6 سورة الانعام ج3.{156}
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (100-103)
ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
غريب الكلمات :
وَخَرَقُوا: أي: افْتَعلوا ذلِك، واخْتَلَقوه كَذِبًا، أو: فَعَلوا مَرَّةً بعدَ أُخرى، أو: حَكَموا بذلك على سبيلِ الخَرقِ، وأصلُ (خرق): مَزْقُ الشَّيءِ، وقَطْعُه على سبيلِ الفَسادِ مِن غير تدبُّرٍ ولا تَفكُّرٍ
.
بَدِيعُ: أي: مُبدِعُ ومبتدِئُ، وأصلُه: ابتداءُ الشَّيءِ، وصُنعُه لا عن مِثالٍ سابقٍ .
اللَّطِيفُ: أي:
العالِمُ بدقائقِ الأمورِ، أو الرفيقُ بالعبادِ في هدايتهم، واللُّطْف: الرِّفْق
في العمل؛ يقال: هو لطيفٌ بعبادِه، أي رؤوفٌ رفيقٌ، وأصل (لطف): يدلُّ على رِفْقٍ،
وعلى صِغَرٍ في الشَّيء
مشكل الإعراب :
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ
وَجَعَلُوا: بمعنى صيَّروا، ومفعولها الأوَّل: الْجِنَّ، والثاني: شُرَكَاءَ وقُدِّمَ، ولِلَّهِ متعلِّق بـشُرَكَاءَ، ويجوز أنْ يكونَ المفعولُ الأوَّل شُرَكَاءَ، والْجِنَّ بدلًا منه، ولِلَّهِ متعلِّقًا بمحذوفٍ على أنَّه المفعولُ الثاني.
وَخَلَقَهُم: حالٌ
مِن فاعلِ جَعَلُوا، أي: وقد خَلَقَهُم. وقيل: هو مستأنفٌ
المعنى الإجمالي :
يخبِرُ تعالى أنَّ المُشركينَ جعلوا الجِنَّ شُركاءَ لله في العبادَةِ، وهو سبحانه الذي خلق الجِنَّ، فأَوْلَى بهؤلاء المشركينَ أنْ يعبدوا الخالِقَ، وأخبَرَ أنَّهم اختَلَقوا له سبحانه- كذِبًا- بنينَ وبناتٍ بغيرِ دليلٍ؛ جهلًا به وبِعَظَمَتِه؛ تنَزَّه وتعالى عمَّا يَصِفُه هؤلاء المُشركونَ.
هو خالِقُ السَّمواتِ والأَرْضِ ومُحْدِثُهما على غيرِ مثالٍ سابقٍ؛ فكيف يكونُ له ولدٌ سبحانه، وليس له زوجةٌ، وهو الذي خَلَقَ كُلَّ شيءٍ؛ فهو الغَنِيُّ عن كلِّ مخلوقاتِه، وهي كلُّها فقيرةٌ إليه، وهو سبحانه بكلِّ شيءٍ عالِمٌ، لا يخفى عليه شيءٌ.
ذلكم هو الله المستحِقُّ وَحْدَه للعبادَةِ، ربُّ كلِّ العباد، لا إلهَ إلَّا هو، خالِقُ كلِّ شيءٍ؛ فلْيَعبُدْه كلُّ البَشَرِ، ولْيُقِرُّوا بوحدانِيَّتِه، وهو على كل شيءٍ وكيلٌ.
لا تُحيطُ به سبحانه الأبصارُ، وهو قد أحاط عِلْمُه وسَمْعُه وبَصَرُه بكلِّ شيءٍ، وهو اللَّطيفُ الخبيرُ.
تفسير الآيات :
وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا نَبَّهَ الله تعالى على أنَّ الذي يُدْرِك هذه الآياتِ المؤمنونَ بها، بخلافِ الكافرينَ؛ عَقَّبَه بتوبيخِ من أَشْرَك به، والردِّ عليه
.
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ جلَّ وعلا غرائِبَ صُنْعِه وعجائِبَه، الدَّالَّةَ على أنَّه الربُّ وَحْدَه، المعبودُ وَحْدَه، كما في الآياتِ الماضية؛ كقوله: إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ...، وكقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، وكقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا، وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ... إلى آخِرِ الآيات، التي بيَّن اللهُ فيها كمالَ قُدرَتِه، وغرائِبَ صُنْعِه، وعجائِبَه الدَّالَّةَ على أنَّه الرَّبُّ وَحْدَه، المعبودُ وَحْدَه، فكأنَّه يقولُ في هذه الآيةِ: مع ما أبدَيْتُ لخَلْقِي من آياتي الدالَّةِ على عَظَمَتي وجلالي، وأنِّي الربُّ المعبودُ، مع هذا أشركوا بي الجِنَّ، وعبدوا مَعِيَ المعبوداتِ التي لا تنفَعُ ولا تضرُّ ، فقال تعالى:
وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ.
أي: وجعل هؤلاءِ المشركونَ الجِنَّ شركاءَ لله تعالى في العبادَةِ، والحالُ أنَّ الذي خَلَقَ الجنَّ هو اللهُ تعالى وحده؛ فكيفَ عَبدُوهم مَعَه ؟!
كما قال إبراهيمُ عليه السَّلام لقومه: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95-96] .
وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
أي: اختلقوا وتخرَّصوا كَذِبًا مِن تلقاءِ أَنفُسِهم، فافتَرَوْا لله تعالى بنينَ وبناتٍ بغيرِ دليلٍ، ولا برهانٍ؛ جهلًا بالله وبعظَمَته، فإنَّه لا ينبغي لِمَن كان إلهًا أن يكونَ له بنونَ وبناتٌ، ولا أنْ يشارِكَه شريكٌ في خَلْقِه .
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ.
أي: تنزَّه اللهُ جلَّ وعلا، وتقدَّس عن الذي يَصِفُه به هؤلاءِ الجهَلَةُ الضالُّون؛ من الأولادِ والأندادِ، والنُّظَراءِ والشُّرَكاء، وذلك لا يَنبغي أن يكونَ مِنْ صِفَتِه؛ فإنَّه تعالى الموصوفُ بكلِّ كمالٍ، المنزَّهُ عن كلِّ نقصٍ وعَيبٍ .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى فَسادَ قَوْلِ طوائِفِ أهْلِ الدُّنيا من المُشركينَ؛ شَرَعَ في إقامَةِ الدَّلائلِ على فَسادِ قَوْلِ من يُثْبِتُ له الوَلَدَ .
وأيضًا لَمَّا خَتَمَ اللهُ تعالى الآيةَ السابقةَ بالتَّنزيهِ عمَّا قاله المُشركونَ من الشَّريكِ والوَلَدِ؛ استدَلَّ على ذلك التنزيهِ بأنَّ الكُلَّ خَلْقُه، مُحيطٌ بهم عِلْمُه، ولن يكون المصنوعُ كالصَّانِعِ؛ فقال :
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى- الذي جَعَلَ المُشركونَ الجِنَّ شُرَكاءَ له، وخَرَقوا له بنينَ وبناتٍ بغَيْرِ عِلمٍ- هو خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ، ومُحْدِثُهما على غيرِ مثالٍ سَبَقَ .
أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ.
أي: كيفَ يكونُ له ولَدٌ، ولا زوجةَ له؟! فالولَدُ إنَّما يكون متولِّدًا عن شيئينِ متناسِبَينِ، واللهُ لا يناسِبُه ولا يشابِهُه مِن خَلْقِه شيءٌ؛ وهو سبحانه لا يحتاجُ إلى زوجةٍ، فهو الغنيُّ عن جميعِ مخلوقاتِه، وكلُّها فقيرةٌ إليه، وجميعُ الكائناتِ خَلْقُه وعَبيدُه، ولا يُمكِنُ أن يكون شيءٌ مِن خَلْقِه ولدًا أو زوجةً له بحالٍ .
كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم: 88- 93] .
وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: وهو سبحانه لا يَخفَى عليه شيءٌ مِمَّا خَلَق، ويعلَمُ أيضًا المعدومَ، فهو عالِمٌ بالموجوداتِ والمعدوماتِ، والجائزاتِ والمُسْتحيلاتِ، فمِنْ إحاطَةِ عِلْمِه عزَّ وجلَّ أنَّه يعلَمُ المعدومَ الذي سبق في عِلْمِه أنَّه لا يُوجَد، يعلَمُ أنْ لو كان كيف يكون؟ فمن أحاط عِلْمُه بكلِّ شيءٍ فكيف يكون جِنْسًا له- كالولَدِ- من لا يعلَمُ شيئًا إلا ما عَلَّمَه اللهُ؟ وهو عالِمٌ أيضًا بأعمالِ أولئك الذين يزعُمونَ أنَّ لله شريكًا أو ولدًا، وهو مُحْصيها عليهم فيجازِيهم بها .
كما قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] .
ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا أقامَ اللهُ تعالى الحجَّةَ على وجودِ الإلَهِ القادِرِ المُختارِ الحَكيمِ الرَّحيمِ، وبيَّنَ فسادَ قَوْلِ مَن ذَهَبَ إلى الإشراكِ بالله، وفصَّلَ مذاهِبَهم على أحسَنِ الوُجوهِ، وبيَّنَ فسادَ كُلِّ واحدٍ منها بالدَّلائلِ اللَّائقة به. ثم حَكَى مذهَبَ مَن أثْبَتَ لله البنينَ والبناتِ، وبَيَّنَ بالدَّلائلِ القاطعة فسادَ القولِ بها- فعند هذا ثَبَتَ أنَّ إلَهَ العالَمِ فَرْدٌ واحِدٌ صَمَدٌ؛ مُنَزَّهٌ عن الشَّريكِ والنَّظيرِ، والضِّدِّ والنِّدِّ، ومُنَزَّهٌ عن الأولادِ والبنينَ والبناتِ، فعند هذا صَرَّحَ بالنتيجةِ؛ فقال :
ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ.
أي: ذلك- الذي لا وَلَدَ له ولا صاحِبَةَ، وخَلَقَ كُلَّ شيءٍ وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ- هو المألوهُ المعبودُ الذي يستحِقُّ نهايةَ الذُّلِّ ونهايةَ الحُبِّ، الرَّبُّ الذي ربَّى جميعَ خَلْقِه بنِعَمِه، فلا ينبغي أن تكون عبادَتُكم وعبادَةُ جميعِ الخَلْقِ إلَّا خالصةً له وحْدَه؛ فحَقٌّ على المصنوعِ أن يُفْرِدَ جميعَ أنواعِ العبادَةِ لصانِعِه، ويَقْصِدَ بها وَجْهَه، فاعبدوه وحْدَه لا شريكَ له، وأَقِرُّوا له بالوحدانيَّة، فلا وَلَدَ له، ولا والِدَ، ولا صاحِبَةَ له، ولا نَظيرَ ولا شريكَ .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ.
أي: واللهُ على جميعِ ما خَلَقَ رَقيبٌ وحَفيظٌ؛ فيقومُ بأرزاقِهم وأقواتِهم، وسياسَتِهم وتدبيرِ شئونِهم؛ بكمالِ عِلْمِه، وقُدْرَته ورَحْمَتِه، وعَدْلِه وحِكْمَتِه عزَّ وجلَّ، وكلُّ شيءٍ بِيَدِه، وأمورُ كُلِّ شيءٍ تُفَوَّضُ إليه وحده، فيفعَلُ فيها ما يشاءُ سبحانه، فذلك- الذي هذه صفاتُه- هو الذي يَستَحِقُّ أن يُعبَد وَحْدَه لا شريكَ له .
لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103).
لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ.
أي: لا تُحيطُ به الأبصارُ، وإنْ كانتْ تراه في الجُملةِ، أمَّا هو سبحانه فقد أحاط عِلْمُه، وسَمْعُه، وبَصَرُه بكُلِّ شيءٍ؛ فيعلَمُ ويرى كلَّ شيءٍ على حقيقَتِه التي هو عليها .
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
وهو اللَّطيفُ الذي يُوصِلُ النَّفْعَ والبِرَّ والإحسانَ لخَلْقِه بالطُّرُق الخَفِيَّة، من حيثُ لا يشعرونَ، وهو الخبيرُ الذي دَقَّ عِلْمُه؛ فأدرَكَ به الخفايا والبواطِنَ
.
الفوائد التربوية :
العابدُ ينبغي أن يتفرَّغَ لعبادَةِ الله تعالى، ويقطَعَ أمورَه عن غيرِ وكالَتِه سبحانه؛ فإنَّه يكفيهِ بفَضْلِه عمَّن سواه؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُه تعالى: فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
.
الفوائد العلمية واللطائف :
1- قولُ الله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ يعني: وما كان ينبغي أن يكونَ له شريكٌ مطلقًا؛ لأنَّ الصِّفَة إذا ذُكِرَت مجرَّدةً غيرَ مُجراةٍ على شيءٍ؛ كان ما يتعلَّقُ بها من النفي عامًّا في كلِّ ما يجوز أن يكونَ له الصِّفَةُ، وحُكْمُ الإنكارِ حُكْمُ النَّفْيِ
.
2- قول الله تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ هذه الآيةُ يُفهَم منها أنَّ المِلْكَ والوَلَدِيَّةَ لا يُمكِنُ أن يجتمعا؛ لأنهم لَمَّا ذكروا له الولَدَ كان مِنْ رَدِّهِ عليهم: أنَّه مُختَرِعُ الأرضِ والسَّماءِ؛ أي: ومَنْ فيهما، وصانِعُ الشَّيءِ هو مالِكُه، والوَلَدُ لا يكون مملوكًا أبدًا، وجرت العادةُ في القرآنِ بأنَّ اللهَ يَرُدُّ على الكَفَرة في ادِّعاءِ الوَلَدِ؛ بأنَّه مالِكُ كلِّ شيءٍ، وأنَّ الخَلْقَ عبيدُه، كما قال: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لأنَّ العبد لا يُمكِنُ أن يكونَ ولدًا. ومن هذه الآياتِ القرآنيةِ أخَذَ العُلماءُ أنَّ الإنسانَ إذا مَلَكَ وَلَدَه- بأن تزوَّجَ أمَةً لغَيرِه، وكان ولدُه رقيقًا واشتراه- أنَّه يُعتَق عليه بنفْسِ المِلْك، ولا يُمكنُ أن يَمْلِكه؛ لأنَّ المِلْكيَّة والوَلَدِيَّة متنافيانِ؛ ولذا قال هنا: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ .
3- فائدةُ ذِكْرِ قَوْلِه: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعبدُوهُ فيها بعدَ قولِه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ جعلُه توطئةً لقولِه تعالى: فَاعْبُدُوهُ وأمَّا قولُه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فإنما ذُكِرَ استدلالًا على نَفْيِ الوَلَدِ، فقد قال تعالى: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
4- قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ في ذِكْرِ العِلْم بعد الخَلْقِ إشارةٌ إلى الدَّليلِ العقليِّ إلى ثبوتِ عِلْمِه، وهو هذه المخلوقاتُ، وما اشتمَلَتْ عليه من النِّظامِ التامِّ، والخَلْقِ الباهِرِ؛ فإنَّ في ذلك دلالةً على سَعَةِ عِلْمِ الخالِقِ، وكمالِ حِكْمَتِه؛ كما قال تعالى: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وكما قال تعالى: وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ذلِكُم الذي خَلَقَ ما خَلَقَ، وقَدَّر ما قَدَّرَ .
5- قوله تعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ قد يستشْكِلُ مُستَشْكِلٌ، فيقولُ: إنَّ الإلهَ هو الذي يَستحِقُّ أن يكون معبودًا، فقوله: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ معناه: لا يَستحِقُّ العبادةَ إلَّا هو، فلِمَ قال بعدَ ذلك فَاعْبُدُوهُ؛ فإنَّ هذا يُوهِمُ التَّكريرَ؟
والجوابُ: أنَّ قولَه: فَاعْبُدُوهُ مُسبَّبٌ عن مَضْمونِ جُملةِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، على معنى: أنَّ مَنْ استجمَعَتْ له هذه الصِّفاتُ كان هو الحَقيقَ بالعبادَةِ؛ فاعبدُوه ولا تَعبُدوا مِن دونِه بَعْض خَلْقِه .
6- استُدِلَّ بقوله: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على أنَّه تعالى هو الخالِقُ لأعمالِ العبادِ؛ فأعمالُ العبادِ أشياءُ، واللهُ تعالى خالِقُ كلِّ شيءٍ بحكم هذه الآيَةِ؛ فوجب كونُه تعالى خالقًا لها .
7- قولُ اللهِ تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ يدلُّ على جوازِ الرؤيةِ؛ لأنَّ نَفْيَ الإدراكِ الذي هو الإحاطةُ يدلُّ على أنَّه إذا رُئِيَ لا تُدْرِكُه الأبصارُ، وهو يَقتضي إمكانَ رُؤيتِه، فنفيُ إدراكِ الأبصارِ إيَّاه ليس نفيًا لرؤيَتِه؛ فهو دليلٌ على إثباتِ الرؤيَةِ، ونفيِ إحاطَةِ الأبصارِ به، فالآيةُ تدلُّ على جوازِ الرؤيَةِ أدلَّ منها على امتناعِها؛ لأنَّ اللهَ سبحانه إنَّما ذَكَرَها في سياقِ التمدُّحِ، ومعلومٌ أنَّ المدحَ إنَّما يكونُ بالأوصافِ الثبوتيَّة، وأمَّا العَدَمُ المحضُ فليس بكمالٍ، ولا يُمدَحُ به
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ
- قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ على القَولِ بأنَّ شُرَكَاءَ الْجِنَّ هما مفعولَا (جَعَلَ) في قوله تعالى: وَجَعَلُوا؛ فالمفعولُ الأوَّل الْجِنَّ؛ لأنَّ الجِنَّ هم المقصودُ من السِّياقِ لا مُطلَقُ الشُّرَكاء؛ لأنَّ جَعْلَ الشُّرَكاءِ للهِ قد تَقرَّر مِن قبلُ، والمفعول الثاني وهو شُرَكَاءَ، وقُدِّمَ هذا المفعولُ الثاني، وفائدةُ هذا التقديمِ: استعظامُ أنْ يُتَّخَذَ مَن كان مَلَكًا أو جنيًّا أو إنسيًّا أو غيرَ ذلك، شريكًا للهِ تعالى؛ ولذلك قُدِّمَ اسمُ (الله) على الشُّركاء، وأيضًا قُدِّمَ المفعولُ الثاني؛ لأنَّه محَلُّ تعجُّبٍ وإنكارٍ، فصار لذلك أهمَّ، وذكْرُه أسبَقَ، والعَرَبُ يُقَدِّمونَ الأهَمَّ الذي هم بشأنِه أَعْنَى
.
وعلى القَوْلِ بأنَّ شُرَكَاءَ المفعولُ الأوَّل، ولِلَّهِ المفعولُ الثَّاني، والجنَّ فُسِّرَ به هؤلاءِ الشُّركاءُ على طَريقِ البَدلِ النَّحويِّ- حيثُ لم يَقُلْ: (وجعلوا الجنَّ شركاءَ لله)- فيكونُ قَدَّم وأخَّر في النَّظمِ؛ لإفادةِ أنَّ محلَّ الغَرابةِ والنَّكارةِ أنْ يكونَ للهِ شُركاءُ، لا مُطلقُ وجودِ الشُّركاءِ، ثم كونُ الشركاءِ من الجنِّ؛ فقدَّمَ الأهمَّ فالمهمَّ؛ ولو قال: (وجعلوا الجنَّ شركاء لله) لأفادَ أنَّ موضعَ الإنكارِ أنْ يكون الجنُّ شركاءَ للهِ؛ لكونِهم جِنًّا، وليس الأمرُ كذلك، بل المنكَرُ أنْ يكونَ للهِ شريكٌ مِن أيِّ جِنسٍ كانَ .
- وتقديمُ المجرورِ على المفعولِ في قوله: لِلَّهِ شُرَكَاءَ؛ للاهتمامِ والتعجُّبِ مِن خَطَلِ عُقولِهم؛ إذ يجعلونَ لله شُرَكاءَ مِن مخلوقاته؛ لأنَّ المُشركينَ يعترفونَ بأنَّ اللهَ هو خالِقُ الجِنِّ، فهذا التقديمُ جرى على خِلافِ مقتضى الظَّاهِرِ؛ لأجْل ما اقتضى خلافَه .
- قولُه تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ خَرَقوا، أي: اختلَقَوا، وفي لفْظِها جَرْسٌ خاصٌّ وظِلٌّ خاصٌّ يرسُمُ مَشهَدَ الطُّلوعِ بالفِرْيَةِ التي تَخْرِق وتَشُقُّ، وهذا التعبيرُ من أدَقِّ بلاغَةِ التنزيلِ، وهو من بيانِ معنى الشَّيءِ بما يدلُّ على تزييفِه .
- وتنكيرُ العِلم هنا في حيِّزِ النِّفيِ (بغير) في قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ للدَّلالةِ على انسلاخِ هؤلاءِ المشركينَ في خَرْقِهم هذا عن كلِّ ما يُسمَّى عِلْمًا، فلا هُمْ على علمٍ بمعنى ما يقولون، ولا على دليلٍ يُثْبِتُه، ولا على علمٍ بمكانِه منَ الفسادِ والبُعدِ من العَقْلِ، ولا بمكانِه من الشَّناعَةِ والإزراءِ بمقامِ الألوهيَّة والربوبيَّةِ .
- قوله: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لتنزيهِه عَزَّ وجَلَّ عما نَسَبوه إليه .
- وقوله: تَعَالَى جاءَ على صِيغة التفاعُل؛ للمبالغةِ في الاتِّصافِ بالعلوِّ .
2- قوله: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- قوله: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ جملةٌ مستأنفةٌ؛ إذ إنَّ هذا شروعٌ في الإخبارِ بِعَظيمِ قدرَةِ الله تعالى، وهي تُفيدُ مع ذلك تقويةَ التنزيهِ في قوله: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، فتتنزَّلُ منزلَةَ التَّعليلِ لِمَضمونِ ذلك التَّنزيه بمضمونِها أيضًا .
- وعلى القَوْلِ بأنَّ بَدِيعُ فاعلٌ للفعل وتَعَالَى؛ فيكونُ من الإظهارِ في موضعِ الإضمارِ؛ لتعليلِ الحُكمِ، وتوسيطُ الظرفِ عَمَّا يَصِفُونَ بينه وبين الفِعل للاهتمامِ ببيانِه .
- قوله: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
- جملة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييلٌ لإتمامِ تعليمِ المُخاطَبينَ بعضَ صفاتِ الكمالِ الثابتَةِ لله تعالى؛ فهي جملةٌ معطوفةٌ على جملةِ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ باعتبارِ ما فيها من التَّوصيفِ، لا باعتبارِ الرَّدِّ .
- وفي التَّعبيرِ بالجُملةِ الاسميَّةِ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ؛ دلالةٌ على أنَّه سبحانَه متَّصِفٌ بالعِلْمِ أزَلًا وأبدًا؛ فلا يَخفَى عليه سبحانه خافيةٌ مِمَّا كان وما سيكونُ؛ من الذَّواتِ والصِّفاتِ والأحوالِ .
- وقوله: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيه إظهارٌ في موضِعِ الإضمارِ؛ حيث لم يَقُلْ: (به عليمٌ)؛ لبيانِ أنَّه يَعْلَمُ كلَّ شيءٍ كائنًا ما كان؛ مخلوقًا أو غيرَ مخلوقٍ، وهو أيضًا بمنزلَةِ التَّذييلِ؛ لأنَّ التَّذييلاتِ يُقْصَدُ فيها أن تكونَ مُستقِلَّةَ الدَّلالةِ بِنَفْسِها؛ لأنَّها تُشْبِهُ الأمثالَ في كونِها كلامًا جامعًا لمعانٍ كثيرةٍ .
3- قوله: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ذَلِكُم إشارةٌ إلى المنعوتِ بما ذُكِرَ من جلائِلِ النُّعوتِ، وما فيه من معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ بِعُلُوِّ شأنِ المُشَارِ إليهِ، وبُعْدِ منزلَتِه في العَظَمة. والخطابُ للمشركينَ المعهودينَ بطريقِ الالتفاتِ ، وأيضًا فإنَّ وقوعَ اسمِ الإشارَةِ ذَلِكُمْ بعدَ إجراءِ الصِّفاتِ، والأخبارِ المتقدِّمةِ؛ للتنبيه على أنَّ المُشارَ إليه حقيقٌ بالأخبارِ والأوصافِ التي تَرِدُ بعد اسْمِ الإشارةِ، والمشارُ إليه هو الموصوفُ بالصِّفاتِ المضَمَّنةِ بالأخبارِ المتقدِّمَة؛ ولذلك استُغنِيَ عن إتباعِ اسمِ الإشارَةِ ببيانٍ أو بدلٍ، والمعنى: ذلكم المُبدِعُ للسَّمواتِ والأرضِ، والخالِقُ كلَّ شيءٍ، والعليمُ بكلِّ شيءٍ؛ هو اللهُ، أي: هو الذي تَعْلَمونَه .
- قول الله تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ عبَّر هنا بقولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وفي سورة غافر قال: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غافر: 62] ، فقدَّمَ في سورة الأنعام قولَه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ على قولِه: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وقدَّم في سُورةِ غافر قوله: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر: 62] ، على قولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [غافر: 62] ؛ وذلك لأنَّ ما في سُورةِ الأنعامِ جاءَ بعدَ قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 100] ، وقولِه تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ [الأنعام: 101] ؛ فكان مِن الملائِمِ نفْيُ ما جَعَلوه وادَّعَوه مِن الشُّرُكاءِ والصَّاحبةِ والوَلَدِ، فأتَى بعدَه بما يَدفَعُ قولَهم، فقال: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثم قال: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ فالملائمُ هنا هو نَفْيُ ما جَعَلوه وادَّعَوه مِن الشُّركاءِ والصَّاحبةِ والوَلَدِ؛ فقدَّم ما الأمرُ عليه مِن وَحدانيتِه سُبحانَه، وتَعالِيه عن الشُّركاءِ والولدِ، وعرَّف العبادَ بعدُ بأنَّ كلَّ ما سواه سبحانه خَلْقُه ومُلْكُه، فقدَّمَ الأهمَّ في الموضِعِ. وأمَّا في سُورةِ غافر فجاءَ هذا بعدَ قولِه تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] ؛ فكان الكلامُ على تَثبيتِ خَلْقِ الإنسانِ، لا على نفْي الشَّريكِ عنه، كما كان في الآيةِ الأولى؛ فكان تقديمُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هاهُنا أَوْلى؛ فلم يَتقدَّم هنا ما تَقدَّم في آية الأنعامِ؛ فكان تقديمُ هذا التعريفِ هنا أَنسبَ وأهمَّ، ثم أَعْقَبَ بالتعريفِ بوحدانيتِه تعالى؛ فجاءَ كلٌّ على ما يَجِبُ ويُناسِبُ، ولم تكن واحدةٌ مِن الآيتَينِ لِتُناسِبَ ما تَقدَّم الأُخرى .
4- قوله: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيه تعريضٌ بانتفاءِ الإلهيَّةِ عن الأصنامِ؛ فكَوْنُها مُدرَكَةٌ بالأبصارِ من سِماتِ المُحْدثاتِ، لا يليقُ بالإلهيَّة .
- وتخصيصُ الأَبصارِ في قوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ بالذِّكْرِ، مع أنَّه يُدرِكُ كلَّ شيءٍ؛ ليجانسَ ما قبلَه، ويَزيدَ في الكَلامِ ضَربًا من المحاسِنِ يُسمَّى (فَنَّ التعطُّفِ) .
- ولَمَّا كان قولُه تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ذُكِر للتخويفِ، ناسب حينئذٍ أن يشفعَ ببيانِ رأفتِه ورحمتِه، جريًا على سننِ الترغيبِ والترهيبِ، فقال: وَهُوَ اللَّطِيفُ . وعَطَفَ عليه قولَه: الْخَبِيرُ مُخصِّصًا لِذاتِه سُبحانه بصِفَةِ الكَمالِ؛ لأنَّه ليس كلُّ مَن أدرَكَ شيئًا كان خَبيرًا بذلك الشَّيءِ؛ لأنَّ المُدرِكَ للشَّيءِ قد يُدْرِكُه لِيَخْبُرَه، ولَمَّا كان الأمرُ كذلك أخبَرَ سبحانه وتعالى أنَّه يُدرِكُ كلَّ شَيءٍ مع الخِبْرَةِ به .
- وقوله: وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير تذييلٌ للاحْتراسِ دفعًا لتوهُّمِ أنَّ من لا تُدرِكُه الأبصار لا يعلم أحوالَ من لا يُدركونَه
============
.
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (104-107)
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
غريب الكلمات :
بَصَائِرُ: حُججٌ بيِّنةٌ ظاهرةٌ؛ تُبصرونَ بها الهُدى من الضَّلالِ، والإيمانَ من الكُفْرِ، ومفردها: بصيرةٍ، والبَصَرُ يقال للجارِحَة النَّاظِرَة، ويُقال لقوَّةِ القَلْبِ المُدرِكَة، وأصل (بصر): العِلْمُ بالشَّيء
.
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمُ بِحَفِيظٍ: أي: وما أنا عليكم بحافظٍ ولا برقيبٍ؛ أُحصِي عليكم أعمالَكم وأفعالَكم، وأصل (حفظ): يدلُّ على مراعاةِ الشَّيءِ، وتعاهُدِه، وتفقُّدِه .
دَرَسْتَ: أي: قرأْتَ، ويُقال: درسْتَ العِلمَ: أي: تناولْتَ أثَرَه بالحفْظِ، ولمَّا كان تناولُ ذلك بمداومةِ القراءةِ؛ عُبِّر عن إدامةِ القراءةِ بالدَّرسِ
.
