنَّ مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم مَبعوثٌ إلى جَميعِ الأممِ، وشَهيدٌ عليهم جميعًا، وأمَّا وصفُه بذلك في قولِه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] ، فذلك وَصْفٌ كاشِفٌ اقْتَضاهُ مَقامُ التَّذكيرِ للمُخاطَبين مِن المنافِقين- في سورةِ (التوبةِ)- فهم الَّذين ضَمُّوا إلى الكُفرِ باللهِ كُفرانَ نِعمةِ بَعثِ رسولٍ إليهم مِن قومِهم، وليس في قولِه: عَلَى هَؤُلَاءِ ما يَقْتضي تَخْصيصَ شَهادتِه بكَونِها شَهادَةً على المتحدَّثِ عنهم مِن أهلِ الشِّركِ، ولكِنِ اقْتصَرَ عليهِم؛ لأنَّ الكلامَ جارٍ في تَهْديدِهم وتَحذيرِهم، وهَؤُلَاءِ إشارةٌ إلى حاضِرٍ في الذِّهنِ وهُم المشرِكون الَّذين أكثَرُ الحديثِ علَيهم .

-  وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ... عطفٌ على جملةِ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا وهذا تَخلُّصٌ للشُّروعِ في تَعْدادِ النِّعمِ على المؤمِنين مِن نِعَمِ الإرشادِ، ونِعَمِ الجزاءِ على الامتثالِ، وبَيانِ برَكاتِ هذا الكتابِ المنزَّلِ لهم .

- قولُه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ التِّبيانُ مَصدرٌ دالٌّ على المبالَغةِ في المصدريَّةِ، ثمَّ أُريدَ به اسمُ الفاعِلِ، فحَصَلَت مُبالَغتانِ. و(كُلِّ شَيْءٍ) يُفيدُ العُمومَ، إلَّا أنَّه عمومٌ عُرْفيٌّ في دائرةِ ما لِمِثلِه تَجيءُ الأديانُ والشَّرائعُ؛ مِن إصلاحِ النُّفوسِ، وإكمالِ الأخلاقِ، وتقويمِ المجتمَعِ، وتبيينِ الحقوقِ وغيرِ ذلك، وفي خِلالِ ذلك كلِّه أسرارٌ ونُكتٌ مِن أصولِ العلومِ والمعارفِ، صالِحةٌ لأَنْ تَكونَ بَيانًا لكلِّ شيءٍ على وجهِ العُمومِ الحقيقيِّ إنْ سُلِك في بَيانِها طَريقُ التَّفصيلِ، واستُنيرَ فيها بما شَرَح الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وما قَفَّاه به أصحابُه وعُلماءُ أُمَّتِه؛ ففي كلِّ ذلك بَيانٌ لكلِّ شيءٍ يُقصَدُ بَيانُه للتَّبصُّرِ في هذا الغرَضِ الجليلِ؛ فيَؤولُ ذلك العُمومُ العُرفيُّ بصَريحِه إلى عُمومٍ حقيقيٍّ بضِمْنِه ولَوازِمِه، وهذا مِن أبدَعِ الإعجازِ .

===========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (90-93)

ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى موجِّهًا عبادَه إلى أمهاتِ الفضائلِ، ومكارمِ الأخلاقِ، ومحذِّرًا مِن الرذائلِ: إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يأمُرُ عبادَه بالعَدلِ والإنصافِ في حَقِّه تعالى وفي حَقِّ عبادِه، ويأمُرُ بالإحسانِ في عبادتِه وإلى خَلقِه، وإعطاءِ ذَوِي القَرابةِ حُقوقَهم، وينهى عن كُلِّ ما قَبُحَ قَولًا أو عَملًا، وعَمَّا يُنكِرُه الشَّرعُ ولا يَرضاه، وعن ظُلمِ النَّاسِ والتعَدِّي عليهم، يَعِظُكم اللهُ؛ لكي تتذَكَّروا أوامِرَه وتَنتَفِعوا بها.

ويأمرُ الله تعالى بالوفاءِ بالعهدِ فيقولُ: والتَزِموا الوفاءَ بكُلِّ عَهدٍ فيما بينكم وبينَ الله، وما بينَكم وبينَ الناسِ مما لا يُخالِفُ كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ نَبيِّه، ولا تُخالِفوا العُهودَ التي أكَّدْتُموها بالحَلِفِ بالله، وقد جعَلْتُم اللهَ عليكم حفيظًا وضامِنًا حينَ عاهَدتُم؛ إنَّ اللهَ يَعلَمُ ما تَفعَلونَ.

ثمَّ ضرَب الله مثلًا فيه تقبيحٌ لنقضِ العهدِ، فقال: ولا يكنْ مَثَلُكم في نَقضِ العُهودِ مَثَلَ امرأةٍ غَزَلَت غَزْلًا وأحكَمَتْه، ثم نقَضَتْه بعد تَقويتِه وإحكامِه، تَجعلونَ أيمانَكم التي حَلَفْتُموها عند التَّعاهُدِ خَديعةً لِمَن عاهَدتُموه، وتَنقُضونَ عَهدَكم إذا وجَدْتُم قومًا آخرينَ أكثَرَ مالًا ومنفعةً مِن الذين عاهَدتُموهم، إنَّما يَختبِرُكم اللهُ بما أمرَكم به مِن الوفاءِ بالعُهودِ، ولَيُبيِّنَنَّ لكم يومَ القيامةِ ما كُنتُم فيه تَختلِفونَ في الدُّنيا.

ثم بيَّن سبحانه أنَّ قدرتَه لا يُعجِزُها شيءٌ فقال: ولو شاء اللهُ لجَعَلكم على مِلَّةٍ واحدةٍ، وهي الإسلامُ، ولكِنَّه سُبحانَه يُضِلُّ بحِكمتِه مَن يشاءُ؛ عدلًا منه، ويَهدي مَن يشاء؛ فَضلًا منه، ولَيَسألَنَّكم اللهُ جميعًا يومَ القيامةِ عَمَّا كُنتُم تَعمَلونَ في الدُّنيا، وسيُجازيكم عليه.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا استقصَى في شَرحِ الوَعدِ والوَعيدِ، والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ أتبَعَه بقَوِله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فجمَعَ في هذه الآيةِ ما يتَّصِلُ بالتَّكليفِ فَرضًا ونَفلًا، وما يتَّصِلُ بالأخلاقِ والآدابِ عُمومًا وخُصوصًا

.

وأيضًا: لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى فَضْلَ هذا القُرآنِ بما يقطَعُ حُجَّةَ الكافرينَ، وكان قد قدَّمَ فَضْلَ مَن يأمُرُ بالعَدلِ وهو على صِراطٍ مُستقيمٍ؛ أخذَ يُبَيِّنُ اتِّصافَ القُرآنِ ببيانِ كُلِّ شَيءٍ، وتضَمُّنِه لذلك الطَّريقِ الأقومِ، فقال اللهُ تعالى :

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى.

أي: إنَّ اللهَ يأمُرُ عِبادَه بالإنصافِ، وأداءِ حُقوقِ الله تعالى، وحُقوقِ عبادِه، ويأمُرُ بالإحسانِ في عبادتِه، والإحسانِ إلى خَلْقِه، ويأمُرُ بإعطاءِ الأرحامِ حُقوقَهم، وإسداءِ الخَيرِ إليهم؛ صِلةً لهم .

كما قال تعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 195] .

وقال سُبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا [النساء: 36] .

وقال سُبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء: 58] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8] .

وقال عزَّ مِن قائلٍ: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام: 152] .

وقال جلَّ جَلالُه: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء: 26] .

وقال تبارك وتعالى: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء: 35] .

وقال سُبحانه: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9] .

وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ.

أي: وينهَى اللهُ عن كُلِّ مَعصيةٍ مُتناهيةٍ في القُبحِ، كالزِّنا، وينهَى عمَّا تَستنكِرُه النُّفوسُ المُعتَدِلةُ، وتأباه الشَّريعةُ مِن فِعلٍ أو قولٍ، وينهَى عن ظُلمِ النَّاسِ، والتَّعدي عليهم في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم .

كما قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام: 151] .

وقال سُبحانه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] .

وعن أبي بَكْرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِن ذَنبٍ أجدَرُ أن يُعَجِّلَ اللهُ لِصاحِبِه العُقوبةَ في الدُّنيا، مع ما يَدَّخِرُ له في الآخرةِ؛ مِن البَغيِ وقَطيعةِ الرَّحِمِ )) .

يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .

أي: يُذكِّرُكم اللهُ- أيُّها النَّاسُ- بما يأمُرُكم به، وما يَنهاكم عنه؛ لأجلِ أن تتَذَكَّروه فتَتُوبوا إليه، وتَمتَثِلوا أوامِرَه، وتَجتَنِبوا نواهِيَه .

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا جمَعَ كُلَّ المأموراتِ والمَنهِيَّاتِ في الآيةِ السَّابقةِ على سَبيلِ الإجمالِ؛ ذكَرَ في هذه الآيةِ بَعضَ تلك الأقسامِ، فبدأ تعالى بالأمْرِ بالوَفاءِ بالعَهدِ .

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ .

أي: وأوفُوا- أيُّها النَّاسُ- بجَميعِ العُهودِ، فيما بَينَكم وبين رَبِّكم، وفيما بَينَكم وبَينَ النَّاسِ .

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .

وقال سُبحانه: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا [الأنعام: 152] .

وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا.

أي: ولا تُخالِفوا العُهودَ التي أكَّدْتُموها وغلَّظْتُموها بالحَلِفِ بالله .

وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.

أي: لا تَنقُضوا عُهودَكم المُؤَكَّدةَ باليمينِ، فتَحْنَثوا فيها، وقد جعَلْتُم اللهَ عليكم حَفيظًا وشَهيدًا ومتكَفِّلًا بوفائِكم بالعُهودِ، فيَكونَ ذلك منكم تَرْكًا لتعظيمِ اللهِ واستهانةً به .

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ.

مناسبتُها لما قبلَها:

لما كان مِن شأنِ الرَّقيبِ حفظُ أحوالِ مَن يراقبُه، قال تعالى مُرَغِّبًا مُرهِّبًا :

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ .

أي: إنَّ اللهَ يَعلَمُ كُلَّ ما تَفعَلونَه، ومِن ذلك وفاؤُكم بالعُقودِ ونَقضُها، وسيُجازي كلَّ عامِلٍ بعَمَلِه .

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ بالوَفاءِ، ونهى عن النَّقضِ؛ شرَعَ في تأكيدِ وُجوبِ الوَفاءِ، وتَحريمِ النَّقضِ وتَقبيحِه؛ تنفيرًا منه، فقال تعالى :

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا.

أي: ولا تَكونوا- أيُّها النَّاسُ- في نَقضِ العُهودِ التي أكَّدْتُموها كالمرأةِ التي تَنقُضُ غَزْلَها ونَسْجَها بعد تَقويتِه وإحكامِه، فتَحُلُّ ما نسَجَت وتجعَلُه أنقاضًا !

تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ.

أي: تَجعَلونَ أيمانَكم وسيلةً للغَدرِ والمَكرِ بمَن عاهَدْتُموهم، فتحلفونَ لهم؛ ليَطمئنُّوا إليكم، وتَعقِدونَ معهم العُهودَ، وأنتم مُضمِرونَ نَقْضَها إن وجَدْتُم قومًا آخرينَ أكثرَ منهم عددًا أو قُوَّةً أو غِنًى؛ طلبًا للدُّنيا، فإذا أمكنَكم الغدرُ بهم غَدَرتُم .

إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ .

أي: إنَّما يَختَبِرُكم اللهُ بما يأمُرُكم به من الوَفاءِ بالعُهودِ، ولو كان قَومٌ أحسَنَ مِن قَومٍ؛ ليتبَيَّنَ المُطيعُ منكم، والمُخالِفُ لأمرِه .

وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.

أي: ولَيُبيِّننَّ اللهُ لكم- أيُّها النَّاسُ- يومَ القيامةِ ما كُنتُم فيه تَختَلِفونَ في الدُّنيا، كالاختِلافِ في تَوحيدِه، وتَصديقِ رُسُلِه، وثُبوتِ البَعثِ، والعُهودِ التي عَقَدْتُموها، فيَحكُمُ بينكم، ويُجازي كُلَّ عاملٍ بعَمَلِه .

كما قال تعالى: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الحج: 68-69] .

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى ونهى، وخَوَّفَ مِن العذابِ في القيامةِ، وكان ربَّما ظَنَّ مَن لا عِلمَ له- وهم الأكثَرُ- مِن كثرةِ التَّصريحِ بالحَوالةِ على القيامةِ؛ نَقْصَ القُدرةِ في هذه الدَّارِ- صَرَّحَ بنَفيِ ذلك .

وأيضًا لَمَّا كَلَّفَ اللهُ تعالى القَومَ بالوفاءِ بالعَهدِ، وتحريمِ نَقضِه؛ أتبَعَه ببيانِ أنَّه تعالى قادِرٌ على أن يجمَعَهم على هذا الوفاءِ، وعلى سائِرِ أبوابِ الإيمانِ، ولكِنَّه سُبحانَه بحُكمِ الإلهيَّةِ يُضِلُّ مَن يشاءُ، ويهدي مَن يَشاءُ ، فأحال الأمرَ هنا على المشيئةِ إجمالًا، لتعذُّرِ نشرِ مطاوي الحكمةِ مِن ذلك .

وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً  .

أي: ولو شاء اللهُ لجعَلَكم جميعًا- أيُّها النَّاسُ- على مِلَّةٍ واحدةٍ؛ مِلَّةِ الإسلامِ، دونَ حُدوثِ اختلافٍ أو تفَرُّقٍ بينَكم .

كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس: 99] .

وقال سُبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118-119] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] .

وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ .

أي: ولكِنَّ اللهَ بحِكمَتِه خالَفَ بينَكم، فجعَلَكم أهلَ مِلَلٍ شَتَّى مُختَلِفةٍ، يخذُلُ مَن يشاءُ عن اتِّباعِ الحَقِّ، فيَحرِمُ تَوفيقَه مَن لا يستَحِقُّ؛ عدلًا منه سُبحانه، ويوفِّقُ مَن يشاءُ، فيهدي للحَقِّ مَن يستَحِقُّ؛ فضلًا منه سُبحانه .

كما قال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [الشورى: 8] .

وقال تعالى: مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 39] .

وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.

أي: وليَسألَنَّكم اللهُ جميعًا- أيُّها النَّاسُ- يومَ القيامةِ عَمَّا كُنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ، فيُجازيكم على أعمالِكم: خَيرِها وشَرِّها

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فالإِحسانُ فَوقَ العَدلِ، وذلك أنَّ العَدلَ هو أن يُعطِي ما عليه، ويأخُذَ ما له، والإِحسانَ أن يُعطيَ أكثَرَ ممَّا عليه، ويأخُذَ أقلَّ ممَّا له، فالإِحسانُ زائِدٌ عليه، فتَحرِّي العَدلِ واجِبٌ، وتحَرِّي الإِحسانِ نَدْبٌ وتَطَوُّعٌ؛ ولذلك عَظَّمَ اللهُ ثوابَ أهلِ الإحسانِ؛ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ

.

2- قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى (إيتاءُ ذي القُربى) لَفظٌ يَقتَضي صِلَةَ الرَّحِمِ ويعُمُّ جَميعَ إسداءِ الخَيرِ إلى القَرابةِ، وتَرْكُه مُبهمًا أبلَغُ؛ لأنَّ كُلَّ مَن وصَلَ في ذلك إلى غايةٍ وإن عَلَت، يرى أنَّه مُقَصِّرٌ .

3- قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى خصَّ اللهُ تعالى بالذِّكرِ مِن جِنسِ أنواعِ العَدلِ والإحسانِ نَوعًا مُهِمًّا يَكثُرُ أن يَغفُلَ النَّاسُ عنه ويتهاونوا بحَقِّه أو بفَضلِه، وهو إيتاءُ ذي القُربى؛ فقد تقَرَّرَ في نُفوسِ النَّاسِ الاعتناءُ باجتلابِ الأبعَدِ واتِّقاءِ شَرِّه، كما تقَرَّرَ في نُفوسِهم الغَفلةُ عن القريبِ، والاطمِئنانُ مِن جانِبِه، وتعَوُّدُ التَّساهُلِ في حُقوقِه، ولأجْلِ ذلك صَرَفوا مُعظَمَ إحسانِهم إلى الأبعَدينَ؛ لاجتلابِ المَحمَدةِ، وحُسنِ الذِّكرِ بينَ النَّاسِ، ولم يَزَلْ هذا الخُلُقُ مُتفَشِّيًا في النَّاسِ حتى في الإسلامِ إلى الآنَ، ولا يَكتَرِثونَ بالأقرَبينَ، فخَصَّ اللهُ تعالى بالذِّكرِ مِن بينِ جِنسِ العَدلِ وجِنسِ الإحسانِ إيتاءَ المالِ إلى ذي القُربى؛ تنبيهًا للمُؤمِنينَ يومَئذٍ بأنَّ القَريبَ أحَقُّ بالإنصافِ مِن غَيرِه، وأحَقُّ بالإحسانِ مِن غَيرِه؛ لأنَّه محَلُّ الغفلةِ، ولأنَّ مَصلحَتَه أجدى مِن مصلحةِ أنواعٍ كثيرةٍ .

4- قال تعالى: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وضابِطُ الوَعظِ: هو الكَلامُ الذي تَلينُ له القُلوبُ، وأعظَمُ ما تَلينُ له قُلوبُ العُقَلاءِ أوامِرُ رَبِّهم ونواهيه؛ فإنَّهم إذا سَمِعوا الأمْرَ خافُوا مِن سَخَطِ اللهِ في عدَمِ امتِثالِه، وطَمِعوا فيما عندَ اللهِ مِن الثَّوابِ في امتِثالِه، وإذا سَمِعوا النَّهيَ خافُوا مِن سخَطِ اللهِ في عدَمِ اجتِنابِه، وطَمِعوا فيما عِندَه من الثَّوابِ في اجتنابِه، فحَداهم حادي الخَوفِ والطَّمَعِ إلى الامتِثالِ، فلانَت قُلوبُهم للطَّاعةِ خَوفًا وطَمعًا .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا فيه الحَثُّ على الوفاءِ بالعُهودِ، والبِرِّ في الأيمانِ .

6- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ خَتَمَ اللهُ الآيةَ بالعلمِ؛ تهديدًا عن نَقْضِ العهدِ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا عَلِمَ بأنَّ اللهَ يَعلَمُ كلَّ ما يَفعَلُ، فإنَّه لا يَنقُضُ العهدَ .

7- في قَولِه تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا دَلالةٌ على أنَّ الإنسانَ ينبغي أن يُحافِظَ على ما اعتادَه مِن الخَيرِ، يعني: لا تكونوا كالمرأةِ الغازِلةِ التي تَغزِلُ الصُّوفَ، ثمَّ إذا غزَلَتْه وأتقَنَتْه نَقَضَتْه أنَكاثًا ومَزَّقَتْه!! بل دُوموا على ما أنتُم عليه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ هذه الآيةُ جَمَعت أحكامًا كثيرةً، وتضَمَّنَت جميعَ أوامِرِ الشَّرعِ ونواهيه

، وهي أجمعُ آيةٍ في القُرآنِ للحَثِّ على المَصالحِ كُلِّها، والزَّجرِ عن المَفاسِد بأَسْرِها ، وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه قال: (إنَّ أجمَعَ آيةٍ في القُرآنِ، في سُورةِ النَّحلِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، وعن الحَسَنِ البصريِّ: (أنَّه قرأ هذه الآيةَ: إِنَّ الَّلَه يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ إلى آخِرِها، ثمَّ قال: إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ جمَعَ لكم الخَيرَ كُلَّه والشَّرَّ كُلَّه في آيةٍ واحدةٍ، فواللهِ ما تَركَ العَدلُ والإحسانُ مِن طاعةِ اللهِ شَيئًا إلَّا جَمَعَه، ولا ترَكَ الفَحشاءُ والمُنكَرُ والبَغيُ مِن معصيةِ الله شَيئًا إلَّا جَمَعَه) .

2- الدِّينُ الإسلاميُّ ليس دينَ مُساواةٍ، الدينُ الإسلاميُّ دينُ عَدْلٍ، وهو إعطاءُ كلِّ شَخصٍ ما يَستَحِقُّ، فإذا استوى شَخصانِ في الأحقِّيَّةِ؛ فحينئذٍ يتساويانِ فيما يَتَرَتَّبُ على هذه الأحقِّيَّةِ، أمَّا مع الاختلافِ فلا، ولا يُمكِنُ أن يُطلَقَ أنَّ الدِّينَ الإسلاميَّ دينُ مساواةٍ أبدًا، بل إنَّه دينُ العَدلِ؛ لِقَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ .

3- في قَولِه تعالى: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا وجهُ جَعْلِ اللهِ له كَفيلًا: أنَّ الإنسانَ إذا عَاهَدَ غيرَه قال: أعاهِدُك باللهِ، أي: أجْعَلُ اللهَ كفيلًا .

4- يُستَفادُ عمومُ قدرةِ اللهِ جلَّ وعلا؛ وأنَّ بِيَدِه الأمورَ الشَّرعيَّةَ والكونيَّةَ، مِن قَولِه تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً يعني: على مِلَّةٍ واحدةٍ، ولكِنَّه سُبحانه وتعالى له الحِكمةُ البالِغةُ فيما قَدَّرَ وشَرَعَ .

5- في قَولِه تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ شَديدةٌ؛ لجَمْعِه بين المَشيئةِ والإضلالِ، والهُدى والسُّؤالِ عن العَمَلِ في آيةٍ واحدةٍ، وهو قَولُنا الذي نَقولُه: إنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُه لو شاء لجعَلَ النَّاسَ كُلَّهم مُؤمِنينَ، ولكِنَّه لم يفعَلْ، فأضَلَّ قومًا فكَفَروا، وهدى قومًا فآمَنوا، فعذَّبَ الكافِرَ بجِنايتِه، وقد قضاها عليه بعَدلِه سُبحانَه، وأثاب المؤمِنَ على إحسانِه، وقد هداه إليه بفَضلِه سُبحانَه. وكُلُّ هذا حُكمٌ مُنتَظِمٌ، وعَدلٌ شامِلٌ، وفَضلٌ بَيِّنٌ، عقَلَتْه الخَليقةُ بعُقولِها أم لم تَعقِلْه، ولو لم يكُنْ في القُرآنِ مِنَ الرَّدِّ عليهم إلَّا هذه الآيةُ وَحدَها لكَفَتْهم، فكيف وهو مملوءٌ بأمثالِها بحَمدِ اللهِ ونِعمتِه

 

؟!

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى... فيه افتِتاحُ الجُملةِ بحَرفِ التَّوكيدِ؛ للاهتِمامِ بشأنِ ما حَوَتْه، وتَصديرُهما باسْمِ الجَلالةِ للتَّشريفِ، وذكَر يَأْمُرُ ويَنْهَى دونَ أن يُقالَ: اعدِلوا واجتَنِبوا الفَحشاءَ؛ للتَّشويقِ

.

- فيه إيثارُ صيغةِ الاستِقْبالِ يَأْمُرُ وَيَنْهَى؛ لإفادةِ التَّجدُّدِ والاستِمْرارِ .

- وقولُه: وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى تخصيصٌ بعدَ تعميمٍ؛ للمُبالَغةِ .

- قولُه تعالى: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ خَصَّ اللهُ تعالى بالذِّكْرِ نوعًا مِن الفَحشاءِ والمنكَرِ، وهو البَغيُ؛ اهتِمامًا بالنَّهيِ عنه، وسدًّا لِذَريعةِ وُقوعِه؛ لأنَّ النُّفوسَ تَنْساقُ إليه بدافِعِ الغضَبِ، وتَغفُلُ عمَّا يَشمَلُه مِن النَّهيِ مِن عُمومِ الفحشاءِ؛ بسبَبِ فُشوِّه بينَ النَّاسِ .

- وهذه الآيةُ قيل: هي أجمَعُ آيةٍ في القرآنِ للخيرِ والشَّرِّ، وقد اشتَمَلَت على أفانينَ مِن البلاغةِ؛ منها الإيجازُ: حيث أمَر في أوَّلِ الآيةِ بكلِّ معروفٍ، ونَهى بعدَ ذلك عن كلِّ مُنكَرٍ، وختَم الآيةَ بأبلَغِ العِظاتِ، وصاغ ذلك في أوجَزِ العباراتِ. ومنها: صِحَّةُ التَّقسيمِ؛ فقد استَوْفى فيها جميعَ أقسامِ المعنى؛ فلم يَبْقَ معروفٌ إلَّا وهو داخِلٌ في نِطاقِ الأمرِ، ولم يَبقَ مُنكَرٌ إلَّا وهو داخِلٌ في حيِّزِ النَّهيِ، وقدَّم ذِكرَ العدلِ؛ لأنَّه واجبٌ، وتَلاه بالإحسانِ؛ لأنَّه مندوبٌ؛ لِيَقَعَ نَظمُ الكلامِ على أحسَنِ تَرتيبٍ، وقرَنَهما في الأمرِ؛ لأنَّ الفَرضَ لا يَخْلو مِن خلَلٍ وتفريطٍ يَجبُرُه النَّدْبُ والنَّوافلُ، وخَصَّ ذا القُرْبى بالذِّكْرِ بعدَ دُخولِه في عُمومِ مَن أمَر بمُعامَلتِه بالعَدلِ والإحسانِ؛ لِبيانِ فَضلِ ذي القُربى، وفَضلِ الثَّوابِ عليه. ومِنها: حُسنُ النَّسَقِ في ترتيبِ الجُمَلِ وعَطْفِها بَعضِها على بعضٍ كما ينبَغي، حيث قدَّم العدْلَ وعطَف عليه الإحسانَ؛ لِكَونِ الإحسانِ اسمًا عامًّا، وإيتاءُ ذي القُرْبى خاصٌّ؛ فكأنَّه نوعٌ مِن ذلك الجنسِ، ثمَّ أتى بجُملَةِ الأمرِ مُقدَّمةً، وعطَف عليها جُملةَ النَّهيِ. ومِنها: تمكينُ الفاصِلةِ؛ لأنَّ مَقطَعَ الآيةِ مُستقِرٌّ في حيِّزِه، ثابتٌ في مَقرِّه، وقَرارُه مَعناه متعلِّقٌ بما قَبلَه إلى أوَّلِ الكلامِ، ولأنَّه لا تَحسُنُ الموعظةُ إلَّا بعدَ التَّكليفِ ببَيانِ الأمرِ والنَّهيِ، ولأنَّ أيَّ لفظةٍ حذَفْتَها مِن ألفاظِ الآيَةِ يَختَلُّ المعنى بحَذْفِها اختِلالًا ظاهِرًا، ويَنقُصُ نَقصًا بيِّنًا .

2- قَولُه تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ

- قولُه: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ (إذا) لمجرَّدِ الظَّرفيَّةِ؛ لأنَّ المخاطَبين قد عاهَدوا اللهَ على الإيمانِ والطَّاعةِ؛ فالإتيانُ باسْمِ الزَّمانِ لِتَأكيدِ الوَفاءِ.

- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا خَصَّ اليمينَ بالذِّكرِ؛ تنبيهًا على أنَّه أَولى أنواعِ العَهدِ بوُجوبِ الرِّعايةِ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ فيه التَّوكيدُ بـ (إنَّ) للاهْتِمامِ بالخبَرِ، وكذلك التَّأكيدُ ببِناءِ الجملةِ بالمسنَدِ الفِعليِّ: يَعْلَمُ دونَ أن يُقالَ: إنَّ اللهَ عليمٌ، ولا: قد يَعلَمُ اللهُ .

