الجمعة، 19 يناير 2024

{18 سورة الكهف مكية*110 آيات}

 

{18-سورة  الكهف مكية*110 آيات}

 

 

سورةُ الكَهفِ

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

وردَ لهذه السورةِ اسمانِ:

1- سورةُ الكَهفِ:

فعن النَّوَّاسِ بنِ سِمْعانَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((ذَكَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدجَّالَ ذاتَ غَداةٍ...))، وفيه أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فمَن أدْرَكه منكم، فليَقْرأْ عليه فواتحَ سورةِ الكهفِ )) .

وعن أبي الدَّرداءِ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن حَفِظَ عَشرَ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورةِ الكَهفِ، عُصِمَ مِن الدجَّالِ )) .

2- سورةُ أصحابِ الكَهفِ:

فعن النَّوَّاسِ بن سِمْعانَ رضي الله عنه، قال: ((ذكَرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدجَّالَ ذاتَ غَداةٍ...))، وفيه قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فمَن رآه منكم، فليَقرأْ فواتِحَ سُورةِ أصحابِ الكَهفِ ))

 

.

فضائل السورة وخصائصها:

 

1- أنَّ قِراءةَ سُورةِ الكَهفِ سَبَبٌ لِنُزولِ السَّكينةِ:

فعن البَراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ الله عنهما: ((قرأ رجلٌ الكَهفَ وفي الدَّارِ الدَّابَّةُ، فجعَلَت تَنفِرُ، فسَلَّمَ، فإذا ضبابةٌ أو سَحابةٌ غَشِيَته، فذكَرَه للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: اقرأْ فلانُ؛ فإنَّها السكينةُ نَزَلت للقُرآنِ، أو تنزَّلَت للقُرآنِ ))

2- حِفظُ عَشرِ آياتٍ مِن أوَّلِ سورةِ الكهفِ عِصمةٌ مِن الدجَّالِ:

فعن النوَّاسِ بنِ سِمْعانَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((ذَكَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدجَّالَ ذاتَ غَداةٍ...))، وفيه أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فمَن أدْرَكه منكم، فليَقْرأْ عليه فواتحَ سورةِ الكَهفِ )) .

وعن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن حَفِظَ عَشرَ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورةِ الكَهفِ، عُصِمَ مِن الدجَّالِ )) .

3- أنها من السُّورِ العَتيقةِ، ومن قديمِ ما حُفِظَ عند الصَّحابةِ:

فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: (سورةُ بني إسرائيل والكهف، ومريم وطه والأنبياء: هُنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ ، وهُنَّ مِن تِلادي .)

4- أنَّها كُلَّها مُحكَمةٌ:

وقد نُقل الإجماعُ على أنَّه ليس فيها مَنسوخٌ

بيان المكي والمدني:

 

سورةُ الكَهفِ مَكِّيَّةٌ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك

مقاصد السورة:

 

مِن أهَمِّ مقاصدِ هذه السُّورةِ: الهدايةُ إلى العقيدةِ الصحيحةِ، وإلى السلوكِ القويمِ، وإلى الخلقِ الكريمِ، وإلى التفكيرِ السليمِ الذي يهدى إلى السعادةِ في الدُّنيا والآخرةِ.

 

موضوعات السورة:

 

مِن أهَمِّ موضوعاتِ هذه السُّورةِ:

1- ذِكْرُ حَمدِ الله تعالى على إنزالِه الكتابَ على عَبدِه، ووصفُ هذا الكتابِ بأنَّه قيِّمٌ لا عوجَ فيه، جاء للتبشيرِ والإنذارِ.

2- بيانُ أنَّ ما على ظهرِ الأرضِ هو زينةٌ لها، جعَله الله اختبارًا وابتلاءً.

3- ذِكرُ قِصَّةِ أصحابِ الكَهفِ.

4- ذِكرُ فِتنةِ المالِ بذِكرِ خَبَرِ قِصَّةِ صاحِبِ الجنَّتَينِ.

5- ضَربُ المَثَلِ للحياةِ الدُّنيا بما يدُلُّ على فَنائِها وذَهابِ زُخرُفِها.

6- ذِكرُ شَيءٍ مِن  مَشاهِدِ يومِ القيامةِ.

7- بيانُ عَداوةِ إبليسَ لآدَمَ وذُرِّيَّتِه، وفِسقِه عن أمرِ رَبِّه.

8- بيانُ سُنَّةِ اللهِ في إهلاكِ الظَّالمينَ، ورحمةِ اللهِ وإمهالِه للمُذنبينَ إلى أجَلٍ مَعلومٍ.

9- قِصَّةُ موسى عليه السَّلامُ مع العبدِ الصَّالحِ.

10- قِصَّةُ ذي القَرنَينِ.

11- إبطالُ الشِّركِ ووعيدُ أهلِه، وبيانُ ما أعدَّ الله للمؤمنينَ.

12- التَّمثيلُ لِسَعةِ عِلمِ الله تعالى، وبيانُ أنَّ القرآنَ وَحيٌ مِن الله تعالى إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم.

===============

غريب الكلمات-مشكل الإعراب المعنى الإجمالي

تفسير الآيات*الفوائد التربوية*الفوائد العلمية واللطائف

بلاغة الآيات

===

سورة الكهف مكية | رقم السورة: 18 - عدد آياتها : 110 عدد كلماتها : 1,583 - اسمها بالانجليزي : The Cave - ويستحب قراءتها يوم الجمعة
سورة الكهف مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة


بسم الله الرحمن الرحيم

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ (1) قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا (2) مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا (3) وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا (4) مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا (5) فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا (7) وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا (8) أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا (9) إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا (10) فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا (11) ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ ٱلۡحِزۡبَيۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدٗا (12) نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى (13) وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا (14) هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا (15) وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا (16) ۞وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا (17) وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا (18) وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا (19) إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا (20) وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا (24) وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا (25) قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا (26) وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا (27) وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا (28) وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا (29) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا (30) أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا (31) ۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا (32) كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا (33) وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا (35) وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا (36) قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا (37) لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا (38) وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا (39) فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا (40) أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا (42) وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43) هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا (44) وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا (45) ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا (46) وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا (47) وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا (48) وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا (49) وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا (50) ۞مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا (51) وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا (52) وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا (53) وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا (54) وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا (55) وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا (56) وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا (57) وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا (58) وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا (59) وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا (62) قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا (63) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا (64) فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا (65) قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (67) وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا (68) قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا (69) قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا (70) فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا (71) قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا (73) فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا (74) ۞قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (75) قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا (76) فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا (77) قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا (78) أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا (79) وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا (80) فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا (81) وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا (82) وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا (84) فَأَتۡبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا (87) وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا (88) ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا (90) كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرٗا (91) ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا (93) قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا (95) ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا (96) فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا (97) قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا (98) ۞وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡضٖۖ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا (99) وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡكَٰفِرِينَ عَرۡضًا (100) ٱلَّذِينَ كَانَتۡ أَعۡيُنُهُمۡ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكۡرِي وَكَانُواْ لَا يَسۡتَطِيعُونَ سَمۡعًا (101) أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَوۡلِيَآءَۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ نُزُلٗا (102) قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا (103) ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا (104) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا (105) ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا (107) خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا (108) قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا (109) قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا (110)

سورةُ الكَهفِ

الآيات (1-6)

ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ (1) قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا (2) مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا (3) وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا (4) مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا (5) فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا (6){الكهف}

غريب الكلمات:

 

عِوَجًا: أي: زَيغًا وتَحريفًا، وأصْلُ (عوج): يدلُّ على المَيلِ في الشَّيءِ

.

قَيِّمًا: أي: مُستَقيمًا، أو مُقَوِّمًا لأمورِ مَعاشِهم ومَعادِهم، وأصلُ (قوم): يَدُلُّ على انتِصابٍ أو عَزمٍ .

كَبُرَتْ: أي: عَظُمَت، وأصلُ (كبر): يدُلُّ على خِلافِ الصِّغَرِ .

بَاخِعٌ: أي: قاتِلٌ ومُهلِكٌ، وأصلُ (بخع): يَدلُّ على الجَهدِ .

على آثَارِهِمْ: أي: مِن بَعدِ تَوَلِّيهم وإعراضِهم عنك،  يقال: جئتُ على أثرِ فلانٍ، كأنَّ المرادَ أثرُ سلوكِه الطريقَ، ثم استعمل بمعنى (بَعْدَ)، فيُقال: مات فلانٌ على أثرِ فلانٍ، أي: بعدَه، وأصلُه من الأثَرِ: الذي هو العَلامةُ

مشكل الإعراب:

 

1- قَولُه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ...

قولُه: قَيِّمًا: في نصبِه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه حالٌ مِن الْكِتَابَ، وقولُه: وَلَمْ يَجْعَلْ اعتراضٌ بينهما. الثاني: أنَّه حالٌ مِن الهاءِ في لَهُ. الثالث: أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، تقديرُه: (جعَلَه أو: أنزله قيِّمًا)، وجملتُه مستأنفةٌ. الرابع: أنَّه حالٌ ثانيةٌ، وقولُه: وَلَمْ يَجْعَلْ حالٌ أيضًا، والتقديرُ: أنزَله غيرَ جاعلٍ له عوجًا، قيمًا

.

2- قولُه تعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ

قوله: كَلِمَةً: تمييزٌ منصوبٌ، والفاعلُ مُضمَرٌ، أي: كبُرَت مقالتُهم

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مفتتحًا هذه السورةَ بالثناءِ على نفسِه: الحَمدُ لله الذي أنزل على عَبدِه ورَسولِه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُرآنَ، ولم يَجعَلْ فيه زيغًا أو ميلًا عن الحَقِّ، أنزله مُستَقيمًا، قائِمًا على مَصالِحِ العِبادِ، مُهيمِنًا على سائِرِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ، مُصَدِّقًا لها، وشاهِدًا بصِحَّتِها؛ لِيُنذِرَ به الكافِرينَ عذابًا شديدًا مِن عِندِه، ويُبَشِّرَ المُؤمِنينَ الذين يَعمَلونَ الأعمالَ الصَّالِحاتِ بأنَّ لهم ثوابًا جَزيلًا، وهو الجَنَّةُ، مقيمينَ في هذا الثوابِ لا يُفارِقونَه أبدًا، ويُنذِرَ به كذلك الكافِرينَ الذين قالوا: اتَّخذَ اللهُ وَلَدًا، ما لهؤلاء المُشرِكينَ شَيءٌ مِن العِلمِ على ما يَدَّعونَه لله مِن اتِّخاذِ الوَلَدِ، كما لم يكُنْ لآبائِهم الجاهِلينَ.

ثمَّ ذمَّهم الله تعالى ذمًّا شديدًا على قولِهم هذا، فقال: عَظُمَت هذه المَقالةُ الشَّنيعةُ كلمةً تَخرُجُ مِن أفواهِهم، ما يَقولُونَ إلَّا قَولًا كاذِبًا.

ثم قال تعالى مسليًا رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا أصابه مِن حزنٍ بسببِ إعراضِ المشركينَ عن دعوةِ الحقِّ: فلعَلَّك -يا محمَّدُ- قاتِلٌ نَفسَك غمًّا وحُزنًا على تولِّي هؤلاء وإعراضِهم عنك، إنْ لم يُصَدِّقوا بهذا القُرآنِ ويَعمَلوا به!

تفسير الآيات:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1).

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ.

أي: الحَمدُ لله الذي أنزَلَ على عَبدِه مُحَمَّدٍ القُرآنَ

.

وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا .

أي: أنزَلَه على عَبدِه والحالُ أنَّه لم يَجعَلْ فيه أيَّ نَوعٍ مِن المَيلِ والزَّيغِ عن الحَقِّ، والتَّناقُضِ والاختِلافِ، والخللِ في ألفاظِه ومَعانيه؛ فأخبارُه صادِقةٌ، وأحكامُه عادِلةٌ .

كما قال تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر: 28] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] .

وقال سُبحانَه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام: 115] .

قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2).

قَيِّمًا.

أي: أنزله مُستَقيمًا ، قائِمًا على مَصالِحِ العِبادِ في دِينهم ودُنياهم ، مُهيمِنًا على سائِرِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ، مُصَدِّقًا لها، وشاهِدًا بصِحَّتِها .

كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .

لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى أنَّه أنزَلَ على عَبْدِه الكِتابَ المَوصوفَ بهذه الصِّفاتِ المَذكورةِ؛ أردَفَه ببَيانِ ما لأجْلِه أنزَلَه .

لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ.

أي: أنزَلَ اللهُ القُرآنَ على نَبيِّه مُحَمَّدٍ؛ لِيُنذِرَ الكافِرينَ عَذابًا شَديدًا في الدُّنيا والآخِرةِ، يأتيهم مِن عِندِ اللهِ .

كما قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام: 19] .

وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا.

أي: وأنزَلَ اللهُ القُرآنَ على نَبيِّه؛ لِيُبَشِّرَ المُؤمِنينَ باللهِ ورَسولِه وبِكُلِّ ما يَجِبُ عليهم الإيمانُ به، وقد صَدَّقوا إيمانَهم بقِيامِهم بالأعمالِ الصَّالِحةِ؛ يُبَشِّرُهم بأنَّ لهم ثَوابًا عَظيمًا جَميلًا، وهو الجنةُ .

كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 25] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9- 10] .

مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3).

أي: والحالُ أنَّهم باقُونَ في الأجرِ الحَسَنِ الذي أعَدَّه اللهُ لهم، بلا زَوالٍ ولا انقِطاعٍ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] .

وقال سُبحانَه: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة: 21، 22].

وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان الغالبُ على الإنسانِ المخالَفةَ للأوامِرِ؛ لِما جُبِلَ عليه من النقائِصِ- كان الإنذارُ أهمَّ، فأعاده لذلك، ولأنَّ المقامَ له؛ تبكيتًا لليهودِ المضِلِّين لهؤلاء العرَبِ ولِمن قال بمقالتِهم .

وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4).

أي: ويُنذِرَ الكافِرينَ -الذينَ قالوا: اتَّخَذ اللهُ لِنَفسِه ولَدًا- عَذابَه الشَّديدَ في العاجِلِ والآجِلِ .

مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5).

مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ.

أي: ما للقائِلينَ بذلك أيُّ شَيءٍ مِن العِلمِ بأنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ لنَفسِه ولَدًا، ولا لآبائِهم الجاهِلينَ مِن قَبلِهم الذين قالوا بمِثلِ قَولِهم .

كما قال تعالى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء: 157].

وقال سُبحانَه: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات: 69، 70].

كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ.

أي: عَظُمَت كَلِمتُهم هذه كَلِمةً تخرُجُ مِن أفواهِهم، بقَولِهم: اتَّخذَ اللهُ وَلَدًا، فما أشنَعَها مِن مَقالةٍ، وما أفظَعَ اجتِراءَهم على التلَفُّظِ بها !

كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم: 88 - 91].

إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا.

أي: ما يَقولُ القائِلونَ بنِسبةِ الوَلَدِ إلى اللهِ إلَّا كَذِبًا على اللهِ تعالى؛ فهو قَولٌ مُنافٍ للصِّدقِ، مُخالِفٌ للواقِعِ، لا حَقيقةَ له بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ .

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6).

أي: فلعلَّك -يا مُحَمَّدُ- قاتِلٌ نَفسَك ومُهلِكُها؛ لشِدَّةِ الحزنِ بعدَ تَولِّيهم وإعراضِهم عنك، إن لم يُؤمِنوا بهذا القُرآنِ الذي أنزلتُه عليكَ

 

.

كما قال تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 176] .

وقال عزَّ وجلَّ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] .

وقال جلَّ جلالُه: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر: 8] .

وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 87 - 89] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ خبرٌ مِن الله تعالى  أنَّه حمِد نفسَه، وفي ضمنِه إرشادُ العبادِ ليحمَدوه على إرسالِ الرسولِ إليهم، وإنزالِ الكتابِ عليهم

.

2- قال الله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ذكَرَ نَفيَ العَيبِ أوَّلًا، فقال: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ثمَّ إثباتَ الكَمالِ ثانيًا، فقال: قَيِّمًا، فـ «التَّخليةُ قَبلَ التَّحليةِ»، يعني: قبل أن تُحَلِّيَ الشَّيءَ أخْلِ المَكانَ عَمَّا يُنافي التحَلِّيَ، ثُمَّ حَلِّه .

3- قولُه تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ يُفيدُ أنَّه لا بدَّ مع الإيمانِ مِن العَمَلِ الصَّالحِ، فلا يَكفي الإيمانُ وَحْدَه، بل لا بُدَّ مِن عَمَلٍ صالِحٍ؛ ولهذا قيلَ لبَعضِ السَّلَفِ: (أليس مِفتاحُ الجنَّةِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؟ يعني: فمَن أتى به فُتِحَ له، قال: بلى، ولكِنْ هل يَفتحُ المِفتاحُ بلا أسنانٍ؟!) .

4- قَولُ الله تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ذِكْرُ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ استِحقاقَ ذلك الأجرِ بحُصولِ هَذينِ الأمرَينِ .

5- قال اللهُ تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا قَولُه في هذه الآيةِ الكَريمةِ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بَيَّنَت المرادَ به آياتٌ أُخَرُ، فدَلَّت على أنَّ العَمَلَ لا يكونُ صالِحًا إلَّا بثلاثةِ أُمورٍ:

الأوَّلُ: أن يكونَ مُطابِقًا لِما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فكُلُّ عَمَلٍ مُخالِفٍ لِما جاء به صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، فليس بصالحٍ، بل هو باطِلٌ؛ قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 7] ، وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80] ، وقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ، وقال: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.

الثَّاني: أن يكونَ العامِلُ مُخلِصًا في عملِه لله فيما بينَه وبينَ اللهِ؛ قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] ، وقال: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 11 - 15] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.

الثَّالِثُ: أن يكونَ العملُ مَبنيًّا على أساسِ الإيمانِ والعَقيدةِ الصَّحيحةِ؛ لأنَّ العملَ كالسَّقفِ، والعَقيدةَ كالأساسِ؛ قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل: 97] ، فجعل الإيمانَ قَيدًا في ذلك .

6- قَولُ الله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا في هذه الآيةِ ونَحوِها عِبرةٌ؛ فإنَّ المأمورَ بدُعاءِ الخَلقِ إلى اللهِ عليه التَّبليغُ والسَّعيُ بكُلِّ سَبَبٍ يُوصِلُ إلى الهِدايةِ، وسَدِّ طُرُقِ الضَّلالِ والغَوايةِ، بغايةِ ما يُمكِنُه، مع التوكُّلِ على اللهِ في ذلك، فإن اهتَدَوا فبها ونِعْمَتْ، وإلَّا فلا يَحزَنْ ولا يأسَفْ؛ فإنَّ ذلك مُضعِفٌ للنَّفسِ، هادِمٌ للقُوَى، ليس فيه فائِدةٌ، بل يَمضِي على فِعْلِه الذي كُلِّفَ به وتَوَجَّه إليه، وما عدا ذلك فهو خارِجٌ عن قُدرتِه، وإذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ اللهُ له: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] ، وموسى عليه السَّلامُ يقولُ: رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: 25] الآية، فمَن عداهم مِن بابِ أَولى وأَحرى؛ قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ

 

[الغاشية: 21- 22] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ لَمَّا كان المُرادُ وَصفَ جُملةِ الكِتابِ بالإعجازِ مِن غَيرِ نَظَرٍ إلى التَّفريقِ والتَّدريجِ، عَبَّرَ بالإنزالِ دونَ التَّنزيلِ

.

2- قَولُ الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ رَتَّبَ استِحقاقَ الحَمدِ على إنزالِه؛ تَنبيهًا على أنَّه أعظَمُ نَعْمائِه؛ وذلك لأنَّه الهادي إلى ما فيه كَمالُ العِبادِ، والدَّاعي إلى ما به يَنتَظِمُ صَلاحُ المَعاشِ والمَعادِ .

3- قَولُ الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ خَصَّ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالذِّكرِ؛ لأنَّ إنزالَ القُرآنِ عليه كان نِعمةً عليه على الخُصوصِ، وعلى سائِرِ النَّاسِ على العُمومِ .

4- قَولُ الله تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا في وَصْفِه بالحُسنِ دَلالةٌ على أنَّه لا مُكَدِّرَ فيه ولا مُنَغِّصَ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ؛ إذ لو وُجِدَ فيه شَيءٌ مِن ذلك لم يكُنْ حُسنُه تامًّا .

5- في قَولِه تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا سَمَّى اللهُ عزَّ وجَلَّ ثوابَ الأعمالِ أجرًا؛ لأنَّها في مُقابلةِ العَمَلِ، وهذا مِن عَدْلِه جَلَّ وعَلا؛ أن يُسَمِّيَ الثَّوابَ الذي يُثيبُ به الطَّائِعَ أجرًا؛ حتى يَطمَئِنَّ الإنسانُ لِضَمانِ هذا الثَّوابِ؛ لأنَّه مَعروفٌ أنَّ الأجيرَ إذا قام بعَمَلِه فإنَّه يَستَحِقُّ الأجرَ .

6- قَولُ الله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَعطوفٌ على قَولِه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2] ، والمعطوفُ يغايِرُ المَعطوفَ عليه؛ فالأوَّلُ عامٌّ في حَقِّ كُلِّ مَن استَحَقَّ العذابَ، والثَّاني خاصٌّ بمن أثبَتَ للهِ ولَدًا، وعادةُ القرآنِ جارِيةٌ بأنَّه إذا ذَكَرَ قَضيَّةً كُلِّيَّةً عَطَفَ عليها بعضَ جُزئيَّاتِها؛ تَنبيهًا على كَونِه أعظَمَ جُزئيَّاتِ ذلك الكُلِّيِّ، كقَولِه تعالى: وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] ، فكذا هاهنا العَطفُ يَدُلُّ على أنَّ أقبَحَ أنواعِ الكُفرِ والمَعصيةِ إثباتُ الوَلَدِ لله تعالى .

7- قَولُ الله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا يظهَرُ فيه كيف أبطل اللهُ تعالى قَولَهم بالتَّدريجِ والانتقالِ مِن شَيءٍ إلى أبطَلَ منه؛ فأخبر أولًا أنَّه مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لَآبَائِهِمْ والقَولُ على اللهِ بلا عِلمٍ: لا شَكَّ في مَنعِه وبُطلانِه، ثم أخبر ثانيًا أنَّه قولٌ قَبيحٌ شَنيعٌ، فقال: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، ثمَّ ذكَر ثالثًا مرتبَتَه مِن القُبحِ، وهو الكَذِبُ المنافي للصِّدقِ .

8- حيث وُجِدَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ -بل وفي كلامِ العَرَبِ نَظمِه ونَثْرِه- لَفظُ (كَلِمة)؛ فإنَّما يُرادُ به المفيدُ الذي تُسَمِّيه النُّحاةُ جُملةً تامَّةً، كقَولِه تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 4-5] ، وقَولِه تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا [التوبة: 40] ، وقَولِه تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64] ، وقَولِه تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] ، وقَولِه تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح: 26] ، وقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أصدَقُ كَلِمةٍ قالها شاعِرٌ كَلِمةُ لَبيدٍ:

ألا كُلُّ شَيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ )) .

9- قَولُ الله تعالى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا فيه أنَّ كُلَّ خبرٍ لا يطابِقُ المخبَرَ عنه فهو كذِبٌ، سواءٌ عَلِمَ القائِلُ بكَونِه مطابِقًا أو لم يعلَمْ؛ فإنَّه تعالى وصف قولَهم بإثباتِ الولَدِ لله بكونِه كَذِبًا، مع أنَّ الكثيرَ منهم يقولُ ذلك، ولا يعلم كونَه باطِلًا

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا

- قولُه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا جُملةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تُفيدُ استحقاقَه أكمَلَ الحمدِ، فأخبَرَ أنَّ مُستحِقَّ الحمدِ هو اللهُ تعالى لا غيرُه، فأجْرَى على اسمِ الجَلالةِ الوصفَ بالموصولِ؛ تَنويهًا بمضمونِ الصِّلةِ، وإيذانًا بعِظَمِ شأنِ التَّنزيلِ الجليلِ، ولِمَا يُفيدُه الموصولُ من تَعليلِ الخبرِ

.

- وموقعُ الافتتاحِ بهذا التَّحميدِ كموقعِ الخُطبةِ؛ يُفتتَحُ بها الكلامُ في الغرَضِ المُهمِّ، وافْتُتِحتْ بالتَّحميدِ على إنزالِ الكتابِ؛ للتَّنويهِ بالقُرآنِ. وأُدْمِجَ فيه إنذارُ المُعانِدين الَّذين نسَبوا للهِ ولدًا، وبِشارةُ المُؤمِنين، وتَسليةُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عن أقوالِهم، حين تريَّثَ الوحيُ لِما اقْتضَتْه سُنَّةُ اللهِ مع أوليائِه؛ من إظهارِ عتَبِه على الغَفلةِ عن مُراعاةِ الآدابِ الكاملةِ .

- وآثَرَ التَّعبيرَ بقولِه: عَبْدِهِ، ولم يَجِئِ التَّركيبُ: (أنزَلَ عليك)؛ لِمَا في عَبْدِهِ من الإضافةِ المُقتضيةِ تَشريفَه ، وأيضًا في التَّعبيرِ عن الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالعبْدِ مُضافًا إلى ضَميرِ الجَلالةِ: تَنبيهٌ على بُلوغِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أعلى مَعارجِ العِبادةِ، وتَشريفٌ له أيَّ تَشريفٍ، وإشعارٌ بأنَّ شأنَ الرَّسولِ أنْ يكونَ عبدًا للمُرسِلِ، لا كما زعَمَتِ النَّصارى في حَقِّ عيسى عليه السَّلامُ ، وكذلك في ذِكْرِه بوصْفِ العُبوديَّةِ للهِ: تَقريبٌ لمَنزلتِه، وتَنويهٌ به بما في إنزالِ الكتابِ عليه من رِفعةِ قدْرِه .

- وتأخيرُ المفعولِ الصَّريحِ الْكِتَابَ عن الجارِّ والمجرورِ -عَلَى عَبْدِهِ- مع أنَّ حَقَّه التَّقديمُ عليه؛ ليتَّصِلَ به قولُه تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا .

- وجُملةُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا مُعترِضةٌ بين الْكِتَابَ وبينَ الحالِ منه وهو قَيِّمًا، ويجوزُ كونُ الجملةِ حالًا والوَاوِ حاليَّةً، والمقصودُ من هذه الجُملةِ المُعترِضةِ أو الحاليَّةِ: إبطالُ ما يَرْميه به المُشرِكون من قولِهم: (افتراهُ، وأساطيرُ الأوَّلينَ، وقولُ كاهنٍ)؛ لأنَّ تلك الأُمورَ لا تخْلو من عِوَجٍ؛ قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] .

- وفي قولِه: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا عُدِّيَ الجَعْلُ باللَّامِ دونَ (في)؛ لأنَّ العِوَجَ المعنويَّ يُناسِبُه حرْفُ الاختصاصِ (اللَّامُ) دون حرْفِ الظَّرفيَّةِ (في)؛ لأنَّ الظَّرفيَّةَ من علائقِ الأجسامِ، وأمَّا معنى الاختصاصِ فهو أعَمُّ .

- ونكَّرَ عِوَجًا ليعُمَّ جميعَ أنواعِه؛ لأنَّها نكِرةٌ في سِياقِ النَّفيِ .

2- قوله تعالى: قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا

- قولُه: قَيِّمًا على القولِ بأنَّه قيِّمٌ بالمصالحِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ للعِبادِ؛ فيكونُ وصْفًا له بالتَّكميلِ بعدَ وصْفِه بالكمالِ. وعلى القولِ بأنَّ معنى قَيِّمًا على ما قبْلَه من الكتُبِ السَّماويَّةِ، شاهِدًا بصِحَّتِها، ومُهيمنًا عليها، أو مُتناهيًا في الاستقامةِ؛ فيكونُ قولُه: قَيِّمًا تأكيدًا لِما دَلَّ عليه نفْيُ العِوَجِ، مع إفادةِ كونِ ذلك من صِفاتِه الذَّاتيَّةِ اللَّازمةِ له، حسْبَما تُنْبِئُ عنه صِيغَةُ قَيِّمًا؛ فنفْيُ العِوَجِ معناهُ إثباتُ الاستقامةِ، وإنَّما جنَحَ إلى التَّكريرِ لفائدةٍ مُنقطعةِ النَّظيرِ، وهي التَّأكيدُ والبَيانُ؛ فرُبَّ مُستقيمٍ مَشهودٍ له بالاستقامةِ، مُجمَعٍ على استقامتِه، ومع ذلك فإنَّ الفاحِصَ المُدقِّقَ قد يجِدُ له أدنى عِوَجٍ؛ فلمَّا أثبَتَ له الاستقامةَ أزال شُبْهةَ بقاءِ ذلك الأدنى الَّذي يدِقُّ على النَّظرةِ السَّطحيَّةِ الأُولى .

- قولُه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فيه تَقديمُ الإنذارِ على التَّبشيرِ؛ لإظهارِ كَمالِ العِنايةِ بزجْرِ الكُفَّارِ عمَّا هم عليه، مع مُراعاةِ تَقديمِ التَّخليةِ على التَّحليةِ ، فالمقصودُ مِن إرسالِ الرُّسُلِ إنذارُ المُذنبِينَ وبِشارةُ المُطيعينَ، ولَمَّا كان دَفْعُ الضَّررِ أهَمَّ عند ذَوي العُقولِ مِن إيصالِ النَّفعِ، لا جَرَمَ قَدَّمَ الإنذارَ على التَّبشيرِ في اللَّفظِ .

- وقولُه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ إيماءٌ بالتَّهديدِ للمُشرِكين بما سيَلْقونه من القتْلِ والأسْرِ بأيدي المُسلِمين، وذلك بأسٌ مِن لدُنْه تعالى؛ لأنَّه بتَقديرِه وبأمْرِه عِبادَه أنْ يفْعَلوه .

- وفي قولِه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ الاقتصارُ على أحدِ مفعوليْ (أنذر) وهو المُنْذَرُ؛ وذلك لأنَّه جُعِلَ المُنذَرُ به هو الغرَضَ المسبوقَ إليه؛ فوجَبَ الاقتصارُ عليه، ولدلالةِ السِّياقِ عليه؛ لظُهورِ أنَّه يُنذِرُ الَّذين لم يُؤْمِنوا بهذا الكتابِ ولا بالمُنزَلِ عليه، ولدلالةِ مُقابِلِه عليه في قولِه: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثمَّ صرَّحَ بالمُنذَرِ في قولِه حين كرَّرَ الإنذارَ، فقال: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا؛ فحُذِفَ المُنْذَرُ أوَّلًا؛ لدلالةِ الثَّاني عليه، وحُذِفَ المُنذَرُ به؛ لدلالةِ الأوَّلِ عليه، وهذا من بَديعِ الحذْفِ وجَليلِ الفصاحةِ، ولمَّا لم يُكرِّرِ البِشارةَ أتى بالمُبشَّرِ والمُبشَّرِ به. وقيل: المفعولُ الأوَّلُ لـ (يُنْذِر) مَحذوفٌ لقَصْدِ التَّعميمِ، أو تَنزيلًا للفعلِ مَنزلةَ اللَّازمِ؛ لأنَّ المقصودَ المُنذَرُ به، وهو البأسُ الشَّديدُ؛ تَهويلًا له، ولتَهديدِ المُشرِكين المُنكِرين إنزالَ القُرآنِ من اللهِ .

- في قولِه: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ آثرَ صِيغَةَ الاستقبالِ في الصِّلةِ يَعْمَلُونَ؛ للإشعارِ بتجدُّدِ الأعمالِ الصَّالحةِ واستمرارِها، وإجراءُ الموصولِ على مَوصوفِه المذكورِ؛ لِمَا أنَّ مدارَ قَبولِ الأعمالِ هو الإيمانُ ، وذِكْرُ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ استحقاقَ ذلك الأجْرِ بحُصولِ ذينك الأمرينِ .

- ولمَّا كنَّى عن الجنَّةِ بقولِه: أَجْرًا حَسَنًا، قال: مَاكِثِينَ فِيهِ، أي: مُقيمينَ فيه، فجعَلَه ظرفًا لإقامتِهم، ولَمَّا كان المُكْثُ لا يَقْتضي التَّأبيدَ، قال: أَبَدًا .

3- قولُه تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا تَعليلٌ آخرُ لإنزالِ الكتابِ على عبْدِه، جُعِلَ تاليًا لقولِه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ باعتبارِ أنَّ المُرادَ هنا إنذارٌ مَخصوصٌ مُقابِلٌ لِمَا بَشَّرَ به المُؤمِنين، وهذا إنذارٌ بجَزاءٍ خالدين فيه، وهو عذابُ الآخرةِ؛ فإنْ جرَيْتَ على تَخصيصِ البأسِ في قولِه: بَأْسًا شَدِيدًا بعذابِ الدُّنيا، كان هذا الإنذارُ مُغايرًا لِما قبْلَه، وإنْ جرَيْتَ على شُمولِ البأْسِ للعذابَينِ، كانت إعادةُ فعْلِ (يُنذِر) تأكيدًا، فكان عطْفُه باعتبارِ أنَّ لمفعولِه صِفَةً زائدةً على معنى مفعولِ فعْلِ (يُنذِر) السَّابقِ، يُعْرَفُ بها الفريقُ المُنْذَرون بكِلا الإنذارَينِ، وهو يُومِئُ إلى المُنْذَرينَ المحذوفِ في قولِه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا، ويُغْني عن ذِكْرِه، وهذه العِلَّةُ أثارَتها مُناسبةُ ذِكْرِ التَّبشيرِ قبْلَها، وقد حُذِفَ هنا المُنذَرُ به؛ اعتمادًا على مُقابِلِه المُبشَّرِ به .

- قولُه: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا خَصَّهم بالذِّكرِ -أي: ويُنذِرَ من بين سائرِ الكفَرةِ هؤلاء المُتفوِّهينَ بمثْلِ هذه العظيمةِ خاصَّةً-، وكرَّرَ الإنذارَ مُتعلِّقًا بفرقةٍ خاصَّةٍ ممَّن عَمَّه الإنذارُ السَّابقُ من مُستحقِّي البأسِ الشَّديدِ؛ للإيذانِ بكَمالِ فَظاعةِ حالِهم لغايةِ شَناعةِ كُفْرِهم وضَلالِهم .

- والتَّعبيرُ عن هؤلاءِ بالموصولِ وصِلَتِه الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا؛ لأنَّهم قد عُرِفوا بهذه المقالةِ بين أقوامِهم وبين المُسلِمين؛ تَشنيعًا عليهم بهذه المقالةِ، وإيماءً إلى أنَّهم استحقُّوا ما أُنْذِروا به لأجْلِها ولغيرِها؛ فمضمونُ الصِّلةِ من مُوجباتِ ما أُنْذِروا به؛ لأنَّ العِللَ تتعدَّدُ ؛ فترْكُ إجراءِ الموصولِ على الموصوفِ كما فعَلَ في قولِه تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ للإيذانِ بكِفايةِ ما في حيِّزِ الصِّلةِ في الكُفْرِ على أقبْحِ الوُجوهِ .

- وإيثارُ صِيغَةِ الماضي قَالُوا في الصِّلةِ؛ للدَّلالةِ على تحقُّقِ صُدورِ تلك الكلمةِ القبيحةِ عنهم فيما سبَقَ .

4- قوله تعالى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا

- قولُه: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ (مِن) لتَوكيدِ النَّفيِ ، وفائدةُ ذِكْرِ هذه الحالِ أنَّها أشنَعُ في كُفْرِهم، وهي أنْ يقولوا كذِبًا ليس لهم فيه شُبهةٌ؛ فأُطْلِقَ العِلْمُ على سبَبِ العلْمِ، كما دَلَّ عليه قولُه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون: 117] .

- وعُطِفَ وَلَا لِآبَائِهِمْ لِقَطعِ حُجَّتِهم؛ لأنَّهم كانوا يقولونَ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] ، فإذا لم يكُنْ لآبائِهم حُجَّةٌ على ما يقولون، فليسوا جَديرين بأنْ يُقلِّدوهم .

- وجُملةُ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ استئنافٌ بالتَّشاؤُمِ بذلك القولِ الشَّنيعِ. وفِعْلُ كَبُرَتْ مُستعملٌ في التَّعجُّبِ مِن كُبْرِ هذه الكلمةِ في الشَّناعةِ بقَرينةِ المقامِ، ودَلَّ على قصْدِ التَّعجيبِ منها انتصابُ كَلِمَةً على التَّمييزِ؛ إذ لا يَحتمِلُ التَّمييزُ هنا معنًى غيرَ أنَّه تَمييزُ نِسبةِ التَّعجُّبِ، ووجْهُ فصْلِ الجُملةِ: أنَّها مُخالِفةٌ للَّتي قبْلَها بالإنشائيَّةِ المُخالِفةِ للخبريَّةِ .

- وجُملةُ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ صِفةٌ لـ كَلِمَةً، مقصودٌ بها استعظامُ جُرأتِهم على النُّطقِ بها ووَقاحتِهم في قولِها ، والتَّعبيرُ بالفعْلِ المُضارِعِ تَخْرُجُ؛ لاستحضارِ صُورةِ خُروجِها من أفواهِهم؛ تَخييلًا لفَظاعتِها. وفيه إيماءٌ إلى أنَّ مِثلَ ذلك الكلامِ ليس له مَصدرٌ غَيرُ الأفواهِ؛ لأنَّه لاستحالتِه تتلقَّاهُ وتنطِقُ به أفواهُهم، وتسمَعُه أسماعُهم، ولا تتعقَّلُه عُقولُهم؛ لأنَّ المُحالَ لا يَعتقِدُه العقْلُ ولكنَّه يتلقَّاهُ المُقلِّدُ دونَ تأمُّلٍ ، فصوَّر فَظاعةَ اجترائِهم على النُّطقِ بها بقولِه تعالى: تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، أي: لم يَكفِهم خُطورُها في نُفوسِهم، وتَردُّدُها في صُدورِهم، حتى تَلفَّظوا بها، وكان تلفُّظُهم بها على وجهِ التكريرِ- بما أشارَ إليه التعبيرُ بالمضارعِ .

- وجُملةُ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا مُؤكِّدةٌ لمَضمونِ جُملةِ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ؛ لأنَّ الشَّيءَ الَّذي تنطِقُ به الألسُنُ، ولا تحقُّقَ له في الخارجِ ونفْسِ الأمر، هو الكذِبُ، أي: تخرُجُ من أفواهِهم خُروجَ الكذِبِ، فما قولُهم ذلك إلَّا كذِبٌ، أي: ليستْ له صِفةٌ إلَّا صِفةُ الكذبِ. هذا إذا جُعِلَ القولُ المأخوذُ من يَقُولُونَ خُصوصَ قولِهم: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [الكهف: 4] ، وعلى حمْلِ يَقُولُونَ على العُمومِ في سِياقِ النَّفيِ، أي: لا يَصدُرُ منهم قولٌ إلَّا الكذبُ؛ فيكونُ قصْرًا إضافيًّا ، أي: ما يقولونَه في القُرآنِ والإسلامِ، أو: ما يقولونَه من مُعتقداتِهم المُخالفةِ لِما جاء به الإسلامُ؛ فتكونُ جُملةُ إِنْ يَقُولُونَ تَذييلًا .

5- قولُه تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا تَفريعٌ على جُملةِ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا باعتبارِهم مُكذِّبينَ كافرينَ؛ بقَرينةِ مُقابَلةِ المُؤمِنين بهم في قولِه: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثمَّ قولِه: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، و(لعلَّ) هنا مُستعملةٌ في تَحذيرِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الاغتمامِ والحُزْنِ على عدَمِ إيمانِ مَن لم يُؤْمِنوا من قومِه، وذلك في معنى التَّسليةِ لقِلَّةِ الاكتراثِ بهم، وكأنَّ هذا الكلامَ سِيقَ إلى الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ في آخرِ أوقاتِ رَجائِه في إيمانِهم؛ إيماءً إلى أنَّهم غيرُ صائرينَ إلى الإيمانِ، وتهيئةً لنفْسِه أنْ تتحمَّلَ ما سيَلقاه من عِنادِهم؛ رأفةً مِن ربِّه به؛ ولذلك قال: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ بصِيغَةِ الفعْلِ المُضارِعِ المُقتضيةِ الحُصولَ في المُستقبلِ، أي: إنِ استمَرَّ عدَمُ إيمانِهم .

- وفي قولِه: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا تَشبيهٌ تَمثيليٌّ بليغٌ مَصونٌ عن الابتذالِ؛ حيث شبَّهَه تعالى وإيَّاهم حين تولَّوا عنه ولم يُؤْمِنوا به، وأصَرُّوا على المُكابَرةِ والعِنادِ واللَّجاجِ بالسَّفسطةِ الباطلةِ، ثمَّ ما تداخَلَه من جرَّاءِ ذلك؛ من أسَفٍ على تولِّيهم، وإشفاقٍ عليهم لسُوءِ الأمْرِ الَّذي تؤولُ إليه أُمورُهم؛ شَبَّه ذلك سُبحانَه برجُلٍ فارَقَه أحِبَّتُه وأعِزَّتُه، فهو يتساقَطُ حَسراتٍ على آثارِهم، ويبخَعُ نفْسَه وجْدًا عليهم، وتلهُّفًا على فراقِهم، وأتى بهذه الصُّورةِ الفريدةِ صِيانةً لتَشبيهِه من الابتذالِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أراد أنْ يُسلِّيَ نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنْ يُخفِّفَ عنه ما ألَمَّ به مِن هَمٍّ وألَمٍ، فعرَضَ الموقِفَ بصِيغَةِ التَّرجِّي فَلَعَلَّكَ، وإنْ كان المُرادُ به النَّهيَ، أي: لا تبخَعْ نفْسَك ولا تُهْلِكْها من أجْلِ غَمِّك على عدَمِ إيمانِهم .

- قولُه: بِهَذَا الْحَدِيثِ إشارةٌ إلى القُرآنِ؛ لأنَّه لحُضورِه في الأذهانِ كأنَّه حاضرٌ في مَقامِ نُزولِ الآيةِ؛ فأُشِيرَ إليه بذلك الاعتبارِ، وأتَى باسمِ الإشارةِ (هذا) لزِيادةِ تَمييزِه؛ تَقويةً لحُضورِه في الأذهانِ

=====================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيتان (7-8)

ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ

غريب الكلمات:

 

صَعِيدًا: أي: ترابًا، والصعيدُ: الأملسُ المستوي، ويُطلقُ أيضًا على وجهِ الأرضِ، وأصلُ (صعد): يدلُّ على ارتفاعٍ ومشقةٍ

.

جُرُزًا: أي: جَرداءَ لا نباتَ فيها، وأصلُ (جرز): يدلُّ على قَطعٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله سبحانه وتعالى مسلِّيًا لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم ومُثَبِّتًا له: إنَّا جَعَلْنا ما على وَجهِ الأرضِ مِن الحيواناتِ والنباتِ والجمادِ زينةً لها؛ لنختبرَ العبادَ: أيُّهم أخلصُ عملًا وأصوبُه. وإنَّا لجاعِلونَ ما على الأرضِ مِن تلك الزِّينةِ عند انقِضاءِ الدُّنيا تُرابًا مستويًا لا نباتَ فيه، فهلَّا عَمِلوا للباقي ولم يغتَرُّوا بالفاني الزَّائلِ.

تفسير الآيتين:

 

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

ارتباطُ هذه الآيةِ بما قبْلَها هو على سَبيلِ التَّسليةِ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ أنَّه خلَقَ ما على الأرضِ من الزِّينةِ للابتلاءِ والاختبارِ؛ أيُّ النَّاسِ أحسَنُ عملًا، فليسوا على نمَطٍ واحدٍ في الاستقامةِ واتِّباعِ الرُّسلِ، بل لا بُدَّ أنْ يكونَ فيهم مَن هو أحسَنُ عمَلًا، ومَن هو أسوَأُ عملًا، فلا تغتَمَّ وتحزَنْ على مَن فُضِّلْتَ عليه بأنَّه يكونُ أسوَأَ عملًا، ومع كونِهم يكْفُرون بي لا أقطَعُ عنهم موادَّ هذه النِّعمِ الَّتي خلقْتُها

.