المعنى الإجمالي :
قد جاءَكُم- أيُّها النَّاسُ- أدلَّةٌ بيِّنةٌ، وحُججٌ قاطعةٌ في هذا القرآنِ العظيمِ؛ بيَّنَ اللهُ تعالى فيها توحيدَه، وكمالَ قُدرَتِه، فمَن تبيَّنَها وآمَنَ بما دلَّت عليه، فنَفْعُ ذلك لنفْسِه، ومَن لم يؤمِنْ بها، وعَمِيَ عمَّا دلَّت عليه، فإنَّما يعود وَبالُ ذلك على نفسِه، وما الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم عليكم بحافظٍ، ولا رقيبٍ يُحصي أعمالَكم.
ثم يخبِرُ تعالى أنَّه كما فصَّلَ الآياتِ والحُجَجَ في هذه السورة، ووضَّحَها بطُرُقٍ متنوِّعةٍ؛ لبيان التوحيد، كذلك يوضِّحُ للنَّاسِ الآياتِ، ويُبَيِّنها بطرقٍ متعدِّدةٍ في جميع القرآن، ولِيَقولَ عند ذلك من أعمى قَلْبَه عن الحَقِّ: تَعَلَّمْتَ يا محمدُ هذا الذي تأتي به مِن أهْلِ الكتابِ، وأيضًا لأجْلِ أنْ يبيِّنَه الله لقومٍ يعلمون الحقَّ إذا تبيَّن لهم فيتَّبِعوه ويَقْبلوه.
ثم يأمُرُ اللهُ نَبِيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يَتَّبِعَ القرآنَ المُنَزَّلَ إليه من ربِّه تعالى، هو سبحانه لا معبودَ بحقٍّ غيرُه، وأَمَرَه أن يُعْرِضَ عن المُشركينَ.
ويُخبِر تعالى أنَّه لو أراد هدايةَ المشركينَ لَفَعلَ ذلك، ولكنْ له حِكْمةٌ في خِذْلانِهم وإِضْلالِهم، ويخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه لم يَجعَلْه عليهم حافظًا يحفَظُ أعمالَهم ويُحْصِيها، ولا رقيبًا عليهم، وأنَّه ليس عليهم بقَيِّمٍ يُدَبِّرُ مصالِحَهم، ولا مُوكلًا بأعمالِهم فيحاسِبَهم عليها.
تفسير الآيات :
قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أكثَرَ من إقامَةِ الأدلَّةِ على وحدانيَّتِه؛ ناسَبَ أن يَعِظَهُم، ويمدَحَ الأدِلَّةَ حثًّا على تدبُّرِها
.
قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا.
أي: قد جاءتْكم حججٌ قاطعاتٌ، وأدلَّةٌ واضحاتٌ في هذا القرآنِ العظيمِ، تُبصرونَ بها الهدَى من الضَّلالِ، والحَقَّ من الباطِلِ ؛ بَيَّنَ اللهُ لكم بها توحيدَه، وكمالَ قُدْرَتِه؛ فمَن عَرَفَها وآمَنَ بها، وعَمِلَ بمقتضاها، ففائِدَةُ ذلك تعودُ إليه في الدُّنيا والآخِرَة، ومن لم يؤمِنْ بها، وعمِيَ قلبُه عن دَلالَتِها، فإنَّما يعودُ وَبالُ ذلك على نَفْسِه فحَسْبُ، وإليها أساءَ لا إلى غيرها .
قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ.
أي: وما أنا عليكم بحافظٍ، ولا رقيبٍ أُحْصِي عليكم أعمالَكم وأفعالَكم، كلَّا! فليس هذا من شأني، وإنَّما أنا رسولٌ من اللهِ، وظيفتي تقتصِرُ على إبلاغِكم ما أُرْسِلْتُ به إليكم .
كما قال سبحانه: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [الرعد: 40] .
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا تَمَّمَ اللهُ تعالى الكلامَ في الإلهيَّاتِ في آياتٍ سابقةٍ؛ شَرَعَ في إثباتِ النبوَّاتِ، فبدَأَ تعالى بحكايةِ شُبُهاتِ المُنْكرينَ لنبوَّةِ مُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وآلِه وسَلَّم؛ فقال :
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ.
أي: وكما فصَّلنا الآياتِ والحُجَجَ في هذه السورةِ، ووضَّحْناها بطرقٍ متنوِّعةٍ؛ لبيانِ التَّوحيدِ، وأنَّه لا إلهَ إلا هو، فهكذا أيضًا نوضِّحُ لكم آياتِنا، ونُبَيِّنُها بطُرقٍ متعدِّدةٍ في جميعِ القرآنِ .
وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ.
القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ثلاثُ قراءاتٍ:
1- قراءةُ دَارَسْتَ أي: ذاكَرَتْ، فالمعنى: قارَأْتَ أهلَ الكتابِ، وتعلمْتَ مِنهم .
2- قراءة دَرَسَتْ أي: مَضَتْ وامَّحَتْ وتقادَمَت، فالمعنى: هذا الذي تتلوه علينا قد تطاوَلَ ومَرَّ بِنَا، ومُحِيَ أثرُه من قُلُوبِنا .
3- قراءةُ دَرَسْتَ أي: قرأْتَ أنت وتعلَّمْتَ- يا محمَّدُ- كُتُبَ أهلِ الكتابِ .
وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ.
أي: ونصرِّفُ الآياتِ؛ ليقولَ مَن خَذَلَه اللهُ تعالى وأشقاه، فلم يُوفَّقْ للعَمَلِ بالقرآنِ: دَرستَ- يا محمَّدُ- هذا الذي تَأتِينا به ممَّنْ قَبْلَك من أهلِ الكتابِ، فقرَأْتَ وتَعلَّمْتَ منهم، وليس بشَيءٍ جديدٍ أُنْزِلَ عليك من السَّماءِ كما تزعُم .
كما قال عزَّ وجلَّ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 4-5] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103] .
وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
أي: وأيضًا لأجْلِ أنْ نُبيِّنَه لقومٍ وفَّقْناهم، فلهُم عقولٌ، وعِلْمٌ يظهَرُ لهم به ما في هذا القُرآنِ العَظيمِ مِن آياتٍ مُتنوِّعةٍ، وأدلةٍ قاطعَةٍ موضِّحةٍ للحَقِّ بلا لَبْسٍ، فيَقبلونَ الحَقَّ ويتَّبعونَه بعد تبيُّنِه لهم .
كما قال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء: 82] .
وقال سبحانه: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت: 44] .
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ لرَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ النَّاسَ فريقانِ؛ فريقٌ قد فَسَدَتْ فِطْرَتُهم، ولم يبْقَ فيه استعدادٌ للاهتداء، وفريقٌ يعْلَمون، وبالبيانِ يَهْتدونَ- أَمَرَه أن يتَّبِعَ ما أُوحِيَ إليه من رَبِّه؛ بالبيانِ له، والعَمَلِ به .
وأيضًا لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن المُشركينَ أنَّهم يَنسُبونَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم- في إظهارِ هذا القرآنِ العَظيمِ- إلى الافتِراء، وإلى مُدارَسَةِ مَن يستفيدُ هذه العلومَ منهم، ثم يَنْظِمُها قرآنًا- أتْبَعَه بقوله: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لئلَّا يصيرَ ذلك القولُ سببًا لفُتُورِه عن تبليغِ الدَّعوةِ والرِّسالةِ، والمقصودُ: تقويةُ قَلْبِه، وإزالةُ الحُزنِ الذي حَصَلَ بسَمَاعِ تلك الشُّبهَةِ .
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ جَلَّ وعلا أنَّه أَنزَلَ علينا على لسانِ نَبيِّنا بصائِرَ؛ حيث قال: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ والمعنى: جاءَتْكم مِن قِبَلِنَا على لسانِ نَبِيِّنا بصائِرُ؛ أي: حُجَجٌ قاطعاتٌ، وأدلَّةٌ واضحات، لا تترُكُ في الحقِّ لَبْسًا، فهذه البصائِرُ التي جاءتكم يَلْزَمُكم اتِّباعُها، وعدمُ المَيْل والحَيْدة عنها؛ ولذا أَتْبَعَ قَوْلَه: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ بقولِه :
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ.
أي: اتَّبِعْ- يا محمدُ- هذا القرآنَ العظيمَ، فاقْتَدِ به، واقتَفِ أثَرَه، وتأدَّبْ بآدابِه، وتَخَلَّقْ بما فيه من أخلاقٍ، وأحِلَّ حلالَه، وحَرِّمْ حَرامَه، واعتَقِدْ عقائِدَه، وانزَجِرْ بِوَعيدِه، وانبَسِط لِوَعْدِه، واعْمَلْ به، ودعْ ما يدعوك إليه مُشْركو قومِك؛ فإنَّ ما أُوحِيَ إليك من ربِّكَ هو الحَقُّ الذي لا مِرْيَةَ فيه؛ لأنَّه لا معبودَ بحقٍّ سواه .
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
أي: ودَعْ عنك يا محمَّدُ مجادَلةَ هؤلاءِ المُشْركينَ وخُصومتَهم، واعفُ عنهم واصْفَحْ، واحتَمِلْ أذاهم؛ حتى يَنْصُرَك اللهُ تعالى عليهم .
وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107).
وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ.
أي: ولو أرادَ الله تعالى هدايَتَهم واستِنقاذَهم من الضَّلالةِ لَوَفَّقَهم؛ فلم يُشْرِكوا به شيئًا، ولآمَنُوا بك فاتَّبَعوا ما جِئْتَهم به من الحَقِّ، لكنَّ لله تعالى حكمةً في خِذْلانهم وإضلالِهم؛ فإنَّه لو شاء لهدى النَّاسَ كلَّهم جميعًا .
وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.
أي: لم نبعَثْك عليهم حافظًا؛ تحفَظُ أعمالَهم وأقوالَهم، وتُحْصِيها عليهم .
وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ.
أي: ولَسْتَ عليهم بقَيِّمٍ على أرزاقِهم وأقواتِهم وأمورِهم، ولسْتَ مُوكلًا بأعمالِهم؛ فتحاسِبَهم بها، وتجازِيَهم عليها
.
الفوائد التربوية :
1- ترْكُ التقليدِ، والاعتبارُ بالبصائِرِ والدَّلائلِ، والترقِّي في أَوْجِ المعرفَةِ إلى سَمواتِ الاجتهادِ والعملِ بالأدلَّةِ؛ نستفيدُ ذلك من قولِ الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا، فمن أبصَرَ وعَمِلَ بالأدلَّةَ خَلَّصَ نفسَه من الضَّلالِ المؤَدِّي إلى الهلاكِ، ومَن عَمِيَ ولم يهتَدِ بالأدلَّةِ؛ فعلى نَفْسِه عماهُ؛ فيَضِلُّ ويَعْطَب
.
2- على الدَّاعِيةِ تنويعُ الأسلوبِ، والتفنُّنُ في البيانِ؛ لإثباتِ أُصُولِ الدِّينِ، والهدايةِ لمحاسِنِ الآدابِ والأعمالِ؛ مراعاةً للعقولِ والأفهامِ، ولاختلافِ استعدادِ الأفرادِ والأقوامِ؛ يُرشِدُ إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ أي: وكذلك نُصَرِّفُ الآياتِ على أنواعٍ شَتَّى ليهتديَ بها المستَعِدُّونَ للإيمانِ على اختلافِ العقولِ والأفهامِ .
3- صاحِبُ الدَّعوةِ لا يجوزُ أن يُعَلِّقَ قَلْبَه وأمَلَه وعَمَلَه بالمُعْرِضينَ عن الدَّعوةِ، المعاندينَ، الذين لا تتفَتَّحُ قلوبُهم لدلائِلِ الهُدى ومُوحِيات الإيمانِ، إنَّما يَجِبُ أن يُفَرِّغَ قلبَه، وأن يُوَجِّهَ أمَلَه وعَمَلَه للذين سَمِعُوا واستجابوا؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فالحَقُّ يعلو متى ظَهَرَ بالقَولِ والعَمَلِ مع الإخلاصِ، لا يضرُّه الباطِلُ بخرافاتِ الأعمالِ، ولا بزخارفِ الأقوالِ .
4- نبَّه بقوله: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ على أنَّه تعالى لَمَّا كان واحدًا في الإلهيَّةِ؛ فإنَّه يجِبُ طاعَتُه، ولا يجوزُ الإعراضُ عن تكاليفِه بسَبَبِ جَهْلِ الجاهلينَ، وزَيْغِ الزَّائغينَ ، وأَكَّدَ به إيجابَ الاتِّباعِ لِمَا في كلمةِ التوحيدِ من التمسُّكِ بحبلِ اللهِ، والاعتصامِ به، والإعراضِ عمَّا سواه .
5- تحلِّي الدَّاعِيَةِ بالتواضُعِ، وإسلامُ الجبروتِ والقَهرِ لله تعالى؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي: وما جعلناك عليهم حفيظًا تحفَظُ عليهم أعمالَهم لتحاسِبَهم وتجازِيَهم عليها، ولا وكيلًا تتولَّى أمورَهم وتتصَرَّف فيها، وما أنت عليهم بوكيلٍ ولا حفيظٍ بمُلْكٍ ولا سِيادةٍ
.
الفوائد العلمية واللطائف :
1- قولُ الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ لَمَّا كانت الآياتُ- لِقُوَّتِها وجَلالَتِها- توجِبُ المعرفةَ، فتكونُ سببًا لانكشافِ الحقائِقِ؛ الذي هو كالنُّورِ في جلاءِ المحسوساتِ، قال: بَصَائِرُ أي: أنوارٌ هي لقلوبكم بمنزلَةِ الضِّياءِ المحسوسِ لعيونِكم
.
2- قولُ الله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا يُبْطِلُ قولَ الجبريَّة في أنَّه تعالى يُكَلِّفُ بلا قدرةٍ .
3- قولُ الله تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فيه قَرَنَ أمرَه باتِّباعِ ما أُوحِيَ إليه من رَبِّه بكلمةِ توحيدِ الألوهيَّة؛ لبيانِ وجوبِ ملازَمَتِه لتوحيدِ الربوبيَّة، فكما أنَّ الخالِقَ المُرَبِّي بما أنْزَلَ من الرِّزْق، وللأرواحِ بما أَنْزَلَ من الوَحْيِ؛ واحِدٌ لا شريكَ له في الخَلْقِ، ولا في الهدايةِ، فالواجِبُ أن يكون الإلهُ المعبودُ واحدًا لا شريكَ له .
4- وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا عَطْفٌ على جملة وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وهذا تلطُّفٌ مع الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَطمينٌ لقلْبِه، وتذكيرٌ له بحقائقِ الأحوالِ، وإزالةٌ لِمَا يَلْقَاه من الكَدَر من استمرارِهم على الشِّرْكِ، وقلَّةِ إغناء آياتِ القرآنِ ونُذُره في قلوبهم؛ فذَكَّرَه اللهُ بأنَّه تعالى قادرٌ على أن يُحَوِّلَ قُلوبَهم، فتَقْبَل الإسلامَ بتكوينٍ آخَرَ، ولكنَّ اللهَ أرادَ أنْ يَحْصُلَ الإيمانُ مِمَّن يؤمِنُ بالأسبابِ المعتادَةِ في الإرشادِ والاهتداءِ؛ لِيَميزَ اللهُ الخبيثَ من الطَّيِّبِ، وتظهَرَ مراتِبُ النُّفوسِ في ميادينِ التلقِّي، فأرادَ اللهُ أنْ تختلِفَ النُّفوسُ في الخيرِ والشَّرِّ اختلافًا ناشئًا عن اختلافِ كيفيَّاتِ الخِلْقةِ والخُلُق والنَّشْأةِ والقَبول، وعن مراتبِ اتِّصالِ العِباد بخالِقِهم ورجائِهم منه .
5- قولُه تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا... هذه الآيةُ تَرُدُّ على القَدَريَّة الزَّاعمين أنَّ الكُفْرَ والمعاصِيَ بمشيئةِ العبدِ لا بمشيئةِ اللهِ، فمذهَبُهم باطِلٌ؛ فَرُّوا من شيءٍ فَوَقَعوا فيما هو أشْنَعُ وأكبَرُ منه؛ فهم يُريدونَ التقرُّبَ لله، بأن يَزْعُموا أنَّ الخَسائِسَ؛ كالسَّرِقَة والزِّنا والشِّرْك؛ أنَّها بمشيئةِ العبادِ لا بمشيئةِ الله، زاعمينَ أنَّ اللهَ أَنْزَهُ وأعظَمُ وأجَلُّ من أن تكونَ هذه الرَّذائِلُ بمشيئتِه .
6- قوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا... ليس في مِثل هذا عذرٌ للمشركين ولا لأمثالِهم من العُصاة؛ ولذلك ردَّ اللهُ عليهم الاعتذارَ بمِثل هذا في قوله: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148] ، وفي قوله: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: 20] ؛ لأنَّ هذه حقيقةٌ كاشفةٌ عن الواقِع لا تصلُح عذرًا لِمَن طَلبَ منهم ألَّا يكونوا في عِدادِ الذين لم يشأِ اللهُ أنْ يُرشِدَهم؛ قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة: 41] .
7- قوله: وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا تذكيرٌ وتسليةٌ؛ ليُزيحَ عنه كرْبَ إعراضِهم عن الإسلامِ؛ لأنَّ ما يَحصُلُ له مِن الكَدَرِ لإعراضِ قومِه عن الإسلامِ يَجعَلُ في نفْسِه انكسارًا، كأنَّه انكسارُ مَن عُهِدَ إليه بعملٍ فلم يتسنَّ له ما يُريدُه مِن حُسن القِيام، فذَكَّره اللهُ تعالى بأنَّه قد أدَّى الأمانةَ، وبلَّغَ الرِّسالة، وأنَّه لم يَبعثْه مُكرِهًا لهم ليأتيَ بهم مُسلِمين، وإنَّما بعَثَه مُبلِّغًا لرسالتِه؛ فمَن آمَن فلنَفْسِه، ومَن كفَر فعليها
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِي فَعَلَيْهَا في التعرُّضِ لعنوانِ الربوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ في قوله: مِنْ رَبِّكُمْ؛ إظهارٌ لكمالِ اللُّطْفِ بهم، أي: قد جاءَكُم من جهةِ مالِكِكم ومُبَلِّغِكم إلى كَمالِكم اللَّائِقِ بكم من الوَحْيِ النَّاطِقِ بالحَقِّ والصوابِ؛ ما هو كالبصائِرِ للقُلوبِ، أو قد جاءَكُم بصائِرُ كائنةٌ من ربِّكم
.
- قوله: أَبْصَرَ، وقوله: عَمِيَ كنايتانِ عن الهدى والضَّلالِ، والمعنى: أنَّ ثمرةَ الهدى والضَّلالِ إنَّما هي للمُهتدِي والضَّالِّ؛ لأنَّه تعالى غَنِيٌّ عن خَلْقِه، وهي من الكناياتِ الحسنَةِ؛ لَمَّا ذَكَرَ البصائِرَ أعقَبَها تعالى بالإبصارِ والعمى، وهذه مُطابَقةٌ .
2- قوله: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ استئنافٌ في خطابِ النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلامُ لأمْرِه بالإعراضِ عن بُهتانِ المشركينَ، وألَّا يَكْتَرِثَ بأقوالِهم، فابتداؤُه بالأمرِ باتِّباعِ ما أوحِيَ إليه يتنَزَّلُ منزلةَ المُقَدِّمةِ للأمرِ بالإعراضِ عن المشركينَ، وليس هو المقْصِدَ الأصليَّ من الغَرَضِ المَسُوقِ له الكلامُ؛ لأنَّ اتِّباعَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم ما أوحِيَ إليه أمْرٌ واقِعٌ بجميعِ معانيه، فالمقصودُ من الأمْرِ الدَّوامُ على اتِّباعِه، والمعنى: أَعْرِضْ عن المشركين اتِّباعًا لِمَا أُنْزِلَ إليك من رَبِّك . وأيضًا فالوحيُ يَنزِلُ عليه حينًا بعدَ حينٍ في شَرائعِ الدِّينِ وأمورِ الإيمانِ؛ فهو مأمورٌ مع كلِّ وحيٍ جديدٍ بالإيمانِ به واتِّباعه.
- وفي التَّعرُّضِ لعنوانِ الربوبيَّةِ مع الإضافَةِ إلى ضميرِه صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: رَبِّكَ مِن إظهارِ اللُّطْف به ما لا يَخفَى .
- وجملة لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ بَيْن الأمرينِ في قوله: اتَّبِعْ، وقوله: وَأَعْرِضْ اعتراضٌ؛ أُكِّدَ به إيجابُ اتِّباعِ المُوحَى؛ لا سيمَّا في أمرِ التوحيدِ؛ والمقصودُ منها إدماجُ التذكيرِ بالوحدانيَّة؛ لزيادَةِ تقرُّرِها، وإغاظَةِ المشركين. أو تكون هذه الجملةُ في موضع الحالِ المؤكِّدَةِ .
3- قوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ جملة وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا، اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإعراضِ المذكورِ في قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وكذا قولُه تعالى: وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وقولُه تعالى: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ .
- قوله: عَلَيْهِمْ في الموضعينِ متعلِّقٌ بما بعده حَفِيظًا وبِوَكِيلٍ؛ قُدِّمَ عليه للاهتمامِ به، أو لرعايةِ الفواصِلِ
.
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (108-110)
ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ
غريب الكلمات :
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: أي: حَلَفُوا واجتهَدُوا في الحَلِف، أو كنايةٌ عن أغلَظِ الأيمانِ، وأصْلُ (جهد): المشقَّةُ
. والأَيْمَانُ: جمْعُ يَمينٍ، واليمينُ: الحَلِفُ والقَسَم، وأصلُه مِن اليُمْن، أي: البَركة؛ سمَّاها اللهُ تعالى بذلك لأنَّها تَحفَظُ الحقوقَ، وقيل: سُمِّي الحَلِفُ يمينًا لأنَّه يكونُ بأَخْذِ اليَمينِ، أو اعتبارًا بِما يَفعَلُه المعاهِد والمحالِفُ وغيرُه؛ لأَنهم كَانُوا اذا تحالفوا أو توافقوا ضرَب كلُّ امْرِئ مِنْهُم يَمِينه على يَمِين صَاحِبِه .
وَنُقَلِّبُ: أي: ونُحوِّل، وقلْبُ الشَّيءِ: تصريفُه وصَرْفُه عن وَجْهٍ إلى وجهٍ، وتقليبُ اللهِ القلوبَ والبصائِرَ: صَرفُها من رأيٍ إلى رأيٍ .
أَفْئِدَتَهُمْ: أفئدة: جمْعُ فؤادٍ، وهو القلبُ؛ سمِّيَ بذلك لحرارَتِه، أو لتَوقُّدِه، وأصل (فأد): يدلُّ على حُمَّى وشِدَّةِ حرارةٍ .
يَعْمَهُونَ: يَتحيَّرونَ، ويتردَّدونَ، ويَجُورونَ عن الطَّريقِ؛ فأصل العَمَهِ: التردُّدُ في الأمرِ من التحيُّرِ
.
مشكل الإعراب :
قوله تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
أَنَّهَا: تُقرَأُ بفتْحِ الهمزةِ وكَسرِها؛ فعَلى قِراءةِ الفتحِ ففيها ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنَّ (أنَّ) بمعنى (لعلَّ) وعلى هذا يكون المفعولُ الثاني محذوفًا، تقديرُه: (وما يُشْعِرُكُم إيمانَهم)، والمعنى: وأيُّ شيءٍ يُدْريكُم إيمانَهم إذا جاءَتْهم الآيةُ؛ لعلَّها إذا جاءتْهم لا يُؤْمنون. والثاني: أنَّ لَا زائدةٌ، فتكون (أنَّ) وما عملتْ فيه في موضعِ المفعولِ الثَّاني، فيكون التقدير: وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جاءت يُؤْمنونَ، والمعنى على هذا: أنَّها لو جاءتْ لم يُؤمنوا. والثالث: أنَّ (أنَّ) على بابها، ولَا غيرُ زائدة، والمعنى: وما يُدريكم عدَمَ إيمانِهم، ويكون هذا جوابًا لِمَن حَكَم عليهم بالكُفْر أبدًا، ويَئِسَ مِن إيمانِهم. وأمَّا على قراءةِ الكَسْرِ؛ فقوله: إِنَّها على الاستئنافِ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ أيضًا، تقديره: وما يُشعرِكم إيمانَهم
.
المعنى الإجمالي :
يَنهى اللهُ المؤمنينَ أنْ يَسبُّوا آلهةَ المُشْركينَ، حتى لا يُقابِلَه المشركونَ بِسَبِّ اللهِ، تعالى وتَقَدَّسَ وتنَزَّهَ عن كلِّ نقيصةٍ، وكما زَيَّنَ اللهُ لهؤلاءِ المُشركينَ أعمالَهم زَيَّنَ لكُلِّ أمَّةٍ عَمَلَهم، ثمَّ إلى ربهم تعالى مَرْجِعُهم، فيُخْبِرُهم بما عَمِلوا، ويجازِيهم عليه.
ويُخْبِر تعالى أنَّ المُشركينَ أقْسَموا باللهِ أشَدَّ الأيمانِ التي قَدَرُوا عليها؛ أنَّه إنْ جاءَتْهم آيةٌ خارِقَةٌ ممَّا اقترحوها فإنَّهم سيُؤمنونَ بها، فأمَرَ اللهُ رسولَه أَنْ يُخْبِرَهم أنَّ الآياتِ مِن اللهِ وَحْدَه، إنْ شاء أجابَ طَلَبَكم، وإنْ شاءَ امتنَعَ عن ذلك، ثم خاطَبَ عِبادَه المؤمنين قائلًا لهم: وما يُدريكُم، أنَّ هؤلاءِ المُشركينَ لا يؤمنونَ إذا جاءَتْهم المُعجزاتُ التي سَأَلُوها.
ثم أخبَرَ تعالى أنَّه يُقَلِّبُ أفئدتَهم وأبصارَهم، فيَحُولُ بينهم وبين الانتفاعِ بالحَقِّ، والاهتداءِ إليه؛ لأنَّهم لم يؤمنوا بالقرآنِ في أوَّلِ مرَّةٍ أتاهم فيها الدَّاعي، ويترُكُهم في تمرُّدِهم واعتدائِهم على حدودِ الله يتردَّدونَ، ولا يهتدونَ للحقِّ.
تفسير الآيات :
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أطالَ التَّنفيرَ عَمَّا اتُّخِذَ آلهةً مِن دُونِه من الأندادِ، فربَّما كان ذلك داعيةً إلى سبِّها، فنهى عنه لِمَفسدةٍ يَجُرُّها السَبُّ، كبيرةٍ جدًّا
.
فقال:
وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ.
أي: لا تسبُّوا- أيُّها المؤمنون- آلهةَ المُشركينَ وتَهْجُوها، وتذَكُروا ما هي متَّصِفَةٌ به من الخساسَةِ؛ لأنَّه يترتَّبُ على ذلك مَفسدةٌ أعظَمُ منها، وهي قيامُ المُشركينَ- حَمِيَّةً لِدِينِهم وتعصُّبًا له- بسَبِّ إلهِ المؤمنينَ؛ اللهِ تبارَك وتعالى، فيتكلَّمونَ فيه بما لا يليقُ بكَمالِه وجلالِه وعَظَمَتِه سبحانه؛ ظلمًا وجَهْلًا منهم بربِّهم، واعتداءً بغيرِ عِلْمٍ؛ فهو خالِقُهم ورازِقُهم، المُحْسِنُ إليهم .
كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ.
أي: كما زَيَّنَّا لهؤلاء المشركينَ عِبادةَ الأوثانِ، وطاعةَ الشَّيطانِ، وَحُبَّ الأصنامِ، والانتصارَ لها، كذلك زَيَّنَّا بحِكمَتِنا لكلِّ أمَّةٍ مِن الأُمَمِ عَمَلَهم الذي يفعلونَ .
كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] .
وقال سبحانه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 14] .
ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أي: ثمَّ بعدَ ذلك يكون مآلُهم ومَصيرُهم يومَ القيامَةِ إلى الله تعالى وَحْدَه، فيُوقِفُهم عزَّ وجلَّ، ويُخْبِرُهم بأعمالِهم التي كانوا يَعملونها في الدُّنيا، ثم يُجازيهم بها؛ إنْ كان خيرًا فخَيرٌ، وإنْ كان شرًّا فشَرٌّ، أو يَعفو بفَضْلِه، ما لم يكُن شِرْكًا أو كُفْرًا .
وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109).
وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا.
أي: وحَلَف المشركونَ حَلِفًا اجتَهَدوا فيه، وأكَّدوه إلى غايَةِ ما يُمْكِنُهم مِن تغليظِ اليَمينِ وتوكيدِها؛ أنَّه إنْ جاءتهم معجزةٌ مِمَّا اقترحوه تَدُلُّ على صِدْقِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّهم سيُؤمنونَ بها، ويصدِّقونَ بأنها مِنَ اللَّهِ، وأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم رَسُولٌ مُرْسَلٌ، وأنَّ ما جاءَهم به هو الحَقُّ مِن عِندِ اللهِ سبحانه وتعالى .
قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ.
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لهؤلاء الذين يَقترِحونَ نُزُولَ الآياتِ تَعَنُّتًا وكُفْرًا وعِنادًا: إنَّما مَرْجِعُ هذه الآياتِ إلى الله تعالى وَحْدَه، فإنْ شاء أجاب طَلَبَكم، وإنْ شاء امتَنَعَ عن ذلك .
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:
في قوله تعالى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ثلاثُ قراءاتٍ:
1- وَمَا يُشْعِرُكُمْ إنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ بجَعْلِ الكلامِ تامًّا عند قولِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ، أي: ما يدريكُم أيُّها المؤمنونَ، ثُمَّ ابتدأَ الخَبَرَ عن الكفَّارِ والمُشركينَ، فقال عنهم: إنَّهم لا يؤمنونَ إذا جاءَتْهم الآياتُ .
2- وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا تُؤْمِنُونَ
على (أنَّ) هنا معناها: (لعَلَّ)، فالمعنى: وما يُدريكُم أيُّها الكُفَّارُ والمُشركونَ لعَلَّ الآياتِ إذا جاءت لا تُؤمنونَ .
3- وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ
على (أنَّ) هنا معناها: (لعَلَّ)، فالمعنى: وما يُدْريكُم أيُّها المؤمنونَ، لعَلَّ الآياتِ إذا جاءت لا يُؤْمِنُ الكُفَّارُ والمُشركونَ، وقيلَ غَيرُ ذلك .
وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ.
أي: وما يُدريكُم- أيُّها المؤمنونَ- أنَّ هؤلاءِ المُشركينَ لا يُؤمنونَ إذا جاءَتْهم المُعجزاتُ التي سَأَلُوها .
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110).
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
أي: ونُزيغُ قلوبَهم عن الإيمانِ، فلا تَعْقِلُ حقًّا، ونَحُولُ بين أبصارِهم ورؤية الحَقِّ؛ لأنَّهم لم يُؤمنوا بالقُرآنِ في أوَّلِ مَرَّةِ أتاهم فيها الدَّاعي، وقامَتْ عليهم فيها الحُجَّةُ، وبادَروا بتكذيبِ الرَّسولِ ، وهذا مِن عَدْلِ الله تعالى وحِكْمَتِه؛ فهُم الذين جَنَوْا على أنْفُسِهم، وقد فُتِحَ لهم البابُ فلم يَدْخُلوا، وبُيِّنَ لهم الطَّريقُ فلم يَسْلُكوا، فإذا حُرِمُوا التَّوفيقَ بعد ذلك، كان هذا جزاءً وِفاقًا، مُناسِبًا لأحوالِهم .
كَمَا قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو رضِيَ الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ قلوبَ بَني آدمَ كلَّها بينَ إصبَعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ كقَلْبٍ واحِدٍ؛ يُصَرِّفُهُ حيثُ يشاءُ، ثمَّ قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: اللَّهمَّ مُصَرِّفَ القلوبِ، صرِّفْ قلوبَنا على طاعتِكَ )) .
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
أي: ونتركُ هؤلاءِ في تَمَرُّدِهم واعتدائِهم على حدودِ اللهِ تعالى يترَدَّدون؛ فلا لِلحَقِّ يَهتدونَ، ولا الصَّواب يُبصرونَ، قد غَلَب عليهم الخِذْلانُ، واستحوَذَ عليهم الشَّيطانُ
.
الفوائد التربوية :
1- الطَّاعةُ إذا أدَّت إلى معصيةٍ راجحةٍ وَجَبَ تَرْكُها؛ فإنَّ ما يؤدِّي إلى الشرِّ شَرٌّ؛ يُرْشِدُ إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ
.
2- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ فيه تنبيهٌ على أنَّ الخَصْمَ إذا شافَهَ خَصْمَه بجهْلٍ وسَفاهةٍ، لم يَجُزْ لِخَصْمِه أنْ يشافِهَهُ بمِثْل ذلك، وهو أدَبٌ يَليقُ بالمُؤْمِنِ، المطمَئِنِّ لِدِينِه، الواثِقِ من الحَقِّ الذي هو عليه، الهادِئِ القَلْبِ، الذي لا يَدْخُلُ فيما لا طائِلَ وراءه من الأمورِ .
3- قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيه تأديبٌ لِمَن يَدْعو إلى الدِّينِ؛ لِئَلَّا يَتشاغَلَ بما لا فائدةَ له في المطلوبِ؛ لأنَّ وَصْفَ الأوثانِ بأنَّها جماداتٌ لا تَنفَعُ ولا تَضُرُّ يكفي في القَدْحِ في إلهِيَّتِها، فلا حاجَةَ مع ذلك إلى شَتْمِها .
4- قال اللهُ تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ تَزيينُ أعمالِهم يكونُ بواسِطَةِ الملائكَةِ والأنبياءِ والمؤمنينَ للخَيْرِ، وتزيينِ شياطينِ الإِنْسِ والجِنِّ للشَّرِّ؛ قال تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، ومثلُ هذا كثيرٌ؛ فالفاعِلُ للذَّنْب لو جَزَمَ بأنَّه يَحصُلُ له به الضَّرَرُ الرَّاجِحُ لم يَفعَلْه، لكنَّه يُزَيَّنُ له ما فيه من اللَّذَّةِ التي يَظُنُّ أنَّها مصلحةٌ، ولا يجْزِمُ بوقوعِ عقوبَتِه، بل يرجو العَفْوَ بحسناتٍ أو توبةٍ، أو بِعَفْوِ الله ونحوِ ذلك، وهذا كلُّه من اتِّباعِ الظَّنِّ وما تهوى الأنفُسُ، ولو كان له عِلْمٌ كامِلٌ لعَرَفَ به رُجحانَ ضَرَرِ السَّيِّئةِ، فأوجَبَ له ذلك الخشيةَ المانِعَةَ له من مُواقَعَتِها .
5- مَن أعرَضَ عن اتِّباعِ الحَقِّ الذي يَعلَمُه تبعًا لهواه؛ فإنَّ ذلك يُورِثُه الجَهْلَ والضَّلالَ حتى يَعمَى قلبُه عن الحَقِّ الواضِحِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ فمعنى الآية: ونُقَلِّبُ أفئدتَهم وأبصارَهم؛ عقوبةً لهم على تَرْكِ الإيمانِ في المَرَّةِ الأولى ، فمَن عُرِضَ عليه حَقٌّ فرَدَّه فلم يَقبَلْه؛ عُوقِبَ بفَسادِ قَلْبِه وعَقْلِه ورَأْيِه
الفوائد العلمية واللطائف :
1- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ نُهِيَ المُسلمونَ أن يَفعلوا ما يكونُ ذريعةً إلى سَبِّ الكافرينَ لله تعالى، فعُلِمَ أنَّ سَبَّ الله تعالى أعظَمُ عنده من أنْ يُشْرَكَ به، ويُكَذَّبَ رَسُولُه ويُعادَى
.
2- قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قد يَسْتشْكِلُ بعضُهم أنَّ شَتْمَ الأصنامِ من أصولِ الطَّاعاتِ؛ فكيف يُنْهَى عنها؟
والجوابُ: أنَّ هذا الشَّتْمَ، وإنْ كان طاعةً، إلَّا أنَّه إذا وَقَعَ على وجهٍ يَسْتلزِمُ وجودَ مُنْكَرٍ عظيمٍ، وَجَبَ الاحترازُ منه، والأمرُ هاهنا كذلك؛ لأنَّ هذا الشَّتْمَ كان يَستلزِمُ إقدامَهم على شَتْمِ اللهِ وشَتْمِ رَسُولِه، وعلى فَتْحِ بابِ السَّفاهَةِ، وعلى تَنفيرِهم عن قَبولِ الدِّينِ، وإدخالِ الغَيْظِ والغَضَبِ في قُلوبِهم؛ فَلِكَونِه مُستلزِمًا لهذه المُنكَرَاتِ، وَقَعَ النَّهيُ عنه ؛ فإنَّه إذا كانتِ الطَّاعةُ تؤدِّي إلى مَفسدةٍ، خَرَجَتْ عن أنْ تكونَ طاعةً؛ فيجِبُ النَّهيُ عنها كما يُنهَى عن المعصيةِ .
3- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ أصْلٌ في قاعِدَةِ سَدِّ الذَّرائعِ ، ودليلٌ للقاعدةِ الشَّرعيَّة: أنَّ الوسائِلَ تُعتبَرُ بالأمورِ التي تُوصِلُ إليها، وأنَّ وسائِلَ المحَرَّم- ولو كانتْ جائِزَةً- تكونُ مُحَرَّمةً، إذا كانت تُفْضِي إلى الشَّرِّ .
4- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ يُستدَلُّ به على سُقوطِ وُجوبِ الأَمْرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عن المُنْكَر إذا خِيفَ من ذلك مَفْسَدَةٌ أعْظَم، وكذا كُلُّ فعلٍ مطلوبٍ تَرَتَّبَ على فِعْلِه مفسدةٌ أقوى من مَفْسَدَةِ تَرْكِه .
5- دَفَعَ اللهُ تَوَهُّمَ إكرامِ آلهَتِهم حين نَهى عن سَبِّها بقوله: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فبَيَّنَ أنهم في سُفُولٍ؛ بقوله: مِنْ دُونِ اللهِ .
6- قوله تعالى: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حُكْمُ هذه الآيةِ باقٍ في هذه الأُمَّةِ؛ فإذا كان الكافِرُ في مَنَعةٍ، وخِيفَ أن يُسَبَّ الإسلامُ أو الرَّسولُ أو اللهُ، فلا يحِلُّ لمسلمٍ ذَمُّ دينِ الكافِرِ، ولا صَنَمُه ولا صَليبُه، ولا يتعَرَّض إلى ما يؤدِّي إلى ذلك .
7- قول الله تعالى: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ يدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى زَيَّنَ للكافِرِ الكُفْرَ، وللمُؤمِنِ الإيمانَ، وللعاصي المعصيةَ، وللمُطيعِ الطَّاعةَ؛ ففي الآية دليلٌ على تكذيبِ القَدَريَّةِ والمُعتَزِلَة؛ حيثُ قالوا: لا يَحْسُن مِن اللهِ تعالى خَلْقُ الكُفْرِ وتَزْيينُه .
8- في قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ قدَّمَ اللهُ تعالى ذِكْرَ تقليبِ الأفئدةِ على تقليبِ الأبصارِ؛ لأنَّ موضِعَ الدَّواعي والصَّوارفِ هو القلْبُ، فإذا حصَلتِ الدَّاعيةُ في القَلْبِ انصرَفَ البَصَرُ إليه شاءَ أم أبَى، وإذا حَصَلَتِ الصَّوارفُ في القَلْبِ انصَرَفَ البَصَرُ عنه؛ فهو وإنْ كان يُبْصِرُه في الظَّاهِر، إلَّا أنَّه لا يَصيرُ ذلك الإبصارُ سببًا للوقوفِ على الفوائِدِ المطلوبَةِ؛ وهذا هو المرادُ من قولِه تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، فلمَّا كان المَعْدِنُ هو القَلْبَ، وأمَّا السَّمْعُ والبَصَرُ فهما آلتانِ للقَلبِ؛ كانَا لا مَحالَةَ تابعينِ لأحوالِ القَلْبِ؛ فلهذا السَّببِ وَقَعَ الابتداءُ بِذِكْرِ تقليبِ القلوبِ في هذه الآيةِ، ثم أتبَعَه بذِكْرِ تقليبِ البَصَرِ .
9- قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وجهُ الجمْعِ بين الأفئدةِ والأبصارِ وعدَمِ الاستغناءِ بالأفئدَةِ عن الأبصارِ؛ أنَّ الأفئدةَ تختَصُّ بإدراكِ الآياتِ العقليَّةِ المَحْضَةِ، مثلُ آية الأُمِّيَّة، وآيةِ الإعجازِ، ولَمَّا لم تَكْفِهم الآياتُ العقليَّةُ ولم ينتفِعوا بأفئدَتِهم- لأنها مُقَلَّبةٌ عن الفِطْرَةِ- وسألوا آياتٍ مرئيَّةً مُبصَرةً؛ كأنْ يَرْقَى في السَّماء، ويُنْزِلَ عليهم كتابًا في قرطاسٍ؛ أخبرَ اللهُ رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم والمُسلمينَ بأنَّهم لو جاءَتْهم آيةٌ مُبصِرةٌ لَمَا آمَنُوا؛ لأنَّ أبصارَهم مُقَلَّبةٌ أيضًا مثلَ تقليبِ عُقولِهم .
10- العَينانِ هما رَبيئةُ القَلبِ، ولَيسَ مِن الأعضاءِ أشدُّ ارتباطًا بالقَلْبِ من العَينينِ؛ ولهذا جمَعَ بينهما في قولِه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ، وفي غَيرِها من الآياتِ كقولِه: تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور: 37] ، وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [الأحزاب: 10] ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [النازعات: 8- 9] ، ولأنَّ كِليهما له النَّظرُ؛ فنظرُ القلبِ الظاهِرُ بالعَينينِ، والباطنُ به وحْدَه .
11- قوله تعالى: مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فيه دليلٌ على أنَّ الكُفْرَ والإيمانَ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه، التابع لحِكمتِه سُبحانَه، وفي ذلك رَدٌّ على القَدَرِيَّة
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
- قوله: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وصَفَ سَبَّ المُشْرِكينَ لله تَعالَى بأنَّه عَدْوٌ؛ للتَّعريضِ بأنَّ سَبَّ المسلمينَ أصنامَ المُشركينَ ليس من الاعتداءِ، وجَعَلَ ذلك السَّبَّ عَدْوًا، سواءٌ كان مرادًا به اللهُ أم كان مُرادًا به مَن يأمُر النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما جاءَ به؛ لأنَّ الذي أمَرَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما جاءَ به هو في نفْسِ الأمْرِ اللهُ تعالى، فصادَفوا الاعتداءَ على جَلالِه
.
- وأظهَرَ لفظَ الجلالةِ اللَّهَ؛ تَصريحًا بالمقصودِ وإعظامًا لهذا، وتهويلًا له، وتَنفيرًا منه .
- قوله: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فيه تعريضٌ بالتوعُّدِ بأنْ سَيَحُلُّ بمشركي العَرَبِ مِن العذابِ مثلُ ما حَلَّ بأولئكَ في الدُّنيا .
- والعُدولُ عن اسْمِ الجَلالة إلى لفظِ: رَبِّهِمْ لقَصْدِ تهويلِ الوعيدِ، وتَعليلِ استحقاقِه بأنَّهم يُرجعونَ إلى مالِكهم الذي خَلَقَهم، فكفروا نِعَمَه وأَشْرَكوا به، فكانوا كالعَبيدِ الآبقينَ؛ يَطُوفون ما يَطُوفونَ، ثم يَقَعونَ في يَدِ مَالِكِهم .
- قوله: فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ خبرٌ مقصودٌ منه التوبيخُ والعِقابُ؛ لأنَّ العقابَ هو العاقبةُ المقصودَةُ من إعلامِ المُجْرِم بجُرْمِه .
2- قوله: قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ فيه حصْرٌ بـإِنَّمَا؛ للرَّدِّ على المشركين في ظَنِّهم بأنَّ الآياتِ في مقدورِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إنْ كان نبيًّا، فجَعَلوا عَدَمَ إجابَةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم اقتراحَهم آيةً؛ أمارةً على انتفاءِ نبوءَتِه، فأَمَرَه اللهُ أن يُجيبَ بأنَّ الآياتِ عند اللهِ لا عندَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والله أعلَمُ بما يُظْهِرُه من الآياتِ .
- وقوله: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ كلامٌ مستأنَفٌ غيرُ داخلٍ تحت الأمْرِ في قولِه: قُلْ مَسوقٌ من جِهَتِه تعالى؛ لبيانِ الحِكمةِ الدَّاعيَةِ إلى ما أشْعَرَ به الجوابُ السَّابِقُ من عَدَمِ مجيءِ الآياتِ؛ إذ إنَّ مَرجِعَ الإنكارِ إقدامُ المشركينَ على الإقسامِ المذكورِ في قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا مع جَهْلِهم بحالِ قُلوبهم عند مجيءِ الآياتِ؛ وهذا الكلامُ إمَّا خُوطِبَ به المسلمونَ خاصَّةً بطَريقِ التلوينِ، لَمَّا كانوا راغبينَ في نُزولِها طَمَعًا في إسلامِهم، وإمَّا خُوطِبَ المسلمونَ معه صلَّى الله عليه وسلَّم بطَريقِ التَّعميمِ .
- وقد سِيقَ الخَبَرُ بصِيغةِ الاستفهامِ؛ لأنَّ الاستفهامَ مِن شَأْنِه أن يُهَيِّئَ نَفْسَ السَّامِعِ لطَلَبِ جوابِ ذلك الاستفهامِ، فيتأَهَّبَ لوَعْيِ ما يَرِدُ بَعْدَه .
3- قوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ الكافُ في قوله: كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ لتشبيهِ حالةِ انتفاءِ إيمانِهم بعد أن تجيئَهم آيةٌ مِمَّا اقترحوا، أي: ونُقَلِّبُ أفئدتَهم وأبصارَهم، فلا يؤمنونَ بالآيةِ التي تَجيئُهم مثلما لم يؤمنوا بالقرآنِ مِن قَبْلُ، فتقليبُ أفئدَتِهم وأبصارِهم على هذا المعنى يحصُلُ في الدُّنيا، وهو الخِذْلان
.
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (111-113)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ
غريب الكلمات :
قُبُلًا: أي: صِنفًا صنفًا، أو صفًّا صفًّا، أو جماعةً جماعةً، جمعُ قبيلٍ، وقُبُلًا أيضًا: مُقابلةً وعِيانًا، وأصْلُ (قبل) يَدُلُّ على مواجَهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ
.
زُخْرُفَ الْقَوْلِ: الباطِلَ المزَيَّنَ المحسَّنَ الممَوَّهَ، أو المزوَّقاتِ من الكلامِ، والزُّخرفُ: الزِّينَةُ المزوَّقةُ، وأَصْلُ الزُّخْرف: الذَّهب .
غُرُورًا: بضَمِّ الغَينِ: مَصْدَرُ: غَرَّه يغرُّه غُرورًا، أي: أصاب غِرَّتَه- وهي غَفْلتُه في اليَقَظَة- ونالَ منه ما يُريد، حتَّى يُدْخِلَه مِن معصيةِ الله فيما يستوجِبُ به عقوبتَه، وأَصْلُ (غرر) يدلُّ على النُّقْصانِ .
وَلِتَصْغَى: أي: لِتميلَ إليه، وأصل (صغو): يدلُّ على الميلِ .
وَلِيَقْتَرِفُوا: أي: وَلِيَكْتَسِبوا، ولِيَدَّعُوا ما هم مُدَّعُونَ، والاقترافُ: الاكْتِسابُ، حُسنًا كان أو سُوءًا، وهو في الإساءةِ أكثرُ استعمالًا، وأصلُ (قرف) يَدُلُّ عَلَى مُخالطةِ الشَّيءِ، والالتِباسِ به، وادِّراعِه، ومنه: اقْتَرفْتُ الشَّيءَ: اكْتَسَبْتُه، وكأنَّه لابَسَه وادَّرَعه
.
مشكل الإعراب :
قوله تعالى: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
وَلِتَصْغَى: اللامُ فيه لامُ (كي)، والفِعلُ بعدَها منصوبٌ بإضمارِ (أن)، والمصدَرُ المؤوَّلُ مِن (أنْ) المضْمَرَةِ والفِعلِ في مَحلِّ جرٍّ باللَّامِ، والجارُّ والمجرورُ معطوفٌ على غُرورًا
، والتَّقديرُ: يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعضٍ للغُرورِ وللصَّغْوِ
.
المعنى الإجمالي :
يخبرُ الله تعالى أنَّه لو أجاب مَن أقْسَموا باللهِ جَهْدَ أَيمانِهم: لَئِنْ جاءَتْهم آيةٌ ليؤمِنُنَّ بها؛ لو أجابَهم لِمَا طَلَبوه؛ فأنَزَلَ عليهم الملائِكةَ، أو أَحْيا لهم الموتى، فحَدَّثوهم بصِدْقِ الرَّسولِ، وجَمَعَ لهم جميعَ الأَشياءِ أمامَهم؛ لتُخْبِرَهم مباشرةً بصِدْق الرَّسولِ، أو جَمَعَها لهم جماعةً جماعةً لتُخْبِرَهم بذلك- لَمَا آمَنُوا إلَّا أنْ يشاءَ اللهُ، ولكنَّ أكثرَهم يَجْهلونَ ذلك.
ويُخْبِر تعالى أنَّه كما ابْتَلَى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم بأنْ جَعَلَ له أعداءً مِن مَرَدَةِ الإنسِ والجنِّ، يُخالِفونَه ويُحارِبونَه، ويَرُدُّون دَعوتَه؛ جَعَل كذلك لكلِّ نبيٍّ من الأنبياءِ أعداءً منهم؛ يُوَسْوِس شياطينُ الجنِّ إلى شَياطينِ الإِنْسِ بالقولِ الباطِلِ المزَيَّنِ، ذي الألفاظِ المزَخْرَفة الخدَّاعةِ، ولو شاءَ اللهُ تعالى ما فعلُوا إيحاءَ القولِ بالغرورِ، ولكنَّ ذلك قَضاءُ اللهِ وقَدَرُه، ثمَّ أمَرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يَدَعَهم وما يَفْترونَه.
وأيضًا يُوَسْوِس شياطينُ الجنِّ إلى شَياطينِ الإِنْسِ بالقولِ الباطِلِ المزَيَّنِ، ذي الألفاظِ المزَخْرَفة الخدَّاعةِ؛ لِتَميلَ إليه قلوبُ الَّذين لا يُؤمنونَ بالآخِرَة، ولِيَرْضَوا ذلك الكَلامَ، ولِيَكْتَسبوا بسبَبِه ما هم مُكتَسِبونَ مِنَ الكفْرِ والمعاصِي.
تفسير الآيات :
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
بيَّنَ تعالى في هذه الآيةِ تفصيلَ ما ذَكَرَه على سبيلِ الإِجمالِ بقولِه: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ؛ فبَيَّنَ سبحانه أنَّه لو أَعْطاهم ما طَلَبوه مِن إنزالِ الملائكةِ، وإِحياءِ المَوْتى حتى كلَّموهم، بل لو زادَ في ذلك ما لا يَبْلُغُه اقتراحُهم بأنْ يحْشُرَ عليهم كلَّ شيءٍ قُبُلًا- ما كانوا ليُؤْمِنوا إلَّا أنْ يشاءَ اللهُ
.
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى في الآيتينِ اللَّتينِ قبْلَ هذه الآيةِ أنَّ مقتَرِحِي الآياتِ الكونيَّةِ على الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم أقْسَمُوا باللهِ مُجتهدينَ في أَيمانِهم: لئِنْ جاءَتْهم آيةٌ ليؤمِنُنَّ بها- بيَّن تعالى سُنَّتَه فيهم وفي أمثالِهم مِنَ المعانِدِينَ؛ أنَّهم يَنْظُرونَ إلى الآياتِ، ويتفكَّرونَ فيها بقَصْدِ الجُحودِ والإنكارِ، ويزعمونَ أنَّها لا تَدُلُّ على المطلوبِ، وبَعدَ بَيانِ سُنَّتِه تعالى فيهم عِنْدَ مجيءِ الآيةِ المقتَرَحةِ، صَرَّحَ بما هو أَبْلَغُ من ذلك، فقال :
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ.
أي: ولو أنَّنا أجَبْنَا سؤالَ هؤلاءِ الَّذين أقْسَمُوا باللهِ جَهْدَ أيمانِهم: لئنْ جاءَتْهم آيةٌ ليُؤْمِنُنَّ بها، فنزَّلْنا عليهم الملائِكَةَ، ورَأَوْها عِيانًا كما اقترَحُوا، وشَهِدَتْ لهم بصِدْقِ الرَّسولِ، وصِحَّةِ رسالَتِه .
كما أخْبَرَ تعالى عنهم أنَّهم قالوا: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء: 92] .
وقال سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا [الفرقان: 21] .
وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى.
أي: ولو أَحْيَيْنا لهم المَوْتى؛ فأَخْبَروهم بصِدْقِ الرَّسولِ ورِسالَتِه .
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:
في قولِه تعالى: وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا قراءتانِ:
1- قراءة قِبَلًا- بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ- أي: مقابلةً وعِيانًا ومشاهدةً، والمعنى: وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيءٍ يواجِهُونَه ويُعاينُونَه .
2- قراءة قُبُلًا جمعُ قبيلٍ، والمعنى: وحَشَرْنا عليهم كلَّ شيءٍ قبيلًا قبيلًا، أي: جماعةً جماعةً، وقيل: (قُبُلًا) جمع: (قبيلٍ)، وهو: (الكفيلُ)، فيكون المعنى: لو حُشِرَ عليهم كلُّ شيءٍ، فكَفَل لهم بصحَّةِ ما تقولُ؛ ما كانوا ليؤمنوا، وقيل: (قُبُلًا) أي: مُقابلةً ومُواجهةً .
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً.
أي: ولو أنَّنا جَمَعْنا لهم جميعَ الأشياءِ أمامَهم؛ لتُخْبِرَهم مباشرةً بِصِدْقِ ما جاء به الرَّسولُ، أو جمَعْناها لهم فوجًا فوجًا، وجماعةً جماعةً؛ لتُخْبِرَهم بذلك .
مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ.
أي: لو فَعَلْنَا لهم كُلَّ ذلك؛ ما حَصَل منهم الإيمانُ، إلَّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ إيمانَهم؛ لأنَّهم قومٌ مُتَعَنِّتونَ .
كما قال سبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.
أي: ولكنَّ أكثَرَ هؤلاءِ الكُفَّارِ يَجْهَلون أنَّه لو أُنْزِلَت عليهم الآياتُ التي اقتَرَحوها لم يُؤمِنوا إلَّا أن يشاءَ اللهُ تعالى؛ فليس الإيمانُ إليهم، ولا الكُفرُ بأيديهم؛ فمتى شاؤُوا آمَنوا، ومتى شاؤُوا كَفَروا، بل مرَدُّ ذلك إلى الله تعالى وحْدَه. ومِنْ جَهْلِهم أنَّهم رتَّبوا إيمانَهم على مجرَّدِ إتيانِ الآياتِ، وإنَّما العَقْلُ والعِلْمُ أن يكونَ مقصودُ العبدِ اتِّباعَ الحقِّ، وطلَبَه بالطُّرقِ التي بيَّنها اللهُ عزَّ وجلَّ .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ جلَّ وعلا في هذه السُّورةِ الكريمةِ ما لاقى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن أذَى المشركينَ ومِن عَداوَتِهم، وعدَمِ انقيادِهم إليه؛ كما في قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ إلى قَوْلِه: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ... [الأنعام: 33- 35] ، وأنَّ أولئك المشركينَ المقترِحينَ للآياتِ أعداءٌ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما اقتَرَحوا ما اقتَرَحوا إلَّا لاعتقادِهم أنَّهم لا يُؤتَوْنَه، فيكون ذلك بابًا للطَّعْنِ في رسالَتِه - بَيَّنَ اللهُ لنَبِيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم في هذه الآيَةِ الكريمةِ أنَّه ما أرسلَ نبيًّا من الأنبياءِ إلَّا جَعَلَ له أعداءً كفرَةً فجَرَةً من شياطينِ الإِنسِ والجنِّ، والقَصْدُ من هذا تسليةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَثبيتُ فؤادِه؛ لأنَّ ما لوقِيَ به من العَداوةِ إذا كان قد لاقاه إخوانُه الكِرامُ من الرُّسُلِ الكرامِ؛ هوَّنَ ذلك الأمَرَ عليه، فتلك هي سُنَّة الله في جميعِ الرسل ، فقال تعالى:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ.
أي: وكما ابْتَلَيناك- يا محمَّدُ- بأنْ جَعَلْنا لك أعداءً مِن مَرَدَةِ الإِنْسِ والجنِّ يُخالِفونَك، ويردُّون دَعْوتَك، ويُعادُونك ويُحارِبونَك، فكذلك ابتَلَيْنا مَن قَبْلَك من الأنبياءِ، بأنْ جَعَلْنا لهم أعداءً يُحارِبونَهم ويُؤذُونَهم؛ مِن مَرَدَةِ الإِنسِ والجِنِّ؛ فهذه سُنَّتُنا، فاصْبِرْ أنت كما صَبَروا .
كما قال تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ [آل عمران: 184] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام: 34] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا [الفرقان: 31] .
وفي حديثِ بَدْءِ الوحيِ عن عائشةَ رَضِيَ الله عنها قالت: ((... فقال له وَرَقَةُ: هذا النَّاموسُ الذي نَزَلَ اللهُ به على مُوسَى، يا لَيْتَني فيها جَذَعًا ، لَيْتَني أكونُ حيًّا إذْ يُخْرِجُك قومُك، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: أوَمُخْرجِيَّ هم؟ قال: نعم، لم يَأْتِ رجُلٌ قطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ )) .
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا.
أي: يُوَسْوِسُ شياطينُ الجنِّ إلى شَياطينِ الإنسِ بالقَولِ الباطِلِ المُزَيَّن، ذي الأَلفاظِ المزَخْرَفة، والعباراتِ المنمَّقة المُمَوَّهَة، ويَجْعلونَه في أحسَنِ صورةٍ، فيُؤْذي به شياطينُ الإِنسِ الأَنبياءَ بالجِدالِ والخُصوماتِ، ويُضِلُّون به النَّاسَ، ويَفْتِنونهم عن اتِّباعِ الحقِّ .
كما قال تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام: 121] .
وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ.
أي: ولو شاءَ اللهُ تعالى- يا محمَّدُ- لَمَنع أولئكَ الشَّياطينَ مِن أن يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرفَ القولِ، ولكنْ قدَّرَ اللهُ تعالى وقَضَى أن يكونَ لكُلِّ نبيٍّ عدوٌّ مِنْ هؤلاءِ .
فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ.
أي: فَدَعْ- يا محمَّدُ- أولئك الَّذين يُجادلونَك بِالباطِلِ، ويُخاصِمونَك بما يُوحِي إليهم أَوْلياؤُهم من الشَّياطينِ، ودعْ عنك ما يختلِقونَه من إفكٍ وزُورٍ؛ فسيَجِدونَ غِبَّ ذلك وعاقِبَتَه الوَخِيمةَ، واصبرْ عليهم، وتوكَّلْ على اللهِ في عداوَتِهم؛ فإنَّ اللهَ كافيك، وناصِرُك عليهم .