3- قَولُه تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ تشنيعٌ لحالِ الَّذين يَنقُضون العَهدَ، وعطفٌ على جملةِ: وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا واعتمَد العَطفُ على المغايَرةِ في المعنى بينَ الجُملتَينِ؛ لِمَا في هذه الثَّانيةِ مِن التَّمثيلِ وإن كانت مِن جهةِ الموقِعِ كالتَّوكيدِ لِجُملةِ: وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ نُهوا عن أن يَكونوا مَضرِبَ مَثَلٍ معروفٍ في العرَبِ بالاستهزاءِ، وهو المرأةُ الَّتي تَنقُضُ غَزْلَها بعدَ شَدِّ فَتْلِه، وعبَّر عَنها بطريقِ الموصوليَّةِ؛ لاشتِهارِها بمَضْمونِ الصِّلَةِ، ولأنَّ مَضمونَ الصِّلةِ هو الحالةُ المشبَّهُ بها في هذا التَّمثيلِ .

- قولُه: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ جملةٌ مستأنَفةٌ استِئنافًا بيانيًّا للتَّعليلِ بما يَقْتَضي الحِكْمةَ، وهو أنَّ ذلك يَبتَلي اللهُ به صِدْقَ الإيمانِ، والقَصْرُ المستفادُ مِن قولِه تعالى: إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ قصرُ موصوفٍ على صِفةٍ. ثمَّ عطَف عليه تأكيدَ أنَّه سيُبيِّنُ لهم يومَ القيامةِ ما يَختلِفون فيه مِن الأحوالِ، فتَظهَرُ الحقائقُ كما هي غيرَ مُغَشَّاةٍ بزَخارِفِ الشَّهواتِ، ولا بمَكارِهِ مُخالَفةِ الطِّباعِ؛ لأنَّ الآخِرةَ دارُ الحقائقِ لا لَبْسَ فيها. وأكَّد هذا الوعدَ بمُؤكِّدَينِ: القسَمِ الَّذي دلَّت عليه اللَّامُ، ونونِ التَّوكيدِ .

4- قَولُه تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

- قولُه: وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مؤكَّدٌ بتَأكيدَينِ، وهُما القَسَمُ الَّذي دلَّتْ عليه اللَّامُ، ونونُ التَّوكيدِ، والسُّؤالُ: كنايةٌ عن المُحاسَبةِ؛ لأنَّه سؤالٌ حَكيمٌ تَترتَّبُ عليه آثارُه، وليس سؤالَ استِطْلاعٍ .

========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (94-97)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

 

فَتَزِلَّ: أي: فتَسقُطَ وتَزْلَقَ؛ مِن الزَّلَلِ: وهو عُثورُ القَدَمِ، وزَلَلُ القَدَمِ تَقولُه العَرَبُ لكُلِّ ساقِطٍ في وَرطةٍ بعدَ سَلامةٍ

.

يَنْفَدُ: أي: يفنى، والنَّفَادُ: الفَناءُ، وأَصْل (نفد): يدلُّ على انقطاعِ شيءٍ وفنائِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول الله تعالى: ولا تَجعَلوا الأيمانَ التي تَحلِفونَها خديعةً لِمَن حَلَفتُم لهم، فتَزِلَّ أقدامُكم بعد أن كانت ثابِتةً على الدِّينِ، وتَذوقوا ما يَسوؤُكم من العذابِ في الدُّنيا؛ بسببِ إعراضِكم ومَنْعِ غَيرِكم عن هذا الدِّينِ؛ لِما رأَوْه منكم مِن الغَدرِ، ولكم عذابٌ عظيمٌ في الآخرةِ. ولا تَنقُضوا عهدَ اللهِ؛ لتُحَصِّلوا عَرَضًا قليلًا مِن متاعِ الدُّنيا، إنَّ ما عندَ اللهِ مِن الثَّوابِ على الوفاءِ أفضَلُ لكم من هذا الثَّمَنِ القليلِ، إن كُنتُم تعلَمون.

ثمَّ رغَّبهم الله تعالى في العملِ بما يُرضيه بعدَ الترغيبِ السابقِ، فقال: ما عِندَكم مِن حُطامِ الدُّنيا يذهَبُ، وما عندَ اللهِ لكم مِن الرِّزقِ والثَّوابِ في الجنَّةِ باقٍ لا يَزولُ، ولنُثيبَنَّ الذين صَبَروا ثوابَهم على أحسَنِ أعمالِهم الصالحةِ، ونتَجاوَزُ عن سَيِّئاتِهم.

ثمَّ بيَّن تعالى حسنَ عاقبةِ المؤمنينَ الذين يحرصونَ على عملِ الصالحاتِ، فقال تعالى: مَن عَمِلَ عمَلًا صالِحًا ذكرًا أم أنثى، وهو مؤمِنٌ بالله ورَسولِه؛ فلَنُحييَنَّه في الدُّنيا حياةً سَعيدةً، ولنَجزينَّهم في الآخرةِ ثوابَهم على أحسَنِ ما عَمِلوا في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

 

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا حَذَّرَهم اللهُ تعالى مِن نَقضِ الأيمانِ الذي يَؤولُ إلى اتِّخاذِ أيمانِهم دَخَلًا فيهم، وأشار بالإجمالِ إلى ما في ذلك من الفَسادِ فيهم؛ أعاد الكَرَّةَ إلى بيانِ عاقبةِ ذلك الصَّنيعِ إعادةً تُفيدُ التَّصريحَ بالنَّهيِ عن ذلك، وتأكيدَ التَّحذيرِ، وتَفصيلَ الفَسادِ في الدُّنيا، وسوءَ العاقبةِ في الآخرةِ

.

وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ أنَّ الكَذِبَ وما جرَّ إليه أقبَحُ القَبائِحِ، وأبعَدُ الأشياءِ عن المكارِمِ، وكان مِن أعظَمِ أسبابِ الخِلافِ، فكان أمرُه جَديرًا بالتَّأكيدِ، أعاد الزَّجرَ عنه بأبلَغَ مِمَّا مضى بصَريحِ النَّهيِ مُرَهِّبًا مِمَّا يترَتَّبُ على ذلك .

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.

أي: ولا تَجعَلوا أيمانَكم خَديعةً لِمَن تَحلِفونَ لهم؛ لِيُصدِّقوكم، وأنتم تَنوُونَ الغَدرَ والمَكرَ بهم إن سَنَحَت لكم فُرصةٌ، فتَنْحَرِفَ أقدامُكم بعد أن كانت ثابتةً على الدِّينِ وصِراطِ اللهِ المُستقيمِ، فتَهلِكوا .

وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

أي: ويَحُلَّ بكم العَذابُ في الدُّنيا؛ بسبَبِ إعراضِكم، وصَدِّكم النَّاسَ عن الدُّخولِ في الإسلامِ، حين تَخدَعونَهم بالحَلِفِ الكاذِبِ، وتَغدِرونَ عَهْدَكم معهم، فلا يبقَى لهم وُثوقٌ في دينِ اللهِ سُبحانَه .

وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

أي: ولكم عذابٌ عظيمٌ في الآخرةِ .

وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما كانت الرغبةُ في الدنيا، والمنافسةُ في الاستكثارِ منها، والطلبُ لِلَذَّاتِها، مِن أعظمِ الأسبابِ الباعثةِ للإنسانِ على نقضِ الأيْمانِ؛ زجَرهم الله تعالى عنها، ونبَّهَهم على ما هو خيرٌ لهم منها .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان ما سبَقَ خاصًّا بالأيمانِ؛ أتبَعَه النَّهيَ عن الخيانةِ في عُمومِ العَهدِ؛ تأكيدًا بعد تأكيدٍ؛ للدَّلالةِ على عظيمِ النَّقضِ، فقال تعالى :

وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا.

أي: ولا تَنقُضوا عُهودَكم التي أكَّدْتُموها بالأيمانِ؛ لنَيلِ مَتاعٍ قليلٍ مِن الدُّنيا .

إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

أي: إنَّ ثَوابَ اللهِ لكم في الجَنَّة- إذا آثَرْتُم رِضا اللهِ فأطَعْتُموه بالوَفاءِ بعُهودِكم- أفضَلُ لكم مِن مَتاعِ الدُّنيا القَليلِ، إنْ كُنتُم تَعلَمونَ حَقيقةَ الفَرقِ بينَ الدُّنيا الفانيةِ، والآخرةِ الباقيةِ .

مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96).

مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ.

أي: ما عِندَكم مِن مَتاعِ الدُّنيا ينتهي ويَفنى، وإن كان كثيرًا، وما عِندَ اللهِ مِن الثَّوابِ في الجَنَّةِ مُستَمِرٌّ لا يَنقَطِعُ ولا يفنَى؛ فاحرِصوا عليه، واعمَلوا للظَّفَرِ به .

كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص: 54] .

وقال سُبحانه: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى: 16- 17] .

وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

أي: ولَنُثيبَنَّ يومَ القيامةِ الصَّابرينَ على أحسَنِ الذي كانوا يَعمَلونَه في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحةِ، ونتَجاوَزُ عن سَيِّئِ أعمالِهم .

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وعَدَ اللهُ تعالى بعدَ أن توعَّدَ؛ أتبَعَه ما يُبَيِّنُ أنَّ ذلك لا يخُصُّ شَريفًا ولا وَضيعًا، وإنَّما هو دائِرٌ مع وصفِ الإيمانِ، فقال تعالى، مرغِّبًا في عمومِ شرائعِ الإسلامِ، جوابًا لمن كأنَّه قال: هذا خاصٌّ بأحدٍ دونَ أحدٍ :

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً.

أي: مَن عَمِلَ عمَلًا صالِحًا خالِصًا لله، مُوافِقًا للقُرآنِ والسُّنَّةِ- ومن ذلك الوَفاءُ بالعُهودِ- مِن ذكَرٍ أو أُنثَى، وهو مؤمِنٌ باللهِ ورَسولِه، مُصَدِّقٌ بوَعدِ اللهِ ووَعيدِه؛ فلنُحييَنَّه في الدُّنيا حياةً سَعيدةً، وذلك بما يجده من حلاوةِ الإيمان، والأنسِ بالله تعالى، والتلذذِ بعبادتِه، وطُمأنينةِ قَلبِه، وسُكونِ نَفسِه، وبما يَرزُقُه اللهُ مِن الرزقِ الحلالِ الطيبِ مِن حيثُ لا يحتَسِبُ، معَ القناعةِ به .

كما قال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود: 3] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2-3] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((قد أفلَحَ مَن أسلَمَ، ورُزِقَ كَفافًا ، وقنَّعَه اللهُ بما آتاه )) .

وعن عبدِ اللهِ بنِ خُبَيبٍ، عَن عَمِّه رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا بأسَ بالغِنى لِمَن اتَّقى، والصِّحةُ لِمَن اتَّقى خَيرٌ مِن الغِنى، وطِيبُ النَّفسِ مِن النَّعيمِ )) .

وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

أي: ولنجزينَّ الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ- في الآخرةِ- ثوابَ إيمانِهم وأعمالِهم على أحسَنِ الذي كانوا يَعمَلونَه في الدُّنيا من الطَّاعاتِ، ونَتَجاوزُ عن سَيِّئاتِهم

 

.

كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [العنكبوت: 7] .

وقال سُبحانه: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر: 35] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فيه حَثٌّ على التأمُّلِ والعِلمِ

.

2- قَولُ الله تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ فيه الحَثُّ والتَّرغيبُ على الزُّهدِ في الدُّنيا، خُصوصًا الزُّهدَ المتعَيِّنَ، وهو الزُّهدُ فيما يكونُ ضَررًا على العَبدِ، ويُوجِبُ له الاشتِغالَ عمَّا أوجَبَ اللهُ عليه، وتقديمَه على حَقِّ اللهِ؛ فإنَّ هذا الزُّهدَ واجِبٌ. ومِن الدَّواعي للزُّهدِ أن يُقابِلَ العَبدُ لذَّاتِ الدُّنيا وشَهَواتِها بخَيراتِ الآخرةِ؛ فإنَّه يَجِدُ مِن الفَرقِ والتَّفاوُتِ ما يَدعوه إلى إيثارِ أعلى الأمرَينِ .

3- في قَولِه تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً دَلالةٌ على أنَّ سَعادةَ الدُّنيا ليسَت بكَثرةِ المالِ والوَلَدِ والمَتاعِ، وإنَّما بالعَمَلِ الصَّالحِ، فلا حياةَ طَيِّبَةً إلَّا لِمَن عَمِلَ صالِحًا وهو مُؤمِنٌ، سواءٌ كان ذكَرًا أو أنثى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ عَبَّرَ بالافتعالِ في تَتَّخِذُوا؛ إشارةً إلى أنَّ ذلك لا يُفعَلُ إلَّا بعلاجٍ شَديدٍ مِن النَّفسِ؛ لأنَّ الفِطرةَ السَّليمةَ يَشتَدُّ نِفارُها منه

.

2- قال الله تعالى: وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إنَّما كان قليلًا وإن كَثُرَ؛ لأنَّه مِمَّا يزولُ، فهو على التَّحقيقِ قَليلٌ .

3- قَولُ الله تعالى: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ يدُلُّ على أنَّ نَعيمَ الجَنَّةِ لا ينقَطِعُ، وفي ذلك حُجَّةٌ على جَهمِ بنِ صَفوانَ ؛ إذ زعَمَ أنَّ نَعيمَ الجَنَّةِ مُنقَطِعٌ !

4- قَولُ الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً قَولُه تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى في هذا البيانِ دَلالةٌ على أنَّ أحكامَ الإسلامِ يَستوي فيها الذُّكورُ والنِّساءُ، عدا ما خَصَّصَه الدِّينُ بأحَدِ الصِّنفَينِ .

5- الإيمانُ شَرطٌ في صِحَّةِ الأعمالِ الصَّالحةِ وقَبولِها، بل لا تُسمَّى أعمالًا صالِحةً إلَّا بالإيمانِ، والإيمانُ مُقتَضٍ لها؛ فإنَّه التَّصديقُ الجازِمُ المُثمِرُ لأعمالِ الجَوارِحِ مِن الواجِباتِ والمُستحَبَّاتِ، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً .

6- في قَولِه تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ضَمِنَ اللهُ لأهلِ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ الجَزاءَ في الدُّنيا بالحياةِ الطَّيِّبةِ، والحُسنى يومَ القيامةِ، فلهم أطيَبُ الحَياتَينِ، فهم أحياءٌ في الدَّارَينِ .

7- قَولُ الله تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ استَدَلَّ به مَن قال: إنَّ المُباحَ داخِلٌ في قِسمِ الحَسَنِ؛ ووَجهُه: أنَّ (أحسَنَ) أفعَلُ تَفضيلٍ يقتَضي المُشارَكةَ، والواجِبُ أحسَنُ مِن المَندوبِ قَطعًا، والمندوبُ أحسَنُ مِن المُباحِ؛ إذ لا ثَوابَ فيه، فبَقِيَ المُباحُ حسَنًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ استئنافُ إنشاءٍ عن اتِّخاذِ الأَيْمانِ دخَلًا على العُمومِ، فيَشمَلُ جميعَ الصُّورِ مِن الحَلِفِ في المبايَعةِ، وقَطعِ الحقوقِ الماليَّةِ، وغيرِ ذلك

.

- قولُه: وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ كَرَّر النَّهيَ عن اتِّخاذِ الأَيمانِ دخَلًا بينَهم؛ تأكيدًا عليهم، وإظهارًا لعِظَمِ ما يُرتكَبُ منه ، وهو تصريحٌ بالنَّهيِ عنه بعدَ التَّضمينِ؛ تأكيدًا، ومبالَغةً في قُبحِ المنهيِّ ، وكان تفريعُ قولِه تعالى: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تفصيلًا لِما أُجمِل في معنى الدَّخَلِ .

- قولُه: فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا زلَلُ القَدمِ تمثيلٌ لاختلالِ الحالِ، والتَّعرُّضِ للضُّرِّ؛ لأنَّه يترتَّبُ عليه السُّقوطُ أو الكسرُ، كما أنَّ ثُبوتَ القدَمِ تَمكُّنُ الرِّجلِ مِن الأرضِ، وهو تمثيلٌ لاستقامةِ الحالِ، ودَوامِ السَّيرِ، ولَمَّا كان المقصودُ تمثيلَ ما يَجُرُّه نقضُ الأيمانِ مِن الدَّخَلِ شُبِّهَت حالُهم بحالِ الماشي في طريقٍ، بينَما كانت قدَمُه ثابتةً إذا هي قد زلَّت به فصُرِع؛ فالمشبَّهُ بها حالُ رَجُلٍ واحدٍ؛ ولذلك نُكِّرَت قَدَمٌ وأُفرِدَت؛ إذ ليس المقصودُ قدَمًا مُعيَّنةً ولا عددًا من الأقدامِ، كما يُقالُ لجماعةٍ يتَردَّدون في أمرٍ: إنَّكم تُقدِّمون رِجلًا، وتُؤخِّرون أُخرى؛ تَمثيلًا لحالِهم بحالِ الشَّخصِ المتردِّدِ في المشيِ إلى الشَّيءِ .

- وقيل: السِّرُّ في إفرادِ القدَمِ وتنكيرِها: استعظامُ أن تَزِلَّ قدَمٌ واحدةٌ عن طريقِ الحقِّ بعدَ أن تَوطَّأَ لها مِهادُه، وثَبتَت عليه؛ فكيف بأقدامٍ كثيرةٍ ؟!

- وزيادةُ بَعْدَ ثُبُوتِهَا مع أنَّ الزَّللَ لا يُتَصوَّرُ إلَّا بعدَ الثُّبوتِ؛ لِتَصويرِ اختلافِ الحالَينِ، وأنَّه انحِطاطٌ مِن حالِ سعادةٍ إلى حالِ شقاءٍ، ومِن حالِ سلامةٍ إلى حالِ مِحنةٍ .

- وقولُه: وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وعيدٌ بعِقابِ الآخرةِ، وهو معطوفٌ على التَّفريعِ، وبهذا التَّصديرِ، وهذا التَّفريعِ النَّاشئِ عن جملةِ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فارقَتْ هذه الآيةُ نَظيرتَها السَّابقةَ بالتَّفصيلِ والزِّيادةِ؛ فحُقَّ أن تُعطَفَ عليها لهذه المغايَرةِ، وإن كان شأنُ الجملةِ المؤكِّدةِ ألَّا تُعطَفَ .

2- قَولُه تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ هذا نهيٌ عن نَقْضِ عهدِ الإسلامِ؛ لأجْلِ ما فاتَهم بدُخولِهم في الإسلامِ مِن مَنافِعَ عندَ قومِ الشِّركِ، وبهذا الاعتبارِ عُطِفَت هذه الجملةُ على جُملةِ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وعلى جملةِ وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ؛ لأنَّ كلَّ جملةٍ منها تَلتَفِتُ إلى غرَضٍ خاصٍّ ممَّا قد يَبعَثُ على النَّقضِ .

- قولُه: وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا: قَلِيلًا صفةٌ كاشِفةٌ وليسَت مُقيِّدةً، أي: إنَّ كلَّ عِوَضٍ يُؤخَذُ عن نقضِ عهدِ اللهِ هو عِوَضٌ قليلٌ، ولو كان أعظَمَ المكتسَباتِ .

- وجملةُ إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تعليلٌ للنَّهيِ باعتبارِ وصْفِ عِوَضِ الاشْتِراءِ المنهيِّ عنه بالقِلَّةِ؛ فإنَّ ما عِندَ اللهِ هو خيرٌ مِن كلِّ ثمَنٍ وإن عَظُم قدرُه ، وقولُه: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تعليلٌ للنَّهيِ على طريقةِ التَّحقيقِ .

3- قَولُه تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

- قولُه: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ تعليلٌ للخَيْريَّةِ بطَريقِ الاستِئْنافِ، أي: ما تتَمتَّعون به مِن نَعيمِ الدُّنيا وإنْ جَلَّ، بل الدُّنْيا وما فيها جَميعًا يَنْفَدُ، وإنْ كَثُر عددُه، ويَنقَضي وإن طالَ أمَدُه ، وهو تذييلٌ وتعليلٌ لمضمونِ جُملةِ إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ بأنَّ ما عِندَ اللهِ لهم خيرٌ مُتجدِّدٌ لا نَفادَ له، وأنَّ ما يُعْطيهم المشرِكون مَحدودٌ نافِدٌ؛ لأنَّ خَزائنَ النَّاسِ صائِرةٌ إلى النَّفادِ بالإعطاءِ، وخَزائِنَ اللهِ باقيةٌ، أي: ما عِندَ اللهِ لا يَفْنى؛ فالأجدَرُ الاعتِمادُ على عَطاءِ اللهِ الموعودِ على الإسلامِ، دونَ الاعتمادِ على عطاءِ النَّاسِ، الَّذين يَنفَدُ رِزقُهم ولو كَثُر. وهذا الكلامُ جَرى مَجْرى التَّذييلِ لِمَا قَبْلَه، وأطلَق إرسالَ المثَلِ فيُحمَلُ على الأعَمِّ؛ ولذلك كان ضميرُ عِنْدَكُمْ عائِدًا إلى جَميعِ النَّاسِ بقَرينةِ التَّذييلِ والمثَلِ، وبقَرينةِ المقابَلةِ بما عِندَ اللهِ، أي ما عِندَكم- أيُّها النَّاسُ- ما عِندَ الموعودِ وما عِندَ الواعِدِ؛ لأنَّ المنهيِّينَ عن نَقْضِ العهدِ ليس بيَدِهم شيءٌ .

- وفي إيثارِ الاسمِ بَاقٍ على صيغةِ المضارِعِ (يَبْقى) مِن الدَّلالةِ على الدَّوامِ ما لا يَخْفى .

- قولُه: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تكريرُ الموعِدِ المستفادِ مِن قولِه تعالى: إِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ على نهجِ التَّوكيدِ القسَميِّ؛ مُبالَغةً في الحَمْلِ على الثَّباتِ في الدِّينِ. والالْتِفاتُ عمَّا يَقتَضيه ظاهِرُ الحالِ مِن أن يُقالَ: (ولنَجزِينَّكم أجرَكم بأحسَنِ ما كُنتم تَعمَلون)؛ للتَّوسُّلِ إلى التَّعرُّضِ لأعمالِهم، والإشعارِ بعِلِّيَّتِها للجزاءِ، أي: واللهِ لنَجزِيَنَّ .

- قولُه: بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُضيفَ إليه الأحسَنُ؛ للإشعارِ بكَمالِ حُسنِه كما في قولِه سبحانه: وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: 148] ، لا لإفادةِ قَصْرِ الجزاءِ على الأحسَنِ منه دونَ الحسَنِ؛ فإنَّ ذلك مِمَّا لا يَخطُرُ ببالِ أحَدٍ لا سِيَّما بعدَ قولِه تعالى: أَجْرَهُمْ، أو لَنَجْزِيَنَّهُمْ بحسَبِ أحسَنِ أفرادِ أعمالِهم المذكورِ على مَعْنى: لَنُعطينَّهم بمُقابَلةِ الفردِ الأدنى مِن أعمالِهم المذكورةِ ما نُعطيه بمُقابلةِ الفردِ الأعلى منها مِن الأجرِ الجزيلِ، لا أنَّا نُعْطي الأجرَ بحَسَبِ أفرادِها المتفاوِتةِ في مَراتبِ الحُسْنِ بأن نَجزِيَ الحسَنَ مِنها بالأجرِ الحسَنِ والأحسَنَ بالأحسَنِ ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في تفسيرِ الآيةِ.

- قولُه: بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قالَه هنا بلَفظِ مَا وفي سورةِ (الزُّمرِ) قال: بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر: 35] ، فعَبَّر بلفظِ الَّذِي مُوافَقةً في كلٍّ مِنهما لِمَا قَبلَه؛ إذْ قَبْلَ ما هنا: إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وقولُه: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وقبلَ ما هناك: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا [الزمر: 35] ، وقولُه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ [الزمر: 33] .

4- قولُه تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ

- قولُه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى... : مَنْ اسمٌ موصولٌ مُتناوِلٌ في نفسِه للذَّكَرِ والأنثى؛ وإنَّما نبَّه بهِما؛ لأنَّ (مَن) مُبهَمٌ صالِحٌ على الإطلاقِ للنَّوعينِ، إلَّا أنَّه إذا ذُكِر كان الظَّاهرُ تَناوُلَه للذُّكورِ، فقيل: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى على التَّبْيينِ؛ لِتَبيينِ العُمومِ الَّذي دَلَّت عليه (مَن) الموصولةُ؛ لِيَعُمَّ الموعِدُ النَّوعَينِ جميعًا؛ فبيَّنه بالنَّوعينِ دفعًا للتَّخصيصِ؛ فإنَّه لو لم يَذكر الأُنثَى لكانتْ داخِلةً في الحُكمِ بطَريقِ التَّغليبِ، كما في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا حيثُ دخلتِ النساءُ في الخِطابِ بطريق التغليبِ؛ فلَمَّا كان المرادُ هنا مِن مَنْ العمومَ والاستيعابَ لحُصولِ التَّسويةِ بينهما في الحُكمِ، لا بطَريقِ التغليبِ بَيَّن بقولِه: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى. وقيل: إنَّه تعالَى لَمَّا رغَّب المؤمنين في الصَّبرِ على ما الْتزَمُوه من فِعلِ الواجباتِ والمندوباتِ دونَ المباحاتِ بقوله: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا، ثُمَّ رغَّبهم في الإيمانِ بكُلِّ ما كان مِن شرائعِ الإسلامِ بقولِه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا؛ أتْبَع ذلك بقولِه: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى تقريرًا للوعدِ، وإزالةً لوهمِ التَّخصيصِ كَرمًا وفَضلًا .

وهذا مِن التَّتميمِ، وتَكرَّر في هذه الآيةِ مرَّتَين؛ الأُولى في قولِه: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى؛ لأنَّ (مَن) الشَّرطيَّةَ أو الموصوليَّةَ تُفيدُ العُمومَ؛ فكان لا بُدَّ مِن تَتميمِها بذلك؛ للتَّأكيدِ، وإزالةً لِوَهمِ التَّخصيصِ جَرْيًا على مُعتقَداتِ العرَبِ القديمةِ في تَفضيلِ الذَّكرِ على الأُنثَى، وإيثارِه بكلِّ ما هو خيرٌ، والثَّانيةَ في قولِه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ .

- وفي قولِه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ أيضًا إيثارُ إيرادِه بالجملةِ الاسميَّةِ الحاليَّةِ على نَظْمِه في سِلْكِ الصِّلةِ، أي: لم يَقُلْ: (وآمَنَ)، عَطفًا على (مَن عَمِل صالِحًا)؛ لإفادةِ وُجوبِ دَوامِه، ومُقارَنتِه للعمَلِ الصَّالحِ .

- قولُه: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ابتُدِئ الوعدُ بإسنادِ الإحياءِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ؛ تَشريفًا له، كأنَّه قيل: (فلَه حياةٌ طيِّبةٌ منَّا)، ولَمَّا كانت حياةُ الذَّاتِ لها مُدَّةٌ معيَّنةٌ كَثُر إطلاقُ الحياةِ على مُدَّتِها، فوَصَفها بالطِّيبِ بهذا الاعتبارِ، أي: طِيبِ ما يَحصُلُ فيها .