وأيضًا فهي تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ على إعراضِ المُشرِكينَ بأنَّ اللهَ أمهَلَهم وأعطاهم زِينةَ الدُّنيا؛ لعَلَّهم يَشكُرونَه، وأنَّهم بَطِروا النِّعمةَ، فإنَّ اللهَ يَسلُبُ عنهم النِّعمةَ فتَصيرُ بلادُهم قاحِلةً، ولهذا اتِّصالٌ بِقَولِه تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2] .

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا.

أي: إنَّا جَعَلْنا ما على وَجهِ الأرضِ من الحيواناتِ والنباتِ والجمادِ زِينةً لها ، فجعَلَ اللهُ تعالى الدنيا مُستطابةً في ذَوقِها، مُستَحسَنةً في مَنظَرِها وزُخرُفِها .

كما قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46] .

وقال سُبحانَه: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل: 5، 6].

وقال عزَّ وجلَّ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 8].

وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أخوَفُ ما أخافُ عليكم ما يُخرِجُ اللهُ لكم مِن زَهرةِ الدُّنيا، قالوا: وما زَهرةُ الدُّنيا يا رسولَ اللهِ؟ قال: بَرَكاتُ الأرضِ )) .

وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خَضِرةٌ ، وإنَّ اللهَ مُستَخلِفُكم فيها، فيَنظُرُ كيف تَعمَلونَ؛ فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النِّساءَ؛ فإنَّ أوَّلَ فِتنةِ بني إسرائيلَ كانت في النِّساءِ )) .

وعن حَكيمِ بنِ حِزامٍ رَضِي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ )) .

ثمَّ بيَّن الله تعالى الحكمةَ في خلقِ الأرضِ وزينتِها ، فقال:

لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.

أي: جعَلْنا ما على الأرضِ زِينةً لها؛ لِنَختَبِرَ النَّاسَ: أيُّهم أصلَحُ عَمَلًا -أي: أخلَصُه لله، وأصوَبُه مِن جِهةِ مُوافَقتِه للشَّرعِ - وأزهدُ في زينةِ الدُّنيا .

كما قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14].

وقال سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] .

وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] .

وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8).

أي: وإنَّا لِمُصَيِّرونَ ما على وَجهِ الأرضِ مِن زِينتِها تُرابًا مُستَويًا خاليًا، يابسًا لا نباتَ فيه، ولا ماءَ ولا بِناءَ

 

.

كما قال تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] .

وقال سُبحانَه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف: 45] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105 - 107] .

الفوائد التربوية:

 

1- العملُ اليسيرُ الموافِقُ لمرضاةِ الرَّبِّ وسُنَّةِ رسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم أحَبُّ إلى اللَّهِ تعالَى مِنَ العملِ الكثيرِ إذا خَلا عن ذلك أو عن بعضِه؛ ولهذا قالَ اللَّهُ تعالَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ، وقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] ، فهو سبحانَه وتعالى إنَّما خلَق السمواتِ والأرضَ والموتَ والحياةَ، وزيَّن الأرضَ بما عليها؛ ليبلوَ عبادَه أيُّهم أحسنُ عملًا، لا أكثرُ عملًا

، فالعِبرةُ بالأحسَنِ لا بالأكثَرِ .

2- قال اللهُ تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ثمَّ بَيَّن الحكمةَ، فقال: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فإذا عَرَف العبدُ أنَّه خُلِق لأجلِ أن يُختبَرَ في إحسانِ العملِ كان حريصًا على الحالةِ التي ينجحُ بها في هذا الاختبارِ؛ لأنَّ اختبارَ ربِّ العالمينَ يومَ القيامةِ مَنْ لم ينجَحْ فيه جُرَّ إلى النَّارِ، فعدمُ النجاحِ فيه مهلكةٌ ، ففي ذلك الحثُّ على محاسنِ الأعمالِ، والترقِّي دائمًا في مراتبِ الكمالِ .

3- قولُه تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا فيه إشارةٌ إلى التَّزهيدِ في الدُّنيا والرَّغبةِ عنها، وتَسليةٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا تَضمَّنَته أيدي المُتْرَفينَ من زينتِها؛ إذ مآلُ ذلك كلِّه إلى الفَناءِ ، وفيه أكبَرُ واعظٍ للنَّاسِ، وأعظَمُ زاجِرٍ عن اتِّباعِ الهَوى، وإيثارِ الفاني على الباقي ؛ وذلك لأنَّ هذه الأرضَ ستعودُ صَعيدًا جُرُزًا قد ذَهَبَت لذَّاتُها، وانقَطَعت أنهارُها، واندرَسَت آثارُها، وزال نَعيمُها، هذه حقيقةُ الدُّنيا قد جَلَّاها اللهُ لنا كأنَّها رأيُ عَينٍ، وحَذَّرَنا مِن الاغترارِ بها، ورَغَّبَنا في دارٍ يَدومُ نَعيمُها، ويَسعَدُ مُقيمُها؛ كلُّ ذلك رَحمةً بنا، فاغتَرَّ بزُخرُفِ الدُّنيا وزِينتِها مَن نظَرَ إلى ظاهِرِ الدُّنيا دَونَ باطِنِها، فصَحِبوا الدُّنيا صُحبةَ البهائِم، وتمَتَّعوا بها تمتُّعَ السَّوائِم، لا يَنظُرون في حَقِّ رَبِّهم، ولا يَهتَمُّونَ لِمَعرفتِه، بل هَمُّهم تَناوُلُ الشَّهواتِ مِن أيِّ وَجهٍ حصَلَت، وعلى أيِّ حالةٍ اتَّفَقت، فهؤلاء إذا حضَرَ أحَدَهم الموتُ، قَلِقَ لِخَرابِ ذاتِه، وفَواتِ لَذَّاتِه، لا لِما قَدَّمَت يداه مِن التَّفريطِ والسَّيِّئات. وأمَّا مَن نظَرَ إلى باطِنِ الدُّنيا، وعَلِمَ المقصودَ منها ومنه؛ فإنَّه يتناوَلُ منها ما يَستَعينُ به على ما خُلِقَ له، وانتهَزَ الفُرصةَ في عُمُرِه الشَّريفِ، فجعَلَ الدُّنيا مَنزِلَ عُبور لا مَحَلَّ حُبُور، وشُقَّةَ سَفَرٍ لا مَنزِلَ إقامةٍ، فبَذَل جُهدَه في معرفةِ رَبِّه، وتنفيذِ أوامِرِه، وإحسانِ العَمَلِ؛ فهذا بأحسَنِ المنازِلِ عند الله، وهو حَقيقٌ منه بكُلِّ كَرامةٍ ونَعيم، وسُرورٍ وتَكريم، فنَظَرَ إلى باطِنِ الدُّنيا حينَ نَظَرَ المغَتَرُّ إلى ظاهِرِها، وعَمِلَ لآخِرَتِه حينَ عَمِلَ البَطَّالُ لدُنياه، فشَتَّانَ ما بين الفَريقَينِ، وما أبعَدَ الفَرقَ بين الطَّائِفَتينِ

 

!!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- اللهُ سبحانه قد عَلِمَ قبل أن يوجِدَ عبادَه أحوالَهم، وما هم عامِلون، وما هم إليه صائِرون، ثمَّ أخرجهم إلى هذه الدارِ؛ لِيَظهَرَ مَعلومُه الذي عَلِمَه فيهم كما عَلِمَه، وابتلاهم مِن الأمرِ والنَّهيِ والخيرِ والشرِّ بما أظهر مَعلومه، فاستحقُّوا المدحَ والذمَّ والثوابَ والعقابَ بما قام بهم مِن الأفعالِ والصِّفاتِ المُطابِقة للعِلمِ السَّابقِ، ولم يكونوا يستَحِقُّون ذلك وهي في عِلْمِه قبل أن يَعمَلوها؛ فأرسل رسُلَه وأنزل كتُبَه وشرَعَ شرائِعَه؛ إعذارًا إليهم، وإقامةً للحُجَّةِ عليهم؛ لئلَّا يقولوا: كيف تُعاقِبُنا على عِلْمِك فينا، وهذا لا يدخل تحت كَسبِنا وقُدرتِنا؟! فلما ظهر عِلمُه فيهم بأفعالِهم حصَلَ العِقابُ على معلومِه الذي أظهره الابتلاءُ والاختبارُ، وكما ابتلاهم بأمرِه ونهيِه ابتلاهم بما زيَّنَ لهم من الدُّنيا وبما ركَّبَ فيهم من الشَّهواتِ، فذلك ابتلاءٌ بشَرعِه وأمرِه، وهذا ابتلاءٌ بقَضائِه وقَدَرِه؛ قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

[هود: 7] .

2- قولُه تعالى: أَحْسَنُ عَمَلًا قال الفضيلُ بنُ عياضٍ: (أخلصُه وأصوبُه). والخالصُ: أن يكونَ لله، والصوابُ: أن يكونَ على السنةِ، وهما أصلانِ عظيمانِ: أحدُهما: أن لا نعبدَ إلا الله، والثاني: أن لا نعبدَه إلا بما شرَع، لا نعبدُه بعبادةٍ مبتدَعةٍ، وهذان الأصلانِ هما تحقيقُ شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

- قولُه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ... استئنافٌ، وتَعليلٌ لِما في (لعلَّ) مِن معنى الإشفاقِ

؛ فمَوقعُ (إنَّ) في صَدْرِ هذه الجُملةِ موقعُ التَّعليلِ للتَّسليةِ الَّتي تضمَّنَها قولُه قبْلُ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ .

- وأُوثِرَ الاستدلالُ بحالِ الأرضِ الَّتي عليها النَّاسُ؛ لأنَّها أقرَبُ إلى حِسِّهم وتَعقُّلِهم .

- قولُه: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه إيرادُ صِيغَةِ التَّفضيلِ أَحْسَنُ، مع أنَّ الابتلاءَ شامِلٌ للفريقينِ باعتبارِ أعمالِهم المُنقسمةِ إلى الحَسنِ والقبيحِ أيضًا، لا إلى الحَسنِ والأحسنِ فقطْ؛ للإشعارِ بأنَّ الغايةَ الأصليَّةَ للجَعلِ المذكورِ إنَّما هو ظُهورُ كَمالِ إحسانِ المُحسنينَ .

- وقد جاء نظْمُ هذا الكلامِ على أُسلوبِ الإعجازِ في جمْعِ معانٍ كثيرةٍ يصلُحُ اللَّفظُ لها مِن مُختلَفِ الأغراضِ المقصودةِ؛ فإنَّ الإخبارَ عن خلْقِ ما على الأرضِ زينةً، يجمَعُ الامتنانَ على النَّاسِ، والتَّذكيرَ ببَديعِ صُنْعِ اللهِ؛ إذ وضَعَ هذا العالَمَ على أتقَنِ مثالٍ مُلائمٍ لِما تحِبُّه النُّفوسُ من الزَّينةِ والزُّخرفِ، والامتنانُ بمثْلِ هذا كثيرٌ. ولا تكونُ الأشياءُ زِينةً إلَّا وهي مبثوثةٌ فيها الحياةُ الَّتي بها نَماؤُها وازدهارُها. وهذه الزِّينةُ مُستمِرَّةٌ على وجْهِ الأرضِ منذُ رآها الإنسانُ، واستمرارُها باستمرارِ أنواعِها، وإنْ كان الزَّوالُ يعرِضُ لأشخاصِها، فتَخلُفُها أشخاصٌ أُخرى مِن نَوعِها، فيتضمَّنُ هذا امتنانًا ببَثِّ الحياةِ في الموجوداتِ الأرضيَّةِ. ومن لوازمِ هذه الزِّينةِ: أنَّها تُوقِظُ العُقولَ إلى النَّظرِ في وُجودِ مُنْشِئها، وتسبُرُ غوْرَ النُّفوسِ في مقدارِ الشُّكرِ لخالِقِها وجاعِلِها لهم، فمِن مُوفٍ بحَقِّ الشُّكرِ، ومُقصِّرٍ فيه، وجاحدٍ كافرٍ بنعمةِ هذا المُنعِمِ، ناسِبٍ إيَّاها إلى غيرِ مُوجدِها. ومن لوازمِها أيضًا: أنَّها تُثيرُ الشَّهواتِ لاقتطافِها وتناوُلِها، فتُسْتثارُ مِن ذلك مُختلَفُ الكيفيَّاتِ في تناوُلِها، وتعارُضُ الشَّهواتِ في الاستيثارِ بها، ممَّا يُفْضي إلى تغالُبِ النَّاسِ بعضِهم بعضًا، واعتداءِ بعضِهم على بعضٍ، وذلك الَّذي أوجَدَ حاجتَهم إلى الشَّرائعِ؛ لتَضبُطَ لهم أحوالَ مُعاملاتِهم؛ ولذلك علَّلَ جَعْلَ ما على الأرضِ زِينةً بقولِه: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أي: أفوتُ في حُسْنِ العمَلِ من عمَلِ القلْبِ الرَّاجعِ إلى الإيمانِ والكُفْرِ، وعمَلِ الجسَدِ المُتبدِّي في الامتثالِ للحقِّ والحَيدةِ عنه. فمجموعُ النَّاسِ مُتفاوتونَ في حُسنِ العملِ، ومِن دَرجاتِ التَّفاوُتِ في هذا الحُسنِ تُعلَمُ بطريقِ الفحوى درجةُ انعدامِ الحُسنِ من أصْلِه، وهي حالةُ الكُفْرِ وسُوءِ العمَلِ .

2- قولُه تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا هذه الجُملةُ لتكميلِ ما في السَّابقةِ من التَّعليلِ .

- قولُه: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لزيادةِ التَّقريرِ، أو لإدراجِ المُكلَّفينَ فيه .

========================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (9-12)

ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات :

 

الْكَهْفِ: أي: الغارِ الواسعِ في الجبلِ

.

وَالرَّقِيمِ: أي: الكِتابِ، وهو فَعيلٌ بمعنى مَفعولٍ، والأصلُ فيه المرقومُ، وسُمِّيَ رَقيمًا؛ لأنَّ أسماءَ أصحابِ الكَهفِ  كانت مَرقومةً -أي: مَكتوبةً- فيه. وقيل: الرقيمُ اسمُ الجبلِ الذي فيه الكهفُ، أو: اسمُ الوادي. وأصلُ (رقم): يدُلُّ على خَطٍّ وكِتابةٍ .

الْفِتْيَةُ: أي: الشبابُ، جمعُ فتًى، وأصلُ (فتى) هنا: يدُلُّ على طَراوةٍ وجِدَّةٍ .

رَشَدًا : الرَّشَدُ، والرُّشْدُ: نقيضُ الضلالِ، وهو الاهتداءُ والدَّيمومةُ عليه، وأصلُ (رشد): يدُلُّ على استقامةِ الطَّريقِ .

الْحِزْبَيْنِ: أي: الطائفتينِ، أو: الفريقينِ، والحزبُ: الجماعةُ مِنَ النَّاسِ الَّذينَ تَوافَقوا على شيءٍ واحدٍ، وأصلُ (حزب): تجمُّعُ الشَّيءِ .

أَمَدًا: أي: زَمانًا وغايةً

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا

أَيُّ اسمُ استفهامٍ مبتدأٌ، وهو معلِّقٌ لفعلِ (نَعلَم) عن العمَلِ، و أَحْصَى الخبَرُ، والجملةُ سدَّت مسدَّ مفعولي (نعلَم). و أَحْصَى يحتَمِلُ أن يكونَ فِعلًا ماضيًا، وفاعِلُه ضميرُ أَيُّ، و أَمَدًا مفعولٌ به، و لِمَا لَبِثُوا: متعلِّقٌ بأحصى، أو نعتٌ لـ أَمَدًا قُدِّمَ عليه فصار حالًا. ويحتَمِلُ أن يكونَ أَحْصَى اسمَ تفضيلٍ مصوغًا من الرُّباعي قياسًا، على قَولِ سيبويه والزجَّاج، وعلى خلافِ القياسِ عندَ غيرهما. و أَمَدًا تمييزٌ لاسمِ التَّفضيلِ تمييزُ نسبةٍ محوَّلٌ عن المفعولِ، وأصلُه أحصى أمدَ الزَّمانِ الذي لَبِثوا فيه. وقيل: محولٌ عن الفاعِلِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى مبينًا قصةَ أصحابِ الكهفِ: أظننتَ -يا مُحمَّدُ- أنَّ أصحابَ الكَهفِ والكتابِ كانوا مِن آياتِنا العَجيبةِ؟! فإنَّ في آياتِنا ما هو أعجَبُ مِن ذلك! اذكُرْ حينَ لجأ أولئك الشُّبَّانُ إلى الكَهفِ؛ خَشيةً مِن فِتنةِ قَومِهم الكُفَّارِ لهم، فقالوا: ربَّنا أعطِنا مِن عِندِك رحمةً تُثبِّتُنا بها، ويَسِّرْ لنا أسبابًا توصِلُنا إلى ما تُحِبُّ، فألقَينا عليهم نَوْمًا ثَقيلًا عَميقًا سِنينَ كَثيرةً، ثمَّ أيقَظْناهم مِن نَومِهم؛ لنعلمَ علمَ ظهورٍ ومشاهدةٍ: أيُّ الطَّائِفَتَينِ المُتَنازِعَتَينِ في مُدَّةِ لُبثِهم أضبَطُ وأتقَنُ في الإحصاءِ.

تفسير الآيات:

 

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9).

أي: أظنَنْتَ -يا مُحمَّدُ- أنَّ أصحابَ الكَهفِ والكِتابِ

كانوا مِن آياتِنا العَجيبةِ؟ بل في آياتِنا ما هو أعجَبُ مِن ذلك .

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا صَغَّر اللهُ تعالى أمْرَهم بالنِّسبةِ إلى جَليلِ آياتِه، وعَظيمِ بيِّناتِه، وغَريبِ مَصنوعاتِه؛ لَخَّصَ قِصَّتَهم التي عَدُّوها عَجَبًا، وتَرَكوا الاستِبصارَ على وحدانيَّةِ الواحِدِ القَهَّارِ، بما هو العجَبُ العَجيبُ، والنَّبأُ الغَريبُ، فقال تعالى :

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ.

أي: واذكُرْ حينَ لجأ أولئك الشَّبابُ إلى كَهفِ جَبَلٍ؛ خَوفًا مِن أن يَفتِنَهم قَومُهم الكُفَّارُ عن دِينِهم .

فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.

أي: فبادَرَ أولئك الشَّبابُ حين أَوَوا إلى الكَهفِ إلى الدُّعاءِ، فقالوا: ربَّنا أعطِنا مِن عِندِك رحمةً عَظيمةً تَرحَمُنا بها .

وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.

أي: وأعِدَّ لنا أسبابًا وأحوالًا تكونُ عاقِبَتُها حُصولَ ما خَوَّلْتَنا مِن الثَّباتِ على الحَقِّ، والنَّجاةِ من المُشرِكينَ، وحُصُولَ العِلمِ النَّافِعِ، والعَمَلِ به، فيكونُ أمرُ دِينِنا ودُنيانا صالِحًا مُوافِقًا للصَّوابِ .

فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11).

أي: فألقَيْنا عليهم نَوْمًا ثَقيلًا عَميقًا لسِنينَ ذواتِ عَدَدٍ كثيرٍ .

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12).

أي: ثمَّ أيقَظْناهم مِن نَوْمِهم -بعدَ مُضِيِّ تلك السِّنينَ الكَثيرةِ- لنعلمَ علمًا يَظهرُ في الوجودِ : أيُّ الفَريقَينِ المُختَلِفَينِ في مِقدارِ نَومِهم في الكَهفِ أضبَطُ وأتقَنُ في حِسابِ تلك المُدَّةِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا فيه لفتٌ للعقولِ عن الاشتغالِ بعجائبِ القصصِ إلى أنَّ الأوْلَى الاتِّعاظُ بما فيها مِن العبرِ والأسبابِ وآثارِها؛ ولذلك ابْتُدِئَ ذكرُ أحوالِهم بقولِه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا  فأعْلَم النَّاسَ بثباتِ إيمانِهم باللَّهِ ورَجائِهم فيه، وبقولِه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى... الآياتِ [الكهف: 13] ، الدَّالِّ على أنَّهم أبْطَلوا الشِّرْكَ، وسَفَّهوا أهلَه؛ تعريضًا بأنَّ حقَّ السَّامِعينَ أنْ يَقْتَدوا بهُداهم

.

2- قال الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا هذه الآيةُ صَريحةٌ في الفِرارِ بالدِّينِ، وهِجرةِ الأهلِ والبَنينَ، والقَراباتِ والأصدقاءِ، والأوطانِ والأموالِ؛ خَوفَ الفِتنةِ وما يَلقاه الإنسانُ مِن المِحنةِ، وقد خرج النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فارًّا بدِينِه وكذلك أصحابُه، وجلس في الغارِ -وقد نَصَّ اللهُ تعالى على ذلك في سورةِ «التَّوبة»- وهَجَروا أوطانَهم، وتَرَكوا أرْضَهم وديارَهم، وأهاليَهم وأولادَهم، وقَراباتِهم وإخوانَهم؛ رجاءَ السَّلامةِ بالدِّينِ، والنَّجاةِ مِن فِتنةِ الكافرينَ .

3- قَولُ الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا جَمَعوا بين السَّعيِ والفرارِ مِن الفِتنةِ إلى محَلٍّ يُمكِنُ الاستِخفاءُ فيه، وبين تَضَرُّعِهم وسُؤالِهم لله تَيسيرَ أُمورِهم، وعَدَمِ اتِّكالِهم على أنُفسِهم وعلى الخَلقِ؛ فلذلك استجابَ اللهُ دُعاءَهم، وقَيَّضَ لهم ما لم يَكُنْ في حِسابِهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ الشُّبَّانُ أقبَلُ للحَقِّ وأهدى للسَّبيلِ مِن الشُّيوخِ

؛ ولهذا كان أكثرُ المستجيبينَ لِلَّه ولرَسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ شَبابًا، وأَمَّا المشايخُ مِنْ قُرَيْشٍ فعامَّتُهم بَقُوا علَى دينِهم، ولم يُسْلِمْ منهم إِلَّا القليلُ. وهكذا أخبرَ تعالَى عن أصحابِ الكهفِ أنَّهم كانوا فتيةً شبابًا .

2- قال الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا خَصَّصَ سُبحانَه وتعالى الآذانَ بالذِّكرِ؛ لأنَّها الجارِحةُ التي منها عُظْمُ فَسادِ النَّومِ، وقَلَّما يَنقَطِعُ نَومُ نائمٍ إلَّا مِن جِهةِ أذُنِه، ولا يَستَحكِمُ نَومٌ إلَّا مع تعَطُّلِ السَّمعِ، ومِن ذِكرِ الأُذُنِ في النَّومِ قَولُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ذلك رجُلٌ بال الشَّيطانُ في أُذُنِه )) ، أشار عليه السَّلامُ إلى رجُلٍ طَويلِ النَّومِ لا يَقومُ باللَّيلِ .

3- قال الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا في النَّومِ المَذكورِ حِفظٌ لقُلوبِهم من الاضطرابِ والخَوفِ، وحِفظٌ لهم مِن قَومِهم، ولِيَكونَ آيةً بَيِّنةً .

4- قَولُ الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ فيه دَليلٌ على صِحَّةِ القَولِ بالكَراماتِ ؛ فإنَّ بقاءَهم ثلاثَمِئةِ سَنةٍ بلا آفةٍ: مِنْ أعظمِ الخوارقِ .

5- قال الله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا سَمَّى سُبحانَه وتعالى الاستِيقاظَ مِن النَّومِ بَعثًا؛ لأنَّ النَّومَ وَفاةٌ، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الأنعام: 60] ، وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر: 42] ؛ فالنَّومُ وَفاةٌ .

6- قولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ المقصودُ من هذه القِصَّةِ إثباتُ البعثِ بعدَ الموتِ؛ فكان في ذِكْرِ لفظِ (البَعثِ) تَنبيهٌ على أنَّ في هذه الإفاقةِ دليلًا على إمكانِ البَعثِ وكيفيَّتِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا

- قولُه: أَمْ حَسِبْتَ (أمْ) للإضرابِ الانتقاليِّ من غرَضٍ إلى غرضٍ

، ولمَّا كان هذا من المقاصِدِ الَّتي أُنزِلَتِ السُّورةُ لبَيانِها، لم يكُنْ هذا الانتقالُ اقتضابًا، بلْ هو كالانتقالِ من الدِّيباجةِ والمُقدِّمةِ إلى المقصودِ، على أنَّ مُناسبةَ الانتقالِ إليه تتَّصِلُ بقولِه تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] ؛ إذ كان ممَّا صرَفَ المُشرِكين عن الإيمانِ إحالتُهم الإحياءَ بعدَ الموتِ، فكان ذِكْرُ أهْلِ الكهفِ وبعْثِهم بعدَ خُمودِهم سِنينَ طويلةً مِثالًا لإمكانِ البعْثِ .

- والاستفهامُ المُقدَّرُ بعدَ (أمْ) تَعجبيٌّ، والتَّقديرُ: أحسِبْتَ أنَّ أصحابَ الكهفِ كانوا عجَبًا من بينِ آياتِنا، أي: أعجَبَ من بقيَّةِ آياتِنا؛ فإنَّ إماتةَ الأحياءِ بعدَ حياتِهم أعظَمُ من عجَبِ إنامةِ أهْلِ الكهفِ؛ لأنَّ في إنامتِهم إبقاءً للحياةِ في أجسامِهم، وليس في إماتةِ الأحياءِ إبقاءٌ لشَيءٍ من الحياةِ فيهم على كثرتِهم وانتشارِهم. وهذا تَعريضٌ بغَفلةِ الَّذين طَلبوا من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ بَيانَ قِصَّةِ أهْلِ الكهفِ لاستعلامِ ما فيها من العجَبِ، بأنَّهم سَألوا عن عجيبٍ، وكَفروا بما هو أعجَبُ، وهو انقراضُ العالَمِ .

- ومعنى مِنْ في قولِه: مِنْ آيَاتِنَا التَّبعيضُ، أي: ليست قِصَّةُ أهْلِ الكهْفِ مُنفردةً بالعجَبِ من بينِ الآياتِ الأُخرى. أو تُجعَلُ للظَّرفيَّةِ، أي: كانوا عجبًا في آياتِنا، أي: وبقيَّةُ الآياتِ ليست عجَبًا، وهذا نِداءٌ على سُوءِ نظَرِهم؛ إذ يُعلِّقون اهتمامَهم بأشياءَ نادرةٍ، وبين يدَيْهم من الأشياءِ ما هو أجدَرُ بالاهتمامِ .

- قولُه: كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا أخبَرَ عن أصحابِ الكهفِ بالعجَبِ، وإنَّما العجَبُ حالُهم في قومِهم، فثَمَّ مُضافٌ مَحذوفٌ يدُلُّ عليه الكلامُ، وأيضًا أخبَرَ عن حالِهم بالمصدَرِ عَجَبًا؛ مُبالغةً، والمُرادُ (عَجيب) .

2- قولُه تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا

- قولُه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ (إذ) ظرفٌ مُضافٌ إلى الجُملةِ بعدَه، وهو مُتعلِّقٌ بـ كَانُوا [الكهف: 9] ، فتكونُ هذه الجُملةُ مُتَّصلةً بالَّتي قبلها. أو مُتعلِّقٌ بفعْلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: (اذْكُر)؛ فتكونُ مُستأنَفةً استئنافًا بَيانيًّا للجُملةِ الَّتي قبْلها، والمقصودُ على كِلا الأمرينِ: إجمالُ قِصَّتِهم ابتداءً؛ تَنبيهًا على أنَّ قِصَّتَهم ليست أعجَبَ آياتِ اللهِ، مع التَّنبيهِ على أنَّ ما أكرَمَهم اللهُ به من العِنايةِ إنَّما كان تأييدًا لهم لأجْلِ إيمانِهم؛ فلذلك عُطِفَ عليه قولُه: فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً .

- قولُه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ فالفتيةُ هم أصحابُ الكهْفِ المَذكورونَ في الآيةِ الَّتي قبْلُ، ومُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (إذ أوَوا)؛ فعُدِلَ عن ذلك لِما يدُلُّ عليه لفظُ الْفِتْيَةُ من كونِهم أترابًا مُتقاربي السِّنِّ، وذِكْرُهم بهذا الوصفِ؛ للإيماءِ إلى ما فيه من اكتمالِ خُلقِ الرُّجوليَّةِ المُعبَّرِ عنه بالفُتوَّةِ الجامعِ لمعنى سَدادِ الرَّأيِ، وثَباتِ الجأْشِ، والدِّفاعِ عن الحقِّ؛ ولذلك عُدِلَ عن الإضمارِ فلم يُقَلْ: (إذ أوَوا إلى الكهفِ) . وقيل: إنَّما أُبرِزَ الضميرُ لبيانِ أنَّهم شُبَّانٌ ليسوا بكَثيري العَددِ؛ فليستْ لهم أسنانٌ استفادوا بها من التَّجارِبِ والتعلُّمِ ما اهتَدَوا إليه من الدِّين والدُّنيا، ولا كثرةٌ حُفِظوا بها ممَّن يُؤذيهم أَيقاظًا ورُقودًا .

- قولُه: فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا دلَّتِ الفاءُ في جُملةِ فَقَالُوا على أنَّهم لمَّا أوَوا إلى الكهف، بادروا بالابتهالِ إلى اللهِ، ودَعوا اللهَ أنْ يُؤتِيَهم رحمةً من لَدُنْه، وذلك جامعٌ لخيرِ الدُّنيا والآخرةِ، أي: أنْ يمُنَّ عليهم برحمةٍ عظيمةٍ تُناسِبُ عِنايتَه باتِّباعِ الدِّينِ الَّذي أمَرَ به؛ فزيادةُ مِنْ لَدُنْكَ للتَّعلُّقِ بفعْلِ الإيتاءِ تُشيرُ إلى ذلك؛ لأنَّ في (مِن) معنى الابتداءِ، وفي (لَدُن) معنى العِنديَّةِ والانتسابِ إليه؛ فذلك أبلَغُ ممَّا لو قالوا: (آتِنا رحمةً)، ثمَّ سألوا اللهَ أنْ يُقدِّرَ لهم أحوالًا تكونُ عاقِبتُها حُصولَ ما خوَّلَهم من الثَّباتِ على الدِّينِ الحقِّ، والنَّجاةَ من مُناوأةِ المُشرِكين؛ فعُبِّرَ عن ذلك التَّقديرِ بالتَّهيئةِ الَّتي هي إعدادُ أسبابِ حُصولِ الشَّيءِ .

- وفي قولِه: آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا تَقديمُ المُجرورَين -لَنَا ومِنْ أَمْرِنَا- على المفعولِ الصَّريحِ رَشَدًا؛ لإظهارِ الاعتناءِ بهما، وإبرازِ الرَّغبةِ في المُؤخَّرِ بتقديمِ أحوالِه؛ فإنَّ تأخيرَ ما حقُّه التَّقديمُ عمَّا هو من أحوالِه المُرغِّبةِ فيه، كما يُورِثُ شوقَ السَّامعِ إلى وُرودِه، يُنْبِئُ عن كَمالِ رَغبةِ المُتكلِّمِ فيه، واعتنائِه بحُصولِه لا مَحالةَ، وكذا الكلامُ في تَقديمِ قولِه تعالى: مِنْ لَدُنْكَ على تَقديرِ تعلُّقِه بـ آتِنَا. وتَقديمُ لَنَا على مِنْ أَمْرِنَا؛ للإيذانِ من أوَّلِ الأمْرِ بكونِ المَسؤولِ مرغوبًا فيه لدَيْهم .

3- قولُه تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا تَفريعُ هذه الجُملةِ بالفاءِ إمَّا على جُملةِ دُعائِهم فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً...؛ فيُؤذِنُ بأنَّ مَضمونَها استجابةُ دَعوتِهم، فجعَلَ اللهُ إنامتَهم كرامةً لهم، بأنْ سلَّمَهم من التَّعذيبِ بأيدي أعدائِهم، وأيَّدَ بذلك أنَّهم على الحقِّ، وأرى النَّاسَ ذلك بعدَ زمَنٍ طويلٍ. وإمَّا على جُملةِ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ...؛ فيُؤذِنُ بأنَّ اللهَ عجَّلَ لهم حُصولَ ما قَصَدوه ممَّا لم يكُنْ في حُسبانِهم .

- وحُذِفَ مفعولُ فَضَرَبْنَا لظُهورِه، أي: ضرَبْنا على آذانِهم غِشاوةً أو حائلًا عن السَّمعِ، كما يُقال: بنى على امرأتِه، تَقديرُه: بنى بيتًا .

- قولُه: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ الضَّربُ على الآذانِ كِنايةٌ عن الإنامةِ؛ لأنَّ النَّومَ الثَّقيلَ يَستلزِمُ عدَمَ السَّمعِ؛ لأنَّ السَّمعَ السَّليمَ لا يَحجُبُه إلَّا النَّومُ، بخِلافِ البَصرِ الصَّحيحِ، فقد يُحْجَبُ بتَغميضِ الأجفانِ، وهذه الكِنايةُ من خَصائصِ القُرآنِ لم تكُنْ معروفةً قبْلَ هذه الآيةِ، وهي من الإعجازِ . وعُبِّرَ بالضَّربِ؛ ليدُلَّ على قُوَّةِ المُباشَرةِ واللُّصوقِ واللُّزومِ .

- قولُه: سِنِينَ عَدَدًا فيه وصْفُ السِّنينَ بـ عَدَدًا، وهو للتَّكثيرِ؛ لأنَّه لا يُحْتاجُ أنْ يُعَدَّ إلَّا ما كثُرَ لا ما قَلَّ، وهو الأنسبُ بإظهارِ كَمالِ القُدرةِ. وقيل: للتَّقليلِ، وهو الأليقُ بمَقامِ إنكارِ كونِ القِصَّةِ عجَبًا من بين سائرِ الآياتِ العجيبةِ؛ فإنَّ مُدَّةَ لُبْثِهم كبعضِ يومٍ عنده عَزَّ وجَلَّ . وقد أُجْمِلَ العددُ هنا تَبعًا لإجمالِ القصَّةِ .

======================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (13-15)

ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ

غريب الكلمات :

 

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ: أي: ثبَّتْنا قلوبَهم، وألْهَمناهم الصَّبرَ، وأصلُ (ربط): يدُلُّ على شَدٍّ وثَباتٍ

.

شَطَطًا: أي: قَولًا جائِرًا بعيدًا عن الحَقِّ، وأصلُ (شطط): يدُلُّ على البُعدِ .

بِسُلْطَانٍ: أي: بحُجَّةٍ، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقَهرُ، مِن التَّسلُّطِ؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا

 

.

المعنى الإجمالي:

 

بعدَ أن أجمَل الله تعالى الكلامَ عن أصحابِ الكهفِ أخَذ يُفصِّلُ قصتَهم، فقال تعالى: نحن نَقُصُّ عليك -يا مُحَمَّدُ- خبَرَ أصحابِ الكَهفِ بالصِّدقِ، إنَّ أصحابَ الكَهفِ شَبابٌ آمنوا باللهِ، وزِدْناهم ثَباتًا وهُدًى، وثبَّتْنا قُلوبَهم بالإيمانِ، حين قاموا  فقالوا: رَبُّنا هو رَبُّ السَّمَواتِ والأرضِ، لن نَعبُدَ غَيرَه مِن الآلهةِ، لو عَبَدْنا غيرَه لكُنَّا قد قُلْنا قَولًا جائِرًا بعيدًا عن الصَّوابِ والحَقِّ، هؤلاء قَومُنا اتَّخَذوا آلِهةً غَيرَ اللهِ تعالى، فهلَّا يأتونَ بدَليلٍ واضِحٍ على صِحَّةِ عبادتِهم لها، فلا أحَدَ أشَدُّ ظُلْمًا ممَّن اختَلَقَ على اللهِ الكَذِبَ، فادعى شريكًا له في الألوهيةِ.

تفسير الآيات:

 

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ.

أي: نحن -يا مُحَمَّدُ- لا غَيرُنا نَروي لك خبَرَ أصحابِ الكَهفِ بالصِّدقِ المُطابِقِ للواقِعِ، واليَقينِ الذي لا شَكَّ فيه

.

إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ.

أي: إنَّ أصحابَ الكَهفِ شَبابٌ آمنُوا باللهِ حقًّا ، فوحَّدُوه ولم يُشرِكُوا به شَيئًا .

وَزِدْنَاهُمْ هُدًى.

أي: وبسَبَبِ أصلِ اهتدائِهم مِن قَبلُ إلى الإيمانِ، زِدْنَاهم إيمانًا، وعِلمًا بالحقِّ، وعملًا صالحًا .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] .

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14).

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ.

أي: وشَدَدْنا على قُلوبِهم، وثَبَّتْناها بالإيمانِ والصَّبرِ، فاشتَدَّ عَزمُهم، وقَوِيَ صَبْرُهم .

كما قال تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 10] .

إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا.

أي: رَبَطْنا على قُلوبِهم حِينَ قاموا لله، فقالوا مُعلِنينَ الحَقَّ : رَبُّنا الذي خَلَقَنا ويَملِكُنا ويَرزُقُنا ويُدَبِّرُ أمورَنا، هو الرَّبُّ المتفَرِّدُ بخَلقِ السَّمواتِ والأرضِ ومِلْكِها وتَدبيرِها، لن نَعبُدَ غَيرَه أبدًا؛ فهو الإلهُ المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه لا شريكَ له .

لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا.

أي: لو دَعَوْنا غيرَ اللهِ لَكُنَّا قد أفرَطْنا وغَلَوْنا في قَولِ الكَذِبِ، والتحَدُّثِ بالباطِلِ والبهتانِ .

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وَحَّد هؤلاء الفِتيةُ اللهَ تعالى، ورَفَضوا ما دُونَه مِن الآلهةِ، وذكَروا ما مَنَّ اللهُ به عليهم مِن الإيمانِ والهُدى؛ التَفَتوا إلى ما كان عليه قَومُهم مِن اتِّخاذِ الآلِهةِ مِن دونِ اللهِ، وأخَذُوا في ذَمِّهم وسُوءِ فِعلِهم، وأنَّهم لا حُجَّةَ لهم في عبادةِ غيرِ الله، ثمَّ عَظَّموا جُرْمَ مَن افتَرى على اللهِ كَذِبًا .

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً.

أي: قال الفِتيةُ المُؤمِنونَ : هؤلاءِ أهلُ عَصْرِنا وبَلَدِنا اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ آلِهةً يَعبُدونَها .

لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ.

أي: فهلَّا يأتي قَومُنا بحُجَّةٍ واضِحةٍ تدُلُّ على صَوابِ عِبادةِ تلك الآلهةِ التي يَتَّخِذونَها ؟!

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا  .

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

أنَّه تسَبَّبَ عن عَجزِهم عن دَليلٍ أنَّهم أظلَمُ الظَّالِمينَ؛ لافتِعالِهم الكَذِبَ عن مَلِكِ المُلوكِ ومالِكِ المُلكِ؛ فلذلك قالوا :

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا  .

أي: فلا أحدَ أشَدُّ ظُلمًا ممَّن اختَلَقَ الكَذِبَ على اللهِ، فادَّعى أنَّ له شَريكًا يُعبَدُ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال اللهُ تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ الكَريمةِ أنَّ مَن آمَنَ برَبِّه وأطاعَه، زاده رَبُّه هُدًى؛ لأنَّ الطَّاعةَ سَبَبٌ للمَزيدِ مِن الهُدى والإيمانِ

، وإنَّ مِن ثوابِ الحسنةِ الحسنةَ بعدَها، ومَن عمِل بما يعلمُ أورَثه الله تعالى علمَ ما لم يعلَمْ .

2- قَولُ الله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ يُفهَمُ مِنه أنَّ مَن كان في طاعةِ رَبِّه جَلَّ وعَلا، أنَّه تعالى يُقَوِّي قَلْبَه، ويُثَبِّتُه على تحَمُّلِ الشَّدائِدِ، والصَّبرِ الجَميلِ .

3- في قوله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أنَّ المؤمنَ أحوجُ شيءٍ إلى أن يربِطَ الله على قلبِه، ولولا ذلك الربطُ افتتنوا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ هذا مِن جُموعِ القِلَّةِ، ويدُلُّ على أنَّهم كانوا دونَ العَشرةِ

.

2- قَولُ الله تعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى استَدَلَّ بهذه الآيةِ وأمثالِها غيرُ واحدٍ مِن الأئمَّةِ -كالبُخاريِّ وغَيرِه- على زيادةِ الإيمانِ وتَفاضُلِه، وأنَّه يزيدُ ويَنقُصُ؛ ولهذا قال تعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، كما قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] ، وقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة: 124] ، وقال: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] إلى غيرِ ذلك منَ الآياتِ الدَّالَّةِ على ذلك .

3- قال اللهُ تعالى عن أهلِ الكَهفِ: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا قاموا فذَكَروا اللهَ على هِدايَتِه، وشَكَروا لِمَا أَولاهم مِن نِعْمَتِه، ثمَّ هامُوا على وُجوهِهم مُنقَطِعينَ إلى رَبِّهم، خائِفينَ مِن قَومِهم، وهذه سُنَّةُ اللهِ في الرُّسُلِ والأنبياءِ والفُضَلاءِ الأولياءِ .

4- قال اللهُ تعالى عن أهلِ الكَهفِ: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا، فاستَدَلُّوا بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ على توحيدِ الإلهيَّةِ؛ ولهذا قالوا: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا .

5- قال تعالى: فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا أي: لو دَعَوْنا وعَبَدْنا مِن دونِه إلهًا واللهِ لقد قُلْنا إِذًا شَطَطًا، واستلزامُ العبادةِ القَولَ؛ لِمَا أنَّها لا تَعرَى عن الاعترافِ بألوهيَّةِ المعبودِ، والتضَرُّعِ إليه، وفي هذا القَولِ دَلالةٌ على أنَّ الفِتيةَ دُعُوا لعبادةِ الأصنامِ، ولِيمُوا على تَركِها

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى

- هذا شُروعٌ في مُجْمَلِ القصَّةِ والاهتمامِ بمَواضعِ العِبْرةِ منها

، وقُدِّمَ منها ما فيه وصْفُ ثَباتِهم على الإيمانِ، ومُنابذتِهم قومَهم الكَفَرةَ، ودُخولِهم الكهْفَ. ولمَّا اقْتَضى قولُه قبْلُ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى أنَّ في نبَأِ أهْلِ الكهْفِ تَخرُّصاتٍ ورجْمًا بالغيبِ؛ أثارَ ذلك في النَّفسِ تطلُّعًا إلى معرفةِ الصِّدقِ في أمْرِهم، من أصْلِ وُجودِ القصَّةِ إلى تَفاصيلِها، من مُخبِرٍ لا يُشَكُّ في صِدْقِ خبَرِه؛ فكانت جُملةُ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ استئنافًا بَيانيًّا لجُملةِ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا .

- قولُه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ تَقديمُ المُسنَدِ إليه نَحْنُ على المُسنَدِ الفعليِّ نَقُصُّ يُفيدُ الاختصاصَ، أي: نحن لا غيرُنا يقُصُّ قصَصَهم بالحقِّ .

- والباءُ في قولِه: بِالْحَقِّ للمُلابَسةِ، أي: القَصصُ المُصاحِبُ للصِّدقِ لا للتَّخرُّصاتِ .

- وجُملةُ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا مُبيِّنةٌ للقصصِ والنَّبأِ. وافتتاحُ الجُملةِ بحرْفِ التَّأكيدِ إِنَّهُمْ؛ لمُجرَّدِ الاهتمامِ، لا لردِّ الإنكارِ .

- وقولُه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ استئنافٌ تَحقيقيٌّ مَبْنيٌّ على تَقديرِ السُّؤالِ من قِبَلِ المُخاطَبِ .

- قولُه: آمَنُوا بِرَبِّهِمْ فيه الْتِفاتٌ، حيث لم يقُلْ: (آمَنوا بِنا)؛ للإشعارِ بعِلِّيَّةِ وصْفِ الرُّبوبيَّةِ لإيمانِهم، ولمُراعاةِ ما صدَرَ عنهم من المقالةِ حسَبَما سيُحْكَى عنهم ، أو للإشعارِ بتلك الرُّتبةِ؛ وهي أنَّهم مَرْبوبون له مَمْلوكون .

- وأيضًا في قولِه: وَزِدْنَاهُمْ الْتِفاتٌ من الغَيبةِ إلى ما عليه سَبْكُ النَّظمِ سِباقًا وسِياقًا من التَّكلُّمِ، ولم يأْتِ التَّركيبُ: (وزادهم)؛ لِما في لفظةِ (نا) من العَظمةِ والجَلالِ .