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113).
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ.
أي: وَلِتَميلَ إلى ذلك الكَلامِ المُزخرَفِ قلوبُ الَّذين لا يُؤْمنونَ بالآخِرَةِ؛ فعَدَمُ إيمانِهم باليَوْمِ الآخِرِ يَحمِلُهم على ذلك .
وَلِيَرْضَوْهُ.
أي: ولِيُحِبُّوه ويُريدوه بعد أنْ يَصْغَوا إليه، ويُزيَّنَ في قُلوبِهم .
وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ.
أي: ولِيَكْتَسِبوا ما هم مُكْتَسِبونَ مِنَ الكُفْرِ والمعاصي؛ بسَبَبِ ذلك القَوْلِ المزخْرَفِ، الذي صَغَتْ إليه قلوبُهم ورَضُوه وأحبُّوه
.
الفوائد التربوية :
1- مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ تعالى في الخَلقِ بأن يكونَ الشرِّيرُ المتمرِّدُ، العاتي عن الحَقِّ والمعروفِ، الذي لا ينقادُ لهما؛ كِبرًا وعنادًا، وجمودًا على ما تعوَّدَ؛ يكون عدوًّا للدُّعاةِ إليهما؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
.
2- الحَذَرُ مِنَ الشَّيطانِ؛ فإنَّه قد لَزِمَ ثَغْرَ الأُذُنِ، يُدْخِلُ فيها ما يَضُرُّ العبدَ ولا ينفَعُه بطُرُقٍ خفيَّةٍ دقيقةٍ، لا يَفْطِنُ لباطِلِها كلُّ أحدٍ؛ فتُسْرِعُ العقولُ الضَّعيفةُ إلى قَبولِه واستِحْسانِه؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا الآية، إلى قَوْلِه: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ . .
3- إذا كان القَلْبُ قاسيًا لا يَقْبَلُ تزكيةً ولا تُؤَثِّرُ فيه النَّصائِحُ؛ لم يَنتفِعْ بكُلِّ عِلْمٍ يَعْلَمُه؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
.
الفوائد العلمية واللطائف :
1- قولُ اللهِ تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ دلَّ ظاهِرُه على أنَّه تبارَك وتعالى هو الذي جَعَلَ أولئك الأعداءَ أعداءً للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولا شَكَّ أنَّ تلك العداوةَ مَعْصِيةٌ وكفرٌ؛ فهذا يقتضي أنَّ خالِقَ الخيرِ والشَّرِّ، والطَّاعةِ والمَعْصِيَةِ، والإيمانِ والكُفْر؛ هو اللهُ تعالى
.
2- قولُ اللهِ تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، قال: عَدُوًّا معبِّرًا عن الجَمعِ بالمفردِ- والمراد به الجنس- إشارةً إلى أنَّهم يدٌ واحدةٌ في العَدَاوةِ .
3- قولُ اللهِ تعالى: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فيه أنَّ كلامَ أعداءِ الرُّسُلِ تَصْغَى إليه أفئدةُ الَّذين لا يُؤمنونَ بالآخِرَة؛ فعُلِمَ أنَّ مخالفَةَ الرُّسُلِ وتَرْكَ الإيمانِ بالآخِرَةِ متلازمانِ؛ فمَنْ لم يُؤْمِنْ بالآخرةِ صَغَى إلى زُخْرُفِ أعدائِهم، فخَالَفَ الرُّسُل .
4- قولُ اللهِ تعالى: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وقوله: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ هذه الجُمَل على غايةِ الفَصاحةِ؛ لأنَّه أوَّلًا يكونُ الخِداعُ، فيكونُ المَيلُ، فيكون الرِّضا، فيكون فِعْلُ الاقترافِ، فكأنَّ كلَّ واحدٍ مسَّببٌ عمَّا قَبْلَه
.
بلاغة الآيات :
1- وَلَو أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
- قوله: مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا أَبْلغُ في النَّفيِ من (لم يُؤْمِنوا) ومِنْ: (لا يؤمنون)، وأشدُّ تقويةً لنَفْيِ إيمانِهم مع ذلك كلِّه؛ لأنَّ فيه نَفْيَ التأَهُّلِ والصلاحيَّةِ للإيمانِ؛ لأنَّهم مُعانِدونَ مُكابِرونَ، غيرُ طالبينَ للحَقِّ؛ لأنَّهم لو طَلَبوا الحقَّ بإنصافٍ لكَفَتْهُم معجزةُ القرآنِ، إنْ لم يكْفِهم وضوحُ الحقِّ فيما يَدْعو إليه الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسلامُ، ولذلك جاءَتْ لامُ الجحودِ في الخَبَرِ
.
- قوله: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فيه: التفاتٌ إلى الاسمِ الجليلِ- حيث لم يقل: (نشاء)- وهذا الإظهار في مقامِ الإِضمارِ؛ لتربيةِ المهابةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ؛ أي: ما كانوا ليُؤمِنوا بعد اجتماعِ ما ذُكِرَ منَ الأمورِ الموجِبَةِ للإيمانِ في حالٍ من الأحوالِ الدَّاعيةِ إليه، المتمِّمةِ لمُوجِباتِه المذكورةِ، إلَّا في حالِ مَشيئتِه تعالى لإيمانِهم، أو ما كانوا ليُؤْمِنوا لعلَّةٍ من العِلَلِ المعدودةِ وغيرِها إلا لِمَشِيئَتِه تعالى له . وأيضًا لأنَّ اسمَ الجلالةِ يُومئُ إلى مقامِ الإِطلاقِ، وهو مقامُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: 23] ، ويومِئُ إلى أنَّ ذلك جرى على حَسَبِ الحِكْمةِ؛ لأنَّ اسمَ الجلالةِ يتضَمَّنُ جميعَ صفاتِ الكمالِ .
- قَوله: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ استثناءٌ مِن عمومِ الأحوالِ التي تَضمَّنها عمومُ نفْيِ إيمانِهم، وفي هذا الاسْتثناءِ تعريضٌ بوعْدِ المسلمينَ بتَغْيِير قُلوبِ هؤلاء المشركين، فيُؤْمِنوا طَوْعًا، أو أن يُكْرِهَهم على الإيمانِ بأن يُسَلِّطَ عليهم رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم كما أرادَ اللَّه ذلك بفتحِ مَكَّةَ وما بعدَه .
- التعبيرُ بالمضارعِ في: يَجْهَلُونَ يدلُّ على أنَّهم مِن عادَتِهم وشأنِهم الجهلُ، وعدمُ المعرفةِ باللهِ .
2- قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ... فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ اعتراضٌ قُصِدَ منه تَسْليةُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، والتأسِّي بمَن تَقَدَّمَه مِن الأنبياءِ، وأنَّه ليس مُنْفَرِدًا بعَداوةِ مَن عاصَرَه، والواوُ واوُ الاعتراضِ؛ لأنَّ الجملةَ بمنزلَةِ الفَذْلكةِ، وتكونُ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم تسليةً، بعد ذِكْرِ ما يَحْزُنُه من أحوالِ كفَّارِ قومِه، وتصلُّبِهم في نَبْذِ دعوَتِه، فأَنْبَأه اللهُ بأنَّ هؤلاءِ أعدَاؤُه، وأنَّ عَداوةَ أمثالِهم سُنَّةٌ مِن سُنَنِ اللهِ تعالى في ابتلاءِ أنبيائِه كلِّهِم .
- قوله: جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ فيه: تقديمُ المفعولِ الثاني لِكُلِّ نَبِيٍّ على المفعول الأوَّلِ عَدُوًّا؛ للاهتمامِ به .
- قوله: فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ أمرٌ فيه وعيدٌ وتهديدٌ لهم .
- وعَبَّرَ هنا بقَوْلِه تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، وقال بَعْدَه: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، فقال هنا بلفْظِ (الرَّب)، وبعده بلَفْظِ (الله)، وذلك لمناسبةٍ حسنةٍ؛ وهي أنَّ الأُولى جاء قَبْلَها قولُه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، فجاء فيها رَبُّكَ ليتضمَّنَ معنى أنَّ الله تعالى هو مَن يَحْجُزُهم عن مَضَرَّتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأن يَظْفَروا بمُرادِهم مِن عداوَتِه. وقولُه في الآيَةِ الأخرى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ، جاءَ بعد قولِه تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، فأخبَرَ أنَّهم أقاموا للهِ تعالى- الذي يحِقُّ إفرادُه بالعبادةِ- شركاءَ، فقال: وَلَوْ شَاءَ اللهُ، فهذا موضِعٌ لم يَلِقْ به إلَّا الاسمُ الذي يفيدُ معنًى فيه حجَّةٌ عليهم دون غيرِه من الأَسْماءِ، فأفادَ كلُّ اسمٍ من الاسْمينِ في مكانِه ما لم يكُنْ لِيُسْتفادَ بغيرِه .
وقيل: بل المناسبةُ أنَّه لَمَّا تقدَّمَ الآيةَ الأُولى قولُه تعالى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الأنعام: 111] ، فعَرَّفَ سبحانَه نبيَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بما سبَقَ لهؤلاءِ، وما قَدَّرَه عليهم في الأَزَلِ؛ حتى لا يُجدِي عليهم شيءٌ، ولا ينفَعُهم تَذكارٌ، فلَمَّا تقدَّمَ مِنَ القَدَرِ على هؤلاءِ ما يُثيرُ أشَدَّ الخوفِ؛ كان مَظِنَّةَ إشفاقٍ، فآنَسَ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ولَاطَفَه بإضافةِ اسمِ ربوبِيَّتِه سبحانَه لنبيِّه عليه السلام، مخاطبًا له؛ فقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ، ولَمَّا لم يَقَعْ قبل الآيةِ الثانيةِ مثلُ هذا، وإنَّما جاءَ قبْلَها: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 137] ، وليس هذا في اقْتِضاءِ الحَتْم عليهم المُؤْذِن بقَطْعِ الرَّجاءِ منهم؛ كقَوْلِه في الأُولى: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ .. الآية، فلذلك قال عَقِبَ هذه الآيةِ الثَّانيةِ: وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام: 137] ، فجاء باسْمِه الجليلِ تعالى مِنْ غيرِ إضافةٍ؛ إذ ليس هذا مثلَ الأَوَّل، ولو ورَدَ الاسمُ الجليلُ أوَّلًا والاسمُ الكريمُ المضافُ ثانيًا لَمَا ناسَبَ على ما تمهَّدَ .
3- قوله: وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ عُطِفَ وَلِيَرْضَوْهُ على وَلِتَصْغَى، وإنْ كان الصَّغْيُ يقتضِي الرِّضا ويُسَبِّبُه، فكان مقتضى الظَّاهِرِ أن يُعطَفَ بالفاءِ، وألَّا تُكَرَّرَ لامُ التَّعليلِ، فخولِفَ مقتضى الظَّاهِر؛ للدَّلالةِ على اسْتِقْلالِه بالتَّعليلِ، فعُطِفَ بالواوِ، وأُعيدَتِ اللامُ لتأكيدِ الاستقلالِ، فيدلُّ على أنَّ صَغْيَ أفئدَتِهم إليه ما كان يَكْفي لعمَلِهم به إلَّا لأنَّهم رَضُوه .
- قوله: وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ الاقترافُ افتِعالٌ مِنْ (قَرَفَ) إذا كَسَبَ سيئةً، وصيغةُ الافتعالِ فيه للمُبالغةِ .
- وجيءَ في صلَةِ الموصولِ في قوله: مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ بالجُمْلةِ الاسميَّةِ؛ للدَّلالةِ على تمَكُّنِهم في ذلك الاقترافِ، وثباتِهم فيه
.
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (114-117)
ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
غريب الكلمات :
الْمُمْتَرِينَ: أي: الشاكِّين، والمِرْيَة: التردُّدُ في الأمرِ، وهو أخصُّ من الشكِّ
.
يَخْرُصُونَ: يكْذِبونَ، وأصلُ (خرص): كَذَب، والخرَّاص الكذَّاب، وكُلُّ قولٍ عن ظنٍّ وتخمينٍ يُقال له: خَرْص، سواء كان ذلك مُطابقًا للشَّيءِ، أو مُخالِفًا له
.
مشكل الإعراب :
1- قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا
صِدْقًا وَعَدْلًا: صِدْقًا: منصوبٌ على التَّمييزِ، ويجوزُ أنْ يكونَ مفعولًا من أجْلِه، وأنْ يكونَ مصدرًا في موضِعِ الحالِ بمعنى: صادِقةً وعادلةً
.
2- قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ
مَنْ يَضِلُّ: فيمَنْ وجهان:
الوجه الأول: أَنَّها موصولةٌ بمعنى (الذي) في موضِعِ نصبٍ بفِعلٍ دلَّ عليه أَعْلَمُ لا بنَفْسِ أَعْلَمُ؛ لأنَّ (أَفْعَل) لا يعملُ في الاسْمِ الظَّاهِرِ النَّصْبَ، والتَّقديرُ: هو أعلمُ يَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ، أي: الضَّالِّين، ولا يجوزُ أن يكون مَنْ في موضِع جرٍّ بالإِضافةِ؛ لفسادِ المعنى؛ لأنَّ التَّقديرَ سيَصير: هو أعلمُ الضَّالِّين- تعالى اللهُ عن ذلك عُلوًّا كبيرًا. وقيل: في موضِعِ نَصْبٍ بِنَزْعِ الخافِضِ وهو الباءُ، كما دلَّ عليه وجودُ الباءِ في قوله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
والوجه الثاني: أنَّ مَنْ اسمُ استفهامٍ في موضِعِ رفعٍ مبتدأٌ، ويَضِلُّ جملةُ الخبَرِ، وموضِعُ الجملة نصْب بـ(يَعْلَمُ) المقَدَّرَة لا بِنَفْسِ أَعْلَمُ، وقرئ (مَنْ يُضِلُّ) بضمِّ الياءِ، ومَنْ أيضًا في موضع نصبٍ بـ (يَعْلَمُ) مقَدَّرَةً، أو بِنَزْعِ الخافِضِ
.
المعنى الإجمالي :
يأمرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يقولَ لأولئك المُشركينَ: أَغَيْرَ اللهِ أتَّخِذُ حاكِمًا أتحاكَمُ إليه، وهو الذي أنزلَ إليكم الكتابَ مُبَيَّنًا فيه حُكمُ ما تختصمونَ، موضَّحًا فيه العقائِدُ والأَحكامُ، وإنَّ اليهودَ والنَّصارى الَّذين أَعْطاهم اللهُ التوراةَ والإنجيلَ يعلمونَ أنَّ هذا القرآنَ مُنَزَّلٌ منه جلَّ وعلا بالحقِّ، ثمَّ نهى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم عن الشَّكِّ في القرآنِ.
وأخبر تعالى أنَّه كَمُلَت كَلِماتُه عزَّ وجلَّ صِدْقًا في جميعِ الأخبارِ، وعدلًا في جميعِ الأَحْكامِ، لا أحَدَ بإمكانِه تغييرُ كلماتِه سبحانه، وهو السَّميعُ العليمُ.
ثم وجَّه الخِطابَ إلى نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه إن أطاعَ أكثرَ أهْلِ الأَرْضِ، فإنَّهم يُضِلُّونه عن دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ، فهم لا يتَّبعونَ إلا ظُنونًا باطِلَةً، ويَكْذِبونَ على اللهِ تعالى فيقولونَ عليه ما لا يَعْلمونَ.
ثم أخبَرَه أنَّه تعالى هو أعلمُ بمن ينحَرِفُ عن الطَّريقِ الحَقِّ، وهو أعلَمُ بمن هو على هدايةٍ واستقامةٍ.
تفسير الآيات :
أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى في السِّياقِ الذي قبل هذا أنَّ الَّذين اقترحُوا على رسولِه الآياتِ الكونيَّةَ، وأقسموا بأنَّهم يؤمنونَ بها إذا جاءَتْهم؛كاذبونَ في دعواهم وأَيمانِهم، كما ثبَتَ فيما مَضَتْ به سُنَّةُ اللهِ في أمثالِهم من أعداءِ الرُّسُلِ المعانِدِينَ، وهم شياطينُ الإِنسِ والجنِّ الَّذين يُغْرُونَ الجاهلينَ بِزُخْرفِ أقوالِهم- قَفَّى على هذا البيانِ هاتينِ الآيتينِ المُبَيِّنَتينِ لآيةِ اللهِ الكُبرى التي هي أقوى دَلالةٍ على رسالةِ نَبيِّه مِن جميعِ ما اقترَحُوا، ومِمَّا لم يقترحوا من الآياتِ الكونيَّةِ، وهي القرآنُ الحكيمُ، وكَونُ مُنْزِلِها هو الذي يجِبُ الرُّجوعُ إليه في الحُكْم في أمْرِ الرِّسالةِ وغيرِه
.
أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا.
أي: قلْ- يا محمَّدُ- لأولئك المُشركينَ: أأضِلُّ عن طريقِ الحقِّ؛ فأجعلَ حاكمًا أتحاكَمُ إليه، وأتقيَّدُ بأوامِرِه ونواهِيه دونَ الله تعالى؟ كلَّا؛ فلا يكونُ ذلك، ولا ينبغي أن يُتَّخَذَ حاكمٌ، سِوى اللهِ وحْدَه لا شريكَ له، الذي له الخلْقُ والأمْرُ، والذي لا حَكَمَ أَعدَلُ منه، ولا قائِلَ أَصدَقُ منه؛ فليس لي أنْ أتجاوَزَ حُكْمَه .
وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً.
أي: وهو الذي أنزَلَ إليكم الكتابَ مبيَّنًا فيه الحُكمُ فيما تختصمونَ فيه، موضَّحًا فيه العقائدُ، والأحكامُ الشَّرعيَّة، والحقُّ والباطلُ؛ فهو الكتابُ الذي لا بَيانَ فَوقَه، ولا بُرهانَ أَجْلى منه، ولا حَكَم أحسَنُ منه .
كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] .
وقال سبحانه: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ [البقرة: 213] .
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ.
أي: واليهودُ والنَّصارى، الَّذين أَعْطَيْناهم التَّوراةَ والإنجيلَ، يعلمونَ أنَّ القرآنَ أُنْزِلَ إليك- يا محمَّدُ- مِن ربِّك متلبِّسًا بالحقِّ، فكلُّه حقٌّ وهُدًى، وماذا بعد الحقِّ إلَّا الضَّلالُ ؟
فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
أي: وما دامَ هذا القرآنُ حقًّا لا مِرْيَةَ فيه؛ فَلا تشُكَّنَّ فيه، يا محمَّدُ .
كما قال تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [يونس: 94] .
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115).
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً.
أي: وكَمُلَت كلماتُ ربِّكَ صِدْقًا في جميعِ الأخبارِ، وعَدْلًا في جميعِ الأَحْكامِ، فما في القرآنِ من أحكامٍ فهو في غايةِ العدالةِ والإنصافِ، وما فيه من الأخبارِ فهو حقٌّ مُطابِقٌ للواقِعِ؛ فلا أصدَقَ مِنْ أخبارِ الله التي أوْدَعَها هذا الكتابَ العزيزَ، ولا أَعدَلَ مِن أوامِرِه ونواهِيه .
لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ.
أي: لا أحدَ يُمكِنُه تغييرُ كلماتِ الله تعالى؛ فقد حَفِظَها وأحْكَمَها بأعلى أنواعِ الصِّدْقِ، والحقِّ؛ فلا يمكنُ تغييرُها، ولا الإتيانُ بأحْسَنَ منها .
وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
أي: وهو السَّميعُ لأقوالِ عبادِه، العليمُ بحركاتِهم وسَكَنَاتهم، الذي أحاط سَمْعُه وعِلْمُه بكلِّ شيءٍ، فيجازي كلَّ عاملٍ بعمَلِه؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ .
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا أجابَ اللهُ تعالى عن شُبُهاتِ الكُفَّارِ، وبيَّنَ صحَّةَ نبوَّة نبيِّه عليه السَّلامُ- شَرَعَ في الحثِّ على الإعراضِ عَن جَهْل الجُهَّالِ، والإقبالِ على ذي الجلالِ ، فقال تعالى:
وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ.
أي: وإنْ تُطِعْ أكثرَ أهْلِ الأرضِ- يا مُحمَّد- يَصْرِفوك ويصدُّوكَ عَن دِينِ الله عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ أكثَرَهم قد انحَرَفوا عن طريقِ الحَقِّ .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات: 71] .
وقال سبحانه: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] .
وقال عزَّ وجلَّ: المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1] .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ تعالى: يا آدمُ، فيقول: لبَّيكَ وسَعْدَيكَ، والخيرُ في يدَيكَ، فيقولُ: أَخرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قال: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قال: مِن كلِّ ألفٍ تِسعَمائةٍ وتسعةً وتسعينَ، فعنده يَشيبُ الصَّغيرُ، وتضعُ كلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها، وترى النَّاسَ سُكارَى وما هم بسُكارَى، ولكنَّ عذابَ اللهِ شديدٌ )) .
إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ.
أي: وهُم في ضَلالِهم ليسوا على يقينٍ مِن أَمْرِهم، وليس لديهم مُستنَدٌ علميٌّ يُثبِتُ صِحَّةَ طريقِهم، فغايَتُهم أنَّهم يتَّبعونَ ظُنونًا باطلةً، لا تُغني من الحَقِّ شيئًا، ويَكْذِبونَ على الله تعالى فيقولونَ عليه ما لا يَعْلَمونَ .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117).
أي: إنَّ ربَّك- يا مُحمَّدُ- أعلمُ منك ومِن جميعِ خَلْقِه، بمن ينحَرِفُ عن طريقِ الحَقِّ، فيُيَسِّرُه لذلك، وبمن يَسِيرُ على استقامةٍ وسَدادٍ، فيُيَسِّرُه لذلك
.
الفوائد التربوية :
في قَوْلِه تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ دليلٌ على أنَّه لا يُستدَلُّ على الحقِّ بكثرةِ أهْلِه، ولا تدُلُّ قلَّةُ السَّالكينَ لأَمْرٍ من الأُمورِ أن يكون غيرَ حَقٍّ، بل الواقِعُ بخلافِ ذلك؛ فإنَّ أهلَ الحقِّ هم الأقلُّونَ عددًا، الأَعْظمونَ عند الله قَدْرًا وأجْرًا، بل الواجبُ أن يُستدَلَّ على الحقِّ والباطِلِ بالطُّرقِ الموصلَةِ إليه
.
الفوائد العلمية واللطائف :
1- قولُ اللهِ تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا أي: إنَّ الكتابَ الحاكِمَ مُفصَّلٌ بَيِّنٌ؛ ففيه ردٌّ على من يَزْعُم أنَّ نُصوصَ الكتابِ لها معانٍ لا تُفهَم، ولا يُعْلَمُ المرادُ منها، أو أنَّ لها تأويلاتٍ باطنةً خِلافَ ما دلَّت عليه ظواهِرُها
.
2- قولُه تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يدلُّ على أنَّ أكثَرَ أهلِ الأرضِ كانوا ضُلَّالًا؛ لأنَّ الإِضْلالَ لا بدَّ أن يكون مَسْبوقًا بالضَّلالِ
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُو الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا الاستفهامُ معناه الإنكارُ والنَّفيُ، أي: لا أبتغِي حَكَمًا غيرَ اللهِ
.
- وقوله: وَهُو الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا جملةٌ حاليَّةٌ مؤكِّدةٌ لإنكارِ ابتغاءِ غيرِه تعالى حَكَمًا، ونسبةُ الإنزالِ إليهم خاصَّةً مع أنَّ مقتضى المقامِ إظهارُ تَساوِي نِسْبَتِه إلى المُتَحاكِمينَ؛ لاستمالَتِهم نحْوَ الْمُنْزَلِ، واستنزالِهم إلى قَبولِ حُكْمِه بإيهامِ قُوَّةِ نِسْبَتِه إليهم .
2- قوله: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ كلامٌ مستأنَفٌ مَسُوقٌ مِن جِهَتِه سبحانه؛ لتحقيقِ حَقِّيَّةِ الكتابِ الذي نِيطَ به أمرُ الحَكَميَّة .
- وفي التعبيرِ عن التَّوراةِ والإنجيلِ باسْمِ الكِتَاب إيماءٌ إلى ما بينهما وبينَ القرآنِ مِن المجانَسَة المقتضِيَة للاشتراكِ في الحقِّيَّة، والنُّزولِ مِن عِندِه تعالى، مع ما فيه من الإيجازِ .
- وقوله: مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ فيه التَّعرُّضُ لعنوانِ الربوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضميرِه صلَّى الله عليه وسلَّم فيرَبِّكَ؛ لتشريفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ .
- قوله: فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ يحتملُ أن يكونَ المخاطَبُ الرَّسولَ عليه الصَّلاة والسَّلام، والمقصودُ من الكلامِ المشركونَ الْمُمْتَرون، على طريقة التَّعريضِ، كما يُقال: (إيَّاكِ أعني، واسْمَعي يا جارةُ)، ويحتَملُ أن يكون خِطابًا لغَيْرِ مُعَيَّن؛ ليعُمَّ كلَّ مَن يحتاجُ إلى مِثْلِ هذا الخطابِ؛ أي فلا تكونَنَّ- أيُّها السَّامِعُ- مِنَ المُمْتَرينَ .
3- قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ فيه إظهارٌ في مَوْضِعِ الإضمارِ- حيث قال رَبِّكَ ولم يقل (كَلِمَتُه)؛ لتذكيرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما له سبحانَه من الإحسانِ، والتَّنبيهِ على ما يريدُ به من التَّشْريفِ والإِكرامِ .
- قوله: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ استئنافٌ مُبَيِّنٌ لفَضْلِ كَلِماتِه على غيرِها، إثْرَ بيانِ فَضْلِها في نَفْسِها .
- قوله: وَهُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تذييلٌ لجملة: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، أي: وهو المطَّلِعُ على الأقوالِ، العليمُ بما في الضَّمائِرِ ، وفيه: تعريضٌ بالوعيدِ لِمَن يسعى لتبديلِ كلماتِه .
4- قوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ فيه: تمثيلٌ لحالِ الدَّاعي إلى الكُفْرِ والفسادِ مَن يقبَلُ قولَه، بحالِ مَن يُضِلُّ مستهدِيَه إلى الطَّريقِ، فينعَتُ له طريقًا غيرَ الطَّريقِ المُوصِلَة، وهو تمثيلٌ قابِلٌ لتوزيعِ التشبيهِ: بأنْ يُشَبَّه كلُّ جزءٍ مِن أجزاءِ الهيئةِ المشبَّهةِ بجزءٍ من أجزاءِ الهيئةِ المشَبَّهِ بها، وذلِك أكملُ التَّمثيلِ وأعلاه في البلاغةِ العربيَّة .
- قوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ استئنافٌ بيانيٌّ نَشَأَ عن قوله: يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ؛ فبيَّن سببَ ضلالِهم: أنَّهم اتَّبَعوا الشُّبهةَ مِن غيرِ تأمُّلٍ في مفاسِدِها .
5- قولُه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يتضَمَّنُ الوعيدَ والوَعْدَ؛ لأنَّ كَونَه تعالى عالِمًا بالضَّالِّ والمهْتدي كنايةٌ عن مُجازاتِهما .
- والآيةُ تعليلٌ لقوله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ؛ لأنَّ مضمونَه التَّحذيرُ من نَزَغاتِهم، وتوقُّعُ التَّضليلِ منهم، وهو يقتضي أنَّ المسلمينَ يريدونَ الاهتداءَ، فلْيَجْتَنِبوا الضَّالِّينَ، ولْيَهْتَدوا باللهِ الذي يَهديهم .
- قوله: إنَّ رَبَّكَ فيه تعريفُ المُسنَد إليه بالإضافةِ؛ لتشريفِ المضافِ إليه، وإظهارِ أنَّ هَدْيَ الرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام هو الهُدَى، وأنَّ الَّذين أخبَرَ عنهم بأنَّهم مُضِلُّون لا حَظَّ لهم في الهُدى؛ لأنَّهم لم يتَّخِذوا اللهَ ربًّا لهم .
- وقوله: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ تذييلٌ لجميعِ تلك الأغراضِ التي اشتَمَلَت عليها الآياتُ المتقَدِّمةُ مِن بيانِ ضلالِ الضَّالينَ، وهُدى المُهْتدينَ .
- والضَّمير (هو) في قوله: هُوَ أَعْلَمُ ضميرُ الفَصْلِ؛ لإفادَةِ قَصْرِ المُسنَد أعلم على المُسنَد إليه رَبَّكَ، فالأَعْلَمِيَّة بالضَّالِّينَ والمُهتدينَ مقصورةٌ على اللهِ تعالى، لا يُشارِكُه فيها غيرُه .
- قال الله تعالى هنا: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالمضارع في (يَضِلُّ)، وقال في سورة القَلَم: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم: 7] ، بالماضي، وذلك لمناسَبةٍ حَسَنةٍ؛ فقولُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ معناه: اللهُ أَعْلَمُ أيُّ المأمورينَ يَضِلُّ عن سبيله، وهذا المعنى يَقْتَضيه ما تقدَّمَ هذه الآيةَ وما جاء بَعْدَها من إتيانِ الفِعْلِ بصيغَةِ الاستقبالِ؛ فالذي قَبْلَها: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116] ، والذي بَعْدَها وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [الأنعام: 119] .
وأمَّا قَوْلُه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ فمعناه: اللهُ أَعْلَمُ بأحوالِ مَنْ ضَلَّ، كيف كان ابتداءُ ضلالِه وما يكون مِن مآلِه، أَيُصِرُّ على باطِلِه، أم يَرْجِعُ عنه إلى حَقِّه، وقَبْلَها: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [القلم: 5-6] فناسب الفعل الماضي .