===================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (98-100)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: فإذا أردتَ- يا مُحمَّدُ- أن تقرأَ شَيئًا مِن القُرآنِ، فاستَجِرْ باللهِ مِن شَرِّ الشَّيطانِ المَطرودِ مِن رَحمةِ اللهِ، قائِلًا: أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ؛ إنَّ الشَّيطانَ ليس له تسلُّطٌ على المُؤمِنينَ باللهِ ورَسولِه، المُعتَمِدين على ربِّهم وحدَه، إنَّما تَسَلُّطُه على الذينَ اتخذوه وليًّا فأطاعُوه فيما يأمرُهم به، والذين هم مُشرِكونَ باللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

 

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما منَّ اللهُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بإنزالِ كتابٍ جامعٍ لصفاتِ الكمالِ، وأنَّه تبيانٌ لكلِّ شيءٍ، فقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وذكَرَ أشياءَ مِمَّا بُيِّنَ في الكِتابِ؛ قال بعد ذلك: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي: إذا شرَعْتَ في قراءةِ هذا الكتابِ الشريفِ الجامعِ الذي نبَّهتُ على بعضِ ما اشتَمل عليه، ونازَعك فيه الشيطانُ بهمزِه ونفثِه فاستعِذْ بالله منه

.

وأيضًا فإنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَرَ العمَلَ الصَّالِحَ، ووَعَدَ عليه، وصَلَ به قَولَه تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ؛ إيذانًا بأنَّ الاستِعاذةَ مِن جُملةِ الأعمالِ الصَّالحةِ التي يُجزِلُ اللهُ عليها الثَّوابَ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه العمَلَ الصَّالِحَ والجَزاءَ عليه؛ أتبَعَه بذِكرِ الاستعاذةِ التي تَخلُصُ بها الأعمالُ الصَّالحةُ عن الوَساوِسِ الشَّيطانيَّةِ، فقال تعالى :

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98).

أي: فإذا أردْتَ قِراءةَ القُرآنِ- يا مُحمَّدُ- فالْتَجِئْ إلى المَعبودِ الحقِّ سُبحانَه، واستَجِرْ به مِنْ كُلِّ جانٍّ مُتمَرِّدٍ، مَطرودٍ عن كلِّ خَيرٍ؛ حتى لا يَصرِفَك بوَساوِسِه عن تدبُّرِ القُرآنِ، والانتفاعِ به .

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالاستعاذةِ مِن الشَّيطانِ، وكان ذلك يُوهِمُ أنَّ للشَّيطانِ قُدرةً على التصَرُّفِ في أبدانِ النَّاسِ، فأزال اللهُ تعالى هذا الوَهمَ، وبيَّنَ أنَّه لا قُدرةَ له البتَّةَ إلَّا على الوَسْوسةِ، فقال تعالى :

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99).

أي: إنَّ الشَّيطانَ ليس له طَريقٌ يتسَلَّطُ بها على المُؤمِنينَ المُعتَمِدينَ على رَبِّهم وَحْدَه، الذينَ استعاذُوا برَبِّهم مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، فلا قُدرةَ له عليهم، ولا حُجَّةَ له فيما يَدعوهم .

كما قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا [الإسراء: 65] .

إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100).

أي: إنَّما تَسَلُّطُ الشَّيطانِ واقِعٌ على الذينَ يتَّخِذونَه وَلِيًّا لهم مِن دُونِ الله تعالى، فيَتَّبِعونَه ويُطيعونَه فيما يأمُرُهم به ، وعلى الذين يُشرِكونَ باللهِ تعالى

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فإذا أراد العبدُ القراءةَ لكتابِ الله الذي هو أشرفُ الكتبِ وأجلُّها، وفيه صلاحُ القلوبِ، والعلومُ الكثيرةُ، فإنَّ الشَّيطانَ أحرَصُ ما يكونُ على العَبدِ عندَ شُروعِه في الأمورِ الفاضِلةِ، فيَسعَى في صَرْفِه عن مَقاصِدِها ومَعانيها، فالطَّريقُ إلى السَّلامةِ مِن شَرِّه: الالتجاءُ إلى اللهِ، والاستعاذةُ به مِن شَرِّه، فيقولُ القارئُ: (أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ) مُتدَبِّرًا لمعناها، مُعتَمِدًا بقَلبِه على اللهِ في صَرفِه عنه، مُجتَهِدًا في دَفْعِ وَساوِسِه، وأفكارِه الرَّديئةِ

؛ ليكونَ الشيطانُ بعيدًا عن قلبِ المرءِ وهو يتلو كتابَ الله حتى يحصلَ له بذلك تدبرُ القرآنِ، وتفهمُ معانيه، والانتفاعُ به؛ فلهذا شُرِع تقديمُ الاستعاذةِ على القراءةِ في الصلاةِ، وخارج الصلاةِ .

2- نفيُ سُلطانِ الشَّيطانِ مَشروطٌ بأمرَينِ: الإيمانِ، والتوَكُّلِ؛ قال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فالإيمانُ مَبدأٌ أصيلٌ لِتَوهينِ سُلطانِ الشَّيطانِ في نَفسِ المُؤمِنِ، فإذا انضَمَّ إليه التوكُّلُ على اللهِ، اندفَعَ سُلطانُ الشَّيطانِ عن المُؤمِنِ المتوكِّلِ .

3- الإخلاصُ يَمنَعُ مِن تسَلُّطِ الشَّيطانِ؛ قال تعالى فيما قَصَّه مِن قِصَّةِ آدمَ وإبليسَ أنَّه قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82- 83] ، وقال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] ، وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فبَيَّنَ أنَّ سُلطانَ الشَّيطانِ وإغواءَه إنَّما هو لِغَيرِ المُخلَصينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فيه الأمرُ بالاستعاذةِ عندَ القِراءةِ

، وذلك شامِلٌ للصَّلاةِ وغَيرِها .

2- قَولُ الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إنَّما لم تُشرَعْ لذلك كَلِمةُ (باسْمِ الله)؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ تَخَلٍّ عن النَّقائِصِ، لا مَقامُ استِجلابِ التيَمُّنِ والبَرَكةِ؛ لأنَّ القُرآنَ نَفسَه يُمنٌ وبَرَكةٌ وكَمالٌ تامٌّ، فالتيَمُّنُ حاصِلٌ، وإنما يُخشَى الشَّيطانُ أن يغشَى بركاتِه فيُدخِلَ فيها ما يَنقُصُها، فإنَّ قِراءةَ القُرآنِ عِبارةٌ مُشتَمِلةٌ على النُّطقِ بألفاظِه والتفهُّمِ لِمَعانيه، وكلاهما مُعَرَّضٌ لوَسْوسةِ الشَّيطانِ: وَسْوَسةً تتعلَّقُ بألفاظِه مثل الإنْساءِ؛ لأنَّ الإنساءَ يُضَيِّعُ على القارئِ ما يحتوي عليه المِقدارُ المَنسِيُّ من إرشادٍ، ووَسوسةً تتعَلَّقُ بمعانيه، مثل أن يُخطِئَ فهمًا، أو يقلبَ عليه مُرادًا؛ وذلك أشَدُّ مِن وَسوَسةِ الإنساءِ .

3- قال الله تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فإذا كان الشَّيطانُ ليس له سُلطانٌ إلَّا على من أشرَكَ به، فكُلُّ من أطاع الشَّيطانَ في معصيةِ اللهِ، فقد تسَلَّطَ الشَّيطانُ عليه، وصار فيه مِن الشِّركِ بالشَّيطانِ بقَدرِ ذلك ، وذلك على أحدِ وجهي تفسيرِ بِهِ.

4- قَولُه تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ هذه الآيةُ الكَريمةُ فيها التَّصريحُ بأنَّ الشَّيطانَ له سُلطانٌ على أوليائِه، ونَظيرُها الاستثناءُ في قَولِه تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] ، وقد جاء في بعضِ الآياتِ ما يدُلُّ على نَفيِ سُلطانِه عليهم، كقَولِه تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ: 20- 21] ، وقَولِه تعالى حاكيًا عنه مُقَرِّرًا له: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] ؟

والجوابُ: أنَّ السُّلطانَ الذي أثبَتَه له عليهم غيرُ السُّلطانِ الذي نفاه، وذلك مِن وَجهينِ:

الأول: أنَّ السُّلطانَ الثَّابتَ هو سُلطانُ التمكُّنِ منهم، وتلاعُبِه بهم، وسَوقِه إيَّاهم كيفَ أراد، بتمكينِهم إيَّاه مِن ذلك بطاعتِه ومُوالاتِه، والسُّلطانَ الذى نفاه سُلطانُ الحُجَّةِ، فلم يكُنْ لإبليسَ عليهم مِن حُجَّةٍ يتسَلَّطُ بها، غيرَ أنَّه دعاهم فأجابوه بلا حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ، وإطلاقُ السُّلطانِ على البُرهانِ كثيرٌ في القُرآنِ.

الثاني: أنَّ الله لم يجعَلْ له عليهم سُلطانًا ابتداءً البتَّةَ، ولكِنْ هم سَلَّطوه على أنفُسِهم بطاعتِه ودُخولِهم في جُملةِ جُندِه وحِزبِه، فلم يتسَلَّطْ عليهم بقُوَّتِه؛ فإنَّ كَيدَه ضَعيفٌ، وإنَّما تسَلَّطَ عليهم بإرادتِهم واختيارِهم، والمقصودُ أنَّ مَن قصَدَ أعظَمَ أوليائِه وأحبابِه ونُصَحائِه فأخذَه، وأخَذَ أولادَه وحاشِيتَه، وسَلَّمَهم إلى عَدُوِّه؛ كان مِن عُقوبتِه أن يُسَلَّطَ عليه ذلك العَدُوُّ نَفسُه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ جملةٌ مُعترِضةٌ، والمقصودُ بالتَّفريعِ الشُّروعُ في التَّنويهِ بالقُرآنِ، وإظهارُ اسْمِ القُرآنِ دونَ أن يُضمَرَ للكِتابِ المَذكورِ في قولِه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ؛ لأجْلِ بُعدِ الكَلامِ المُعادِ؛ فإنَّه قَبْلَه بتِسعِ آياتٍ

.

- قولُه: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فيه التَّعبيرُ بالقراءةِ عن إرادتِها، على طريقةِ إطْلاقِ اسْمِ المسبَّبِ على السَّببِ؛ إيذانًا بأنَّ المرادَ هي الإرادةُ المتَّصِلةُ بالقراءةِ .

2- قَولُه تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ تعليلٌ للأمرِ بالاستِعاذةِ مِن الشَّيطانِ عندَ إرادةِ قِراءةِ القرآنِ، أو لِجَوابِه المنْوِيِّ، أي: يُعِذْك، أو نَحوُه؛ وهذا التَّعليلُ لزِيادةِ الحَثِّ على الامْتِثالِ للأمرِ بأنَّ الاستعاذةَ تَمنَعُ تَسلُّطَ الشَّيطانِ على المستعيذِ؛ لأنَّ اللهَ منَعَه مِن التَّسلُّطِ على الَّذين آمَنوا المتوكِّلينَ، والاستعاذةُ مِنه شُعبةٌ مِن شُعَبِ التَّوكُّلِ على اللهِ؛ لأنَّ اللَّجَأَ إليه تَوكُّلٌ عليه، ففي الإعلامِ بالعِلَّةِ تنشيطٌ للمأمورِ بالفعلِ على الامتثالِ؛ إذْ يَصيرُ عالِمًا بالحِكْمةِ . وقيل: هي أيضًا بيانٌ لصِفةِ الاستعاذةِ؛ لِمَا تضَمَّنَته مِن ذِكْرِ التَّوكُّلِ على اللهِ؛ لِيُبيِّنَ أنَّ الاستعاذةَ إعرابٌ عن التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى لِدَفعِ سُلطانِ الشَّيطانِ؛ لِيَعقِدَ المستعيذُ نيَّتَه على ذلك، وليسَت الاستعاذةُ مُجرَّدَ قولٍ بدونِ استحضارِ نيَّةِ العَوْذِ باللهِ .

- قولُه: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيه إيثارُ صيغةِ الماضي في الصِّلَةِ الأُولى آمَنُوا؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ، وفي التَّعرُّضِ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ عِدَةٌ كريمةٌ بإعاذةِ المتوكِّلينَ .

- جملةُ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صفةٌ ثانيةٌ للموصولِ، وقدَّم المجرورَ على الفعلِ للقَصْرِ، أي: لا يتَوكَّلون إلَّا على ربِّهم، وجعَل فِعلَها مُضارِعًا؛ لإفادةِ تَجدُّدِ التَّوكُّلِ واستِمْرارِه .

- وإنَّما عطَف وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ دونَ إعادةِ اسمِ الموصولِ كما سيأتي في الآيةِ الَّتي بعدَها؛ للإشارةِ إلى أنَّ الوصفَيْنِ كصِلَةٍ واحدةٍ لِمَوصولٍ واحدٍ؛ لأنَّ المقصودَ اجتماعُ الصِّلتَينِ .

3- قَولُه تعالى: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ جملةٌ مستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ مَضمونَ الجملةِ قَبْلَها يُثيرُ سُؤالَ سائلٍ يَقولُ: فسُلْطانُه على مَن؟ والقَصْرُ المستفادُ مِن إِنَّمَا قَصرٌ إضافيٌّ بقرينةِ المقابَلةِ، أي: دونَ الَّذين آمَنوا، وعلى ربِّهم يتَوكَّلون؛ فحصَل به تأكيدُ جُملةِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا؛ لزِيادةِ الاهتمامِ بتَقْريرِ مَضمونِها، فلا يُفهَمُ مِن القصرِ أنَّه لا سُلطانَ له على غيرِ هذَينِ الفَريقينِ، وهم المؤمِنون الَّذين أهمَلوا التَّوكُّلَ، والَّذين انخَدَعوا لبعضِ وَسوَسةِ الشَّيطانِ .

- قولُه: الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ إيثارُ الجملةِ الفعليَّةِ الاستقباليَّةِ في الصِّلةِ الأُولى: يَتَوَلَّوْنَهُ؛ لإفادةِ الاستمرارِ التَّجدُّديِّ، كما أنَّ اختيارَ الجُملةِ الاسميَّةِ في الثَّانيةِ: هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ؛ للدَّلالةِ على الثَّباتِ ؛ فعبَّر بالمضارِعِ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ التَّولِّي، أي: الَّذين يُجدِّدون تَولِّيَه؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم كلَّما تَولَّوْه بالميلِ إلى طاعتِه تَمكَّنَ مِنهم سُلطانُه، وأنَّه إذا انقطَع التَّولِّي بالإقلاعِ أو بالتَّوبةِ انسلَخَ سُلطانُه عليهِم، وجُعِلَت الصِّلةُ جُملةً اسميَّةً؛ لِدَلالتِها على الدَّوامِ والثَّباتِ؛ لأنَّ الإشراكَ صِفةٌ مُستمِرَّةٌ؛ لأنَّ قَرارَها القَلبُ، بخِلافِ المعاصي؛ لأنَّ مَظاهِرَها الجَوارِحُ، للإشارةِ إلى أنَّ سُلطانَ الشَّيطانِ على المشرِكين أشدُّ وأدوَمُ؛ لأنَّ سبَبَه ثابتٌ ودائمٌ .

- وتقديمُ المجرورِ في بِهِ مُشْرِكُونَ؛ لإفادةِ الحصرِ، أي: ما أشرَكوا إلَّا بسَببِه، ردًّا عليهم إذْ يَقولون: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا [الأنعام: 148] وقولُهم: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف: 28] ، وذلك على أحدِ وجهي تأويلِ بِهِ.

- وتكريرُ الموصولِ (الَّذين - والَّذين)؛ للاحترازِ عن تَوهُّمِ كَونِ الصِّلةِ الثَّانيةِ حالِيَّةً مُفيدةً لعدَمِ دُخولِ غيرِ المشرِكين مِن أولياءِ الشَّيطانِ تحتَ سُلطانِه ، وتقديمُ الأُولى على الثَّانيةِ الَّتي هي بمُقابَلةِ الصِّلةِ الأُولى فيما سلَف؛ لرِعايةِ المقارَنةِ بينَها وبينَ ما يُقابِلُها مِن التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى، ولو رُوعي التَّرتيبُ السَّابقُ لانفصَل كلٌّ مِن القَرينتَينِ عمَّا يُقابِلُها .

======================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (101-103)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ

غريب الكلمات:

 

رُوحُ الْقُدُسِ: أي: جبريلُ عليه السلام، سمِّي بذلك؛ لأنَّه يأتي بما فيه حياةُ القلوبِ، وأصل القُدس الطَّهارةُ، حيثُ إنَّه ينزِلُ بالقُدسِ، أي: بما يُطهِّرُ به نفوسَنا؛ مِن القرآنِ والحِكمةِ. أو المرادُ: الروحُ المقدَّسُ، أي: المطهَّرُ

.

يُلْحِدُونَ: أي: يَمِيلونَ إليه، ويَزعُمونَ أنَّه يُعَلِّمُك، وأصلُ (لحد): يدُلُّ على مَيلٍ عن استقامةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: وإذا نَسَخْنا آيةً مِن القُرآنِ بآيةٍ أُخرَى، قال المُشرِكونَ: إنَّما أنت- يا مُحمَّدُ- كاذِبٌ تختَلِقُ هذا القرآنَ مِن عندِ نفسِك، بل أكثَرُ هؤلاء المُشرِكين جُهلاءُ لا عِلْمَ لهم بأنَّ القرآنَ حقٌّ، وأنَّ ما فيه مِن نَسخٍ إنما هو لحِكَمٍ إلهيَّةٍ.

ثمَّ أمَر الله نبيَّه أن يرُدَّ عليهم، فقال: قُلْ لهم- يا مُحمَّدُ: ليس القُرآنُ مُختَلَقًا مِن عندي، بل نَزَّلَه جِبريلُ مِن رَبِّي بالصِّدقِ والحَقِّ؛ لِيزيدَ المؤمنين ثباتًا في إيمانِهم، وليكونَ هدايةً وبِشارةً لكُلِّ من أسلمَ وجهَه لله.

ثمَّ حكَى الله تعالى مقولةً أُخرَى مِن مقولاتِ المشركينَ، وردَّ عليها، فقال: ونحن نعلَمُ أنَّ المُشرِكينَ يَقولونَ: إنَّك تتلَقَّى هذا القرآنَ مِن بَشَرٍ، كَذَبوا! فإنَّ لِسانَ الذي نَسَبوا إليه تَعليمَك القرآن- يا محمَّدُ- أعجميٌّ لا يُفصِحُ، والقُرآنُ عَربيٌّ غايةٌ في الوُضوحِ والبَيانِ!!

تفسير الآيات:

 

وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إنزالَ الكِتابِ تِبيانًا لكُلِّ شَيءٍ، وأمَرَ بالاستعاذةِ عندَ قراءتِه؛ ذكَرَ تعالى نَتيجةَ ولايةِ الشَّيطانِ لأوليائِه المُشرِكينَ، وما يُلقيه إليهم مِن الأباطيلِ

.

وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ .

أي: وإذا نَسَخْنا آيةً مِن القُرآنِ بآيةٍ أُخرَى سواها، خيرٍ منها أو مثلِها- واللهُ أعلَمُ بما يُنَزِّلُ في كتابِه، ويَنسَخُه بما يَصلُحُ لِعباده- قال المُشرِكونَ: إنَّما أنت- يا مُحمَّدُ- كاذِبٌ تختَلِقُ على اللهِ الباطِلَ !

كما قال تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106] .

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ .

أي: ليس الأمرُ كما قال هؤلاء المُشرِكونَ، ولكِنَّ حقيقةَ الأمرِ هي أنَّ أكثَرَهم لا يَعلَمونَ حَقيقةَ القُرآنِ وصِحَّتَه، وأنَّه حَقٌّ مِن عندِ اللهِ: ناسِخُه ومَنسوخُه، وأنَّ ما فيه مِن نَسخٍ هو لحِكَمٍ إلهيَّةٍ بالغةٍ، كمُراعاةِ مَصلحةِ عِبادِه، وإذا كانوا جُهَّالًا لا يَعلَمونَ ذلك، فقدْحُهم وذَمُّهم لا عِبرةَ به .

ثُمَّ بَيَّن سبحانَه لهؤلاءِ المعترضينَ على حِكمةِ النَّسخِ، الزَّاعمينَ أنَّ ذلك لم يَكُنْ مِنْ عندِ اللَّه، وأنَّ رسولَه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم افْتَراه، فقالَ :

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) .

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: ليس هذا القُرآنُ مُفتَرًى مِن عندي، وإنَّما نزَّله عليَّ-ناسِخَه ومَنسوخَه- جبريلُ المُطهَّرُ مِن كُلِّ خيانةٍ وهَوًى، وعَيبٍ وآفةٍ ، نزَّله مِن عندِ رَبِّي سُبحانَه مُشتَمِلًا على الحَقِّ؛ بالصِّدقِ في الأخبارِ، والعَدلِ في الأحكامِ، بلا خطأٍ فيه ولا تَحريفٍ؛ لِيُثبِّتَ المُؤمِنينَ على الحَقِّ، ويُقَوِّيَ إيمانَهم .

وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ.

أي: وَهُدًى مِن الضَّلالةِ، وبُشرى بالخَيرِ للَّذينَ استَسْلَموا لأمرِ اللهِ تعالى، وخَضَعوا له وانقادوا إلى ما أنزَلَه، فأقَرُّوا بذلك وصدَّقوا به قَولًا وعَملًا .

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا إبطالٌ لتَلبيسٍ آخَرَ مِمَّا يُلَبِّسُ به الكافِرونَ على عامَّتِهم .

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ .

أي: ونحنُ نَعلَمُ أنَّ مُشرِكي مكَّةَ يَقولونَ: إنَّما يُعَلِّمُ مُحمَّدًا هذا القُرآنَ إنسانٌ مِن بني آدَمَ، وليس هو مِن عندِ الله كما يقولُ .

لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ.

أي: يقولُ الله تعالى تكذيبًا لهم وردًّا على فِريَتِهم: لغةُ الرَّجُلِ الذي يُشيرُ إليه مُشرِكو قُرَيشٍ ويُضيفونَ إليه- ميلًا وانحِرافًا عن الحَقِّ- أنَّه يُعلِّمُ مُحمَّدًا القُرآنَ؛ لُغةٌ أعجميَّةٌ ليسَت بعربيَّةٍ، ولَيسَت بالتي تُبيِّنُ المعانيَ، وتُفصِحُ عن المرادِ بأوضَحِ بَيانٍ، وهذا القُرآنُ قد نزَلَ بلُغةٍ عَربيَّةٍ ذاتِ فَصاحةٍ وبَيانٍ واضحٍ عظيمٍ، فكيف يَزعُمونَ أنَّ مُحمَّدًا تلقَّى القرآنَ مِن أعجَميٍّ

 

؟!

الفوائد التربوية:

 

يُستَفادُ مِن قَولِه تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ... أنَّنا إذا عَلِمْنا أنَّ هذا القُرآنَ تكَلَّمَ به ربُّ العالَمينَ؛ أوجَبَ لنا ذلك تعظيمَ هذا القُرآنِ واحتِرامَه، وامتثالَ ما جاء فيه مِن الأوامرِ، وتَرْكَ ما فيه مِن المنهِيَّاتِ والمَحذوراتِ، وتصديقَ ما جاء فيه مِن الأخبارِ عن اللهِ تعالى وعن مَخلوقاتِه السَّابقةِ واللَّاحقةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ هذه الآيةُ دَلَّت على وُقوعِ نَسخِ القُرآنِ بالقُرآنِ

، ففيها رَدٌّ على مَن أنكَرَ النَّسْخَ .

2- تأمَّلْ حُسْنَ الاعتراضِ وجزالَتَه في قَولِ الربِّ تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ فقَولُه تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ اعتِراضٌ بين الشَّرطِ وجَوابِه أفاد أمورًا:

منها: الجوابُ عن سؤالِ سائلٍ: ما حكمةُ هذا التَّبديلِ، وما فائِدتُه؟

ومنها: أنَّ الذي بُدِّلَ وأُتِىَ بغيرِه مُنَزَّلٌ، مُحكَمٌ نزولُه قبلَ الإخبارِ بقَولِهم.

ومنها: أنَّ مَصدَرَ الأمْرَينِ صادِرٌ عن عِلْمِه تبارك وتعالى، وأنَّ كُلًّا منهما مُنَزَّلٌ؛ فيَجِبُ التَّسليمُ والإيمانُ بالأوَّلِ والثَّاني .

ومنها: أنَّ هذا التبديلَ ليس مِن عَمَلِ الرسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ، بل هو مِن اللهِ؛ أنزلَه بعِلمِه، وأبدلَ آيةً مكانَ آيةٍ بعِلمِه؛ وليس منك أيها الرسولُ .

3- في قوله تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي: كذابٌ، بالأمسِ تقولُ لنا كذا، واليومَ تقولُ لنا كذا! لكن هذا القولُ الذي يقولونه إزاءَ إتيانِه بآيةٍ مكانَ آيةٍ هو قولُ سَفَهٍ، ولو أمْعَنوا النظرَ؛ لعَلِموا عِلْمَ اليقينِ أنَّ الذي يأتي بآيةٍ مكانَ آيةٍ هو اللهُ سبحانه، وذلك يدلُّ على صِدْقِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ الكذَّابَ يَحْذَرُ غايةَ الحذرِ أنْ يأتيَ بكلامٍ غيرِ كلامِه الأولِ؛ لأنه يخشَى أنْ يُطَّلَعَ على كذِبهِ، فلو كان كاذبًا- كما يَدَّعُون أنَّ ذلك مِن علامةِ الكذبِ- ما أتى بشيءٍ يُخَالِفُ الأولَ؛ لأنَّه إذا أتَى بشيءٍ يُخَالِفُ الأولَ- على زعمِهم- تَبَيَّنَ كَذِبُه، بل إتيانُه بما يُخالِفُ الأولَ دليلٌ على صِدْقِه بلا شكٍّ؛ ولهذا قال هنا: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وهذا إضرابٌ إبطاليٌّ؛ معناه: بل لستَ مفتريًا، ولكنَّ أكثرَهم لا يَعْلَمُون، ولو أنَّهم كانوا مِن ذوي العلمِ لَعَلِمُوا أنَّه إذا بُدِّلَتْ آيةٌ مكانَ آيةٍ؛ فإنما ذلك دليلٌ على صِدْقِ الرسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ .

4- قَولُ الله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ دَلَّ اختِصاصُ التَّعليلِ بالمُسلِمينَ على اتِّصافِ الكُفَّارِ بضِدِّه مِن لَحاقِ الاضطِرابِ لهم، وتزَلزُلِ عقائِدِهم، وضَلالِهم .

5- في قَولِه تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ دَلالةٌ على عُلُوِّ اللهِ تعالى؛ حيث أخبَرَ سُبحانَه عن نُزُولِ القُرآنِ منه تعالى .

6- في قَولِه تعالى: مِنْ رَبِّكَ لم يَقُلْ: (مِن ربِّ العالَمينَ)؛ إشارةً إلى الرُّبوبيَّةِ الخاصَّةِ؛ رُبوبيَّةِ اللهِ للنَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهي رُبوبيَّةُ أخَصِّ الخاصَّةِ .

7- قال الله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا قَولُه: بِالْحَقِّ أي: نُزولُه بالحَقِّ، وهو مُشتَمِلٌ على الحَقِّ في أخبارِه وأوامِرِه ونواهيه؛ فلا سبيلَ لأحَدٍ أن يَقدَحَ فيه قَدْحًا صَحيحًا؛ لأنَّه إذا عَلِمَ أنَّه الحَقُّ، عَلِمَ أنَّ ما عارَضَه وناقَضَه باطِلٌ .

8- قال الله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، إنَّما لم يصرِّحْ باسمِ مَن زعموا أنَّه يعلِّمُه عليه الصلاة والسلام، مع أنَّه أدخلُ في ظهورِ كذبِهم؛ للإيذانِ بأنَّ مدارَ خطئِهم ليس بنسبتِه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى التعلُّمِ مِن شخصٍ معيَّنٍ، بل مِن البشرِ كائنًا مَن كان .