2- قوله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا

- قولُه: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ لمَّا كان الفزَعُ وخوفُ النَّفسِ يُشْبِهُ بالتَّناسُبِ الانحلالَ، حسُنَ في شِدَّةِ النَّفسِ وقُوَّةِ التَّصميمِ أنْ تُشْبِهَ الرَّبطَ .

- قولُهم: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا عَرَّفوا اللهَ تعالى بطريقِ الإضافةِ إلى ضَميرِهم؛ إمَّا لأنَّهم عُرِفوا من قبْلُ بأنَّهم عَبَدوا اللهَ المُنزَّهَ عن خَصائصِ المُحدَثاتِ، وإمَّا لأنَّ اللهَ لم يكُنْ مَعروفًا باسمٍ علَمٍ عندَ أولئك المُشرِكين؛ فلم يكُنْ طَريقٌ لتَعريفِهم الإلهَ الحقَّ إلَّا طريقَ الإضافةِ، هذا إنْ كان القولُ مَسوقًا إلى قومِهم المُشرِكين؛ قَصَدوا به موعظةَ قومِهم بدونِ مُواجهةِ خِطابِهم؛ استِنزالًا لطائرِهم على طَريقةِ التَّعريضِ من بابِ (إيَّاكِ أعْني فاسْمَعي يا جارةُ)، واستقصاءً لتَبليغِ الحقِّ إليهم، أو قَصَدوا به إعلانَ إيمانِهم بين قومِهم، وإظهارَ عدَمِ الاكتراثِ بتَهديدِ الملِكِ وقومِه. وإنْ كان هذا القولُ قد جرى بينهم في خاصَّتِهم تَمهيدًا لقولِهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ...، وتضمَّن التعريفُ بالإضافةِ تَشريفًا لأنفُسِهم ، وضَمَّنوا دَعواهم ما يُحقِّقُ فَحواها، ويَقْضي بمُقتضاها؛ فإنَّ رُبوبيَّتَه عَزَّ وجَلَّ للسمواتِ والأرضِ تَقْتضي رُبوبيَّتَه لِما فيهما ، وفيه تأكيدُ هذا التَّوحيدِ بالبَراءةِ من إلهٍ غيرِه بلفْظِ النَّفيِ (لن) المُستغرِقِ تأبيدَ الزَّمانِ على قولٍ .

- قولُهم: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا فيه ذِكْرُ الدُّعاءِ دُونَ العِبادةِ؛ لأنَّ الدُّعاءَ يشمَلُ الأقوالَ كلَّها من إجراءِ وصْفِ الإلهيَّةِ على غيرِ اللهِ، ومن نِداءِ غيرِ اللهِ عندَ السُّؤالِ .

- وفي قولِه: إِلَهًا العُدولُ عن أنْ يُقالَ: (ربًّا)؛ للتَّنصيصِ على رَدِّ المُخالِفين؛ حيث كانوا يُسمُّون أصنامَهم آلهةً، وللإشعارِ بأنَّ مَدارَ العِبادةِ وصْفُ الأُلوهيَّةِ، وللإيذانِ بأنَّ رُبوبيَّتَه تعالى بطريقِ الألوهيَّةِ .

- وجُملةُ: لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا استئنافٌ بيانيٌّ لِما أفاده تَوكيدُ النَّفيِ بـ (لن) . واللَّامُ في لَقَدْ لامُ تَوكيدٍ .

- قولُه: لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا أي: قولًا ذا شطَطٍ، أي: تجاوُزًا عن الحَدِّ. أو: قولًا شَططًا، فجعَلَه هو عينَ الشَّططِ، على أنَّه وُصِفَ بالمصدرِ مُبالغةً، ثمَّ اقتُصِرَ على الوصْفِ؛ مُبالغةً على مُبالغةٍ .

3- قوله تعالى: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا

- قولُه: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استئنافٌ بيانيٌّ لِما اقتضَتْه جُملةُ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا؛ إذ يَثورُ في نفْسِ السَّامعِ أنْ يَتساءلَ عمَّن يقولُ هذا الشَّططَ؟ إنْ كان في السَّامعينَ مَن لا يعلَمُ ذلك، أو بتَنزيلِ غيرِ السَّائلِ منزلةَ السَّائلِ .

- والإشارةُ إلى قومِهم بـ هَؤُلَاءِ لقَصدِ تَمييزِهم بما سيُخْبَرُ به عنهم. وفي هذه الإشارةِ تَعريضٌ بالتَّعجُّبِ مِن حالِهم، وتَفضيحُ صُنْعِهم، واحتقارٌ لهم، وهو من لَوازمِ قصْدِ التَّمييزِ . وجُملةُ: اتَّخَذُوا خبَرٌ عن اسمِ الإشارةِ، وهو خبَرٌ مُستعملٌ في الإنكارِ عليهم دونَ الإخبارِ؛ إذ اتِّخاذُهم آلهةً من دُونِ اللهِ معلومٌ بين المُتخاطبينَ، فليس الإخبارُ به بمُفيدٍ فائدةَ الخبَرِ .

- في قولِه: لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ تَحضيضٌ صَحِبَه الإنكارُ؛ إذ يستحيلُ وُقوعُ سُلطانٍ بيِّنٍ على ثُبوتِ الإلهيَّةِ للأصنامِ الَّتي اتَّخَذوها آلهةً، بقَرينةِ أنَّهم أنْكَروه عليهم؛ فلا يُمكِنُ فيه التَّحضيضُ الصِّرفُ؛ فانصرَفَ التَّحضيضُ إلى التَّبكيتِ والتَّغليطِ، وكان حضُّهم على ذلك على سَبيلِ التَّعجيزِ لهم، أي: اتَّخَذوا آلهةً من دُونِ اللهِ لا بُرهانَ على إلهيَّتِهم؛ فكانت هذه الجُملةُ مُؤكِّدةً للجُملةِ الَّتي قبْلَها باعتبارِ أنَّها مُستعملةٌ في الإنكارِ؛ لأنَّ مَضمونَ هذه الجُملةِ يُقوِّي الإنكارَ عليهم .

======================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (16-18)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غريب الكلمات:

 

اعْتَزَلْتُمُوهُمْ: أي: فارَقْتُموهم، وأصلُ (عزل): يدُلُّ على تَنحيةٍ

.

فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: أي: فصِيروا إليه، واجْعَلوه مَأْواكم، والمأْوَى: المَكانُ الَّذي يُرْجَعُ إليه ليلًا أو نهارًا، يُقال: أَوَى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه، وأصْلُه: التَّجمُّعُ .

يَنْشُرْ: أي: يبسُطْ ويُوَسِّعْ، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فتحِ شيءٍ وتَشَعُّبِه .

مِرْفَقًا: أي: ما تَرتَفِقون به، أي: تَنْتَفعون به، والمِرفَقُ والمَرفِقُ: ما يُرتفَقُ به، والارتفاقُ: الانتفاعُ، وأصلُ (رفق): يدُلُّ على مُوافَقةٍ ومُقارَبةٍ بلا عُنفٍ .

تَزَاوَرُ: أي: تَميلُ، وأصلُ (زور): يدلُّ على مَيلٍ وعُدولٍ .

تَقْرِضُهُمْ: أي: تُجاوِزُهم وتَدَعُهم، أي: لا تَطلُعُ في كَهفِهم، يُقالُ: قرضْتُ موضعَ كذا؛ إذا قطعتَه فجاوزتَه، وأصلُ (قرض): يدلُّ على القَطعِ .

فَجْوَةٍ: أي: مُتَّسَعٍ، وأصلُ (فجو): يدُلُّ على اتِّساعٍ في شَيءٍ .

بِالْوَصِيدِ: أي: فِناءِ الكَهفِ، وأصلُ (وصد): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ إلى شَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يحكي الله سبحانه ما تناجَى به أولئك الفتيةُ فيما بينَهم، وما قرَّروه بعدَ اعتزالِ قومِهم، فيذكرُ أنَّ بعضَ الفتيةِ قال لِبَعضٍ: ولِكَونِكم فارَقتُم قَومَكم، وتَرَكتُم ما يَعبُدونَ مِن الآلهةِ سوى اللهِ، فالجَؤوا إلى الكَهفِ لتَعبُدوا رَبَّكم وَحدَه، يَبْسُطْ لكم ربُّكم مِن رَحمتِه، ويُسَهِّلْ لكم مِن أمْرِكم ما تَنتَفِعونَ به في حياتِكم من أسبابِ العَيشِ.

ثمَّ يذكرُ الله تعالى بعضَ أحوالِ هؤلاء الفتيةِ بعدَ استقرارِهم في الكهفِ، وإلقاءِ النومِ عليهم، فيذكر مِن مظاهِرِ حِفظِه لهم أنَّك ترى الشَّمسَ إذا أشرَقَت تَميلُ عن الكهفِ إلى جِهةِ اليمينِ؛ لئلَّا تُصيبَهم أشعَّتُها، وإذا غَرَبت تترُكُهم وتتجاوَزُهم إلى جهةِ اليَسارِ، وهم في مكانٍ مُتَّسِعٍ مِن الكَهفِ، ذلك الذي فعَلْناه بهؤلاء الفِتيةِ مِن دلائِلِ قُدرةِ اللهِ، وعَظيمِ لُطفِه بعبادِه.

ثمَّ ختَم الله تعالى هذه الآيةَ، فقال: مَن يُوَفِّقْه اللهُ للاهتداءِ إلى الحَقِّ، فهو الموفَّقُ حقًّا، ومَنْ لم يوفِّقْه لذلك فلن تجِدَ له مُعِينًا يُرشِدُه إلى الحَقِّ.

ثم يحكي الله تعالى مشهدًا عجيبًا لأصحابِ الكهفِ، فيقولُ تعالى: وتظُنُّ أهلَ الكَهفِ -لو قُدِّر لك النَّظَرُ إليهم- أيقاظًا، وهم في الواقِعِ نِيامٌ، ونُقَلِّبُهم حالَ نَومِهم؛ مَرَّةً للجَنبِ الأيمَنِ، ومَرَّةً للجَنبِ الأيسَرِ، وكَلبُهم الذي صاحَبَهم مادٌّ ذراعَيه بفِناءِ الكَهفِ، لو أشرفتَ عليهم وعايَنْتَهم لفرَرْتَ منهم هارِبًا، ولمُلِئَت نفسُك منهم فَزَعًا.

تفسير الآيات:

 

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا استدَلَّ الفِتيةُ على مُعتَقَدِهم، وعَلِموا سَفَهَ مَن خالَفَهم، وهم قَومٌ لا قُدرةَ لهم ولا طاقةَ بمقاومَتِهم؛ لِكَثرتِهم وقِلَّتِهم- تسَبَّبَ عن ذلك هِجرَتُهم؛ لِيَسلَمَ لهم دينُهم، فقال تعالى شارِحًا لِما بَقِيَ مِن أمرِهم

:

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ.

أي: قال بعضُ الفِتيةِ لِبَعضٍ : ولأجلِ أنَّكم انفرَدْتُم وتباعَدْتُم عن مُخالطةِ قَومِكم الكافرينَ، وتَرَكتُم ما يَعبُدونَ مِن الآلهةِ سوى اللهِ؛ فاتَّخِذوا الكَهفَ مأوًى لكم؛ لِتَختَفوا فيه مِن قَومِكم، وتَعبُدوا اللهَ وَحدَه .

يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.

أي: فإنِ اعتَزَلْتُم قَومَكم وما يَعبُدونَ مِن دُونِ اللهِ، وصِرتُم إلى الكَهفِ؛ يَبسُطْ لكم رَبُّكم مِن رَحمتِه، فيَحفَظْ لكم دينَكم، ويُنجِكم مِن قَومِكم .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] .

وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا.

أي: ويُسَهِّلْ لكم ربُّكم مِن أمْرِكم الذي أنتم فيه ما تَنتَفِعونَ به في أمرِ مَعيشَتِكم، فيأتِكم باليُسرِ والرِّفقِ واللُّطفِ .

كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].

وقال سُبحانَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكر اللهُ تعالى قَولَ بَعضِهم لبَعضٍ: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا [الكهف: 16] ؛ بيَّن سبحانَه حالَهم بعد أن أَوَوا إلى الكَهفِ، مُشيرًا إلى تحقيقِ رَجائِهم في ربِّهم، وهو ما هيَّأ لهم في أمرِهم مِن مِرفَقٍ، وأنَّ ذلك جزاؤُهم على اهتدائِهم، وهو من لُطفِ اللهِ بهم .

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ.

أي: وترى الشَّمسَ إذا أشرَقَتْ تَميلُ عن الكَهفِ الذي أوَى إليه الفِتيةُ، إلى جِهةِ يمينِه؛ لئلَّا تصيبَهم أشعَّتُها .

وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ.

أي: وترَى الشَّمسَ إذا غَرَبَت تَعدِلُ عن الفتيةِ وتَترُكُهم جِهةَ شِمالِ الكَهفِ، فلا يُصيبُهم شُعاعُها .

وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ.

أي: والفتيةُ في مكانٍ متَّسِعٍ داخِلَ الكَهفِ .

ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ.

أي: فعلُنا الذي فعَلْنا بهؤلاء الفِتيةِ؛ من تيسيرِ الكهفِ لحفظِهم فيه، وميلِ الشمسِ عنهم عندَ طلوعِها، وتركِها لهم عندَ غروبِها- مِن عجائبِ صُنعِ اللهِ الدَّالَّةِ على عَظيمِ قُدرَتِه وسُلطانِه، ولُطفِه بعِبادِه .

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان انفِرادُهم بالهُدَى عن أهلِ ذلك القَرنِ كُلِّهم عَجَبًا؛ وصَلَ به ما إذا تؤُمِّلَ زال عجَبُه، فقال تعالى :

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.

أي: مَن يُرشِدْه اللهُ ويوفِّقْه للاهتداءِ إلى الحَقِّ، فهو المهتدي حقًّا، مِثل هؤلاء الفِتيةِ الذين هداهم اللهُ مِن بَينِ قَومِهم .

وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.

أي: ومَن يَخذُلْه اللهُ، فلن تجِدَ له -يا مُحَمَّدُ- خليلًا ومُعِينًا يتولَّى إرشادَه إلى الحَقِّ .

كما قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88] .

وقال سُبحانَه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد: 33] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ [الإسراء: 97] .

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18).

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ.

أي: وتَظُنُّ هؤلاء الفِتيةَ -لو رأيتَهم- أيقاظًا، والحالُ أنَّهم نائِمونَ !

وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ.

أي: ونقلِّبُهم على جُنوبِهم؛ مرَّةً للجَنبِ الأيمَنِ، ومرَّةً للأيسَرِ .

وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ.

أي: وكَلبُ هؤلاء الفِتيةِ جالسٌ على بَطنِه مادٌّ يَدَيه عندَ مَدخَلِ الكَهفِ بفِنائِه؛ لحِراستِهم .

لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا.

أي: لو أشرَفْتَ على أصحابِ الكَهفِ فرأيتَهم وهم رُقودٌ، لفَرَرْتَ منهم هارِبًا .

وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا.

أي: ولامتَلأَتْ نفسُك خَوفًا وفَزَعًا منهم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا هذا يدُلُّ على أنَّ اعتزالَ المؤمِنِ قَومَه الكُفَّارَ ومَعبوديهم، مِن أسبابِ لُطفِ اللهِ به ورَحمتِه

.

2- قال الله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا المشروعُ عند وُقوعِ الفِتَنِ في النَّاسِ، أن يَفِرَّ العَبدُ منهم خَوفًا على دينِه، كما جاء في الحديثِ: ((يُوشِكُ أن يكونَ خَيرَ مالِ المسلم غَنَمٌ يَتبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ومواقِعَ القَطْرِ ؛ يَفِرُّ بدِينِه مِن الفِتنِ) ) ، ففي هذه الحالِ تُشرَعُ العُزلةُ عن النَّاسِ، ولا تُشرَعُ فيما عداها؛ لِما يَفوتُ بها مِن تَركِ الجَماعاتِ والجُمَعِ ، فاللهُ تعالى مدَح في هذه الآيةِ مَن فَرَّ بدِينِه خَشيةَ الفِتنةِ عليه .

3- قال الله تعالى: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا، وفيما تقَدَّمَ أخبَرَ أنَّهم دَعَوه بقَولِهم: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف: 10] فجَمَعوا بين التَّبرِّي مِن حَولِهم وقُوَّتِهم، والالتجاءِ إلى اللهِ في صلاحِ أمْرِهم ودُعائِه بذلك، وبين الثِّقةِ باللهِ أنَّه سيَفعَلُ ذلك .

4- يجِبُ على الإنسانِ أن يعتمِدَ على الله سبحانه وتعالى في أدَبِ أولادِه وهدايتِهم؛ فإنَّ الله تعالى هو الهادي سُبحانَه وبحمدِه؛ قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وعلى هذا فالذي يحَدِّدُ نسلَه خوفًا مِن عدمِ القدرةِ على تأديبِهم، هو أيضًا مسيءُ الظَّنِّ برَبِّه تبارك وتعالى، وإلَّا فالله سبحانه وتعالى بيدِه الأمورُ .

5- قَولُه تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا فيه تَنبيهٌ إلى عدمِ سؤالِ الهِدايةِ إلَّا مِنَ اللهِ، وعدمِ الجزعِ أو السخطِ عندَ رؤيةِ مَن هو ضالٌّ؛ فالله تعالى جَعَلَ النَّاسَ على قِسمَينِ: مهتدٍ وضالٍّ، فلا بدَّ مِن الإيمانِ بالقدرِ، والرضَا به على كُلِّ حالٍ، وألا نَسخَطَ الإضلالَ الواقِعَ مِن اللهِ، أما المقدورُ ففيه تَفصيلٌ ، ولكنْ يجبُ علينا مع ذلك أنْ نسعى في هدايةِ الخَلقِ، وأنْ نُرشِدَ هؤلاء الضالِّينَ .

6- قال الله تعالى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ شَمِلَت كَلْبَهم بركتُهم، فأصابه ما أصابَهم مِن النَّومِ على تلك الحالِ، وهذه فائدةُ صُحبةِ الأخيارِ؛ فإنَّه صار لهذا الكلبِ ذِكرٌ وخبَرٌ وشأنٌ ، فذِكْرُ هذا الكَلبِ على طولِ الآبادِ بجَميلِ هذا الرُّقادِ: مِن بركةِ صُحبةِ الأمجادِ ، فمن أحبَّ أهل الخير نال مِن بركتِهم؛ فهذا الكَلبُ أحَبَّ أهلَ فَضلٍ وصَحِبَهم، فذكَرَه الله في مُحكَمِ تنزيلِه . وإذا كان بعضُ الكلابِ قد نال هذه الدَّرجةَ العليا بصُحبته ومخالطتِه الصُّلَحاءَ والأولياءَ حتى أخبَرَ الله تعالى بذلك في كتابِه جلَّ وعلا، فما ظَنُّك بالمُؤمِنين الموحِّدين المُخالطين المحِبِّين للأولياءِ والصالحين؟! بل في هذا تسليةٌ وأُنسٌ للمؤمنينَ المقصِّرينَ عن دَرَجاتِ الكمالِ، المحبِّينَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآلِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فيه اعتزالُ أهلِ الشِّركِ، واعتزالُ مَعْبوديهم

.

2- قولُه تعالى: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ فيه شدةُ صلابتِهم في دينِهم؛ حيثُ عزَموا على تركِ ما كانوا فيه مِن النعمةِ العظيمةِ، واستبدلوا بها كهفًا في رأسِ جبلٍ .

3- حسنُ ظنِّ أصحابِ الكهفِ باللهِ ومعرفتُهم ثمرةَ الطاعةِ، ولو كان مباديها ذهابَ الدنيا، حيث قالوا: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً .

4- قولُه: تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ التَّعريفُ في الْيَمِينِ والشِّمَالِ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: يمينَ الكهْفِ وشِمالَه؛ فيدُلُّ على أنَّ فَمَ الكهْفِ كان مفتوحًا إلى الشِّمالِ الشَّرقيِّ؛ فالشَّمسُ إذا طلعَتْ تطلُعُ على جانبِ الكهْفِ ولا تخترِقُه أشعَّتُها، وإذا غربَتْ كانت أشعَّتُها أبعدَ عن فَمِ الكهْفِ منها حينَ طُلوعِها، وهذا وضْعٌ عجيبٌ يسَّرَه اللهُ لهم بحكمتِه؛ ليكونَ داخلُ الكهْفِ بحالةِ اعتدالٍ، فلا يَنتابُ البِلى أجسادَهم، وذلك من آياتِ قُدرةِ اللهِ .

5- قال الله تعالى: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي: مِن الكَهفِ، أي: مكانٍ مُتَّسِعٍ؛ وذلك لِيَطرُقَهم الهواءُ والنَّسيمُ، ويزولَ عنهم الوَخمُ والتأذِّي بالمكانِ الضَّيِّقِ، خصوصًا مع طولِ المُكثِ .

6- في قَولِه تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا بيانُ فَسادِ مذهَبِ القَدَريَّةِ الذين يَزعُمونَ أنَّ العبدَ لا يَفتَقِرُ في حصولِ هذا الاهتداءِ إلى اللهِ، بل كلُّ عبدٍ عندهم فمَعَه ما يحصُلُ به الطَّاعةُ والمعصيةُ، لا فرْقَ عندهم بين المؤمِنِ والكافِرِ! ولم يَخُصَّ اللهُ المؤمِنَ عندهم بهُدًى حصلَ به الاهتداءُ !

7- دلَّ قَولُ الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا على أنَّ كلَّ مَن هداه اللهُ اهتدى، ولو هدى الكافرَ -كما هدَى المُؤمِنَ- لاهتدَى .

8- قَولُ الله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ هذا مِن حِفظِ اللهِ تعالى لأبدانِهم؛ لأنَّ الأرضَ مِن طبيعتِها أكلُ الأجسامِ المتَّصِلةِ بها، فكان مِن قَدَرِ الله أنْ قَلَّبَهم على جُنوبِهم يَمينًا وشِمالًا بقَدْرِ ما لا تُفسِدُ الأرضُ أجسامَهم -هذا على أحدِ الأقوالِ في الحكمةِ مِن تقليبِهم-، واللهُ تعالى قادِرٌ على حِفْظِهم مِنَ الأرضِ مِن غَيرِ تَقليبٍ، ولكنَّه تعالى حَكيمٌ، أراد أن تَجريَ سُنَّتُه في الكَونِ، ويَربِطَ الأسبابَ بمُسَبَّباتِها .

9- قال الله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ في قَولِه: وَنُقَلِّبُهُمْ دليلٌ على أنَّ فِعْلَ النائمِ لا يُنسَبُ إليه، ووجهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللهَ أضاف تقلُّبَهم إليه، فلو أنَّ النَّائِمَ قال في نَومِه: (امرأتي طالِقٌ) أو: (في ذِمَّتي لفلانٍ ألفُ ريالٍ) لم يَثبُتْ؛ لأنَّه لا قَصْدَ له ولا إرادةَ له، لا في القَولِ ولا في الفِعلِ .

10- في قَولِه تعالى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ دليلٌ على جوازِ اتِّخاذِ الكَلبِ لحراسةِ الآدميِّينِ، أمَّا حراسةُ الماشيةِ، وحراسةُ الحرثِ فقد جاءَت به السنةُ . وإذا جاز اتخاذُ الكلبِ لحراسةِ الماشيةِ والحرثِ، أو للصيدِ الذي هو كمالٌ؛ فاتِّخاذُه لحراسةِ البيتِ مِن بابِ أولَى

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا

- قولُه: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ... يحتملُ أنْ يكونوا قال بعضُهم لبعضٍ ذلك بعدَ اليأْسِ من رُجوعِ قومِهم عن فِتْنتِهم في مَقامٍ آخرَ. ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك في نفْسِ المقامِ الَّذي خاطبوا فيه قومَهم، بأنْ غيَّروا الخِطابَ من مُواجهةِ قومِهم إلى مُواجهةِ بعضِهم بعضًا، وهو ضرْبٌ من الالتفاتِ؛ فعلى الوجْهِ الأوَّلِ يكونُ فِعْلُ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ مُستعمَلًا في إرادةِ الفِعلِ، مثْلُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] ، وعلى الوجْهِ الثَّاني يكونُ الاعتزالُ قد حصَلَ فيما بين مَقامِ خِطابِهم قومَهم وبين مُخاطَبةِ بعضِهم بعضًا؛ وعلى الاحتمالينِ فقدِ اقتُصِرَ في حكايةِ أقوالِهم على المقصَدِ الأهمِّ منها في الدَّلالةِ على ثَباتِهم، دُونَ ما سِوى ذلك ممَّا لا أثَرَ له في الغرَضِ، وإنَّما هو مُجرَّدُ قَصصٍ

.

- قولُه: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ الفاءُ للتَّفريعِ على جُملةِ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ باعتبارِ إفادتِها معنى: اعتزلْتُم دِينَهم اعتزالًا اعتقاديًّا؛ فيُقدَّرُ بعدَها جُملةٌ نحوُ: اعْتَزِلوهم اعتزالَ مُفارقةٍ، فأْوُوا إلى الكهفِ، أو يُقدَّرُ: وإذِ اعتزَلْتُم دِينَهم يُعذِّبونكم، فأْوُوا إلى الكهفِ .

- قولُه: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا فيه تَقديمُ لَكُمْ في الموضعينِ؛ للإيذانِ من أوَّلِ الأمْرِ بكَونِ المُؤخَّرِ من مَنافعِهم، والتَّشويقِ إلى وُرودِه .

- ويَنْشُرْ مجزومٌ في جوابِ الأمْرِ، وهو مَبْنيٌّ على الثِّقةِ بالرَّجاءِ والدُّعاءِ، وساقُوه مَساقَ الحاصلِ؛ لشِدَّةِ ثِقَتِهم بلُطْفِ ربِّهم بالمُؤمِنين .

2- قوله تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا

- قولُه: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ... بَيانٌ لحالِهم بعدَما أوَوا إلى الكهفِ، وقد أوجَزَ مِن الخبَرِ أنَّهم لمَّا قال بعضُهم لبعضٍ: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: أنَّهم أوَوا إليه، والتَّقديرُ: فأخَذوا بنَصيحتِه، فأوَوا إلى الكهْفِ، ودَلَّ عليه قولُه في صَدْرِ القصَّةِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ؛ فرَدَّ عجُزَ الكلامِ على صَدْرِه .

- والإتيانُ بفعْلِ المُضارَعةِ تَزَاوَرُ؛ للدَّلالةِ على تكرُّرِ ذلك كلَّ يومٍ .

- قولُه: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الإشارةُ بقولِه: ذَلِكَ إلى المذكورِ من قولِه: وَتَرَى الشَّمْسَ؛ للتَّعظيمِ، والجُملةُ مُعترِضةٌ في خِلالِ القصَّةِ؛ للتَّنويهِ بأصحابِها .

- قولُه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا استئنافٌ بيانيٌّ لِما اقتضاهُ اسمُ الإشارةِ من تَعظيمِ أمْرِ الآيةِ وأصحابِها ، والمُرادُ بقولِه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ إمَّا الثَّناءُ عليهم، أو التَّنبيهُ على أنَّ أمثالَ هذه الآياتِ كثيرةٌ، ولكنَّ المُنتفِعَ بها مَن وفَّقَه اللهُ للتَّأمُّلِ فيها، والاستبصارِ بها .

3- قوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا

- قولُه: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ عطْفٌ على بقيَّةِ القصَّةِ، وما بينهما اعتراضٌ، وهذا انتقالٌ إلى ما في حالِهم من العِبْرةِ لمَن لو رآهم مِن النَّاسِ، مُدمجٌ فيه بَيانُ كَرامتِهم، وعظيمِ قُدرةِ اللهِ في شأنِهم، وهو تعجُّبٌ من حالِهم لمَن لو رآهُ من النَّاسِ .

- وصِيغَ فِعْلُ (تَحْسَبُهُمْ) مُضارِعًا؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك يتكرَّرُ مُدَّةً طويلةً .

- والإتيانُ بالمُضارعِ وَنُقَلِّبُهُمْ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ بحسَبِ الزَّمنِ المَحكيِّ، ولا يلزَمُ أنْ يكونوا كذلك حين نُزولِ الآيةِ ، وفيه مَزيدُ اعتناءِ اللهِ بهم؛ حيث أسنَدَ التَّقليبَ إليه تعالى، وأنَّه هو الفاعلُ ذلك .

- قولُه: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ... الاطِّلاعُ افتعالٌ مِن (طلَعَ)، وصِيغَ الافتعالُ؛ للمُبالَغةِ في الارتقاءِ، وضُمِّنَ معنى الإشرافِ، فعُدِّيَ بـ (على) .

- وتأخَّرَ قولُه: وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا عن ذِكْرِ التَّوليةِ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ منهما في التَّرتُّبِ على الاطِّلاعِ؛ إذ لو رُوعِيَ تَرتيبُ الوُجودِ لَتَبادرَ إلى الفَهمِ ترتُّبُ المجموعِ من حيث هو هو عليه، وللإشعارِ بعدَمِ زَوالِ الرُّعبِ بالفِرارِ كما هو المُعتادُ .

- وانتصَبَ رُعْبًا على تَمييزِ النِّسبةِ المُحوَّلِ عن الفاعلِ في المعنى؛ لأنَّ الرُّعبَ هو الَّذي يمْلَأُ، فلمَّا بُنِيَ الفعْلُ إلى المجهولِ لقصْدِ الإجمالِ ثمَّ التَّفصيلِ، صار ما حَقُّه أنْ يكونَ فاعلًا تَمييزًا، وهو إسنادٌ بديعٌ حصَلَ منه التَّفصيلُ بعدَ الإجمالِ

=================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيتان (19-20)

ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ

غريب الكلمات:

 

بِوَرِقِكُمْ: الوَرِقُ: الفِضَّةُ المَضروبةُ، وهي الدَّراهِمُ، وأصلُ (ورق): يدُلُّ على خَيرٍ ومالٍ

.

أَزْكَى: أي:  أطْيبُ، وأحلُّ، وأطهرُ، والزَّكوُ: الزِّيادةُ في الخيرِ والنَّفعِ، وأصلُ الزكاءِ: النَّماءُ والزِّيادةُ .

بِرِزْقٍ: أي: بطعامٍ تأكلونَه، وقوتٍ تقتاتونَه، والرِّزقُ يُطلَقُ على ما يصِلُ إلى الجوفِ ويُتغَذَّى به؛ فيُطلَقُ على الطَّعامِ والثِّمارِ وعلى ما هو أعمُّ مِن ذلك مما يُنتفَعُ به، وأصلُ (رزق): يَدُلُّ على عطاءٍ لوَقْتٍ .

وَلْيَتَلَطَّفْ: أي: ولْيُدقِّقِ النَّظرَ، ولْيَحتَلْ حتى لا يطَّلِعَ عليه أحَدٌ، ويُعبَّرُ باللَّطافةِ واللُّطفِ عن الحَرَكةِ الخفيفةِ، وعن تعاطي الأُمورِ الدَّقيقةِ، وأصلُ (لطف): يدُلُّ على رِفقٍ .

يَظْهَرُوا: أي: يَطَّلِعوا ويُشرِفوا على مكانِكم أو على أنفُسِكم، والظُّهورُ أصلُه: البروزُ دونَ ساترٍ، ويُطلَقُ على الظَّفَرِ بالشَّيءِ، وعلى الغَلَبةِ على الغَيرِ، وهو المرادُ هنا .

يَرْجُمُوكُمْ: أي: يَقْتُلوكم بالرَّجْمِ، والرَّجْمُ: الرَّميُ بالرِّجامِ، وهي الحجارةُ، وأصلُ (رجم): الرَّميُ بالحجارةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

حكى الله سبحانه حالَ هؤلاء الفتيةِ بعدَ استيقاظِهم مِن هذا النومِ الطويلِ، فقال: وكما أنَمْناهم وحَفِظْناهم هذه المُدَّةَ الطَّويلةَ أيقَظْناهم مِن نَومِهم على هَيئَتِهم دونَ تغيُّرٍ؛ ليسألَ بَعضُهم بعضًا: كم مِن الوَقتِ مَكَثْنا نائمينَ هنا؟ فقال بعضُهم: مَكَثْنا يومًا أو بعضَ يومٍ، ففَوَّضوا عِلْمَ ذلك إلى اللهِ لَمَّا أعياهم التحَقُّقُ، وقالوا: ربُّكم أعلَمُ بمدَّةِ نَومِكم، فأرسِلوا أحَدَكم بدراهمِكم الفِضِّيَّةِ هذه إلى مَدينتِنا، فلْيَنظُرْ: أيُّ أهلِ المدينةِ أطيَبُ وأحَلُّ طَعامًا؟ فلْيَأتِكم بقُوتٍ منه، ولْيَترفَّقْ في دخولِه المدينةَ، وشِرائِه، وخُروجِه منها، ومجيئِه إلى الكَهفِ، ولا يُعْلِمَنَّ بكم أحدًا مِن النَّاسِ؛ إنَّ قَومَكم إنْ يَعْلموا بمكانِكم، ويَظْفروا بكم؛ يَرجُموكم بالحِجارةِ، فيَقتُلوكم، أو يَرجِعوكم إلى دينِهم، فتَصِيروا كُفَّارًا مِثلَهم، ولن تَفوزوا بالخيرِ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ -إنْ فَعلْتُم ذلك- أبدًا.

تفسير الآيتين:

 

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19).

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ.

أي: وكما أنَمْنا هؤلاء الفِتيةَ فحَفِظناهم في الكَهفِ، كذلك أيقَظْناهم مِن نَومِهم الطَّويلِ بذاتِ الحالةِ التي كانوا عليها، دونَ أن يتغيَّرَ مِن أحوالِهم وهَيئاتِهم شَيءٌ؛ ليَسألَ بَعضُهم بعضًا عن مُدَّةِ نَومِهم، فإذا تبيَّنوا طولَ الزَّمانِ عليهم، وهم بنَفسِ هَيئتِهم التي رَقَدوا بها، ازدادوا مَعرفةً بعَظيمِ سُلطانِ اللهِ وعجائِبِ قُدرتِه، وبحُسنِ دِفاعِ اللهِ عن أوليائِه، وازدادوا بصيرةً في أمْرِهم الذي هم عليه مِن التبَرُّؤِ مِن عبادةِ الآلهةِ، وإخلاصِ العبادةِ لله وَحْدَه لا شريكَ له

.

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ.

أي: قال قائِلٌ مِن الفِتيةِ لأصحابِه: كم كانت مُدَّةُ نَومِكم ؟!

قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.

أي: فأجابه الآخَرونَ بما يَظُنُّونَ: لَبِثْنا في نَومِنا يومًا كاملًا أو بعضًا منه .

قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ.

أي: قالوا مُفَوِّضينَ العِلمَ لله: ربُّكم أعلَمُ منكم بمدَّةِ نَومِكم .

فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ.

أي: قال الفِتيةُ: فأرسلوا واحِدًا مِنَّا بهذه الدَّراهِمِ الفِضِّيةِ التي بحَوزَتِنا، إلى مَدينَتِنا التي فرَرْنا منها .

فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ.

أي: فلْيَنظُرْ مَن ستُرسِلونَه: أيُّ أهلِ المدينةِ أطيَبُ وأحَلُّ وأطهَرُ طعامًا مِن غَيرِه ، فلْيَشتَرِ لكم قُوتًا منه، ولْيُحضِرْه إليكم لِتَأكلوه .

وَلْيَتَلَطَّفْ.

أي: ولْيَترفَّقِ الذي ستُرسِلونَه لشِراءِ الطَّعامِ، فيتخَفَّ ويتحَيَّلْ في دخولِه المدينةَ، وشِرائِه، وخُروجِه منها، ومجيئِه إلى الكَهفِ .

وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا.

أي: ولا يُعلِمَنَّ أحدًا من النَّاسِ بمَكانِكم الذي تختَبِئونَ فيه، فلا يقولَنَّ أو يفعَلَنَّ ما يُؤدِّي مِن غيرِ قَصدٍ منه إلى الشُّعورِ بكم .

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا نَهَوا رسولَهم عن الإشعارِ بهم، عَلَّلوا ذلك، فقالوا :

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ.

أي: وذلك لأنَّ قَومَكم الكُفَّارَ إن يَعلَموا بمكانِكم في الكَهفِ ويَظفَروا بكم، يَقتُلوكم رَجمًا بالحِجارةِ إن ثَبَتُّم على ما أنتم عليه مِن الحَقِّ .

أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ.

أي: أو يَرجِعوكم لِتَدخُلوا قَهرًا في دِينِهم، فتُصبِحوا كُفَّارًا مِثلَهم .

كما قال تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 88- 89].

وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا.

أي: ولن تَفوزوا بالخَيرِ أبدًا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ إن عُدتُم في ملَّتِهم

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ دَلَّ على الحَثِّ على العِلمِ، وعلى المُباحثةِ فيه؛ لِكَونِ اللهِ بعَثَهم لأجلِ ذلك

.

2- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فيه الأدَبُ فيمن اشتَبَه عليه العِلمُ؛ أن يَرُدَّه إلى عالِمِه، وأن يَقِفَ عند حَدِّه .

3- قَولُ الله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ السَّعيَ في إمساكِ الزَّادِ أمرٌ مُهِمٌّ مَشروعٌ، وأنَّه لا يُبطِلُ التوكُّلَ على اللهِ تعالى؛ إذ حَقيقةُ التوكُّلِ على اللهِ تعالى: تهيئةُ الأسبابِ، واعتِقادُ أنْ لا مُسَبِّبَ للأسبابِ إلَّا اللهُ تعالى ، فتزوُّدُهم ما كان معهم مِن الوَرِقِ عندَ فِرارِهم دَليلٌ على أنَّ حَملَ النَّفَقةِ وما يُصلِحُ المسافِرَ، هو رأيُ المتوكِّلينَ على اللهِ دونَ المُتَّكِلينَ على الاتِّفاقاتِ، وعلى ما في أوعيةِ القَومِ مِن النَّفَقاتِ .

4- قَولُ الله تعالى: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا فيه الحَثُّ على التحَرُّزِ، والاستخفاءِ، والبُعدِ عن مواقِعِ الفِتَنِ في الدِّينِ، واستِعمالِ الكِتمانِ في ذلك على الإنسانِ وعلى إخوانِه في الدِّينِ . وفيه أيضًا دَليلٌ على أخْذِ الحَذَرِ مِن الأعداءِ بكُلِّ وسيلةٍ، إلَّا الوسائلَ المُحَرَّمةَ؛ فإنَّها مُحرَّمةٌ لا يجوزُ أنْ يقعَ الإنسانُ فيها .

5- قَولُ الله تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا دَلَّ على ذِكرِ ما اشتملَ عليه الشرُّ مِن المضارِّ والمفاسِدِ الدَّاعيةِ لبُغضِه وتَرْكِه، وأنَّ هذه الطريقةَ هي طريقةُ المؤمنينَ المتقَدِّمينَ والمتأخِّرينَ؛ لِقَولِهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى حكايةً عن أصحابِ الكهفِ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا لم يعثُرْ عليهم أحَدٌ مع قُربِهم من المدينةِ جِدًّا، والدَّليلُ على قُربِهم أنَّهم لَمَّا استيقظوا أرسلوا أحَدَهم يشتري لهم طعامًا من المدينةِ، وبَقُوا في انتظارِه؛ فدَلَّ ذلك على شِدَّةِ قُربِهم منها

.

2- قَولُه تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أصلٌ في الوَكالةِ والنِّيابةِ ، وفيه دليلٌ على صحةِ الوكالةِ في البيعِ والشراءِ ، والوَكالةُ عَقدُ نيابةٍ أذِنَ الله فيه للحاجةِ إليه، وقيامِ المَصلحةِ به؛ إذ يَعجِزُ كُلُّ أحدٍ عن تناوُلِ أمورِه إلَّا بمعونةٍ مِن غَيرِه، أو يترَفَّهُ فيستنيبُ من يُريحُه، حتى جاز ذلك في العباداتِ؛ لُطفًا منه سبحانَه، ورِفقًا بضَعَفةِ الخليقةِ؛ ذكَرَها الله كما تَرَون، وبيَّنَها رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم كما تسمَعونَ، وهو أقوَى آيةٍ في الغَرَضِ .

3- قَولُ الله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ يدُلُّ على جوازِ خَلطِ دراهِمِ الجماعةِ، والشِّراءِ بها، والأكلِ مِن الطَّعامِ الذي بينهم بالشَّرِكةِ، وإن كان فيهم مَن يأكُلُ أكثَرَ ومَن يأكُلُ أقَلَّ؛ وذلك أنَّه قال: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ  إِلَى الْمَدِينَةِ فأضاف الوَرِقَ إلى الجَميعِ .

4- إنْ قيل: أليس أنَّهم لو أُكرِهوا على الكفرِ حتى أظهَروا الكفرَ لم يكنْ عليهم مضرَّةٌ، فكيفَ قالوا: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا؟

وأُجِيب: أنَّهم خافوا أنَّهم لو بَقُوا على الكفرِ مُظهرينَ له، فقد يميلُ بهم ذلك إلى الكفرِ الحقيقيِّ، فكان خوفُهم بسببِ هذا الاحتمالِ .

وقيل: إنَّ العُذرَ بالإكراهِ مِن خَصائِصِ هذه الأمَّةِ؛ لأنَّ قَولَه عن أصحابِ الكَهفِ: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ظاهِرٌ في إكراهِهم على ذلك، وعدَمِ طواعِيتِهم، ومع هذا قال عنهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ ذلك الإكراهَ ليس بعُذرٍ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا

- قولُه: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ الكافُ للتَّشبيهِ، والإشارةُ بـ (ذلك) إلى المذكورِ من إنامتِهم وكيفيَّتِها، أي: كما أنَمْناهم قُرونًا بعَثْناهم

، ووجْهُ الشَّبهِ: أنَّ في الإفاقةِ آيةً على عظيمِ قُدرةِ اللهِ تعالى مثْلَ آيةِ الإنامةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ تَشبيهُ البَعثِ المذكورِ بنفْسِه؛ للمُبالغةِ في التَّعجيبِ .

- قولُه: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ فيه الاقتصارُ على ذِكْرِ التَّساؤُلِ بينهم؛ لاستتباعِه لسائرِ آثارِه، والتَّقديرُ: ليَسألَ بعضُهم بعضًا، فيترتَّبُ عليه ما فُصِّلِ من الحِكَمِ البالغةِ. وجعْلُه غايةً للبعثِ المُعلَّلِ فيما سبَقَ بالاختبارِ، مِن حيثُ إنَّه من أحكامِه المُترتِّبةِ عليه .

- وجُملةُ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ بَيانٌ لجُملةِ لِيَتَسَاءَلُوا، وسُمِّيَت هذه المُحاورةُ تَساؤُلًا؛ لأنَّها تحاوُرٌ عن تطلُّبِ كلٍّ رأيَ الآخرِ؛ للوُصولِ إلى تَحقيقِ المُدَّةِ. والَّذين قالوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ هم مَن عدا الَّذي قال: كَمْ لَبِثْتُمْ، وأسنَدَ الجوابَ إلى ضَميرِ جماعتِهم؛ إمَّا لأنَّهم تَواطؤوا عليه، وإمَّا على إرادةِ التَّوزيعِ، أي: منهم مَن قال: لبِثْنا يومًا، ومنهم قال: لبِثْنا بعضَ يومٍ، وعلى هذا يَجوزُ أنْ تكونَ (أو) للتَّقسيمِ في القولِ؛ بدَليلِ قولِه بعْدُ: قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، أي: لمَّا اخْتَلفوا رجَعوا، فعَدلوا عن القولِ بالظَّنِّ إلى تَفويضِ العلْمِ إلى اللهِ تعالى، وذلك من كَمالِ إيمانِهم .

- وتَفريعُ قولِهم: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ على قولِهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ؛ لأنَّه في معنى: فدَعوا الخوضَ في مُدَّةِ اللُّبثِ؛ فلا يعلَمُها إلَّا اللهُ، وخُذوا في شَيءٍ آخرَ ممَّا يهُمُّكم ، وهو قريبٌ من الأُسلوبِ الحكيمِ، وهو تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تَنبيهًا على أنَّ غيرَه أولَى بحالِه، ولولا قولُهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، لكانَ قولُهم: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ عيْنَ الأُسلوبِ الحكيمِ .

- قولُه: وَلْيَتَلَطَّفْ، أي: ولْيتكلَّفِ اللُّطفَ في الاستخفاءِ؛ لئلَّا يُعْرَفَ، وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا مِن أهْلِ المدينةِ؛ فإنَّه يَستدْعي شُيوعَ أخبارِكم، أي: لا يفعلَنَّ ما يُؤدِّي إلى ذلك؛ فالنَّهيُ على ذلك تأكيدٌ للأمْرِ بالتَّلطُّفِ .