- وقال اللهُ تعالى هنا: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّبِسُقوطِ الباءِ، وقال في سورة النَّحل والنَّجْم والقَلَم: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ [النحل: 125، النجم: 30، القلم: 7] بإثباتِ الباءِ في بِمَنْ، وذلك لمناسبةٍ حسنةٍ؛ هي أنَّ سُقوطَ الباءِ الداخلةِ على (من) في آيَةِ الأنعامِ؛ لاستثقالِ زيادتها مع الزِّيادةِ اللَّازمةِ للمضارع مع التَّقاربِ إيثارًا للإيجازِ، أمَّا في المواضع الثلاثة فلا زيادةَ في الفعلِ لِكَونه ماضيًا، فزِيدَ باءُ التأكيدِ الداخلةِ على (من)
.
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (118-121)
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ
غريب الكلمات :
لَيُوحُونَ: أي: ليُلْقُونَ بالوَسْوَسَةِ، أو: لَيُوَسْوِسونَ، أو يَقْذِفونَ في قُلوبِهم، وأصْلُ الوَحْيِ: يَدلُّ على إلْقاءِ عِلمٍ في خفاءٍ، وكلُّ ما أَلْقَيْتَه إلى غيرِك حتَّى عَلِمَه، فهو وحيٌ كيفَ كانَ
.
مشكل الإعراب :
قوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ: (إنَّ) وما دخلتْ عليه جملةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ، جوابُ قَسَمٍ مُقَدَّر وطَّأَتْ له لامُ قَسَمٍ محذوفةٌ قبل (إنْ) على تقديرِ (إنْ) بـ (لَئِنْ)، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ دلَّ عليه جوابُ القَسَمِ، ولا يجوزُ أن تكونَ الجُمْلَةُ الاسميَّةُ جَوابَ الشَّرْطِ على إضْمارِ الفاءِ؛ لأنَّ ذلِكَ خاصٌّ بالشِّعرِ، وقيل غيرُ ذلك
.
المعنى الإجمالي :
يأمُرُ اللهُ عبادَه أن يأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليهِ إن كانوا بحُجَجِه وأدِلَّتِه مؤمنينَ.
وما الذي يمنَعُهم أن يأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه، وقد أوضَحَ لهم تعالى ما حَرَّمَ عليهم أكْلَه إلَّا ما اضطُرُّوا إليه، وأخبر تعالى أنَّ كثيرًا يَضِلُّون ويُضِلُّون أتباعَهم، بغيرِ حُجَّةٍ ولا بُرهانٍ. وإنَّ الله تعالى هو أعلمُ بالمعتدينَ.
ثم يأمُرُ اللهُ تعالى عبادَه أن يَجْتَنبوا جميعَ المعاصي، فلا يَقْتَرفوها في السِّرِّ ولا في العَلَن، مُخبرًا تعالى أنَّ الذي يُخالِفُ هذا الأمرَ، ويكتسِبُ الإثمَ؛ فإنَّه سَيُجازيه بما اقتَرَف مِنَ المعاصي.
ثم ينهَى عبادَه عن الأكلِ مِمَّا لم يُذْكَرْ عليه اسْمُه؛ فإنَّ أكلَه خروجٌ عن الطَّاعةِ، ويُبَيِّنُ تعالى أنَّ الشَّياطينَ يُوَسْوِسونَ إلى أوليائِهم من المشركينَ بالشُّبُهاتِ؛ ليُجادِلوا المؤمنينَ، وأن المؤمنينَ إنْ أَطاعوهم في أكْلِ المَيْتَةِ وما حَرَّم اللهُ عليهم مُستحِلِّينَ ذلك، فإنَّهم سَيَصِيرونَ مِثْلَهم مُشْركينَ.
تفسير الآيات :
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (120) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121).
سببُ النُّزولِ:
عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: (أتى ناسٌ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، أنأكُلُ ما نَقْتُلُ، ولا نأكُلُ ما يَقتُلُ اللهُ؟ فأنزَلَ اللهُ: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ إلى قوله: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)
.
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى لرسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ أكثرَ أهلِ الأَرْضِ يُضِلُّونَ مَن أطاعَهم لأنَّهم ضالُّونَ خَرَّاصون؛ يُحَرِّمونَ الحلالَ، ويُحِلُّون الحرامَ، وأنَّه هو أعلَمُ بالضَّالينَ والمُهتدِينَ- رتَّبَ على ذلك أمْرَ أَتْباعِ هذا الرَّسولِ بمخالفَةِ الضَّالينَ مِن قَومِهم وغيرِ قَومِهم في مسألَةِ الذَّبائحِ، وبِتَرْكِ جميعِ الآثامِ ، فقال تعالى:
فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118).
أي: فَكُلوا- أيُّها المؤمنونَ- من الذَّبائحِ التي ذُكِرَ اسمُ الله عزَّ وجلَّ عليها مِن بهيمةِ الأَنْعامِ، وغيرِها من الحيواناتِ الْمُحَلَّلِ أكلُها، إنْ كُنتم بحُجَجِ الله وأدِلَّتِه التي أتَتْكُم مؤمنينَ، ولأَحْكامِه مُنقادينَ .
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119).
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ.
أي: وأيُّ شيءٍ يَمنَعُكم أن تَأْكُلوا مِمَّا ذُكرَ اسمُ الله عليه، وقد أوْضَحَ اللهُ تعالى لكم ما يَحْرُم أكْلُه، فلم يَبْقَ في ذلك إشكالٌ ولا لَبْسٌ، ولكِنْ يُباحُ لكم تناوُلُ الحرامِ في الحالِ التي تُضْطَرُّونَ فيها إلى ذلك .
وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:
في قَوْلِه تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ قراءتان:
1- قراءة لَيُضِلُّونَ من الإِضْلالِ، أي: يُضِلُّونَ غَيرَهم ، فهو من المتعدِّي (أضَلَّ).
2- قراءة لَيَضِلُّونَ- بِفَتْحِ اليَاءِ- بمعنى: أنَّهم يَضِلُّونَ في أنفُسِهم عن الحَقِّ ، فهو من اللازمِ (ضَلَّ).
وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
أي: وإنَّ كثيرًا من النَّاسِ يَحْرِفُون أنفُسَهم وأَتباعَهم عن طريقِ الحَقِّ، بسببِ اتِّباعِ ما تهوَى أنفُسُهم من الباطِلِ، بغيرِ حُجَّةٍ منهم، ولا بُرهانٍ على صِحَّةِ ما يدَّعونَ .
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ.
أي: إنَّ ربَّك- يا محمَّد- الذي أحلَّ لك ما أحَلَّ، وحَرَّمَ عليكَ ما حَرَّمَ، هو أعلمُ بِمَن تعدَّوْا حُدودَه، فتَجاوَزُوا الحلالَ إلى الحرامِ، وهو لهم بالمِرصادِ، ولن يُفْلِتوا مِن عِقابِه .
وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (120).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّه فصَّلَ المُحَرَّمات؛ أتْبَعَه بما يَجِبُ تَرْكُه بالكلِّيَّة؛ فقال :
وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ.
أي: دَعُوا- أيُّها النَّاسُ- جميعَ المعاصي؛ فلا تَرتَكِبوها في السِّرِّ ولا في العَلانِية، ولا تَقْتَرِفوها بِجَوارِحِكم ولا بِقُلوبِكم .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 33] .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ.
أي: إنَّ الَّذين يَعملونَ بما نهاهم اللهُ عنه، ظاهرًا كان أو خفِيًّا؛ فإنَّ اللهَ سيُجازِيهم عليه، على قَدْرِ ذُنُوبهم .
وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ بأكْلِ ما سُمِّيَ اللهُ عليه، وكان مفهومُه أنَّه لا يُؤْكَلُ مِمَّا لم يُذْكَرِ اسمُ اللهِ عليه؛ أكَّدَ هذا المفهومَ بالنَّصِّ عليه ، فقال:
وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ.
أي: ولا تأكُلوا- أيُّها المؤمنونَ- مِمَّا لم يُذبَحْ على اسْمِ الله تعالى؛ فإنَّ أكْلَ ذلك خروجٌ عن الحقِّ وطاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ.
أي: إنَّ الشَّياطينَ يُوَسْوِسون إلى المشركينَ؛ لِيُجادِلوكم- أيُّها المؤمنونَ- بِشُبَهٍ سَقيمةٍ وآراءٍ عَقيمةٍ؛ يريدونَ بها دَفْعَ الحقِّ، وإقناعَكم بالباطِلِ، ومِنْ ذلك المجادلةُ في تحريمِ أكْلِ المَيْتَة كَقَولهم: أتأكُلونَ ما قَتَلْتم، ولا تأكلونَ ما قَتَلَ اللهُ- يَعْنون: الْمَيْتَةَ- فَيَكُون ما ذَبَحْتموه إذَن حلالًا، وما ذَبَحَه اللهُ حرامًا؟! فأنتم إذَنْ أحسَنُ مِنَ الله ِتعالى !
عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، إِنَّ الشَّياطين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ قالَ: (كانوا يقولونَ: ما ذُكِرَ عليه اسمُ اللَّهِ، فلا تَأكُلوا، وما لم يُذكَرِ اسمُ اللَّهِ عليه، فَكُلوه، فقالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) .
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
أي: وإنْ أَطَعْتُموهم في استحلال أكْلِ المَيْتَةِ وما حَرَّمَ عليكم ربُّكم؛ فقد صِرْتُم مِثْلَهم مُشركينَ
.
الفوائد التربوية :
1- في قولِه تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ بيانُ أنَّه مِن علاماتِ المؤمِنِ مخالَفةُ أهلِ الجاهليَّةِ؛ في عادَتِهم الذَّميمَةِ، المتضَمِّنةِ لتَغييرِ شَرْعِ اللهِ، وتحريمِ كثيرٍ مِن الحلالِ
.
2- قولُه تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فيه تحذيرُ العبدِ مِن أمثالِ هؤلاءِ؛ وعلامَتُهم- كما وصفهم اللهُ لعباده- أنَّ دَعْوَتَهم غيرُ مَبنِيَّةٍ على بُرهانٍ، ولا لهم حُجَّةٌ شرعيَّةٌ، وإنَّما يُوجَدُ لهم شُبَهٌ بِحَسَب أهوائِهم الفاسدَةِ، وآرائِهم القاصِرَة، فهؤلاءِ مُعْتَدونَ على شَرْعِ اللهِ وعلى عبادِ الله، واللهُ لا يُحِبُّ المُعْتدينَ .
3- قولُ اللهِ تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ هذه الجملةُ مِنْ جوامِعِ الكَلِم، والأُصولِ الكليَّةِ في تحريمِ الآثامِ؛ حتى قيل: إنَّ المرادَ بهذا التعبيرِ تَرْكُ الإثمِ مِن جميعِ جِهاتِه؛ أي: جميع أنواعِ الظُّهورِ والبُطونِ فيه
.
الفوائد العلمية واللطائف :
1- قولُه تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فيه النَّهيُ عن أكْلِ المَيْتة ونحوِها؛ مِمَّا لم تُقصَد ذَكاتُه؛ لأنَّ ذِكْرَ اسْمِ الله أو اسْمِ غيره إنَّما يكونُ عند إرادةِ ذَبْحِ الحيوانِ، كما هو معروفٌ لديهم، فدَلَّ هذا على تعيينِ أكْلِ ما ذُكِّيَ دون المَيْتَةِ
.
2- قولُ اللهِ تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يدلُّ على أنَّ الأصلَ في جميعِ الأعيانِ الموجودةِ على اختلافِ أصنافِها، وتبايُنِ أوصافِها، أنْ تكونَ حلالًا مُطلَقًا للآدميِّينَ، وأنْ تكونَ طاهرةً لا يَحْرُم عليهم مُلابَسَتُها ومُباشَرَتُها ومُماسَّتُها، وقد دلَّتْ الآيةُ على ذلك مِن وجهينِ: أحدُهما: أنَّه تعالى وَبَّخَهم وعنَّفَهم على تَرْكِ الأكلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ الله عليه قبل أن يُحِلَّه باسْمِه الخاصِّ، فلو لم تَكُنِ الأشياءُ مُطلقةً مُباحةً لم يَلْحَقْهم ذمٌّ ولا توبيخٌ؛ إذ لو كان حُكْمُها مجهولًا أو كانت محظورةً لم يكن ذلك. الوجه الثاني: أنَّه قال: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ والتَّفصيلُ: التَّبيينُ، فبَيَّنَ أنَّه بَيَّنَ المُحَرَّماتِ؛ فما لم يُبَيَّنْ تحريمُه فليس بمُحَرَّمٍ، وما ليس بمُحَرَّمٍ فهو حلالٌ؛ إذ ليس إلَّا حلالٌ أو حرامٌ .
3- فرَّقَت الشَّريعةُ بين ما يُذْكَر اسمُ اللهِ عليه، وما لا يُذْكَرُ اسمُ الله عليه، كما في قول اللهِ تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وقوله: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، ممَّا يدلُّ على أنَّ نَفْسَ أسمائِه تعالى مُباركةٌ، وبَرَكَتُها مِن جِهَةِ دَلالَتِها على المُسَمَّى .
4- قولُ اللهِ تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ يُرْشِدُنا إلى يُسْرِ الشَّريعةِ الإسلاميَّة؛ فمتى وَقَعَت الضرورةُ- بأنْ لم يوجَدْ مِنَ الطَّعامِ عند شدَّةِ الجوعِ إلَّا المحرَّمُ- زالَ التحريمُ .
5- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ استنبَطَ بعضُهم منه تحريمَ القولِ في الدِّينِ بمجرَّدِ التَّقليدِ، وعصبيَّة المذاهِبِ؛ لأنَّ القولَ في الدِّينِ بمجَرَّدِ التقليدِ قولٌ بمَحْضِ الهَوى والشَّهوةِ، والآيةُ دلَّتْ على أنَّ ذلك حرامٌ .
6- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ جَعَلَ الأَكْلَ منه نفسَ الفِسْقِ- وهو الخروجُ عمَّا ينبغي إلى ما لا ينبغي-؛ لأنَّه عريقٌ جدًّا في كَوْنِه سَبَبَه؛ لِمَا تأصَّلَ عند المشركينَ مِن أَمْرِه، وانتشَرَ مِن شَرِّه .
7- دلَّ قوله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطين لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ على أنَّ ما يقَعُ في القلوبِ من الإِلْهاماتِ والكُشُوف- التي يكثُرُ ادِّعاؤُها عند المنتسبين إلى التصوُّف ونحوِهم- لا تدلُّ بمُجَرَّدِها على أنَّها حقٌّ، ولا تُصَدَّقُ حتى تُعْرَضَ على كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم .
8- قولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ، فيه دليلٌ على أنَّ كلَّ مَن أحَلَّ شيئًا ممَّا حرَّمَ اللهُ، أو حَرَّم شيئًا ممَّا أحلَّ اللهُ؛ فهو مُشْرِكٌ .
9- قولُه تعالى: إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ حُجَّةٌ على أنَّ الإيمانَ اسمٌ لجميعِ الطَّاعاتِ، مثلما جعل الله تعالى الشِّرْكَ اسمًا لكُلِّ ما كان مُخالِفًا له سبحانه، بدليلِ أنَّه تعالى سَمَّى طاعةَ المؤمنينَ للمُشركينَ في إباحَةِ المَيْتَةِ شِرْكًا
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ التعبيرُ بحرفِ (على) يدلُّ على شدَّةِ اتِّصالِ فِعلِ الذِّكرِ بذاتِ الذَّبيحةِ
.
- قوله: إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ تقييدٌ للاقتصارِ المفهومِ مِن فِعْل الإباحةِ، وتعليقِ المجرورِ به في قولِه: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وهو تحريضٌ على التزامِ ذلك، وعدمِ التَّساهُلِ فيه، حتى جُعِلَ من علاماتِ كَوْنِ فاعِلِه مؤمِنًا، وذلك حيث كان شعارُ أهلِ الشِّرْك ذِكْرَ اسْمِ غيرِ اللهِ على مُعْظَمِ الذَّبائحِ .
2- قوله: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الاستفهامُ يتضمَّنُ الإنكارَ على من امتَنَعَ من ذلك؛ أي: لا شيءَ يَمْنَعُ من ذلك ، وهو مستعملٌ في معنى النَّفْي: أي لا يثبُتُ لكم عدَمُ الأكلِ مِمَّا ذُكِرَ اسمُ الله عليه؛ أي: كُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللهِ عليه .
- وفيه: تعريضٌ؛ حيث أعرَضَ عن محاجَّةِ المُشركينَ؛ لأنَّ الخطابَ مَسوقٌ إلى المسلمينَ لإبطالِ مُحاجَّةِ المُشركينَ؛ فآلَ إلى الرَّدِّ على المشركينَ بطريقِ التَّعريضِ .
3- قوله: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ جملةٌ حاليَّةٌ مؤكِّدةٌ للإنكارِ .
4- قوله: إِنَّ رَبَّكَ هو أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ تذييلٌ؛ فالإخبارُ بعلْمِ اللهِ بهم كنايةٌ عَن أخْذِه إيَّاهم بالعُقوبةِ، وأنَّه لا يُفْلِتُهم، لأنَّ كَونَه عالِمًا بهم لا يُحتَاجُ إلى الإخبارِ به .
5- قولُه تعالى: سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ فيه وعيدٌ وتهديدٌ للعُصاة .
- وفيه أنَّهم كانوا يُبالِغونَ في إِفْسادِ فِطْرَتِهم، وتَدْسِيَةِ أنفُسِهم؛ بالإصرارِ عليه، ومُعاوَدَتِه المرَّةَ بعد المرَّةِ، كما يدلُّ عليه فِعْلُ الكَونِ، وصيغةُ المضارعِ الدَّالَّةِ على الاستمرارِ .
- صيغةُ الافتعالِ في يَقْتَرِفُونَ تدلُّ على أنَّ أفعالَ الشَّرِّ إنَّما تكون بمعالجةٍ من النَّفسِ للفِطرةِ الأُولى السَّليمةِ .
6- قولُه تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ هذه الجملةُ إخبارٌ يتضَمَّنُ الوعيدَ لِمَن أطاعَ المُشركينَ من المؤمنينَ
.=====
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (122-127)
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ
غريب الكلمات :
أَكَابِرَ: أي: عُظَمَاءَ ورؤساءَ، وأصلُ (كبر): يدلُّ على خِلافِ الصِّغَر
.
مُجْرِمِيهَا: مُذْنِبيها أو كَافِريها، والجُرم- بِالضَّمِّ-: لَا يُطلَقُ إِلَّا على الذَّنْبِ الغَليظِ، وأَصلُ (جرم): القطْعُ .
لِيَمْكُرُوا: أي: ليَصْرِفوا الغيرَ عمَّا يقصِدُه- عن دِين اللَّه وأنبيائِه- بِحِيلةٍ؛ بغرورٍ من القولِ، أو بباطلٍ من الفِعل، وأصل المَكْر: الاحتِيالُ والخِداعُ .
صَغَارٌ: ذُلٌّ وحَقارةٌ، والصَّغارُ أشدُّ الذُّلِّ؛ يقال: فلانٌ صغيرٌ باعتبارِ السِّنِّ، وتارةً باعتبارِ الجُثَّة، وتارةً باعتبارِ القَدْرِ والمنزِلَة؛ يقال: صَغُر صِغَرًا: إذا كان ضِدَّ الكِبَر، وصَغِرَ صَغَارًا: إذا هان قدْرُه وذَلَّ، وأَصل (صغر): يدُلُّ على قِلَّةٍ وحَقارَةٍ .
يَشْرَحْ صَدْرَهُ: أي: يَفْتَحْه ويُفْسِحْه، أو يُوَسِّعْه بِالبَيانِ، وشَرْحُ الصَّدْرِ: توسِعتُه لقَبولِ الحقِّ، وبسْطُه بنورٍ إلهيٍّ وسكينةٍ من جِهَةِ اللهِ ورُوحٍ منه، وأصل الشَّرْحِ: يدلُّ على بَسْطِ اللَّحْم، وعلى الفَتحِ والبَيانِ .
حَرَجًا: الحَرَج: أشدُّ الضِّيقِ، وأصْلُ (حرج): تجمُّع الشَّيءِ وضِيقُه، ومنه الحَرَج جمْعُ حَرَجة: وهي الشجرةُ الملتَفُّ بها الأشجارُ، لا يدخلُ بينها وبينها شيءٌ؛ لشِدَّةِ التفافِها بها .
يَصَّعَّدُ: أي: يَتَصَعَّدُ معَ مَشَقَّةٍ، والصُّعُودُ: هو الذَّهابُ إلى الأمكِنَةِ المرتفِعَةِ، وأَصْلُ (صعد) يدُلُّ على ارْتِفاعٍ وَمَشَقَّةٍ .
الرِّجْسَ: أي: العذابَ، ويُطلَق أيضًا على: القَذَر المُنتِن، وأَصْلُ (رجس): يَدُلُّ على اختِلاطٍ
.
مشكل الإعراب :
قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ
اللَّهُ أَعْلَمُ: مبتدأٌ وخبرٌ، وحَيْثُ خرجتْ عنِ الظرفيَّة، وصارتْ مفعولًا به على السَّعةِ، وعامِلُها فِعلٌ يدلُّ عليه أَعْلَمُ، وليس العامِلُ أَعْلَمُ؛ لأنَّ (أفعل) لا ينْصِبُ المفعولَ به، والتقديرُ: يعلمُ الموضعَ الصَّالِحَ لوَضْعِ رِسالتِه، ولا يصحُّ هنا أن تكونَ حَيْثُ ظرفًا؛ لفسادِ المعنى؛ لأنَّه تعالى لا يكونُ في مكانٍ أعلمَ منه في مكانٍ آخَرَ
.
المعنى الإجمالي :
يقول الله تعالى: هل يستوي مَن كان كافرًا هالكًا حائِرًا في الضَّلالةِ، فهَداه اللهُ للإسلامِ، وأحْيَا قَلْبَه بالإيمانِ، وجعَلَ له نورًا يمشي به في النَّاسِ؛ ومن كان في ظُلماتِ الكُفْرِ ليس بخارجٍ منها؟
وكما حُسِّن لهؤلاءِ الكفَّارِ- الَّذين يجادلونَ المؤمنينَ في أكلِ ما حرَّم الله تعالى عليهم- سوءُ أعمالِهم، كذلك حُسِّن لِمَنْ كان على مِثْلِ ما هم عليه- مِن الكُفر باللهِ وآياتِه- ما كانوا يعتقدونَه ويَعْمَلونَه من الضَّلال.
وكذلك جَعَلَ اللهُ في كلِّ قريةٍ رُؤساءَ مُجرمينَ؛ ليَمْكُروا فيها بدُعاءِ النَّاسِ إلى الكُفرِ والضَّلالةِ، وبِصَدِّهم عن سبيلِ الله، لكنَّهم بِمَكْرِهم ذلك لا يَمكُرونَ إلَّا بأنفُسِهم، وما يشعرونَ.
وإذا جاءت هؤلاءِ المجرمينَ حُجَّةٌ قاطعةٌ من الله على صحَّةِ ما جاءَهم به محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ قالوا: لن نؤمِنَ حتى نُعطَى مِثلَ ما أُعطِيَ رُسُلُ اللهِ؛ من الرِّسالةِ والوَحيِ والمُعجزاتِ، فبيَّنَ اللهُ أنَّه أعلَمُ بمَوْضِعِ رِسالَتِه، ومن يَصْلُحُ أن يتحَمَّلَها ويقومَ بها، وأخبَرَ أنَّه سينالُ الَّذين أجرموا ذِلَّةٌ وهوانٌ عند الله، وسيُعَذَّبونَ عذابًا شديدًا؛ جزاءً لِكَيْدِهم للإسلامِ وأهْلِه.
ويُخبِر تعالى أنَّه من أراد أنْ يَهْدِيَه يشْرَحْ صدْرَه للإسلامِ، ومن أراد أنْ يُضِلَّه يجعَلْ صَدْرَه ضيِّقًا لا ينْفُذُ إليه نورُ الإيمانِ؛ مَثَلُه في هذه الحال كمَثَلِ من تكَلَّفَ الصُّعودَ في السَّماءِ، وعَجَزَ عن ذلك؛ لأنَّه ليس في وُسْعِه، ولا حيلةَ له فيه، وكما يجعلُ الله تعالى صَدْرَه ضيِّقًا حَرجًا، كذلك يسلِّط اللهُ عزَّ وجلَّ الشَّيطانَ عليه وعلى أمثاله؛ ممَّن أبى الإيمانَ باللهِ ورسولِه؛ فيُضِلُّه.
ثم خاطَبَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ ما بيَّنَه له في هذه السُّورةِ وغيرِها مِن سُوَرِ القرآنِ هو طريقُه جلَّ وعلا الذي ارتضاه ليكونَ دِينَه، وجَعَلَه مُستقيمًا؛ قد فصَّلَ الآياتِ والحُجَجَ على صحَّةِ ذلك لقومٍ يَذَّكَّرون. ولهؤلاءِ القَومِ دارُ السَّلامِ عند ربِّهم، وهي الجنَّة؛ إذ هي سالِمَةٌ مِن كلِّ عيبٍ وآفةٍ ومُنَغِّصٍ، وهو سبحانه ولِيُّهم بما كانوا يعملونَ.
تفسير الآيات :
أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّه جاء في الآياتِ التي قَبْلها أنَّ أكثَرَ أهلِ الأرضِ ضالُّونَ مُتَّبِعونَ للظَّنِّ، وأنَّ كثيرًا منهم يُضِلُّون غيرَهم بأهوائِهم بغيرِ عِلمٍ، وأنَّ الشَّياطينَ المتمَرِّدينَ العاتينَ عن أمرِ ربِّهم يُوحونَ إلى أوليائِهم ما يُجادلونَ به المؤمنينَ؛ لِيُضِلُّوهم، ويَحمِلوهم على اقترافِ الآثامِ التي نَهَت تلك الآياتُ عن ظاهِرِها وباطِنِها، بل لِيَحْمِلوهم على الشِّرْكِ أيضًا بالذَّبْحِ لغيرِ الله تعالى، فلَمَّا بيَّنَ الله تعالى ما ذكرَ؛ ضَرَبَ له مثلًا يتبيَّنُ به الفَرْقُ بين المؤمنينَ المهتدينَ؛ للاقتداءِ بهم، والكافرينَ الضَّالينَ؛ للتَّنفيرِ من طاعَتِهم، والحَذَرِ من غَوايَتِهم، وبيَّنَ أنَّ سَبَبَه ما زُيِّنَ للكافرينَ مِن أعمالِهم؛ فلم يُمَيِّزوا بين النُّورِ والظُّلماتِ، فقال
:
أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ.
أي: هل مَن كان كافرًا هالكًا، حائرًا في الضَّلالةِ، فهَدَيناه للإسلامِ، وأحْيَيْنا قَلْبَه بالإيمانِ، واتِّباعِ القرآنِ، فصار يرى الحَقَّ والباطِلَ، والنَّفْعَ والضُّرَّ، وصار يمشي بين النَّاسِ في النُّورِ، متبِّصرًا في أمورِه، مهتديًا لسَبيلِه .
كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] .
كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.
أي: أفَيَسْتوي مَن أحْيَيْناه بنورِ الإيمانِ والقرآنِ بمن هو في ظُلُماتِ الكُفرِ؛ مترددًا لا يعرِفُ المَخْرَج منها، قد التبَسَتْ عليه الطُّرُق، وأظلَمَت عليه المسالِكُ، فحَضَره الهَمُّ والغمُّ والحَزَن والشَّقاء، فلا يدري كيف يتوجَّه؟ وأيَّ طريقٍ يأخُذُ؛ لشدَّةِ ظُلمةِ اللَّيلِ، وإضلالِه الطَّريقَ .
كما قال تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] .
كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لمَّا قال اللهُ تعالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كأنَّه قِيل: فكيفَ يُؤثِرُ مَن له أدنَى مُسكةٍ مِن عقلٍ، أن يكونَ بهذه الحالةِ، وأن يبقَى في الظُّلماتِ متحيِّرًا: فأجاب بقولِه:
كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أي: كما حُسِّن لهؤلاءِ الكفَّارِ- الَّذين يجادلونَكم أيُّها المؤمنونَ في أكلِ ما حرَّمتُ عليكم- كما حُسِّن لهم سوءُ أعمالِهم، كذلك حُسِّن لِغَيْرهم ممَّن كان على مِثْلِ ما هم عليه مِن الكُفر باللهِ وآياتِه، ما كانوا يعتقدونَ، ويَعْمَلون من ضَلالاتٍ، وذلك حكمةٌ من الله بالغةٌ .
كما قال تعالى: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 43] .
وقال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة: 37] .
وقال سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 63] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر: 8] .
وقال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد: 14] .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا.
أي: وكذلك صَيَّرْنا في كلِّ قريةٍ عُظماءَ ورُؤساءَ مِن المجرمينَ فيها؛ ليمْكُروا فيها، بِدُعائِهم النَّاسَ إلى الكُفْرِ والضَّلالة، وقيامِهم بصَدِّهم عن سبيلِ الله تعالى .
قال سبحانه: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء: 16] .
وقال تعالى: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين [سبأ: 32 - 35] .
وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.
أي: ما يحيقُ وَبالُ مَكْرِهم ذلك ويعود إلَّا على أنفُسِهم، وهم لا يَدْرونَ أنَّهم يَمْكُرون بها، ولا يدرونَ ما أعدَّ الله تعالى لهم من العذابِ؛ جزاءً لذلك .
وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ (124) .