9- قال الله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ هذا يَدُلُّ على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَلَّغَ القرآنَ- لفْظَه ومعناه- لم يَنْزِلْ عليه مَعانيَ مُجَرَّدةً؛ إذ لو كان كذلك لأمكَنَ أن يُقالَ: تَلَقَّى مِن هذا الأعجميِّ معانيَ صاغَها بلِسانِه، فلمَّا ذكَرَ قَولَه: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ بعدَ قَولِه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ دلَّ ذلك على أنَّ رُوحَ القُدُسِ نَزَلَ بهذا اللِّسانِ العربيِّ المُبِينِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ

- قولُه: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ في الالْتِفاتِ إلى الغَيْبةِ، مع إسنادِ الخبرِ إلى الاسمِ الجليلِ (اللَّهُ) المستجمِعِ للصِّفاتِ: ما لا يَخْفى مِن تربيَةِ المهابةِ

.

- قولُه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ جملةٌ اعتراضيةٌ؛ لِتَوبيخِ الكفَّارِ على قولِهم، والتَّنبيهِ على فَسادِ سنَدِهم .

- قولُه: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بالَغوا في نسبةِ الافتراءِ للرَّسولِ بلَفظِ إِنَّمَا، وبمُواجَهةِ الخِطابِ، وباسْمِ الفاعلِ مُفْتَرٍ الدَّالِّ على الثُّبوتِ .

- قولُه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ عبَّر بـ (الأكثَرِ)؛ مُراعاةً لِما كان عندَ قليلٍ مِنهم مِن تَوقُّفٍ، وقِلَّةِ مُبالَغةٍ في التَّكذيبِ والظَّنِّ، أو لأنَّ بعضَهم يَعلَمُ ويَكفُرُ عِنادًا؛ فيَكونُ هذا اللَّفظُ قَرَّر على قليلٍ مِنهم أنَّهم يَعلَمون ويَكفُرون تَمرُّدًا وعِنادًا .

- ومفعولُ لَا يَعْلَمُونَ محذوفٌ؛ لِدَلالةِ المعنى عليه، أي: لا يَعلَمون أنَّ الشَّرائعَ حِكَمٌ ومَصالِحُ .

2- قولُه تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ

- في صيغةِ التَّفعيلِ في الموضِعَينِ يُنَزِّلُ ونَزَّلَهُ وما فيهما مِن التَّنزيلِ شيئًا فشيئًا على حسَبِ الحوادثِ والمصالحِ، إشعارٌ بأنَّ التَّدريجَ في الإنزالِ ممَّا تَقْتَضيه الحِكَمُ البالِغةُ، وأنَّ التَّبْديلَ مِن بابِ المصالحِ كالتَّنزيلِ، وأنَّ تَرْكَ النَّسْخِ بمَنزِلةِ إنزالِه دَفْعةً واحدةً في خُروجِه عن الحِكْمةِ .

- قولُه: رُوحُ الْقُدُسِ إضافةُ الرُّوحِ إلى القُدُسِ وهو الطُّهرُ؛ للمُبالَغةِ في ذلك الوصفِ كأنَّه طَبْعٌ مِنه، كإضافةِ حاتِمٍ إلى الجُودِ، حيث قيل: حاتِمُ الجُودِ .

- قولُه: مِنْ رَبِّكَ فيه الْتِفاتٌ، وهو جارٍ على خِلافِ مُقتَضى ظاهرِ حِكايةِ المَقولِ المأمورِ بأن يَقولَه؛ لأنَّ مُقتَضى الظَّاهرِ أن يَقولَ: (مِن ربِّي)؛ فوقَع الالْتِفاتُ إلى الخطابِ؛ تَأنيسًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بزيادةِ تَوغُّلِ الكلامِ معَه في طريقةِ الخطابِ، ونُكتتُه: أنَّه بعدَ أن أبطَلَ اللهُ دَعْواهم عليه أنَّه مُفتَرٍ بطريقةِ النَّقضِ، أمَر رسولَه أن يُبيِّنَ لهم ماهِيَّةَ القرآنِ .

- وأيضًا في قولِه: مِنْ رَبِّكَ اخْتِيرَ اسْمُ الرَّبِّ؛ لِمَا فيه مِن مَعنى العِنايةِ والتَّدبيرِ .

- قولُه: لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ فيه تَعريضٌ بحُصولِ أضْدادِ ذلك لغَيرِهم .

3- قَولُه تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ

- قولُه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ... فيه افتِتاحُ الجملةِ بالتَّأكيدِ بلامِ القسَمِ و(قَد)، وهذا يُشيرُ إلى أنَّ خاصَّةَ المشرِكينَ كانوا يَقولون ذلك لِعَامَّتِهم، ولا يَجهَرون به بينَ المسلِمين؛ لأنَّه باطِلٌ مكشوفٌ، وأنَّ اللهَ أطْلَع المسلِمين على ذلك، والجملةُ جوابٌ عن كلامِهم، فهي مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ قولَهم: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يتَضمَّنُ أنَّه ليس مُنزَّلًا مِن عندِ اللهِ، فيَسأَلُ سائلٌ: ماذا جوابُ قولِهم؟ فيُقالُ: لسانُ الَّذي... إلخ ؛ ففيه تَحْليَةُ هذه الجملةِ بفُنونِ التَّأكيدِ؛ لِتَحقيقِ ما تتَضمَّنُه مِن الوعيدِ .

- وصيغةُ الاستقبالِ في نَعْلَمُ لإفادةِ استمرارِ العِلمِ بحسَبِ الاستمرارِ التَّجدُّديِّ في مُتعلَّقِه يَقُولُونَ؛ فإنَّهم مُستمِرُّون على تَفوُّهِ تلك العظيمةِ ، فقال: وَلَقَدْ نَعْلَمُ ولم يَقُلْ: «لقد عَلِمْنا»؛ لأنَّ قَولَهم هذا يتجَدَّدُ، فكان التَّعبيرُ بالمُضارعِ أَولى مِن التَّعبيرِ بالماضي؛ لأنَّه لو قال: «لقد عَلِمْنا» لتَبادرَ إلى ذِهنِ بَعضِ النَّاسِ أنَّ المعنى: عَلِمْنا أنَّهم قالوا ذلك سابِقًا، لا أنَّهم يستَمِرُّونَ عليه .

- قولُه: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ الجملتانِ مُستأنَفَتان لإبطالِ طَعنِهم ، ويجوزُ أن تكونَ جملةً حاليَّةً، وذلك أبلَغُ في الإنكارِ عليهم، أي: يَقولون ذلك والحالةُ هذه، أي: عِلمُهم بأعجميَّةِ هذا البَشَرِ وإبانةِ عرَبيَّةِ هذا القرآنِ كان يَمنَعُهم مِن تلك المقالةِ .

========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (104-111)

ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ

غريب الكلمات:

 

طَبَعَ: أي: ختَم، والطَّبعُ: تصويرُ الشَّيءِ بصورةٍ ما، وهو مَثَلٌ على نهايةٍ ينتهي إليها الشَّيءُ، حتَّى يُختمَ عندَها

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ

مَنْ اسمُ شرطٍ جازِمٌ مبنيٌّ في محلِّ رفعٍ مُبتدأٌ، وجوابُه محذوفٌ، تقديرُه: (فعليهم غضَبٌ)، ودلَّ عليه فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ الآتي بعد مَنْ الثَّانية في قولِه: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا...، والشَّرطُ وجوابُه المحذوفُ في محلِّ رَفعٍ خَبَرُ مَنْ، والجملةُ كلُّها: مَنْ كَفَرَ... لا محلَّ لها مِن الإعرابِ، استئنافيَّةٌ لا تعَلُّقَ لها بما قَبلَها. إِلَّا أداةُ استِثناءٍ. مَنْ اسمٌ مَوصولٌ مبنيٌّ في محلِّ نصبٍ على الاستِثناءِ، وجملةُ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ حاليَّةٌ مِن الضَّميرِ في أُكْرِهَ، وجُملةُ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ الواو عاطِفةٌ. (لَكِنْ) حرفُ استدراكٍ. مَنْ اسمٌ مَوصولٌ مَبنيٌّ في محلِّ رفعٍ مُبتدأٌ. صَدْرًا مَفعولٌ به، أو تمييزٌ على تَضمينِ شَرَحَ معنى (طاب)، وجملةُ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ في محَلِّ رفعٍ خبَرُ المبتدأِ مَنْ، والفاءُ فيها زائدةٌ تَشبيهًا للمَوصولِ بالشَّرطِ. والجُملةُ كُلُّها لا محَلَّ لها من الإعرابِ، مَعطوفةٌ على الجُملةِ الاستِئنافيَّةِ مَنْ كَفَرَ. وقيل غَيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّ الكُفَّارَ الذين لا يُؤمِنونَ بِآياتِ اللَّهِ الدَّالَّةِ على وحدانيَّتِه سبحانَه، وعلى صِدقِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يبلِّغُه عنه؛ لا يُوَفِّقُهم اللهُ للإيمانِ واتباعِ الحَقِّ، ولهم في الآخرةِ عَذابٌ مُؤلِمٌ.

إنَّما يختلقُ الكَذِبَ مَن لا يُؤمِنُ بآياتِ اللهِ، وأولئك هم الكاذِبونَ.

ثمَّ بيَّن تعالى حُكمَ مَن أُكْرِه على النُّطقِ بكلمةِ الكفرِ، وحكمَ مَن استحبَّ الكفرَ على الإيمانِ، فقال: مَن نطَقَ بكَلِمةِ الكُفرِ وارتدَّ بعد إيمانِه، فعليهم غضَبٌ مِن اللهِ، إلَّا مَن أُكرِه على النُّطقِ بالكُفرِ، فنطَقَ به خَوفًا من الهلاكِ، وقَلبُه ثابِتٌ على الإيمانِ، لكِنْ مَن نطَقَ بالكُفرِ، وانشرَح صدرُه به، فعليهم غَضَبٌ شَديدٌ مِن اللهِ، ولهم عَذابٌ عَظيمٌ؛ وذلك بسبَبِ إيثارِهم الدُّنيا وزِينتَها على الآخرةِ، وأنَّ اللهَ لا يهدي الكافرينَ، أولئك هم الذينَ ختَمَ اللهُ على قُلوبِهم وسَمعِهم وأبصارِهم، وأولئك هم الغافِلونَ، حقًّا أنَّهم في الآخرةِ هم الخاسِرونَ.

ثمَّ ذكَر الله تعالى جانبًا مِن لطفِه وإحسانِه لقومٍ هاجروا في سبيلِه، فقال: ثمَّ إنَّ رَبَّك للمُستضعَفينَ الذين عذَّبَهم المُشرِكون وفَتَنوهم، حتى وافَقوهم على ما هم عليه ظاهِرًا، وقلوبُهم ثابِتةٌ على الإيمانِ، ثمَّ هاجروا وجاهَدوا في سَبيلِ اللهِ، وصَبَروا على البلاءِ والأذى طلبًا لرضا الله تعالى- إنَّ رَبَّك مِن بعدِها لَغَفورٌ لهم رحيمٌ بهم.

ثم قال تعالى: يومَ تأتي كُلُّ نَفسٍ تُخاصِمُ وتدافِعُ عن نفسِها، وتعتَذِرُ بكُلِّ المعاذيرِ، وفي هذا اليوم تُعطَى كلُّ نفسٍ جزاءَ عَمَلِها وافيًا غيرَ منقوصٍ، ولا يُظلَمونَ بزيادةٍ في سَيِّئاتِهم، ولا بنَقصِ شَيءٍ مِن حَسَناتِهم.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى نِسبةَ الكافرينَ الافتراءَ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ ما أتَى به مِن عندِ اللهِ إنَّما يُعَلِّمُه إيَّاه بَشَرٌ؛ كان ذلك تَسجيلًا عليهم بانتِفاءِ الإيمانِ، فأخبَرَ تعالى عنهم أنَّهم لا يَهديهم اللهُ أبدًا؛ إذ كانوا جاحِدينَ بآياتِ اللهِ، وهو ما أتَى به الرَّسولُ مِن المُعجِزاتِ وخُصوصًا القُرآنَ، فمَن بالَغَ في جَحدِ آياتِ اللهِ، سَدَّ اللهُ عليه بابَ الهِدايةِ، وذكَرَ تعالى وَعيدَه بالعذابِ الأليمِ لهم

.

وأيضًا لَمَّا ذَكَر سبحانَه جوابَهم وبَّخَهم وهدَّدَهم فقال تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ.

أي: إنَّ الذينَ لا يُؤمِنونَ بحُجَجِ اللهِ وأدِلَّتِه، وما أنزَله على رسولِه، لا يُوَفِّقُهم اللهُ للإيمانِ واتِّباعِ الحَقِّ؛ عُقوبةً لهم على رَدِّهم الهُدى .

وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.

أي: ولهم في الآخرةِ عَذابٌ مُوجِعٌ .

إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا زَيَّفَ اللهُ تعالى شُبَهَ الكافرينَ، أثبَتَ لهم ما قَذَفوا به النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو بَريءٌ منه، مقصورًا عليهم .

إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ.

أي: إنَّما يَختَلِقُ الكَذِبَ على اللهِ الذينَ لا يُؤمِنونَ بِآيَاتِ اللَّهِ .

وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ .

أي: والذينَ لا يُؤمِنونَ بآياتِ اللهِ، هم المُعتادونَ للكَذِبِ، وهو مُنحَصِرٌ فيهم .

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا عَظَّمَ تهديدَ الكافرينَ، ذكَرَ في هذه الآيةِ تَفصيلًا في بيانِ مَن يَكفُرُ بلِسانِه لا بقَلبِه، ومَن يَكفُرُ بلِسانِه وقَلبِه معًا .

وأيضًا فإنه لَمَّا سبَقَ التَّحذيرُ مِن نَقضِ عَهدِ الله الذي عاهَدوه، وألَّا يَغُرَّهم ما لأمَّةِ المُشرِكينَ مِن السَّعةِ والرُّبُوِّ، والتَّحذيرُ مِن زَلَلِ القَدَمِ بعدَ ثُبوتِها، وبُشِّروا بالوَعدِ بحَياةٍ طَيِّبةٍ، وجزاءِ أعمالِهم الصَّالحةِ مِن الإشارةِ إلى التَّمَسُّكِ بالقُرآنِ، والاهتداءِ به، وألَّا تَغُرَّهم شُبَهُ المُشرِكينَ وفُتونُهم في تكذيبِ القُرآنِ- عَقَّبَ ذلك بالوَعيدِ على الكُفرِ بعدَ الإيمانِ .

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106).

أي: مَن كفَرَ باللهِ بعد أنْ كان مُؤمِنًا مُهتَديًا، فعَلَيهم غَضَبٌ مِن اللهِ، إلَّا مَن أُكرِهَ على الكُفرِ، والحالُ أنَّ قَلْبَه مُوقِنٌ بحَقيقةِ الإيمانِ، لم يتغيَّرِ اعتقادُه الصَّحيحُ ، ولكِنْ مَن اتَّسَعَ صَدرُه لِقَبولِ الكُفرِ واعتَقَده، واختارَه على الإيمانِ، وطابَت به نَفسُه، واطمأنَّت إليه؛ فعَلَيهم غَضَبٌ شديدٌ مِن الله، ولهم عذابٌ عظيمٌ في الآخرةِ .

عن مُحمَّدِ بنِ عَمَّارِ بنِ ياسرٍ، عن أبيه رضي الله عنه، قال: ((أخذَ المُشرِكونَ عَمَّارَ بنَ ياسرٍ، فلم يَترُكوه حتى سَبَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وذكَرَ آلهَتَهم بخَيرٍ، ثمَّ تَرَكوه، فلمَّا أتَى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ما وراءَك؟ قال: شَرٌّ يا رسولَ اللهِ؛ ما تُرِكْتُ حتى نِلتُ منك، وذكَرْتُ آلهتَهم بخيرٍ، قال: كيف تَجِدُ قَلْبَك؟ قال: مُطمَئِنًّا بالإيمانِ، قال: إنْ عادوا فعُدْ)) .

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107).

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ.

أي: ذلك الغَضَبُ مِن اللهِ والعذابُ الأُخرويُّ العَظيمُ بسَبَبِ أنَّ الذين كَفَروا بعدَ إيمانِهم اختارُوا نعيمَ الحَياةِ الدُّنيا على نَعيمِ الآخرةِ، فارتَدُّوا على أدبارِهم؛ طَمَعًا في شَيءٍ مِن زَهرةِ الدُّنيا الفانيةِ .

وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ.

أي: ولأنَّ اللهَ لا يُوفِّقُ القَومَ الكافرينَ بآياتِه، المُصرِّينَ على كُفرِهم، للهدايةِ واتِّباعِ الحَقِّ .

أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

هذه جُملةٌ مُبَيِّنةٌ لجُملةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ بأنَّ حِرمانَهم الهِدايةَ بحِرمانِهم الانتفاعَ بوَسائِلِها: مِن النَّظَرِ الصَّادِقِ في دلائِلِ الوَحدانيَّةِ، ومِنَ الوَعيِ لدَعوةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والقُرآنِ المُنَزَّلِ عليه، ومِن ثَباتِ القَلبِ على حِفظِ ما داخَلَه مِن الإيمانِ؛ حيث انسَلَخوا منه بعدَ أن تلَبَّسوا به .

أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ.

أي: أولئك الذين كَفَروا بعدَ إيمانِهم، هم الذينَ ختَمَ اللهُ على قُلوبِهم، فلا يَعقِلونَ بها الحَقَّ، وأصمَّ أسماعَهم، فلا يَسمَعونَ الهُدى، وأعمَى أبصارَهم، فلا يَنظُرونَ آياتِ اللهِ، ولا يَعتَبِرونَ بها .

وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ.

أي: وأولئك هم السَّاهونَ عمَّا خَلَقَهم اللهُ لأجْلِه، وعمَّا أعدَّ لهم في الآخرةِ مِن العَذابِ .

لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) .

أي: حقًّا أنَّ الذينَ كَفَروا بعدَ إيمانِهم هم الهالِكونَ المَغبونونَ الذين خَسِروا أنفُسَهم وأهليهم يومَ القيامةِ، وفاتَهم نَعيمُ الجَنَّةِ، ولم يَسْلموا من عذابِ النَّارِ .

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى- فيما تقدَّمَ- حالَ مَن كفَرَ باللهِ مِن بعدِ إيمانِه، وحالَ مَن أُكرِهَ على الكُفرِ فذكَرَ بسبَبِ الخَوفِ كَلِمةَ الكُفرِ، وحالَ مَن لم يَذكُرْها- ذكَرَ بعده حالَ من هاجرَ مِن بعدِ ما فُتِنَ .

وأيضًا لَمَّا قَدَّمَ الفاتِنَ والمَفتونَ، أتبَعَ ذلك ذِكرَ حُكمِهما، فقال تعالى :

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا .

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ فَتَنُوا بفَتحِ الفاءِ والتاءِ مَبنيًّا للفاعِلِ، أي: فَتَنُوا أنفُسَهم، قيل المعنى: أنَّهم هَجَروا أوطانَهم وقد عَرَفوا ما في ذلك مِن الشِّدَّة. وقيل: المعنى: أنَّهم فَتَنوا مَن آمَنَ باللهِ حين كانوا كُفَّارًا. وقيل غير ذلك .

2- قِراءةُ فُتِنُوا بضَمِّ الفاءِ وكَسرِ التاءِ مبنيًّا للمَفعولِ، أي: مِن بَعدِ ما فتَنَهم الكُفَّارُ بالإكراهِ على التَّلَفُّظِ بالكُفرِ، وقُلوبُهم مُطمَئِنَّةٌ بالإيمانِ. وقيل المعنى: مِن بعدِ ما فتَنَهم اللهُ .

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا .

أي: ثمَّ إنَّ ربَّك- يا مُحمَّدُ- للَّذين هاجَروا مِن أصحابِك مِن ديارِ الكُفرِ إلى دِيارِ الإسلامِ، مِن بَعدِ ما فتَنَهم كُفَّارُ مكَّةَ عن دينِهم بإكراهِهم على الكُفرِ، فأظهَرُوه لهم مع إخْفاءِ اعتِقادِهم الصَّحيحِ، ثمَّ جاهَدوا الكُفَّارَ وقاوَموهم؛ كي لا يَرُدُّوهم إلى الكُفرِ، وصَبَروا على تحمُّلِ المَشاقِّ .

إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

أي: إنَّ ربَّك للذين هاجروا من بعد ما فتَنهم الكفارُ حتى أظْهَروا الكفرَ، وقلوبُهم مطمئنَّةٌ بالإيمانِ؛ لَغفورٌ لهم، يَستُرُ ذُنوبَهم، ويتَجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها، رَحيمٌ بهم رَحمةً تَصلُحُ بها أمورُ دينِهم ودُنياهم .

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَما تقدَّم كثيرٌ مِن التحذيرِ والتبشيرِ، وتقدَّم أنَّه لا يُؤذنُ للذين كفروا ولا هم يُستعتبونَ، وختَم ذلك بانحصارِ الخسارِ في الكفارِ؛ بيَّن اليومَ الذي تظهرُ فيه تلك الآثارُ ، فقال تعالى:

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا.

أي: يومَ تأتي كُلُّ نَفسٍ تُخاصِمُ عن نَفسِها؛ فلا يُحاجِجُ عنها غَيرُها، ولا تُحاجِجُ هي عن غَيرِها، فتُدافِعُ بقَولِها عمَّا عَمِلَت في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ .

وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.

أي: وتُوفَّى كُلُّ نَفسٍ جَزاءَ ما عَمِلَت في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وهم لا يُظلَمونَ بزيادةٍ في سَيِّئاتِهم، ولا بنَقصِ شَيءٍ مِن حَسَناتِهم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ في الآيةِ أبلَغُ زَجْرٍ عن الكَذِبِ؛ حيث أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه إنَّما يَفتَري الكَذِبَ مَن لا يُؤمِنُ

.

2- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ جعَلَ اللهُ تعالى استِحبابَ الدُّنيا على الآخِرةِ هو الأصلَ المُوجِبَ للخُسرانِ .

3- قال الله تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ مَن هاجر في سبيلِ الله وخلَّى ديارَه وأموالَه؛ طلبًا لِمَرضاة الله، وفُتِن على دينِه ليَرجِعَ إلى الكفر، فثَبَت على الإيمانِ، ثمَّ جاهَد أعداءَ الله ليُدخِلَهم في دين اللهِ بلِسانِه ويَدِه، وصبر على هذه العباداتِ الشَّاقَّةِ على أكثَرِ النَّاسِ- فهذه أكبَرُ الأسبابِ التي تُنالُ بها أعظَمُ العَطايا وأفضَلُ المَواهِبِ، وهي مَغفِرةُ اللهِ للذُّنوبِ؛ صِغارِها وكِبارِها، المتَضَمِّنةُ زَوالَ كُلِّ أمرٍ مَكروهٍ، ورَحمتُه العَظيمةُ التي بها صَلَحَت أحوالُهم، واستَقامَت أمورُ دينِهم ودُنياهم .

4- قَولُه تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يَدخُلُ في معناها كُلُّ مَن فتَنَه الشَّيطانُ عن دِينِه، أو أوقَعَه في معصيةٍ، ثمَّ هجرَ السَّيِّئاتِ، وجاهدَ نَفسَه وغَيرَها مِن العَدُوِّ، وجاهَدَ المُنافِقينَ بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ وغيرِ ذلك، وصبَرَ على ما أصابَه مِن قَولٍ أو فِعلٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ أنَّ مَن لم يُؤْمِنْ بآياتِ اللهِ لا يهديه اللهُ، ومَفهومُ المُخالفةِ فيها: أنَّ مَن آمَنَ بآياتِ اللهِ، هداه اللهُ

.

2- قال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ مَن أُكرِهَ على الكُفرِ، وأُجبِرَ عليه، وقَلبُه مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ راغِبٌ فيه؛ فإنَّه لا حرَجَ عليه ولا إثمَ، ويَجوزُ له النُّطقُ بكَلِمةِ الكُفرِ عندَ الإكراهِ عليها .

3- في قَولِه تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ دلالةٌ على أنَّ مَن أُكْرِهَ على قولٍ مُحَرَّمٍ إكراهًا مُعتبَرًا فإنَّ له أنْ يفتديَ نفسَه به، ولا إِثْمَ عليه ؛ لأنَّه إذا كان قد سُومِحَ لكَلِمةِ الكُفرِ، أو فِعلِ ما يُؤدِّي إليه، فالمُسامَحةُ بغَيرِه مِن المعاصي أَولى .

4- قَولُه تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ دلَّ على أنَّ كَلامَ المُكرَهِ على الطَّلاقِ أو العِتاقِ، أو البَيعِ أو الشِّراءِ أو سائِرِ العُقودِ؛ لا عِبرةَ به، ولا يترَتَّبُ عليه حُكمٌ شَرعيٌّ؛ لأنَّه إذا لم يُعاقَبْ على كَلِمةِ الكُفرِ إذا أُكرِهَ عليها، فغيرُها مِن بابِ أَولى وأحْرى . وأيضًا فكُلُّ مَن أُكرِهَ على فِعلٍ؛ فإنَّه لا حُكْمَ لفِعلِه، فلَمْ تُخَصِّصِ الآيةُ القولَ ، خلافًا لمن قال: إنَّ هذه الرُّخصةَ المذكورةَ في هذه الآيةِ إنَّما جاءت في القَولِ، وأمَّا في الفِعلِ فلا رُخصةَ، مثل: أن يُكرَهَ على السُّجودِ لِغَيرِ اللهِ. ويَدفَعُه ظاهِرُ الآيةِ؛ فإنَّها عامَّةٌ فيمن أُكرِهَ، مِن غَيرِ فَرقٍ بين القَولِ والفِعلِ، ولا دليلَ لهؤلاء القاصرينَ للآيةِ على القَولِ، وخُصوصُ السَّبَبِ لا اعتبارَ به مع عُمومِ اللَّفظِ .

5- الغضبُ صفةٌ فعليَّةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجلَّ ، فاللهُ تعالى يَغضَبُ على مَن يَستَحِقُّ الغضَبَ مِن الكافرينَ وغَيرِهم؛ قال الله تعالى: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ لَمَّا فَعَلوا فِعلَ مَن استَحَبَّ، أُلزِموا ذلك، وإن كانوا غَير مُصَدِّقينَ بالآخِرةِ، لكِنْ مِن حيثُ أعرَضوا عن النَّظَرِ فيه، كانوا كَمَن استحَبَّ غَيرَه .

7- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا فيه سُؤالٌ: النَّفسُ لا تكونُ لها نَفسٌ أُخرى، فما معنى قَولِه تعالى هذا؟

الجوابُ: النَّفسُ قد يُرادُ بها بَدَنُ الحَيِّ، وقد يُرادُ بها ذاتُ الشَّيءِ وحَقيقتُه؛ فالنَّفسُ الأُولى هي الجُثَّةُ والبَدَنُ، والثَّانيةُ: عَينُها وذاتُها، فكأنَّه قيل: يومَ يأتي كُلُّ إنسانٍ يُجادِلُ عن ذاتِه، ولا يُهِمُّه شَأنُ غَيرِه .

8- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا عبَّرَ بالمُجادَلةِ؛ إفهامًا للدَّفعِ بأقصَى ما تَقدِرُ عليه .

9-  قَولُ اللهِ تعالى: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ لما كان مطلقُ الجزاءِ مخوفًا مقلقًا، بُني للمفعولِ قولُه: وَتُوَفَّى .