- قولُه: وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا سُمِّيَ ذلك إشعارًا منه بهم؛ لأنَّه سبَبٌ فيه؛ فالتَّقديرُ: ولا يفعلَنَّ ما يُؤدِّي من غيرِ قصْدٍ منه إلى الشُّعورِ بنا .

وقيل: ولا يُخبِرَنَّ بوُجودِكم أحدًا؛ فهنا مُضافٌ مَحذوفٌ دَلَّت عليه دَلالةُ الاقتضاءِ ، فيشمَلُ جميعَ أحوالِهم؛ من عدَدِهم ومكانِهم وغيرِ ذلك .

- والنُّونُ في وَلَا يُشْعِرَنَّ لتَوكيدِ النَّهيِ؛ تَحذيرًا من عَواقبِه المُضمَّنةِ في جُملةِ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ .

2- قولُه تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا عِلَّةٌ للأمْرِ بالتَّلطُّفِ، والنَّهيِ عن إشعارِ أحدٍ بهم ، وبَيانٌ لوجْهِ تَوكيدِ النَّهيِ بالنُّونِ في وَلَا يُشْعِرَنَّ؛ فهي واقعةٌ موقعَ العلَّةِ والبَيانِ، وكِلاهما يَقْتضي فصْلَها عمَّا قبْلَها .

- وفي قولِه: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ تَقديمُ احتمالِ الرَّجمِ على احتمالِ الإعادةِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ من حالِهم هو الثَّباتُ على الدِّينِ المُؤدِّي إليه .

- قولُه: أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ فيه إيثارُ كلمةِ (في) على كلمةِ (إلى)؛ للدَّلالةِ على الاستقرارِ الَّذي هو أشَدُّ شَيءٍ عندهم كراهةً .

- قولُه: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا فيه تأكيدُ التَّحذيرِ من الإرجاعِ إلى مِلَّتِهم بأنَّها يترتَّبُ عليها انتفاءُ فَلاحِهم في المُستقبَلِ؛ لِما دلَّتْ عليه (إذن) مِن الجَزائيَّةِ. وأَبَدًا ظرفٌ للمُستقبَلِ كلِّه، وهو تأكيدٌ لِما دَلَّ عليه النَّفيُ بـ (لن) من التَّأبيدِ أو ما يُقارِبُه ، وفيه من التَّشديدِ في التَّحذيرِ ما لا يَخْفى .

- وضَميرُ الخِطابِ في المواضعِ الأربعةِ (عَلَيْكُمْ - يَرْجُمُوكُمْ - يُعِيدُوكُمْ - وَلَنْ تُفْلِحُوا)؛ للمُبالَغةِ في حملِ المبعوثِ على الاستخفاءِ، وحَثِّ الباقينَ على الاهتمامِ بالتَّوصيةِ؛ فإنَّ تَمحيضَ النُّصحِ أدخَلُ في القَبولِ، واهتمامُ الإنسانِ بشأْنِ نفْسِه أكثَرُ وأوفَرُ

=====================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (21-26)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ

غريب الكلمات :

 

أَعْثَرْنَا: أي: أظهَرْنا وأطلَعْنا، وأصلُ (عثر) هنا: يدُلُّ على الاطِّلاعِ على الشَّيءِ

.

رَجْمًا بِالْغَيْبِ: أي: ظنًّا غيرَ يقينٍ، ويُعَبَّرُ بالرَّجمِ عن الرَّميِ بالظنِّ، وأصلُ (رجم): يدُلُّ على الرَّميِ بالحجارةِ، وأصلُ (غيب): يدُلُّ على تَستُّرِ الشَّيءِ عن العيونِ .

تُمَارِ مِرَاءً: المِراءُ: الجِدالُ، يُقالُ: مارَى يُماري مُماراةً ومِراءً، أي: جادَل؛ مِن: مَرَيْتُ الشاةَ؛ إذا استخرجتَ لبنَها، كأنَّ المجادلَ يستخرِجُ غضبَ خصمِه أو ما عندَه. وقيل: أصلُه يدُلُّ على صلابةٍ في شيءٍ؛ لأنَّ المراءَ كلامٌ فيه بعضُ الشِّدَّةِ .

أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ: أي: ما أبصَرَه وأسمَعَه

 

!

المعنى الإجمالي:

 

يحكي الله تعالى لنا مشهدًا آخرَ مِن أحوالِ هؤلاء الفتيةِ، فيقول: وكما أنَمْناهم سِنينَ كَثيرةً وأيقَظْناهم بعدَها، أطْلَعْنا عليهم أهلَ المدينةِ؛ ليَعلَموا أنَّ وَعْدَ اللهِ بالبَعثِ حَقٌّ، وأنَّ القيامةَ آتيةٌ لا شَكَّ في وقوعِها، إذ يتنازَعُ المطَّلِعونَ على أصحابِ الكَهفِ في أمرِ البعثِ بعدَ الموتِ؛ فمِن مُثْبِتٍ له ومِن مُنْكِرٍ، فقال الذين أعثَرَهم اللهُ على أصحابِ الكَهفِ: ابنُوا عليهم بناءً يَحجُبُهم، ربُّهم أعلَمُ بحالِهم وشَأنِهم، وقال الرُّؤساءُ أصحابُ الغَلَبةِ والنُّفوذِ: لنتَّخِذَنَّ على مكانِهم مَسجِدًا للعبادةِ.

ثم يحكي الله تعالى ما حصَل مِن خلافٍ حولَ عددِ أصحابِ الكهفِ قائلًا: سيقولُ بَعضُ الخائِضينَ في عَدَدِ أصحابِ الكَهفِ: هم ثلاثةٌ رابِعُهم كَلبُهم، ويقولُ بعضُهم: هم خَمسةٌ سادِسُهم كلبُهم، وكلامُ الفريقينِ قَولٌ بالظَّنِّ مِن غيرِ عِلمٍ ولا دَليلٍ، ويقولُ بَعضُهم: هم سبعةٌ وثامِنُهم كَلبُهم.

قُل -يا مُحمَّدُ- للخائِضينَ في عَدَدِ أصحابِ الكَهفِ بلا عِلمٍ: ربِّي هو الأعلَمُ بعَدَدِهم، ما يعلَمُ عَدَدَهم إلَّا قليلٌ مِن خَلقِه؛ فلا تجادِلْ في عَدَدِهم إلَّا جِدالًا ظاهِرًا، ولا تَسألْهم عن عَدَدِهم وأحوالِهم.

وينهَى الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإخبارِ عن فعلِ شيءٍ مستقبلًا إلَّا بعدَ تقديمِ مشيئتِه سبحانَه، فيقولُ: ولا تقولَنَّ -يا محمَّدُ- لشَيءٍ تَعزِمُ على فِعلِه: إنِّي فاعِلٌ ذلك الشَّيءَ غدًا، إلَّا أن تُعَلِّقَ قَولَك بالمَشيئةِ، فتقولَ: إن شاء الله. واذكُرْ رَبَّك عند النِّسيانِ بقَولِك: إن شاء اللهُ،  وقل: عسى أن يهديَني ربِّي لأقرَبِ الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلى الهُدى والرَّشادِ.

ثمَّ يبينُ الله تعالى المدةَ التي مكَثها الفتيةُ في الكهفِ، فيقولُ: ومكثَ الفِتيةُ نِيامًا في كَهفِهم ثلاثَمِئةِ سَنةٍ وتِسعَ سِنينَ، قُل -يا محمدُ-: اللهُ أعلَمُ بمُدَّةِ لُبثِهم في الكَهفِ، له غيبُ السَّمَواتِ والأرضِ، ما أبصَرَ اللهَ لكُلِّ مَوجودٍ، وما أسمَعَه سبحانَه لكُلِّ صَوتٍ! ليس للخَلقِ أحَدٌ غَيرُه يُدَبِّرُ شُؤونَهم، ويتولَّى أمورَهم، وليس له شَريكٌ في حُكمِه وقَضائِه بين خَلقِه سُبحانَه وتعالى.

تفسير الآيات:

 

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها انتِقالٌ إلى جُزءِ القِصَّةِ الذي هو مَوضِعُ عِبرةِ أهلِ زَمانِهم بحالِهم، وانتفاعِهم باطمِئنانِ قُلوبِهم لوقوعِ البَعثِ يومَ القيامةِ بطريقةِ التَّقريبِ بالمُشاهَدةِ، وتأييد الدِّينِ بما ظهَرَ مِن كَرامةِ أنصارِه، فالكلامُ عَطفٌ على قَولِه: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ

[الكهف: 19] .

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.

أي: وكما أنَمْنا الفِتيةَ وبَعَثْناهم مِن نَومِهم على هَيئتِهم، أطلَعْنا عليهم أهلَ المدينةِ في ذلك الزَّمانِ؛ ليَعلَموا أنَّ وعدَ اللهِ بإحياءِ الموتى حقٌّ، فلا يَشكُّونَ في قُدرةِ الله على البَعثِ؛ لأنَّ حالةَ أصحابِ الكَهفِ في نَومِهم وانتباهتِهم بعدَ مُدَّةٍ طَويلةٍ كحالِ مَن يموتُ ثُمَّ يُبعَثُ .

وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا.

أي: وأنَّ القيامةَ حَقٌّ، لا شَكَّ في مجيئِها، ووقُوعِ الثَّوابِ والعقابِ فيها .

كما قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [غافر: 59] .

إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ.

أي: أعْثَرْنا على أصحابِ الكهفِ حينَ اختَلف أهلُ ذلك الزمانِ في البعثِ بعدَ الموتِ، فمِنهم مَن يؤمنُ به، ومِنهم مَن ينكرُه .

فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ.

أي: فقال الذين أعثَرَهم اللهُ على أصحابِ الكَهفِ حين ماتُوا: ابنُوا عليهم بنيانًا يَستُرُهم ؛ ربُّهم أعلَمُ بهم وبِشَأنِهم وحالِهم .

قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا.

أي: قال رُؤساءُ المدينةِ الذين غَلَبوا على أهلِها : لَنبنيَنَّ عليهم مَسجِدًا يُعبَدُ اللهُ فيه .

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22).

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ.

أي: سيقولُ بَعضُ الخائِضينَ في عَدَدِ أصحابِ الكَهفِ: هم ثلاثةُ أشخاصٍ، والرَّابِعُ هو كَلبُهم .

وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ.

أي: وسيقولُ بَعضُهم: هم خمسةُ أشخاصٍ، والسَّادِسُ هو كَلبُهم .

رَجْمًا بِالْغَيْبِ.

أي: إنَّما يقولُ الخائِضونَ في عَددِ الفتيةِ ما يقولونَ بمُجَرَّدِ الظَّنِّ والتَّخمينِ، مِن غيرِ عِلمٍ ولا يقينٍ .

وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.

أي: ويقولُ بَعضُهم: عدَدُ أصحابِ الكَهفِ سَبعةٌ، والثَّامِنُ هو كَلبُهم .

قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ.

أي: قل -يا مُحَمَّدُ- للخائِضينَ في عَدَدِ أصحابِ الكَهفِ بلا عِلمٍ: ربِّي أعلَمُ مِن غَيرِه بعَدَدِ الفِتيةِ عِلمًا تامًّا .

مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.

أي: ما يعلَمُ عَدَدَ أصحابِ الكَهفِ على الصَّوابِ إلَّا قليلٌ مِن خَلقِه .

فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا.

أي: فلا تُحاجِجْ -يا مُحمَّدُ - في أصحابِ الكَهفِ إلَّا مُحاجَّةً ظاهِرةً ، ولا تُجهِدْ نَفسَك فيما لا طائِلَ مِن ورائِه .

وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا.

أي: ولا تَسألْ -يا مُحمَّدُ- في أصحابِ الكَهفِ أحدًا مِن أهلِ الكِتابِ .

وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23).

أي: ولا تَقولَنَّ -يا محمَّدُ- لأيِّ شيءٍ تعزِمُ على فِعْلِه: إنِّي فاعلٌ ذلك الأمرَ في المُستَقبلِ .

إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24).

إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.

أي: إلَّا أن تقولَ مع ذلك القَولِ: إن شاء اللهُ .

كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] .

وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ.

أي: إن قُلتَ -يا محمَّدُ-: سأفعَلُ شيئًا غدًا، ونَسِيتَ أن تقولَ: إن شاءَ اللهُ، فاذكُرْ رَبَّك بعد نِسيانِك بقَولِك: إن شاء اللهُ .

وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا.

أي: وقُلْ -يا محمَّدُ- داعيًا ربَّك: أرجو أن يوفِّقَني ربِّي، ويَدُلَّني إلى طريقٍ هو أقرَبُ الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلى الرَّشادِ، ويُثبِّتَني عليه .

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن استفتاءِ أهلِ الكتابِ في شأنِ أهلِ الكَهفِ؛ لِعَدَمِ عِلمِهم بذلك، وكان اللهُ عالِمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، العالمَ بكُلِّ شَيءٍ؛ أخبَرَ بمُدَّةِ لُبثِهم، وأنَّ عِلمَ ذلك عنده وَحدَه؛ فإنَّه مِن غَيبِ السَّمواتِ والأرضِ، وغَيبُها مختَصٌّ به سُبحانَه، فما أخبَرَ به عنها على ألسنةِ رُسُلِه، فهو الحَقُّ اليقينُ الذي لا يُشَكُّ فيه، وما لا يُطلِعُ رُسُلَه عليه فإنَّ أحدًا من الخَلقِ لا يَعلَمُه .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا فَرَغ اللهُ تعالى مِن هذه التَّربيةِ في أثناءِ القِصَّةِ، وخَتَمَها بالتَّرجيةِ في الهدايةِ للأرشَدِ، وكان عِلمُ مُدَّةِ لُبثِهم أدَقَّ وأخفى مِن عِلمِ عَدَدَهم؛ شَرَعَ في إكمالِها مُبَيِّنًا لهذا الأخفى .

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25).

أي: وبَقِيَ الفِتيةُ في الكَهفِ نِيامًا مُدَّةَ ثَلاثِمئةِ سَنةٍ وزيادة تِسعِ سنينَ .

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26).

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: اللهُ أعلَمُ بمُدَّةِ لُبثِ الفِتيةِ في الكَهفِ نائِمينَ، وقد أخبَرَنا بمقدارِ تلك المُدَّةِ بالحَقِّ، والصِّدقِ المطابِقِ للواقِعِ، فلا نقبَلُ قَولَ غَيرِه .

لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

أي: لله وَحدَه عِلمُ ما غاب وخَفِيَ في السَّمواتِ والأرضِ، ولا يخفى عليه شَيءٌ فيهما .

كما قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .

وقال سُبحانَه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .

وقال عزَّ وجَلَّ: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .

أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ.

أي: ما أبصَرَ اللهَ لكُلِّ مَوجودٍ، وما أسمَعَه لكُلِّ صَوتٍ، فلا يخفى عليه شَيءٌ من ذلك !

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج: 75] .

مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ.

أي: ما لجَميعِ الخَلقِ في السَّمَواتِ والأرضِ مِن دونِ اللهِ مِن وَليٍّ يلي أمرَهم، ويُدَبِّرُ شُؤونَهم، ومن ذلك أنَّه تولَّى شأنَ أصحابِ الكَهفِ بلُطفِه وكَرَمِه، ولم يَكِلْهم إلى أحَدٍ مِن خَلقِه .

وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ وَلَا تُشْرِكْ بالتاء والجزمِ، بتوجيهِ الخطابِ بالنَّهيِ عن الإشراكِ باللهِ في حُكمِه، فلا يَحكُم بين النَّاسِ بغيرِ حُكمِ اللهِ .

2- قِراءةُ وَلَا يُشْرِكُ بالياء والرَّفع، على الخبَرِ عن اللهِ تعالى أنَّه نفى عن أيِّ أحدٍ مِن خَلقِه إشراكَه في حُكمِه وقَضائِه، أي: لا يُشرِكُ اللهُ في حُكمِه أحدًا سواه؛ فهو المتفَرِّدُ وَحدَه بالحُكمِ بين العبادِ .

وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا.

أي: ولا يُشركُ اللهُ في قَضائِه بين خَلقِه وفي تدبيرِهم أحدًا سواه؛ فهو المتفرِّدُ وَحدَه بالحُكمِ في خَلقِه قَضاءً وقَدَرًا، وخلْقًا وتدبيرًا، وبالحُكمِ فيهم أمرًا ونهيًا، وثوابًا وعقابًا

 

.

كما قال تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام: 114] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام: 57] .

وقال سُبحانَه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] .

الفوائد التربوية:

 

1- الخُلاصةُ التي تُستخلَصُ مِن قِصَّةِ أهلِ الكَهفِ هي: أنَّ كُلَّ مَنِ التجأَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يحميه بأسبابٍ قد يُدرِكُها وقد لا يُدرِكُها، وهو مِصداقُ قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] ؛ فإنَّ مُدافعةَ اللهِ عن المؤمنينَ قد تكونُ بأسبابٍ معلومةٍ، وقد تكونُ بأسبابٍ مجهولةٍ لهم؛ فهذا يُرشِدُنا إلى أنْ نُحَقِّقَ الإيمانَ بالله عزَّ وجَلَّ، والقيامَ بطاعتِه

.

2- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا في هذه القِصَّةِ دَليلٌ على أنَّ مَن فَرَّ بدِينِه مِن الفِتَنِ، سَلَّمَه اللهُ منها، وأنَّ مَن حَرَص على العافيةِ عافاه الله، ومَن أوى إلى الله آواه الله، وجعلَه هدايةً لغيرِه، ومن تحمَّلَ الذُّلَّ في سبيلِه وابتغاءَ مَرضاتِه، كان آخِرَ أمْرِه وعاقِبتَه العِزُّ العظيمُ مِن حيثُ لا يحتَسِبُ ، فالخوفُ العظيمُ مِن أهلِ الكَهفِ وقتَ إيمانِهم، ودخولِهم في الغارِ، أبدلهم الله به بعدَ ذلك أمنًا وتعظيمًا مِن الخلقِ، وهذه عوائِدُ الله فيمن تحمَّلَ المشاقَّ مِن أجلِه: أن يجعَلَ له العاقِبةَ الحَميدةَ .

3- قَولُ الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أبهم تعالى على عُمومِ النَّاسِ الإعلامَ بذلك؛ لحِكمةٍ، وهي أن تتعوَّدَ الأمَّةُ بتَركِ الاشتغالِ فيما ليست منه فائدةٌ للدينِ أو للنَّاسِ .

4- قَولُه تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا اشتملَ على الأدَبِ في هذا المقامِ، وتعليمِ ما ينبغي في مِثْلِ هذا؛ فإنَّه تعالى أخبَرَ عنهم بثلاثةِ أقوالٍ، ضَعَّفَ القَولَينِ الأوَّلَينِ، وسَكَتَ عن الثَّالثِ، فدلَّ على صِحَّتِه؛ إِذْ لو كان باطِلًا لردَّه كما ردَّهما، ثمَّ أرشدَ إلى أنَّ الاطِّلاعَ على عِدَّتِهم لا طائِلَ تحتَه، فيُقالُ في مِثلِ هذا: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ؛ فإنَّه ما يعلمُ بذلك إلَّا قليلٌ مِن النَّاسِ ممَّن أطْلَعَه اللهُ عليه؛ فلهذا قال: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا أي: لا تُجْهِدْ نفسَك فيما لا طائِلَ تحته، ولا تَسألْهم عن ذلك؛ فإنَّهم لا يَعلَمونَ مِن ذلك إلَّا رَجْمَ الغَيبِ، فهذا أحسنُ ما يكونُ في حكايةِ الخلافِ: أنْ تُستَوعَبَ الأقوالُ في ذلك المقامِ، وأن يُنبَّهَ على الصَّحيحِ منها، ويُبطَلَ الباطِلُ، وتُذكَرَ فائِدةُ الخلافِ وثَمرتُه؛ لئلَّا يَطولَ النزاعُ والخِلافُ فيما لا فائدةَ تحتَه، فيُشتَغَلَ به عن الأهَمِّ، كذلك مَن نَصَب الخِلافَ فيما لا فائِدةَ تَحتَه، أو حكى أقوالًا متعدِّدةً لفظًا، ويَرجِعُ حاصِلُها إلى قَولٍ أو قَولينٍ معنًى؛ فقد ضَيَّعَ الزمانَ وتكَثَّرَ بما ليس بصحيحٍ؛ فهو كلابِسِ ثَوبَي زُورٍ، واللهُ الموفِّقُ للصَّوابِ .

5- قَولُ الله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إرشادٌ إلى أنَّ الأحسَنَ في مِثلِ هذا المقامِ رَدُّ العِلمِ إلى اللهِ تعالى؛ إذ لا احتياجَ إلى الخَوضِ في مِثلِ ذلك بلا عِلمٍ، لكِنْ إذا اطَّلَعْنا على أمرٍ قُلنا به، وإلَّا وقَفْنا حيث وقَفْنا ؛ ففيه تعليمٌ للنَّاسِ أن يردُّوا عِلمَ الأشياءِ إلى خالِقِها جلَّ وعلا وإن عَلِموا بها، كما أعلم نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بمدَّةِ لُبثِهم في قَولِه: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف: 25] ، ثم أمَرَه مع ذلك برَدِّ العلمِ إليه جلَّ وعلا في قَولِه جلَّ وعلا: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... .

6- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ فيه دليلٌ على المَنعِ مِن استِفتاءِ مَن لا يَصلُحُ للفَتوى؛ إما لِقُصورِه في الأمرِ المُستفتَى فيه، أو لِكَونِه لا يُبالي بما تكَلَّمَ به، وليس عِندَه وَرَعٌ يَحجُزُه، وإذا نُهيَ عن استفتاءِ هذا الجِنسِ، فنَهيُه هو عن الفتوى مِن بابِ أولَى وأحرَى .

7- قال الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فنهى أن يقولَ العبدُ في الأمورِ المُستقبَلة، إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ مِن دونِ أن يقرِنَه بمشيئةِ الله؛ وذلك لِما فيه من المحذورِ، وهو: الكلامُ على الغَيبِ المُستقبَلِ الذي لا يَدري هل يفعَلُه أم لا، وهل يكونُ أم لا، وفيه ردُّ الفِعلِ إلى مشيئةِ العبدِ استقلالًا، وذلك محذورٌ محظورٌ؛ لأنَّ المشيئةَ كُلَّها لله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29] ، ولِما في ذِكرِ مَشيئةِ الله مِن تيسيرِ الأمرِ وتَسهيلِه، وحُصولِ البركةِ فيه، والاستعانةِ مِن العبدِ لرَبِّه .

8- من تَرَك شيئًا مِن ذِكرِ اللهِ الواجِبِ عليه سَهوًا، فلْيعُدْ إليه إذا ذَكَر، كما قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ؛ فقد أمَرَه إذا نسيَ رَبَّه أن يذكُرَه بعد ذلك، فمن نسيَ الصَّلاةَ فقد نسيَ ذِكرَ رَبِّه، فإذا ذكَرَ أنَّه نَسِيَ فلْيعُدْ إلى ذكرِ الله بعدَ نِسيانِه . وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

9- في قَولِه تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ الإيمانُ بأنَّ اللهَ تعالى ذو بَصَرٍ نافذٍ لا يَغيبُ عنه شيءٌ، وذو سَمعٍ ثاقبٍ لا يخفَى عليه شَيءٌ، والإيمانُ بذلك يَقتَضي للإنسانِ ألَّا يُريَ ربَّه ما يكرَهُه، ولا يُسمِعه ما يكرَهُه؛ لأنَّك إنْ عَمِلتَ أيَّ عَمَلٍ رآه، وإنْ قُلْتَ أيَّ قولٍ سَمِعَه، وهذا يُوجِبُ أن تخشى اللهَ عزَّ وجلَّ، وألَّا تفعلَ فِعلًا يَكرَهُه، ولا تقولَ قَولًا يَكرَهُه اللهُ عزَّ وجلَّ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- إنَّ قصةَ أصحابِ الكَهفِ هي مِن آياتِ الله؛ فإنَّ مُكثَهم نِيامًا لا يَموتونَ ثلاثَمِئةِ سَنةٍ وتسعَ سنينَ؛ آيةٌ دالةٌ على قُدرةِ الله ومَشيئتِه، وأنَّه يَخلُقُ ما يشاءُ، ليس كما يقولُه أهلُ الإلحادِ، وهي آيةٌ على مَعادِ الأبدانِ، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا، وكان الناسُ قد تنازَعوا في زَمانِهم: هل تعادُ الأرواحُ دُونَ الأبدانِ؟ وإخبارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقِصَّتِهم -مِن غيرِ أنْ يُعَلِّمَه بَشَرٌ- آيةٌ على نبُوَّتِه، فكانت قصَّتُهم آيةً على أصولِ الإيمانِ الثلاثةِ: الإيمانُ باللهِ، واليومِ الآخِرِ، والإيمانُ برَسولِه، ومع هذا فليسوا من آياتِ اللهِ بعَجَبٍ، بل مِن آياتِ اللهِ ما هو أعجَبُ مِن ذلك؛ قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا

[الكهف: 9] .

2- اتخاذُ القبورِ مساجدَ ليس هو مِن شريعةِ الإسلامِ، بل مِن عملِ اليهودِ والنصارى، وقد لعَنهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم على ذلك،  وقال تعالى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا فجعَل اتِّخاذَ المساجِدِ على القُبورِ مِن فِعْلِ أهلِ الغَلَبةِ على الأمورِ، وذلك يُشْعِرُ بأنَّ مُستَندَه القَهْرُ والغَلَبةُ واتِّباعُ الهوى، وأنَّه ليس مِن فِعْلِ أهلِ العِلمِ والفَضلِ المُتَّبِعينَ لِمَا أنزلَ اللهُ على رُسُلِه مِن الهُدى .

3- قال الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا مِن فوائِدِ الآيةِ أنَّ مِن أسبابِ بناءِ المَساجدِ على القُبورِ الغُلوَّ في أصحابِ القُبورِ؛ لأنَّ الذين غَلَبوا على أمْرِهم بَنَوا عليهم المساجِدَ؛ لأنَّهم صاروا عِندَهم مَحَلَّ الاحترامِ والإكرامِ، فغَلَوا فيهم .

4- قَولُ الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وصفُ الأوَّلَينِ بالرَّجمِ بالغَيبِ دُونَ الثَّالِثِ يدُلُّ على أنَّه مَرْضِيٌّ وصَحيحٌ .

5- هنا نُكتةٌ في مسألةِ العَدَدِ؛ فاللهُ تعالى قال: سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم يقُلْ: ثمانيةٌ ثامِنُهم كلبُهم؛ لأنَّ الكلبَ مِن غيرِ الجِنسِ، وإذا كان مِن غيرِ الجِنسِ؛ فإنَّه لا يَدخُلُ في العددِ، ولكِنَّه يُجعَلُ بعدَه؛ ولهذا قال اللهُ عزَّ وجلَّ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة: 7] ولم يَقُلْ: «مِن نجوى أربعةٍ إلَّا هو رابِعُهم»؛ لأنَّه خالِقٌ وهم مخلوقونَ .

6- قال الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا دَلَّ عَلَمُ الاستقبالِ -السينُ في سيَقولونَ- على أنَّ النَّاسَ لا يزالونَ يَخوضونَ في ذلك .

7- قَولُ الله تعالى: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا فيه تحريمُ الجِدالِ بغَيرِ عِلمٍ وبلا حُجَّةٍ ظاهرةٍ .

8- قَولُ الله تعالى: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا فيه دَليلٌ على أنَّ الشَّخصَ قد يكون مَنهيًّا عن استفتائِه في شيءٍ دون آخَرَ، فيُستفتَى فيما هو أهلٌ له، بخلافِ غيرِه؛ لأنَّ الله لم ينهَ عن استفتائِهم مطلقًا، إنما نهَى عن استفتائِهم في قِصَّةِ أصحابِ الكهفِ، وما أشبهَها .

9- قولُ الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقَدَريةِ واضحةٌ؛ ألا ترى أنَّ الله جَلَّ جلالُه كيف أدَّب نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، فأعلَمَه أنَّ فِعلَه الشيءَ -وإن كان منسوبًا إليه- فبمَشيئتِه يَفعَلُه، ونهاه أن يُطلِقَ القَولَ في فِعلِه بغيرِ استثناءِ مَشيئتِه .

10- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فيه استِحبابُ تَقديمِ المَشيئةِ في كُلِّ شَيءٍ .

11- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ استدَلَّ به الشَّافِعيُّ وغَيرُه على أنَّ الاستِثناءَ في الأيمانِ والطَّلاقِ والعِتقِ، مُعتبَرٌ .

12- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إلَّا قَولًا مَقرونًا بمَشيئةِ الله؛ فقَرنُ ذلك بمشيئةِ الله يَستفيدُ منه الإنسانُ فائِدَتينِ عَظيمَتينِ:

إحداهما: أنَّ اللهَ يُيَسِّرُ الأمرَ له؛ حيث فوَّضَه إليه جلَّ وعلا.

والثانيةُ: إنْ لم يَفعَلْ لم يَحنَثْ .

13- قال الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا الفائِدةُ مِن أمْرِ اللهِ تعالى أنْ نَذكُرَه إذا نَسِينا هو ارتِفاعُ الإثمِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فإذا نَسِيتَ فقُلْها إذا ذكَرْتَ، لكنْ هل تنفعُك فلا تَحنَثُ، أم يرتَفِعُ عنك الإثمُ دونَ حُكْمِ اليَمينِ؟ الظَّاهرُ: الثَّاني؛ أنْ يَرتفِعَ الإثمُ، وأمَّا الحِنْثُ فإنَّه يَحنَثُ لو خالفَ؛ لأنَّ الاستثناءَ بالنِّسبةِ للحِنْثِ لا ينبغي إلَّا أنْ يكونَ مُتَّصِلًا . وقد أجمع المُسلِمونَ على أنَّ الحالِفَ إذا استثنى في يمينه مُتَّصِلًا بها فقال: لأفعلَنَّ كذا أو لا أفعَلُه إن شاء اللهُ؛ أنَّه لا يحنَثُ إذا خالفَ ما حلف عليه؛ لأنَّ مِن أصلِ أهلِ الإسلامِ أنَّه لا يكون شيءٌ إلَّا بمشيئةِ الله، فإذا عَلَّقَ الحالِفُ الفِعلَ أو التَّركَ بالمشيئةِ، لم يحنَثْ عند عَدَمِ المشيئةِ، ولا تجِبُ عليه الكَفَّارةُ .

14- قوله: وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا عَسَى مستعملةٌ في الرجاءِ تأدُّبًا .

15- قَولُ الله تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ استُدِلَّ بالتَّعجُّبِ فيه على جوازِ إطلاقِ صِيغةِ التعجُّبِ في صفاتِ اللهِ، كقَولِ: ما أعظَمَ اللهَ وما أجَلَّه !

16- قال الله تعالى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا على قراءةِ: ولَا تُشْرِكْ فالمعنى: لا يجوزُ أن يَحكُمَ حاكِمٌ إلَّا بما حكَمَ اللهُ، أو بما يدُلُّ عليه حُكمُ الله، وليس لأحدٍ أن يَحكُمَ مِن ذاتِ نَفسِه، فيكونَ شَريكًا لله في حُكمِه .

17- يُفهِمُ قَولُه: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا على كِلتا قراءتَيه ، وكذلك  قولُه تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف: 40] ، وقولُه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [المائدة: 50] إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ- أنَّ متَّبِعي أحكامِ المشَرِّعين غيرَ ما شرَعَه اللهُ؛ أنَّهم مُشرِكون بالله، وهذا المفهومُ جاء مُبيَّنًا في آياتٍ أُخَرَ، كقَولِه فيمن اتَّبَع تشريعَ الشيطانِ في إباحةِ المَيتةِ بدعوى أنَّها ذبيحةُ اللهِ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] ، فصَرَّح بأنَّهم مُشرِكون بطاعتِهم، وهذا الإشراكُ في الطاعةِ. واتِّباعُ التَّشريعِ المخالِفُ لِما شرعه اللهُ تعالى: هو المرادُ بعبادةِ الشَّيطانِ في قَولِه تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 60، 61]، وقَولِه تعالى عن نبيِّه إبراهيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم: 44]، وقَولِه تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء: 117] ، أي: ما يعبدون إلَّا شيطانًا، أي: وذلك باتِّباعِ تَشريعِه، ومِن أصرَحِ الأدلَّةِ في هذا: أنَّ الله جلَّ وعلا في سورةِ (النساء) بيَّنَ أنَّ مَن يريدون أن يتحاكَموا إلى غيرِ ما شرَعَه الله يُتعَجَّبُ مِن زعمِهم أنَّهم مؤمِنون، وما ذلك إلَّا لأنَّ دعواهم الإيمانَ مع إرادةِ التَّحاكُمِ إلى الطاغوتِ بالغةٌ مِن الكَذِبِ ما يحصُلُ منه العَجَبُ، وذلك في قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا

 

[النساء: 60] .

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا

- قولُه: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ فقبْلَ هذا الكلامِ جُملٌ مَحذوفةٌ؛ والتَّقديرُ: فبَعَثوا أحدَهم ونظَرَ أيُّها أزكى طعامًا وتلطَّفَ، ولم يُشْعِرْ بهم أحدًا، فأطلَعَ اللهُ أهْلَ المدينةِ على حالِهم، وقصَّةِ ذَهابِه إلى المدينةِ، وما جَرى له مع أهْلِها

.

- ومفعولُ أَعْثَرْنَا مَحذوفٌ، دَلَّ عليه عُمومُ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، تَقديرُه: أعثَرْنا أهلَ المدينةِ عليهم .

- قولُه: إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ الظَّرفُ مُتعلِّقٌ بقولِه: أَعْثَرْنَا؛ قُدِّمَ عليه الغايةُ إظهارًا لكَمالِ العنايةِ بذِكْرِها، أي: أعثَرْنا عليهم حين تَنازعوا أمْرَهم. وصِيغَ ذلك بصِيغَةِ الظَّرفيَّةِ؛ للدَّلالةِ على اتِّصالِ التَّنازُعِ في أمْرِ أهْلِ الكهفِ بالعُثورِ عليهم، بحيث تَبادروا إلى الخوضِ في كَرامةٍ يَجْعلونها لهم ، وهذا إدماجٌ لذِكْرِ نِزاعٍ جَرى بين الَّذين اعْتَدوا عليهم في أُمورٍ شَتَّى، جمَعَها قولُه تعالى: أَمْرَهُمْ؛ فضميرُ يَتَنَازَعُونَ وبَيْنَهُمْ عائدانِ إلى ما عاد إليه ضَميرُ لِيَعْلَمُوا ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.

- والإتيانُ بالمُضارِعِ يَتَنَازَعُونَ؛ لاستحضارِ حالةِ التَّنازُعِ .

- قولُه: فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا معطوفٌ على يَتَنَازَعُونَ، وإيثارُ صِيغَةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا القولَ ليس ممَّا يَستمِرُّ ويتجدَّدُ كالتَّنازُعِ .

- قولُه: فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا طُوِيَ هنا وصْفُ العُثورِ عليهم، وذِكْرُ عودِهم إلى الكهفِ؛ لعدَمِ تعلُّقِ الغرَضِ بذِكْرِه؛ إذ ليس موضعَ عِبْرةٍ؛ لأنَّ المصيرَ إلى مَرقدِهم، وطُرُوَّ الموتِ عليهم شأنٌ مُعتادٌ لكلِّ حَيٍّ .

2- قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا

- جيء بسينِ الاستقبالِ في قولِه: سَيَقُولُونَ الأوَّل دونَ الآخرَيْنِ: وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ؛ إمَّا لأنَّه يدخلُ الآخرانِ في حكمِ (السينِ)، كما تقولُ: قد أُكرَمُ وأُنعمُ، تريدُ معنى التوقعِ في الفعلينِ جميعًا؛ فحَرفُ العَطفِ يُوجِبُ دُخولَ القَولَينِ الآخرَينِ فيه، وإمَّا يرادُ بـ (يفعل) معنى الاستقبالِ الَّذي هو صالحٌ له .

- قولُه: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.. فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: وَثَامِنُهُمْ بزيادةِ واوِ العطْفِ، بخِلافِ الَّذي قبْلَه رَابِعُهُمْ سَادِسُهُمْ؛ فاختُصَّت الثَّمانيةُ بالواوِ، ولمْ ترِدِ الجُملةُ من قوله تعالى: وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ صِفةً للنَّكرةِ قبْلَها كما تقدَّمَ فيما قبْلُ، وعُدِلَ إلى العطْفِ؛ ووجه ذلك قيل: إنَّ هذا الإخبارَ مُعرِّفٌ باختلافِ اليهودِ في فِتية الكَهفِ، وإنَّهم أو أكثرَهم لم يَتحقَّقوا عددَهم؛ فحَكَى سُبحانَه أقوالَهم، وأومأَ إلى تقريرِ الصَّحيحِ منها، مع أنَّ أكثرَ اليهود غيرُ عالِمينَ بذلك ولا مُرجِّحين؛ فأتى بالجُملتَينِ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، ثمَّ قال: وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، ثمَّ أتْبَع هذا الكلامَ مِن اختلافِهم بقولِه: رَجْمًا بِالْغَيْبِ؛ فأفهمَ أنَّ هذا ليس مِن نَمطِ ما تَقدَّم، كأنَّه قيل: ويقولون سَبعةٌ وثامنُهم كلبُهم، وأنَّ هذا ليس داخلًا تحت ما تقدَّمَ من أنَّه رجمٌ بالغَيبِ .

وقيل: هذه الواوُ هي الواوُ الَّتي تدخُلُ على الجُملةِ الواقعةِ صِفَةً للنَّكرةِ، وفائدتُها توكيدُ اتِّصالِ الصِّفةِ بالموصوفِ، والدَّلالةُ على أنَّ اتِّصالها أمرٌ ثابتٌ مُستقِرٌّ، وهذه الواو هي الَّتي آذنَتْ بأنَّ الَّذين قالوا: سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قالوا عن ثباتِ علْمٍ وطُمأنينةِ نفْسِ، ولم يَرْجُموا بالظَّنِّ كما غيرُهم. والدَّليلُ عليه: أنَّ اللهَ سُبحانَه أتبَعَ القولينِ الأوَّلينِ قولَه: رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وأتبَعَ القولَ الثَّالثَ قولَه: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ .

- وقيل: إنَّ الفِرقةَ الَّتي قالتْ: كانوا ثلاثةً، كانتْ بعدَها فِرقتانِ أُخريانِ، وكذلك الثَّانيةُ الَّتي قالت: خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، وأمَّا السَّبعةُ فانتهَتْ عندها العِدَّةُ، وانقطَعَتْ بها القصَّةُ، ولم تكُنْ هناك فِرقةٌ رابعةٌ تَذكُرُ قولًا رابعًا، والشَّيءُ إذا تَمَّ وانتهى، وكانت الجُملةُ فيما لم يَنْتَهِ تتَّصِلُ بالأوَّلِ اتِّصالَ الشَّيءِ منه؛ كانتِ الواوُ فيها دَليلًا على انقضائِها، والآخر في كلامٍ في حُكْمِ المَنقطعِ منها في اللَّفظِ، وإنْ كان اتِّصالُه بها في المعنى كاتِّصال الأوَّلينِ . وقيل: لمَّا كانتِ السَّبعةُ أصلًا للنِّهايةِ في تركيبِ العدَدِ؛ فصارتِ السَّبعةُ أصلًا للمُبالَغةِ في العدَدِ .

- وقيل: إنَّ العرَبَ تقولُ: واحدٌ، اثنانِ، ثلاثةٌ، أربعةٌ، خمسةٌ، سِتَّةٌ، سبعةٌ، وثمانيةٌ، فإذا بلغَتِ الثَّمانيةَ لم تُجْرِها مَجْرى الأخواتِ الَّتي لا يُعْطَفُ بعضُها على بعضٍ، فيُعْطَفُ الثَّامنُ على ما قبْلَه، ولم يدخُلْ واوُ العطْفِ على ما قبْلَه .

- وجُملةُ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا لِما تُثيرُه جُملةُ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ إلى آخرِها، مِن ترقُّبِ تَعيينِ ما يُعتمَدُ عليه من أمْرِ عِدَّتِهم؛ فأُجِيبَ بأنْ يُحالَ العلْمُ بذلك على علَّامِ الغُيوبِ .

- وإسنادُ اسمِ التَّفضيلِ إلى اللهِ تعالى في قولِه: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ يُفيدُ أنَّ علْمَ اللهِ بعِدَّتِهم هو العلْمُ الكاملُ، وأنَّ علْمَ غيرِه مُجرَّدُ ظَنٍّ وحَدَسٍ، قد يُصادِفُ الواقعَ وقد لا يُصادِفُه .

- وجُملةُ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ الإخبارَ عن اللهِ بأنَّه الأعلَمُ يُثيرُ في نُفوسِ السَّامعينَ أنْ يَسألوا: هل يكونُ بعضُ النَّاسِ عالمًا بعِدَّتِهم علْمًا غيرَ كاملٍ؟ فأُجِيبَ بأنَّ قليلًا من النَّاسِ يَعْلمون ذلك، ولا مَحالةَ هم مَن أطلَعَهم اللهُ على ذلك بوحيٍّ، وعلى كل حالٍ فهم لا يُوصفونَ بالأعلميَّةَ؛ لأنَّ علْمَهم مُكتسبٌ من جِهَةِ اللهِ الأعلَمِ بذلك .

- قولُه: فَلَا تُمَارِ الفاءُ لتَفريعِ النَّهيِ على ما قبْلَه، أي: إذ قد عرَفْتَ جهْلَ أصحابِ القولينِ الأوَّلينِ، فلا تُجادِلهم ، وهذا التَّفريعُ وما عُطِفَ عليه مُعترِضٌ في أثناءِ القصَّةِ .

- قولُه: فَلَا تُمَارِ سَمَّى مُراجعتَه لهم مِراءً على سَبيلِ المُقابَلةِ؛ لمُماراةِ أهْلِ الكتابِ له في ذلك .

- قولُه: فَلَا تُمارِ فِيهِمْ يعني: في عدَّتِهم، وحُذِفت العِدَّةُ؛ لدلالةِ ظاهرِ القولِ عليها ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.

- قولُه: وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا المُرادُ من النَّهيِ عن استفتائِهم: الكِنايةُ عن جهْلِهم بأمْرِ أهْلِ الكهفِ؛ فضميرُ مِنْهُمْ عائدٌ إلى ما عاد إليه ضَميرُ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ، أو يكونُ كِنايةً رمزيَّةً عن حُصولِ علْمِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلمَ بحقيقةِ أمْرِهم، بحيث هو غَنِيٌّ عن استفتاءِ أحدٍ، وتكونُ (مِن) تَعليليَّةً .

3- قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا

- قولُه: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ في الكلامِ حذفٌ يقتضيه الظاهرُ، ويحسنُه الإيجازُ، والتقديرُ: إلَّا أن تقولَ: إلَّا أن يشاءَ الله، أو: إلَّا أن تقولَ: إنْ شاءَ اللهُ .

- قولُه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ في تعريفِ الجلالةِ بلفظِ الربِّ مضافًا إلى ضميرِ المخاطبِ دونَ اسمِ الجلالةِ العَلَمِ مِن كمالِ الملاطفةِ ما لا يخفَى .

4- قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا

- قولُه: ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا فيه تفصيلٌ بعدَ الإجمالِ؛ فالجملةُ مستأنفةٌ، مُبيِّنةٌ لِمَا أُجْمِل فيما سبَق في قولِه: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا .

- قوله: وَازْدَادُوا تِسْعًا أي: تسعَ سنينَ، فاستغنَى عن ذِكرِ السنينَ؛ لتقدُّمِ ذِكرِها .

5- قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا

- قولُه: لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فيه تقديمُ الخبر المجرور؛ لإفادة الاختصاص، أي: للهِ لا لغيره؛ ردًّا على الَّذين يزعمون علمَ خبرِ أهلِ الكهفِ ونحوِهم .

- قولُه: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ فيه مجيءُ ما دلَّ على التعجُّبِ مِن إدراكِه المسموعاتِ والمبصَراتِ؛ للدلالةِ على أنَّ أمرَه في الإدراكِ خارجٌ عن حدِّ ما عليه إدراكُ السامعينَ والمبصِرينَ؛ لأنَّه يدركُ ألطفَ الأشياءِ وأصغرَها، كما يدركُ أكبرَها حجمًا وأكثفَها جِرمًا، ويدركُ البواطنَ كما يدركُ الظواهرَ .

- وفي قولِه: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ تقديمُ أمرِ الإبصارِ على السمعِ؛ ولعلَّ ذلك لأنَّ الشيءَ المتحدَّثَ عنه مِن قبيلِ المبصَراتِ .