أي: وإذا جاءَتْ هؤلاءِ المجرمينَ حُجَّةٌ قاطعةٌ مِن الله، على صِحَّةِ ما جاءهم به محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، قالوا: لن نؤمِنَ بما دعانا إليه محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم من الإيمانِ به، وبما جاء به مِنْ تحريمِ ما ذَكَر أنَّ اللهَ حرَّمَه علينا؛ حتى تأتِيَنا الملائكةُ من الله بالرِّسالة، فيُوحَى إلينا كما يُوحَى إلى الرُّسُلِ، ونُعطَى من المعجزاتِ مِثْلَهم .
اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ.
أي: فالله عزَّ وجلَّ أعلَمُ بموضِعِ رسالَتِه، ومن يَصْلُحُ لها، ويقومُ بأعبائِها .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 31-32] .
سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ.
أي: سَيَنالُ الذين اكتَسَبوا الإثمَ- بشِرْكِهم باللهِ، وعبادتِهم غيرَه- ذِلَّةٌ وهوانٌ عند الله، ولهم عذابٌ شديدٌ بسبَبِ كيدِهم للإسلامِ وأهْلِه .
فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى عاقبةَ المجرمينَ الماكرين الَّذين حُرِمُوا الاستعدادَ للإسلامِ بعد بيانِ حالِهم- قَفَّى عليه بالمُقابلةِ بينهم وبين المُستَعِدِّينَ له، ثم ببيانِ ظُهورِ هِدايَتِه، واستقامةِ مَحَجَّته، وبجزاءِ المُهْتَدينَ به، على حَسَب سُنَّتِه تعالى في كتابِه ، فقال:
فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ.
أي: فمَن يُردِ الله تعالى هِدايَتَه وتوفيقَه للتَّوحيدِ، والإيمانِ به وبرسولِه؛ يفسَحْ صَدرَه لذلك، فيتَّسِعُ لِقَبولِه، ويهوِّنه عليه ويسهِّله له، فيستنيرُ قَلْبُه بنورِ الإيمانِ، ويحيا بضَوْءِ اليقينِ، وتطمَئِنُّ نفسُه بذلك .
كما قال تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الزمر: 22] .
وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات: 7-8] .
وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا.
أي: ومن يُرِدِ اللهُ تعالى إضلالَه عن سبيلِ الهُدى يجعلْ صَدْرَه بخِذْلانِه، وغَلَبَةِ الكُفرِ عليه، وانغماسِ قَلْبِه في الشُّبُهات والشَّهوات؛ في أشَدِّ ما يكون من الضِّيقِ، فلا ينْفُذُ فيه نورُ الإيمانِ مِن شِدَّةِ ضِيقِه، ولا تَصِلُ إليه الموعظَةُ، ولا يدخُلُه اليقينُ والاطمئنانُ .
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء.
أي: هذه حالُه في عَدَمِ تقَبُّل الإيمانِ وصُعُوبَتِه وثِقَلِه عليه؛ فهي تُشْبِه صعوبةَ تَكَلُّفِ الصُّعودِ في السَّماءِ، وعَجْزَه عن ذلك؛ لأنَّه ليس في وُسْعِه، ولا حيلةَ له فيه .
كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ.
أي: كما يجعلُ الله تعالى صَدْرَ من أراد إضلالَه ضيِّقًا حَرجًا كأنَّما يصَّعَّد في السَّماءِ، كذلك يسلِّط اللهُ الشَّيطانَ عليه وعلى أمثاله، ممَّن أبى الإيمانَ بالله ورسولِه؛ فيُغْوِيه ويَصُدُّه عن سبيلِ الحَقِّ .
كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل: 5-10] .
وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لمَّا ذَكَر الله تعالَى طريقَةَ الضَّالِّينَ عن سبيلِه، الصَّادِّين عنها، نَبَّه على أشرفِ ما أرْسل به رَسولَه مِنَ الهُدَى ودينِ الحَقِّ ، فقال:
وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا.
أي: وهذا الذي بيَّنَّا لك- يا مُحمَّدُ- في هذه السُّورة وغيرِها من سُوَر القرآنِ، هو طريقُ ربِّك ودِينُه الذي ارتضاه لنَفْسِه دينًا، وجَعَلَه مستقيمًا لا اعوجاجَ فيه؛ معتدلًا مُوصِلًا إليه، وإلى دارِ كرامَتِه؛ فاثْبُتْ أنت عليه .
قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ.
أي: قد بَيَّنَّا الآياتِ والحُجَجَ على صحَّةِ ذلك لِمَن لهم فَهْمٌ ووعْيٌ يَعْقِلون به عن اللهِ مُرادَه؛ الَّذين عَلِموا، فانتَفَعوا بعِلْمِهم .
لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (127).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ تعالى عظيمَ نِعَمِه في الصِّراطِ المستقيمِ، بَيَّنَ الفائدةَ الشَّريفةَ التي تحصُلُ من التمسُّك بذلك الصِّراطِ المستقيمِ؛ فقال :
لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ.
أي: لهؤلاء القومِ الَّذين يذَّكَّرون، دارُ اللهِ تعالى التي أعَدَّها لأوليائِه في الآخِرةِ، وهي جَنَّتُه، السَّالِمة من كلِّ عيبٍ وآفةٍ، وَهَمٍّ وغَمٍّ، وغيرِ ذلك من مُنَغِّصاتٍ .
وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
أي: واللهُ تعالى ناصرٌ هؤلاءِ القومَ الَّذين يذَّكرون، وحافِظُهم ومُؤَيِّدُهم؛ يتولَّى تدبيرَهم وتربيتَهم ورعايَتَهم، وهذا جزاءٌ لهم على أعمالِهم الصَّالِحةِ، واتِّباعِهم رضا مولاهم؛ فلذلك يتولَّاهم، ويُثِيبُهم الجنَّةَ بكَرَمِه
.
الفوائد التربوية :
1- قولُ اللهِ تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا العِبرةُ في هذا المَثَل أن يُطالِبَ المسلمُ نفسَه بأن يكونَ حيًّا عالِمًا؛ على بصيرةٍ في دينِه وأعمالِه، وحُسْنِ سِيرَتِه في النَّاس، وقدوةً لهم في الفضائِلِ والخَيْرات، وحُجَّةً على فَضْلِ دِينِه على جميعِ الأديانِ، وعُلُوِّ آدابِه على جميعِ الآدابِ
.
2- شَأْنُ أكثَرِ أكابِرِ الأُمَم والشُّعوب- ولا سيَّما في الأزمِنَةِ التي تكثُرُ فيها المطامِعُ، ويعظُمُ حُبُّ الرِّياسَةِ والكبرياءِ- أنَّهم يَمْكرونَ بالنَّاسِ مِن أفرادِ أُمَّتِهم وجَماعاتِها؛ ليَحْفَظوا رياسَتَهم ويُعَزِّزوا كبرياءَهم، ويُثَمِّروا مطامِعَهم فيها، ويمكُرُ الرُّؤساءُ والسَّاسةُ منهم بغيرِهم من الأُمَم والدُّول؛ لإرضاءِ مَطامِعِ أُمَّتِهم، وتعزيزِ نفوذِ حُكومَتِهم في تلك الأُمَم والدُّوَلِ. وقد عَظُمَ هذا المكرُ في هذا العَصرِ، فصار قُطْبَ رَحَى السِّياسَةِ في الدُّول، وعَظُمَ الإفكُ بعِظَمِه؛ لأنَّه أعظَمُ أركانِه؛ يُرشِدُنا إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا .
3- إنَّ أكابِرَ المجرمينَ- الَّذين يُعادونَ الرُّسُلَ في عَصرِهم، ودعاةَ الإصلاحِ مِن وَرَثَتِهم بَعْدَهم- مهما ضَخُمَ واستطالَ كَيْدُهم؛ فلا يحيقُ إلَّا بهم في نهايةِ المطافِ؛ فالمؤمنونَ لا يخوضون المعركةَ وَحْدَهم، فاللهُ تعالى وليُّهم فيها، وهو حَسْبُهم، وهو يَرُدُّ على الكائِدينَ كَيْدَهم؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ .
4- قولُه تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا فيه مِن السُّلوك والعبادةِ أنَّه يجبُ على الإنسانِ أن يتقبَّلَ الإسلامَ كلَّه؛ أصلَه وفرعَه، وما يتعلَّق بحقِّ الله، وما يتعلَّق بحقِّ العبادِ، وأنَّه يجبُ عليه أن يشرحَ صدرَه لذلك، فإن لم يكنْ كذلك، فإنَّه من القسمِ الثاني الذين أراد الله إضلالَهم
.
الفوائد العلمية واللطائف :
1- في قولِ اللهِ تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ جُعِلَ الإيمانُ حياةً؛ لأنَّ الحيَّ صاحِبُ بَصَرٍ يهتدي به إلى رُشْدِه، وكذلك لَمَّا كان الإيمانُ يهدي إلى الفَوْزِ العظيمِ، والحياةِ الأبديَّة؛ شُبِّه بالحياةِ
.
2- لمَّا ذَكَر جَعْلَ النُّورِ للمَيِّتِ قال: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ أيْ: يَصْحَبُه كيف تَقَلَّب، وقال: فِي النَّاسِ إشارةً إلى تَنْويرِه على نَفْسِه، وعلى غيرِه مِنَ النَّاسِ، فذكَر أَنَّ منفعةَ المؤْمنِ ليست مقتصِرَةً على نَفْسِه .
3- قولُه تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فيه لطيفةٌ جميلةٌ، وهي أنَّه تعالى لَمَّا ذَكَرَ صِفةَ الإحِسانِ إلى العبْدِ المؤمِنِ؛ نَسَبَ ذلك إليه جلَّ وعلا؛ فقال: فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ وفي صِفَةِ الكافِرِ لم ينسُبْها إلى نَفْسِه، بل قال: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ .
4- قوله: لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا فيه دقيقةٌ عقليَّةٌ، وهي أنَّ الشَّيْءَ إذا دام حُصولُه مع الشَّيْءِ صار كالأَمْرِ الذاتيِّ والصِّفةِ اللَّازِمَة له؛ فإذا دام كونُ الكافِرِ في ظُلُماتِ الجَهْلِ، والأَخْلاقِ الذَّميمةِ، صارت تلك الظُّلُماتُ كالصِّفةِ الذاتيَّةِ اللَّازِمَةِ له؛ يعسُر إزالتُها عنه، نعوذُ باللهِ من هذه الحالَةِ .
5- في قَوْلِه تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ جاءت الظُّلماتُ جمعًا؛ لتُناسِبَ تعدُّدَ أنواعِ الكُفرِ المتعدِّدةِ .
6- قوله: زُيِّنَ حُذِفَ فاعل التَّزيينِ؛ فبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ: لأنَّ المقصودَ وقوعُ التَّزيينِ لا معرفةُ مَن أَوقَعَه .
7- في قَوْلِه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا خَصَّ الأكابِرَ؛ لأنَّهم أقدَرُ على الفَسادِ، والتَّحيُّلِ، والمَكرِ؛ لرِئاسَتِهم، وسَعَةِ أرزاقِهم، واستِتْباعِهم الضُّعَفاءَ والمحاويجَ .
8- قولُه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فيه تنبيهٌ على أنَّ أهْلَ البَداوَةِ أقربُ إلى قَبولِ الخيرِ من أهْلِ القُرى؛ لأنَّهم لبساطَةِ طِباعِهم من الفِطْرةِ السَّليمةِ، فإذا سَمِعوا الخيرَ تَقَبَّلوه، بخلافِ أَهْلِ القرى؛ فإنَّهم لتَشَبُّثِهم بعوائِدِهم وما أَلِفُوه؛ يَنْفِرونَ من كلِّ ما يُغَيِّره عليهم؛ ولهذا قال اللهُ تعالى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ، فجعل النِّفاقَ في الأَعْرابِ نفاقًا مجرَّدًا، والنِّفاقَ في أهْلِ المدينةِ نِفاقًا مارِدًا .
9- قولُه تعالى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ في الآيةِ دليلٌ على كمالِ حِكمةِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه وإن كان تعالى رحيمًا واسعَ الجودِ، كثيرَ الإحسانِ، فإنَّه حكيمٌ لا يَضَعُ جُودَه إلَّا عند أهْلِه .
10- كلُّ مَن لم يُقِرَّ بما جاء به الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا بعد أن يقومَ على صِحَّتِه عنده دليلٌ مُنْفَصِلٌ مِن عقْلٍ أو كشْفٍ أو منامٍ أو إلهامٍ، لم يكُنْ مؤمنًا به قَطْعًا، وكان من جِنْس الَّذينَ قال اللهُ تعالى فيهم: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ .
11- في قوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ إشارةٌ لعَظيمِ مِقدارِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتنبيهٌ لانْحِطاطِ نُفوسِ سادةِ المشركينَ عن نَوالِ مَرْتبةِ النُّبوةِ، وانعدامِ اسْتِعْدادِهم .
12- قولُه تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فيه تنبيهٌ على دقيقةٍ جليلةٍ، وهي أنَّ أقَلَّ ما لا بدَّ منه في حصولِ النبوَّةِ والرِّسالةِ البراءةُ عن المكْر والغَدْرِ والغِلِّ والحسَد. وقولُهمْ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ عَيْنُ المكْرِ والغَدْرِ والحَسَد؛ فكيف يُعْقَلُ حُصولُ النبوَّة والرِّسالةِ لهم مع اتِّصافِهم بهذه الصِّفاتِ .
13- لَمَّا كان العقابُ إنَّما يتِمُّ بأمرينِ: الإهانةِ والضَّرَرِ؛ توَعَّدَهم اللهُ تعالى بمجموعِ هذينِ الأَمْرينِ في هذه الآيةِ؛ فقال تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ وإنَّما قَدَّمَ ذِكْرَ الصَّغارِ على ذِكْرِ الضَّرَر؛ لأنَّ القومَ إنَّما تَمَرَّدوا عن طاعةِ محمَّدٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلام طلبًا للعِزِّ والكرامةِ؛ فاللهُ تعالى بَيَّنَ أنَّه يُقابِلُهم بضِدِّ مَطْلوبِهم، فأَوَّلُ ما يُوصِلُ إليهم إنَّما يُوصِل الصَّغارَ والذُّلَّ والهوانَ .
14- قولُ اللهِ تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا فيه ردٌّ على القدريَّة، وبيانُ أنَّ الهدايةَ والضَّلالَ من الله تعالى .
15- قولُ اللهِ تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا فيه إثباتُ إرادةِ الله عزَّ وجلَّ، والإرادةُ المذكورةُ هنا إرادةٌ كونيةٌ لا غيرُ؛ لأنَّه قال: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ، وهذا التقسيمُ لا يكونُ إلَّا في الأمورِ الكونيَّات، أمَّا الشرعيةُ فالله يريدُ مِن كلِّ أحدٍ أن يستسلمَ لشرعِه .
16- التوفيقُ عنايةٌ خاصَّةٌ من الله تعالى؛ يتفَضَّلُ بها على بعضِ عِباده، فهو سبحانه عليمٌ بمَن يَصْلُح لهذا الفَضْلِ ومَن لا يصْلُحُ له، وحكيمٌ يَضَعُه في مواضِعِه وعند أهْلِه؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُه تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا .
17- قولُ اللهِ تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ، إضافةُ الدَّارِ إلى (السَّلام) للإيذانِ بسَلامَتِها من العيوبِ، وسلامةِ أَهْلِها مِن جميعِ المنَغِّصاتِ والكُروبِ ، وقيل إنَّما وَصَفَ اللهُ الجنَّة هاهنا بدارِ السَّلامِ؛ لسَلامَتِهم فيما سَلَكوه من الصِّراطِ المستقيمِ، المقتفي أثَرَ الأَنبياءِ وطرائِقَهم، فكما سَلِمُوا من آفاتِ الاعوجاجِ، أَفْضَوْا إلى دارِ السَّلامِ .
18- قولُ اللهِ تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فيه نفيُ القوْلِ بالجَبرِ، وإبطالُ القَولِ بإنكارِ القَدَرِ بصراحَةِ نَوْطِ الجزاءِ بالعَمَلِ؛ فإسنادُ العَمَل إليهم ينفي الجبْرَ، ونَوْطُ الجزاءِ به يُثْبِت القَدَر؛ الذي هو جعْلُ شيءٍ مُرَتَّبًا على شيءٍ آخَرَ، مُقَدَّرًا بقَدْرِه، وليس خَلْقًا أُنُفًا، أي مُبتدَأً ومُستأنَفًا .
19- قال تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ في هذه الآيَةِ عِدَّةُ تشريفاتٍ لِمَن عَنَاهم الله بالآيةِ:
النوع الأول: قولُه: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ وهذا يوجِبُ الحَصْرَ؛ فمعناه: لهم دارُ السَّلامِ لا لغَيْرِهم.
النوع الثاني: قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ وهذا يدلُّ على قُرْبِهم مِنَ اللهِ تعالى.
النوع الثالث: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ وهذا يدلُّ على قُرْبِ اللهِ منهم
.
بلاغة الآيات :
1- قوله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ في الآيةِ التَّشبيهُ التمثيليُّ، ووجهُ الشَّبَه فيه صورةٌ منتَزَعةٌ من متعدِّدٍ، وهذا مَثَلٌ ضَرَبَه اللهُ تعالى لحالِ المؤمِنِ والكافِرِ؛ فبيَّنَ أنَّ المؤمِنَ المهتديَ بمنزلةِ من كان مَيتًا فأحياه، وأعطاه نورًا يهتدي به في مصالحه، وأنَّ الكافِرَ بمنزلَةِ مَن هو في الظُّلماتِ منغمِسٌ فيها، وإنَّما ائتلفَتْ هذه الأجناسُ المختلفةُ، وتصادَفَتْ هذه الأشياءُ المُتباينةُ للتَّمثيلِ على حُكمِ المشبَّه؛ لأنَّه رُوعِي فيها ما يَستحضِرُ العقلُ، وما تتَعلَّقُ به البصيرةُ، والتروِّي في الأمْر، لا ما يَحضُر العينَ، أو يُنال بمُجرَّدِ الرُّؤيةِ
.
- ولقد جاء التَّشبيه بديعًا؛ إذ جَعَل حالَ المُسلِم، بعد أن صار إلى الإسلامِ، كحالِ مَن كان عديمَ الخيرِ، عديمَ الإفادَةِ كالميِّت، وهو في ظُلمةٍ لو أفاق لم يَعْرِفْ أين ينصَرِفُ، فإذا هداه اللهُ إلى الإسلامِ تَغَيَّر حالُه، فصار يُمَيِّزُ بين الحقِّ والباطِلِ، ويعلَمُ الصَّالِحَ من الفاسِدِ، فصار كالحيِّ، وصار يسعى إلى ما فيه الصَّلاحُ، ويتنَكَّبُ عن سبيلِ الفسادِ، فصار في نورٍ يمشي به في النَّاسِ .
- والهمزة في قوله: أَوَمَنْ للاستفهامِ المستعمَلِ في إنكارِ تماثُلِ الحالتينِ:
فالحالةُ الأولى: حالةُ الَّذين أَسْلَموا بعد أنْ كانوا مُشركينَ، وهي المشَبَّهة بحالِ من كان مَيْتًا مُودَعًا في ظلماتٍ، فصار حيًّا في نورٍ واضحٍ، وسار في الطَّريقِ الموصِلَة للمَطْلوبِ بين النَّاسِ، والحالة الثانية: حالةُ المُشرِك، وهي المشبَّهة بحالةِ مَن هو في الظُّلماتِ ليس بخارجٍ منها؛ لأنَّه في ظُلُماتٍ .
- قوله: يَمْشِي بِهِ الجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشَأَ من الكلامِ؛ كأنَّه قيل: فماذا يصنعُ بذلك النُّورِ؟ فقيل: يمشي به .
- قوله: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ التَّمثيلَ المذكورَ قَبْلَها يُثيرُ في نفسِ السَّامِعِ سؤالًا؛ أن يقول: كيف رَضُوا لأنفُسِهم البقاءَ في هذه الضَّلالاتِ، وكيف لم يَشْعُروا بالبَوْن بين حالِهم وحالِ الَّذين أَسْلَموا؟ فكان حقيقًا بأن يُبَيَّنَ له السَّببُ في دوامِهم على الضَّلالِ، وهو أنَّ ما عَمِلوه كان تُزَيِّنُه لهم الشَّياطينُ .
2- قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فيه تَشبيهٌ؛ حيث شبَّه أكابِرَ المجرمينَ مِن أهْلِ مكَّةَ في الشِّرْك بأكابِرِ المجرمينَ في أهْلِ القُرى في الأُمَم الأخرى .
- وقوله: وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ اعتراضٌ على سبيلِ الوَعدِ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، والوعيدِ للكَفَرِة ، وقد جيء بصيغَةِ القَصْرِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَلْحَقُه أذًى ولا ضُرٌّ مِن صَدِّهم النَّاسَ عن اتِّباعِه، ويلحَقُ الضُّرُّ الماكرينَ؛ في الدُّنيا: بعذابِ القَتْلِ والأَسْرِ، وفي الآخرة: بعذابِ النَّارِ إن لم يؤمِنوا؛ فالضُّرُّ انحصَرَ فيهم على طريقةِ القَصْرِ الإِضافيِّ، وهو قَصْرُ قلبٍ .
- وفيه تسليةٌ لرَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إذ حالُه في أنْ كان رؤساءُ قومِه يُعادونَه كما كان في كلِّ قريةٍ مَن يعانِدُ الأنبياءَ، وفيه تقديمُ مَوعِدٍ بالنُّصْرَةِ عليهم .
3- قولُه تعالى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ لَمَّا ذَكَرَ اسمَ الجلالةِ في قوله: رُسُلُ اللَّهِ إيذانًا بعظيمِ ما اجتَرَؤوا عليه؛ لِعَماهم عمَّا للرُّسُلِ من الجلالِ الذي يخضَعُ له شوامِخُ الأنوفِ؛ أعادَها أيضًا تهويلًا للأَمْرِ، وتنبيهًا على ما هناك من عظيمِ القَدْرِ، فقال ردًّا عليهم: اللَّهُ أَعْلَمُ... الآية .
- قوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فيه: استئنافٌ للرَّدِّ والإنكارِ عليهم بأنَّ النبوَّةَ ليست بالنَّسَبِ والمالِ، وإنَّما هي اصطِفاءٌ من اللهِ تَعالى؛ يخصُّ الله سبحانه وتعالى بها من يشاءُ مِن عباده، فيَجْتبي لرسالاتِه مَن عَلِمَ أنَّه يَصْلُح لها، وهو أعلَمُ بالمكانِ الذي يَضَعُها فيه منهم .
وفيه: تعريضٌ بأنَّ أمثالَهم ليسوا بأهْلٍ لحملِ الرِّسالة .
4- قوله: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ استئنافٌ ناشئٌ عن قولِه: لِيَمْكُرُوا فِيهَا وهو وعيدٌ لهم على مَكْرِهم .
- وفيه: إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ في قوله: الَّذِينَ أَجْرَمُوا لأنَّ مُقتَضى الظَّاهِرِ أن يُقالَ: سيُصِيبهم صَغارٌ، وإنَّما خُولِفَ مُقتَضى الظَّاهِر، فأُتِيَ بالموصولِ؛ للإشعارِ بأنَّ إصابةَ ما يُصيبُهم؛ لإجرامِهم المستَتْبِعِ لجميعِ الشُّرورِ والقبائحِ، أي: إنَّما أصابَهم صَغارٌ وعَذابٌ لإجرامِهم .
- والسِّينُ في قوله: سَيُصِيبُ للتَّأكيدِ .
- وعَلَّقَ الإصابةَ بِمَن أجرَمَ؛ ليَعُمَّ الأكابِرَ وغَيرَهم .
5- قوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ
فيه إِتْباعُ الضِّيقِ بالحَرَج؛ لتأكيدِ معنى الضِّيقِ؛ لأنَّ في الحَرَجِ من معنى شِدَّةِ الضِّيقِ ما ليس في (ضَيِّقٍ) .
- وفي قوله: كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ تشبيهٌ تمثيليٌّ؛ مُثِّلَ حالُ المُشرِك حين يُدْعَى إلى الإسلامِ، أو حين يخلو بنَفْسِه، فيتأَمَّل في دعوةِ الإسلامِ، بحالِ الصَّاعِد؛ فإنَّ الصَّاعِد يَضِيقُ تنفُّسُه في الصُّعودِ، فشَبَّهَه مُبالغةً في ضِيقِ صَدْره بمَن يُزاوِلُ ما لا يَقدِرُ عليه؛ فإنَّ صُعودَ السماءِ مَثَلٌ فيما يَبعُدُ عن الاستطاعةِ، ونبَّه به على أنَّ الإِيمان يمتنعُ منه كما يَمتنعُ الصُّعودُ .
6- قوله: كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ تذييلٌ لِمَا قَبْلَه؛ فلذلك فُصِلَ ، ووُضِعَ الموصولُ مَوْضِعَ المُضمَر في قوله: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ للإشعارِ بأنَّ جَعْلَه تعالى مُعَلَّلٌ بما في حَيِّزِ الصِّلَة من كمالِ نُبُوِّهم عن الإيمانِ، وإصرارِهم على الكُفْرِ .
- وجيء بالمضارِعِ في قوله: يَجْعَلُ لإفادَةِ التجدُّدِ في المستقبلِ؛ أي: هذه سُنَّةُ اللهِ في كُلِّ من ينصَرِفُ عن الإيمانِ، ويُعْرِضُ عنه .
7- قوله: وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا تمثيلٌ لحالِ هَدْيِ القُرآنِ بالصِّراطِ المستقيمِ، الذي لا يُجْهِدُ مُتَّبِعَه، وتمثيلُ الإسلامِ بالصِّراطِ المستقيمِ يتضَمَّنُ تمثيلَ المسلمِ بالسَّالِك صِراطًا مستقيمًا .
- وإضافَةُ الصِّراطِ إلى الرَّبِّ في قوله: صِرَاطُ رَبِّكَ لتَعظيمِ شَأنِ المُضافِ، فيُعْلَم أنَّه خيرُ صراطٍ .
- وإضافةُ الرَّبِّ إلى ضميرِ الرَّسولِ في قولِه: صِرَاطُ رَبِّكَ فيه: تشريفٌ للمُضافِ إليه، وترضيةٌ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم بما في هذا السَّنَن مِن بقاءِ بَعضِ النَّاسِ غَيْرَ مُتَّبِعينَ دِينَه .
- وقوله: مُسْتَقِيمًا حالٌ مِنْ صِرَاطُ مؤكِّدةٌ لمعنى إضافَتِه إلى اللهِ .
8- قوله: قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ استئنافٌ، وفذلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّم .
9- قوله: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ الجملةُ إمَّا مُستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ الثَّناءَ عليهم بأنَّهم فُصِّلَت لهم الآياتُ، ويتَذَكَّرون بها؛ يثيرُ سؤالَ من يسألُ عن أثَرِ تَبْيينِ الآياتِ لهم، وتذَكُّرِهم بها، فقيل: لهم دارُ السَّلامِ، وإمَّا صِفَةٌ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ .
- والعدولُ عن إضافَةِ قَولِه: عِنْدَ لضَميرِ المتكَلِّم إلى إضافَتِه للاسْمِ الظَّاهِر في قوله: رَبِّهِمْ لقَصْدِ تشريفِهم بأنَّ هذه عطِيَّةُ مَن هو مولاهُم .
- وقوله: دارُ السَّلامِ أي: دارُ الله، يعنى الجنَّة؛ أضافَها إلى نَفْسِه تعظيمًا لها، أو دار السَّلامَة من كلِّ آفةٍ وكَدَرٍ .
- وتقديمُ المجرورِ في قوله: لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ لإفادَةِ الاختصاصِ للقومِ الَّذين يذَّكَّرون لا لِغَيْرِهم
.=============
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (128-131)
ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ
غريب الكلمات :
يَا مَعْشَرَ: المعشَرُ: كلُّ جماعةٍ أمرُهم واحدٌ، وأصْلُ (عشر): يدلُّ على مُداخَلَة ومخالَطَةٍ
.
مَثْوَاكُمْ: أي: مَنْزِلُكم، وأصْل الثَّواء: الإقامةُ مع الاستقرارِ، يُقال: ثوَى يثوي ثواءً .
نُوَلِّي: أي: نَجعلُ بعضَهم لبعضٍ وليًّا على الكُفرِ بالله، وأصْل (ولي) يدلُّ على القُرْب، سواءٌ من حيث: المكان، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه .
يَقُصُّونَ: يُخبِرونَكم، والقَصَص: الأخبارُ المتتبَّعَةُ، والأثَرُ؛ وأصْلُ القصِّ: تتبُّعُ الأثَرِ أو الشَّيءِ .
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا: أي: أصابتْ غِرَّتَهم، ونالَتْ منهم ما تريدُه، وخَدَعتْهم عن الأخْذِ بنَصيبِهم من الآخِرَةِ حتى أتتْهم المنِيَّةُ، والغِرَّةُ: غفلةٌ في اليقَظَة، وأصلُ ذلك من الغُرِّ، وهو الأثرُ الظاهر مِن الشَّيْءِ، وأَصْلُ (غرر) يدلُّ أيضًا على النُّقْصانِ
.
المعنى الإجمالي :
اذكُرْ- يا مُحمَّدُ- يومَ يَحْشُر اللهُ هؤلاء المشركينَ مع أوليائِهم مِن شَياطينِ الجِنِّ؛ فيقولُ اللهُ تعالى للجِنِّ: قد استكثَرْتُم من إضلالِ الإنسِ وإغوائِهم، وقال أولياءُ الجِنِّ مِنَ الإِنْسِ: ربَّنا تمتَّعَ بعضُنا ببعضٍ؛ فالجنيُّ تمتَّعَ بطاعةِ الإنسيِّ له، وعبادَتِه وتعظيمِه، والإنسيُّ تمتَّعَ بخِدمةِ الجنيِّ له، وتلبيةِ بعض أغراضِه وشَهَواتِه، وبَلَغْنا الوقتَ الذي وَقَّتَّه لنا يا رَبَّنا. قال اللهُ لهم: إنَّ النَّارَ هي مُستَقَرُّكم، خالدينَ فيها إلَّا ما شاءَ الله؛ إنَّ ربَّك- يا مُحمَّدُ- حكيمٌ عليمٌ، وكذلك يُوَلِّي اللهُ جلَّ وعلا بعضَ الظَّالِمينَ بعضًا بما كانوا يَكْسِبونَ.