10- قَولُ اللهِ تعالى: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ لما كان المرهوبُ مطلقَ الظلمِ، وكان البناءُ للمفعولِ أبلغَ جزاءٍ في نفيه قال: لَا يُظْلَمُونَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ موقِعُ هذه الجملةِ مِن الَّتي قَبْلَها موقِعُ التَّعليلِ لِجَميعِ أقوالِهم المحكيَّةِ، والتَّذييل لخُلاصةِ أحوالِهم؛ ولذلك فُصِلَت بدونِ عَطفٍ

.

2- قَولُه تعالى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ : لَمَّا كان في كَلامِهم إِنَّمَا، كقولهم: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ وهو يَقتَضي الحصرَ، جاء الرَّدُّ عليهم بـ  إِنَّمَا أيضًا، وجاء بلَفظِ يَفْتَرِي الَّذي يَقْتَضي التَّجدُّدَ، ثمَّ علَّق الحكمَ على الوصفِ المقتَضِي للافتراءِ، وهو: انتفاءُ الإيمانِ، وختَم بقولِه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ؛ فاقتضَى التَّوكيدَ البالِغَ والحصْرَ بلفظِ الإشارةِ، والتَّأكيدَ بلَفظِ هُمُ، وإدخالِ (أل) على الْكَاذِبُونَ، وبكَونِه اسْمَ فاعِلٍ يَقْتَضي الثُّبوتَ والدَّوامَ، فجاء يَفْتَرِي بلَفظِ المضارِعِ يَقتَضي التَّجدُّدَ، وجاء الْكَاذِبُونَ يَقْتَضي الثُّبوتَ والدَّوامَ ؛ فهذا ردٌّ لقولِهم: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بقَلْبِ ما زعَموه عليهم، كما كان قولُه تعالى: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [النحل: 103] جوابًا عن قولِهم: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ؛ فبعدَ أن نَزَّه القرآنَ عن أن يكونَ مُفترًى والمنزَّلَ عليه عن أن يكون مُفترِيًا ثُنِيَ العِنَانُ لِبَيانِ مَن هو المفتَرِي، وهذا مِن طريقةِ القَلْبِ في الحالِ. ووجهُ مناسَبةِ ذِكْرِه هنا أنَّ قولَهم: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يَستلزِمُ تكذيبَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في أنَّ ما جاء به مُنزَّلٌ إليه مِن عندِ اللهِ، فصاروا بهذا الاعتبارِ يُؤكِّدون بمَضمونِه قولَهم: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ؛ يُؤكِّدُ أحدُ القولَينِ القولَ الآخَرَ، فلمَّا ردَّ قولَهم: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بقولِه: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 101- 102] ، ورُدَّت مَقالَتُهم الأخرى في صَريحِها بقولِه: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ورُدَّ مَضمونُها هنا بقولِه: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ... حاصِلًا به ردُّ نَظيرِها وهو قولُهم: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بكلامٍ أبلَغَ مِن كلامِهم .

- وأيضًا في قولِه: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ عبَّر عن المقصورِ عليهم باسْمِ الموصولِ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ دونَ أن يَذكُرَ ضميرَهم- فيُقالَ: إنَّما يفتري الكذبَ أنتُم- لِيُفيدَ اشتِهارَهم بمضمونِ الصِّلةِ، ولأنَّ للصِّلةِ أثَرًا في افترائِهم؛ لِما تُفيدُه الموصوليَّةُ مِن الإيماءِ إلى وجهِ بِناءِ الخبَرِ. واختِيرَ في الصِّلةِ صيغةُ: لَا يُؤْمِنُونَ دونَ (لم يُؤمِنوا)؛ لِتَكونَ على وِزَانِ ما عُرِفوا به سابِقًا في قولِه: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ، ولِما في المضارِعِ مِن الدَّلالةِ على أنَّهم مُستمِرُّون على انتفاءِ الإيمانِ لا يَثبُتُ لهم ضِدُّ ذلك، ثمَّ أُردِفَت جملةُ القَصرِ بجُملةِ قصرٍ أُخرَى بطريقِ ضميرِ الفصلِ، وطريقِ تعريفِ المسنَدِ، وهي جملةُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ. وافتُتِحَت جُملةُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ باسْمِ الإشارةِ، بعدَ إجراءِ وصْفِ انتفاءِ الإيمانِ بآياتِ اللهِ عنهم؛ لِيُنبِّهَ على أنَّ المشارَ إليهم جَديرون بما يَرِدُ مِن الخبرِ بعدَ اسْمِ الإشارةِ، وهو قَصْرُهم على الكذِبِ؛ لأنَّ مَن لا يُؤمِنُ بآياتِ اللهِ يتَّخِذُ الكذبَ دَيْدَنًا له مُتجدِّدًا. وجعَلَ المسنَدَ في هذه الجملةِ مُعرَّفًا باللَّامِ؛ لِيُفيدَ أنَّ جِنسَ الكاذِبين اتَّحَد بهِم، وصار مُنحصِرًا فيهم، أي: الَّذين تَعرِفُ أنَّهم طائفةُ الكاذِبين هم هؤلاء .

3- قَولُه تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ استئنافٌ ابتِدائيٌّ، وهو وَعيدٌ على الكفرِ بعدَ الإيمانِ .

- قولُه: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ استدراكٌ على الاستثناءِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وهو احتراسٌ مِن أن يُفهَمَ مِن الاستثناءِ أنَّ المكرَهَ مرخَّصٌ له أن يَنسَلِخَ عن الإيمانِ مِن قلبِه .

- واختِيرَ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ دونَ نحوِ: (فقد غَضِب اللهُ عليهم)؛ لِما تَدُلُّ عليه الجملةُ الاسميَّةُ مِن الدَّوامِ والثَّباتِ، أي: غضَبٌ لا مَغفِرةَ معَه. وتقديمُ الخبَرِ المجرورِ (علَيهِم) على المبتدَأِ غَضَبٌ؛ للاهتِمامِ بأمْرِهم، فقَدَّم ما يَدُلُّ عليهِم، ولِتَصحيحِ الإتيانِ بالمبتدَأِ نَكِرةً حينَ قَصَد بالتَّنكيرِ التَّعظيمَ، أي: غضَبٌ عظيمٌ؛ فاكتَفى بالتَّنكيرِ عن الصِّفةِ. وأمَّا تقديمُ (لهم) على عذابٌ عظيمٌ؛ فللاهتمامِ .

4- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ هذه الجملةُ واقِعةٌ موقِعَ التَّعليلِ؛ فلِذَلك فُصِلَت عن الَّتي قبلَها، أي: لم تُعطَفْ عليها .

- قولُه: وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ تذييلٌ؛ لِما في صيغةِ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ مِن العمومِ الشَّامِلِ للمتحدَّثِ عنهم وغَيرِهم؛ فليس ذلك إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ، ولكنَّه عُمومٌ بعدَ خُصوصٍ. وذِكرُ لفظِ (قومٍ)؛ للدَّلالةِ على أنَّ مَن كان هذا شأنَهم فقد عُرِفوا به، وتَمكَّن منهم، وصار سَجِيَّةً حتَّى كأنَّهم يَجمَعُهم هذا الوصفُ .

5- قَولُه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ

- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ فيه افتِتاحُ الجملةِ باسْمِ الإشارةِ؛ لِتَمييزِهم أكمَلَ تمييزٍ؛ تَبْيينًا لِمَعنى الصِّلةِ المتقدِّمةِ، وهي اتِّصافُهم بالارْتِدادِ إلى الكفرِ بعد الإيمانِ بالقولِ والاعتقادِ، وأخبَر عن اسْمِ الإشارةِ بالموصولِ الَّذِينَ؛ لِما فيه مِن الإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الحُكْمِ المبيَّنِ بهذه الجملةِ، وهو مَضمونُ جُملةِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ .

- قولُه: وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ تَكمِلةٌ للبَيانِ، أي: الغافِلونَ الأكمَلونَ في الغَفلةِ؛ لأنَّ الغافِلَ البالِغَ الغايةَ يُنافي حالَةَ الاهتداءِ، والقَصرُ قصرُ موصوفٍ على صفةٍ، وهو حقيقيٌّ ادِّعائيٌّ يُقصَدُ به المبالَغةُ؛ لعَدمِ الاعتدادِ بالغافِلين غيرِهم؛ لأنَّهم بَلَغوا الغايةَ في الغفلةِ حتَّى عُدَّ كلُّ غافِلٍ غيرِهم كمَن ليس بغافِلٍ، ومِن هنا جاء مَعْنى الكَمالِ في الغفلةِ، لا مِن (لامِ التَّعريفِ) .

6- قَولُه تعالى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ جملةٌ واقِعةٌ موقِعَ النَّتيجةِ لِمَا قَبلَها؛ لأنَّ ما قبْلَها صار كالدَّليلِ على مَضمونِها؛ ولذلك افتُتِحَت بكلمةِ نَفْيِ الشَّكِّ: لَا جَرَمَ .

7- قَولُه تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

- قولُه: ثُمَّ للتَّرتيبِ الرُّتْبيِّ، كما هو شأنُها في عطفِها الجُملَ؛ وذلك أنَّ مَضمونَ هذه الجملةِ المعطوفةِ أعظَمُ رُتبةً مِن المعطوفِ عليها؛ إذ لا أعظَمَ مِن رِضَا اللهِ تعالى .

- قولُه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ وقَعَ الإقبالُ بالخطابِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ إيماءً إلى أنَّ تلك المغفِرةَ مِن برَكاتِ الدِّينِ الَّذي أُرسِلَ به ، وإضافةُ لفظِ (رَبٍّ) إلى ضميرِ النَّبيِّ يُومِئُ إلى أنَّ المغفِرةَ والرَّحمةَ لأصحابِه كانت لأنَّهم أُوذُوا لأجْلِ اللهِ ولأجْلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ فكان إسنادُ المغفِرةِ إلى اللهِ بعُنوانِ كَونِه ربَّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حاصِلًا بأُسلوبٍ يَدُلُّ على الذَّاتِ العَليَّةِ وعلى الذَّاتِ المحمَّديَّةِ، وهذا مِن أدَقِّ لَطائفِ القرآنِ في قَرْنِ اسمِ النَّبيِّ باسْمِ اللهِ بمُناسَبةِ هذا الإسنادِ بخُصوصِه ، وكذلك في إضافةِ الرَّبِّ إلى ضَميرِه صلَّى الله عليه وسلَّم مع ظُهورِ الأثَرِ في الطَّائفةِ المذكورةِ: إظهارٌ لكَمالِ اللُّطفِ به عليه السَّلامُ، وإشعارٌ بأنَّ إفاضةَ آثارِ الرُّبوبيَّةِ عليهم مِن المغفرةِ والرَّحمةِ بواسِطتِه عليه السَّلامُ، ولِكَونِهم أتباعًا له .

- واللَّامُ في قولِه: لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مُتعلِّقٌ بـ  (غَفُورٌ) مقدَّمٌ عليه؛ للاهتمامِ .

- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فيه تأكيدُ الخبَرِ بحرفِ التَّوكيدِ (إنَّ) وبالتَّوكيدِ اللَّفْظيِّ؛ لِتَحقيقِ الوعدِ، والاهتمامُ يَدفَعُ النَّقيصةَ عنهم في الفضلِ .

- وأُعيدَ إِنَّ رَبَّكَ وتكرَّر ثانِيًا؛ لِطولِ الفصلِ بينَ اسْمِ إنَّ وخبَرِها المقترِنِ بلامِ الابتداءِ، مع إفادةِ التَّأكيدِ اللَّفظيِّ .

8- قَولُه تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

- قولُه: وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ فيه إطلاقُ اسْمِ السَّببِ على المسبَّبِ؛ فالتَّقديرُ: (جَزاءَ ما عَمِلَت)؛ إشعارًا بكَمالِ الاتِّصالِ بينَ الأجزِيَةِ والأعمالِ .

- وقولُه: كُلُّ نَفْسٍ فيه إيثارُ إظهارِ (نَفْس) على إضمارِها حيث لم يَقُل: (تُوَفَّى) فقط؛ لزيادةِ التَّقريرِ، وللإيذانِ باختلافِ وَقْتَيِ المجادَلةِ والتَّوفيَةِ، وإن كانَتَا في يومٍ واحدٍ ، وكذلك لِتَكونَ الجملةُ مُستقِلَّةً؛ فتَجْريَ مَجْرى المثَلِ .

==========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (112-119)

ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ

غريب الكلمات:

 

رَغَدًا: واسعًا طَيِّبًا كثيرًا، وأصلُ (رغد): يدلُّ على أطيَبِ العَيشِ

.

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: أي: ذُبِحَ لغَيرِ اللهِ، ورُفِعَ فيه الصَّوتُ عند ذبحِه بتَسميةِ غَيرِ اللهِ، وأصلُ الإهلالِ: يدلُّ على رَفعِ الصَّوتِ .

اضْطُرَّ: أي: أُلْجِئَ، وأُحوِج، أو أُكرِه، والاضْطِرارُ: يُطلقُ على حمْلِ الإنسانِ على ما يَضُرُّه وما يكرهُه، وأصلُ الاضطرارِ: فِعلُ ما لا يَتهيَّأُ له الامتناعُ منه .

بَاغٍ: أي: طالِبٍ له، راغِبٍ فيه لِذاتِه، وأصلُ (بغي): يَدُلُّ على قَصْدِ الفَسادِ .

عَادٍ: أي: مُتَجاوزٍ قَدْرَ الضَّرورةِ، وأصلُ (عدو): يدُلُّ على التَّجاوُزِ .

هَادُوا: أي: دخَلوا في دينِ اليَهوديَّةِ؛ مِن قَولِهم: هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف: 156] ، وكان اسمَ مَدْحٍ، ثمَّ صار بعد نَسخِ شَريعتِهم لازِمًا لهم، وإن لم يكُنْ فيه معنى المَدحِ، وأصلُ (هود): يدُلُّ على الرُّجوعِ برِفقٍ

 

.

مشكل الإعراب :

 

قَولُه تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ

الْكَذِبَ: مَنصوبٌ، وفي نَصبِه أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّه مَفعولٌ به لـ  تَصِفُ. ولِمَا تَصِفُ عِلَّةٌ للنَّهيِ عن قَولِ ذلك. و(ما) في لِمَا مَصدريَّةٌ. وهَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ جُملةٌ في محَلِّ نَصبٍ مَقولُ القَولِ، أي: ولا تقولوا: هذا حَلالٌ وهذا حرامٌ لأجْلِ وَصْفِ ألسِنَتِكم الكَذِبَ، والمعنى: لا تُحَلِّلوا ولا تُحَرِّموا لأجلِ قَولٍ تَنطِقُ به ألسِنَتُكم من غيرِ حُجَّةٍ. الثاني: أنَّه مَفعولٌ به لـ تَقُولُوا، ويكونُ قَولُه: هَذَا حَلَالٌ... بَدَلًا مِن الْكَذِبَ بدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ؛ لأنَّه عَينُه، والتقديرُ: ولا تقولوا الكَذِبَ: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ؛ لِوَصفِ ألسِنَتِكم. الثالث: أن يَنتَصِبَ على البَدلِ مِن العائِدِ المحذوفِ على مَا إذا قُلْنا: إنَّ (ما) مَوصولةٌ بمعنى الذي، والتَّقديرُ: لِما تَصِفُه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى مبينًا سوءَ عاقبةِ الذين يجحدونَ نعمَ الله، ويكذِّبونَ بآياتِه: وضرَبَ اللهُ مثَلًا قَريةً كانت في أمانٍ واطمِئْنانٍ يأتيها رِزقُها هنيئًا سَهلًا مِن كُلِّ جِهةٍ، فجحَدَ أهلُها نِعَمَ اللهِ عليهم، وأشرَكوا به، ولم يَشكُروا له، فعاقَبَهم اللهُ بالجُوعِ والخَوفِ؛ بسبَبِ كُفرِهم وصَنيعِهم. ولقد أرسلَ اللهُ إلى أهلِ تلك القَريةِ رَسولًا منهم، يَعرِفونَ نَسَبَه وأمانَتَه وصِدْقَه، فكذَّبوه، فأخَذَهم العذابُ مِن القتل والجُوعِ والخَوفِ، وهم مشركون باللهِ.

ثمَّ أمَر الله عبادَه بأن يأكلوا ممَّا أحلَّه لهم، وأن يشْكُروه على نعمِه، فقال: فكُلوا- أيُّها النَّاسُ- مِمَّا رزَقَكم اللهُ حالَ كَونِه حَلالًا مُستَطابًا، واشكُروا نِعمةَ اللهِ عليكم بالاعترافِ بها وصَرْفِها في طاعةِ اللهِ، إن كنتُم تَعبُدونَ اللهَ وَحدَه.

ثمَّ بيَّن ما حرَّمه على عبادِه، فقال: إنَّما حرَّم اللهُ عليكم المَيتةَ مِن الحَيوانِ، والدَّمَ المَسفوحَ- كالذي يخرجُ مِن الحيوانِ عندَ ذَبحِه- ولَحمَ الخِنزيرِ، وما ذُبِحَ لغَيرِ الله؛ فمَن ألجأَتْه ضَرورةٌ إلى أَكْلِ شَيءٍ مِن هذه المُحَرَّماتِ وهو غيرُ مريدٍ لأكلِها مِن غيرِ اضطرارٍ، ولا مُتَجاوزٍ حدَّ الضَّرورةِ؛ فإنَّ اللهَ غَفورٌ له رَحيمٌ به، لا يُعاقِبُه على ما فعَلَ.

ثمَّ نهَى الله تعالى عن القولِ عليه بغيرِ علمٍ، فقال: ولا تَقولوا- أيُّها المُشرِكونَ- لِما تَصِفُه ألسِنَتُكم كَذِبًا: هذا حَلالٌ، لِما حرَّمَه اللهُ، وهذا حَرامٌ، لِما أحَلَّه اللهُ؛ لتختَلِقوا على اللهِ الكَذِبَ؛ إنَّ الذينَ يَختَلِقونَ على اللهِ الكَذِبَ لا يَفوزونَ بخَيرٍ في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ، مَتاعُهم في الدُّنيا مَتاعٌ قليلٌ، ولهم في الآخرةِ عَذابٌ مُوجِعٌ.

ثم ذكر تعالى أنَّ ما حرَّمه على اليهودِ مِن طيباتٍ، إنَّما كان بسببِ ظلمِهم، فقال: وعلى اليهودِ حَرَّمْنا ما أخبَرْناك به- يا مُحمَّدُ- مِن قبلُ في سُورةِ (الأنعامِ)، وما ظَلمْناهم بتَحريمِ ذلك عليهم، ولكِنْ كانوا ظالِمينَ لأنفُسِهم بمخالفةِ أمرِ الله، فاستحَقُّوا ما عُوقبوا به.

ثمَّ بيَّن الله تعالى سَعةَ رحمتِه سبحانَه بعبادِه، ورأفتِه بهم، فقال: ثمَّ إنَّ رَبَّك للَّذينَ فَعَلوا المعاصيَ في حالِ سَفَهٍ وجهالةٍ منهم وغَفلةٍ عن عاقِبتِها، ثمَّ رَجَعوا إلى اللهِ عمَّا كانوا عليه من الذُّنوبِ، وأصلَحوا أعمالَهم- إنَّ رَبَّك مِن بعدها لَغفورٌ لهم، رحيمٌ بهم.

تفسير الآيات:

 

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا هَدَّدَ اللهُ تعالى الكُفَّارَ بالوَعيدِ الشَّديدِ في الآخرةِ؛ هَدَّدَهم أيضًا بآفاتِ الدُّنيا، وهو الوقوعُ في الجُوعِ والخَوفِ

.

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً.

أي: وجعَلَ اللهُ قَريةً يعيشُ أهلُها في أمنٍ واطمِئنانٍ واستقرارٍ مَثَلًا لكُلِّ مَن أنعَمَ اللهُ عليهم، فأبطَرَتْهم النِّعمةُ وكَفَروا وتوَلَّوا، فأحلَّ اللهُ بهم نِقَمَه .

كما قال تعالى عن مكَّةَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .

وقال سُبحانَه: لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 1 - 4] .

يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ.

أي: يأتي أهلَ تلك القَريةِ أقواتُهم ومَعايشُهم بوَفرةٍ وهَناءٍ وسُهولةٍ، مِن كُلِّ ناحيةٍ .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص: 57] .

فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ.

أي: فجحَدَ أهلُ تلك القَريةِ بما أنعَمَ اللهُ عليهم، فلم يَشكُروا اللهَ عليها .

كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [إبراهيم: 28] .

فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.

أي: فأذاق اللهُ أهلَ تلك القَريةِ الجُوعَ والخَوفَ الذي بان أثَرُه عليهم مِن الهُزالِ وشُحوبةِ اللَّونِ وسُوءِ الحالِ مِمَّا ظهَرَ على أبدانِهم، وذلك بعد أن كانوا في رَغَدٍ مِن العَيشِ والأمْنِ؛ بسبَبِ ما كانوا يَصنَعونَ مِن الكُفرِ وجُحودِ النِّعَمِ، والتَّكذيبِ بالحَقِّ، وارتِكابِ المعاصي .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((إنَّ قُرَيشًا لَمَّا غَلَبوا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واستَعصَوا عليه قال: اللهُمَّ أعِنِّي عليهم بسَبْعٍ كسبعِ يوسُفَ، فأخذَتْهم سَنَةٌ أكَلوا فيها العِظامَ والميتةَ مِن الجَهْدِ، حتى جعَلَ أحَدُهم يرى ما بينَه وبينَ السَّماءِ كهَيئةِ الدُّخَانِ مِن الجُوعِ )) .

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن الكافِرينَ بأنَّهم أُذيقوا لِباسَ الجُوعِ والخَوفِ بما كانوا يَصنَعونَ، وكان إنَّما ذكَرَ مِن صُنعِهم أنَّهم كَفَروا بأنْعُمِ اللهِ؛ زِيدَ هنا أنَّ ما كانوا يَصنَعونَ عامٌّ لكُلِّ عَمَلٍ لا يُرضي اللهَ، غيرُ مَخصوصٍ بكُفرِهم نِعمةَ الله، وإنَّ مِن أشنَعِ ما كانوا يَصنَعونَ تَكذيبَهم رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مع أنَّه منهم، وذلك أظهَرُ في معنى الإنعامِ عليهم والرِّفقِ بهم .

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ.

أي: ولقد جاءَ أهلَ تلك القَريةِ رَسولٌ مِن أنفُسِهم، يَعرِفونَه ويَعرِفونَ نَسَبَه؛ لِيَدعُوَهم إلى الحقِّ، فكذَّبوه فيما جاءَهم به مِن الوَحيِ .

كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 128- 129] .

فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ.

أي: فأخَذَهم عذابُ الدُّنيا بالجُوعِ والخَوفِ والقَتلِ، والحالُ أنَّهم مُشرِكونَ باللهِ .

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تقَرَّرَ بما مضى من أدلَّةِ التَّوحيدِ، فثَبَت ثباتًا لا يتطَرَّقُ إليه شَكٌّ أنَّ اللهَ هو الإلهُ وَحدَه، كما أنَّه هو الرَّازِقُ وَحدَه، ونَبَّهَهم على دقائِقَ في تَقديرِه للأرزاقِ تدُلُّ على عَظَمتِه وشُمولِ عِلمِه وقُدرتِه واختيارِه، فثَبَت أنَّهم ظالِمونَ فيما جَعَلوا للأصنامِ مِن رِزقِه، وأنَّه ليس لأحدٍ أن يتحَرَّكَ إلَّا بأمْرِه سُبحانَه، وختَمَ ذلك بهذا المثَلِ المُحَذِّرِ مِن كُفرانِ النِّعَمِ- عَقَّبَه بقولِه تعالى صادًّا لهم عن أفعالِ الجاهليَّةِ :

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا.

أي: فكُلوا- أيُّها النَّاسُ- مِمَّا رزَقَكم اللهُ مِن الحَيواناتِ والحُبوبِ والثِّمارِ وغَيرِها، في حالِ كَونِها حلالًا لم يُحَرِّمْها اللهُ، ومِن كَسْبٍ طَيِّبٍ لا إثمَ فيه، مُستلَذَّةً يَطيبُ للنَّاسِ طَعمُها .

وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ.

أي: واشكُروا اللهَ- أيُّها النَّاسُ- على نِعَمِه، واصرِفوها في طاعتِه، إن كنتُم تَعبُدونَ اللهَ وَحدَه وتُطيعونَه فيما أمَرَكم به، ونهاكم عنه، ومِن ذلك استِحلالُ ما أحَلَّ اللهُ مِن الرِّزقِ .

كما قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا كان الإذنُ في قَولِه تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا إنَّما هو في بَعضِ الرِّزقِ في الحالِ المَذكورِ، فاحتِيجَ إلى مَعرِفتِه، وكانت المُباحاتُ أكثَرَ مِن المَحظوراتِ؛ حَصَرَ القَليلَ لِيُعلَمَ منه الكثيرُ؛ لأنَّ كُلَّ ضِدَّينِ مَعروفينِ إجمالًا عُيِّنَ أحَدُهما، عُرِفَ مِن تَعيِينِه الآخَرُ، فقال تعالى :

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ .

أي: إنَّما حرَّم اللهُ تعالى عليكم المَيْتةَ مِن الحيواناتِ التي ماتَت حَتْفَ أنفِها- دونَ ذَكاةٍ شرعيَّةٍ ولا اصطِيادٍ - والدَّمَ المَسفوحَ ، ولَحمَ الخِنزيرِ ، وما ذُبِحَ على غَيرِ اسمِ الله عزَّ وجلَّ، كالذي يُذبَحُ للأصنامِ، ويُسمَّى عليه بغيرِ اسمِه سُبحانَه .

كما قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] .

وقال سُبحانَه: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: 145] .

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

أي: فمَن ألجأَتْه الضَّرورةُ إلى الأكْلِ مِن تلك المُحرَّماتِ الأربعةِ، وهو غيرُ مُبتَغٍ لِتَناوُلِها مِن غَيرِ ضَرورةٍ، ولا مُريدٍ التلذُّذَ بأكْلِها، وغيرُ مُتَجاوزٍ قدْرَ الضَّرورةِ، فلا يتناوَلُ منها إلَّا بمِقدارِ ما يَدفَعُ عنه الهَلاكَ؛ فمَن كانت حالُه كذلك فلا حرَجَ عليه ولا إثمَ مِن تَناوُلِ تلك المحرَّمات؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يَغفِرُ ذُنوبَ عِبادِه، فيَستُرُها، ويتَجاوَزُ عن المُؤاخَذةِ بها، ومِن ذلك تجاوزُه عمَّن أكَل ما حرَّمه الله مضطرًّا، وهو الرَّحيمُ بعِبادِه، ومِن رَحمتِه أنْ شرَع لهم ذلك؛ تَوسِعةً منه، فأباح أكْلَ ذلك عند الضَّرورةِ .

كما قال تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 173] .

وقال سُبحانَه: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 3] .

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حَصَر اللهُ تعالى المُحَرَّماتِ في تلك الأربَعِ؛ بالَغَ في تأكيدِ ذلك الحَصرِ، وزَيَّفَ طريقةَ الكُفَّارِ في الزِّيادةِ على هذه الأربَعِ، وفي النُّقصانِ عنها أُخرَى؛ فإنَّهم كانوا يُحَرِّمونَ البَحيرةَ، والسَّائِبةَ، والوَصيلةَ، والحاميَ، وكانوا يقولونَ: ما في بُطونِ هذه الأنعامِ خالِصةٌ لذُكُورِنا ومُحَرَّمٌ على أزواجِنا، فقد زادوا في المُحَرَّمات وزادوا أيضًا في المُحَلَّلاتِ؛ وذلك لأنَّهم حَلَّلوا المَيتةَ والدَّمَ ولحمَ الخِنزيرِ، وما أُهِلَّ به لغيرِ الله تعالى، فاللهُ تعالى بَيَّنَ أنَّ المُحَرَّماتِ هي هذه الأربعةُ، وبيَّنَ أنَّ الأشياءَ التي يقولونَ: إنَّ هذا حلالٌ، وهذا حرامٌ، كَذِبٌ وافتراءٌ على اللهِ تعالى، ثمَّ ذكَرَ الوَعيدَ الشَّديدَ على هذا الكَذِبِ .