- قولُه: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا أبلغُ في نفيِ الشريكِ مِن أن يُقالَ: مِن وليٍّ ولا شريكٍ

===================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (27-29)

ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات :

 

مُلْتَحَدًا: أي: مَلجأً تَميلُ إليه، وأصلُ (لحد): يدُلُّ على مَيلٍ

.

بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ: الغَداةُ: أوَّلُ النَّهارِ، وأصلُ (غدو): يَدُلُّ على زَمانٍ . والعَشِيُّ: مِنْ زوالِ الشَّمْسِ إلى الصَّباحِ، وآخِرُ النَّهارِ، وأصلُ (عشو): يدُلُّ على ظَلامٍ، وقِلَّةِ وضوحِ الشَّيءِ .

وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ: أي: لا تَصرِفْ عَينيك عنهم، ولا تُجاوِزْهم إلى غَيرِهم، وأصلُ (عدو): يدُلُّ على التَّجاوزِ في الشَّيءِ .

أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ: أي: شغَلْنا قلبَه، وجعَلْناه غافلًا، والغفلةُ: سهوٌ يعتري الإنسانَ مِن قلَّةِ التَّحفُّظِ والتَّيقُّظِ. وقيل: المعنى: تركناه غُفْلًا، أي: فارغًا، والغُفْلُ: الشيءُ الفارغُ، والأرضُ الغُفْلُ: التي لا علامةَ بها .

فُرُطًا: أي: سَرَفًا وتَفريطًا وضَياعًا، وهو مِنَ الإفراطِ في الشَّيءِ والتَّجاوُزِ فيه، وقيل: أصلُه مِن التفريطِ، وهو تقديمُ العَجْزِ، فمَن قدَّم العَجْزَ في أمرِه أضاعَه وأهلَكه .

سُرَادِقُهَا: أي: فُسطاطُها وسُورُها، وكُلُّ ما أحاط بشيءٍ واشتمَلَ عليه مِن ثَوبٍ أو حائطٍ، يقالُ له: سُرادِقٌ، وهو فارسيٌّ مُعَرَّب .

كَالْمُهْلِ: المُهلُ: ما انتهى حَرُّه مِمَّا أُذِيبَ من النُّحاس والرَّصاصِ وأشباهِ ذلك، أو عَكَرُ الزَّيتِ، وأصلُ (مهل): يدل على جِنسٍ مِن الذَّائباتِ .

مُرْتَفَقًا: أي: مَنزِلًا، ومَقرًّا يُعَدُّ للارتفاقِ والانتفاعِ، أو مجلسًا، وأصلُ الارتفاقِ: الاتكاءُ على المِرْفقِ، وأصلُ (رفق): يدُلُّ على مُوافَقةٍ ومُقارَبةٍ بلا عنفٍ، ويُشتَقُّ منه كلُّ شيءٍ يَدْعو إلى راحةٍ وموافَقَةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: واقرأْ -يا مُحمَّدُ- ما أوحاه اللهُ إليك من القُرآنِ، وبلِّغْه للناسِ، واتَّبِعْه؛ فإنَّه لا يستطيعُ أحَدٌ أن يُبدِّلَ كَلِماتِ اللهِ؛ ولن تجِدَ مِن دونِ رَبِّك مَلجأً تلجأُ إليه إن أنت لم تَتلُ القرآنَ وتتَّبِعْه وتبلِّغْه.

ثم يرشدُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أحدِ الآدابِ المهمةِ، فيقولُ: واحبِسْ نفسَك -يا مُحمَّدُ- مع أصحابِك الذين يَعبُدونَ رَبَّهم وحدَه، ويَدْعُونَه أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه مُخلِصينَ في عبادتِه، ولا تَصرِفْ نَظَرَك عنهم إلى غَيرِهم مِن الكُفَّارِ مِن أهلِ الغنَى والجاهِ؛ راغبًا في مجالستِهم، ولا تُطِعْ مَن جعَلْنا قلبَه غافِلًا عن ذِكرِنا، وآثَرَ هواه، وصار أمرُه في جميعِ أعمالِه ضَياعًا وسَفَهًا وتفريطًا.

ثمَّ يأمرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يجهرَ بكلمةِ الحقِّ، فيقولُ تعالى: وقُلْ لهؤلاء الغافلينَ: ما جئتُكم به هو الحَقُّ مِن رَبِّكم، فإنْ شِئتُم فآمِنوا، وإن شِئتُم فاكفُروا، إنا أعدَدْنا للكافرينَ نارًا شديدةً أحاط بهم سُورُها مِن كُلِّ جانبٍ، وإنْ يَستَغِثْ هؤلاء الكُفَّارُ في النَّارِ بطَلَبِ الماءِ مِن شِدَّةِ عطَشِهم، يُؤتَوا بماءٍ مُنتِنٍ أسودَ شَديدِ الحرارةِ يَشوي وجوهَهم، قَبُحَ هذا الشرابُ الذي يُؤتَونَ به، وقَبُحَت النَّارُ مَنزِلًا لهم ومُقامًا!

تفسير الآيات:

 

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا أنزَل اللهُ تعالى على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أنزَل مِن قِصَّةِ أهل الكهفِ؛ أمَرَه بأن يقُصَّ ويتلوَ على معاصريه ما أوحَى إليه تعالى مِن كتابِه في قِصَّةِ أهلِ الكَهفِ وفي غيرِهم

.

وأيضًا لَمَّا دلَّ اشتمالُ القُرآنِ على قِصَّةِ أصحابِ الكَهفِ، مِن حيث إنَّها من المُغَيَّباتِ بالإضافةِ إلى الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، على أنَّه وحيٌ مُعجِزٌ؛ أمَرَه أن يداوِمَ دَرسَه، ويلازِمَ أصحابَه .

وأيضًا لَمَّا أخبَر الله تعالى أنَّ له غيبَ السَّمواتِ والأرضِ، فليس لمخلوقٍ إليها طريقٌ إلَّا عن الطريقِ التي يخبِرُ بها عبادَه، وكان هذا القرآنُ قد اشتملَ على كثيرٍ مِن الغيوبِ؛ أمر تعالى بالإقبالِ عليه، فقال :

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ.

أي: واقرأ -يا محمَّدُ- ما أوحَى اللهُ إليك مِن القرآنِ، وأبلِغْه إلى النَّاسِ، واتَّبِعْه بتصديقِ أخبارِه والعَمَلِ بما فيه، بامتثالِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه .

كما قال تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام: 106] .

وقال سُبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل: 91- 92] .

وقال عزَّ وجَلَّ: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43] .

وقال جلَّ جلالُه: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] .

لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ.

أي: لا أحدَ يَستطيعُ أن يغيِّرَ كَلِماتِ الله الشرعيةَ، فيُحَرِّفَ القرآنَ بتغييرِ أخبارِه، وتبديلِ أحكامِه، أو صرفِها عن معانيها الصَّحيحةِ ، ولا أن يُغيِّرَ كَلِماتِه الكونيةَ .

كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام: 115] .

وقال سُبحانَه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [يونس: 15] .

وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا.

أي: ولن تَجِدَ -يا مُحمَّدُ- مِن دونِ اللهِ مَلجأً تَهرُبُ إليه، وتحتمي به مِن العذابِ، إن أنتَ لم تتلُ القُرآنَ فتَتَّبِعْه وتُبَلِّغْه .

كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن: 22] .

وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28).

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.

أي: واحبِسْ نفسَك -يا مُحمَّدُ- مع أصحابِك الذين يَعبُدونَ رَبَّهم أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، ويَدْعونَه ويَذكُرونَه مُخلِصينَ له في ذلك .

كما قال تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] .

وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِتَّةَ نَفَرٍ، فقال المُشرِكونَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اطرُدْ هؤلاء لا يَجتَرِئونَ علينا! قال: وكنتُ أنا وابنُ مسعودٍ، ورجلٌ مِن هُذَيل، وبِلالٌ، ورجلانِ لستُ أُسمِّيهما، فوقع في نفسِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما شاء اللهُ أن يقعَ، فحدَّث نفسَه، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] )) .

وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَأنْ أقعُدَ مع قَومٍ يَذكُرونَ اللهَ تعالى مِن صَلاةِ الغَداةِ حتى تَطلُعَ الشَّمسُ، أحَبُّ إليَّ مِن أن أُعتِقَ أربعةً مِن ولَدِ إسماعيلَ، ولَأنْ أقعُدَ مع قومٍ يَذكُرونَ اللهَ مِن صلاةِ العَصرِ إلى أن تَغرُبَ الشَّمسُ، أحَبُّ إليَّ مِن أن أُعتِقَ أربعةً )) .

وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

أي: ولا تَصرِفْ عينَيك -يا مُحمَّدُ- عن الذين يَعبُدونَ رَبَّهم بالغَداةِ والعَشيِّ؛ لرثاثةِ هيئتِهم وزِيِّهم، مُحتَقِرًا لهم، فتَتجاوزَهم إلى أهلِ الشَّرَفِ والجاهِ، والغنَى والثروةِ، طامحًا إلى مُجالَستِهم بدلًا مِن أولئك .

كما قال تعالى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88] .

وقال سُبحانَه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] .

وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا.

أي: ولا تُطِعْ -يا مُحمَّدُ- من جعَلْنا قلبَه غافلًا عن ذِكرِنا وعبادتِنا وعن القرآنِ، وانشغل عن ذلك بالدُّنيا .

كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم: 29] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1] .

وقال سُبحانَه: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 24] .

وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.

أي: وآثَرَ اتِّباعَ شَهواتِ نَفسِه، فاختار الكُفرَ والشِّركَ والمعاصيَ على الإيمانِ والتَّوحيدِ والطَّاعةِ .

وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.

أي: وكانت شُؤونُه وأعمالُه سَفَهًا وتفريطًا وضَياعًا، قد تجاوَز فيها الحَدَّ، وتقدَّم فيها على الحَقِّ، نابذًا له وراءَ ظهرِه .

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعد أن أمَرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم بما فيه نَقضُ ما يَفتِلونَه مِن مُقتَرحاتِهم، وتعريضٌ بتأييسِهم من ذلك -كاقتراحِهم طردَ الفقراءِ حتَّى يُؤمنوا-؛ أمَرَه أن يُصارِحَهم بأنَّه لا يَعدِلُ عن الحَقِّ الذي جاءه مِن الله، وأنَّه مُبلِّغُه بدونِ هَوادةٍ، وأنَّه لا يَرغَبُ في إيمانِهم ببَعضِه دونَ بَعضٍ، ولا يتنازَلُ إلى مُشاطَرتِهم في رَغَباتِهم بشَطرِ الحَقِّ الذي جاء به، وأنَّ إيمانَهم وكُفرَهم موكولٌ إلى أنفُسِهم، لا يَحسَبونَ أنَّهم بوعدِ الإيمانِ يَستَنزِلونَ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن بعضِ ما أُوحيَ إليه، فالدينُ الحقُّ إنما أتَى مِن عندِ الله، فإن قبلوه عاد النفعُ إليهم، وإن لم يقبلوه عاد الضررُ إليهم، ولا تعلُّقَ لذلك بالفقرِ والغنَى، والقبحِ والحسنِ، والخمولِ والشهرةِ .

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.

أي: وقُلْ -يا مُحمَّدُ- مُعلِنًا : هذا الذي جِئتُكم به مِن عندِ رَبِّكم هو الحَقُّ بلا شَكٍّ، فلا تَطلُبوه مِن غَيرِه؛ فهو وَحدَه الذي يَهدي إليه مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضِلُّ مَن يشاءُ منهم .

فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.

أي: فإنْ شِئتُم فآمِنوا، وإن شِئتُم فاكفُروا؛ فإن اختَرتُم الإيمانَ فلكم الجنَّةُ، وإن اختَرْتُم الكُفرَ فقد أُعِدَّت لكم النَّارُ .

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا هدَّدَ السَّامِعينَ بما حاصِلُه: لِيَختَرْ كلُّ امرئٍ لنَفسِه ما يجِدُه غَدًا عندَ الله تعالى؛ أتبَعَ هذا التهديدَ تَفصيلًا لِمَا أَعَدَّ للفَريقينِ مِن الوَعدِ والوعيدِ ، ولَمَّا كان الكلامُ مع الكُفَّارِ وفي سياقِ ما طلبوا من الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كانت البداءةُ بما أعَدَّ لهم أهَمَّ وآكَدَ .

إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا.

أي: إنَّا أعدَدْنا وأرصَدْنا وهيَّأْنا للكافرينَ نارًا يُحيطُ بهم سُورُها مِن كُلِّ جانبٍ، فلا سبيلَ لهم إلى الخُروجِ منها .

كما قال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 31] .

وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ.

أي: وإنْ يَطلُبِ الكافِرونَ المعذَّبونَ في النَّارِ الماءَ؛ مِن شِدَّةِ عَطَشِهم، يُؤتَوا بماءٍ مُنتِنٍ غَليظٍ أسودَ، غاية في الحرارةِ، يشوي وُجوهَهم ؛ مِن شِدَّةِ حَرِّه .

بِئْسَ الشَّرَابُ.

أي: بئسَ شَرابُ الكافرينَ هذا الماءُ الذي يُؤتَونَ به، فيكونُ زيادةً في عقابِهم .

وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا.

أي: وقبُحَت جهنَّمُ مُقامًا يَستَقِرُّ فيه الكافِرونَ

 

.

كما قال تعالى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 66] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فيه الأمرُ بصُحبةِ الأخيارِ، ومُجاهَدةِ النَّفسِ على صُحبَتِهم ومخالَطتِهم وإن كانوا فُقرَاءَ؛ فإنَّ في صُحبَتِهم مِن الفوائِدِ ما لا يُحصى

.

2- في قَولِه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ دَلالةٌ على أنَّ مُجالسةَ الصالحينَ مأثورةٌ على مجالِسِ غَيرِهم، ومَندوبٌ إليها المُؤمِنونَ .

3- في قَولِه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إرشادٌ إلى حَمْلِ النَّفسِ على المَكارهِ، والْتِماسِ القُرْبَةِ إلى الله، وصرْفِها عمَّا تُنَازِعُ إليه مِن هواها .

4- قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ في الآيةِ الكريمةِ فَضْلُ الاجتماعِ على الذِّكْرِ والدُّعاءِ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فيه فَضْلُ الإخلاصِ، وأنَّ الإخلاصَ هو الذي عليه مدارُ كلِّ شيءٍ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الآيةِ أنَّ الإنسانَ لا ينبغي له أنْ يدَعَ أحوالَ الآخرةِ والعباداتِ إلى أحوالِ الدُّنيا .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فيه استحبابُ الذِّكرِ والدُّعاءِ والعبادةِ طَرَفي النَّهارِ؛ لأنَّ اللهَ مَدَحهم بفِعلٍ، وكلُّ فِعلٍ مدحَ اللهُ فاعِلَه، دلَّ ذلك على أنَّ اللهَ يُحِبُّه، وإذا كان يحِبُّه فإنَّه يأمرُ به، ويُرَغِّبُ فيه .

8- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا يدُلُّ على أنَّ الذي ينبغي أن يُطاعَ، ويكونَ إمامًا للنَّاسِ: مَن امتلأ قلبُه بمحَبَّةِ الله، وفاض ذلك على لِسانِه، فلَهِجَ بذِكرِ الله، واتَّبَع مراضيَ رَبِّه، فقَدَّمَها على هواه، فحَفِظَ بذلك ما حَفِظَ مِن وَقتِه، وصَلَحت أحوالُه، واستقامت أفعالُه، ودعا النَّاسَ إلى ما مَنَّ الله به عليه؛ فحَقيقٌ بذلك أن يُتَّبعَ ويُجعَلَ إمامًا ، أمَّا مُتَّبِعُ الهوى فليس أهلًا أنْ يُطاعَ، ولا أنْ يكونَ إمامًا ولا مَتبوعًا؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى نهَى عن طاعتِه كما في هذه الآيةِ، وعَزَله عنِ الإمامةِ، كما في قولِه تعالى لخليلِه إبراهيم عليه السلامُ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] أي: لا ينالُ عهدي -بالإمامةِ- ظالِمًا، وكلُّ مَنِ اتَّبَع هواه فهو ظالمٌ، كما قال الله تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم: 29] ، فينبغي للرجُلِ أنْ يَنظرَ في شَيخِه وقُدوتِه ومَتبوعِه؛ فإنْ وجَدَه كذلك فليَبعُدْ عنه، وإنْ وجَدَه ممن غَلَب عليه ذِكْرُ اللهِ تعالى، واتِّباعُ السُّنَّةِ، وأمْرُه غيرُ مفروطٍ عليه، بل هو حازمٌ في أمْرِه؛ فليستَمسِك بغَرْزِه .

9- في قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ دَلالةٌ على أنَّ ذِكْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ هو ذِكْرُ القَلبِ، وأمَّا ذِكْرُ اللِّسانِ مجرَّدًا عن ذِكْرِ القَلبِ، فإنَّه ناقِصٌ؛ فلم يَقُلْ سُبحانه: (مَن أمسَكْنا لِسانَه عن ذِكرِنا)، بل قال: مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا؛ فالذِّكْرُ النافعُ هو ذِكْرُ القَلبِ .

10- قال الله تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا في هذه الآية إشارةٌ إلى أهميَّةِ حُضورِ القَلبِ عندَ ذِكْرِ اللهِ، وأنَّ الإنسانَ الذي يَذْكُرُ اللهَ بلسانِه، لا بقَلبِه، تُنزَعُ البركةُ مِن أعمالِه وأوقاتِه، حتى يكونَ أمرُه فُرُطًا عليه؛ تجدُه يبقَى السَّاعاتِ الطويلةَ ولم يُحَصِّلْ شيئًا، ولكن لو كان أمرُه مع الله لحصَلَتْ له البركةُ في جميعِ أعمالِه .

11- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ يدُلُّ على أنَّ شَرَّ أحوالِ الإنسانِ أن يكونَ قَلبُه خاليًا عن ذِكرِ الحَقِّ، ويكونَ مملوءًا مِن الهوى الدَّاعي إلى الاشتغالِ بالخَلقِ .

12- قولُه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا فيه تَنبيهٌ على أنَّ الباعثَ لهم إلى استدعاءِ الطردِ: غفلةُ قلوبِهم عن جنابِ الله تعالى شأنُه، وملاحظةِ المعقولاتِ، وانهماكُهم في المحسوساتِ، حتَّى خفِيَ عليهم أنَّ الشَّرفَ بحِلْيةِ النَّفسِ لا بزِينةِ الجسَدِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قولُه تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، أي: مِن البشرِ، وإلَّا فاللهُ يُبدِّلُها؛ قال تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106] ، وقال: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ... الآيةَ

[النحل: 101] .

2- قال الله تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ في إضافةِ الرَّبِّ إلى الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دَليلٌ على أنَّ ما أوحاه اللهُ إلى رَسولِه من تمامِ عِنايتِه به .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ بُني فِعلُ (أُوحي) للمفعولِ؛ لأنَّ الخِطابَ مع النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وهو على القَطعِ بأنَّ الموحِيَ إليه هو اللهُ سُبحانَه وتعالى .

4- قال الله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ في الآيةِ إثباتُ الوَجهِ لله تعالى، وقد أجمعَ سلَفُ الأمَّةِ، وعُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ على ثُبوتِ الوَجهِ لله تعالى، بدَلالةِ الكِتابِ والسُّنةِ على ذلك؛ قال الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أعوذُ بوَجهِك )) .

5- قَولُه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فيه دَلالةٌ على أنَّ الدعاءَ بالغَدواتِ والعَشِيَّاتِ أفضَلُ وأجدَرُ بالإجابةِ .

6- في قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ دَلالةٌ على أنَّ الاستبدالَ بمجالسةِ صالحي الفقراءِ مجالسةَ طالحي الأغنياءِ، مَعصيةٌ، وإنْ لم يعملِ المُستبدِلُ بأعمالِهم .

7- في قَولِه تعالى: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إشارةٌ إلى أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لو فارَقَهم -هؤلاء الذين يَدْعُونَ اللهَ- لِمَصلحةٍ دينيَّةٍ؛ لم يدخُلْ هذا في النَّهيِ .

8- قولُه تعالى: أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ فيه دَليلٌ على أنَّ ما يَعرِضُ للعَبدِ مِن غَفلةٍ ومعصيةٍ، إنَّما هو بمشيئةِ الله تعالى؛ إذ لا يقَعُ شَيءٌ البتَّةَ كائِنًا ما كان إلَّا بمشيئتِه الكونيَّةِ القَدَريَّةِ -جلَّ وعلا- وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام: 107] ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ [الأنعام: 35] ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] ، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام: 25] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ الدالَّةِ على أنَّ كُلَّ شيءٍ مِن خيرٍ وشَرٍّ، لا يقَعُ إلَّا بمشيئةِ خالقِ السَّمواتِ والأرضِ .

9- في قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ؛ لقَولِه تعالى: أَغْفَلْنَا -ولم يقُلْ: (غَفَلوا)-، ثمَّ قال: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ -ولم يقلْ: (وأتبَعْناه هواه)-، ففيه أكبرُ الدليلِ على أنَّ إضافةَ أفعالِهم إليهم في مواضِعِ الإضافةِ في القُرآنِ غيرُ دافعٍ فِعْلَه بهم وإرادتَه فيهم؛ إِذْ قد يُجْمَعُ بينهما في حَرفٍ واحدٍ كما ترى .

10- قولُه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا هذا نَهيٌ جامعٌ عن مُلابَسةِ شَيءٍ ممَّا يأمُرُه به المُشرِكون، والمقصودُ من النَّهيِ تأسيسُ قاعدةٍ لأعمالِ الرَّسولِ والمُسلِمين تُجاهَ رغائبِ المُشرِكين، وتأييسُ المُشرِكين من نَوالِ شَيءٍ ممَّا رَغِبوه من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ .

11- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ يدُلُّ على أنَّ صُدورَ الفِعلِ عن الفاعِلِ بدونِ القَصدِ والدَّاعي، مُحالٌ .

12- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ هذه الصيغةُ تهديدٌ ووعيدٌ، وليست بتخييرٍ، وذلك يدُلُّ على أنَّ صِيغةَ الأمرِ لا لمعنى الطَّلَبِ في كتابِ اللهِ كثيرةٌ .

13- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ الآيةُ تدُلُّ على أنَّه تعالى لا ينتَفِعُ بإيمانِ المؤمنينَ ولا يستَضِرُّ بكُفرِ الكافرينَ، بل نَفعُ الإيمانِ يعودُ إليهم، وضرَرُ الكُفرِ يَعودُ عليهم، كما قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء: 7] .

14- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ فيه سؤالٌ: هل في هذا إباحةُ الكُفرِ؟

الجواب: لا؛ فالأَمْرُ في قوله تعالى: فَلْيَكْفُرْ للتهديد وليس للإباحة! كما يُهَدِّدُ الإنسانُ غيرَه فيقول: «إنْ كنتَ صادقًا فافعلْ كذا»، ويدلُّ عليه قولُه تعالى بعده: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا يعني: مَن كَفَرَ؛ فله النارُ قد أُعِدَّتْ ، وهذا بِناءً على أن الضَّميرَ في (شاء) لـ (مَن)، وعليه الجُمهورُ.

وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ مَن شاء اللهُ إيمانَه آمنَ، ومن شاء كُفرَه كفَرَ، بناءً على أنَّ الضميرَ فيه (لله) ، وكأنَّه لمَّا كان الإيمانُ والكُفْرُ تابعيْنِ لمَشيئةِ اللهِ، جاء بصِيغَةِ الأمْرِ، حتَّى كأنَّه تحتَّمَ وُقوعُه، مأمورٌ به، مطلوبٌ منه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا

- الأمْرُ في قولِه: وَاتْلُ كِنايةٌ عن الاستمرارِ. ومَا أُوحِيَ مُفيدٌ للعُمومِ، أي: كلَّ ما أُوحِيَ إليك، ومفهومُ الموصولِ: أنَّ ما لم يُوحَ إليه لا يَتْلوه

.

- قولُه: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ لَا مُبَدِّلَ عامٌّ، ولِكَلِمَاتِهِ عامٌّ أيضًا؛ فالتَّخصيصُ إمَّا في لَا مُبَدِّلَ، أي: لا مُبدِّلَ له سِواهُ، ألَا ترى إلى قولِه: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل: 101] . وإمَّا في كَلِمَاتِهِ، أي: لكلماتِه المُتضمِّنةِ الخبرَ؛ لأنَّ ما تضمَّنَ غيرَ الخبرِ وقَعَ النَّسخُ في بعْضِه .

- قولُه: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا فيه مَجيءُ مُلْتَحَدًا بصِيغَةِ الافتعالِ؛ لأنَّ أصْلَه تكلُّفُ الميْلِ، ويُفْهَمُ من صِيغَةِ التَّكلُّفِ أنَّه مَفَرٌّ من مَكروهٍ، يتكلَّفُ الخائفُ أنْ يأوِيَ إليه؛ فلذلك كان المُلتحَدُ بمعنى الملجَأِ، والمقصودُ من هذا تأييسُهم ممَّا طَمِعوا فيه .

2- قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا

- قولُه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (مع) تَقْتضي الصُّحبةَ والمُوافقةَ، والأمْرُ بالصَّبرِ هنا يظهَرُ منه كبيرُ اعتناءٍ بهؤلاء الَّذينَ أُمِرَ أنْ يصبِرَ نفْسَه معهم .

- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال في سُورةِ الأنعامِ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] ؛ وذلك أنَّ سادةَ المُشركينَ كانوا زعَموا أنَّه لولا أنَّ مِن المُؤمِنين ناسًا أهْلَ خَصاصةٍ في الدُّنيا، وأرقَّاءَ لا يُدانونهم ولا يستأْهِلونَ الجُلوسَ معهم؛ لأتَوْا إلى مُجالَسةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، واسْتَمعوا القُرآنَ، فاقْتَرحوا عليه أنْ يطرُدَهم مِن حولِه إذا غشِيَه سادةُ قُريشٍ؛ فرَدَّ اللهُ عليهم بما في سُورةِ الأنعامِ، وما هنا في هذه السُّورةِ آكَدُ؛ إذ أمَرَه بمُلازمتِهم بقولِه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ، ولتَضمينِ فعْلِ (اصْبِر) معنى المُلازَمةِ عُلِّقَ به ظرْفُ (مع) .

- قولُه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ والتَّعبيرُ عنهم بالموصولِ الَّذِينَ؛ للإيماءِ إلى تَعليلِ الأمْرِ بمُلازمتِهم، أي: لأنَّهم أحرياءُ بذلك؛ لأجْلِ إقبالِهم على اللهِ، فهم الأجدرُ بالمُقارَنةِ والمُصاحبةِ .

- قولُه: الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فيه تخصيصُ الغداةِ والعشيِّ بالذِّكرِ؛ لأنَّ العربَ إذا أرادَتِ الدوامَ أطْلَقَتِ الليلَ والنهارَ، والغداةَ والعشيَّ، يَعْنُونَ أنَّهم دائمونَ على ذلك، أو: لأنَّ أولَ النهارِ وآخِرَهُ من أفضلِ الأوقاتِ التي تُنْتَهَزُ فيها فرصةُ العباداتِ .

- قولُه: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ جِيءَ بقولِه: عَيْنَاكَ والمقصودُ هو؛ لأنَّهما بهما تكونُ المُراعاةُ للشَّخصِ والتَّلفُّتُ له، والمعنى: ولا تَعْدُ أنت عنهم النَّظرَ إلى غيرِهم . وفيه تأكيدُ الأمْرِ بمُواصلتِهم بالنَّهيِ عن أقَلِّ إعراضٍ عنهم، وظاهِرُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ نهْيُ العينينِ عن أنْ تَعْدُوَا عن الَّذين يَدْعون ربَّهم، والمقصودُ: الإعراضُ؛ ولذلك ضُمِّنَ فعْلُ العَدوِ معنى الإعراضِ؛ فعُدِّيَ إلى المفعولِ بـ (عن)، وكان حَقُّه أنْ يتعدَّى إليه بنفْسِه، أو ضُمِّن معنى (نَبا) و(علا)، والغرضُ في هذا التَّضمينِ -وعدَمِ قولِه مثلًا: (ولا تَعْدُهم عيناكَ)، أو: (ولا تعْلُ عيناكَ عنهم)- إعطاءُ مجموعِ مَعنيينِ، وذلك أقوى من إعطاءِ معنًى فردٍ؛ إذ المعنى هنا: ولا تَقْتحِمْهم عيناكَ مُجاوِزَتينِ إلى غيرِهم .

- قولُه: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فيه تَعريضٌ بحَماقةِ سَادةِ المُشرِكين الَّذين جعَلوا همَّهم وعِنايتَهم بالأُمورِ الظَّاهرةِ، وأهْمَلوا الاعتبارَ بالحقائقِ والمَكارمِ النَّفسيَّةِ، فاسْتَكبروا عن مُجالَسةِ أهْلِ الفضلِ والعُقولِ الرَّاجحةِ والقُلوبِ النَّيِّرةِ، وجَعَلوا هَمَّهم الصُّورَ الظَّاهرةَ .

- في قولِه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عبَّرَ عنهم بالموصولِ مَنْ أَغْفَلْنَا؛ للإيذانِ بعِلِّيةِ ما في حيِّزِ الصِّلةِ للنَّهيِ عن الإطاعةِ .

- قولُه: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا فيه زِيادةُ فعْلِ الكونِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ الخبرِ من الاسمِ، أي: حالةَ تمكُّنِ الإفراطِ والاعتداءِ على الحقِّ .

3- قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا

- التَّعبيرُ بـ رَبِّكُمْ للتَّذكيرِ بوُجوبِ تَوحيدِه .

- قولُه: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إمَّا من تَمامِ القولِ المأمورِ به، والفاءُ لتَرتيبِ ما بعدها على ما قبْلَها بطَريقِ التَّهديدِ، لا لتَفريعِه عليه، كما في قولِه تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 39] ، وقولِه تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة: 147] ، أي: عَقِيبَ تحقُّقِ أنَّ ما أُوحِيَ إليَّ حَقٌّ لا ريبَ فيه، وأنَّ ذلك الحقَّ من جِهَةِ ربِّكم؛ فمَن شاء أنْ يُؤمِنَ به، فلْيُؤْمِنْ كسائرِ المُؤمِنين، ولا يتعلَّلْ بما لا يكادُ يصلُحُ للتَّعليلِ، ومَن شاء أنْ يكفُرَ به فلْيفعَلْ، وفيه من التَّهديدِ وإظهارِ الاستغناءِ عن مُتابعتِهم، وعدَمِ المُبالاةِ بهم وبإيمانِهم وُجودًا وعدَمًا: ما لا يَخْفى. وإمَّا تَهديدٌ من جِهَةِ اللهِ تعالى، والفاءُ لتَرتيبِ ما بعدَها من التَّهديدِ على الأمْرِ، لا على مَضمونِ المأمورِ به، والمعنى: قُلْ لهم ذلك، وبعدَ ذلك مَن شاء أنْ يُؤمِنَ به أو أنْ يُصدِّقَك فيه، فلْيُؤمِنْ، ومَن شاء أنْ يكفُرَ به أو يُكذِّبَك فيه، فلْيفعَلْ .

- والأمْرُ في قولِه: فَلْيُؤْمِنْ وقولِه: فَلْيَكْفُرْ؛ للتَّسويةِ المُكنَّى بها عن الوعدِ والوعيدِ. وقُدِّمَ الإيمانُ على الكُفرِ؛ لأنَّ إيمانَهم مَرغوبٌ فيه. وفِعْلا (يُؤمِن، ويَكفُر) مُستعملانِ للمُستقبَلِ، أي: مَن شاء أنْ يُوقِعَ أحدَ الأمرينِ، ولو بوجْهِ الاستمرارِ على أحدِهما المُتلبِّسِ به الآنَ؛ فإنَّ العزْمَ على الاستمرارِ عليه تَجديدٌ لإيقاعِه .

- وجُملةُ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ما دَلَّ عليه الكلامُ من إيكالِ الإيمانِ والكُفْرِ إلى أنفُسِهم، وما يُفيدُه من الوعيدِ، كِلاهما يُثيرُ في النُّفوسِ أنْ يقولَ قائلٌ: فمَاذا يُلاقي مَن شاء، فاستمَرَّ على الكُفْرِ؟ فيُجابُ بأنَّ الكُفْرَ وخيمُ العاقبةِ عليهم . وتنكيرُ نَارًا؛ للتَّهويلِ والتَّعظيمِ .

- قولُه: إِنَّا أَعْتَدْنَا... فيه وعيدٌ شَديدٌ، وتأكيدٌ للتَّهديدِ، وتَعليلٌ لِما يُفيدُه من الزَّجْرِ عنِ الكُفْرِ، أو لِما يُفْهَمُ من ظاهرِ التَّخييرِ؛ من عدَمِ المُبالاةِ بكُفْرِهم، وقِلَّةِ الاهتمامِ بزجْرِهم عنه؛ فإنَّ إعدادَ جزائِه مِن دواعي الإملاءِ والإمهالِ، وعلى القولِ بأنَّه مِن تمامِ القولِ المأمورِ بهِ فهو تَعليلٌ للأمْرِ بما ذُكِرَ من التَّخييرِ التَّهديديِّ، أي: قُلْ لهم ذلك .

- والتَّعبيرُ عنهم بـ الظَّالِمِينَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ مَشيئةَ الكُفْرِ واختيارَه تَجاوزٌ عن الحدِّ، ووضْعٌ للشَّيءِ في غيرِ مَوضعِه. وأُوثِرَت صِيغَةُ الماضي في قولِه: أَحَاطَ؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ .

- وفي قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا تَشبيهٌ مُؤكِّدٌ؛ فقد شبَّهَ النَّارَ المُحيطةَ بهم بالسُّرادقِ المضروبِ على مَن يَحتويهم، وأُضِيفَ السُّرادِقُ إلى النَّارِ؛ فذلك هو التَّشبيهُ المُؤكِّدُ، وهو أنْ يُضافَ المُشبَّهُ إلى المُشبَّهِ به .

- قولُه: يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ فيه تهكُّمٌ، حيث سمَّى أعلَى أنواعِ العَذابِ إغاثةً -والإغاثةُ هي الإنقاذُ من العذابِ-؛ تهكُّمًا بهم وتَشفِّيًا منهم، والتَّهكُّمُ فنٌّ طريفٌ من فُنونِهم، وهو من تَأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه. والتَّشبيهُ في قولِه: كَالْمُهْلِ في سَوادِ اللَّونِ وشِدَّةِ الحرارةِ، فلا يَزيدُهم إلَّا حرارةً؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه: يَشْوِي الْوُجُوهَ، وهو استئنافٌ ابتدائيٌّ .

- وقيل: أتى قولُه: يُغَاثُوا على سَبيلِ المُقابَلةِ لقولِه: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا، وإلَّا فليست إغاثةً .

- قولُه: يَشْوِي الْوُجُوهَ فيه اختصاصُ الوُجوهِ بهذا؛ لكونِها عندَ شُربِهم يقرُبُ حرُّها من وُجوهِهم. وقيل: عُبِّرَ بالوُجوهِ عن جميعِ أبدانِهم .

- وجُملةُ: بِئْسَ الشَّرَابُ مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ؛ لتَشنيعِ ذلك الماءِ مَشروبًا كما شُنِّعَ مُغتَسلًا، والمخصوصُ بذَمِّ (بئْس) محذوفٌ، دَلَّ عليه ما قبْلَه، والتَّقديرُ: بئْسَ الشَّرابُ ذلك الماءُ .

- وجُملةُ: وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا معطوفةٌ على جُملةِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ، فهي مُستأنَفةٌ أيضًا لإنشاءِ ذَمِّ تلك النَّارِ بما فيها، وشأْنُ المُرتفَقِ أنْ يكونَ مكانَ استراحةٍ؛ فإطلاقُ ذلك على النَّارِ تهكُّمٌ، كما أُطْلِقَ على ما يُزادُ به عذابُهم لفظُ الإغاثةِ، وكما أُطْلِقَ على مكانِهم السُّرادقُ ؛ فهو لمُقابَلةِ ومُشاكَلةِ قولِه: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، وإلَّا فلا ارتفاقَ لأهْلِ النَّارِ

========================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيتان (30-31)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غريب الكلمات:

 

أَسَاوِرَ: جمعُ أسورةٍ، وأسورةٌ جمعُ سِوارٍ، وهو الذي يُلبَسُ في الذِّراعِ مِن ذهبٍ

.

سُنْدُسٍ: أي: رَقيقِ الحَريرِ .

وَإِسْتَبْرَقٍ: أي: غليظِ الحريرِ .

الْأَرَائِكِ: أي: جمعُ أريكةٍ، وهي السريرُ في الحجالِ ، وأصلُ (أرك) هنا: إقامةٌ، سُمِّيت بذلك؛ لكونِها مكانًا للإقامةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يبينُ الله تعالى حسنَ عاقبةِ المؤمنينَ، فيقولُ: إنَّ الذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ، إنَّا لا نُضيعُ أجورَهم ولا نَنقُصُها؛ لأنَّهم أحسَنوا عَمَلَهم، أولئك لهم جنَّاتُ إقامةٍ دائمةٍ، تجري مِن تحتِ غُرَفِهم ومَنازِلِهم وأشجارِهم الأنهارُ العَذبةُ، يُحَلَّونَ فيها مِن أساوِرِ الذَّهبِ، ويَلْبَسونَ ثيابًا خَضراءَ مِن حريرٍ رَقيقٍ وغَليظٍ، يتَّكِئونَ فيها على الأسِرَّةِ المُزينةِ المغطَّاةِ بقُبَّةٍ مِن الثِّيابِ الفاخِرةِ، نِعْمَ الثوابُ تلك الجنَّاتُ، وحَسُنت مَنزِلًا ومَقرًّا لهم!

تفسير الآيتين:

 

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَرَ وَعيدَ المُبطِلينَ، أردَفَه بوَعدِ المُحِقِّينَ

.

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30).

أي: إنَّ الذين آمَنوا بكُلِّ ما يجِبُ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحاتِ، إنَّا لا نُضيعُ جَزاءَهم؛ لأنَّهم أحسَنوا عَمَلَهم، ولا نُضيعُ جَزاءَ كُلِّ مَن أحسَنَ عمَلَه كذلك، فجعَلَه خالِصًا لله، واتَّبع فيه شَرْعَه على هَدْيِ رَسولِه .

كما قال تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [آل عمران: 195] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 120] .

أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أن اللهَ تعالى لَمَّا أثبَتَ الأجرَ المُبهَمَ للمُحِقِّينَ، أردفه بالتَّفصيلِ مِن وُجوهٍ؛ أوَّلُها: صفةُ مكانِهم. وثانيها: لِباسُهم. وثالثُها: كيفيَّةُ جُلوسِهم .

وأيضًا لمَّا ذكَرَ مكانَ أهْلِ الكُفْرِ -وهو النَّارُ-، ذكَرَ مكانَ أهْلِ الإيمانِ، وهي جنَّاتُ عدْنٍ، ولمَّا ذكَرَ هناك ما يُغاثونَ به -وهو الماءُ كالمُهْلِ-، ذكَرَ هنا ما خَصَّ به أهْلَ الجنَّةِ من كونِ الأنهارِ تَجْري من تحتِهم، ثمَّ ذكَرَ ما أنعَمَ عليهم من التَّحليةِ واللِّباسِ اللَّذينِ هما زِينةٌ ظاهرةٌ .

أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ.

أي: أولئك -الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ- لهم بساتينُ إقامةٍ دائِمةٍ، تجري الأنهارُ الكَثيرةُ بينَ أيديهم مِن تَحتِ غُرَفِهم ومَنازِلِهم وأشجارِهم .

كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 72] .

يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ.

أي: يُزيَّنُ المُؤمِنونَ في الجنَّةِ بأساورَ مِن ذَهَبٍ في أيديهم .

وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ.

أي: ويَلبَسونَ ثيابًا خَضراءَ مِن الحريرِ الرَّقيقِ، ومِنَ الحَريرِ الغليظِ .

مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ.

أي: والحالُ أنَّهم متَّكِئونَ في الجنَّةِ على السُّررِ المزيَّنةِ المغطَّاةِ بقُبَّةٍ مِن الثِّيابِ الفاخِرةِ .

كما قال تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس: 55- 56] .

نِعْمَ الثَّوَابُ.

أي: نِعمَ ثَوابُ المؤمنينِ تلك الجنَّاتُ التي وصَفَ اللهُ بعضَ نَعيمِها؛ جزاءً لهم على أعمالِهم الصَّالحةِ .

وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا.

أي: وحسُنَت تلك الجنَّاتُ مُقامًا ومَنزِلًا يَستَقِرُّ فيه الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ

 

.

قال تعالى: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 75- 76] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: 24] .

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا إحسانُ العَمَلِ: أن يُريدَ العَبدُ العملَ لوَجهِ الله مُتَّبِعًا في ذلك شَرعَ اللهِ، فهذا العمَلُ لا يُضَيِّعُه اللهُ ولا شيئًا منه، بل يحفَظُه للعاملينَ، ويُوَفِّيهم مِن الأجرِ بحَسَبِ عَمَلِهم وفَضْلِه وإحسانِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ يدلُّ على أنَّ الحِليةَ في الجنةِ عامَّةٌ للذُّكورِ والإناثِ؛ لأنَّه أطلَقَها في قَولِه: يُحَلَّوْنَ، وكذلك الحريرُ ونَحوُه

.

2- قال الله تعالى: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ السُّندُسُ والإستِبرقُ نوعانِ مِن الحريرِ، وأحسَنُ الألوانِ الأخضَرُ، وأليَنُ اللباسِ الحريرُ؛ فجمَعَ لهم بين حُسنِ مَنظَرِ اللِّباسِ والْتذاذِ العَينِ به، وبين نُعومتِه والتذاذِ الجِسمِ به، وقال تعالى: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج: 23] .

3- قولُه: وَإِسْتَبْرَقٍ. إنِ قيل: إنَّ (إستبرق) ليس بعربيٍّ، وغيرُ العربيِّ من الألفاظِ دونَ العربيِّ في الفصاحةِ والبلاغةِ؟

فالجوابُ: أنَّه لو اجتمَعَ فُصحاءُ العالَمِ، وأرادوا أنْ يَتْركوا هذا اللَّفظَ، ويأْتوا بلفظٍ يقومُ مقامَه في الفصاحةِ لَعَجزوا؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى إذا حَثَّ عِبادَه على الطَّاعةِ، فإنْ لم يُرغِّبْهم بالوعدِ الجميلِ، ويُخوِّفْهم بالعذابِ الوبيلِ، لا يكونُ حَثُّه على وجْهِ الحكمةِ، فالوعدُ والوعيدُ نظرًا إلى الفَصاحةِ واجبٌ، ثمَّ إنَّ الوعدَ بما يرغَبُ فيه العُقلاءُ، وهو مُنحصرٌ في: الأماكنِ، والمآكلِ، والمشاربِ، والملابسِ، والمناكحِ، ونحوِها ممَّا تتَّحِدُ فيه الطِّباعُ أو تختلِفُ فيه. وأرفَعُ الملابسِ في الدُّنيا الحريرُ، والحريرُ كلَّما كان ثوبُه أثقَلَ كان أرفَعَ، فحينئذٍ وجَبَ على الفصيحِ أنْ يَذكُرَ الأثقلَ والأثخنَ، ولا يترُكَه في الوعدِ. فإذا أُريدَ ذِكْرُ هذا، فالأحسَنُ أنْ يُذْكَرَ بلفظٍ واحدٍ موضوعٍ له صريحٍ، وذلك ليس إلَّا (الإستبرق) ، على أنَّ كونَ كلمةِ (إستبرق) غيرَ عربيةٍ هو موضعُ خلافٍ بينَ أهلِ العلمِ، فمِنهم مَن يرَى أنَّها عربيةُ الأصلِ، فالمسألةُ خلافيةٌ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا مُستأنفٌ استئنافًا بَيانيًّا، مُراعًى فيه حالُ السَّامعينَ من المُؤمِنين؛ فإنَّهم حين يَسْمعونَ ما أُعِدَّ للمُشرِكين، تتشوَّفُ نُفوسُهم إلى معرفةِ ما أُعِدَّ للَّذين آمنوا ونَبَذوا الشِّركَ، فأُعْلِموا أنَّ عمَلَهم مَرْعيٌّ عندَ ربِّهم، وجرْيًا على عادةِ القُرآنِ في تَعقيبِ الوعيدِ بالوعدِ، والتَّرهيبِ بالتَّرغيبِ

. وهو في مَحلِّ التَّعليلِ للحثِّ على الإيمانِ المفهومِ من التَّخييرِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ؛ كأنَّه قيل: (والَّذين آمَنوا) .

- ولعلَّ تَغييرَ نظْمِه عن الكلامِ على الفَريقِ الآخرِ في قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا... الآيةَ؛ للإيذانِ بكَمالِ تَنافي مآلَيِ الفريقينِ، أي: إنَّ الَّذين آمَنوا بالحقِّ الَّذي أُوحِيَ إليك .