ثم أخَبَر تعالى أنَّه يقولُ يومئذٍ: يا مَعْشَرَ الجِنِّ والإنسِ، ألَمْ يَأْتِكم رسُلٌ منكم يتلُونَ عليكم آياتي، ويُنْذِرونكم لقاءَ يومِكم هذا؟ قالوا: أَقْرَرْنا بأنَّها جاءَتنا فكذَّبْناها وجَحَدْناها، وبَيَّنَ تعالى أنَّ الحياةَ الدُّنيا غَرَّتْهم وخَدَعَتْهم، وشَهِدُوا على أنفُسِهم أنَّهم كانوا كافرينَ.
وأخبر أنَّ ذلك الإنذارَ والإعذارَ مِن قِبَل الرُّسُل في الدُّنيا واقِعٌ؛ مِن أجْلِ أنَّ الله تعالى لم يكُنْ لِيُهْلِكَ القرى بسبَبِ كُفْرِها ومعاصِيها، مع كونِهم لم يُنَبَّهُوا برسولٍ ولا كتابٍ.
تفسير الآيات :
وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا اشتمَلَ سياقُ الآياتِ السَّابقةِ لهذه الآياتِ على وعيدٍ بما أعَدَّ اللهُ من العذابِ للمُجرمينَ، ووعْدٍ بالنَّعيم في دارِ السَّلامِ للمؤمنينَ في إثْرِ بيانِ أحوالِهم وأعمالِهم التي استحَقَّ بها كلٌّ منهما جزاءَه- رَبَطَ ذلك بحقيقةِ الجزاءِ في الآخِرَةِ على الكَسْبِ في الدُّنيا بعد النِّذارَةِ والبِشَارة؛ فَقَفَّى بذِكْر الحَشْرِ، وبعْضِ ما يكون في يوْمِه من الحِسابِ، وإقامةِ الحُجَّةِ على الكُفَّار
فقال تعالى:
وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا.
أي: واذكرْ- يا مُحمَّدُ- يومَ يَحْشُرُ الله عزَّ وجلَّ هؤلاءِ المشركينَ مع أوليائِهم من الشَّياطينِ الَّذين كانوا يعبدونَهم في الدُّنيا، ويَعُوذون بهم ويُطيعُونهم، ويُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غرورًا؛ لِيُجادِلوا به المؤمنينَ، فيَجْمَعُهم سبحانه وتعالى جميعًا في موقِفِ القيامةِ .
ثم يقولُ الله تعالى مُوَبِّخًا للجِنِّ الَّذين أضَلُّوا الإنسَ، وزَيَّنوا لهم الشَّرَّ، وأزُّوهُم إلى المعاصِي:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ.
أي: قد استكثرتم أيُّها الشَّياطينُ من إضلالِ الإنسِ، وإغوائِهم، وصَدِّهِم عن سبيلِ الله، فأَضْلَلْتُم منهم أعدادًا طائلةً .
كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 60-62].
وقال عزَّ وجلَّ: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62] .
وقال سبحانه: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20] .
وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ.
أي: وقال أولياءُ الجِنِّ مِن الإنْسِ، وهم الَّذين كانوا يتَّبِعون تشريعَ الشَّياطينِ لهم في الدُّنيا، أو يطاوِعُونهم فيما زَيَّنوا لهم من الكُفْرِ وأنواعِ المعاصي: يا رَبَّنا، قد تمتَّعَ وانتفَعَ بعضُنا ببعضٍ في الدُّنيا؛ فالجنيُّ يستمتِعُ بطاعةِ الإنسيِّ له وعبادَتِه، وتعظيمِه، واستعاذَتِه واستعانَتِه به، وإعانَةِ الإنسيِّ على إضلالِ النَّاسِ، والإفسادِ في الأرضِ؛ والإنسيُّ يتمتَّعُ بخدمة الجنيِّ له، وتلبيةِ بعض أغراضِه وشهواتِه .
وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا.
أي: استمتَعَ بعْضُنا ببعضٍ أيَّامَ حياتِنا الدُّنيا إلى أنْ بَلَغْنا الوَقْتَ الذي وُقِّتَ لِمَوتِنا .
قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ.
أي: قال اللهُ لأولياءِ الجِنِّ مِنَ الإِنْسِ: نارُ جهنَّمَ هي المحلُّ الذي تقيمونَ فيه أبدًا، إلَّا من شاءَ الله عَدَمَ خُلودِه، وهم العصاةُ من المؤمنينَ الموحِّدينَ .
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ.
مُناسَبَتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا كان هذا الحُكمُ في قولِه تعالى: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِن مُقتَضى حِكْمَته وعِلْمِه- ناسَبَ ذلك خَتْمُ الآيةِ بِقَوْلِه سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فكما أنَّ عِلْمَه وَسِعَ الأشياءَ كُلَّها وعَمَّها، فحِكْمَتُه الغائيَّةُ شَمِلَت الأشياءَ وعَمَّتْها ووَسِعَتْها .
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ.
أي: إنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- حكيمٌ، يَضَعُ الأمورَ في مواضِعِها اللَّائقةِ، ويُوقِعُها في مواقِعها الصَّحيحة، ومن ذلك أنَّه لا يُعَذِّبُ إلَّا مَن يستَحِقُّ، وقد وَسِعَ عِلْمُه وشَمِلَ الأشياءَ كُلَّها؛ ومن ذلك عِلْمُه بالأشخاصِ والأحوالِ المستحِقَّة للعقابِ .
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (129).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ الله تعالى أنَّه وَلَّى الكَفَرةَ من ظالِمِي الجنِّ، ظالِمِي الإنسِ، وسَلَّطَهم عليهم؛ أخبَرَ تعالى أنَّ هذا عَمَلُه مع كلِّ ظالمٍ مِن أيِّ قبيلٍ كان، سواءٌ كان كافرًا أو لا .
وأيضًا لَمَّا حَكَم تعالى على الجنِّ والإنسِ أنَّ بعضَهم يتولَّى بعضًا؛ في قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ... بَيَّنَ أنَّ ذلك إنَّما يحصُلُ بتقديرِه وقضائِه سبحانه؛ فقال :
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (129).
قيل المرادُ: وكما جعَلْنا بعضَ هؤلاءِ المشركينَ من الجِنِّ والإِنْسِ أولياءَ، كذلك نولِّي كلَّ ظالمٍ ظالِمًا مِثلَه، يَؤُزُّه إلى الشَّرِّ، ويُزَهِّدُه في الخَيْرِ؛ بسببِ ما كانُوا يعملونَه منَ المعاصِي .
وقيل: المعنى: وكما وَلَّيْنا هؤلاءِ الخاسرينَ من الإِنْسِ تلك الطَّائفةَ التي أغْوَتْهم من الجِنِّ فاستمتَعَ بعضُهم ببعضٍ، كذلك نفعَلُ بالظَّالمينَ، فنُسَلِّط بعضَهم على بعضٍ، ونُهْلِك بعضَهم ببعضٍ؛ جزاءً على ظُلْمِهم .
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا انقضت المحاورةُ السَّابقةُ وما أنتجَتْه من بغيضِ الموالاةِ والمجاورةِ، وكان حاصِلُها أنَّها موالاةُ مَن ضَرَّت مُوالاتُه؛ أتبَعَها سبحانه بمحاورةٍ أخرى حاصِلُها معاداةُ مَن ضَرَّت معاداتُه، فذَكَر كُفْرَهم به تعالى، وشهادَتَهم على أنفُسِهم بذلك ، فقال:
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي.
أي: يقولُ الله تعالى يومئذٍ: ألم يأتِكم أيُّها الإنسُ والجِنُّ رسلٌ منكم يقْرَؤونَ عليكم آياتي التي أُنْزِلَت، ويُبَيِّنون لكم ما فيها من الأدلَّةِ على توحيدِ الله تعالى، وصِدْق رُسُلِه، وصِحَّة ما جاؤُوا به مِن عِنده، ويُبَيِّنون ما فيها من أحكامٍ، ووعدٍ ووعيدٍ .
وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا.
أي: ويحذِّرونكم الأهوالَ والعذابَ الواقِعَ في يومِكم هذا، وعقابي على كُفْرِكم وشِرْكِكم بي، ومعصيتِكم لي؛ كي تنتهوا عن ذلك .
قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا.
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا وبَّخَهم الله هذا التوبيخَ، وقَرَّعَهم هذا التقريعَ، أقرُّوا نادمينَ حيث لا ينفَعُ النَّدَمُ؛ فقال الله تعالى عنهم :
قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا.
أي: قالوا: أقْرَرْنا بأنَّ رُسُلَك قد أَتَتْنا بآياتِك، وحَذَّرَتْنا لقاءَ يومِنا هذا، فكَذَّبْناها، وجَحَدْنا رِسالَتَها، ولم نَتَّبِعْ آياتِك، ولم نؤمِنْ بها .
كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10-11].
ثم بيَّن اللهُ تعالى السَّبَبَ الذي كذَّبوا به الرُّسُلَ، ولم يَعْتَنوا بالإنذارِ؛ فقال :
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.
أي: وغَرَّتْ هؤلاءِ المشركينَ وأولياءَهم من الجِنِّ زينةُ الحياةِ الدنيا وزُخْرُفُها وشَهَواتُها، وطَلَبُ الرِّياسةِ فيها، والمنافسةُ عليها، فَرَضُوا واطمَأَنُّوا بها، وألْهَتْهم عن العَمَلِ للدَّارِ الآخِرةِ .
وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ.
أي: وشَهِدَ هؤلاء المشركونَ في يومِ القيامة أنَّهم كانوا في الدُّنيا كافرينَ باللهِ تعالى وبِرُسُلِه؛ لتَتِمَّ حجَّةُ الله عليهم بإقرارِهم على أنفُسِهم بما يُوجِبُ عليهم عُقوبَتَه، ويَعْلَم حينئذ كلُّ أحدٍ، حتى هم أنفسُهم، عَدْلَ اللهِ تعالى فيهم .
ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ الله تعالى أنَّه ما عَذَّبَ الكفَّارَ إلَّا بعد أن بَعَثَ إليهم الأنبياءَ والرُّسُلَ؛ بَيَّنَ بهذه الآيةِ أنَّ هذا هو العدْلُ والحقُّ والواجِبُ ، فقال تعالى:
ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131).
أي: ذلك الإنذارُ والإعذارُ على ألْسِنَة الرُّسُلِ في دارِ الدُّنيا واقعٌ؛ من أجل أنَّ ربَّك- يا محمَّد- لم يكُنْ لِيُهْلِكَ القرى بكُفْرِها ومعاصِيها، والحالُ أنَّهم غافِلونَ، لم يُنبَّهوا برسولٍ ولا بكتابٍ، بل لابدَّ من إزالةِ الغَفْلَةِ أولًا بإرسالِ الرُّسُلِ، وإنزال الكُتُبِ
.
كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .
وقال سبحانه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] .
الفوائد التربوية :
1- مِن سنَّة الله تعالى أنَّه يُولِّي كلَّ ظالمٍ ظالِمًا مِثْلَه؛ يَؤُزُّه إلى الشَّرِّ ويَحثُّه عليه، ويُزَهِّده في الخير ويُنَفِّرُه عنه، وذلك من عقوباتِ الله العظيمةِ، الشَّنيعِ أثرُها، البليغِ خَطَرُها، والذَّنبُ ذنبُ الظالمِ؛ فهو الذي أدخَلَ الضَّرَر على نفسِه، وعلى نَفسِه جَنَى؛ قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
.
2- وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ الآيةُ تدلُّ على أنَّ الرَّعِيَّةَ متى كانوا ظالمينَ؛ فالله تعالى يُسَلِّطُ عليهم ظالِمًا مِثْلَهم؛ فإنْ أرادوا أن يتخَلَّصوا من ذلك الأميرِ الظَّالم، فلْيَتْركوا الظُّلْمَ .
3- قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ المقصودُ من الآيَةِ الاعتبارُ والموعظةُ، والتَّحذيرُ من الاغترارِ بولايةِ الظَّالمينَ، وتوَخِّي الأَتْباعِ صلاحَ المتبوعينَ، وبيانُ سنَّةٍ مِن سُنَن اللهِ في العالَمينَ .
4- قولُ الله تعالى: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فيه الحَذَرُ من الاغترارِ بالحياةِ الدُّنيا واللَّذات الحاضرةِ؛ فإنَّما قال ذلك تحذيرًا للسَّامعينَ مثلَ حالِهم
.
الفوائد العلمية واللطائف :
1- في قَوْلِه تعالى: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ اقتصَرَ على حكايةِ جوابِ الإنسِ؛ لأنَّ النَّاسَ المشركينَ هم المقصودُ مِنَ الموعِظَةِ بهذه الآيَةِ
.
2- قولُ اللهِ تعالى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ لَمَّا كان من المقَرَّر أنَّه لا تمامَ لِمُلك من يجِبُ عليه شيءٌ، ويَلْزَمُه بإيجابٍ أو إلزامِ غَيرِه، بحيث لا يَقْدِرُ على الانفكاكِ عنه؛ بَيَّنَ سبحانه أنَّ مُلْكَه ليس كذلك، بل هو على غايةِ الكَمالِ، لا يجِبُ عليه شيءٌ إلا ما أوجَبَه على نَفْسِه، بل كلُّ فِعْلِه جميلٌ، وجميعُ ما يبدو منه حَسَنٌ، فعَلَّقَ دوامَ عذابِهم على المشيئةِ .
3- قَولُه تعالى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ، هذه الآيةُ الكريمةُ يُفهَمُ منها كَونُ عَذابِ أهلِ النَّارِ غَيرَ باقٍ بقاءً لا انقطاعَ له أبدًا، ونظيرُها قَولُه تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود: 106-107] ، وقولُه تعالى: لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا[النبأ: 23] ، وقد جاءت آياتٌ تدُلُّ على أنَّ عذابَهم لا انقطاعَ له، كَقولِه: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
والجوابُ عن هذا مِن أوجُهٍ:
أحدُها: أنَّ قَولَه تعالى: إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ معناه: إلَّا مَن شاءَ اللهُ عَدَمَ خلودِه فيها مِن أهلِ الكبائِرِ مِنَ المُوحِّدينَ، وقد ثبت في الأحاديثِ الصَّحيحةِ أنَّ بَعضَ أهلِ النَّارِ يَخرُجونَ منها، وهم أهلُ الكبائِرِ مِنَ المُوحِّدينَ، ونظيرُه في القُرآنِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء: 3] .
الثاني: أنَّ المُدَّةَ التي استثناها اللهُ هي المُدَّةُ التي بين بَعثِهم مِن قُبورِهم واستقرارِهم في مَصيرِهم.
الثالث: أنَّ قَولَه: إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ فيه إجمالٌ، وقد جاءت الآياتُ والأحاديثُ الصَّحيحةُ مُصَرِّحةً بأنَّهم خالدونَ فيها أبدًا، وظاهِرُها أنَّه خُلودٌ لا انقطاعَ له، والظُّهورُ مِن المُرَجِّحاتِ، فالظَّاهِرُ مُقَدَّمٌ على المُجمَلِ كما تقَرَّرَ في الأصولِ .
4- قولُ اللهِ تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يدلُّ على تكليفِ الجِنِّ، وتعلُّقِ الأَمْرِ والنَّهي بهم، وكذلك تعلُّق الثَّوابِ والعقابِ بهم، كالإِنْسِ .
5- قولُ اللهِ تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا يدلُّ أنَّه لا يُعَذَّبُ أحدٌ حتى يُبعَثَ إليه رسولٌ، فتَبْلُغه الرِّسالةُ، وتقوم الحُجَّة عليه، فمن لم تَبْلُغْه الرسالةُ جملةً لم يُعَذِّبْه رأسًا، ومن بلَغَتْه جملةً دون بعضِ التَّفصيلِ لم يُعَذِّبْه إلا على إنكارِ ما قامت عليه الحُجَّة الرِّساليَّةِ .
6- قوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ... وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ لَمَّا كان حالُ هؤلاء الجنِّ والإِنْسِ في التمَرُّد على الله، ونَبْذ العَمَل الصَّالح ظِهْريًّا، والإعراضِ عن الإيمانِ؛ حالَ مَن لم يَطْرُقْ سَمْعَه أمرٌ بمعروفٍ ولا نهيٌ عن منكرٍ- جيءَ في تقريرِهم على بَعثةِ الرُّسُلِ إليهم بصيغَةِ الاستفهامِ عن نفيِ مجيءِ الرُّسُل إليهم، حتى إذا لم يَجِدوا لإنكارِ مجيءِ الرُّسُل مَساغًا، واعترفوا بمجيئهم؛ كان ذلك أحرى لأخْذِهم بالعقابِ .
7- في قَوْلِه تعالى: وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا لَمَّا كان اللقاءُ يومَ الحَشْرِ يتضمَّنُ خيرًا لأهلِ الخيرِ، وشَرًّا لأهلِ الشَّرِّ، وكان هؤلاء المخاطَبون قد تمحَّضوا للشرِّ- جَعَلَ إخبارَ الرُّسُل إيَّاهم بلقاءِ ذلك اليومِ إنذارًا؛ لأنَّه الطَّرَفُ الذي تحقَّقَ فيهم مِن جملةِ إخبارِ الرُّسُل إيَّاهم ما في ذلك اليومِ وشَرِّه .
8- قولُ اللهِ تعالى: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ كَرَّرَ ذِكْرَ شَهادَتِهم على أنفُسِهم؛ لاختلافِها باختلافِ المَشْهودِ به: فالأُولى: شهادَتُهم بتبليغِ الرُّسُل إليهم، والثَّانية: شهادَتُهم بكُفْرِهم .
9- قولُ اللهِ تعالى: وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ لا تَنافيَ بينه وبين الآياتِ التي تدلُّ على إنكارِهم؛ كقولِه تعالى حكايةً عن قولِهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ لاحتمالِ أن يكونَ ذلك من طوائِفَ: طائفةٌ تَشهَدُ، وطائفة تُنكِرُ، أو من طائفةٍ واحدةٍ؛ لاختلافِ الأحوالِ ومواطِنِ القيامةِ في ذلك اليومِ المتطاوِلِ: فيُقِرُّون في بعضٍ، ويجحدونَ في بعضٍ، وذلكَ يدلُّ على شدَّةِ خَوفِهم، واضطرابِ أحوالِهم؛ فإنَّ مَنْ عَظُمَ خَوفُه كَثُرَ الاضطرابُ في كَلامِه .
10- قال تعالى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّه لا وجوبَ ولا تكليفَ قبل وُرودِ الشَّرْعِ .
11- قوله: لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ فيه شأنٌ عظيمٌ مِن شُؤونِ الله تعالى، وهو شَأْنُ عَدْلِه ورَحْمَتِه، ورضاه لعبادِه الخيرَ والصَّلاحَ، وكراهِيَتِه سوءَ أعمالِهم، وإظهارِه أثَرَ ربوبِيَّتِه إيَّاهم؛ بهدايَتِهم إلى سُبُلِ الخيرِ، وعَدَمِ مُباغَتَتِهم بالهلاكِ قبل التقَدُّمِ إليهم بالإِنْذارِ والتَّنبيهِ
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا قرئُ بنونِ العَظَمةِ على الالتفاتِ؛ لتهويلِ الأمرِ
، وفيه: تأكيدٌ عامٌّ .
2- قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ فيه: إيجازٌ بالحذف؛ إذ إنَّ الجملة مقولٌ لقولٍ محذوفٍ يدلُّ عليه أسلوبُ الكلامِ، والتقديرُ: نقولُ أو قائلينَ ، ونداؤهم نداءُ شهرةٍ وتوبيخٍ على رؤوسِ الأشهادِ .
وفيه: تعريضٌ بتوبيخِ الإنسِ الَّذين اتَّبَعوهم وأَطاعُوهم، وأَفْرَطوا في مَرْضاتهم، ولم يسمَعوا مَن يدعوهم إلى نَبْذِ مُتابَعَتِهم .
- وقوله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ فيه إيجازٌ بحذفِ مضافٍ، تقديرُه: منْ إضلالِ الإنس ، وفيه: التوبيخُ والتقريعُ للجِنِّ والإنكارُ عليهم، أي: كان أكثرُ الإنسِ طَوْعًا لكم .
3- قوله: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ فيه: استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نَشَأَ من حكايةِ كَلامِهم؛ كأنَّه قيل: فماذا قالَ الله تعالى حينئذٍ؟ فقيل: قال: النَّارُ مَثْوَاكُمْ .
- وقوله: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ فيه: مجيءُ القولِ بصيغةِ الماضي؛ للتَّنبيهِ على تحقيقِ وُقوعِه، وهو مُستقبَلٌ؛ بقرينَةِ قولِه: يَحْشُرُهم .
4- قوله: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِن أشَدِّ الوعيدِ، مع تهكُّمٍ بالموعدِ؛ لخروجِه في صورةِ الاستثناءِ الذي فيه إطماعٌ .
5- قوله: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فيه: تذييلٌ للاعتراضِ، وتأكيدٌ للمقصودِ من المشيئَةِ مِن جَعْل استحقاقِ الخلودِ في العذابِ مَنُوطًا بالمُوافاةِ على الشِّرْكِ .
6- قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ هذا النِّداءُ أيضًا يومَ القيامَةِ، والهمزةُ الداخِلَةُ على نَفْي إتيانِ الرُّسُلِ في قوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ للإنكارِ التَّقريريِّ، وللتَّوبيخِ والتقريعِ ، حيث أعذَرَ اللهُ إليهم بإرسالِ الرُّسُلِ، فلم يَقْبَلوا منهم .
- وقوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فيه تبكيتُ المشركينَ، وتحسيرُهم على ما فَرَطَ منهم في الدُّنيا من عبادَةِ الجِنِّ، أو الالتجاءِ إليهم .
7- قوله: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نَشَأَ من الكلامِ السَّابقِ؛ كأنَّه قيل: فماذا قالوا عند ذلك التَّوبيخِ الشَّديدِ؟ فقيل: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا .
8- قوله: وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا اعتراضٌ لبيانِ ما أدَّاهم في الدُّنيا إلى ارتكابِهم للقَبائِحِ التي ارتَكَبوها، وألجَأَهم بعد ذلك في الآخِرَةِ إلى الاعترافِ بالكُفْرِ، واستيجابِ العذابِ .
9- قوله: وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ يحتملُ أن يكون استئنافَ إخبارٍ من الله تعالى بإقرارِهم على أنفُسِهم بالكُفْرِ .
- قوله: وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ خبرٌ مستعمَلٌ في التَّعجُّبِ مِن حالِهم .
10- قوله: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ استئنافٌ ابتدائيٌّ، تهديدٌ وموعظةٌ، وعِبرةٌ بتفريطِ أهْلِ الضَّلالةِ في فائدةِ دعوةِ الرُّسُلِ، وتنبيهٌ لجدوى إرسالِ الرُّسُل إلى الأُمَم؛ ليُعِيدَ المشركونَ نظرًا في أَمْرِهم، وإنذارٌ باقترابِ نُزُولِ العذابِ بهم
.=========
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (132-135)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ
غريب الكلمات :
وَيَسْتَخْلِفْ: أي: يأتِ بِخَلْقٍ وأُمَمٍ يَخْلُفونَ غيرَهم في الأرضِ، والخِلافةُ النِّيابةُ عن الغَير؛ يقال: خَلَفَ فلانٌ فلانًا: قام بالأمْرِ عنه، إمَّا معه وإمَّا بَعدَه، وأَصْلُ (خلف): مجيءُ شيءٍ بعدَ شيء يقومُ مقامَه
.
مَكَانَتِكمْ: أي: مكانِكم، أو مواضِعكم، أو ناحِيَتِكم، أو ما أنتم عليه .
يُفْلِحُ: أي: يظْفَرُ ويُدرِكُ بُغْيتَه؛ فأصل الفَلَاح: الظَّفَرُ، وإدراكُ البُغية، والبقاءُ
.
المعنى الإجمالي :
يخبِرُ تعالى أنَّ لكُلِّ النَّاسِ منازِلَ ومراتِبَ في الآخِرَةِ، يستحقُّونها بحَسَبِ أعمالِهم؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ، ولا يخفى على اللهِ من أعمالِ البَشَرِ شيءٌ.
ثم خاطب اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم؛ قائلًا له: وربُّك- يا مُحمَّدُ- هو الغنيُّ ذو الرَّحمةِ؛ إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم- أيُّها النَّاسُ- ويستخلِفْ مِن بَعْدِكم قومًا آخرينَ، يعملونَ بطاعَتِه؛ كما أوجَدَكم مِن نَسْلِ قومٍ آخرينَ كانوا قَبلَكم.
ثم بَيَّنَ تعالى أنَّ ما يتوعَّدُ به عزَّ وجلَّ المشركينَ مِن العذابِ؛ فإنَّه آتٍ لا محالةَ، وما هم بمُعجزينَ.
ثم أمَرَ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم أن يُخبِرَ قَومَه مِن مُشْركي قريشٍ إذا دعاهم إلى اللهِ فلم يَنْقادُوا لدَعْوَتِه: أنْ يَعْمَلوا ما هم عامِلونَ على حالَتِهم التي هُم عليها، وارتَضَوْها لأنفُسِهم، وأنَّه عامِلٌ بما أمَرَه ربُّه، وأنَّهم سَوْفَ يعلمونَ عند نزولِ نِقْمةِ اللهِ بهم، أيُّهم أصابَ طريقَ الهُدى، فتكون له العاقبةُ الحسَنَةُ في الدُّنيا والآخرة؛ أهمُ المؤمنونَ، أم المشركونَ، فإنَّه لا يُفلِحُ الظَّالمونَ.
تفسير الآيات :
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا شَرَحَ تعالى أحوالَ أهلِ الثَّوابِ والدَّرَجاتِ، وأحوالَ أهلِ العقابِ والدَّرَكات، في الآياتِ السَّابقة؛ ذكر كلامًا كليًّا، فقال
:
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ.
أي: ولكُلِّ النَّاسِ: كافرينَ ومُؤمنينَ، طائعينَ وعاصينَ؛ منازِلُ ومراتِبُ في الآخرةِ، يستحِقُّونها بحسَبِ أعمالِهم؛ يُبَلِّغُهم اللهُ تعالى إيَّاها، ويُثِيبُهم بها؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شَرًّا فشَرٌّ .
قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء: 21] .
وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ.
أي: وكلُّ ما يعمَلُه النَّاسُ- يا مُحمَّدُ- لا يخفى على ربِّك؛ فهو يعلَمُ أعمالَهم، ويُحْصِيها عليهم، ويُثْبِتُها لهم عِنْدَه؛ ليُجِازِيَهم بها يومَ القيامةِ، وذلك بحَسَب أعمالِهم ومقاصِدِهم من خيرٍ أو شرٍّ .
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ تعالى ثَوابَ أصحابِ الطَّاعاتِ، وعقابَ أصحابِ المعاصي والمحرَّمات، وذَكَرَ أنَّ لكلِّ قومٍ درجةً مخصوصةً، ومرتبةً مُعَيَّنةً- بَيَّنَ أنَّ تخصيصَ المُطيعينَ بالثَّوابِ، والمُذنبينَ بالعذابِ؛ ليس لأجْلِ أنَّه مُحتاجٌ إلى طاعةِ المُطيعينَ، أو ينتقِصُ بمعصيةِ المُذنبينَ، فطَلَبُ العبادةِ للائتمارِ والانتهاءِ ربَّما أوهَمَ الحاجَةَ إليها؛ لنَفْعٍ في الطَّاعَةِ، أو ضَرَرٍ يلحَقُه سبحانه من المعْصِيَةِ، وكان الإمهالُ مع المبارَزَة ربُّما ظُنَّ أنَّه عن عجزٍ، فقال تعالى مُرَغِّبًا مُرَهِّبًا :
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ.
أي: وربُّك- يا مُحمَّد- غنيٌّ عن عبادِه، وعن أعمالِهم وعبادَتِهم إيَّاه؛ فلا تنفَعُه طاعةُ الطَّائعينَ، كما لا تَضُرُّه معصيةُ العاصينَ، وهم الفقراءُ المحتاجونَ إليه؛ فلم يخْلُقْهم، ولم يأمُرْهم بما أمَرَهم به، ويَنْهَهم عمَّا نهاهم عنه؛ لحاجةٍ إليهم وإلى أعمالِهم، ولكنْ ليتَفضَّلَ عليهم برَحْمَتِه، ويُثيبَهم على إحسانِهم إنْ أَحْسَنوا .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 15-17] .
وعن أبي ذرٍّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّهُ قال: ((... يا عبادِي، إنَّكم لن تبلُغُوا ضُرِّي فتَضُرُّوني، ولن تبْلُغوا نَفْعِي فتنفَعوني. يا عبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم، وإِنْسَكم وجِنَّكم؛ كانوا على أتقى قَلْبِ رجلٍ واحدٍ منكم؛ ما زاد ذلك في مُلْكي شيئًا. يا عبادي، لو أنَّ أوَّلَكم وآخِرَكم، وإنْسَكم وجِنَّكم؛ كانوا على أفجَرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ؛ ما نقص ذلك مِن مُلْكِي شيئًا... )) .
إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء.
أي: إنْ يشَأْ يُذْهِبْكم- أيُّها الَّناسُ- بإهلاكِكم وإفنائِكم إذا خالَفْتُم أمْرَه، ويستخْلِفْ مِن بَعْدِكم قومًا آخرينَ؛ يعملونَ بطاعَتِه، فهو قادِرٌ على ذلك سبحانه .