وأيضًا لَمَّا أمَرَهم بتَناوُلِ ما أحَلَّ لهم؛ عدَّد عليهم مُحرَّماتِه؛ لِيُعلَمَ أنَّ ما عَداها حِلٌّ لهم، ثمَّ أكَّد ذلك بالنَّهيِ عن التَّحريمِ والتَّحليلِ بأهوائِهم، فقال :

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ.

أي: لا تحرِّموا وتُحلِّلوا مِن تلقاءِ أنفسكم، كذبًا على اللهِ، مِن غَيرِ مُستنَدٍ صَحيحٍ، ولا حُجَّةٍ بَيِّنةٍ، فتَقولوا لِما أحَلَّ اللهُ: هو حَرامٌ، وتَقولوا لِما حَرَّمه: هو حَلالٌ؛ كي تختَلِقوا الكَذِبَ على اللهِ سُبحانَه .

كما قال تعالى: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 138- 139] .

وقال سُبحانَه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ [يونس: 59-60] .

إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ.

أي: إنَّ الذين يَتَقوَّلونَ على اللهِ الكَذِبَ لا يَفوزونَ في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ .

مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117).

أي: للمُفتَرينَ على اللهِ الكَذِبَ مَتاعٌ قليلٌ في الدُّنيا، ولهم بعد ذلك عَذابٌ مُؤلِمٌ في الآخِرةِ .

كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 24] .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى أنَّه إنَّما حَرَّمَ علينا المَيتةَ والدَّمَ ولَحمَ الخِنزيرِ، وما أُهِلَّ لِغَيرِ الله به، وأنَّه أرخَصَ فيه عندَ الضَّرورةِ، وفي ذلك تَوسِعةٌ لهذه الأمَّةِ التي يُريدُ اللهُ بها اليُسرَ، ولا يُريدُ بها العُسرَ- ذكَرَ سُبحانَه وتعالى ما كان حَرَّمَه على اليَهودِ في شَريعتِهم قبل أن يَنسَخَها، وما كانوا فيه من الآصارِ والأغلالِ، والحَرَجِ والتَّضييقِ .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى لهم نِعمَتَه بتَوسِعتِه عليهم بما ضَيَّقوا به على أنفُسِهم؛ بيَّنَ لهم نِعمةً أخرى، بتَمييزِهم على بني إسرائيلَ .

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ.

أي: وعلى اليَهودِ حَرَّمْنا ما أوحَيناه إليك- يا محمَّدُ- من قبلُ في سُورةِ (الأنعامِ) .

كما في قَولِه تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [الأنعام: 146] .

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

أي: وما ظَلَمْنا اليَهودَ بتَحريمِ ما حرَّمْنا عليهم مِن الطَّيِّباتِ، ولكِنْ كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم بمَعصيةِ اللهِ سُبحانَه، فاستَحَقُّوا عُقوبةَ اللهِ بتَحريمِ الطيِّباتِ عليهم .

كما قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] .

وقال سُبحانَه: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ [الأنعام: 146] .

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ المقصودَ بَيانُ أنَّ الافتراءَ على اللهِ ومُخالفةَ أمرِ اللهِ، لا يَمنَعُهم مِن التَّوبةِ، وحُصولِ المَغفِرةِ والرَّحمةِ ، فلمَّا ذُكِرَت أحوالُ أهلِ الشِّركِ، وكان منها ما حَرَّموه على أنفُسِهم، وكان المُسلِمونَ قد شارَكوهم أيَّامَ الجاهليَّةِ في ذلك، وورَدَت قوارِعُ الذَّمِّ لِمَا صَنَعوا؛ كان مِمَّا يُتوَهَّمُ عُلوقُه بأذهانِ المُسلِمينَ أن يَحسَبوا أنَّهم سيَنالُهم شَيءٌ مِن غَمصٍ لِما اقتَرَفوه في الجاهليَّةِ، فطَمْأَنَ اللهُ نُفوسَهم بأنَّهم لَمَّا تابوا بالإقلاعِ عن ذلك بالإسلامِ، وأصلَحوا عمَلَهم بعدَ أن أفسَدوا؛ فإنَّ اللهَ قد غفَرَ لهم مَغفِرةً عَظيمةً، ورَحِمَهم رَحمةً واسِعةً .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى هذه النِّعمةَ الدُّنيَويَّةَ، عطَفَ عليها نِعمةً هي أكبَرُ منها جِدًّا؛ استِجلابًا لكُلِّ ظالمٍ، فقال تعالى :

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ.

أي: ثمَّ إنَّ رَبَّك- يا مُحَمَّدُ- للذين اقتَرَفوا ما لا ينبغي فِعلُه مِن الكُفرِ أو المعاصي، عن سَفَهٍ منهم، وإيثارٍ للدُّنيا، وعَمايةٍ عن عَواقِبِ ما اقتَرَفوا .

ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا .

أي: ثمَّ رَجَعوا إلى اللهِ، ونَدِموا، وأقلَعوا عن السُّوءِ مِن بعدِ ما عَمِلوه، وأصلَحوا أعمالَهم، فأقبلوا على فِعلِ الطَّاعاتِ .

إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.

أي: إنَّ ربَّك مِن بَعدِها لَغَفورٌ لذُنوبِهم، فيَستُرُها عليهم، رحيمٌ بهم، فيَقبَلُ تَوبتَهم منها، ولا يُعاقِبُهم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً... فيجِبُ على كُلِّ عاقلٍ أنْ يعتبِرَ بهذا المَثَلِ، وألَّا يُقابِلَ نِعَمَ اللَّهِ بالكفرِ والطُّغيانِ؛ لئلَّا يَحِلَّ به ما حلَّ بهذه القريةِ المذكورةِ، بل عليه أنْ يُقابلَها بالشُّكرِ، فيشكُرها بالطَّاعةِ والعبادةِ لِلَّه، فقد بَيَّن تعالى أَنَّ الشُّكرَ يزيدُ النِّعمَ والكفرَ يُذْهِبُها، إلَّا ما كان استدراجًا، فقال في شُكرِ النِّعمةِ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ

[إبراهيم: 7] .

2- في قَولِه تعالى: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ أنَّ الجَدْبَ والقَحْطَ، وضِيقَ الرِّزقِ والفِتَنَ كُلَّها؛ سَببُها المعاصي .

3- قال الله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ الآيةُ تحذِّرُ المسلمينَ مِن أن يتقوَّلوا على اللهِ ما لم يَقُلْه بنصٍّ صريحٍ، أو بإيجادِ معانٍ وأوصافٍ للأفعالِ قد جعَل لأمثالِها أحكامًا ، فلا يجوزُ للعَبدِ أن يقولَ: هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ إلَّا بما عَلِمَ أنَّ اللهَ سُبحانَه أحَلَّه وحَرَّمه. وقال بعضُ السَّلَفِ: لِيَتَّقِ أحَدُكم أن يقولَ: أحَلَّ اللهُ كذا، وحَرَّمَ كذا، فيقولَ اللهُ له: كَذَبْتَ! لم أُحِلَّ كذا، ولم أُحَرِّمْ كذا؛ فلا ينبغي أن يقولَ لِما لا يَعلَمُ وُرودَ الوَحيِ المُبِينِ بتَحليلِه وتَحريمِه: أحَلَّه اللهُ، وحَرَّمَه اللهُ؛ لمُجَرَّدِ التَّقليدِ، أو بالتَّأويلِ . وعن أبي نَضرةَ، قَالَ: (قرأت هذه الآية في سُورَة النحل: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ...، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا) .

4- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ حَضٌّ منه تعالى لعبادِه على التَّوبةِ، ودَعوةٌ لهم إلى الإنابةِ، فأخبَرَ أنَّ مَن عَمِلَ سُوءًا بجَهالةٍ بعَاقبةِ ما تجني عليه، ولو كان مُتَعَمِّدًا للذَّنبِ- فإنَّه لا بُدَّ أن يَنقُصَ ما في قَلبِه مِن العِلمِ وَقتَ مُقارفَةِ الذَّنبِ- فإذا تاب وأصلَحَ بأن تَرَك الذَّنبَ ونَدِمَ عليه، وأصلَحَ أعمالَه؛ فإنَّ اللهَ يَغفِرُ له ويَرحَمُه، ويتقَبَّلُ تَوبتَه، ويُعيدُه إلى حالتِه الأولى أو أعلى منها .

5- قال تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ فكُلُّ مَن عصى الله فهو جاهِلٌ، وكلُّ من أطاعه فهو عالمٌ، وبيانُه مِن وجهينِ:

أحدهما: أنَّ مَن كان عالِمًا بالله تعالى وعظَمتِه وكبريائِه وجلالِه، فإنه يهابُه ويخشاه، فلا يقَعُ منه مع استحضارِ ذلك عصيانُه، كما قال بعضُهم: (لو تفكَّر النَّاسُ في عظمةِ الله تعالى، ما عَصَوه)، وقال آخَرُ: (كفى بخشيةِ اللهِ عِلمًا، وكفى بالاغترارِ بالله جَهلًا).

والثاني: أنَّ مَن آثر المعصيةَ على الطاعةِ فإنَّما حمَلَه على ذلك جهلُه وظنُّه أنَّها تنفَعُه عاجِلًا باستِعجالِ لذَّتِها، وإن كان عنده إيمانٌ فهو يرجو التخلُّصَ مِن سوءِ عاقبتِها بالتَّوبةِ في آخِرِ عُمُرِه، وهذا جَهلٌ مَحضٌ؛ فإنَّه يتعجَّلُ الإثمَ والخِزيَ، ويفوتُه عِزُّ التقوى وثوابُها ولذَّةُ الطَّاعةِ، وقد يتمكَّنُ مِن التوبة بعد ذلك، وقد يعاجلُه الموتُ بغتةً، فهو كجائعٍ أكلَ طعامًا مسمومًا لدَفعِ جُوعِه الحاضرِ، ورجا أن يتخلَّصَ مِن ضَرَرِه بشُربِ الدِّرياقِ بعدَه، وهذا لا يفعَلُه إلَّا جاهِلٌ

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِ اللهِ تعالى: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ إنْ قيلَ: الأنعُمُ جَمعُ قِلَّةٍ، فكأنَّ تلك القَريةَ كَفَرَت بأنواعٍ قَليلةٍ مِن نِعَمِ اللهِ، فعَذَّبَها اللهُ تعالى، فلِمَ لم يَقُلْ تعالى: (كَفَروا بنِعَمٍ عَظيمةٍ فاستوجبوا العَذابَ)؟

أجيب: بأنَّ المَقصودَ التَّنبيهُ بالأدنى على الأعلى؛ فإنَّ كُفرانَ النِّعَمِ القَليلةِ لَمَّا أوجَبَ العَذابَ، فبِكُفرانِ النِّعَمِ الكثيرةِ أَولى

.

وقيل: إنَّ الله سُبحانَه نبَّه على سعةِ فضلِه بجمعِ القِلَّةِ الدالِّ على أنَّ كثرةَ فضلِه عليهم تافهةٌ بالنسبةِ إلى ما عندَه سُبحانَه وتعالى .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تعليقُ ذلك بالشَّرطِ؛ للبَعثِ على الامتِثالِ، لإظهارِ صِدقِ إيمانِهم .

3- في قَولِه تعالى: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ تحريمُ لحمِ الخنزيرِ، ويُلْحَقُ بذلك شَحْمُه؛ لأنَّ اللَّحمَ عندَ الإطلاقِ يعمُّ جميعَ أجزائِه حتَّى الشَّحْم، وهذا هو المفهومُ مِن لغةِ العربِ، ومِن العرفِ المطَّردِ، أمَّا لو قيل: لحمٌ وشَحْمٌ؛ فإنه يُفَرَّقُ بينهما، فإذا قيل: لحمُ الإبلِ، أو لحمُ الضَّأنِ، أو لحمُ البقرِ، أو لحمُ الخِنزيرِ؛ صار شامِلًا للجَميعِ .

4- في قَولِه تعالى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تعظيمُ أمرِ الشِّركِ، وبيانُ خطورته؛ فإنَّه يؤثِّرُ حتى على المأكولاتِ .

5- قال الله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يدخُلُ في هذا كُلُّ مَن ابتدَعَ بِدعةً ليس له فيها مُستنَدٌ شَرعيٌّ، أو حلَّل شيئًا ممَّا حرَّم اللهُ، أو حرَّم شيئًا ممَّا أباح اللهُ بمجرَّدِ رأيِه وتَشهِّيه .

6- يجِبُ أن نَعرِفَ أنَّ مَنْعَ العِبادِ مِمَّا لم يَدُلَّ الشَّرعُ على مَنْعِه، كالتَّرخيصِ لهم فيما دَلَّ الشَّرعُ على مَنعِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى جعَلَهَما سواءً، فقال: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، بل قد يقولُ قائِلٌ: إنَّ تَحريمَ الحَلالِ أشَدُّ مِن تَحليلِ الحرامِ؛ لأنَّ الأصلَ الحِلُّ، واللهُ عزَّ وجَلَّ يُحبُّ التَّيسيرَ لعِبادِه .

7- أنَّ الأمرَ إلى اللهِ تعالى تحليلًا وتَحريمًا، وليس إلينا، ولا لأحدٍ مِن النَّاسِ، بل هو إلى اللهِ ورَسولِه؛ قال الله تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ .

8- أنكَرَ تعالى على مَن نسَبَ إلى دِينِه تَحليلَ شَيءٍ أو تَحريمَه مِن عِندِه بِلا بُرهانٍ مِن اللهِ، فقال: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فكيف بمن نسَبَ إلى أوصافِه سُبحانَه وتعالى ما لم يَصِفْ به نَفسَه؟! أو نفى عنه منها ما وصَفَ به نَفسَه ؟!

9- قال اللهُ تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَمَّا كان تَحليلُهم وتَحريمُهم قولًا فارِغًا ليس له حَقيقةٌ أصلًا؛ لأنَّه لا دليلَ عليه؛ عبَّرَ عنه بأنَّه وَصفٌ باللِّسانِ لا يَستَحِقُّ أن يَدخُلَ إلى القَلبِ .

10- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ لَمَّا كان المُفتَري يَفتَري لتَحصيلِ مَطلوبٍ، نفى اللهُ تعالى عنه الفَلاحَ؛ لأنَّه الفوزُ بالخيرِ والنَّجاحِ .

11- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ليس المعنى أنَّه يَغفِرُ لِمَن يَعمَلُ السُّوءَ بجَهالةٍ، ولا يَغفِرُ لِمَن عَمِلَه بغيرِ جَهالةٍ، بل المرادُ أنَّ جَميعَ مَن تاب فهذا سَبيلُه، وإنَّما خُصَّ مَن يَعمَلُ السُّوءَ بجَهالةٍ؛ لأنَّ أكثَرَ مَن يأتي الذُّنوبَ يأتيها بقِلَّةِ فِكرٍ في عاقبةٍ، أو عندَ غَلَبةِ شَهوةٍ، أو في جَهالةِ شَبابٍ، فذُكِرَ الأكثَرُ على عادةِ العَرَب في مثلِ ذلك .

12- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ويدخلُ في هذا الحكمِ مَن عمِل حرامًا مِن المسلمينَ جاهلًا بأنَّه حرامٌ، وكان غيرَ مقصِّرٍ في جهلِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ

- قولُه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فيه التَّعبيرُ عن ضَربِ المثَلِ الواقعِ في حالِ نُزولِ الآيةِ بصِيغةِ الماضي ضَرَبَ-، على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-؛ للتَّشويقِ إلى الإصْغاءِ إليه، وهو مِن استِعْمالِ الماضي في الحالِ لِتَحقيقِ وُقوعِه، مثلُ قولِه: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، أو لِتَقريبِ زمَنِ الماضي مِن زمَنِ الحالِ، مثلُ: قد قامَتِ الصَّلاةُ. ويَجوزُ أن يَكونَ ضَرَبَ مُستعمَلًا في مَعنى الطَّلبِ والأمرِ، أي: اضْرِبْ يا محمَّدُ لقَومِك مثَلًا قريةً إلى آخِرِه، وإنَّما صِيغَ في صيغةِ الخبَرِ تَوسُّلًا إلى إسنادِه إلى اللهِ؛ تَشريفًا له، وتنويهًا به

.

- قولُه: قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جعَل المثَلَ قريةً موصوفةً بصِفاتٍ تُبيِّنُ حالَها المقصودَ مِن التَّمثيلِ، فاستَغْنى عن تَعيينِ القَريةِ، والنُّكتةُ في ذلك أن يَصلُحَ هذا المثَلُ للتَّعريضِ بالمشرِكينَ باحتِمالِ أن تَكونَ القريةُ قريَتَهم- مكَّةَ- بأنْ جعَلَهم مثَلًا للنَّاسِ مِن بَعدِهم .

- وفي قولِه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً تأخيرُ قريةٍ مع كونِها مفعولًا أوَّلَ؛ لِئَلَّا يَحولَ المفعولُ الثَّاني بينَها وبينَ صِفَتِها وما يتَرتَّبُ عليها؛ إذِ التَّأخيرُ عن الكلِّ مُخِلٌّ بتَجاذُبِ أطرافِ النَّظْمِ وتَجاوُبِها، ولأنَّ تأخيرَ ما حقُّه التَّقديمُ ممَّا يورِثُ النَّفسَ تَرقُّبًا لِوُرودِه، وتَشوُّقًا إليه لا سيَّما إذا كان في المقدَّمِ ما يَدْعو إليه؛ فإنَّ المثَلَ ممَّا يَدْعو إلى المُحافَظةِ على تَفاصيلِ أحوالِ ما هو مثَلٌ، فيتَمكَّنُ المؤخَّرُ عندَ وُرودِه لدَيْها فَضْلَ تَمكُّنٍ .

- وقَدَّمَ الأمْنَ على الطُّمَأنينةِ في قولِه: آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً؛ إذ لا تَحصُلُ الطُّمَأنينةُ بدُونِه، كما أنَّ الخَوفَ يُسَبِّبُ الانزِعاجَ والقَلَقَ .

- وفي قولِه: يَأْتِيهَا رِزْقُهَا غيَّر سَبْكَها عن الصِّفةِ الأُولى آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً؛ لأنَّ إتيانَ رِزقِها متجدِّدٌ، وكونَها آمِنةً مطمئنَّةً ثابتٌ مستمرٌّ .

- قولُه: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ: فيه اقتِرانُ فِعلِ (كَفَرَتْ) بفاءِ التَّعقيبِ بعدَ أنْ كانَت آمِنةً مُطمئنَّةً باعتبارِ حصولِ الكفرِ عَقِبَ النِّعمِ الَّتي كانوا فيها حينَ طرَأ عليهم الكُفرُ؛ وذلك عِندَ بَعثةِ الرَّسولِ إليهم، وهذا على القولِ بأنَّ القريةَ هي مكةُ. وأمَّا قَرْنُ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ بفاءِ التَّعقيبِ، فهو تَعقيبٌ عُرْفيٌّ في مِثلِ ذلك . وقيل: لما كانت السعةُ تجرُّ إلى البطرِ غالبًا، نبَّه تعالى لهم ذلك بالفاءِ، فقال تعالى: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ .

- في قَولِه: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ شَبَّهَ ما يُدرَكُ مِن أثَرِ الضَّرَرِ والألَمِ بما يُدرَكُ مِن طَعمِ المُرِّ، وأمَّا اللِّباسُ فقد شُبِّهَ به- لاشتمالِه على اللَّابِسِ- ما غَشِيَ الإنسانَ، والتبَسَ به مِن بَعضِ الحَوادِثِ، وأمَّا إيقاعُ الإذاقةِ على لِباسِ الجُوعِ والخَوفِ؛ فلأنَّه لَمَّا وقعَ عِبارةً عَمَّا يغشَى منهما ويُلابسُ، فكأنَّه قيل: فأذاقهم ما غَشِيَهم مِنَ الجُوعِ والخَوفِ .

- وقولُه: الْجُوعِ وَالْخَوْفِ مُقابَلٌ بما تقدَّم مِن ذِكْرِ الأمنِ وإتيانِ الرِّزقِ، فقابَلَهما بالجوعِ النَّاشئِ عن انْقِطاعِ الرِّزقِ وبالخَوفِ، وقدَّم الجوعَ؛ لِيَلِيَ المتأخِّرَ وهو إتيانُ الرِّزقِ .

- قولُه: بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ في صيغةِ (الصُّنعِ) إيذانٌ بأنَّ كُفْرانَ النِّعمةِ صار صَنْعةً راسِخةً لهم، وسُنَّةً مَسلوكةً .

2- قَولُه تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ

- قولُه: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا... مفرَّعٌ على نَتيجةِ التَّمثيلِ، وصَدٌّ لهم عمَّا يؤدِّي إلى مِثلِ عاقِبتِه، أي: وإذْ قد استَبان لكُم حال مَن كفَر بأنعُمِ اللهِ، وكذَّب رسولَه، وما حلَّ بهم بسَببِ ذلك مِن اللُّتَيَّا والَّتي أوَّلًا وآخِرًا؛ فانْتهُوا عمَّا أنتم عليه مِن كُفرانِ النِّعَمِ، وتَكْذيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ كَيْ لا يَحُلَّ بكُم مِثلُ ما حَلَّ بهم، واعْرِفوا حقَّ نِعَمِ اللهِ تعالى، وأطيعوا رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أمرِه ونهيِه، وكُلوا مِن رزقِ اللهِ حالَ كونِه حَلَالًا طَيِّبًا .

- قولُه: وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ فيه إظهارُ اسمِ الجلالةِ، مع أنَّ مُقتَضى الظَّاهرِ الإضمارُ؛ لزيادةِ التَّذكيرِ، ولِتَكونَ جُملةُ هذا الأمرِ مُستقِلَّةً بدَلالتِها بحيث تَصِحُّ أن تَجرِيَ مَجْرى المثَلِ .

- وصرَّح هنا بالنِّعْمةِ؛ لِتَقدُّمِ ذِكْرِها مع مَن كفَر بها، ولم يَجِئْ ذلك في سورةِ (البقرةِ)، بل قال: وَاشْكُرُوا لِلَّهِ [البقرة: 172] لَمَّا لم يتَقدَّمْ ذلك .

3- قَولُه تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

- قَولُه تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ حصَرَ التَّحريمَ في هذه الأربعةِ؛ فإنَّها مُحرَّمةٌ في كلِّ مِلَّةٍ، لا تُباحُ بحالٍ، إلَّا عند الضَّرورةِ، وبدأ بالأخَفِّ تَحريمًا، ثمَّ بما هو أشَدُّ منه؛ فإنَّ تَحريمَ الميتةِ دونَ تَحريمِ الدَّمِ؛ فإنَّه أخبَثُ منها، ولحمُ الخِنزيرِ أخبَثُ منهما، وما أُهِلَّ به لغيرِ اللهِ أخبثُ الأربعةِ .

4- قَولُه تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ

- قولُه: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ: وَصْفُ ألسِنَتِهم الكَذِبَ هو مِن فَصيحِ الكلامِ وبَليغِه، وهو مُبالَغةٌ في وَصْفِ كلامِهم بالكذبِ، حيث جعَل قولَهم كأنَّه عَينُ الكَذِبِ ومَحْضُه، فإذا نطَقَت به ألسِنتُهم فقد حلَّت الكذبَ بحِلْيَتِه وصوَّرَتْه بصورتِه، وكأنَّ حقيقةَ الكذبِ كانت مَجهولةً، وألسِنَتَهم تَصِفُها وتُعرِّفُها بكَلامِهم هذا، كقولِهم: (ووَجهُها يَصِفُ الجَمالَ، وعينُها تَصِفُ السِّحرَ) .

- وفي قولِه: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ عاد الخِطابُ إلى المشرِكين بقَرينةِ قولِه: لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ؛ فالجملةُ معطوفةٌ على جملةِ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً... الآية، وفيه تَعريضٌ بتَحذيرِ المسلِمين؛ لأنَّهم كانوا قَريبي عَهْدٍ بجاهليَّةٍ، فرُبَّما بَقِيَت في نُفوسِ بعضِهم كَراهيَّةُ أكْلِ ما كانوا يتَعفَّفون عن أكلِه في الجاهليَّةِ .

5- قَولُه تعالى: مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ استئنافٌ بيانيٌّ في صورةِ جوابٍ عمَّا يَجيشُ بِخاطِرِ سائلٍ يَسأَلُ عن عدَمِ فَلاحِهم مع مُشاهَدةِ كثيرٍ مِنهم في حالةٍ مِن الفَلاحِ، فأُجيبَ بأنَّ ذلك مَتاعٌ، أي: نفعٌ مُوقَّتٌ زائلٌ، ولهم بعدَه عذابٌ أليمٌ .

- قولُه: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فيه تقديمُ لَهُمْ؛ للاهتمامِ؛ زِيادةً في التَّحذيرِ، وجيءَ بلامِ الاستحقاقِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ العذابَ خصَّهم لأجْلِ افتِرائِهم .

6- قَولُه تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

- قولُه: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا فيه تقديمُ المجرورِ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا؛ للاهتمامِ، وللإشارةِ إلى أنَّ ذلك حَرُم عليهم ابتِداءً، ولم يَكُنْ مُحرَّمًا مِن شريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، الَّتي كان عليها سلَفُهم، كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران: 93] ، أي: علَيهم دونَ غَيرِهم؛ فلا تَحسَبوا أنَّ ذلك مِن الحَنيفيَّةِ .

7- قَولُه تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

- في قولِه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ وقَع الإقبالُ بالخطابِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إيماءً إلى أنَّ تلك المغفِرةَ مِن برَكاتِ الدِّينِ الذي أُرسِل به .

- وثُمَّ للتَّرتيبِ الرُّتْبيِّ؛ لأنَّ الجملةَ المعطوفةَ بـ (ثُمَّ) تضمَّنَت حُكمَ التَّوبةِ وأنَّ المغفِرةَ والرَّحمةَ مِن آثارِها، وذلك أهَمُّ عِندَ المخاطَبينَ ممَّا سبَق مِن وعيدٍ .

- قولُه: ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ أي: مِن بعدِ ما عَمِلوا ما عَمِلوا، والتَّصريحُ به معَ دَلالةِ (ثُمَّ) عليه للتَّأكيدِ والمبالَغةِ .

- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فيه تَكْريرُ قولِه: إِنَّ رَبَّكَ؛ لِتَأكيدِ الوَعدِ، وإظهارِ كَمالِ العِنايةِ بإنجازِه ؛ وهو تأكيدٌ لفظيٌّ لقولِه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ؛ لزيادةِ الاهْتِمامِ بالخبَرِ على الاهتِمامِ الحاصِلِ بحَرفِ التَّوكيدِ ولامِ الابْتِداءِ، وليتَّصِلَ خبَرُ إنَّ باسْمِها؛ لِبُعدِ ما بينَهما .

- والتَّعرُّضُ لوَصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِ النبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في قوله: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ مع ظهورِ الأثرِ في التَّائِبين؛ للإيماءِ إلى أنَّ إفاضةَ آثارِ الرُّبوبيَّةِ مِن المغفرةِ والرَّحمةِ عليهم بسَببِ كونِه الواسطةَ في تبليغِ شَريعةِ الله تعالى، وكَونِهم مِن أتْباعِه صلَّى الله عليه وسلَّم .

- قولُه: لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وقَع الخبرُ بوَصفِ اللهِ تعالى بصفةِ المبالَغةِ في المغفرةِ والرَّحمةِ، وهو كِنايَةٌ عن غُفرانِه لهم ورَحمتِه إيَّاهم في ضِمْنِ وصفِ اللهِ بهاتَينِ الصِّفتَينِ العَظيمتينِ .