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا افتُتِحَتِ الجُملةُ الأُولى بحرفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ لتَحقيقِ مَضمونِها. وإعادةُ حرْفِ (إنَّ) في الجُملةِ الثَّانيةِ المُخبَرِ بها عن المُبتدَأِ الواقعِ في الجُملةِ الأُولى؛ لمَزيدِ العِنايةِ والتَّحقيقِ. والجُملةُ الثَّانيةُ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا لها استقلالٌ بمَضمونِها من حيث هي مُفيدةٌ حُكمًا يعُمُّ ما وقعَتْ خبرًا عنه، وغيرَه مِن كلِّ مَن يُماثِلُ الخبَرَ عنهم في عمَلِهم؛ فذلك العُمومُ في ذاتِه حُكمٌ جَديرٌ بالتَّأكيدِ؛ لتَحقيقِ حُصولِه لأربابِه .

- وقَولُه: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أشار بإظهارِ ضَميرِهم إلى أنَّهم استحَقُّوا ذلك الوَصفَ بالإحسانِ .

2- قوله تعالى: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا

- جُملةُ: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي... يجوزُ أنْ تكونَ خبَرَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وتكونَ جُملةُ إِنَّا لَا نُضِيعُ اعتراضًا، أو تكونَ مُستأنفةً استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ما أُجْمِلَ من عدَمِ إضاعةِ أجْرِهم يَستشرِفُ بالسَّامعِ إلى ترقُّبِ ما يُبيِّنُ هذا الأجْرَ .

- وافتتاحُ الجُملةِ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ لِما فيه من التَّنبيهِ على أنَّ المُشارَ إليهم جديرونَ لِما بعدَ اسمِ الإشارةِ؛ لأجْلِ الأوصافِ المذكورةِ قبْلَ اسمِ الإشارةِ، وهي كونُهم آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ .

- وفي قولِه: أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ أُوثِر إضافةُ (تحت) إلى ضَميرِهم دونَ ضَميرِ الجنَّاتِ؛ زِيادةً في تَقريرِ المعنى الَّذي أفادَتْه لامُ المِلْكِ؛ فاجتمَعَ في هذا الخبرِ عِدَّةُ مُقرِّراتٍ لمَضمونِه، وهي: ذِكْرُ اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ، ولامُ المِلْكِ، وجَرُّ اسمِ الجهةِ بـ (مِن)، وإضافةُ اسمِ الجِهةِ إلى ضَميرِهم، والمقصودُ من ذلك: التَّعريضُ بإغاظةِ المُشرِكين؛ لتَتقرَّرَ بِشارةُ المُؤمِنين أتَمَّ تَقرُّرٍ .

- قولُه: يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ... نكَّرَ (أساورَ)؛ لإبهامِ أمْرِها في الحُسنِ. وجمَعَ بين السُّندسِ-وهو ما رَقَّ من الدِّيباجِ- وبين الإستبرقِ -وهو الغليظُ منه- جمْعًا بين النَّوعينِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ فيها ما تَشْتهي الأنفُسُ وتلَذُّ الأعينُ. وخَصَّ الاتِّكاءَ؛ لأنَّه هيئةُ المُنعَّمينَ والمُلوكِ على أسِرَّتِهم ، وذلك بعدَ أن وصَف الجنةَ بأنَّ الأنهارَ تجري خلالَها مِن تحتِهم، وهذا يُسمَّى الاستِتباعَ .

- وبِناءُ فعْلِ يُحَلَّوْنَ فِيهَا للمفعولِ الَّذي لم يُسَمَّ فاعِلُه؛ إشعارًا بأنَّهم يُكْرَمون بذلك، ولا يَتَعاطَون ذلك بأنفُسِهم. وأسنَدَ اللِّباسَ وَيَلْبَسُونَ إليهم؛ لأنَّ الإنسانَ يَتعاطى ذلك بنفْسِه، خُصوصًا لو كان باديَ العورةِ .

- وقُدِّمتِ التَّحليةُ على اللِّباسِ؛ لأنَّ الحُلِيَّ في النَّفسِ أعظَمُ، وإلى القلْبِ أحبُّ، وفي القيمةِ أغلَى، وفي العينِ أحلَى . أو قُدِّمَ ذِكْرُ الحُليِّ على اللِّباسِ هنا؛ لأنَّ ذلك وقَعَ صِفَةً للجنَّاتِ ابتداءً، وكانت مَظاهِرُ الحُليِّ أبهَجَ للجنَّاتِ، فقُدِّمَ ذِكْرُ الحُليِّ، وأُخِّرَ اللِّباسُ؛ لأنَّ اللِّباسَ أشَدُّ اتِّصالًا بأصحابِ الجنَّةِ لا بمَظاهِرِ الجنَّةِ، وعُكِسَ ذلك في سُورةِ الإنسانِ في قولِه: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ [الإنسان: 21] ؛ لأنَّ الكلامَ هُنالك جَرى على صِفاتِ أصحابِ الجنَّةِ .

- قولُه: مِنْ أَسَاوِرَ الأساورُ: أصْلُه جمْعُ (أسورةٍ) الَّذي هو جمْعُ سِوارٍ؛ فصيغَةُ جمْعِ الجمْعِ للإشارةِ إلى اختلافِ أشكالِ ما يُحلَّون به منها؛ فإنَّ الحِليةَ تكونُ مُرصَّعةً بأصنافِ اليواقيتِ. وقيل: جمْعُ (سِوارٍ) على غيرِ قياسٍ .

- قولُه: مِنْ ذَهَبٍ في الكلامِ اكتفاءٌ، أي: من ذهَبٍ وفِضَّةٍ، كما اكْتَفى في آيةِ سُورةِ الإنسانِ بذِكْرِ الفِضَّةِ عن ذِكْرِ الذَّهبِ بقولِه: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان: 21] ، ولكلٍّ من المَعدنينِ جَمالُه الخاصُّ .

- قولُه: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا خُصَّ الأخضرُ بالذِّكرِ؛ لأنَّه أعدلُ الألوانِ وأنفعُها عندَ البصرِ، وأشدُّ ما يكونُ راحةً للعينِ؛ ففيه جمالٌ، وفيه راحةٌ للعينِ، وكان مِن شعارِ الملوكِ .

- قولُه: نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا جُملةُ نِعْمَ الثَّوَابُ استئنافُ مدْحٍ، ومَخصوصُ فعْلِ المدحِ محذوفٌ؛ لدَلالةِ ما تقدَّمَ عليه. والتَّقديرُ: نِعْمَ الثَّوابُ الجنَّاتُ الموصوفةُ. وعُطِفَ عليه فعْلُ إنشاءٍ ثانٍ وهو وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا؛ لأنَّ (حسُنَ) و(ساء) مُستعملانِ استعمالَ (نِعْمَ) و(بئْس)؛ فعَمِلا عمَلَهما؛ ولذلك كان التَّقديرُ: وحسُنَتِ الجنَّاتُ مُرتفقًا. وهذا مُقابِلُ قولِه في حكايةِ حالِ أهْلِ النَّارِ: وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا .

============================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (32-34)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غريب الكلمات :

 

حَفَفْنَاهُمَا: أي: أحَطْناهما مِن جوانِبِهما، والحَفُّ: الإطافةُ بالشَّيءِ، يقالُ: حَفَّ القَومُ بسَيِّدهم: إذا أطافُوا به، وأصلُ (حف): يدُلُّ على إطافةِ شَيءٍ بشَيءٍ

.

أُكُلَهَا: أي: ثَمَرَها، وما يُؤْكَلُ منها، وسُمِّي الثَّمرُ أُكُلًا؛ لأنَّه يُؤْكَلُ، وأصْلُ (أكل): التَّنَقُّصُ .

تَظْلِمْ: أي: تَنقُصْ، والظُّلمُ: وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه المختَصِّ به، إمَّا بنقصانٍ أو بزيادةٍ، وإمَّا بعدولٍ عن وقتِه أو مكانِه، وأصلُ (ظلم): وضعُ الشَّيءِ غيرَ موضعِه تعدِّيًا .

نَفَرًا: أي: عَشيرةً وأعوانًا، والنَّفَرُ: ما بين الثلاثةِ إلى العَشرةِ، وأصلُ (نفر): يدلُّ على تجافٍ وتباعُدٍ، وسُمُّوا نَفَرًا؛ لأنَّهم يَنفِرونَ للنُّصرةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يضربَ المثلَ برجلينِ: مؤمنٍ شاكرٍ لنعمِ الله عليه، وكافرٍ مشركٍ جاحدٍ لنعمِ الله عليه، فيقول: واذكُرْ -يا مُحَمَّدُ- لمُشرِكي قَومِك مَثَلًا: رَجُلَينِ؛ أحَدُهما مؤمِنٌ، والآخَرُ كافِرٌ؛ لِيَعتَبِروا بحالِهما ويتَّعِظوا، وقد جعَلْنا للكافِرِ حَديقتَينِ مِن أعنابٍ، وأحَطْناهما بنَخلٍ كثيرٍ، وأنبَتْنا وسْطَهما زُروعًا. كلتا الحديقتين أخرجَت ثَمَرَها، ولم تَنْقُصْ منه شَيئًا، وشَقَقْنا بينهما نهرًا لِسَقيِهما. وكان لصاحِبِ الحَديقَتَينِ ثمارٌ منهما، فقال لصاحِبِه المؤمنِ وهو يحاوِرُه، تكبُّرًا وافتخارًا: أنا أكثَرُ منك مالًا، وأعَزُّ أنصارًا وأعوانًا.

تفسير الآيات:

 

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّها عَطفٌ على جُملةِ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ... الآيات؛ فإنَّه بعدَ أن بَيَّنَ لهم ما أعدَّ لأهلِ الشِّركِ، وذكَرَ ما يُقابِلُه مِمَّا أعَدَّه للذين آمنوا؛ ضرَبَ مَثلًا لحال الفريقَينِ بمَثَلِ قِصَّةٍ أظهَرَ اللهُ فيها تأييدَه للمُؤمِنِ وإهانتَه للكافِرِ، فكان لذلك المَثَلِ شَبَهٌ بمَثَلِ قصَّةِ أصحابِ الكَهفِ مِن عَصرٍ أقرَبَ لعِلْمِ المُخاطَبينَ مِن عَصرِ أهلِ الكَهفِ، فضرَبَ مَثَلًا للفريقَينِ -للمُشرِكينَ وللمُؤمِنينَ- بمَثَلِ رَجُلَينِ كان حالُ أحَدِهما مُعجِبًا مُؤنِقًا، وحالُ الآخَرِ بخِلافِ ذلك، فكانت عاقِبةُ صاحِبِ الحالِ المُؤنقةِ تَبابًا وخَسارةً، وكانت عاقبةُ الآخَرِ نجاحًا؛ لِيَظهَرَ للفريقينِ ما يجُرُّه الغرورُ والإعجابُ والجَبَروتُ إلى صاحِبِه مِن الأرزاءِ، وما يلقاه المؤمِنُ المتواضِعُ العارِفُ بسُنَنِ اللهِ في العالَمِ مِن التَّذكيرِ والتَّدبُّرِ في العواقِبِ، فيكونُ مُعَرَّضًا للصَّلاحِ والنَّجاحِ

.

وأيضًا بعدَ أن أمَرَ اللهُ نبيَّه بصبرِ نَفسِه مع فُقَراءِ المؤمنين، وعَدَمِ طاعةِ أولئك الأغنياءِ مِن المُشرِكين الذين طلَبوا منه صلَّى الله عليه وسلَّم طَرْدَهم- قفَّى على ذلك بمَثَلٍ يَستبينُ منه أنَّ المالَ لا ينبغي أن يكون موضِعَ فَخارٍ؛ لأنَّه ظِلٌّ زائِلٌ ، وظهَرَ بضرْبِ هذا المَثلِ الرَّبطُ بينَ هذه الآيةِ والَّتي قبْلَها؛ إذ كان من أشرَكَ إنَّما افتخَرَ بمالِه وأنصارِه، وهذا قد يزولُ، فيَصيرُ الغَنِيُّ فقيرًا، وإنَّما المُفاخَرةُ بطاعةِ اللهِ .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ المُستَكبرينَ، الذين سألوك أن تطرُدَ الضُّعَفاءَ والمَساكينَ الذين يَدْعونَ رَبَّهم بالغَداةِ والعَشيِّ ابتغاءَ وَجهِه؛ اذكُرْ لهم مَثَلًا قِصَّةَ رَجُلَينِ أحَدُهما مؤمِنٌ، والآخَرُ كافِرٌ؛ لِيَعتَبِروا بحالِهما، ويتَّعِظوا بما جرَى لهما .

جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ.

أي: جعَلْنا لأحدِ هذينِ الرَّجُلينِ -وهو الكافرُ- بُستانَينِ مِن أعنابٍ .

وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ.

أي: وأحَطْنا هذين البُستانَينِ بنَخلٍ يُحدِقُ بهما .

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا.

أي: وجعَلْنا وَسْطَ بُستانَيِ العِنَبِ زَرعًا .

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33).

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا.

أي: كِلا البُستانَينِ أخرجَ ثِمارَه دونَ أن يَنقُصا منها شيئًا .

وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا.

أي: وأجرَيْنا وشَقَقْنا خِلالَ هذينِ البُستانَينِ نَهرًا بين أشجارِهما .

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34).

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ.

القراءات ذات الأثر في التفسير:

في قوله تعالى: ثَمَرٌ ثلاثُ قراءاتٍ:

1-  ثَمَرٌ، بفتحِ الثَّاءِ والمِيمِ في الحرفينِ؛ جمعُ ثَمَرَةٍ، كبَقَرةٍ وبَقَرٍ، الفرقُ بينَ الواحِدِ والجمعِ إسقاطُ الهاءِ .

2-  ثُمْرٌ، بضمِّ الثاءِ، وإسكانِ الميمِ، جمعُ ثَمَرَةٍ، كبَدَنَةٍ وبُدْنٍ، ويجوزُ أَن يكونَ جمعَ ثمارٍ، كما يُخفَّفُ (كُتْب) .

3-  ثُمُرٌ، بضمِّ الثاءِ والميمِ، جمعُ ثمارٍ، كقولِك: كتابٌ وكُتُبٌ، قيل: معناها الأموالُ، وقيل: الأصولُ التي تحملُ الثمرةَ .

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ.

أي: وكان لصاحِبِ الجَنَّتَينِ ثمارٌ عظيمةٌ منهما .

فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا.

أي: فقال مالِكُ الجَنَّتَينِ الكافِرُ لصاحِبِه المؤمِنِ -المجعولِ مَثَلًا لفُقَراءِ المؤمِنينَ- وهو يُراجِعُه في الكلامِ ويُخاطِبُه، ويجادِلُه تكبُّرًا وافتخارًا عليه، وتقبيحًا لحالِه بالنِّسبةِ إليه: لي من المالِ أكثَرُ مِمَّا تَملِكُ، وأنا أكثَرُ منك أُناسًا يَنصُرونَني فيقومونَ معي في المُهِمَّات، ويَنفِرونَ عند الضَّروراتِ؛ مِن وَلَدٍ أو عشيرةٍ، أو خَدَمٍ وأتباعٍ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا دلَّ فِعلُ المُحاورةِ على أنَّ صاحِبَه قد وعَظَه في الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، فراجَعَه الكلامَ بالفَخرِ عليه والتَّطاوُلِ، شأنُ أهلِ الغَطرسةِ والنَّقائِصِ؛ أن يَعدِلوا عن المجادلةِ بالتي هي أحسَنُ إلى إظهارِ العَظَمةِ والكِبرياءِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ تأمَّلْ هذه الهيئةَ التي ذكَرَ اللهُ؛ فإنَّ المرءَ لا يَكادُ يتخَيَّلُ أجمَلَ منها في مكاسبِ النَّاسِ: جَنَّتا عِنَبٍ أحاط بهما نَخلٌ، بينهما فُسحةٌ، هي مُزدرَعٌ لجَميعِ الحُبوبِ، والماءُ الجاري يَسقي جميعَ ذلك من النَّهرِ الذي قد جَمَّلَ هذا المنظَرَ، وعَظَّمَ النَّفعَ، وقَرَّبَ الكَدَّ، وأغنى عن النواضِحِ

وغَيرِها .

2- قَولُه تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا فجعَل الفِعلَ واحِدًا، ولم يقُلْ: (آتَتَا أكُلَها)؛ لأنَّه يجوزُ مراعاةُ اللَّفظِ ومُراعاةُ المعنى في (كلتا)، فلو راعى معنى قَولِه: كِلْتَا لقال: (آتتا)، لكِنَّه راعى اللفظ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا

- أُبْهِمَ في قولِه: جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ أيُّ الرَّجُلينِ، وتبيَّنَ أنَّه هو الكافرُ الشَّاكُّ في البَعثِ، وأبْهَمَ تعالى مكانَ الجنَّتينِ؛ إذ لا يتعلَّقُ بتَعيينِه كبيرُ فائدةٍ

.

- قولُه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ فيه تَتميمٌ واحتراسٌ وكِنايةٌ ؛ فالتَّتميمُ أو التَّمامُ في وصْفِ الجنَّتينِ؛ فإنَّ قولَه تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ يحتملُ أنْ تكونَ الجنَّتانِ مُجرَّدَ اجتماعِ شَجرٍ مُتكاثفٍ، أو يكونَ النَّفعُ منها ضَئيلًا، فيكون أسَفُه عليها أقلَّ مِن أنْ تكونَ الجنَّتانِ من نَخيلٍ وأعنابٍ يَنتفِعُ بما تُثمرانِه عليه، ثمَّ تمَّمَ ذلك أيضًا بقولِه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ الانتفاعَ قاصرٌ على النَّخيلِ والأعنابِ، ولتكونَ كلٌّ من الجنَّتينِ جامعةً للأقواتِ والفواكهِ، وعلى الشَّكلِ الحسنِ والتَّرتيبِ الأنيقِ، ثمَّ تمَّمَ ذلك بقولِه: وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا؛ للدَّلالةِ على دَيمومةِ الانتفاعِ بهما؛ فإنَّ الماءَ هو سِرُّ الحياةِ، وعامِلُ النُّموِّ الأوَّلِ في النَّباتاتِ، ثمَّ تمَّمَ ذلك بقولِه: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ آكُلُهَا؛ لاستحضارِ الصُّورةِ التَّامَّةِ للانتفاعِ بالمواردِ، واحترَسَ بقولِه: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا من أنْ يكونَ ثمَّةَ نقْصٌ في الأُكلِ الَّذي آتَتْه، وليكونَ كِنايةً عن تَمامِ الجنَّتينِ ونُمُوِّهما دائمًا وأبدًا، فهي فيَّاضةُ الموردِ في كلِّ حينٍ؛ فقدِ استوفى وصْفُ الجنَّتينِ هذه الفُنونَ الثَّلاثةَ جميعًا .

2- قوله تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا

- جُملةُ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا مُعترِضةٌ بين الجُملِ المُتعاطِفةِ. والمعنى: أثمرَتِ الجنَّتانِ إثمارًا كثيرًا حتَّى أشبهَتِ المُعطِيَ مِن عندِه .

- قولُه: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا في الكلامِ إيجازٌ بحذْفِ مُضافٍ، والتَّقديرُ: ولم تَظلِمْ من مِقدارِ أمثالِه .

- قولُه: آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا فيه تأخيرُ ذِكْرِ النَّهرِ عن ذِكْرِ إيتاءِ الأُكُلِ، مع أنَّ التَّرتيبَ الخارجِيَّ على العكسِ؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ من إيتاءِ الأُكلِ وتَفجيرِ النَّهرِ في تَكميلِ مَحاسنِ الجنَّتينِ، ولو عُكِسَ لانْفَهمَ أنَّ المجموعَ خَصلةٌ واحدةٌ بعضُها مُترتِّبٌ على بعضٍ؛ فإنَّ إيتاءَ الأُكلِ مُتفرِّعٌ على السَّقْيِ عادةً. وفيه إيماءٌ إلى أنَّ إيتاءَ الأُكلِ لا يتوقَّفُ على السَّقيِ .

- قولُه: وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا شُدِّدَ وَفَجَّرْنَا وهو نَهرٌ واحدٌ؛ لأنَّ النَّهرَ يمتَدُّ، فكأنَّ التَّفجُّرَ فيه كلِّه، أعلَمَ اللهُ تعالى أنَّ شُرْبَهما كان من نَهرٍ واحدٍ، وهو أغزَرُ الشُّربِ .

3- قوله تعالى: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا

- قولُه: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ... الفاءُ للتَّفريعِ على الجُملِ السَّابقةِ؛ لأنَّ ما تَضمَّنَته الجُملُ السَّابقةُ من شأْنِه أنْ ينشَأَ عنه غُرورٌ بالنَّفسِ يَنطِقُ ربُّه عن مثْلِ ذلك القولِ .

- قولُه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا فيه المُبالَغةُ والإفراطُ في الصِّفةِ؛ وهو أنْ يذكُرَ المُتكلِّمُ حالًا لو وقَفَ عندها لأجزأَتْ، فلا يقِفُ عندها حتَّى يَزيدَ في معنى كلامِه ما يكونُ أبلَغَ في معنى قصْدِه، وهو أنواع، وهو هنا الإتيانُ بصِيغةِ اسمِ التَّفضيلِ وهو مَحضُ الحَقيقةِ مِن غيرِ قَرينةٍ .

- قولُه: فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ فيه اللَّفُّ والنَّشرُ المُشوَّشُ ، وحاصِلُ ما قاله هذا الكافرُ ثلاثُ مَقالاتٍ شَنيعةٍ؛ الأولى: قولُه: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا. والثَّانيةُ: عندما دخَلَ جنَّتَه مُتكبِّرًا مَزْهُوًّا ظالِمًا لنفْسِه، قال -وقد رنَّحَه الغُرورُ-: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا. والثَّالثةُ: قولُه: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، فردَّ المؤمنُ على مقالاتِه الثلاثِ بادئًا بالأخيرةِ -لأنَّها الأهمُّ- قائلًا: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ وذلك لشكِّه في البعثِ، وثنَّى بالثَّانيةِ ناصحًا؛ لأنَّها تأتي في المرتبةِ بعدَها فقال: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ...، وثلَّثَ بالأُولى مُقرِّعًا فقال: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ

=========================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (35-41)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

غريب الكلمات :

 

تَبِيدَ: أي: تَفنى وتَخرَبُ، وأصلُ (بيد): يدُلُّ على هَلاكِ الشَّيءِ

.

مُنْقَلَبًا: أي: مَرجِعًا وعاقِبةً، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على ردِّ الشَّيءِ .

حُسْبَانًا: أي: مَراميَ يُرمَى بها مِن عذابِه؛ إمَّا حجارةً، وإما نارًا أو غيرَ ذلك مِن أنواعِ العذابِ، واحِدُها حُسبانةٌ، والحُسبانُ أيضًا: العَذابُ والسِّهامُ القِصارُ .

زَلَقًا: أي: مَلساءَ، لا تَثبُتُ فيها قَدَمٌ، وأصلُ (زلق): يدُلُّ على تزلُّجِ شَيءٍ عن مَقامِه .

غَوْرًا: أي: غائِرًا ذاهِبًا في الأرضِ، وأصلُ (غور): يدلُّ على خُفوضٍ في الشَّيءِ وانحِطاطٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ودخَل الرجُلُ حَديقتَه، وهو ظالمٌ لِنَفسِه بالكُفرِ باللهِ وإنكارِه البَعثَ، وقال: ما أظنُّ أن تَهلِكَ هذه الحديقةُ أبدًا، وما أظنُّ القيامةَ واقعةً، وإنْ فُرِضَ وقوعُها ورُجِعْتُ إلى رَبِّي، لأجِدَنَّ عنده خيرًا مِن هذه الحديقةِ التي أعطانيها في الدُّنيا؛ لكَرامَتي ومَنزِلتي عندَه. قال له صاحِبُه المؤمِنُ وهو يحاوِرُه: أكفَرْتَ باللهِ الذي خلق أصلَك آدَمَ مِن تُرابٍ، ثمَّ أنشأك مِن نُطفةِ أبوَيك، ثمَّ سَوَّاك بَشَرًا مُعتَدِلَ القامةِ والخِلْقةِ؟!

لكِنْ أنا لا أقولُ بمقالَتك الدَّالَّةِ على كُفرِك، وإنَّما أقولُ: المستحِقُّ العبادةَ هو اللهُ رَبِّي وَحدَه، ولا أُشرِكُ في عبادتي له أحَدًا غيرَه، وهلَّا حين دخَلْتَ حديقَتَك فأعجَبَتْك، قلتَ: ما شاء اللهُ، لا قُوَّةَ لي على شيءٍ إلَّا باللهِ، إنْ كنتَ تراني أقَلَّ منك مالًا وأولادًا، فعسى ربِّي أن يُعطِيَني أفضَلَ مِن حَديقتِك، ويُرسِلَ على حديقتِك عَذابًا من السَّماءِ، فتُصبِحَ أرضًا مَلساءَ جَرداءَ لا يَنبُتُ فيها نَباتٌ، ولا تَثبُتُ عليها قَدَمٌ، أو يصيرَ ماؤُها الذي تُسقَى منه ذاهبًا في الأرضِ، فلا تَقدِرَ على إخراجِه.

تفسير الآيات:

 

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35).

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ.

أي: ودخل الرَّجُلُ

بُستانَه والحالُ أنَّه ظالمٌ لِنَفسِه بالكُفرِ باللهِ وتَكبُّرِه وتجَبُّرِه، وإنكارِه البَعثَ يومَ القيامةِ .

قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا.

أي: قال: ما أظُنُّ أن تفنى وتضمَحِلَّ جنَّتي هذه أبدًا !

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36).

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً.

أي: وما أظُنُّ القِيامةَ كائِنةً؛ فلا يُوجَدُ بَعثٌ ولا حِسابٌ ولا جَزاءٌ !

وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا .

أي: ولو قُدِّرَ وافتُرِضَ أنَّني رُجِعْتُ إلى ربِّي فبعَثَني بعد موتي، لَأُعطَيَنَّ في الآخرةِ جَنَّةً خَيرًا مِن هذه الجنَّةِ التي أعطانيها في الدُّنيا؛ لأنَّه لم يُعطِني هذه إلَّا لأني أستحِقُّها ولي عنده حُظوةٌ ومكانةٌ، فكذلك يكون حالي في الآخرةِ على تقديرِ وُجودِها !

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37).

أي: قال له صاحِبُه المؤمِنُ وهو يخاطِبُه ويكَلِّمُه: أكفَرْتَ باللهِ الذي خلقَ أصلَك آدَمَ مِن تُرابٍ، ثمَّ أنشأك مِن مَنِيٍّ، ثمَّ عَدَلَك وكَمَّلَك، فصَيَّرك رجُلًا سَوِيًّا مُعتَدِلَ القامةِ والخِلْقةِ، صحيحَ الأعضاءِ؟! فالذي خلَقَك كذلك قادِرٌ على البَعثِ الذي أنت تُنكِرُه !

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج: 5] .

وقال سُبحانَه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [السجدة: 7-8] .

وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14] .

وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ *  فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 7، 8].

وقال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4].

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38).

أي: لكِنْ أنا لا أكفُرُ ولا أقولُ مِثلَ قَولِك، بل أقولُ: الذي يستَحِقُّ العبادةَ وَحدَه، هو الله ربِّي، ولا أعبُدُ أحدًا غَيرَه .

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39).

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ.

أي: وهلَّا إذ دخلتَ بُستانَك قلتَ حين أعجَبَك: ما شاءَ اللهُ .

لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

أي: وهَلَّا قُلتَ: لا قُوَّةَ لي على شَيءٍ إلَّا بإعانةِ اللهِ لي، ومِن ذلك إنشاءُ الجنَّتَينِ وعِمارتُهما، وتدبيرُ أمرِهما .

عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ((يا عبدَ اللهِ بنَ قَيسٍ، ألَا أعَلِّمُك كَلِمةً هي مِن كُنوزِ الجنَّةِ؟ لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ )) .

إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا.

مناسبتُها لما قبلَها:

لَمَّا عَلَّمه الإيمانَ وتفويضَ الأمورِ إلى اللَّهِ سبحانَه؛ أجابَه على افتخارِه بالمالِ والنَّفَرِ، فقالَ :

إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا.

أي: قال الرجُلُ المؤمِنُ للكافِرِ: إنْ رأيتَني أقَلَّ منك مالًا وأولادًا، فتكبَّرْتَ وافتخَرْتَ بذلك عليَّ واحتقَرْتَني .

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40).

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ.

أي: فلعَلَّ ربِّي أن يَرزُقَني لإيماني خَيرًا مِن بُستانِك الذي تفتَخِرُ به عليَّ .

وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ.

أي: ويُرسِلَ على بُستانِك الذي ظَنَنْتَ أنَّه لا يَبيدُ ولا يفنى عَذابًا من السَّماءِ لِيُهلِكَه .

فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا.

أي: فيُصبِحَ بُستانُك بسَبَبِ العذابِ أرضًا مُسْتويةً، جَرداءَ لا نباتَ فيها، ملساءَ لا تَثبُتُ عليها قَدَمٌ .

أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41).

أي: أو يُصبِحَ ماءُ النَّهرِ الذي يَسْقي بستانَك غائرًا ذاهبًا في الأرضِ، فلن تَقدِرَ على طَلَبِ الماءِ واستِخراجِه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فيه استِحبابُ هذ الذِّكرِ عند رؤيةِ ما يُعجِبُ

؛ حتى يفَوِّضَ الأمرَ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ لا إلى حَولِه وقُوَّتِه ، فينبغي لِمن دخل بُستانَه أو دارَه، أو رأى في مالِه وأهلِه ما يُعجِبُه: أن يبادِرَ إلى هذه الكَلِمةِ؛ فإنَّه لا يرى فيه سُوءًا ؛ ولهذا قال بعضُ السَّلَفِ: (من أعجبه شيءٌ مِن حالِه أو مالِه أو ولَدِه، فليقُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ). وهذا مأخوذٌ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أفادت هذه الكَلِمةُ إثباتَ القُوَّةِ لله، وبراءةَ العَبدِ منها، والتَّنبيهَ على أنَّه لا قُدرةَ لأحدٍ مِن الخَلقِ إلَّا بتَقديرِه تعالى، فلا يُخافُ مِن غَيرِه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ في الآيةِ الإرشادُ إلى التسَلِّي عن لذَّاتِ الدُّنيا وشَهَواتِها بما عندَ اللهِ مِن الخَيرِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا فيه الدُّعاءُ بتَلَفِ مالِ مَن كان مالُه سَبَبَ طُغيانِه وكُفرِه وخُسرانِه -وذلك على أحدِ الاحتمالينِ في التفسيرِ-، خُصوصًا إنْ فَضَّلَ نَفسَه بسَبَبِه على المُؤمِنينَ، وفخَرَ عليهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ في إفرادِ الجنَّةِ بعد تثنيتِها فيما سبق أوجهٌ:

الوجه الأول: أنَّه وحَّد لإرادة الجِنسِ، ودلالةً على ما أفاده الكلامُ مِن أنَّهما لاتصالِهما كالجنَّةِ الواحدةِ

.

الوجه الثاني: لأنَّه أوَّلَ ما يدخُلُ إنَّما يدخُلُ إحداهما قبل أن ينتَقِلَ منها إلى الأخرى، فما دخل إلَّا إحدى الجنَّتين؛ لأنَّه لا يدخُلُهما معًا في وقتٍ واحدٍ .

الوجه الثالث: أنَّه إنما أفرَدَها بعد ذِكرِ التثنيةِ؛ اكتفاءً بالواحِدِ للعِلمِ بالحالِ .

الوجه الرابع: أنَّه أفرَدَ؛ لأنَّهما جميعًا مِلْكُه، فصارا كالشَّيءِ الواحِدِ .

الوجه الخامس: أنَّ معناه: (ودخل ما هو جنَّتُه، ما له جنةٌ غيرُها)، يعني: أنَّه لا نصيبَ له في الجنَّةِ التي وُعِدَ المؤمنون؛ لأنَّه لا حَظَّ له في الآخرةِ، فما ملَكَه في الدُّنيا هو جنَّتُه لا غيرُ، ولم يقصِدِ الجنَّتين ولا واحدةً منهما .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا *وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا في هذه الآياتِ أنَّ الإنسانَ الأوَّلَ قال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، وهذا الثَّاني كَفَّرَه؛ حيث قال: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ وهذا يدُلُّ على أنَّ الشَّاكَّ في حُصولِ البَعثِ ومنكرَ المعادِ كافرٌ بربِّ العالمين، وإن زعَم أنَّه مقِرٌّ به ، وقد جاء ذلك صريحًا  في أوَّلِ سورةِ (الرَّعدِ) في قولِه تعالَى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الرعد: 5] .

3- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ما قال سُبحانَه: «ما شاء اللهُ كان» ولا: «يكونُ»، بل أطلقَ اللفظَ؛ ليَعُمَّ الماضيَ والمستقبلَ والرَّاهنَ .

4- قال ابنُ هُبيرة: (تدبَّرتُ قولَه تعالى: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فرأيتُ لها ثلاثةَ أوجهٍ:

أحدُها: أنَّ قائِلَها يتبرَّأُ مِن حَولِه وقُوَّتِه، ويُسَلِّمُ الأمرَ إلى مالِكِه.

والثاني: أنَّه يعلمُ أنْ لا قُوَّةَ للمَخلوقينَ إلَّا باللَّه، فلا يخافُ منهم؛ إذ قُواهُم لا تكونُ إلَّا باللَّهِ، وذلك يُوجِبُ الخوفَ من اللهِ وحدَهُ.

والثَّالثُ: أنَّه ردَّ على الفَلاسفةِ والطَّبائعيِّينَ الذين يدَّعونَ القُوى في الأشياءِ بطبيعتِها؛ فإنَّ هذه الكَلِمةَ بَيَّنَت أنَّ القَويَّ لا يكونُ إلَّا باللهِ)

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا

- قولُه: قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا استئنافٌ مَبنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ من ذِكْرِ دُخولِ جنَّتِه حالَ ظُلْمِه لنفْسِه؛ كأنَّه قيل: فماذا قال إذْ ذاك؟ فقيل: قال قولَه: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، ولعلَّه إنَّما قاله بمُقابلةِ مَوعظةِ صاحبِه، وتَذْكيرِه بفَناءِ جنَّتَيه، ونَهْيِه عن الاغترارِ بهما، وأمْرِه بتَحصيلِ الباقياتِ الصَّالحاتِ

.

2- قوله تعالى: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا

- عقَّبَ نفيَ قيامِ الساعةِ بقولِه: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا؛ تهكُّمًا بصاحبِه، وقرينةُ التَّهكُّمِ قولُه: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً، وأكَّدَ كلامَه بلامِ القَسَمِ ونُونِ التَّوكيدِ؛ مُبالغةً في التَّهكُّمِ .

3- قوله تعالى: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا

- قولُه: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ حكَى كلامَ صاحبِه بفِعْلِ القولِ بدونِ عطْفٍ؛ للدَّلالةِ على أنَّه واقعٌ موقعَ المُحاورةِ والمُجاوبةِ .

- قولُه: وَهُوَ يُحَاوِرُهُ جُملةٌ حاليَّةٌ؛ فائدتُها التَّنبيهُ من أوَّلِ الأمْرِ على أنَّ ما يَتْلوه كلامٌ مُعتنًى بشأنِه، مسوقٌ للمُحاوَرةِ .

- والاستفهامُ في قولِه: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مُستعملٌ في التَّعجُّبِ والإنكارِ، وليس على حقيقتِه؛ لأنَّ الصاحبَ كان يعلَمُ أنَّ صاحبَه مُشرِكٌ؛ بدَليلِ قولِه له: وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا؛ فالمُرادُ بالكُفْرِ هنا الإشراكُ، الَّذي من جُملةِ مُعتقداتِه إنكارُ البعْثِ؛ ولذلك عُرِّفَ بطريقِ الموصوليَّةِ؛ لأنَّ مَضمونَ الصِّلةِ مِن شأْنِه أنْ يَصرِفَ مَن يُدرِكُه عن الإشراكِ به؛ فإنَّهم يَعترِفون بأنَّ اللهَ هو الَّذي خلَقَ النَّاسَ، فما كان غيرُ اللهِ مُستحِقًّا للعِبادةِ. ثمَّ إنَّ العلْمَ بالخلْقِ الأوَّلِ من شأْنِه أنْ يَصرِفَ الإنسانَ عن إنكارِ الخَلْقِ الثَّاني، كما قال تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ، وقال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] ؛ فكان مضمونُ الصِّلةِ تَعريضًا بجهْلِ المُخاطَبِ . والتعبيرُ  بالموصولِ؛ للإشعارِ بعِلِّيَّةِ ما في حيِّزِ الصِّلةِ لإنكارِ الكُفرِ، والتَّلويحِ بدَليلِ البعثِ الَّذي نطَقَ به قولُه عَزَّ من قائلٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ... [الحج: 5] .

وقِيل: الظاهرُ أنَّ الإنكارَ المدلولَ عليه بهَمزةِ الإنكار في قوله: أَكَفَرْتَ مُضمَّنٌ معنى الاستبعادِ؛ لأنَّه يُستبعَدُ جدًّا كُفرُ المخلوقِ بخالقِه، الذي أبرزَهَ من العدمِ إلى الوجودِ، ويُستبعدُ إنكارُ البعثِ ممَّن عَلِم أنَّ اللهَ خلَقَه مِن تُرابٍ، ثُمَّ مِن نُطفةٍ، ثم سوَّاه رجلًا .

- وجعَلَ كُفْرَه بالبعثِ كُفرًا باللهِ تعالى؛ لأنَّ منشَأَهُ الشَّكُّ في كَمالِ قُدرةِ اللهِ تعالى؛ ولذلك رتَّبَ الإنكارَ على خلْقِه إيَّاهُ من التُّرابِ؛ فإنَّ مَن قدَرَ على بَدْءِ خلْقِه منه قدَرَ أنْ يُعيدَه منه .

4- قوله تعالى: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا

- قولُه: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا موقعُ الاستدراكِ هنا مُضادةُ ما بعدَ (لكن) لِما قبْلَها ، ولا سيَّما إذا كان الرَّجلانِ أخوينِ أو خليلينِ كما قيل؛ فإنَّه قد يُتوهَّمُ أنَّ اعتقادَهما سواءٌ. وأكَّدَ إثباتَ اعترافِه بالخالقِ الواحدِ بمُؤكِّداتٍ أربعةٍ، وهي:

الأول: الجُملتانِ الاسميَّتانِ؛ فأصلُ الكلامِ (لكنْ أنا هُو اللهُ ربِّي)؛ فـ (الله ربي) جملةٌ اسميَّةٌ خبرٌ لـ (هو)، و(هو الله ربي) جملةٌ اسميَّة خبَر لـ (أنا)، وهذان هُما الجملتان.

الثاني: ضَميرُ الشَّأنِ في قولِه: لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي.

الثالث: تَعريفُ المُسنَدِ والمُسنَدِ إليه في قولِه: اللَّهُ رَبِّي، المُفيدُ قصْرَ صِفَةِ رُبوبيَّةِ اللهِ على نفْسِ المُتكلِّمِ قصْرًا إضافيًّا بالنِّسبةِ لمُخاطبِه، أي: دونَك؛ إذ تعبُدُ آلهةً غيرَ اللهِ، وما القصرُ إلَّا توكيدٌ مُضاعفٌ.

الرابع: التَّوكيدُ اللَّفظيُّ للجُملةِ بقولِه: وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا .

- في قولِه: لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا تَعريضٌ بإشراكِ صاحبِه، وأنَّه مُخالِفُه في ذلك، وقد صرَّحَ بذلك صاحبُه في قولِه: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 42] .

5- قوله تعالى: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا

- عطْفُ جُملةِ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ على جُملةِ أَكَفَرْتَ عطْفُ إنكارٍ على إنكارٍ، و(لولا) للتَّوبيخِ، كشأنِها إذا دخلَتْ على الفِعلِ الماضي .

- قولُه: وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فيه تقديمُ الظَّرفِ إِذْ على المُحضَّضِ عليه؛ للإيذانِ بتحتُّمِ القولِ في آنِ الدُّخولِ من غيرِ إبطاءٍ، لا للقصْرِ .

- وجُملةُ: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ تعليلٌ لكونِ تلك الجنَّةِ من مَشيئةِ اللهِ، أي: لا قُوَّةَ لي على إنشائِها، أو لا قُوَّةَ لمَن أنشَأَها إلَّا باللهِ؛ فإنَّ القُوى كلَّها موهبةٌ من اللهِ تعالى، لا تُؤثِّرُ إلَّا بإعانتِه بسَلامةِ الأسبابِ والآلاتِ المُفكِّرةِ والصَّانعةِ؛ فما في جُملةِ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ من العُمومِ، جعَلَها كالعِلَّةِ والدَّليلِ لكونِ تلك الجنَّةِ جُزئيًّا من جُزئياتِ مُنشآتِ القُوى البشريَّةِ الموهوبةِ للنَّاسِ بفضْلِ اللهِ .

- قولُه: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فائدةُ ذِكْرِ أَنَا في مثْلِ ذلك: حصْرُ الخبرِ في المُبتدأِ، كما في قولِه تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 12] ، وقولِه: إِنِّي أَنَا اللَّهُ [القصص: 30] .

6- قوله تعالى: فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا

- قَولُه: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ خَصَّ السماءَ؛ لأنَّ ما جاء مِن الأرضِ قد يُدافَعُ؛ كأمطارٍ وسيولٍ جارِفةٍ أو نيرانٍ مُحرِقةٍ، فهذه يمكنُ أنْ تُدافَعَ، لكنْ ما نَزلَ مِن السَّماءِ يَصعُبُ دَفعُه أو يَتعذَّرُ .

- قولُه: زَلَقًا مصدرٌ أُريدَ به المفعولُ، مُبالغةً .

7- قوله تعالى: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا

- قولُه: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا، أي: غائرًا في الأرضِ، ووصْفُه بالمصدرِ للمُبالَغةِ ؛ ولذلك فرَّعَ عليه: فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وجاء بحرْفِ تَوكيدِ النَّفيِ (لن)؛ زِيادةً في التَّحقيقِ لهذا الرَّجاءِ الصَّادرِ مصدرَ الدُّعاءِ .

=====================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (42-44)

ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ

غريب الكلمات:

 

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ: أي: أصابه ما أهلَكَه، وأصلُه مِن: أحاطَ به العدوُّ؛ لأنَّه إذا أحاط به فقد مَلَكه واستولَى عليه، ثم استُعمِل في كلِّ إهلاكٍ، وأصلُ (حوط): يدُلُّ على الشَّيءِ يُطيفُ بالشَّيءِ

.

خَاوِيَةٌ: أي: خاليةٌ، قد سقط بعضُها على بعضٍ، وأصلُ (خوي): يدلُّ على الخلوِّ والسُّقوطِ .

عُرُوشِهَا: أي: سُقوفِها، وأصلُ (عرش): يدُلُّ على ارتفاعٍ في شَيءٍ مَبنيٍّ .

الْوَلَايَةُ: أي: المُوالاةُ والنُّصرةُ. والوَلايةُ والوِلايةُ قيل: كلاهما بمعنًى، وقيل: بالكسر معناها الإمارةُ، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ .

عُقْبًا: أي: عاقِبةً، وأصلُ (عقب): يدلُّ على تأخيرِ شَيءٍ وإتيانِه بعدَ غيرِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يختتمُ الله سبحانه مثلَ الرجلين: المؤمنِ والكافرِ ببيانِ العاقبةِ السيئةِ التي حلَّت بذلك الكافرِ، فيقولُ تعالى: وأحاط الدَّمارُ بحَديقةِ هذا الكافرِ، فهلك كلُّ ما فيها، فصار يُقَلِّبُ كَفَّيه؛ حَسرةً وندامةً على ما أنفَقَ فيها، وهي خاويةٌ من كلِّ شيءٍ، قد سقطَ بَعضُها على بعضٍ، ويقولُ: يا ليتَني لم أُشرِكْ بربِّي أحدًا! ولم تكنْ له جماعةٌ ممَّن افتخَرَ بهم يمنَعونَه مِن عذابِ اللهِ النَّازلِ به، وما كان مُمتَنِعًا بنَفسِه وقُوَّتِه من ذلك العذابِ. في تلك الحالِ تكونُ النُّصرةُ لله الحَقِّ، ويتولَّاه الجميعُ ويُؤمِنونَ به، ويتبرَّؤون مما كانوا يعبدونَ مِن دونِه، لكِنَّ الله لا يتولَّى إلا المؤمِنينَ المتَّقينَ، والله هو خيرٌ جزاءً، وخيرٌ عاقِبةً لأهلِ طاعتِه.