كما قال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 15-17] .
كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ.
أي: كما أوجَدَكم مِن نَسْلِ خَلْقٍ آخرينَ كانوا قبْلَكم؛ فكما أذْهَبَ القرونَ الأُولَى، وأتى بالتي بَعْدَها؛ كذلك هو قادرٌ على إذهابِكم، والإتيانِ بآخَرينَ .
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّ الله تعالى بعدَ أنْ أَنذَرَهم عذابَ الدُّنيا وهلاكَهم فيها؛ أنذَرَهم عذابَ الآخرةِ، على سُنَّةِ القرآنِ في الجمْعِ بينهما ، فقال تعالى:
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ.
أي: إنَّ الذي يُوعِدُكم به ربُّكم- أيُّها المشركون- من العذابِ والتَّنكيلِ على كُفْرِكم؛ واقعٌ بكم لا مَحالةَ .
وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ.
أي: ولن تُعجِزوا اللهَ تعالى هربًا منه في الأرضِ؛ فتَفُوتُوه، بل أنتم في قَبْضَتِه، وتحت قَهْرِه وسُلطانِه، وهو قادرٌ على أن يُنْفِذَ فيكم ما يشاءُ مِن وَعيدِه .
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135).
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ.
أي: قل- يا مُحمَّدُ- لقومِك مِن مُشرِكي قريشٍ إذا دعَوْتَهم إلى اللهِ، وبَيَّنْتَ ما لهم وما عليهم من حُقوقِه، فامتَنَعُوا من الانقيادِ لأمْرِه، واتَّبَعوا أهواءَهم، واستَمَرُّوا على شِرْكِهم: اعملوا- يا قومي- ما أنتم عامِلونَ، على حالَتِكم التي أنتم عليها، ورَضِيتُموها لأنفُسِكم؛ فإنِّي عامِلٌ ما أنا عامِلُه مِمَّا أَمَرَني به ربِّي، ومُتَّبِعٌ لمراضِيه؛ فاستَمِرُّوا على طريقِكم وناحِيَتِكم، إن كُنْتم تظنُّونَ أنَّكم على هُدًى، وأنا مستمِرٌّ على طريقَتي ومنهَجي، ولا يَضُرُّني تصميمُكم على ما أنتم عليه .
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ.
أي: فسوف تَعْلَمونَ- أيُّها الكُفَّارُ- عند نزولِ نِقْمةِ الله بكم: أيُّنا كان المحِقَّ في عَمَلِه، والمصيبَ طريقَ الهدى، فتكون له العاقبةُ الحَسَنَة في الدُّنيا والآخرةِ، أتكونُ لنا نحن المؤمنينَ، أو لكم أيُّها المشركونَ .
كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر: 51-52] .
وقال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] .
وقال سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم: 13-14] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور: 55] .
إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
أي: إنَّه لا ينجَحُ ولا يفوزُ بحاجَتِه عند الله، مَن عَمِلَ بخلافِ ما أمَرَه به في الدُّنيا؛ فكُلُّ ظالمٍ وإن تَمَتَّع في الدُّنيا بما تمتَّعَ به، فنهايَتُه إلى زوالٍ واضمحلالٍ .
والمراد: ستكونُ عُقبى الدَّارِ للمُسلمينَ، لا لكم؛ لأنَّكم ظالِمونَ .
عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ لَيُمْلِي للظَّالمِ ، حتى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْهُ. قال: ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ))
.
الفوائد التربوية :
.
الفوائد العلمية واللطائف :
1- قولُ اللهِ تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا استدَلَّ به من قال: إنَّ الجِنَّ يدخُلونَ الجنَّةَ ويُثابونَ
.
2- قولُ اللهِ تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا فيه أنَّ الخيرَ والشَّرَّ درجاتٌ؛ فالكُفْرُ والفُسوقُ والمعاصي درجاتٌ، كما أنَّ الإيمانَ والعَمَلَ الصَّالِحَ درجاتٌ .
3- في قَوْلِه تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا غلَّب لفظَ دَرَجَاتٍ بدلًا عن دَرَكاتٍ؛ لِنُكتةِ الإشعارِ ببِشارَةِ المؤمنينَ بعد نِذارَةِ المُشركينَ .
4- قولُه تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ناسَبَ قولَه ذُو الرَّحْمَةِ؛ فقد كان يجوزُ أنْ يَظُنَّ ظانٌّ أنَّه وإن كان ذا الرَّحمةِ إلَّا أنَّ لرَحْمَتِه مَعْدِنًا مخصوصًا، وموضعًا مُعَيَّنًا؛ فبَيَّنَ تعالى أنَّه قادِرٌ على وضْعِ الرَّحمةِ في هذا الخَلْقِ، وقادِرٌ على أن يخلُقَ قومًا آخرينَ، ويضَعَ رَحْمَته فيهم، وعلى هذا الوجهِ يكون الاستغناءُ عن العالَمينَ أكملَ وأتمَّ .
5- قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ فيه التَّحذيرُ مِن بَطْشِ اللهِ في التَّعجيلِ بذلك .
6- وصْفُ قومٍ بـ آخَرِينَ للدَّلالةِ على المغايرةِ؛ أي: قَوم لَيْسُوا من قبائِلِ العَربِ، وذلك تنبيهٌ على عظيمِ قُدرةِ الله تعالى؛ أن يُنْشِئ أقوامًا من أقوامٍ يخالفُونَهم في اللُّغَة والعوائِدِ والمواطِنِ، وهذا كنايةٌ عن تباعُدِ العُصورِ، وتسلسُلِ الْمُنْشَآت؛ لأنَّ الاختلافَ بينَ الأُصولِ والفُروعِ لا يحدُثُ إلَّا في أزمنةٍ بعيدةٍ، فشتَّانَ بين أحوالِ قَومِ نوحٍ، وبين أحوالِ العَرَبِ المخاطَبينَ، وبين ذلك قرونٌ مختلفةٌ متباعِدَةٌ .
7- قوله: يَا قَوْمِ في هذا النِّداءِ ضَرْبٌ من الاستمالةِ للكفَّار الَّذين خُوطِبوا بالدَّعوة أوَّلًا، بما يُذَكِّرُهم بأنَّهم قومُ الرَّسولِ الَّذين يحبُّهم، ويحرِصُ على خَيرِهم ومنفَعَتِهم، بباعِثِ الفِطرةِ والتَّربيةِ والمنافِعِ المشترَكَة، وقد كانتِ النَّعْرَةُ القوميَّةُ عند العَرَبِ أَقْوَى منها عند المَعروفِ حالُهم اليومَ مِن سائِرِ الأُممِ، فكان نداؤُهم بِقَوْلِه: يَا قَوْمِ جديرًا بأنْ يحرِّكَ هذه العاطِفَةَ في قُلوبِهم، فتَحْمِلَ المستعِدَّ على الإصغاءِ لِمَا يقولُ، والتأمُّلِ فيه .
8- قولُ اللهِ تعالى: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ أي: فسوف تعرفونَ الفريقَ الذي تكونُ له العاقبةُ الحُسنى التي خَلَقَ اللهُ هذه الدارَ الدُّنيا لها، وهذا طريقٌ من الإنذارِ لطيفُ المسلكِ: فيه إنصافٌ في المقالِ، وأدبٌ حَسَنٌ مع تضمُّنِ شِدَّةِ الوعيدِ والوثوقِ بأنَّ المنذِرَ مُحِقٌّ، وأن المُنذَرَ مُبطِلٌ .
9- قوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ يُوهِمُ أنَّ الكافِرَ ليست له عاقبةُ الدارِ، وذلك مُشكِلٌ، فكيف الجوابُ عنه؟ الجواب: العاقِبَةُ تكونُ على الكافِرِ، ولا تكون له كما يقال: له الكثرةُ ولهم الظَّفَرُ، وفي ضِدِّه يقال: عليكُمُ الكَثْرَةُ والظَّفَرُ
.
بلاغة الآيات :
1- قوله: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
- في قَوْلِه تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ احتراسٌ على قوله: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ؛ للتنبيهِ على أنَّ الصَّالحينَ مِن أهْلِ القرى الغالِبِ على أهلِها الشِّرْكُ والظُّلْمُ؛ لا يُحرَمونَ جزاءَ صَلاحِهم
.
- قوله: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيه: تعريضٌ بالوعيدِ للمُشْركينَ .
2- قوله: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ فيه: كنايةٌ عن غِناه تعالى عن إيمانِ الـمُشْركينَ وموالاتِهم، وكنايةٌ عن رَحمَتِه؛ إذ أمهَلَ المشركينَ، ولم يُعَجِّلْ لهم العذابَ .
- وفيه: إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ؛ إذ مقتضى الظَّاهِرِ أن يقال: (وهو الغنيُّ ذو الرَّحمةِ)، فخُولِفَ مقتضى الظَّاهِر؛ لِمَا في اسمِ الرَّبِّ من دَلالةٍ على العِنايةِ بصلاحِ المربوبِ، ولتكونَ الجملةُ مستقلَّةً بنَفْسِها، فتسيرُ مَسْرَى الأَمْثالِ والحِكَم .
- وفيه الحصرُ أو القصْرُ، أي: وربُّك هو الغنيُّ الكامِلُ الغِنى، وذو الرَّحْمَةِ الكاملةِ الشَّامِلَة، التي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ
3- قوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ فيه: استئنافٌ لتَهْديدِ المشركينَ الَّذين كانوا يُكَذِّبون الإنذارَ بعذابِ الإِهْلاكِ .
- وفيه إيجازٌ بالحَذْفِ؛ إذ إنَّ مفعولَ: يَشَأْ محذوفٌ على طريقَتِه المألوفةِ في حذْفِ مفعولِ المشيئةِ .
- والسينُ والتَّاءُ في قوله: وَيَسْتَخْلِفْ للتأكيدِ .
- وفيه: تعريضٌ بإهلاكِ المشركينَ، ونجاةِ المؤمنينَ من العذابِ .
- وقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ الجملةُ الشرطيَّةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لمَضْمونِ ما قَبْلَها مِنَ الغِنى والرَّحمةِ .
4- قوله: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ فيه: استئنافٌ بيانيٌّ؛ جوابًا عن أن يقولَ سائلٌ من الـمُشركينَ: إذا كنَّا قد أُمْهِلْنا وأُخِّرَ عنا الاستئصالُ، فقد أفْلَتْنَا مِنَ الوعيدِ، ولعلَّه يَلْقاه أقوامٌ بَعْدَنا، فوَرَدَ قَوْلُه: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ .
- والتأكيدُ بـ(إنَّ) مناسِبٌ لمقامِ المترَدِّدِ الطَّالبِ، وزيادةُ التأكيدِ بلامِ الابتداءِ في لَآتٍ؛ لأنَّهم متوَغِّلونَ في إنكارِ تحقُّقِ ما أُوعِدُوا به من حصولِ الوعيدِ واستسخارِهم به .
- قوله: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ فيه: إيثارُ صيغةِ الفاعلِ (آتٍ) على المستقبَل (سيأتي)؛ للإيذانِ بكمالِ قُرْبِ الإتيانِ، وقال هنا: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ولم يقل: لواقِعٌ؛ لبيان كمالِ سرعةِ وقوعِه، بتصويرِه بصورةِ طالبٍ حثيثٍ لا يفوته هاربٌ، حسَبَما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى: وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ أي: بفائتينَ ذلك، وإن ركِبتُم في الهربِ متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ .
5- قوله: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ المرادُ منه بيانُ دوامِ انتفاءِ الإعجازِ، لا بيانُ انتفاءِ دوامِ الإعجازِ؛ فإنَّ الجملةَ الاسميَّةَ كما تدلُّ على دوامِ الثُّبوتِ، تدلُّ بمعونَةِ المقامِ- إذا دخل عليها حرفُ النَّفيِ- على دوامِ الانتفاءِ، لا على انتفاءِ الدَّوامِ .
6- قوله: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ استئنافٌ ابتدائيٌّ بعد قولِه: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ فإنَّ المقصودَ الأَوَّلَ منه هو وعيدُ الـمـُشركينَ، فأعقَبَه بما تمحَّضَ لوعيدِهم: وهو الأمرُ المستعمَلُ في الإنذارِ والتَّهديدِ ، والتهديدُ بصيغةِ الأمر مبالغةٌ في الوعيدِ .
- وفيه إيجاز بالحذفِ؛ حيث حُذِفَ مفعولُاعْمَلُوا؛ لأنَّ الفعلَ نُزِّلَ منزلةَ اللازمِ؛ أي: اعملوا عَمَلَكُم المألوفَ الذي هو دَأْبُكم، وهو الإعراضُ والتَّكذيبُ بالحَقِّ .
- قوله: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ المكانةُ كنايةٌ عن الحالَةِ؛ لأنَّ أحوالَ المرءِ تَظْهَر في مَكانِه ومَقَرِّه .
- وفيه- مع النَّصيحةِ- تخويفٌ شديدٌ؛ لأنَّ تهديدَ الحاضِرِ على لسانِ الغيرِ مع الإعراضِ أشَدُّ من مواجَهَتِه بالتَّهديدِ .
7- قوله: إِنِّي عَامِلٌ فيه إيجازٌ بحذفِ متعلِّق عامِلٌ للتَّعميمِ مع الاخْتِصارِ .
8- قوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ صريحٌ في التَّهديدِ؛ لأنَّ إخبارَهم بأنَّهم سَيَعْلمونَ يفيدُ أنَّه يعلَمُ وقوعَ ذلك لا محالةَ، وتصميمُه على أنَّه عامِلٌ على مكانَتِه، ومخالِفٌ لعَمَلِهم يدلُّ على أنَّه مُوقِنٌ بحُسْنِ عُقباه، وسوءِ عُقْباهم، ولولا ذلك لعَمِلَ عَمَلَهم؛ لأنَّ العاقِلَ لا يرضى الضُّرَّ لنَفْسِه، فدل قولُه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ على أنَّ عِلْمَهم يقَعُ في المُستقَبلِ، وأمَّا هو فعالمٌ مِن الآن .
- قوله: فَسَوْفَ حرفُ التَّنفيسِ مُرادٌ منه تأكيدُ الوُقوعِ؛ لأنَّ حَرْفَيِ التَّنفيسِ يؤكِّدانِ المستقبَلَ، كما تؤكِّدُ (قد) الماضِيَ .
9- قوله: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فيه: تذييلٌ للوعيدِ يَتَنَزَّل منزلةَ التَّعليلِ ، والغَرَضُ منه بيانُ أنَّ قولَه: اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ تهديدٌ وتخويفٌ، لا أنَّه أمرٌ وطَلَبٌ
.=============
سُورةُ الأنعامِ
الآيات (136-140)
ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ
غريب الكلمات :
ذَرَأَ: أَي خَلَق؛ يُقالُ: ذَرَأَ اللَّهُ الخَلْقَ يذْرَؤُهُمْ ذَرْأً وَذَرْوًا: إِذا خَلَقَهُمْ، وأصْلُه من قولهم: ذَرَأْنَا الأرضَ، أي: بَذَرْناها
.
الْحَرْثِ: الزَّرع، والبَساتين والمَزَارِع، وأصْلُه: إلقاءُ البَذْرِ في الأَرْضِ وتهيئَتُها للزَّرعِ، والكَسبُ والجَمْعُ .
نَصِيبًا: أي حظًّا وقِسْمًا وجُزْءًا، والنَّصيبُ: الحظُّ المنصوبُ، أي: المعَيَّنُ، وأَصْلُ (نصب): إقامةُ شيءٍ، وإهدافٌ في استواءٍ .
لِيُرْدُوهُمْ: أي: ليُهْلِكوهم، والرَّدى: الهلاكُ، وأَصْل (ردي) يَدُلُّ على رمْيٍ أو ترامٍ، وما أشبَهَ ذلك .
حِجْرٌ: أي حرامٌ، وَأَصْلُ (حجر): المنعُ والإحاطةُ على الشَّيءِ .
خَالِصَةٌ: أي: حَلالٌ أو خاصَّةٌ، وأَصْلُ (خلص): تَنقِيَةُ الشَّيءِ وتهذِيبُه .
سَفَهًا: أي: جَهْلًا، وأصل السَّفهِ: الجَهْلُ، والخِفَّةُ في البَدنِ والعَقْلِ، والضَّعْفُ والحُمْقُ، واستُعمِلَ في خِفَّة النَّفسِ؛ لنُقصانِ العَقْلِ
.
مشكل الإعراب :
قوله تعالى: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ
زَيَّنَ: يُقْرَأ بفَتْحِ الزَّاي والياءِ على البناءِ للمعلوم، وفاعلُه: شُرَكَاؤُهُمْ، والمفعولُ قَتْلَ وأَوْلَادِهم مجرورٌ بإضافةِ قَتْلَ إليه مِن إضافةِ المصدرِ إلى مَفعولِه.
ويُقرأ: (زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ)
بضَمِّ الزَّايِ، وكسْرِ الياءِ على البناءِ لِـَما لم يُسَمَّ فاعِلُه. وقَتْلُ بالرَّفع على أنَّه نائِبٌ عن الفاعِل، وأَوْلَادَهُمْ بالنَّصبِ على أنَّه مفعولُ المَصْدرِ قَتْلُ، وشُرَكَائِهِمْ بالجرِّ على إضافَةِ قَتْلُ إليه من إِضافَةِ الْمَصدَرِ إِلى فَاعِلِه، وقد فُصِلَ بينهما بالمفعولِ، والمَعْنى على هذه القراءةِ: أنَّ مُزيِّنًا زَيَّنَ لكثيرٍ من المشركينَ أن يقتُل شركاؤُهم أولادَهم؛ وإسنادُ القتْلِ إلى الشُّركاءِ؛ إمَّا لأنَّ الشُّرَكاء سببُ القتلِ إذا كان القَتْلُ قِربانًا للأصنامِ، وإمَّا لأنَّ الَّذين شرَعوا لهم القَتْلَ هم القائمونَ بدِيانة الشِّركِ؛ مثل عمرِو بنِ لُحَيٍّ ومَن بَعدَه
.
المعنى الإجمالي :
يخبِرُ تعالى أنَّ المشركينَ جَعَلوا لله مِمَّا خَلَقَ من الزُّروعِ والثِّمارِ والأنعامِ جُزءًا، وجعلوا لشركائِهم جزءًا كذلك، فإنْ وَصَلَ شيءٌ مِمَّا خَصَّصُوه لآلِهَتِهم إلى ما جعلوه للهِ رَدُّوه إلى مَحَلِّه من نصيبِ آلِهَتِهم، وإنِ اختَلَطَ شيءٌ مِمَّا خَصَّصوه للهِ بما جَعَلُوه لآلِهَتِهم تركوه فلم يَرُدُّوه إلى مَحَلِّه، ولم يهتمُّوا بذلك، ساءَ ما يحكمونَ!
كذلك زَيَّنَت الشَّياطينُ لكثيرٍ من المشركينَ قَتْلَ أولادِهم؛ ليُهْلِكوهم ويَخْلِطوا عليهم دينَهم، ولو شاء اللهُ ما فعلوا ذلك، ثم أمَرَ اللهُ نَبِيَّه أن يَدَعَهم وما يَفتَرونَ.
وقال هؤلاءِ المشركونَ: هذه الأنعامُ وهذا الزَّرعُ حرامٌ، لا يجوزُ لأحدٍ أن يأكُلَ منه، إلَّا مَن أَذِنُوا له، وهذا بحَسَبِ ادِّعائِهم الذي لا مُستَنَدَ له ولا حُجَّةَ، وحَرَّمَ هؤلاءِ المشركونَ ظُهورَ بعضِ الأنعامِ فَلم يُحِلُّوا ركُوبَها، وبعضٌ من الأنعامِ لا يذكرونَ اسْمَ اللهِ عليها، سَيَجْزِيهم اللهُ بما كانوا يَفْتَرونَ.
وقال هؤلاءِ المشركونَ: ما في بُطُونِ هذه الأنعامِ مِن لَبَنٍ وأجِنَّةٍ؛ حلالٌ لذُكُورنا، وحرامٌ على إناثِنا، هذا إن خَرَجَتِ الأجِنَّةُ أحياءً، وإن يَكُنْ ما في بُطونِها مَيْتَةً، فهو حلالُ الأَكْلِ للذُّكورِ والإناثِ، وهم شُرَكاءُ فيه، ثم توَعَّدَ اللهُ تعالى أنَّه سَيَجْزي هؤلاءِ المُفْتَرينَ عليه الكَذِبَ حين وَصَفُوا ما أحَلَّه بأنَّه حرامٌ، وما حَرَّمَه بأنَّه حلالٌ، وَنَسَبوا كَذِبَهم ذلك إلى اللهِ تعالى؛ إنَّه تعالى حكيمٌ عليمٌ.
ثم يخبِرُ تعالى أنَّه قد خَسِرَ هؤلاء المشركونَ الَّذين قَتَلُوا أولادَهم سَفَهًا بغيرِ عِلْمٍ، وحَرَّموا ما رَزَقَهم الله تعالى؛ كذبًا وافتراءً عليه، قد انَحَرَفوا عن الطَّريقِ القويمِ، ولم يُوَفَّقوا للصَّوابِ.
تفسير الآيات :
وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (136) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ تعالى قُبْحَ طريقَتِهم في إنكارِهم البَعثَ والقيامةَ؛ ذَكَرَ عَقيبَه أنواعًا من جَهالاتِهم، ورَكاكاتِ أَقْوالِهم؛ تنبيهًا على ضَعْفٍ عقولِهم، وقِلَّة مَحْصولِهم، وتنفيرًا للعُقلاءِ عنِ الالتِفاتِ إلى كَلِماتِهم
، فقال تعالى:
وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَـذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـذَا لِشُرَكَآئِنَا.
أي: وجَعَلَ المشركونَ مِمَّا خَلَقَ الله مِنَ الزُّروعِ والثِّمارِ والأنعامِ قِسْمًا وجُزءًا له تعالى، وجَعَلوا لشُرَكائِهم مع الله تعالى نصيبًا من ذلك، والحالُ أنَّ اللهَ تعالى هو الذي ذَرَأَه للعبادِ، وأوجَدَه رِزقًا، وهؤلاءِ الشُّركاءُ لم يرزُقُوهم، ولم يُوجِدوا لهم شيئًا من ذلك .
فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ.
أي: فَإِنْ وَصَلَ شيءٌ مِمَّا جَعَلوه لآلِهَتِهم إلى ما جَعَلوه للهِ سبحانه؛ رَدُّوه إلى مَحَلِّه مع نصيبِ أَوْثانِهم، فحَفِظوه واعتَنَوْا به، وإن اختَلَطَ شيءٌ مِمَّا جَعَلوه للهِ تعالى بما جَعَلوه لآلِهَتِهم؛ تَرَكوه فيه ولم يَرُدُّوه إلى مَحَلِّه، ولم يُبَالوا ويهتمُّوا بذلك .
سَاء مَا يَحْكُمُونَ.
أي: قد أساؤُوا في حُكْمِهم؛ إذ أَخَذُوا مِن نصيبِ اللهِ تعالى لِشُرَكائِهم، ولم يجْعَلوا له سبحانه شيئًا مِنْ نصيبِ شُرَكائِهم، فجَعَلوا ما للمَخْلوقِ يُجتهَدُ فيه ويُحفَظُ، أكثرَ مما يُفعَلُ بحقِّ اللهِ عزَّ وجلَّ، الذي هو ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه وخالِقُه، وكلُّ شيءٍ تحت قُدرَتِه ومَشيئَتِه، سبحانه وتعالى .
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137).
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ.
أي: وكما حسَّنَت الشَّياطينُ لهؤلاءِ المشركينَ أن يَجْعَلوا للهِ مِمَّا ذَرَأَ من الحَرْثِ والأنعامِ نصيبًا، كذلك حسَّنوا لهم قَتْلَ أولادِهم خَشيَةَ الإملاقِ، ووَأْدَ البناتِ خَشيةَ العارِ، وكلُّ هذا مِن خُدَعِ الشَّياطينِ، الَّذين يريدونَ أن يُهلِكوهم، وأن يَخْلِطوا عليهم دينَهم فيلتَبِس، فيَضِلُّوا ويَهْلِكوا بأفعالٍ في غايَةِ القُبحِ؛ تُزيَّنُ لهم فتكونُ لديهم من الأمورِ الحَسَنة الجميلةِ، والخِصالِ الحميدَةِ .
كما قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام: 151] .
وقال سبحانه: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل: 58-59] .
وقال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء: 31] .
وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ.
أي: ولو شاءَ اللهُ عزَّ وجلَّ لَمَنَعَ هؤلاءِ المشركينَ، وحَالَ بينهم وبين قَتلِ أَوْلادِهم، ولكنَّ اللهَ تعالى بحَسَبِ ما اقتضَتْه حِكْمَتُه، خلَّى بينهم وبين أفعالِهم، وخَذَلَهم عن الهُدى والحَقِّ، فأطاعوا الشَّياطينَ التي أغوَتْهم، وقَتَلُوا أولادَهم. وكلُّ هذا واقعٌ بمشيئَتِه تعالى، وله الحِكمةُ التامَّةُ في ذلك، فدَعْهُم- يا مُحمَّدُ- وما يختلقونَ ويتقوَّلونَ على الله تعالى مِنَ الكذبِ، ولا تحزَنْ عليهم؛ فإنَّهم لن يضُرُّوا اللهَ تعالى شيئًا؛ فسَيَحْكُمُ اللهُ بينك وبينهم؛ فهو لهم بالمِرْصادِ؛ يستدْرِجُهم، ويُمْهِلُهم .
وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى إقدامَهم على ما دلَّ النَّقلُ على قُبحِه- مع قبحِه في العَقْلِ- مِن قَتْلِ الأولادِ؛ أتبَعَه إِحْجامَهم عما حَسَّنَه الشَّرْعُ مِن ذَبْحِ بعضِ الأنعامِ لِنَفْعِهم، وضَمَّ إليه جملةً مِمَّا منعوا أنفُسَهم منه، ودانوا به لمجرَّدِ أهوائِهم ، فقال تعالى:
وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ.
أي: وقال هؤلاءِ المشركونَ: هذه الأَنْعامُ وهذا الزَّرعُ حرامٌ لا يجوزُ أن يأكُلَ منه أحَدٌ، إلَّا مَنْ أذِنَّا له، وهذا بحَسَبِ أهوائِهم وادِّعائِهم الذي لا مُستَنَدَ له ولا حُجَّةَ .
كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس: 59] .
وقال سبحانه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة: 103] .
وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا.
أي: وحرَّم هؤلاءِ الجهلَةُ من المشركينَ ركوبَ ظُهُورِ بعضِ أَنْعامِهم .
وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ.
أي: وحرَّموا مِن أنعامِهم صِنفًا آخَرَ لا يَحجُّون عليها، ولا يَذْكُرونَ اسمَ الله عليها إنْ رَكِبوها، أو حَلَبُوها أو حَمَلوا عليها أو ذَبَحوها، وهذا كَذِبٌ منهم على اللهِ تعالى؛ إذ لم يأذَنْ لهم بذلك .
سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ.
أي: سيُجازِيهم اللهُ عزَّ وجلَّ بسَبَبِ اختلاقِهم الكَذِبَ عليه، وتحريمِهم ما أحَلَّه سبحانه من الأَكْلِ والمنافِعِ .
وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (139) .
وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا.
أي: وقال هؤلاءِ المشركونَ: جميعُ ما في بُطونِ تلك الأنعامِ مِن لَبَنٍ وجَنينٍ، فهو حلالٌ لذُكُورِنا وحرامٌ على إناثِنا. هذا إذا خَرَجَت الأجنَّةُ أحياءً .
وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء.
أي: وإنْ يكُنْ ما في بطونِ تلك الأنعامِ قد وُلِدَ مَيْتًا فهو حلالٌ للذُّكورِ والإناثِ، وهُم شُركاءُ في أكْلِه، لا يُحَرِّمونه على أَحَدٍ منهم .
سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ.
أي: سيجازي اللهُ تعالى هؤلاءِ المفترينَ عليه الكَذِبَ حين وَصَفُوا ما أحلَّه بأنَّه حرامٌ، ووَصَفوا ما حَرَّمَه بأنَّه حلالٌ، ونَسَبُوا كَذِبَهم في ذلك إلى اللهِ تعالى .
كما قال تعالى: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [النحل: 116] .
إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ تعالى حكيمٌ في أفعالِه وأقوالِه وشَرْعِه وقَدَرِه، ومن ذلك أنَّه حكيمٌ في مجازاةِ أولئك المُشْركينَ على قَوْلِهم الكَذِبَ عليه سبحانَه، حكيمٌ في إمهالِه لهم، وتمكينِهم ممَّا هم فيه مِن الضَّلالِ، وهو عليمٌ بأعمالِ عبادِه خَيْرِها وشَرِّها، ومن ذلك عِلْمُه بأولئك المُشْركينَ، وبما قالوه عليه وافْتَرَوه، وسَيَجْزِيهم على ذلك أتمَّ الجَزاءِ .
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (140) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا ذَكَرَ تعالى- فيما تقَدَّمَ- قَتْلَهم أولادَهم، وتحريمَهم ما رَزَقَهم اللهُ، جَمَعَ هَذَينِ الأَمْرَينِ في هذه الآيةِ، وبَيَّنَ ما لَزِمَهم على هذا الحُكْمِ، وهو الخُسرانُ، والسَّفاهةُ، وعَدَمُ العِلْم، وتحريمُ ما رَزَقَهم اللهُ، والافتراءُ على اللهِ، والضَّلالُ، وعدمُ الاهتداءِ؛ فهذه أمورٌ سبْعَةٌ، وكلُّ واحدٍ منها سببٌ تامٌّ في حُصُولِ الذَّمِّ ، فقال تعالى:
قَدْ خَسِرَ الّ¡