==========================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (120-123)

ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

 

أُمَّةً: أي: إمامَ هُدًى، مُعَلِّمًا للخَيرِ، يُقتَدَى به، وأصلُ (أمم): يدُلُّ على الأصلِ والمَرجِعِ

.

قَانِتًا: أي: مُطيعًا خاضِعًا، وأصلُ (قنت): يدُلُّ على الطَّاعةِ .

حَنِيفًا: أي: مقبلًا على اللهِ، معرضًا عما سِواه، أو: مائلًا عن الشركِ والدِّينِ الباطلِ إلى التوحيدِ، والدِّينِ الحقِّ المستقيمِ، أو: مسلمًا مستقيمًا، وأصلُ الحنفِ: الميلُ عن الشيءِ بالإقبالِ على آخرَ، فالحنفُ ميلٌ عن الضلالةِ إلى الاستقامةِ، وأصلُه ميلٌ في إبهاميِ القدمينِ، كل واحدةٍ على صاحبتِها

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالَى أنَّ إبراهيمَ- عليه السَّلامُ- كان جامِعًا لخِصالِ الخَيرِ، إمامًا يُقتَدى به، وكان مُقبِلًا على اللهِ، مُستَقيمًا على الإسلامِ غيرَ مائلٍ عنه، ولم يكُنْ مِن المُشرِكين، وكان شاكِرًا لنِعَمِ اللهِ عليه، اختاره اللهُ لرِسالتِه وخُلَّتِه، وأرشَدَه ووَفَّقَه إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ- وهو الإسلامُ- وآتاه الله في الدُّنيا حَسَنةً، كإعطائِه الذريَّةَ الصَّالحةَ، والسِّيرةَ الحَسَنةَ؛ وإنَّه عند اللهِ في الآخرةِ لَمِنَ الصَّالِحينَ. ثمَّ أوحَينا إليك- يا مُحمَّدُ- أن اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيمَ، وما كان إبراهيمُ مِن المُشرِكينَ باللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا زَيَّفَ في هذه السُّورةِ مَذاهِبَ المُشرِكينَ في أشياءَ؛ منها قَولُهم بإثباتِ الشُّرَكاءِ والأندادِ لله تعالى، ومنها طَعنُهم في نبُوَّةِ الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم السَّلامُ إلى غيرِ ذلك، فلمَّا بالغَ في إبطالِ مذاهِبِهم في هذه الأقوالِ، وكان إبراهيمُ عليه السَّلامُ هو الذي دعا النَّاسَ إلى التَّوحيدِ وإبطالِ الشِّركِ، وإلى الشَّرائِعِ، فهو إمامُ الموحِّدينَ، والمُشرِكونَ كانوا مُفتَخِرينَ به مُعتَرفينَ بحُسنِ طَريقتِه مُقِرِّينَ بوُجوبِ الاقتداءِ به؛ لا جرَمَ ذَكَرَه اللهُ تعالى في آخِرِ هذه السُّورةِ، وحكى عنه طريقَتَه في التَّوحيدِ؛ ليَصيرَ ذلك حامِلًا لهؤلاءِ المُشرِكينَ على الإقرارِ بالتَّوحيدِ، والرُّجوعِ عن الشِّركِ

.

وأيضًا فإن هذا انتقالٌ إلى غرضِ التنويهِ بدينِ الإسلامِ بمناسبةِ قولِه: ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا المقصودُ به أنَّهم كانوا في الجاهِليَّةِ ثمَّ اتَّبَعوا الإسلامَ، فبَعدَ أنْ بَشَّرهم بأنَّه غفَر لهم ما عَمِلوه مِن قبلُ، زادَهم فضلًا ببَيانِ فضلِ الدِّينِ الَّذي اتَّبَعوه، وجعَل الثَّناءَ على إبراهيمَ- عليه السَّلامُ- مُقدِّمةً لذلك؛ لبيانِ أنَّ فضلَ الإسلامِ فضلٌ زائدٌ على جميعِ الأديانِ بأنَّ مبدَأَه برسولٍ ومُنتَهاه برسولٍ. وهذا فضلٌ لم يَحْظَ به دينٌ آخَرُ .

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً.

أي: إنَّ إبراهيمَ كان مُعَلِّمًا جامِعًا لخِصالِ الخَيرِ، يُقتدَى به .

كما قال تعالى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة: 124] .

قَانِتًا لِلَّهِ.

أي: مُطيعًا لله، مُلازِمًا لعِبادتِه بإخلاصٍ وخُشوعٍ .

حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.

أي: مُقبِلًا على اللهِ، مُعْرِضًا عمَّا سواه، مُستَقيمًا على الإسلامِ، مائلًا عن الشِّركِ إلى التَّوحيدِ، ولم يكُنْ مِمَّن يُشرِكونَ باللهِ شيئًا .

كما قال تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 78- 79] .

وقال سُبحانَه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 48] .

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121).

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ.

أي: قائِمًا بشُكرِ اللهِ وَحدَه على ما أنعَمَ عليه مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرةِ والباطِنةِ .

اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

أي: اختارَ اللهُ إبراهيمَ لخُلَّتِه، وجَعَلَه مِن صَفوةِ خَلْقِه، وأرْشَدَه ووَفَّقَه إلى طريقِ الحَقِّ المُستَقيمِ، وهو دينُ الإسلامِ، وعِبادةُ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء: 51] .

وقال سُبحانَه: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] .

وقال تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 84-88] .

وعن جُنْدَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((إنِّي أبرَأُ إلى اللهِ أن يكونَ لي منكم خَليلٌ؛ فإنَّ الله تعالى قد اتَّخَذني خليلًا كما اتَّخذَ إبراهيمَ خَليلًا )) .

وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122).

وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً.

أي: وآتَينا إبراهيمَ في الدُّنيا كُلَّ ما فيه راحةُ العَيشِ، فجَمَعْنا له خيرَ الدُّنيا مِن جَميعِ ما يَحتاجُ إليه المُؤمِنُ في إكمالِ حياتِه الطَّيِّبةِ .

كما قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [مريم: 49-50] .

وقال سُبحانَه: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [العنكبوت: 27] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 108- 109] .

وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا كانت عظَمةُ الدُّنيا لا تُعتبَرُ إلَّا مَقرونةً بنِعمةِ الآخرةِ، قال تعالى :

وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.

أي: وإنَّ إبراهيمَ في الدَّارِ الآخرةِ يومَ القيامةِ لَمِنَ الصَّالحينَ الذين أنعَمَ اللهُ عليهم، فصَلَحَت أمورُهم وأحوالُهم عند اللهِ، وعَلَت مَراتِبُهم، وحَسُنَت مَنزِلتُهم لديه سبحانَه .

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وَصَفَ الله تعالى إبراهيمَ عليه السَّلامُ بتلك الأوصافِ الشَّريفةِ، وقرَّر مِن عظمتِه في الدُّنيا والآخرةِ ما هو داعٍ إلى اتِّباعِه؛ صرَّح بالأمرِ به، فأمَرَ نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يتَّبِعَ مِلَّتَه، وهذا الأمرُ مِن جُملةِ الحَسَنةِ التي آتاها اللهُ إبراهيمَ في الدُّنيا .

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123).

أي: ثمَّ أوحَيْنا إليك- يا مُحمَّدُ- وقُلْنا لك: اتَّبِعْ مِلَّةَ إبراهيمَ مُسْتقيمًا على التَّوحيدِ، وما كان إبراهيمُ على دِينِ المُشرِكينَ باللهِ عزَّ وجَلَّ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135] .

وقال سُبحانَه: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 67- 68] .

وقال عزَّ وجَلَّ: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 161 - 163] .

وعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبْزَى رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((أصبَحْنا على فِطرةِ الإسلامِ، وعلى كَلِمةِ الإخلاصِ، وعلى دينِ نَبيِّنا مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وعلى مِلَّةِ أبينا إبراهيمَ حَنيفًا مُسلِمًا، وما كان مِنَ المُشرِكينَ) ) .

وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((قيل لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الأديانِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: الحَنيفيَّةُ السَّمْحةُ))

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قد عُلِمَ مِن هذا أنَّ دِينَ الإسلامِ مُنَزَّهٌ عن أن تتعَلَّقَ به شَوائِبُ الإشراكِ؛ لأنَّه جاء كما جاء إبراهيمُ عليه السَّلامُ مُعلِنًا توحيدًا لله بالإلهيَّةِ، ومُجْتثًّا لوَشيجِ الشِّركِ

.

2- قال اللهُ تعالى: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ولَمَّا كان السِّياقُ لإثباتِ الكَمالِ لإبراهيمَ عليه السَّلامُ، وكانت الأوصافُ الثُّبوتيَّةُ قَريبةَ المأخَذِ، سَريعةَ الوُصولِ إلى الفَهمِ، وأتَى بعدَها وَصفٌ سلبيٌّ بجُملةٍ؛ حُذِفَ نُونُ (يَكُن) منها إيجازًا، وتَقريبًا للفَهمِ، تخفيفًا عليه، وحِفظًا له مِن أن يذهَبَ قبلَ تمامِها إلى غيرِ المُرادِ، وإعلامًا بأنَّ الفِعلَ مَنفيٌّ عنه عليه السَّلامُ على أبلَغِ وُجوهِ النَّفيِ، لا يُنسَبُ إليه شَيءٌ منه ولو قلَّ، فقيل: وَلَمْ يَكُ .

3- الحَنَفُ: هو مَيلٌ عن الضَّلالِ إلى الاستِقامةِ؛ قال اللهُ عزَّ وجلَّ: قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا، والجَنَفُ: مَيلٌ عن الاستِقامةِ إلى الضَّلالِ، كقَولِه تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا [البقرة: 182] .

4- أثنى اللهُ سُبحانَه على إبراهيمَ خَليلِه بقَولِه تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ فهذه أربعةُ أنواعٍ مِنَ الثَّناءِ:

الأول: أنَّه افتتَحَها بأنَّه أُمَّةٌ، والأُمَّةُ: هو القُدوةُ الذي يُؤتَمُّ به.

الثاني: قَولُه: قَانِتًا لِلَّهِ والقُنوتُ يُفَسَّرُ بأشياءَ كُلُّها تَرجِعُ إلى دَوامِ الطَّاعةِ.

الثالث: قَولُه: حَنِيفًا والحَنيفُ: المُقبِلُ على اللهِ، ويلزَمُ هذا المعنى مَيْله عمَّا سِواه.

الرابع: قَولُه: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ والشُّكرُ للنِّعَمِ مَبنيٌّ على ثلاثةِ أركان: الإقرارُ بالنِّعمةِ، وإضافتُها إلى المُنعِم بها، وصَرفُها في مَرضاتِه، والعَمَلُ فيها بما يَجِبُ، فلا يكونُ العَبدُ شاكِرًا إلَّا بهذه الأشياءِ الثَّلاثةِ، والمقصودُ أنَّه مَدَحَ خَليلَه بأربَعِ صِفاتٍ كُلُّها ترجِعُ إلى العِلمِ والعَمَلِ بمُوجِبِه، وتعليمِه ونَشْرِه، فعاد الكَمالُ كُلُّه إلى العِلمِ والعَمَلِ بمُوجِبِه، ودَعوةِ الخَلقِ إليه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ فيه سُؤالٌ: لمَ قال: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ولم يَقُلْ: (وإنَّه في الآخرة في أعلى مقاماتِ الصَّالحينَ)؟

والجوابُ: لأنَّه تعالى حكى عنه أنَّه قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83] ، فقال هاهنا: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ؛ تنبيهًا على أنَّه تعالى أجاب دُعاءَه، ثمَّ إنَّ كَونَه مِن الصَّالِحينَ لا ينفي أن يكونَ في أعلَى مَقاماتِ الصَّالحينَ؛ فإنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ ذلك في آيةٍ أخرى، وهي قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ [الأنعام: 83] .

ووجهٌ آخَرُ: أنَّه إنَّما قال: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، ولم يَقُل: في أعلى منازِلِ الصَّالحينَ، بحَسَبِ ما تقتَضيه حالُه من الفَضلِ؛ لِمَدحِ مَن هو منهم، والتَّرغيبِ في الصَّلاحِ؛ لِيَكونَ صاحِبُه في جنْبِه إبراهيم، وناهيك بهذا التَّرغيبِ في الصَّلاحِ، وبهذا المَدحِ لإبراهيمَ أن يُشَرِّفَ جُملةً هو فيها، حتى يَصيرَ الاستدعاءُ إليه بأنَّه فيها .

6- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا فيه دَليلٌ على جَوازِ اتِّباعِ الأفضَلِ للمَفضولِ لمَّا تقَدَّمَ إلى الصَّوابِ والعَمَلِ به، ولا دَرَكَ على الفاضِلِ في ذلك؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وقد أُمِرَ بالاقتداءِ بهم، فقال تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] . وقال هنا: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النحل: 123] .

7- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا استُدلَّ بهذه الآيةِ على وُجوبِ الخِتانِ، وما كان مِن شَرْعِه، ولم يَرِدْ به ناسِخٌ .

8- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نفَى عنه الشِّركَ؛ لِقَصدِ الرَّدِّ على المُشرِكينَ مِن العَرَبِ الذين كانوا يَنتَمونَ إليه .

9- حصَلَ مِن قَولِه تعالى السَّابِقِ: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] ومِن قَولِه هنا: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثلاثُ فوائِدَ: نفيُ الإشراكِ عن إبراهيمَ في جميعِ أزمِنةِ الماضي، وتجَدُّدُ نَفيِ الإشراكِ تجَدُّدًا مُستَمِرًّا، وبراءتُه مِن الإشراكِ بَراءةً تامَّةً

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

- قولُه: وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قيل: هو اعتِراضٌ لإبطالِ مَزاعِمِ المشرِكينَ أنَّ ما هم عليه هو دينُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وهو كالتَّأكيدِ لِوَصفِ الحَنيفِ بنَفْيِ ضدِّه، مِثلُ: وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى

[طه: 79] . وفيه إعلامٌ مِن الله تعالى أهلَ الشركِ به مِن قريشٍ أنَّ إبراهيمَ منهم بريءٌ، وأنَّهم منه براءٌ .

- ونَفيُ كونِه مِن المشرِكينَ بحَرفِ (لَم)؛ لأنَّ (لم) تَقلِبُ زمَنَ الفعلِ المضارِعِ إلى الماضي؛ فتُفيدُ انتِفاءَ مادَّةِ الفِعلِ في الزَّمنِ الماضي، وتُفيدُ تَجدُّدَ ذلك المنفيِّ الَّذي هو مِن خَصائصِ الفِعلِ المضارِعِ، فيَحصُلُ معنَيانِ: انْتِفاءُ مَدْلولِ الفِعلِ بمادَّتِه، وتَجدُّدُ الانتفاءِ بصيغتِه، فيُفيدُ أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لم يتَلبَّسْ بالإشراكِ قَطُّ؛ فإنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لم يُشرِكْ باللهِ منذُ صار مميِّزًا، وأنَّه لا يتَلبَّسُ بالإشراكِ أبدًا .

2- قَولُه تعالى: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

- قولُه: شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ فيه إيثارُ صيغةِ جَمعِ القِلَّةِ (أَنعُمٍ)؛ للإيذانِ بأنَّه عليه السَّلامُ كان لا يُخِلُّ بشُكرِ النِّعمةِ القليلةِ؛ فكَيف بالكثيرةِ؟! وللتَّصريحِ بكَونِه عليه السَّلامُ على خِلافِ ما هم عليه مِن الكُفْرانِ بأنعُمِ اللهِ تعالى حسَبَما بيَّن ذلك بضَربِ المثَلِ .

- وجملةُ اجْتَبَاهُ مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بيانيًّا؟ لأنَّ الثَّناءَ المتقدِّمَ يُثيرُ سؤالَ سائلٍ عن سبَبِ فَوزِ إبراهيمَ بهذه المَحامِدِ، فيُجابُ بأنَّ اللهَ اجْتَباه .

3- قَولُه تعالى: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ

- قولُه: وَآتَيْنَاهُ فيه الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ؛ لإظهارِ كَمالِ الاعْتِناءِ بشَأنِه، وتَفْخيمِ مَكانِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ، وللتَّفنُّنِ في الأسلوبِ؛ لِتَوالي ثلاثةِ ضمائرِ غَيبةٍ .

4- قَولُه تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

- قولُه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ... في ثُمَّ هذه مِن التَّراخي في الرُّتْبةِ ما فيها مِن تعظيمِ مَنزِلةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وإجلالِ محَلِّه، والإيذانِ بأنَّ أشرَفَ ما أوتي خليلُ اللهِ إبراهيمُ مِن الكَرامةِ، وأجَلَّ ما أُولِيَ مِن النِّعمةِ: اتِّباعُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِلَّتَه؛ لأنَّ (ثُمَّ) دلَّت على تَباعُدِ هذا النَّعتِ في المرتَبةِ مِن بينِ سائرِ النُّعوتِ الَّتي أثنَى اللهُ عليه بها؛ ففيها الإيذانُ بأنَّ هذه النِّعمةَ مِن أجَلِّ النِّعَمِ الفائضةِ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ؛ فـ (ثُمَّ) للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ المشيرِ إلى أنَّ مَضمونَ الجملةِ المعطوفةِ مُتباعِدٌ في رُتبةِ الرِّفْعةِ على مَضمونِ ما قبْلَها؛ تَنويهًا جَليلًا بشأنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم وبشريعةِ الإسلامِ، وزيادةً في التَّنويهِ بإبراهيمَ عليه السَّلامُ، أي: جعَلْناك مُتَّبِعًا ملَّةَ إبراهيمَ، وذلك أجَلُّ ما أَوْليْناكُما مِن الكرامةِ، وهذه الجملةُ هي المقصودُ، وجملةُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً... تمهيدٌ لها .

- وزِيدَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ اتِّباعَ محمَّدٍ مِلَّةَ إبراهيمَ كان بِوَحيٍ مِن اللهِ، وإرشادٍ صادقٍ، تعريضًا بأنَّ الَّذين زعَموا اتِّباعَهم مِلَّةَ إبراهيمَ مِن العرَبِ مِن قبلُ قد أخطَؤُوها بشُبهةٍ أو بغيرِ شُبهةٍ .

- قولُه: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تَكريرٌ لِما سبَق؛ لزيادةِ تأكيدٍ، وتقريرٌ لِنَزاهتِه عليه السَّلامُ عمَّا هم عليه مِن عَقدٍ وعمَلٍ .

=====================

 

سورةُ النَّحلِ

الآيات (124-128)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ

المعنى الإجمالي:

 

يخبرُ الله تعالى أنَّه إنَّما جعَلَ تَعظيمَ يومِ السَّبتِ- بالتفَرُّغِ للعبادةِ فيه، وتركِ العملِ- عقوبةً على اليَهودِ حينَ اختَلَفوا في استِحلالِه وتَحريمِه، واعتبارِه أفضَلَ الأيَّامِ، وإنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- لَيَحكُمُ بين المُختَلِفينَ يومَ القيامةِ فيما اختَلَفوا فيه، ويُجازي كُلًّا بما يَستَحِقُّه.

ثمَّ يأمرُ الله نبيَّه بالدعوة إلى دينِه، قائلًا له: ادعُ- يا مُحَمَّدُ- إلى دينِ رَبِّك بالحكمةِ، وبالموعظة الحسنة التي ترَقِّقُ القلوبَ، وتهَذِّبُ النُّفوسَ، وجادِلْهم بأحسَنِ طُرُقِ المُجادَلةِ مِن الرِّفقِ واللِّينِ؛ إنَّ اللهَ أعلَمُ بمَن ضَلَّ عن سَبيلِه، وهو أعلَمُ بالمُهتَدينَ.

ثمَّ بيَّن تعالى ما ينبغي على المسلمِ أن يفعلَه في حالةِ الاعتداءِ عليه، ومحاربةِ دعوتِه، فقال: وإنْ أردتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- مُعاقَبةَ من اعتَدى عليكم، فلا تَزيدوا عَمَّا فَعَلوه بكم، ولَئِنْ صَبَرتُم لَهو خَيرٌ لكم عند الله، واصبِرْ- يا مُحمَّدُ- على الدَّعوةِ وما يترتَّبُ عليها من أذًى في اللهِ، وما صَبرُك إلَّا باللهِ؛ فهو الذي يُعينُك عليه ويوفِّقُك، ولا تَحزَنْ على مَن كفَرَ ولم يَستَجِبْ لِدَعوتِك، ولا تغتَمَّ مِن تكذيبِهم ومَكْرِهم؛ فإنَّ اللهَ ناصِرُك عليهم، إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى مع الذينَ اتَّقَوه ومع المُحسِنين بِعَونِه وتَوفيقِه ونصرِه وتأييدِه.

تفسير الآيات:

 

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ مَوقِعَ هذه الآيةِ يُنادي على أنَّها تضَمَّنَت معنًى يَرتَبِطُ بمِلَّةِ إبراهيمَ وبمَجيءِ الإسلامِ على أساسِها؛ فلَمَّا نَفَت الآيةُ قبلَ هذه أن يكونَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ مِن المُشرِكينَ؛ ردًّا على مَزاعِمِ العَرَبِ المُشرِكينَ أنَّهم على مِلَّةِ إبراهيمَ؛ انتقَلَ بهذه المُناسَبةِ إلى إبطالِ ما يُشبِهُ تلك المزاعِمَ، وهي مَزاعِمُ اليَهودِ أنَّ مِلَّةَ اليَهوديَّةِ هي مِلَّةُ إبراهيمَ

.

وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باتِّباعِ مِلَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، وكان الرَّسولُ قد هداه الله إلى يومِ الجُمُعةِ، فدَلَّ ذلك على أنَّه كان في شَرعِ إبراهيمَ، بيَّنَ أنَّ يومَ السَّبتِ لم يكُنْ تَعظيمُه واتِّخاذُه للعبادةِ مِن شَرعِ إبراهيمَ ولا دينِه .

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ.

أي: إنَّما فُرِضَ تَعظيمُ يومِ السَّبتِ على اليَهودِ، وتَرْكُ العَمَلِ فيه، والتفَرُّغُ للعبادةِ؛ تَغليظًا عليهم، وعُقوبةً لهم حين اختَلَفوا في استِحلالِ يومِ السَّبتِ وتَحريمِه، واعتبارِه أفضَلَ الأيَّامِ، فَضلُّوا عن يومِ الجُمُعةِ، وبَدَّلوا به يومَ السَّبتِ، ولم يكُنْ في شَريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ تَعظيمُ ذلك اليَومِ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّه سَمِعَ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((نحنُ الآخِرونَ السَّابِقونَ يومَ القِيامةِ، بَيْدَ أنَّهم أُوتوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، ثمَّ هذا يَومُهم الذي فُرِضَ عليهم، فاختَلَفوا فيه، فهَدانا اللهُ؛ فالنَّاسُ لنا فيه تَبَعٌ: اليَهودُ غَدًا، والنَّصارى بعدَ غَدٍ )) .

وعن أبي هُريرةَ وحُذيفةَ رَضِيَ الله عنهما، قالا: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أضَلَّ اللهُ عن الجُمُعةِ مَن كان قَبْلَنا، فكان لليَهودِ يومُ السَّبتِ، وكان للنَّصارى يومُ الأحَدِ، فجاء اللهُ بنا، فهدانا اللهُ لِيَومِ الجُمُعةِ، فجعَلَ الجُمعةَ والسَّبتَ والأحدَ، وكذلك هم تبَعٌ لنا يومَ القيامةِ، نحنُ الآخِرونَ مِن أهلِ الدُّنيا، والأوَّلونَ يومَ القيامةِ، المَقضيُّ لهم قَبلَ الخلائِقِ )) .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.

أي: وإنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- لَيَحكُمُ يومَ القيامةِ بينَ أولئك المُختَلِفينَ في الدُّنيا في شأنِ استِحلالِ يومِ السَّبتِ أو تَحريمِه، فيُبَيِّنُ لهم المُحِقَّ مِن المُبطِلِ، ويُجازي كلًّا منهم بما يستَحِقُّه مِن ثوابٍ أو عِقابٍ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [يونس: 93] .

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باتِّباعِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ بَيَّنَ الشَّيءَ الذي أمَرَه بمُتابَعتِه فيه، فقال تعالى :

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.

أي: ادعُ- يا محمدُ- جميعَ الناسِ إلى دينِ ربِّك بما أوحاه الله إليك مِن الكتابِ والسنةِ، وانصحْهم بما في وحْي الله إليك مِن العبرِ الجميلةِ، وذكِّرْهم بنعمِ الله تعالى ونقمِه وثوابِه وعقابِه بما يستحسنُه السامعون فترقُّ قلوبُهم، ويلينونَ للحقِّ، فيقبلونَه، ويفعلونَ ما أمَرهم الله به، وينتهونَ عمَّا نهاهم عنه .

وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

أي: وجادِلْ المُعانِدينَ بالطَّريقةِ التي هي أحسَنُ طُرُقِ المُجادَلةِ؛ مِن الرِّفقِ واللِّينِ، وحُسنِ الخِطابِ، والعَفوِ والصَّفحِ، وغيرِ ذلك مِمَّا يكون أدعى للاستجابةِ والقَبولِ .

كما قال تعالى: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] .

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.

أي: إنَّ ربَّك- يا مُحمَّدُ- هو أعلَمُ بمَن زاغَ عن طَريقِ اللهِ، فلم يتَّبِعْ دِينَه، كالذين اختَلَفوا في السَّبتِ، وسيُجازِيه على عَمَلِه .

وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.

أي: وربُّك أعلَمُ بالمُهتَدينَ لِدِينِه، الذينَ اتَّبَعوا الحَقَّ، وسيُجازيهم على أعمالِهم .

كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [النجم: 30] .

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أمَرَ اللهُ تعالى مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يدعُوَ الخَلْقَ إلى الدِّينِ الحَقِّ بأحَدِ الطُّرُقِ الثَّلاثةِ، وهي: الحِكمةُ، والمَوعِظةُ الحَسَنةُ، والجِدالُ بالطَّريقِ الأحسَنِ، ثمَّ إنَّ تلك الدَّعوةَ تتضَمَّنُ أمْرَهم بالرُّجوعِ عن دينِ آبائِهم وأسلافِهم، وبالإعراضِ عنه، والحُكمَ عليه بالكُفرِ والضَّلالةِ، وذلك مِمَّا يُشَوِّشُ القُلوبَ، ويُوحِشُ الصُّدورَ، ويَحمِلُ أكثَرَ المُستَمِعينَ على قَصدِ ذلك الدَّاعي بالقَتلِ تارةً، وبالضَّربِ ثانيًا، وبالشَّتمِ ثالثًا، ثمَّ إنَّ ذلك المُحِقَّ إذا شاهَدَ تلك السَّفاهاتِ، وسَمِعَ تلك المُشاغَباتِ، لا بُدَّ أن يَحمِلَه طَبعُه على تأديبِ أولئك السُّفَهاءِ؛ تارةً بالقَتلِ، وتارةً بالضَّربِ، فعند هذا أمَرَ المُحِقِّينَ في هذا المقامِ برِعايةِ العَدلِ والإنصافِ وتَركِ الزِّيادةِ .

سَبَبُ النُّزولِ:

عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((لَمَّا كانَ يومُ أحُدٍ، أُصيبَ منَ الأنصارِ أربعةٌ وسِتُّونَ رجُلًا، ومنَ المُهاجرينَ ستَّةٌ فيهم حَمزةُ، فمَثَّلوا بِهم، فقالتِ الأنصارُ: لَئِنْ أصَبْنا منْهم يومًا مثلَ هذا لَنُرْبِيَنَّ عليهم، قالَ: فلمَّا كانَ يومُ فتحِ مَكَّةَ، فأنزلَ اللَّهُ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقالَ رجلٌ: لا قُرَيشَ بعدَ اليومِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم: كُفُّوا عنِ القَومِ إلَّا أربَعةً)) .