تفسير الآيات:

 

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا كان من المعلومِ أنَّ هذا المُؤمِنَ المُخلِصَ بعَينِ الرِّضا، كان من المعلومِ أنَّ التَّقديرَ: فاستُجيبَ لهذا الرَّجُلِ المُؤمِنِ، أو: فحُقِّقَ له ما توَقَّعَه، فخُيِّبَ ظَنُّ المُشرِكِ، فعُطِفَ عليه قولُه

:

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ.

أي: وأحاط الهلاكُ بثِمارِ جَنَّةِ الكافِرِ مِن كُلِّ جانبٍ، فتَلِفَت أشجارُه، وزُروعُه، وثِمارُه .

فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا.

أي: فأصبح يُقَلِّبُ كَفَّيه ؛ تحسُّرًا ونَدَمًا على ذَهابِ أموالِه الكثيرةِ التي أنفَقَها في جنَّتِه، فلم يَبقَ لها عِوَضٌ .

وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.

أي: وهي خاليةٌ مِن الأشجارِ والزُّروعِ والثِّمارِ، قد سقَطَت سقوفُها ثمَّ سقَطَت جُدرانُها عليها .

وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا.

أي: ويقولُ الكافِرُ : يا ليتَني كنتُ مُوَحِّدًا لم أُشرِكْ برَبِّي أحدًا، وشَكَرتُه على نِعَمِه ولم أكفُرْ به .

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43).

منُاسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا افتخر الكافرُ بكثرةِ مالِه، وعِزَّةِ نَفَرِه؛ أخبرَ تعالى أنَّه لم تكُنْ له فِئةٌ -أي: جماعةٌ- تنصُرُه، ولا كانَ هو مُنتَصِرًا بنفسِه .

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ.

أي: ولم تكُنْ له جماعةٌ يَمنَعونَ عنه عذابَ اللهِ .

وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا.

أي: وما كان مُمتَنِعًا بنَفسِه مِن عذابِ اللهِ .

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا أنتج هذا المثَلُ قَطعًا أنَّه لا أمرَ لغيرِ الله المرجوِّ لنَصرِ أوليائه بعد ذُلِّهم، ولإغنائِهم بعد فَقرِهم، ولإذلالِ أعدائِه بعدَ عِزِّهم وكِبرِهم، وإفقارِهم بعد إغنائِهم وتجبُّرِهم، وأنَّ غيرَه إنما هو كالخيالِ لا حقيقةَ له- صَرَّحَ بذلك في قَولِه تعالى :

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ.

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قوله: الْوَلَايَةُ قراءتان:

1- قراءةُ الْوِلَايَةُ بكسر الواو، أي: المُلكُ والسُّلطانُ والقدرةُ لله .

2- قراءةُ الْوَلَايَةُ بفتح الواو، أي: النُّصرةُ لله .

وفي قوله: الْحَقِّ قراءتان:

1- قراءةُ الْحَقُّ بضمِّ القافِ، صِفةً للوَلايةِ، قيل المعنى: وَلايةُ اللهِ حَقٌّ وصِدقٌ لا يشوبُها نَقصٌ ولا خَلَلٌ. وقيل المعنى: الولايةُ الحَقُّ لله لا يستَحِقُّها غيرُه .

2- قراءةُ الْحَقِّ بكسرِ القافِ، صفةً لله تعالى، بمعنى: ذي الحَقِّ، أي: هو الحَقُّ في ألوهيَّتِه .

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ.

أي: في ذلك المقامِ، وتلك الحالِ ، النُّصرةُ لله المعبودِ الحَقِّ وَحدَه، لا يملكُها غيرُه، ولا يَقدِرُ عليها سِواه ، فيتولَّونَ اللهَ جميعُهم ويُؤمِنونَ به، ويتبرَّؤون مِن الآلهةِ الباطلةِ الكاذبةِ، لكِنَّ الله لا يتولَّى ولا ينصُرُ سوى عبادِه المؤمِنينَ المتَّقينَ .

كما قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62] .

وقال سُبحانَه: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر: 84] .

هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا.

أي: اللهُ أفضَلُ جَزاءً لأهلِ طاعتِه في الدُّنيا وفي الآخرةِ، وعاقِبةُ طاعتِه خيرٌ مِن عاقبةِ طاعةِ غيرِه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا في هذه القِصَّةِ العَظيمةِ اعتِبارٌ بحال الذي أنعم اللهُ عليه نِعَمًا دُنيويَّةً، فألهَتْه عن آخِرتِه وأطغَتْه، وعصى اللهَ فيها؛ أنَّ مآلَها الانقِطاعُ والاضمِحلالُ، وأنَّه وإن تمتَّعَ بها قليلًا فإنَّه يُحرَمُها طَويلًا

.

2- قال الله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ... فأحاطَ به هذا العِقابُ لا لمُجرَّدِ الكُفْرِ؛ لأنَّ اللهَ قد يُمتِّعُ كافرينَ كثيرينَ طولَ حياتِهم، ويُمْلي لهم ويَسْتدرِجُهم، وإنَّما أحاط به هذا العِقابُ جزاءً على طُغيانِه، وجعْلِه ثَروتَه ومالَه وسيلةً إلى احتقارِ المُؤمنِ الفقيرِ؛ فإنَّه لمَّا اعتَزَّ بتلك النِّعمِ، وتوسَّلَ بها إلى التَّكذيبِ بوعْدِ اللهِ؛ استحَقَّ عِقابَ اللهِ بسلْبِ تلك النِّعمِ عنه، كما سُلِبَتِ النِّعمةُ عن قارونَ حين قال: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] . وبهذا كان هذا المثَلُ موضِعَ العِبرةِ للمُشرِكينَ الَّذين جَعَلوا النِّعمةَ وسيلةً للتَّرفُّعِ عن مجالسِ الدَّعوةِ؛ لأنَّها تجمَعُ قومًا يَرَونهم أحطَّ منهم، وطَلَبوا من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ طرْدَهم عن مَجْلسِه .

3- كشَف هذا المثلُ أنَّ ما فيه الكفارُ مِن الارتفاقِ العاجلِ ليس أهلًا لأن يُفتخرَ به؛ لأنَّه إلى زوالٍ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ بُني  الفِعلُ للمَفعولِ؛ لأنَّ النَّكَدَ حاصِلٌ بإحاطةِ الهَلاكِ مِن غيرِ نَظَرٍ إلى فاعلٍ مَخصوصٍ

.

2- قولُه: هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (خَيْرٌ) هنا ليستْ على بابِها -أي ليستْ للتَّفضيلِ، ولكنْ لإثباتِ الخَيريَّةِ المُطلَقةِ لثَوابِ اللهِ، ونَفْيِه عن غَيرِه-؛ إذْ غيرُ اللهِ لا يُثيبُ، ولا تُحْمَدُ طاعتُه في العاقبةِ ليكونَ اللهُ خيرًا منه ثوابًا وعُقبًا، أو ذلك على سَبيلِ الفرضِ والتَّقديرِ .

3- قَولُ الله تعالى: هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا فيه أنَّ وَلايةَ اللهِ وعَدَمَها إنَّما تتَّضِحُ نتيجتُها إذا انجلى الغُبارُ، وحَقَّ الجزاءُ، ووجَدَ العامِلونَ أجْرَهم، فـ هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا أي: عاقبةً ومآلًا .

4- الحَقُّ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تعالى؛ قال الله تعالى: هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا

- قولُه: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ عطْفٌ على مُقدَّرٍ؛ كأنَّه قيلَ: فوقَعَ بعضُ ما توقَّعَ من المحذورِ وأُهْلِكَ أموالُه -وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ-؛ وإنَّما حُذِفَ لدَلالةِ السِّباقِ والسِّياقِ عليه

.

- وقوله: وَأُحِيطَ، أي: أوقعتِ الإحاطةُ بالهلاكِ، وبُني للمفعولِ؛ لأنَّ الفِكرَ حاصلٌ بإحاطةِ الهلاكِ مِن غيرِ نَظرٍ إلى فاعِلٍ مخصوصٍ، وللدَّلالةِ على سُهولتِه .

- قولُه: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ خُصِّص الثمرُ بالذكرِ مع أنَّ الأصولَ والثمرَ قد أُهلِكا جميعًا؛ إذ الثمرُ مقصودُ المستغِلِّ، وإذ هلاكُ الأصولِ إنما يسوء منه هلاكُ الثمرِ الذي كان يُرجَى في المستقبَلِ، كذلك تقتضي الإحاطةُ المطلقةُ بالثمرِ أنَّ الأصولَ قد هلكَتْ .

- وإنَّما لم تُعْطَفْ جُملةُ وَأُحِيطَ بفاءِ التَّفريعِ على رَجاءِ صاحبِه المُؤمنِ؛ إذ لم يَتعلَّقِ الغرضُ في هذا المقامِ بالإشارةِ إلى الرَّجلِ المُؤمنِ، وإنَّما المُهِمُّ التَّنبيهُ على أنَّ ذلك حادثٌ حَلَّ بالكافرِ بسَببِ كُفرِه وطُغيانِه؛ ليعلَمَ السَّامِعون أنَّ ذلك جزاءُ أمثالِه، وأنْ ليس بخُصوصيةٍ لدَعوةِ الرَّجلِ المُؤمنِ .

- قولُه: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ... فيه تتميمٌ، حيثُ صَوَّرَ الإطاحةَ بالجنَّتينِ وبالثَّمرِ معًا، فقال: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، ثمَّ وصَفَ حالتَه فقال: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا .

- في قولِه: يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ تَقليبُ الكفَّينِ كِنايةٌ عن النَّدمِ والتَّحسُّرِ؛ لأنَّ النَّادِمَ يُقلِّبُ كفَّيْه ظهرًا لبطنٍ .

- قولُه: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا لعلَّ تَخصيصَ النَّدمِ به دُونَ ما هلَكَ الآنَ من الجنَّةِ؛ لأنَّه إنَّما يكونُ على الأفعالِ الاختياريَّةِ، ولأنَّ ما أنفَقَ في عِمارتِها كان ممَّا يُمكِنُ صِيانتُه عن طوارقِ الحَدثانِ، وقد صرَفَه إلى مصالحِها؛ رجاءَ أنْ يتمتَّعَ بها أكثَرَ ممَّا يتمتَّعُ به، وكان يَرى أنَّه لا تَنالُها أيدي الرَّدى؛ ولذلك قال: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، فلمَّا ظهَرَ له أنَّها ممَّا يَعتريه الهلاكُ، ندِمَ على ما صنَعَ بِناءً على الزَّعمِ الفاسدِ، من إنفاقِ ما يُمكِنُ ادِّخارُه في مثْلِ هذا الشَّيءِ السَّريعِ الزَّوالِ .

- قولُه: وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، أي: وهي خاليةٌ من الشَّجرِ والزَّرعِ، والعُروشُ: السُّقفُ. وهذا التَّركيبُ أرسَلَه القُرآنُ مثَلًا للخَرابِ التَّامِّ الَّذي هو سُقوطُ سُقوفِ البِناءِ وجُدرانِه . وقيل: تَخصيصُ حالِ العُروشِ فقط بالذِّكرِ دُونَ النَّخلِ والزَّرعِ؛ لأنَّها العُمدةُ وهما من مُتَمِّماتِها، أو لأنَّ ذِكْرَ هلاكِها مُغْنٍ عن ذِكْرِ هلاكِ الباقي؛ لأنَّها حيثُ هلَكَت وهي مُشيَّدةٌ بعُروشِها؛ فهلاكُ ما عداها بالطَّريقِ الأَولى، وإمَّا لأنَّ الإنفاقَ في عِمارتِها أكثرُ .

- قوله: وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي جيءَ بالمُضارِعِ وَيَقُولُ -مع أنَّه حِكايةٌ لتندُّمِه على ما فرَطَ منه حين لا ينفَعُه النَّدمُ بعدَ حُلولِ العذابِ-؛ للدَّلالةِ على تكرُّرِ ذلك القولِ منه .

- وحرْفُ النِّداءِ (يا) مُستعملٌ في التَّلهُّفِ. و(لَيْتَنِي) تمَنٍّ مُرادٌ به التَّندُّمُ .

2- قوله تعالى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا

- قولُه: فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ لم يقُلْ: (تَنصُرُه) وإنَّما جُمِعَ الضَّميرُ في يَنْصُرُونَهُ باعتبارِ المعنى، كما في قولِه عَزَّ وعَلا: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ [آل عمران: 13] .

3- قوله تعالى: هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

- قولُه: هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا تَذييلٌ للجُملِ قبْلَها؛ لِما في هذه الجُملةِ من العُمومِ الحاصلِ من قصْرِ الولايةِ على اللهِ تعالى المُقْتضي تَحقيقَ جُملةِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 42] ، وجُملةِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الكهف: 43] ، وجُملةِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا [الكهف: 43] ؛ لأنَّ الولايةَ من شأْنِها أنْ تبعَثَ على نصْرِ المَولى، وأنْ تُطمِّعَ المَولى في أنَّ وَلِيَّه ينصُرُه؛ ولذلك لمَّا رأى الكافرُ ما دهاهُ من جرَّاءِ كُفْرِه، الْتجَأَ إلى أنْ يقولَ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 42] ؛ إذ علِمَ أنَّ الآلهةَ الأُخرى لم تُغْنِ ولايتُهم عنه شيئًا .

- واسمُ إشارةِ المكانِ البَعيدِ هُنَالِكَ للإشارةِ إلى الحالِ العجيبةِ بتَشبيهِ الحالةِ بالمكانِ؛ لإحاطتِها بصاحبِها، وتَشبيهِ غَرابتِها بالبُعدِ؛ لنُدرةِ حُصولِها. والمعنى: أنَّ في مثْلِ تلك الحالةِ تُقْصَرُ الولايةُ على اللهِ؛ فالولايةُ: جِنسٌ مُعرَّفٌ بلامِ الجنسِ، يُفيدُ أنَّ هذا الجنسَ مُختصٌّ باللَّامِ على نحوِ ما قُرِّرَ في قولِه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة: 2] . وقيل: أُشيرَ به لدارِ الآخرةِ، أي: في تلك الدَّارِ الولايةُ للهِ، كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] ؛ لَمَّا نفى عنه الفِئةَ النَّاصرةَ في الدُّنيا، نَفى عنه أنْ يَنتصِرَ في الآخِرةِ، فقال: وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا * هُنَالِكَ، أي: في الدَّارِ الآخرةِ

=============

 

سورةُ الكَهفِ

الآيتان (45-46)

ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ

غريب الكلمات:

 

هَشِيمًا: أي: يابِسًا مُتفَتِّتًا، وأصلُ (هشم): يدُلُّ على كسرِ الشَّيءِ

.

تَذْرُوهُ: أي: تَنسِفُه وتُفَرِّقُه، وأصلُ (ذرو): يدلُّ على الشَّيءِ يتساقَطُ مُتفَرِّقًا

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمرُ الله تعالى نبيَّه أن يضربَ مثلًا عامًّا للدنيا في سرعةِ زوالِها وانقضائِها، فيقولُ: واضرِبْ -يا مُحمَّدُ- مثلًا للدُّنيا التي اغترُّوا بها، في بهجَتِها وسُرعةِ زَوالِها؛ فهي كَماءٍ أنزله اللهُ مِن السَّماءِ على الأرضِ، فكثُرَ بسببِ هذا المطرِ نباتُ الأرضِ والتفَّ واجتمَعَ بعضُه ببَعضٍ، فصار هذا النَّباتُ -بعد أن كان نَضِرًا مُبهِجًا- يابِسًا متكَسِّرًا تُفَرِّقُه الرِّياحُ، وكان اللهُ على كُلِّ شَيءٍ قديرًا.

ثم يبينُ الله تعالى أنَّ الأموالَ والأبناءَ في حقيقتِهما مجردُ زينةٍ، وأن الذي ينفعُ العبدَ في الآخرةِ هو العملُ الصالحُ، فيقول: الأموالُ والأولادُ زينةُ هذه الحياةِ الدُّنيا، والأعمالُ الصَّالحةُ الباقيةُ لصاحبِها في الآخرة أفضَلُ أجرًا، وهي خيرُ ما يؤمِّلُه الإنسانُ عندَ الله من زينةِ الحياةِ الدُّنيا الفانيةِ.

تفسير الآيتين:

 

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى في المَثَلِ السَّابِقِ حالَ الكافِرِ والمؤمِنِ، وما آل إليه ما افتخَرَ به الكافِرُ مِن الهلاكِ؛ بَيَّنَ في هذا المَثَلِ حالَ الحياةِ الدُّنيا واضمِحلالَها، ومصيرَ ما فيها من النَّعيمِ والترَفُّه إلى الهلاكِ

، فبعدَ أن ضرَب المثلَ لدُنيا هؤلاء الكافرينَ التي أبطَرتْهم، وكانت سببَ شقائِهم- ضرَب مثلًا لدارِ الدُّنيا عامةً .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- لهم ما يُشبِهُ الحياةَ الدُّنيا في زَهرتِها وسُرعةِ تقَلُّبِها، وزوالِها وانقِضائِها؛ لِيَعرِفوا حقيقتَها، فصِفتُها كمَطَرٍ أنزَلْناه من السَّماءِ على الأرضِ .

فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ.

أي: فشبَّ نباتُ الأرضِ، وحَسُنَ استِواؤُه ، وكثُرَ والتفَّ، واجتمَعَ بعضُه ببَعضٍ ؛ بسبَبِ المطر .

فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ.

أي: فأصبح النَّباتُ -بعد أن كان مُتَنوِّعًا نَضِرًا مُبهِجًا- يابسًا متفَتِّتًا، تحمِلُه الرِّياحُ وتُفَرِّقُه .

كما قال تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] .

وقال سُبحانَه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20] .

وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا.

أي: وكان اللهُ على فِعلِ كُلِّ شَيءٍ؛ من الإنشاءِ والإفناءِ، والإعادةِ وغير ذلك، قويًّا قادِرًا، لا يُعجِزُه شَيءٌ .

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا حَقَّر تعالَى حالَ الدُّنيا بما ضَرَبه مِن ذلك المَثَلِ؛ ذَكَر أنَّ المال والبنينَ زينةُ هذه الحياةِ الدُّنيا المحقَّرَةِ، وأنَّ مصيرَ ذلك إنَّما هو إلى النَّفادِ، فينبَغي أنْ لا يُكْتَرَثَ به .

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

أي: الأموالُ والأبناءُ يتجَمَّلُ بهما النَّاسُ في حياتِهم الدُّنيا ويتزيَّنونَ، وليسا مما ينفعُ في الآخرةِ؛ فهما مما يفنَى عن قريبٍ .

كما قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 14، 15].

وقال سُبحانَه: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89].

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37].

وقال جلَّ جلالُه: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة: 3] .

وقال تبارك وتعالى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 11] .

وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا.

أي: وأعمالُ الخيرِ الصَّالحةُ التي تبقَى لصاحِبِها في الآخرةِ الباقيةِ، ويبقَى نَفعُها وثوابُها؛ أفضَلُ جزاءً عندَ رَبِّكَ -يا مُحمَّدُ- من زينةِ الحياةِ الدُّنيا الفانيةِ، وهي أفضَلُ ما يُؤَمِّلُه الإنسانُ، ويرجو نَفعَه وعواقِبَه الحميدةَ .

كما قال تعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا [مريم: 76] .

وقال سُبحانَه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((سُبحانَ اللهِ، والحَمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، والله أكبَرُ؛ مِن الباقياتِ الصَّالِحاتِ ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا فأحوالُ الدُّنيا تظهَرُ أوَّلًا في غايةِ الحُسنِ والنَّضارة، ثم تتزايدُ قليلًا قليلًا، ثم تأخُذُ في الانحطاطِ إلى أن تنتهيَ إلى الهلاكِ والفَناءِ، ومِثلُ هذا الشيءِ ليس للعاقِلِ أن يبتهِجَ به

؛ فالدُّنيا سريعةُ الزوالِ، وشيكةُ الارتحالِ، مع كثرةِ الأنكادِ، ودوامِ الأكدارِ، مِن الكَدِّ والتَّعَب، والخَوفِ والنَّصَب، فهي جديرةٌ لذلك بالزُّهدِ فيها، والرغبةِ عنها، وألَّا يفتَخِرَ بها عاقِلٌ فَضلًا عن أن يكاثِرَ بها غيرَه .

2- قال الله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا أخبر تعالى أنَّ المالَ والبنينَ زينةُ الحياةِ الدُّنيا، أي: ليس وراءَ ذلك شيءٌ، وأنَّ الذي يبقى للإنسانِ وينفَعُه ويَسُرُّه: الباقياتُ الصَّالحاتُ، وهذا يشمَلُ جميعَ الطَّاعاتِ الواجبةِ والمستحبَّةِ مِن حقوقِ الله، وحقوقِ عبادِه؛ فهذه خيرٌ عند الله ثوابًا وخيرٌ أملًا؛ فثوابُها يبقَى ويتضاعَفُ على الآباد، ويُؤمَّلُ أجرُها وبِرُّها ونَفعُها عند الحاجةِ، فهذه التي ينبغي أن يتنافَسَ فيها المتنافِسونَ، ويستبِقَ إليها العامِلون، ويجِدَّ في تحصيلِها المجتَهِدون، وتأمَّلْ كيف لَمَّا ضرب اللهُ مَثَلَ الدُّنيا وحالَها واضمحلالَها، ذكر أنَّ الذي فيها نوعان: نوعٌ مِن زينتها يُتمَتَّعُ به قليلًا ثم يزولُ بلا فائدةٍ تعود لصاحِبِه، بل ربَّما لَحِقتْه مَضرَّتُه وهو المالُ والبنونَ؛ ونوعٌ يبقَى وينفَعُ صاحِبَه على الدَّوامِ، وهي الباقياتُ الصَّالحاتُ .

3- قال الله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا المرادُ مِن الآيةِ الكريمةِ تنبيهُ النَّاسِ للعمَلِ الصَّالحِ؛ لئلَّا يشتَغِلوا بزينةِ الحياةِ الدُّنيا مِن المالِ والبنينَ عَمَّا ينفَعُهم في الآخرةِ عندَ الله من الأعمالِ الباقياتِ الصَّالحاتِ، وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء مُبيَّنًا في آياتٍ أُخَرَ، كقوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 14، 15]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المنافقون: 9]، وقوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن: 15] ، وقوله: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37] ، وقوله: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الدالَّةِ على أنَّ الإنسانَ لا ينبغي له الاشتِغالُ بزينةِ الحياةِ الدُّنيا عمَّا ينفَعُه في آخِرتِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا كان أعظمَ حائلٍ بينَ المشركينَ وبينَ النظَرِ في أدلَّةِ الإسلام انهماكُهم في الإقبالِ على الحياةِ الزائلةِ ونعيمِها، والغُرور الذي غَرَّ طُغاةَ أهلِ الشِّركِ، وصرَفَهم عن إعمالِ عُقولِهم في فَهمِ أدلَّة التوحيدِ والبعثِ، كما قال تعالى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: 11] ، وقال: أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 14- 15]، وكانوا يحسَبونَ هذا العالَمَ غيرَ آيلٍ إلى الفَناءِ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] ، وما كان أحدُ الرجُلينِ اللذينِ تقدَّمت قصَّتُهما إلَّا واحدًا مِن المشركينَ؛ إذ قال: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الْكَهْف: 36]، فأمر اللهُ رسولَه بأن يضرِبَ لهم مثَلَ الحياةِ الدنيا التي غرَّتْهم بهجتُها

.

2- قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا إنَّما شَبَّه تعالى الدُّنيا بالماءِ؛ لأنَّ الماءَ لا يستَقِرُّ في موضعٍ، كذلك الدُّنيا: لا تبقَى على واحدٍ، ولأنَّ الماءَ لا يستقيمُ على حالةٍ واحدةٍ، كذلك الدُّنيا، ولأنَّ الماءَ لا يبقَى، ويذهَبُ، كذلك الدُّنيا تفنَى، ولأنَّ الماءَ لا يَقدِرُ أحَدٌ أن يَدخُلَه ولا يبتَلَّ، كذلك الدنيا: لا يسلَمُ أحَدٌ دخلَها مِن فِتنَتِها وآفَتِها، ولأنَّ الماءَ إذا كان بقَدَرٍ كان نافِعًا مُنبِتًا، وإذا جاوز المقدارَ كان ضارًّا مُهلِكًا، وكذلك الدُّنيا: الكَفافُ منها ينفَعُ، وفُضولُها يضُرُّ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا

شُبِّهَت حالةُ الدُّنيا في نُضرتِها وبَهجتِها وما يَتعقَّبُها من الهلاكِ والفناءِ وحالُ هذا العالَمِ بما فيه، بحالةِ الرَّوضةِ تَبْقَى زمانًا بَهِجةً خضِرةً، ثمَّ يصيرُ نبْتُها بعدَ حينٍ إلى اضمحلالٍ، ويَهيجُ فتُطيِّرُه الرِّياحُ كأنْ لم يَكُن. ووجْهُ الشَّبهِ: المصيرُ من حالٍ حسَنٍ إلى حالٍ سَيِّئٍ، وهذا تَشبيهُ معقولٍ بمحسوسٍ؛ لأنَّ الحالةَ المُشبَّهةَ معقولةٌ؛ إذ لم يَرَ النَّاسُ بوادرَ تقلُّصِ بهَجةِ الحياةِ. وأيضًا شُبِّهَت هيئةُ إقبالِ نَعيمِ الدُّنيا في الحياةِ مع الشَّبابِ والجِدَةِ، وزُخرفِ العيشِ لأهْلِه، ثمَّ تَقلُّصِ ذلك وزوالِ نفْعِه، ثمَّ انقراضِه أشتاتًا: بهيئةِ إقبالِ الغيثِ مُنبتِ الزَّرعِ، ونشأْتِه عنه ونَضارتِه ووفْرَتِه، ثمَّ أخْذِه في الانتقاصِ وانعدامِ التَّمتُّعِ به، ثمَّ تَطايُرِه أشتاتًا في الهواءِ؛ تَشبيهًا لمُركَّبٍ محسوسٍ بمُركَّبٍ مَحسوسٍ

. قيل: وهو تَشبيهٌ تَمثيليٌّ مقلوبٌ ؛ أمَّا التَّشبيهُ التَّمثيليُّ فهو تَشبيهُ الحياةِ الدُّنيا وما فيها من زخارفَ تُعجِبُ المُتلهِّيَ برُؤيتِها والمُستمتِعَ بزينتِها، حتَّى إذا أفاق من عَمايتِه وجَدَ أنَّ ما كان يتلَّهى ويستمتِعُ به باطلٌ لا حقيقةٌ، شبَّهَ ذلك بالنَّباتِ الَّذي اختلَطَ به الماءُ الهاطِلُ من السَّماءَ فربَا والْتفَّ، وزهَا ورَفَّ، وأنبَتَ من كلِّ زوجٍ بَهيجٍ، ولم تكَدِ العينُ تَستمتِعُ به، والنَّفسُ تنشرِحُ بمَنظرِه، حتَّى يبِسَ وتصوَّحَ، ثمَّ جَفَّ وذبَلَ، ثمَّ أصبَحَ هشيمًا تَذروهُ الرِّياحُ، فكأنَّه ما كان. وأمَّا التَّشبيهُ المقلوبُ فقد كان من حَقِّ الكلامِ أنْ يقولَ: فاختَلطَ بنَباتِ الأرضِ -على أحدِ القولين في التفسيرِ-، ووجْهُه: أنَّه لمَّا كان كلٌّ من المُختلطينِ موصوفًا بصِفَةِ صاحبِه عُكِسَ؛ للمُبالَغةِ في كثرتِه .

- قوله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وصْفُها بـ (الدُّنيا) بمعنى القريبةِ، أي: الحاضرةِ غيرِ المُنتظَرةِ، كنَّى عن الحُضورِ بالقُربِ، والوصْفُ للاحترازِ عن الحياةِ الآخرةِ، وهي الحياةُ بعدَ الموتِ .

- قولُه: كَمَاءٍ استئنافٌ لبَيانِ المثَلِ، أي: هي كماءٍ .

- قولُه: فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ الباءُ في قولِه: (به) قيل إنَّها: باءُ السَّببيَّةِ، أي: فالْتفَّ بسَببِه، وتَكاثَف حتى خالَطَ بعضُه بعضًا من كثْرَتِه. وقيل: نَجَع في النباتِ الماءُ فاختَلَط به حتَّى روَى وبَرَق وتَلألأَ، وكان حقُّ اللَّفظِ على هذا التفسيرِ: فاختلط بنباتِ الأرضِ. وإيثارُ ما عليه النَّظمُ الكريمُ عليه؛ للمُبالَغةِ بالكثرةِ؛ فإنَّ كُلَّ مُختلطينِ موصوفٌ كلُّ واحدٍ منهما بصِفةِ صاحبِه .

- وجُملةُ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا جُملةٌ مُعترِضةٌ في آخرِ الكلامِ. موقِعُها: التَّذكيرُ بقُدرةِ اللهِ تعالى على خلْقِ الأشياءِ وأضدادِها، وجعْلُ أوائلِها مُفضيةً إلى أواخرِها، وتَرتيبُه أسبابَ الفَناءِ على أسبابِ البقاءِ، وذلك اقتدارٌ عجيبٌ. وقد أُفيدَ ذلك على أكمَلِ وجْهٍ بالعُمومِ الَّذي في قولِه: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وهو بذلك العُمومِ أشبَهَ التَّذييلَ .

2- قوله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا

- قولُه: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا اعتراضٌ أُريدَ به الموعظةُ والعِبرةُ للمُؤمِنينَ، بأنَّ ما فيه المُشرِكون من النِّعمةِ من مالٍ وبنينَ ما هو إلَّا زينةُ الحياةِ الدُّنيا الَّتي علِمْتُم أنَّها إلى زوالٍ، كقولِه تعالى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ [آل عمران: 196، 197]، وأنَّ ما أعَدَّ اللهُ للمُؤمِنين خيرٌ عندَ اللهِ وخيرٌ أملًا. والاغتباطُ بالمالِ والبنينَ عادةٌ معروفةٌ في العربِ ؛ فقولُه: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَيانٌ لشأنِ ما كانوا يَفتخِرون به من مُحسِّناتِ الحياةِ الدُّنيا، كما قال الرجلُ الكافرُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، إثْرَ بَيانِ شأْنِ نفْسِها بما مَرَّ من المثَلِ .

- وتَقديمُ المالِ هنا على البنينَ مع كونِهم أعَزَّ منه، كما في الآيةِ المحكيةِ آنفًا، وقولِه تعالى: وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ [الإسراء: 6]، وغيرِ ذلك من الآياتِ الكريمةِ؛ لأنَّه أسبَقُ خُطورًا لأذهانِ النَّاسِ؛ لأنَّه يرغَبُ فيه الصَّغيرُ والكبيرُ، والشَّابُّ والشَّيخُ، ومَن له من الأولادِ ما قد كفاهُ ، ولعَراقتِه فيما نِيطَ به مِن الزِّينةِ والإمدادِ وغيرِ ذلك، وعُمومِه بالنِّسبةِ إلى الأفرادِ والأوقاتِ؛ فإنَّه زينةٌ، وممدٌّ لكلِّ أحدٍ مِن الآباءِ والبنينَ في كلِّ وقتٍ وحينٍ، وأمَّا البنونَ فزينتُهم وإمدادُهم إنَّما يكونُ بالنِّسبةِ إلى مَن بلَغَ مبلغَ الأُبوَّةِ، ولأنَّ المالَ مناطٌ لبقاءِ النَّفسِ، والبنينَ لبقاءِ النَّوعِ، ولأنَّ الحاجةَ إليه أمسُّ مِن الحاجةِ إليهم، ولأنَّه أقدَمُ منهم في الوُجودِ، ولأنَّه زِينةٌ بدونِهم مِن غيرِ عكسٍ؛ فإنَّ مَن له بنونَ بلا مالٍ، فهو في ضِيقِ حالٍ ونَكالٍ ، فالولدُ بعدَ وجودِ المالِ نِعمةٌ ومسرَّةٌ، وعندَ الفقرِ وسُوءِ الحالِ هَمٌّ ومَضرَّة، فهذا مِن بابِ تقديمِ السَّببِ على المسبَّبِ؛ لأنَّ المالَ سببُ تمامِ النِّعمةِ بالولدِ، وأمَّا قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران: 14] ؛ فتقديمُ النِّساءِ على البَنينَ بالسببِ، وتَقدُّمُ الأموالِ على البنينِ بالرُّتبةِ .

- وأُفْرِدت الزِّينةُ في قولِه: زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا معَ أنَّها مُسْنَدةٌ إلى الاثنينِ؛ لأنَّها مصدرٌ في الأصْلِ أُطلِقَ على المفعولِ مُبالغةً، كأنَّهما نفْسُ الزِّينةِ ، وهذا يُسمَّى بفنِّ الجمْعِ؛ وهو أنْ يجمَعَ المُتكلِّمُ بين شيئينِ أو أكثرَ في حُكْمٍ واحدٍ، وهو واضحٌ في الآيةِ .

- وفي قولِه: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ إذ كان مُقْتضَى الظَّاهرِ في تَرتيبِ الوصفينِ: أنْ يُقدَّمَ الصَّالِحَاتُ على وَالْبَاقِيَاتُ؛ لأنَّهما وإنْ كانا وَصفَينِ لموصوفٍ محذوفٍ، إلَّا أنَّ أعرَفَهما في وَصفيَّةِ ذلك المحذوفِ هو الصَّالحاتُ؛ لأنَّه قد شاعَ أنْ يُقالَ: الأعمالُ الصَّالحاتُ، ولا يُقال: الأعمالُ الباقياتُ، ولأنَّ بقاءَها مُترتِّبٌ على صلاحِها، فلا جرَمَ أنَّ (الصَّالحاتِ) وصفٌ قام مَقامَ الموصوفِ، وأغنى عنه كثيرًا في الكلامِ، حتَّى صار لفظُ (الصَّالحات) بمنزلةِ الاسمِ الدَّالِّ على عمَلِ خيرٍ، وخُولِفَ مُقْتضى الظَّاهرِ هنا؛ فقُدِّمَ (الباقياتُ)؛ للتَّنبيهِ على أنَّ ما ذُكِرَ قبْلَه إنَّما كان مفضولًا؛ لأنَّه ليس بباقٍ، وهو المالُ والبنونَ، كقولِه تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد: 26] ، فكان هذا التَّقديمُ قاضيًا لحقِّ الإيجازِ؛ لإغنائِه عن كلامٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: (أنَّ ذلك زائلٌ)، أو: (ما هو بباقٍ)، والباقياتُ مِن الصَّالحاتِ خيرٌ منه، فكان قولُه: فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف: 45] مُفيدًا للزَّوالِ بطريقةِ التَّمثيلِ، وهو من دَلالةِ التَّضمُّنِ، وكان قولُه: وَالْبَاقِيَاتُ مُفيدًا زوالَ غيرِها بطريقةِ الالتزامِ ، فحصَلَ دَلالتانِ غيرُ مُطابقتَينِ، وهما أوقَعُ في صِناعةِ البلاغةِ، وحصَلَ بثانيتِهما تأكيدٌ لمُفادِ الأُولى؛ فجاء كلامًا مُؤكَّدًا مُوجَزًا .

- وإخراجُ بَقاءِ تلك الأعمالِ وصلاحِها مَخرجَ الصِّفاتِ المفروغِ عنها، مع أنَّ حقَّهما أنْ يكونَا مَقصودَيِ الإفادةِ، لا سيَّما في مُقابَلةِ إثباتِ الفَناءِ لِما يُقابِلُها من المالِ والبنينَ على طريقةِ قولِه تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 96] ؛ للإيذانِ بأنَّ بقاءَها أمرٌ مُحقَّقٌ لا حاجةَ إلى بَيانِه، بل لفظُ (الباقيات) اسمٌ له وصفٌ، ولذلك لم يُذْكَرِ الموصوفُ، وإنَّما الَّذي يحتاجُ إلى التَّعرُّضِ له خَيريَّتُها .

- قولُه: عِنْدَ رَبِّكَ، أي: في الآخرةِ، وهو بَيانٌ لِما يَظهَرُ فيه آثارُ خَيريَّتِها، بمنزلةِ إضافةِ الزِّينةِ إلى الحياةِ الدُّنيا، لا لأفضليَّتِها فيها من المالِ والبنينَ، مع مُشاركةِ الكلِّ في الأصلِ؛ إذ لا مُشاركةَ لهما في الخيريَّةِ في الآخرةِ .

- قولُه: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا تَكريرُ خَيْرٌ؛ للإشعارِ باختلافِ حيثيَّةِ الخيريَّةِ والمُبالَغةِ فيها .

- ومعنى وَخَيْرٌ أَمَلًا أنَّ أمَلَ الآمِلِ في المالِ والبنينَ إنَّما يأمُلُ حُصولَ أمْرٍ مَشكوكٍ في حُصولِه، ومَقصورٍ على مُدَّتِه. وأمَّا الآمِلُ لثَوابِ الأعمالِ الصَّالحةِ، فهو يأمُلُ حُصولَ أمْرٍ موعودٍ به من صادقِ الوعدِ، ويأمُلُ شيئًا تحصُلُ منه منفعةُ الدُّنيا ومَنفعةُ الآخرةِ؛ فكان قولُه: وَخَيْرٌ أَمَلًا بالتَّحقُّقِ والعُمومِ تَذييلًا لِما قبْلَه

=====================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (47-49)

ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

 

بَارِزَةً: أي: بادِيةً ظاهِرةً ليس عليها جَبَلٌ ولا شجَرٌ ولا بِناءٌ، وأصلُ (برز): يدُلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ وبُدُوِّه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبينًا بعضَ مشاهدِ يومِ القيامةِ وأهوالِها: واذكُرْ يومَ نُزيلُ الجِبالَ عن أماكِنِها، وترى الأرضَ ظاهِرةً ليس عليها شيءٌ يَستُرُها، وجمَعْنا العبادَ كُلَّهم لِمَوقِفِ الحسابِ، فلم نَترُكْ منهم أحدًا، وعُرِضوا جميعًا على ربِّك مُصطَفِّينَ لا يُحجَبُ منهم أحَدٌ، فيُقالُ لهم: لقد جِئتُم إلينا كما خلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ، فُرادى، حُفاةً، عُراةً، غيرَ مختونينَ، لا مالَ معكم ولا ولَدَ،  ثمَّ يقالُ لمُنكِري البعثِ: بل ظنَنْتُم أنْ لن نجعَلَ لكم مَوعِدًا نبعَثُكم فيه؛ لِمُجازاتِكم على أعمالِكم.

ووُضِعَ كِتابُ أعمالِ العباد، فتُبصِرُ المجرمينَ خائِفينَ مِمَّا فيه؛ بسبَبِ ما عَمِلوه من السيِّئاتِ، ويقولونَ حين يطَّلِعون عليه: يا ويلَنا! ما لهذا الكِتابِ لم يَترُكْ صغيرةً مِن أفعالِنا ولا كبيرةً إلَّا عدَّها وأثبَتَها؟! ووجَدوا كُلَّ ما عَمِلوه في الدُّنيا حاضِرًا مُثبَتًا، ولا يَظلِمُ رَبُّك أحدًا مِثقالَ ذَرَّةٍ؛ فلا يَنقُصُ أحدًا من حَسَناتِه، أو يزيدُ في سَيِّئاتِه.

تفسير الآيات:

 

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

بعدَ أن بيَّنَ لهم تعَرُّضَ ما هم فيه من نعيمٍ إلى الزَّوالِ على وجهِ الموعظةِ؛ أعقَبَه بالتَّذكيرِ بما بعد ذلك الزَّوالِ، بتَصويرِ حالِ البَعثِ وما يترقَّبُهم فيه من العِقابِ على كُفرِهم به؛ وذلك مقابلةً لضِدِّه المذكورِ في قَولِه تعالى: وَالْبَاقِياتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ

[الكهف: 46] .

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ.

أي: واذكُرْ يومَ نُزيلُ الجِبالَ عن أماكِنِها ونَنسِفُها، فتضمَحِلُّ وتتلاشَى .

كما قال عزَّ وجلَّ: وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور: 10].

وقال تعالى: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [التكوير: 3] .

وقال سُبحانَه: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل: 88] .

وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105- 107] .

وقال سُبحانَه: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [المزمل: 14] .

وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً.

أي: وترَى الأرضَ يومَ القيامةِ باديةً ظاهِرةً لأعيُنِ النَّاظِرينَ، ليس عليها شيءٌ يَستُرُها مِن جبَلٍ أو شجَرٍ أو بُنيانٍ، وليس فيها مَعلَمٌ لأحدٍ، ولا مكانٌ يُواري أحدًا .

وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا.

أي: وجمَعْنا العِبادَ أوَّلَهم وآخِرَهم على تلك الأرضِ؛ للحِسابِ والجزاءِ، فلم نَترُكْ منهم أحَدًا بلا بَعثٍ .

كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93- 95] .

وقال سُبحانَه: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49-50] .

وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حَشرَ الخَلقِ، ذكَرَ كيفيَّةَ عَرضِهم ، فقال تعالى:

وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا.

أي: وعُرِضَ العِبادُ على ربِّك -يا مُحمَّدُ- مُصطَفِّينَ ظاهِرينَ، لا يخفَى منهم أحَدٌ .

لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.

أي: فيُقالُ لهم: لقد جِئتُمونا -أيُّها النَّاسُ- بعد مَوتِكم أحياءً، كهَيئتِكم حينَ خَلَقْناكم أوَّلَ مَرَّةٍ: فُرادَى، حُفاةً، عُراةً، غيرَ مختونينَ، لا شيءَ معكم ممَّا كنتُم تتباهَوْن به في الدُّنيا من الأهلِ والأموالِ .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 94] .

وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قال: ((قام فينا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخطُبُ، فقال: إنَّكم مَحشُورونَ حُفاةً عُراةً غُرلًا : كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104] )) .

بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا  .

أي: يُقالُ لِمُنكري البَعثِ : بل اعتَقَدتُم خَطأً في الدُّنيا أنَّ اللهَ لن يبعَثَكم بعدَ مَوتِكم للحِسابِ والجزاءِ يومَ القيامةِ .

كما قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7] .

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49).

وَوُضِعَ الْكِتَابُ.

أي: ووُضِعَت كُتُبُ أعمالِ العبادِ -التي كتَبَتْها الملائِكةُ- في أيديهم؛ فمنهم آخِذٌ كتابَه بيَمينِه، ومنهم آخِذٌ كِتابَه بشِمالِه .

كما قال تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر: 69] .

وقال سُبحانَه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13- 14] .

وقال عزَّ وجَلَّ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [الحاقة: 19] .

وقال عزَّ مِن قائلٍ: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة: 25] .

فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ.

أي: فتَرى المُجرمِينَ خائِفينَ مِمَّا في كُتُبِ أعمالِهم من السَّيِّئاتِ التي عَمِلوها في الدُّنيا، خوفًا عظيمًا مِن عقابِ اللهِ والفَضيحةِ بين خَلقِ الله .

وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا.

أي: ويقولُ المُجرِمونَ إذا اطَّلَعوا على كُتُبِ أعمالِهم، فرَأَوا ما فيها من السَّيِّئاتِ: يا حَسرَتَنا وهلاكَنا! ما شأنُ هذا الكتابِ لا يَترُكُ صَغيرةً مِن ذُنوبِنا ولا كبيرةً منها إلَّا حَفِظَها وعَدَّها ؟!

كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار: 10-12].

وقال سُبحانَه: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17- 18] .

وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا.

أي: ووجَدوا كُلَّ ما عَمِلوه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ مَكتوبًا مُثبَتًا في صُحُفِ أعمالِهم، فجُوزُوا به .

كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .

وقال سُبحانَه: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7- 8] .

وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

أي: ولا يَظلِمُ رَبُّك -يا مُحمَّدُ- أحدًا مِن عبادِه، سواء مِن هؤلاء المُجرِمينَ أم مِن غَيرِهم؛ فلا يَنقُصُ أحدًا من حَسَناتِه، أو يزيدُ في سَيِّئاتِه، أو يُعاقِبُه بذنبٍ لم يفعَلْه، ونحو ذلك من الأفعالِ التي يُنزَّهُ عنها الرَّبُّ سُبحانه؛ لكَمالِ عَدلِه وغِناه ورَحمتِه، وإنَّما يُجازي كلًّا بما يستَحِقُّه .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] .

وقال سُبحانَه: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] .

وقال تبارك وتعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ [غافر: 31] .