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ.

أي: وإنْ عاقَبْتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- مَن اعتَدى عليكم بقَولٍ أو بفِعلٍ؛ فعاقِبوه بمِثلِ ما ظلَمَكم به، مِن غَيرِ زِيادةٍ .

كما قال تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] .

وقال سُبحانَه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] .

وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.

مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا أباح لهم دَرَجةَ العَدل؛ رقَّاهم إلى رُتبةِ الإحسانِ، بقَولِه تعالى :

وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ.

أي: ولَئِنْ صَبَرْتُم- أيُّها المُؤمِنونَ- عن عُقوبةِ مَن اعتدى عليكم، فعَفَوتُم عنهم؛ فذلك الصَّبرُ خَيرٌ عندَ اللهِ للصَّابِرينَ مِن الانتِقامِ والانتِصارِ .

كما قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 40-43] .

وقال سُبحانَه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر: 10] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((وما زاد اللهُ عَبدًا بعَفوٍ إلَّا عِزًّا ) ) .

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما خُيِّر المخاطبون في المعاقبةِ والصبرِ عنها؛ عزَم على الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الذي هو خيرٌ، وهو الصبرُ .

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ.

أي: واصبِرْ- يا مُحَمَّدُ- على دَعوةِ قَومِك إلى اللهِ، وتحَمَّلْ ما يُصيبُك مِن أذاهم، وما يَحصُلُ صَبْرُك إلَّا بإعانةِ اللهِ وتَوفيقِه لك إلى ذلك .

كما قال تعالى: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس: 109] .

وقال سُبحانَه: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل: 10] .

وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان- بعدَ تَوطينِ النَّفسِ على الصَّبرِ، وتَفريغِ القَلبِ مِن الإحْنةِ - يَرجِعُ إلى الأسفِ على إهلاكِهم أنفُسَهم بتَماديهم على العُتُوِّ على اللهِ تعالى، قال سُبحانَه :

وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ.

أي: ولا تَحزَنْ على قَومِك إذا لم يُؤمِنوا بما جِئتَهم به، وأعْرَضوا عن دَعْوتِك .

كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] .

وقال سُبحانَه: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر: 8] .

وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ.

أي: ولا يَضِقْ صَدْرُك فتَغْتَمَّ بسَبَبِ مَكرِ قَومِك بك، وتَكذيبِهم وعَداوتِهم لك، واحْتيالِهم بالخُدَعِ للصَّدِّ عما جِئْتَهم به من الحَقِّ؛ فإنَّ اللهَ ناصِرُك عليهم، ومُظهِرٌ دِينَه .

كما قال تعالى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل: 70] .

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أمَرَ الله تعالى بالاقتصارِ على قَدرِ الجُرمِ في العُقوبةِ، ورَغَّبَ في الصَّبرِ على الأذى، والعَفوِ عن المُعتَدينَ، وخَصَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأمرِ بالصَّبرِ، والاستعانةِ على تحصيلِه بمَعونةِ اللهِ تعالى، وصَرْف الكَدَرِ عن نفسِه مِن جَرَّاءِ أعمالِ الذين لم يُؤمِنوا به؛ عَلَّلَ ذلك كُلَّه بأنَّ اللهَ مع الذينَ يتَّقونَه فيَقِفونَ عند ما حَدَّ لهم، ومع المحسِنينَ .

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا.

أي: إنَّ اللهَ بنَصْرِه وتأييدِه ومَعونَتِه مع الذين اتَّقَوه، فاجتَنَبوا نواهِيَه .

وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ.

أي: ومع المُحسِنينَ في عبادةِ اللهِ، المُحسِنينَ إلى عِبادِ اللهِ، يُعينُهم ويُؤَيِّدُهم ويَنصُرُهم .

كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] .

وعن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ الله عنه في حديثِ جِبريلَ عليه السَّلامُ، قال: ((فأخبِرْني عن الإحسانِ، قال: أن تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه، فإنَّه يراك) ) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نفَّسَ عن مُؤمِنٍ كُرْبةً مِن كُرَبِ الدُّنيا، نفَّسَ اللهُ عنه كُرْبةً مِن كُرَبِ يومِ القِيامةِ، ومَن يسَّرَ على مُعسِرٍ يسَّرَ اللهُ عليه في الدُّنيا والآخرةِ، ومَن ستَرَ مُسلِمًا ستَرَه اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ، واللهُ في عَونِ العَبدِ ما كان العَبدُ في عَونِ أخيه ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ حُجَّةٌ في تَركِ الغِلظةِ والخُرقِ

عند الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، واستِعمالِ اللِّينِ واللُّطفِ فيهما؛ لأنَّه أجدَرُ أن يَلينَ له قَلبُ المأمورِ، وأحرى أن تَصِلَ المَوعِظةُ إليه .

2- في قَولِه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ذكَرَ سُبحانَه مَراتِبَ الدَّعوةِ وجعَلَها ثلاثةَ أقسامٍ؛ فإنه: إمَّا أن يكونَ طالبًا للحَقِّ راغبًا فيه، مُحِبًّا له، مُؤثِرًا له على غَيرِه إذا عَرَفَه؛ فهذا يُدعى بالحِكمةِ ولا يَحتاجُ إلى مَوعِظةٍ ولا جِدالٍ، وإمَّا أن يكونَ مُعرِضًا مُشتغِلًا بضدِّ الحَقِّ؛ ولكنْ لو عَرَفه آثَرَه واتَّبَعه؛ فهذا يحتاجُ مع الحِكمةِ إلى المَوعِظةِ بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ، وإمَّا أن يكونَ مُعانِدًا مُعارِضًا؛ فهذا يُجادَلُ بالتي هي أحسنُ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فيه الحثُّ على الإنصافِ في المُناظَرةِ، واتِّباعِ الحَقِّ .

4- قال الله تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ أنَّ مَن لا يَستَطيعُ المُجادَلةَ بالتي هي أحسَنُ؛ فلا يُجادِلْ !

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، هذا تَصريحٌ بأنَّ الأَولَى تَرْكُ ذلك الانتقامِ ، فقد أباح لهم سُبحانَه وتعالى إذا عاقَبوا الظَّالِمَ أن يُعاقِبوه بمِثْلِ ما عاقَبَ به، ثمَّ قال سُبحانَه: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، فعُلِمَ أنَّ الصَّبرَ عن عُقوبتِه بالمِثلِ خَيرٌ مِن عُقوبتِه .

6- قال الله تعالى: وَاصْبِرْ لَمَّا كان الصَّبرُ في هذا المقامِ شاقًّا شديدًا؛ ذكَرَ بَعدَه ما يُفيدُ سُهولتَه، فقال: وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، أي: بتَوفيقِه ومَعونتِه، وهذا هو السَّبَبُ الكُلِّيُّ الأصليُّ المُفيدُ في حُصولِ الصَّبرِ، وفي حُصولِ جميعِ أنواعِ الطَّاعاتِ .

7- الدَّاعيةُ إلى اللهِ لا يَضُرُّه ألَّا يَقبَلَ النَّاسُ منه؛ لأنَّه أدَّى الواجِبَ، وينبغي أن يُفَرِّحَ نفسَه بأنَّه أدَّى الواجِبَ، وألَّا يَحزَنَ بعَدَمِ قَبولِهم دعوتَه؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ .

8- الحزنُ لم يأمُرِ الله به ولا رسولُه، بل قد نهَى عنه في مواضعَ، وإنْ تعلَّقَ أمرُ الدِّينِ به، كقولِه تعالَى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، وقولِه: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران : 139] ، وقولِه: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد: 23] ، وأمثالُ ذلك كثيرةٌ، وذلك أنَّه لا يجلبُ منفعةً، ولا يدفعُ مضرَّةً، ولا فائدةَ فيه، وما لا فائدةَ فيه لا يأمرُ الله به. نَعمْ لا يأثمُ صَاحبُه إذا لم يقترِنْ بحزنِه محرَّمٌ، كما يحزنُ على المصائبِ، وقد يقترنُ بالحزنِ ما يُثابُ صاحبُه عليه، ويُحمدُ عليه، ويكونُ محمودًا مِن تلك الجهةِ لا مِن جهةِ الحزنِ، كالحزينِ على مُصيبةٍ في دينِه، وعلى مصائبِ المسلمينَ عُمُومًا، فهذا يُثابُ على ما في قلبِه مِن حبِّ الخيرِ، وبُغضِ الشَّرِّ، وتوابعِ ذلك .

9- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا إشارةٌ إلى التَّعظيمِ لأمرِ اللهِ تعالى، وقَولُه: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ إشارةٌ إلى الشَّفَقةِ على خَلقِ اللهِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ كَمالَ السَّعادةِ للإنسانِ في هَذينِ الأمرينِ: التَّعظيمِ لأمرِ اللهِ تعالى، والشَّفَقةِ على خَلقِ اللهِ .

10- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فيه أنَّه ينبغي الحِرصُ على الإحسانِ والتَّقوى؛ فإنَّ كلَّ إنسانٍ يُحِبُّ أن يكونَ اللهُ معه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ شَدَّدَ عليهم في أمْرِه؛ انتقامًا منهم بما تُفهِمُه التَّعديَةُ بـ (على)، فكان ذلك وَبالًا عليهم، وفي ذلك تذكيرٌ بنِعمةِ التَّيسيرِ علينا

.

2- في قَولِه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ أضاف سُبحانَه السَّبيلَ إلى نفْسِه؛ لسَبَبينِ:

السَّببُ الأولُ: أنَّه هو الذي وَضَعَها للعِبَادِ؛ ودَلَّهم عليها.

السَّببُ الثاني: أنَّها مُوصِلةٌ إليه، فلا شيءَ يُوصِلُ إلى اللهِ إلَّا سَبيلُ اللهِ التي شَرَعَها لعبادِه على ألسِنةِ رُسُلِه صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليهم .

3- قَولُ اللهِ تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ قُيِّدت الموعِظةُ بالحَسَنةِ ولم تُقيَّدِ الحِكمةُ بمِثلِ ذلك؛ لأنَّ الموعظةَ لَمَّا كان المقصودُ منها- غالبًا- ردعَ نَفسِ الموعوظِ عن أعمالِه السيِّئةِ، أو عن توقُّعِ ذلك منه؛ كانت مَظِنَّةً لصدور غِلظةٍ مِن الواعِظِ ولحصولِ انكسارٍ في نفسِ الموعوظ- أرشد اللهُ رسولَه أن يتوخَّى في الموعظةِ أن تكونَ حَسنةً، أي: بإلانةِ القولِ، وترغيبِ الموعوظِ في الخيرِ؛ قال تعالى خطابًا لِموسى وهارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّه طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43-44] . وأمَّا الحِكمةُ فهي تعليمٌ لِمُتطلِّبي الكمالِ مِن معلِّمٍ يهتَمُّ بتعليمِ طُلَّابه، فلا تكونُ إلَّا في حالةٍ حَسَنةٍ، فلا حاجةَ إلى التنبيهِ على أن تكونَ حَسَنةً ، فوَصفُ الحُسنِ لها ذاتيٌّ، وأمَّا المَوعِظةُ فقَيَّدَها بوَصفِ الإحسانِ؛ إذ ليس كُلُّ مَوعِظةٍ حَسَنةً، وكذلك الجدَلُ قد يكونُ بالتي هي أحسَنُ، وقد يكونُ بغيرِ ذلك، وهذا يحتَمِلُ أن يَرجِعَ إلى حالِ المُجادِلِ وغِلظَتِه، ولِينِه وحِدَّتِه ورِفقِه، فيكونُ مأمورًا بمُجادلتِهم بالحالِ التي هي أحسَنُ، ويحتَمِل أن يكونَ صِفةً لِما يُجادِلُ به مِن الحُجَجِ والبراهينِ، والكَلِماتِ التي هي أحسَنُ شَيءٍ وأبيَنُه، وأدَلُّه على المقصودِ، وأوصَلُه إلى المطلوبِ، والتَّحقيقُ: أنَّ الآيةَ تتناوَلُ النَّوعَينِ .

4- قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، المُجادَلةُ لَمَّا كانت مُحاجَّةً في فِعلٍ أو رأيٍ لِقَصدِ الإقناعِ بوَجهِ الحَقِّ فيه، فهي لا تعدو أن تكونَ مِن الحِكمةِ أو مِنَ المَوعِظةِ، ولكِنَّها جُعِلَت قَسيمًا لهما هنا بالنَّظَرِ إلى الغَرَضِ الدَّاعي إليها .

5- قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، الجدَلُ لا يُدْعَى به، بل هو من بابِ دفعِ الصائِلِ، فإذا عارض الحقَّ معُارِضٌ جودِلَ بالتي هي أحسَنُ، ولهذا قال: وَجَادِلْهُمْ فجعَله فعلًا مأمورًا به، مع قولِه: ادْعُهم؛ فأمَره بالدعوةِ بالحكمةِ، والموعظةِ الحسنةِ، وأمَره أن يجادلَ بالتي هي أحسنُ، وقال في الجدالِ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ولم يقُلْ: بالحسنةِ، كما قال في الموعظةِ؛ لأنَّ الجدالَ فيه مدافعةٌ ومغاضبةٌ، فيحتاجُ أنْ يكونَ بالتي هي أحسنُ حتى يُصْلِحَ ما فيه مِن الممانعةِ والمدافعةِ، والموعظةُ لا تُدافَعُ كما يُدافَعُ المُجادِلُ! فما دام الرجلُ قابلًا للحكمةِ أو الموعظةِ الحسنة أو لهما جميعًا لم يُحْتَجْ إلى مجادلةٍ، فإذا مانَعَ فإنَّه يُجادَلُ بالتي هي أحسنُ .

6- قال الله تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ليس مِن الأحسنِ أن ندفَعَ الباطِلَ بالباطِلِ، أو أن نَرُدَّ ما عَلِمْناه بالفِطرةِ والضَّرورةِ لِظَنِّنا أنَّ المُبطِلَ يَدفَعُ به الحَقَّ .

7- الجِدالُ قد يكونُ واجِبًا أو مُستحَبًّا، كما قال تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،  وقد يكونُ الجِدالُ مُحَرَّمًا في الحجِّ وغيرِه، كالجِدالِ بغيرِ عِلمٍ، وكالجِدالِ في الحقِّ بعدَ ما تبيَّنَ ، وقد دلَّت الآيةُ على أنَّ المناظرةَ والمجادلةَ في العلمِ جائزةٌ، إذا قُصِد بها إظهارُ الحقِّ .

8- قال الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ هذه الآيةُ الكريمةُ لها أمثالٌ في القُرآنِ؛ فإنَّها مشتملةٌ على مشروعيَّةِ العدلِ، والنَّدبِ إلى الفضلِ، كما في قولِه تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ثمَّ قال: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ، وقال: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ثمَّ قال: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [المائدة: 45] ، وقال في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ثمَّ قال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ .

9- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ في هذه الآيةِ دَليلٌ على جَوازِ التَّماثُلِ في القِصاصِ؛ فمَن قَتَلَ بحَديدةٍ قُتِلَ بمِثْلِها، ومَن قَتَل بحَجَرٍ قُتِلَ بمِثْلِه، ولا يتعَدَّى قَدرَ الواجِبِ، وذلك خِلافًا لِمَن قال: لا قَوَدَ إلَّا بالسَّيفِ ، فالآيةُ تدلُّ على مُراعاةِ المُماثَلةِ في القِصاصِ، وعلى وُجوبِ المِثْلِ في المِثْليَّاتِ .

10- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، يُستَدَلُّ به لمسألةِ الظَّفَرِ ، وقد سُئِلَ النَّخعيُّ عن الرَّجُلِ يخونُ الرَّجُلَ ثمَّ يقَعُ له في يَدِه الدَّراهِمُ، قال: إن شاء أخذَ مِن دراهِمِه بمِثلِ ما خانه، ثمَّ قرأ هذه الآيةَ .

11- في قَولِه تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ أنَّه إذا ردَّ الإنسانُ على مَن ظَلَمه بمثلِ مظلِمتِه؛ فإنَّه لا يكونُ آثِمًا، بل هو عادِلٌ .

12- قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ... هذه الآيةُ مُتَّصِلةٌ بما قَبلَها أتَمَّ اتِّصالٍ، وحَسبُك وجودُ العاطِفِ فيها. وهذا تدَرُّجٌ في رُتَبِ المُعاملةِ مِن مُعاملةِ الذين يُدعونَ ويُوعَظونَ إلى مُعاملةِ الذين يُجادَلونَ، ثمَّ إلى مُعاملةِ الذين يُجازَونَ على أفعالِهم، وبذلك حصَلَ حُسنُ التَّرتيبِ في أُسلوبِ الكَلامِ .

13- في قَولِه تعالى: وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ دليلٌ على أنَّ الاستطاعةَ، وإنْ كانت مَنسوبةً إلى العَبدِ، فالمَعونةُ عليها مِن عندِ اللهِ سُبحانَه .

14- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ هذه مَعيَّةٌ خاصَّةٌ تختَصُّ بالرُّسُلِ وأتباعِهم، وهي تقتضي مع الإحاطةِ النصرَ والتَّأييدَ .

15- قَرْنُ قَولِه تعالى: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ بقَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وإخبارُهم بأنَّ اللهَ معهم؛ يُوجِبُ زوالَ الضِّيقِ مِن مَكرِ عَدُوِّهم .

16- سورةُ (النَّحل): افتُتِحَت بالنَّهيِ عن الاستِعجالِ، فقال اللهُ تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ، وخُتِمَت بالأمرِ بالصَّبرِ، فقال سُبحانه وتعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

- قولُه: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا، نشَأ عن قولِه: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا؛ إذْ يُثيرُ سُؤالًا مِن المخالِفينَ: كيف يكونُ الإسلامُ مِن مِلَّةِ إبراهيمَ؟ ولعَلَّ اليهودَ شغَّبوا على المسلِمين بِجَعْلِ يومِ الجُمعةِ اليومَ المقدَّسَ عِندَهم؛ فكان قولُه: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ بَيانًا لِجَوابِ هذا السُّؤالِ. وقد وقَعَتْ هذه الجملةُ مُعترِضةً بينَ جُملةِ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا، وجملةِ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ...؛ ولذلك افتُتِحَت الجملةُ بأداةِ الحَصرِ إِنَّمَا؛ إشعارًا بأنَّها لِقَلْبِ ما ظَنَّه السَّائِلون المشغِّبون

.

- وفي قولِه: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ إيرادُ الفِعلِ جُعِلَ مبنيًّا للمفعولِ؛ جَريًا على سَنَنِ الكِبْرياءِ، وإيذانًا بعدَمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ بالفاعلِ؛ لاستحالةِ الإسنادِ إلى الغيرِ، وإنَّما عبَّر عن ذلك بالجَعْلِ مَوصولًا بكلمةِ عَلَى، وعنهم بالاسْمِ الموصولِ باختلافِهم: الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ للإيذانِ بتَضمُّنِه للتَّشديدِ والابتلاءِ المؤدِّي إلى العذابِ .

2- قَولُه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ

- قولُه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ: في مُخاطَبةِ اللهِ رَسولَه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بهذا الأمرِ في حينِ أنَّه داعٍ إلى الإسلامِ، ومُوافِقٌ لأصولِ مِلَّةِ إبراهيمَ: دليلٌ على أنَّ صيغةَ الأمرِ مُستعمَلةٌ في طلَبِ الدَّوامِ على الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ، معَ ما انْضَمَّ إلى ذلك مِن الهدايةِ إلى طَرائقِ الدَّعوةِ إلى الدِّينِ؛ فتضَمَّنَت هذه الآيةُ تَثبيتَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم على الدَّعوةِ، وألَّا يُؤيِسَه قولُ المُشرِكينَ له: إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ [النحل: 101] ، وقولُهم: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] .

- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ تعليلٌ للأمرِ بالاستمرارِ على الدَّعوةِ، بعدَ الإعلامِ بأنَّ الَّذين لا يُؤمِنون بآياتِ اللهِ لا يَهْديهِم اللهُ، وبعدَ وصْفِ أحوالِ تَكذيبِهم وعِنادِهم، ثمَّ أتبَعَ ذلك بالعِلمِ بالمهتَدِينَ على وجهِ التَّكميلِ، وفيه: إيماءٌ إلى أنَّه لا يَدْري أن يَكونَ بعضُ مَن أيِسَ مِن إيمانِه قد شرَح اللهُ صدْرَه للإسلامِ بعدَ اليأسِ مِنه .

- وقولُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ فيه تأكيدُ الخبَرِ بضميرِ الفَصلِ هُوَ؛ للاهتِمامِ به، وأمَّا إِنَّ فهي في مَقامِ التَّعليلِ ليسَت إلَّا لِمُجرَّدِ الاهتمامِ، وهي قائمةٌ مَقامَ فاءِ التَّفريعِ؛ فإنَّ إفادتَها التَّأكيدَ هنا مُستَغنًى عنها بوُجودِ ضَميرِ الفصلِ في الجملةِ المفيدةِ لقَصرِ الصِّفةِ على الموصوفِ؛ فإنَّ القصرَ تأكيدٌ على تأكيدٍ .

- وقولُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فيه تقديمُ مَن ضلَّ على المهتَدينَ؛ لأنَّ مَساقَ الكلامِ لهم، وإيرادُ الضَّلالِ بصيغةِ الفِعلِ ضَلَّ الدَّالِّ على الحدوثِ؛ لأنَّه تغييرٌ لفطرةِ اللهِ الَّتي فطَر النَّاسَ عليها وإعراضٌ عن الدَّعوةِ، وذلك أمرٌ عارِضٌ، بخلافِ الاهْتِداءِ الَّذي هو عبارةٌ عن الثَّباتِ على الفِطْرةِ، والجرَيانِ على مُوجِبِ الدَّعوةِ؛ ولذلك جِيءَ به على صيغةِ الاسْمِ الْمُهْتَدِينَ المنبِئِ عن الثَّباتِ . وقيل: قدَّمَ ذِكرَ عِلمِه بمَن ضَلَّ عن سَبيلِه على ذِكرِ عِلمِه بالمُهتَدينَ؛ لأنَّ المَقامَ تَعريضٌ بالوَعيدِ للضَّالِّينَ، ولأنَّ التَّخْليةَ مُقَدَّمةٌ على التَّحْليةِ، فالوعيدُ مُقَدَّمٌ على الوَعدِ .

- وتَكْريرُ هُوَ أَعْلَمُ؛ للتَّأكيدِ، والإشعارِ بتَبايُنِ حالِ المعلومِينَ ومآلِهِما مِن العقابِ والثَّوابِ .

3- قَولُه تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ

- قولُه: فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، أي: بمِثْلِ ما فُعِل بكم، وقد عبَّر عنه بالعقابِ على طريقةِ إطلاقِ اسمِ المُسبَّبِ على السَّببِ، أو على نَهْجِ المشاكَلةِ ؛ فيكونُ قولُه: بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ مُشاكَلة لـ عَاقَبْتُمْ؛ استَعمَل عُوقِبتُم في مَعْنى عُومِلْتُم به؛ لِوُقوعِه بعدَ فِعلِ عاقَبْتم .

- قولُه: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فيه تأكيدُ كَونِ الصَّبرِ خيرًا بلامِ القسَمِ؛ زيادةً في الحثِّ عليه .

- وقولُه: لِلصَّابِرينَ يجوزُ أن يَكونَ عامًّا، أي: الصَّبرُ خيرٌ لجِنْسِ الصَّابِرين، وأن يَكونَ مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ، أي: صَبْرُكم خيرٌ لكم، وعبَّر عنهم بـ (الصَّابِرين)؛ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ؛ لزِيادةِ التَّنْويهِ بصفةِ الصَّابِرين .

4- قَولُه تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ

- قولُه: وَاصْبِرْ خَصَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم بالأمرِ بالصَّبرِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ مَقامَه أعْلَى، فهو بالْتِزامِ الصَّبرِ أوْلى .

- وجملةُ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ معترِضةٌ بينَ المتعاطِفاتِ، أي: وما يَحصُلُ صَبرُك إلَّا بتوفيقِ اللهِ إيَّاك، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ صبرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عظيمٌ لَقِي مِن أذَى المشرِكينَ أشَدَّ ممَّا لَقِيَه عمومُ المسلِمين؛ فصَبرُه ليس كالمعتادِ؛ لذلك كان حُصولُه بإعانةٍ مِن اللهِ .

- قولُه: وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: وَلَا تَكُ بحذفِ النُّونِ، وفي سورةِ (النَّملِ) قال: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل: 70] بإثباتِها؛ فورَد ما في النَّحلِ بحَذفِ النُّونِ؛ تَشبيهًا لها بحُروفِ العِلَّةِ، وخصَّ بحَذفِها مُوافَقةً لقولِه قَبلُ: قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] وإثباتُها في النَّملِ جاء على القِياسِ .

- قولُه: وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ يجوزُ أن يُرادَ أنَّ في الكلامِ تَشبيهًا؛ فقد شَبَّه الضَّيْقَ بالشَّيءِ الَّذي يُحيطُ بالإنسانِ، وهو مِن رَوائعِ التَّعبيرِ، وجَوامِعِ الكَلِمِ. وقيل غير ذلك .

5- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ تعليلٌ لِمَا سبَق مِن الأمرِ والنَّهيِ ؛ فهو تعليلٌ للأمرِ بالاقتصارِ على قَدْرِ الجُرْمِ في العُقوبةِ، وللتَّرغيبِ في الصَّبرِ على الأذَى، والعَفْوِ عن المعتَدينَ، ولِتَخصيصِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالأمرِ بالصَّبرِ، والاستعانةِ على تَحصيلِه بمَعونةِ اللهِ تعالى، ولِصَرفِ الكدَرِ عن نفسِه مِن جَرَّاءِ أعمالِ الَّذينَ لم يُؤمِنوا به .

- وفي قولِه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ تكريرُ الموصولِ (الَّذِينَ- وَالَّذِينَ)؛ للإيذانِ بكِفايةِ كلٍّ مِن الصِّلَتَينِ في وَلايتِه سُبحانَه مِن غيرِ أن تَكونَ إحداهما تَتِمَّةً للأُخرى .

- وفيه إيرادُ الأُولى اتَّقَوْا فِعليَّةً؛ للدَّلالةِ على الحُدوثِ، كما أنَّ إيرادَ الثَّانيةِ هُمْ مُحْسِنُونَ اسميَّةً؛ لإفادةِ كَونِ مَضمونِها شِيمةً راسِخةً لهم ؛ فأتى في جانبِ التَّقْوى بصِلَةٍ فعليَّةٍ ماضيةٍ؛ للإشارةِ إلى لُزومِ حُصولِها، وتَقرُّرِها مِن قَبلُ؛ لأنَّها مِن لَوازِمِ الإيمانِ؛ لأنَّ التَّقوى آيلةٌ إلى أداءِ الواجبِ، وهو حقٌّ على المكلَّفِ؛ ولذلك أمَر فيها بالاقتصارِ على قَدْرِ الذَّنبِ، وأتى في جانبِ الإحسانِ بالجملةِ الاسميَّةِ؛ للإشارةِ إلى كَونِ الإحسانِ ثابتًا لهم دائمًا معَهم؛ لأنَّ الإحسانَ فَضيلةٌ، فبِصاحبِه حاجةٌ إلى رُسوخِه مِن نفسِه، وتَمكُّنِه .

- وقولُه: الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فيه تقديمُ التَّقْوى على الإحسانِ؛ لأنَّ التَّخْليَةَ متقدِّمةٌ على التَّحْليةِ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...