وعن عبد اللهِ بنِ أُنَيسٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ -أو قال: العِبادُ- عُراةً غُرْلًا بُهْمًا. قال: قُلْنا: وما بُهمًا؟ قال: ليس معهم شَيءٌ، ثُمَّ يناديهم بصَوتٍ يَسمَعُه مَن بَعُدَ كما يَسمَعُه مَن قَرُب: أنا المَلِكُ، أنا الدَّيَّانُ، ولا ينبغي لأحدٍ مِن أهلِ النَّارِ أن يَدخُلَ النَّارَ وله عندَ أحدٍ مِن أهلِ الجَنَّةِ حَقٌّ حتى أقُصَّه منه، ولا ينبغي لأحدٍ مِن أهلِ الجنَّةِ أن يَدخُلَ الجنَّةَ ولأحدٍ مِن أهلِ النَّارِ عندَه حَقٌّ حتى أقُصَّه منه، حتى اللَّطمةُ. قال: قُلْنا: كيف وإنَّا إنَّما نأتي اللهَ عَزَّ وجَلَّ عُراةً غُرلًا بُهمًا؟ قال: بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فلا مالَ، ولا أهلَ، ولا عَشيرةَ، ما معهم إلَّا الأعمالُ التي عَمِلوها، والمكاسِبُ في الخيرِ والشَّرِّ التي كَسِبوها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ

[الأنعام: 94] .

2- عن قَتادةَ في قَولِه تعالى: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا قال: (يَشتَكي القَومُ -كما تَسمَعونَ- الإحصاءَ، ولم يَشتَكِ أحَدٌ ظُلمًا، فإيَّاكم والمُحَقَّراتِ مِن الذُّنوبِ؛ فإنَّها تجتَمِعُ على صاحبِها حتى تُهلِكَه) .

3- عن عَونِ بنِ عبدِ اللهِ في قَولِه عزَّ وجلَّ: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، قال: (ضجَّ -واللهِ- القَومُ مِن الصِّغارِ قبلَ الكِبارِ)

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله عزَّ وجَلَّ: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا، وقال أيضًا: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام: 62] ، وقال: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام: 30] ، وقال: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ [السجدة: 12] ، كُلُّ ذلك يدُلُّ على أنَّ الله ليس في خَلقِه، ولا خَلْقُه فيه، سُبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظَّالِمونَ عُلُوًّا كبيرًا

.

2- قولُ الله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ليس المرادُ حصولَ المساواةِ مِن كلِّ الوجوهِ؛ لأنَّهم خُلِقوا صِغارًا ولا عقلَ لهم ولا تكليفَ عليهم، بل المرادُ أنَّه قال للمُشرِكين المُنكِرين للبَعثِ، المفتَخِرين في الدُّنيا على فُقراءِ المؤمنينَ بالأموالِ والأنصارِ: قد جئتُمونا كما خلَقْناكم أوَّلَ مرَّةٍ عراةً حُفاةً بغيرِ أموالٍ ولا أعوانٍ .

3- قَولُ الله تعالى: وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا يَدُلُّ على إثباتِ صَغائِرَ وكبائِرَ في الذُّنوبِ، وهذا مُتَّفَقٌ عليه بينَ المُسلِمينَ .

4- قَولُ الله تعالى: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا فيه سؤالٌ: لماذا قال: لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً مع أنَّ الصَّغائِرَ تكَفَّرُ باجتنابِ الكبائِرِ؛ لِقَولِه تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء: 31] ؟

الجوابُ: أنَّ الآيةَ الأولَى في حَقِّ الكافرينَ؛ بدَليلِ قَولِه تعالى: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ، والثانيةُ في حقِّ المؤمنينَ؛ لأنَّ اجتنابَ الكبائِرِ لا يتحقَّقُ مع الكُفرِ.

أو يقال: إنَّ الأُولى في حقِّ المؤمنينَ أيضًا، لكِنْ يجوز أن تُكتَبَ الصَّغائِرُ لِيُشاهِدَها العبدُ يومَ القيامةِ، ثمَّ يُكَفَّر عنه، فيَعلَم قَدْرَ نِعمةِ العَفوِ عليه .

5- القرآنُ مملوءٌ مِن الأخبارِ بأنَّ دُخولَ النَّارِ إنَّما يكونُ بالأعمالِ، كما في قولِه: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا، وقَولِه تعالى: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 90] ، وقَولِه تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] ، وقَولِه تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: 76] إلى غيرِ ذلك من النُّصوصِ .

6- قال الله تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا يُستفادُ مِن ذلك أنَّ النَّكرةَ في سياقِ النَّفيِ تَعُمُّ .

7- إنَّ نفيَ الظُّلمِ عنه سُبحانه في قَولِه تعالى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا يتضَمَّنُ كمالَ عَدلِه ، فهو سبحانَه حكمٌ عدلٌ لا يضعُ الأشياءَ إلا مواضعَها، ووضعُها غيرَ مواضعِها ليس ممتنعًا لذاتِه؛ بل هو ممكنٌ لكنَّه لا يفعلُه؛ لأنَّه لا يريدُه؛ بل يكرهُه ويبغضُه؛ إذ قد حرَّمه على نفسِه، فاستحقَّ الحمدَ والثناءَ؛ لأنَّه ترَك هذا الظلمَ وهو قادرٌ عليه، وكما أنَّ الله منزهٌ عن صفاتِ النقصِ والعيبِ، فهو أيضًا منزهٌ عن أفعالِ النقصِ والعيبِ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا عطْفٌ على جُملةِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 45] ؛ فلفظُ (يوم) منصوبٌ بفعْلٍ مُضمَرٍ، تَقديرُه: اذكُرْ. ويجوزُ أنْ يكونَ الظَّرفُ مُتعلِّقًا بمحذوفٍ غيرِ فعْلِ (اذكُرْ) يدُلُّ عليه مقامُ الوعيدِ، مثلُ: يَرَون أمرًا مُفظعًا أو عظيمًا، أو نحوُ ذلك ممَّا تذهَبُ إلى تَقديرِه نفْسُ السَّامعِ. ويُقدَّرُ المحذوفُ مُتأخِّرًا عن الظَّرفِ وما اتَّصَلَ به؛ لقَصدِ تَهويلِ اليومِ وما فيه

.

- قولُه: وَحَشَرْنَاهُمْ فيه إيثارُ صِيغَةِ الماضي بعدَ نُسَيِّرُ وَتَرَى؛ للدَّلالةِ على تحقُّقِ الحشرِ المُتفرِّعِ على البعثِ الَّذي يُنكِرُه المُنكرِون . وقيل: هو للدَّلالةِ على أنَّ حشْرَهم قبْلَ التَّسييرِ والبُروزِ؛ ليُعاينوا تلك الأهوالَ، كأنَّه قيلَ: وحشرْناهم قبْلَ ذلك .

2- قوله تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا

- جُملةُ: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ معطوفةٌ على جُملةِ وَحَشَرْنَاهُمْ، فهي في موضعِ الحالِ من الضَّميرِ المنصوبِ في وَحَشَرْنَاهُمْ، أي: حشَرْناهم وقد عُرِضوا؛ تَنبيهًا على سُرعةِ عَرْضِهم في حينِ حشْرِهم .

- قولُه: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا في الالْتِفات إلى الغَيبةِ في قوله: عَلَى رَبِّكَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: (علينا)، وبِناءِ الفعلِ وَعُرِضُوا للمفعولِ، مع التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، والإضافةِ إلى ضَميرِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: من تَربيةِ المَهابةِ، والجَريِ على سَننِ الكبرياءِ، وإظهارِ اللُّطْفِ به صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما لا يَخْفى . وفيه كذلك تَنويهٌ بشأْنِ المُضافِ إليه، بأنَّ في هذا العرضِ وما فيه من التَّهديدِ نَصيبًا من الانتصارِ للمُخاطَبِ؛ إذ كذَّبوه حين أخبَرَهم وأنذَرَهم بالبعثِ .

- قولُه: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا، أي: مُصْطفِّينَ. وقيل: المعنى صَفًّا صفًّا، فحُذِفَ (صَفًّا) وهو مُرادٌ، وهذا التَّكرارُ مُنبِئٌ عنِ استيفاءِ الصُّفوفِ إلى آخرِها ، وانتصَبَ صَفًّا على الحالِ من واوِ وَعُرِضُوا، وتلك الحالةُ إيذانٌ بأنَّهم أُحْضِروا بحالةِ الجُناةِ الَّذين لا يَخْفى منهم أحدٌ؛ إيقاعًا للرُّعبِ في قُلوبِهم .

- وجُملةُ: لَقَدْ جِئْتُمُونَا مقولٌ لقولٍ مَحذوفٍ، دَلَّ عليه أنَّ الجُملةَ خِطابٌ للمَعروضينَ؛ فتعيَّنَ تَقديرُ القولِ، وهذه الجُملةُ في مَحلِّ الحالِ، والتَّقديرُ: قائلينَ لهم: لَقَدْ جِئْتُمُونَا . والخبرُ في قولِه: لَقَدْ جِئْتُمُونَا مُستعملٌ في التَّهديدِ والتَّغليظِ والتَّنديمِ على إنكارِهم البعثَ مع التقريعِ، والتوبيخِ لهم على رؤوسِ الأشهادِ

- قولُه: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ واقعٌ موقعَ المفعولِ المُطلَقِ المُفيدِ للمُشابهةِ، أي: جئْتُمونا مَجيئًا كخلْقِكم أوَّلَ مرَّةٍ؛ فالخلْقُ الثَّاني أشبَهَ الخلْقَ الأوَّلَ، أي: فهذا خلْقٌ ثانٍ. و(ما) مصدريَّةٌ، أي: كخلْقِنا إيَّاكم المرَّةَ الأُولى، والمقصودُ التَّعريضُ بخطَئِهم في إنكارِهم البعثَ .

- قولُه: بَلْ زَعَمْتُمْ أَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا للإضرابِ بمعنى الانتقالِ من خبرٍ إلى خبرٍ، وليس بمعنى الإبطالِ ، وهو انتقالٌ من التَّهديدِ، وما معه من التَّعريضِ بالتَّغليطِ، إلى التَّصريحِ بالتَّغليطِ في قالبِ الإنكارِ .

3- قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا

- قولُه: الْكِتَابُ اللَّامُ للجنْسِ، وهو صحُفُ الأعمالِ، أي: وُضِعَت كُتبُ أعمالِ البشرِ؛ لأنَّ لكلِّ أحدٍ كِتابًا، كما دلَّتْ عليه آياتٌ أُخرى؛ منها قولُه تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ [الإسراء: 13، 14].

- قولُه: وَوُضِعَ الْكِتَابُ جاء الفعْلُ بصِيغَةِ الماضي؛ لتَحقُّقِ وُقوعِه .

- وإفرادُ الضَّميرِ في قولِه: مِمَّا فِيهِ؛ لمُراعاةِ إفرادِ لفْظِ (الكِتاب) .

- قولُه: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ، أي: قاطبةً، فيدخُلُ فيهم الكَفرةُ المُنكِرون للبعثِ دُخولًا أوَّليًّا .

- في قولِه: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ عُبِّرَ بالمضارعِ (يَقُولُونَ)؛ لاستِحضارِ الحالةِ الفظيعةِ، أو لإفادةِ تَكرُّرِ قولِهم ذلك وإعادتِه، شأْنَ الفَزِعينَ الخائفينَ .

- قولُه: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا يَاوَيْلَتَنَا كِنايةٌ عن أنَّه لا نَديمَ لهم إذ ذاكَ إلَّا الهلاكُ .

- والاستفهامُ في قولِهم: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ مُستعملٌ في التَّعجُّبِ ؛ فـ (ما) اسمُ استفهامٍ، ومعناها: أيُّ شَيءٍ، و(لِهَذَا الْكِتَابِ) صِفَةٌ لـ (ما) الاستفهاميَّةِ؛ لِما فيها من التَّنكيرِ، أي: ما ثبَتَ لهذا الكتابِ. واللَّامُ للاختصاصِ مثْلُ قولِه: مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ [يوسف: 11]. وجُملةُ لَا يُغَادِرُ في موضعِ الحالِ، هي مَثارُ التَّعجُّبِ، وقد جَرى الاستعمالُ بمُلازمةِ الحالِ لنحوِ: (ما لكَ)، فيقولون: ما لك لا تفعَلُ؟ وما لك فاعلًا ؟

- قولُه: لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، أي: حَواها وضبَطَها، جُملةٌ حاليَّةٌ مُحقِّقةٌ لِما في الجُملةِ الاستفهاميَّةِ من التَّعجُّبِ. أو استئنافيَّةٌ مَبنيَّةٌ على سُؤالٍ نشَأَ من التَّعجُّبِ؛ كأنَّه قيل: ما شأْنُه حتَّى يُتَعَجَّبَ منه؟ فقيل: لا يُغادِرُ سيِّئةً صغيرةً ولا كبيرةً إلَّا أحصاها .

- قولُه: لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا قُدِّم الصغيرةُ اهتمامًا بها؛ ليُنبِّهَ منها، ويدلَّ أنَّ الصغيرةَ إذا أُحصيتْ، فالكبيرةُ أحْرَى بذلك، والعربُ أبدًا تُقدِّمُ في الذِّكرِ الأقلَّ مِن كُلِّ مُقترنَينِ، نحو قولِهم: القَمران، والعُمران، سَمَّوْا باسمِ الأقلِّ؛ تَنبيهًا منهم؛ فقُدِّمَ ذِكْرُ الصَّغيرةِ؛ لأنَّها أهَمُّ من حيثُ يتعلَّقُ التَّعجُّبُ من إحصائِها، وعُطِفَت عليها الكبيرةُ؛ لإرادةِ التَّعميمِ في الإحصاءِ؛ لأنَّ التَّعميمَ أيضًا ممَّا يُثيرُ التَّعجُّبَ، فقد عَجِبوا من إحاطةِ كاتبِ الكتابِ بجميعِ الأعمالِ . وقيل: تَقديمُ الصغائر على الكبائر؛ لأنَّهم لَمَّا هالَهم إثباتُ جميعِ الصغائرِ، بَدؤوا بها، وصرَّحوا بالكبائرِ -وإنْ كان إثباتُ الصغائرِ يُفهِمُها- تأكيدًا؛ لأنَّ المقامَ للتهويلِ وتَعظيمِ التفجُّعِ، وإشارةً إلى أنَّ الذي جرَّهم إلى الكبائِرِ هو الصغائرُ .

- قوله: إِلَّا أَحْصَاهَا الاستثناءُ من عُمومِ أحوالِ الصَّغيرةِ والكبيرةِ، أي: لا يُبْقي صَغيرةً ولا كبيرةً في جميعِ أحوالِهما إلَّا في حالِ إحصائِه إيَّاها، أي: لا يُغادِرُه غيرَ مُحصًى، فالاستثناءُ هنا مِن تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه؛ لأنَّه إذا أحصاهُ فهو لم يُغادِرْه، فآلَ إلى معنى: أنَّه لا يُغادِرُ شيئًا، وانتفَتْ حقيقةُ الاستثناءِ .

- قولُه: مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا فيه استعمالُ العامِّ في النَّفيِ، والخاصِّ في الإثباتِ؛ فإنَّ وُجودَ المُؤاخذةِ على الصَّغيرةِ يَلزَمُ منه وُجودُ المُؤاخذةِ على الكبيرةِ؛ فيَنْبغي أنْ يكونَ لا يُغادِرُ كبيرةً ولا صغيرةً؛ لأنَّه إذا لم يُغادِرْ صَغيرةً، فمِن الأَولى ألَّا يُغادِرَ كبيرةً، وأمَّا إذا لم يُغادِرْ كبيرةً، فإنَّه يجوزُ أنْ يُغادِرَ صغيرةً؛ لأنَّه إذا لم يَعْفُ عن الصَّغيرةِ، فيَنْبغي القياسُ أنَّه لا يَعْفو عن الكبيرةِ، وإذا لم يَعْفُ عن الكبيرةِ، فيجوزُ أنْ يعفُوَ عن الصَّغيرةِ .

- وجُملةُ: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا عطْفٌ على جُملةِ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا؛ لِما أفهمَتْه الصِّلةُ من أنَّهم لم يَجِدوا غيرَ ما عَمِلوا، أي: لم يُحْمَلْ عليهم شَيءٌ لم يَعْمَلوه؛ لأنَّ اللهَ لا يظلِمُ أحدًا، فيُؤاخِذُه بما لم يَقترِفْه، وقد حدَّدَ لهم من قبْلِ ذلك ما ليس لهم أنْ يَفْعلوه وما أُمِرُوا بفعْلِه، وتوعَّدَهم ووعَدَهم، فلم يكُنْ في مُؤاخذتِهم بما عَمِلوه من المَنهيَّاتِ بعدَ ذلك ظُلمٌ لهم. والمقصودُ: إفادةُ هذا الشَّأنِ من شُؤونِ اللهِ تعالى، فلذلك عُطِفَتِ الجُملةُ؛ لتَكونَ مقصودةً أصالةً، وهي مع ذلك مُفيدةٌ معنى التَّذييلِ؛ لِما فيها من الاستِدلالِ على مضمونِ الجُملةِ قبْلَها، ومن العُمومِ الشَّاملِ لمَضمونِ الجُملةِ قبْلَها وغيرِه؛ فكانت من هذا الوجْهِ صالحةً للفصْلِ بدُونِ عطْفٍ؛ لتكونَ تَذييلًا

======================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيتان (50-51)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ

غريب الكلمات:

 

عَضُدًا: أي: أعوانًا وأنصارًا، وأصلُ (عضد): يدُلُّ على عُضوٍ مِن الأعضاءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى مبينًا عداوةَ إبليسَ لآدمَ، محذرًا مِن تولِّيه وذريتِه: واذكُرْ -يا مُحَمَّدُ- حينَ أمَرْنا الملائِكةَ بالسُّجودِ لآدَمَ سُجودَ تشريفٍ وتكريمٍ، فسجَدَ الملائكةُ جَميعًا إلَّا إبليسَ كان من الجِنِّ فخرج عن طاعةِ رَبِّه، ولم يَسجُدْ معهم كِبرًا وحَسَدًا. أفتجعَلونَه -يا بني آدَمَ- وذُرِّيَّتَه أولياءَ لكم تُطيعونَهم وتَتركونَ طاعتي، وهم لكم أعداءٌ يُضِلُّونَكم؟! قَبُحَ اتخاذُ إبليسَ وليًّا مِن دونِ الرَّحمنِ بَدَلًا.

ثمَّ يذكرُ تعالى ما يدلُّ على كمالِ علمِه وقدرتِه، فيقولُ: ما أحضَرْتُ إبليسَ وذُرِّيَّتَه خَلْقَ السَّمواتِ والأرضِ فأستعينَ بهم على خَلْقِهما، ولا أشهَدْتُ بعضَهم خَلْقَ بَعضٍ، بل تفَرَّدْتُ بخلقِ جميعِ ذلك بغيرِ مُعينٍ ولا ظهيرٍ، وما كنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ مِن الشَّياطينِ وغَيرِهم أعوانًا لي.

تفسير الآيتين:

 

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ المقصودَ مِن ذِكرِ الآياتِ المتقَدِّمةِ الرَّدُّ على القَومِ الذين افتَخَروا بأموالِهم وأعوانِهم على فُقَراءِ المُسلِمينَ، وهذه الآيةُ المقصودُ مِن ذِكرِها عَينُ هذا المعنى؛ وذلك لأنَّ إبليسَ إنما تكبَّرَ على آدمَ لأنَّه افتخر بأصلِه ونَسَبِه، وهؤلاء المُشرِكونَ عامَلوا فُقَراءَ المُسلِمينَ بعَينِ هذه المُعاملة؛ فاللهُ تعالى ذكَرَ هذه القِصَّةَ هاهنا تنبيهًا على أنَّ هذه الطَّريقةَ هي بعينِها طريقةُ إبليسَ، ثمَّ إنَّه تعالى حَذَّرَ عنها وعن الاقتداءِ بها في قَولِه تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ الله تعالى يومَ القيامةِ والحَشر، وذكَرَ خَوفَ المُشرِكينَ مِمَّا سُطِرَ في ذلك الكِتابِ، وكان إبليسُ هو الذي حمَلَ المُجرِمينَ على مَعاصيهم، واتِّخاذِ شُرَكاءَ مع الله؛ ناسب ذِكرُ إبليسَ والنَّهي عن اتِّخاذِ ذُرِّيتِه أولياءَ مِن دُونِ الله؛ تبعيدًا عن المعاصي، وعن امتِثالِ ما يُوسوِسُ به .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكر الله تعالى البَعثَ، وختَمَه بإحسانِه بالعَدلِ المثمِرِ لإعطاءِ كُلِّ أحدٍ ما يستحقُّه؛ أتبَعَه -بما له مِن الفَضلِ- بابتداءِ الخَلقِ الذي هو دليلُه، في سياقٍ مذَكِّرٍ بوَلايتِه الموجِبةِ للإقبالِ عليه، وعداوةِ الشَّيطانِ الموجِبةِ للإدبارِ عنه؛ مُبَيِّنٍ لِما قابلوا به عَدْلَه فيهم وفي عدُوِّهم من الظُّلمِ بفِعلِهم، كما فعَلَ مِن التكَبُّر على آدَمَ عليه السلامُ بأصلِه، فتكَبَّروا على فُقَراءِ المؤمنينَ بأصلِهم وأموالِهم وعشائِرِهم، فكان فِعلُهم فِعْلَه سواءً، فكان قدوتَهم وهو عدوُّهم، ولم يقتَدوا بخيرِ خَلْقِه وهو وليُّهم وهو أعرَفُ النَّاسِ به .

وأيضًا لمَّا بيَّنَ حالَ المغرورِ بالدُّنيا والمُعرِضِ عنها، وكان سبَبُ الاغترارِ بها حُبَّ الشَّهواتِ وتَسويلَ الشَّيطانِ؛ زهَّدَهم أوَّلًا في زخارفِ الدُّنيا بأنَّها عُرضةُ الزَّوالِ، والأعمالُ الصَّالحةُ خيرٌ وأبْقَى مِن أنْفَسِها وأعْلاها، ثمَّ نفَّرَهم عنِ الشَّيطانِ بتَذكيرِ ما بينهم مِن العداوةِ القديمةِ .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حين قُلْنا للمَلائِكةِ: اسجُدوا لآدَمَ، فسجدَ الملائِكةُ كُلُّهم لآدمَ؛ امتثالًا لأمرِ اللهِ، سُجودَ تشريفٍ وتكريمٍ، إلَّا إبليسَ لم يَسجُدْ معهم؛ استكبارًا على اللهِ، وحَسَدًا لآدمَ !

كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34] .

وقال سُبحانَه: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء: 61] .

كَانَ مِنَ الْجِنِّ.

أي: كان إبليسُ مِن صِنفِ الجِنِّ .

عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَت الملائكةُ مِن نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارجٍ مِن نارٍ ، وخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم )) .

فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.

أي: فخرج عن طاعةِ رَبِّه، فلم يسجُدْ لآدَمَ كما أمَرَه اللهُ .

أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.

أي: أبعْدَ ما ظهَرَ من إبليسَ مِن الفِسقِ والاستكبارِ، فرفَضَ السُّجودَ لأبيكم -يا بني آدَمَ- وحَسَدَه، وأخرَجَه من الجنَّةِ، تتَّخِذونَه وذُرِّيَّتَه من الشياطينِ أولياءَ تُطيعونَهم وتُوالونَهم في خِلافِ مَرضاتي، والحالُ أنَّهم لكم أعداءٌ يُضِلُّونَكم، بدلًا مِن طاعتي، وأنا ربُّكم الذي أنعَمَ عليكم وأكرَمَكم ؟!

كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 60 - 62] .

بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا.

أي: بِئسَ البدلُ للظَّالِمينَ اتِّخاذُ إبليسَ وذُرِّيَتِه أولياءَ مِن دونِ اللهِ، وهم لهم أعداءٌ، فتركوا وَلايةَ الذي أنعَمَ عليهم وعلى أبيهم آدَمَ مِن قَبلُ، والذي في وَلايتِه كُلُّ الخيرِ والسَّعادةِ والفلاحِ .

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا كان الشريكُ لا يستأثِرُ بفِعلِ أمرٍ عَظيمٍ في المُشتَرَكِ فيه مِن غيرِ عِلمٍ لشريكِه به؛ قال معلِّلًا للذمِّ على الظُّلمِ المذكورِ في الآيةِ السَّابقةِ بما يدُلُّ على حقارتِهم عن هذه الرُّتبة :

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.

أي: ما أحضَرْتُ الشَّياطينَ خَلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ؛ لأستعينَ بهم على خَلقِها أو أشاوِرَهم في ذلك، بل لم يكونوا موجودينَ حينذاك؛ فأنا المستَقِلُّ بخَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، ومُدَبِّرُها وَحدي، ليس معي في ذلك شَريكٌ، ولا وزيرٌ، ولا مُشيرٌ .

كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22] .

وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ.

أي: ولا أشهَدْتُ بَعضَهم خَلْقَ بَعضٍ، بل تفَرَّدتُ بخَلقِهم بغيرِ مُعينٍ ولا ظهيرٍ، فكيف تَصرِفونَ لهم حَقِّي، وتتَّخِذونَهم أولياءَ مِن دوني، وأنا خالِقُ كُلِّ شَيءٍ ؟!

وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا.

أي: وما ينبغي ولا يليقُ أن أتَّخِذَ الذين يُضِلُّونَ الخلقَ عن طريقِ الحَقِّ أعوانًا لي في أيِّ شأنٍ مِن الشُّؤونِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا فيه الحثُّ على اتِّخاذِ الشَّيطانِ عَدُوًّا، والإغراءُ بذلك، وذِكرُ السَّبَبِ المُوجِبِ لذلك، وأنَّه لا يتَّخِذُ الشيطانَ وليًّا إلا ظالمٌ، وأيُّ ظُلمٍ أعظَمُ مِن ظُلمِ مَن اتَّخذ عَدُوَّه الحقيقيَّ وليًّا، وتَرَك الوليَّ الحميدَ

؟!

2- قال الله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ تأمَّلْ ما تحتَ هذا الخِطابِ الذي يَسلُبُ الأرواحَ حَلاوةً وعِقابًا، وجلالةً وتَهديدًا! كيف صَدَّره بإخبارِنا أنَّه أمَرَ إبليسَ بالسُّجودِ لأبينا، فأبى ذلك فطرَدَه ولعَنَه وعاداه؛ مِن أجلِ إبائِه عن السُّجودِ لأبينا، ثمَّ أنتم توالونَه مِن دوني وقد لعَنْتُه وطرَدْتُه؛ إذ لم يسجُدْ لأبيكم، وجعلتُه عدوًّا لكم ولأبيكم، فواليتُموه وتَرَكتُموني !! ويُشبِهُ أنْ يكونَ تحت هذا الخطابِ نوعٌ مِن العتابِ لَطيفٌ عَجيبٌ، وهو: أنِّي عاديتُ إبليسَ؛ إذ لم يسجدْ لأبيكم آدمَ مع ملائِكتي، فكانت معاداتُه لأجلِكم، ثمَّ كان عاقبةُ هذه المعاداةِ أنْ عقَدْتُم بينكم وبينه عَقْدَ المُصالحةِ !! فليتأملِ اللبيبُ مواقعَ هذا الخطابِ، وشدةَ لصوقِه بالقلوبِ، والتباسه بالأرواحِ، وأكثرُ القرآنِ جاء على هذا النمطِ مِن خطابِه لعبادِه بالتوددِ والتحننِ واللطفِ والنصيحةِ البالغةِ .

3- قال الله تعالى: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا في هذه الآيةِ الكريمةِ التَّنبيهُ على أنَّ الضَّالِّينَ المُضِلِّينَ لا تنبغي الاستعانةُ بهم ، ولا ينبغي الاعتمادُ على السُّفَهاءِ، ولا أهلِ الأهواءِ المُنحَرفةِ؛ لأنَّهم لا خيرَ فيهم، فإذا كان اللهُ لم يتخذِ المضلِّين عَضُدًا، فنحن كذلك لا يَليقُ بنا أنْ نتَّخِذَ المضلِّينَ عَضُدًا، وفي هذا: النهيُ عن بطانةِ السُّوءِ، وعن مُرافقةِ أهلِ السُّوءِ، وأنْ يَحذرَ الإنسانُ مِن جُلَساءِ السوءِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا بيَّن في سورةِ (الحِجر) وسورة (ص) أنَّ أصلَ الأمرِ بالسُّجودِ متقَدِّمٌ على خَلقِ آدَمَ مُعلَّقٌ عليه؛ قال في (الحِجر): وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 28، 29]، وقال في (ص): إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص: 71، 72]، ولا ينافي هذا أنَّه بعد وجودِ آدَمَ جَدَّد لهم الأمرَ بالسُّجودِ له؛ تنجيزًا

.

2- قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا الأصلُ أنَّ سُجودَ الملائِكةِ لآدَمَ كان على الجَبهةِ، وإذا وقع ذلك امتِثالًا لأمرِ اللهِ كان طاعةً مِن الطَّاعاتِ، ولم يكُنْ شِرْكًا؛ فالسُّجودُ لآدَمَ لولا أمْرُ الله لكان شِرْكًا، لكِنْ لَمَّا كان بأمرِ الله كان طاعةً لله، كما أن قَتْلَ النفسِ بغيرِ حَقٍّ مِن كبائرِ الذُّنوبِ، لكِنْ لَمَّا أُمِرَ إبراهيمُ الخَليلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذَبحِ ابنِه فامتَثَل أمْرَ اللهِ، وشَرَع في تنفيذِ الذَّبحِ؛ صار طاعةً .

3- قَولُ الله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ استدلَّ به الجمهورُ على أنَّ إبليسَ لم يكُنْ مِن الملائِكةِ .

4- قولُه تعالى:فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أي: خانه أصلُه؛ فإنَّه خُلِقَ مِن مارجٍ مِن نارٍ، وأصلُ خَلقِ الملائكةِ مِن نورٍ، فعند الحاجةِ نضَحَ كُلُّ وعاءٍ بما فيه، وخانه الطَّبعُ عند الحاجة؛ وذلك أنَّه كان قد توسَّم بأفعالِ الملائكةِ وتشَبَّه بهم، وتعَبَّد وتنَسَّك؛ فلهذا دخَلَ في خطابِهم، وعصى بالمُخالفةِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فيه دَليلٌ على أنَّ المَلَك لا يَعصي البتَّةَ، وإنَّما عصى إبليسُ؛ لأنَّه كان جنيًّا في أصلِه .

6- الفِسقُ قد يكون ناقِلًا عن المِلَّةِ، كما قال في حَقِّ إبليسَ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وقال وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20]. وقد لا يكونُ الفِسقُ ناقِلًا عن المِلَّةِ، كقوله تعالى: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة: 282] .

7- قول الله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ فيه سؤالٌ: كيف قال ذلك مع أنَّ الشَّيطانَ وذُرِّيَّتَه ليسوا أولياءَ، بل أعداءٌ؛ لأنَّ الأولياءَ هم الأصدقاءُ؟

الجوابُ: المرادُ بالوَلايةِ هنا اتِّباعُ النَّاسِ لهم فيما يأمُرونَهم به من المعاصي .

8- استَدَلَّ مَن قال بأنَّ الجِنَّ يَتناكَحونَ بقَولِه تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي، وكذلك قولُه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 74]، والدَّلالةُ مِن ذلك ظاهرةٌ .

9- قال الله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ قولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَذُرِّيَّتَهُ دليلٌ على أنَّ للشيطانِ ذريةً .

10- قولهُ تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا قال: لِلظَّالِمِينَ؛ لأنَّهم اعْتاضوا من الحقِّ بالباطلِ، وجَعَلوا مكانَ ولايتِهم إبليسَ وذُرِّيَّتَه، وهذا نفْسُ الظُّلمِ؛ لأنَّه وضْعُ الشَّيءِ في غيرِ موضِعِه .

11- في قَولِه تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ دليلٌ على أنَّ كلَّ مَن تكلَّمَ في شيءٍ مِن أمْرِ السَّمواتِ والأرضِ بدونِ دَليلٍ شَرعيٍّ أو حِسِّيٍّ، فإنَّه لا يُقبلُ قَولُه، ويقالُ له: إنَّ الله ما أشهَدَك خلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ، ولن نقبَلَ منك أيَّ شيءٍ مِن هذا إلَّا إذا وجَدْنا دليلًا حِسِّيًّا لا مَناصَ لنا منه، حينَئذٍ نأخذُ به؛ لأنَّ القرآنَ لا يُعارِضُ الأشياءَ المحسوسةَ . وفيه أيضًا الرَّدُّ على الكُهَّانِ والمُنجِّمينَ وغَيرِهم ممَّن يخوضُ في هذه الأشياءِ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا

- تكرَّرَتْ هذه القِصَّةُ في مواضعَ كثيرةٍ من القُرآنِ، وهي في كلِّ موضعٍ تَشتمِلُ على شَيءٍ لم تَشتمِلْ عليه في الآخَرِ، ولها في كلِّ موضعٍ ذُكِرَت فيه عِبرةٌ تُخالِفُ عِبرةَ غيرِه؛ فذِكْرُها في سُورةِ البقرةِ -مثلًا- إعلامٌ بمبادئِ الأُمورِ، وذِكْرُها هنا تَنظيرٌ للحالِ، وتَوطئةٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ

.

- قولُه: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا عطْفٌ على جُملةِ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ، بتَقديرِ: واذكُرْ إذْ قُلْنا للملائكةِ؛ تَفنُّنًا لغرَضِ الموعظةِ الَّذي سِيقَتْ له هذه الجُملُ، وهو التَّذكيرُ بعَواقبِ اتِّباعِ الهوى والإعراضِ عن الصَّالحاتِ، وبمَداحضِ الكبرياءِ والعُجْبِ، واحتقارِ الفضيلةِ، والابتهاجِ بالأعراضِ الَّتي لا تُكسِبُ أصحابَها كمالًا نَفسيًّا. وكما وُعِظُوا بآخرِ أيَّامِ الدُّنيا، ذُكِّروا هنا بالموعظةِ بأوَّلِ أيَّامِها، وهو يومُ خلْقِ آدمَ، وهذا أيضًا تَمهيدٌ وتَوطئةٌ لقولِه: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ... الآيةَ؛ فإنَّ الإشراكَ كان من غُرورِ الشَّيطانِ ببَني آدمَ .

- قولُه: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ كلامٌ مُستأنفٌ جارٍ مَجْرى التَّعليلِ بعدَ استثناءِ إبليسَ من السَّاجدينَ، كأنَّ قائلًا قال: ما له لَمْ يسجُدْ؟ فقيلَ: كان من الجِنِّ، ففسَقَ عن أمْرِ ربِّه، والفاءُ للتَّسبيبِ أيضًا؛ جُعِلَ كونُه من الجنِّ سَببًا في فسْقِه .

- وفي قولِه: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عُدولٌ إلى التَّعريفِ بطريقِ الإضافةِ دُونَ الضَّميرِ؛ لتَفظيعِ فِسْقِ الشَّيطانِ عن أمْرِ اللهِ بأنَّه فِسْقُ عبْدٍ عن أمرِ مَن تجِبُ عليه طاعتُه؛ لأنَّه مالكُه .

- قولُه: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ فُرِّعَ على التَّذكيرِ بفِسْقِ الشَّيطانِ، وعلى تعاظُمِه على أصْلِ النَّوعِ الإنسانيِّ: إنكارُ اتِّخاذِه واتِّخاذِ جُندِه أولياءَ؛ لأنَّ تكبُّرَه على آدمَ يَقْتضي عداوتَه للنَّوعِ، ولأنَّ عِصيانَه أمْرَ مالِكه يَقْتضي أنَّه لا يُرْجى منه خيرٌ، وليس أهلًا لأنْ يُتَّبَعَ .

- والهمزةُ في أَفَتَتَّخِذُونَهُ للتَّوبيخِ والإنكارِ والتَّعجُّبِ، أي: أبعْدَ ما ظهَرَ منه مِن الفسْقِ والعِصيانِ تتَّخِذونه وذُرِّيَّتَه أولياءَ من دُوني، مع ثُبوتِ عَداوتِه لكم تتَّخِذونه وليًّا ؟!

- قولُه: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي و(مِن) صِلةٌ للتَّوكيدِ، أي: تتَّخِذونهم أولياءَ مُباعِدين لي، وذلك هو إشراكُهم في العِبادةِ .

- في قولِه: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ قُيِّدَ الاتِّخاذُ بالجُملةِ الحاليَّةِ لتأكيدِ الإنكارِ وتَشديدِه؛ فإنَّ مَضمونَها مانعٌ من وُقوعِ الاتِّخاذِ، ومُنافٍ له قطْعًا .

- وجُملةُ: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مُستأنفةٌ لإنشاءِ ذَمِّ إبليسَ وذُرِّيَّتِه باعتبارِ اتِّخاذِ المُشرِكين إيَّاهم أولياءَ، أي: بئْسَ البدلُ للمُشرِكين الشَّيطانُ وذُرِّيَّتُه، فقولُه: بَدَلًا تَمييزٌ مُفسِّرٌ لاسمِ (بئس) المحذوفِ؛ لقصْدِ الاستغناءِ عنه بالتَّمييزِ، على طريقةِ الإجمالِ ثُمَّ التَّفصيلِ .

- في قولِه: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الْتِفاتٌ إلى الغَيبةِ، وفي هذا الالتفاتِ، مع وضْعِ (الظَّالمينَ) موضعَ الضَّميرِ: مِن الإيذانِ بكَمالِ السُّخطِ، والإشارةِ إلى أنَّ ما فَعَلوه ظُلمٌ قَبيحٌ ما لا يَخْفى ؛ فأبرَز اللهُ تعالى الضميرَ في قولِه: لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، وكان الأصلُ: (لكم)؛ لتعليقِ الفِعلِ بالوصفِ والتعميمِ؛ إذ استبدلُوا مَن ليس لهم شيءٌ من الأمرِ -وهم لهم عدوٌّ- بمَن له الأمرُ كلُّه -وهو لهم وليٌّ .

2- قوله تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا

- قولُه: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ عدَمِ استحقاقِهم للاتِّخاذِ المذكورِ في أنفُسِهم، بعدَ بَيانِ الصَّوارفِ عن ذلك؛ من خَباثةِ الطبع، والفِسقِ والعداوةِ، أي: ما أحضرْتُ إبليسَ وذُرِّيَّتَه .

- وهذه الجُملةُ تَتنزَّلُ مَنزلةَ التَّعليلِ للجُملتينِ اللَّتينِ قبْلَها، وهما: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ إلى قولِه: بَدَلًا؛ فإنَّهم لمَّا لم يَشْهَدوا خلْقَ السَّمواتِ والأرضِ، لم يَكونوا شُركاءَ للهِ في الخلْقِ بطريقِ الأَولى، فلم يَكونوا أحِقَّاءَ بأنْ يُعْبَدوا. وهذا احتجاجٌ على المُشرِكين بما يَعترِفون به؛ فإنَّهم يَعترِفون بأنَّ اللهَ هو المُتفرِّدُ بخلْقِ السَّمواتِ والأرضِ وخلْقِ الموجوداتِ. والإشهادُ هنا كِنايةٌ عن إحضارٍ خاصٍّ، وهو إحضارُ المُشارَكةِ في العمَلِ أو الإعانةِ عليه. ونفيُ هذا الشُّهودِ يَستلزِمُ نفْيَ المُشارَكةِ في الخلْقِ والإلهيَّةِ بالأَولى؛ فإنَّ خلْقَ السَّمواتِ كان قبْلَ وُجودِ إبليسَ وذُرِّيَّتِه، فهو استدلالٌ على انتفاءِ إلهيَّتِهم بسَبْقِ العدَمِ على وُجودِهم .

- قولُه: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا فيه إيثارُ نفْيِ الإشهادِ على نفْيِ شُهودِهم، ونفْيِ اتِّخاذِهم أعوانًا على نفْيِ كونِهم كذلك؛ للإشعارِ بأنَّهم مَقْهورون تحتَ قُدرتِه تعالى، تابِعون لمَشيئتِه وإرادتِه فيهم، وأنَّهم بمَعزلٍ من استحقاقِ الشُّهودِ والمعونةِ من تِلْقاءِ أنفُسِهم من غيرِ إحضارٍ واتِّخاذٍ، وإنَّما قُصارى ما يُتَوهَّمُ في شأْنِهم: أنْ يَبْلغوا ذلك المبلغَ بأمْرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولم يَكَدْ ذلك يكونُ .

- وقولُه: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، حيث لم يقُلْ: (وما كنْتُ مُتَّخِذَهم)؛ لإفادةِ الذَّمِّ، والتنبيه بذلك على وَصْفِهم القَبيحِ، وتأكيدًا لِما سبَقَ من إنكارِ اتِّخاذِهم أولياءَ ، ولأنَّ التَّذييلَ يَنْبغي أنْ يكونَ كلامًا مُستقِلًّا ،  وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه أبرَزَ الضَّميرَ إرشادًا إلى أنَّ المُضِلَّ لا يُستَعانُ به؛ لأنَّه مع عدَمِ نَفعِه يَضُرُّ .

- وأيضًا في قولِه: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا تَهكُّمٌ بهم، وإيذانٌ بكَمالِ رَكاكةِ عُقولِهم وسَخافةِ آرائِهم؛ حيث لا يَفْهمون هذا الأمْرَ الجَلِيَّ الَّذي لا يكادُ يَشتبِهُ على البُلْهِ والصِّبيانِ، فيَحْتاجون إلى التَّصريحِ به .

- وكذلك في قولِه: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا تَشبيهٌ بليغٌ؛ فقدْ شَبَّهَ المُضلِّينَ بالعضُدِ الَّذي يَتقوَّى به الإنسانُ، وأصْلُه العُضْوُ الَّذي هو المِرْفَقُ إلى الكتِفِ، ولم يَذكُرِ الأداةَ ، والله سُبحانَه وتعالَى لا يَحتاجُ إلى عونِ أحدٍ. وخَصَّ المضلِّين بالذِّكرِ؛ لزِيادةِ الذمِّ والتوبيخِ

================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (52-56)

ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غريب الكلمات:

 

مَوْبِقًا: مَهلِكًا وحاجِزًا، وأصلُ (وبق): يدُلُّ على هَلاكٍ، وحَيلولةٍ بينَ شَيئَينِ

.

سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ: أي: طَريقتُنا في إهلاكِهم، وأصلُ (سنن): يدُلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ، واطرادِه في سُهولٍة .

قُبُلًا: أي: عِيانًا ومُواجَهةً، وأصلُ (قبل): يدلُّ على مُواجَهةِ شَيءٍ لشَيءٍ .

لِيُدْحِضُوا: أي: لِيُبطِلوا ويُزيلوا، وأصلُ (دحض): يدلُّ على زَوالِ شيءٍ عن مَقامِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يحكي الله تعالَى مشهدًا مِن مشاهدِ القيامةِ، يكشفُ عن حالِ المشركينَ معَ شركائِهم، فيقولُ: واذكُرْ يومَ يقولُ اللهُ للمُشرِكينَ يومَ القيامةِ: نادُوا آلهَتَكم الذين كُنتُم تَزعُمونَ أنَّهم شُرَكاءُ لي في العبادةِ؛ لِيَنصروكم اليومَ مني، فاستغاثوا بهم فلم يُغيثوهم، وجعَلْنا بين المُشرِكينَ وآلهَتِهم حائلًا مُهلِكًا في جَهنَّمَ.

ثمَّ يُبيِّنُ حالةَ المجرمينَ عندَما يبصِرونَ النارَ، فيقولُ: ورأى المُجرِمونَ النَّارَ فأيقَنوا أنَّهم واقِعونَ فيها، ولم يَجِدوا عنها مكانًا يَنصَرِفونَ إليه.

ثمَّ يخبرُ الله تعالى عن عظمةِ القرآنِ، فيقولُ: ولقد وضَّحْنا ونوَّعْنا في هذا القُرآنِ للنَّاسِ أمثالًا كثيرةً؛ ليتذَكَّروا ويتَّعِظوا بها. وكان الإنسانُ أكثَرَ المخلوقاتِ مُجادَلةً ومُخاصَمةً.

ثمَّ يحكي الله تعالى الأسبابَ التي منَعتْ بعضَ الناسِ مِن الإيمانِ، فيقول: وما منعَ النَّاسَ مِن الإيمانِ بالحقِّ -حين جاءَهم- واستغفارِ رَبِّهم، إلَّا ما قدَّره اللهُ مِن أنَّهم لا يؤمِنونَ، بل يستمرُّون على كفرِهم فتُصيبُهم سُنَّةُ اللهِ في إهلاكِ السَّابِقينَ عليهم من الأمم الكافرة واستِئصالِهم، أو يُصيبُهم عذابُ الله عِيانًا يَرَونَه.

ثمَّ يبينُ تعالى وظيفةَ الرسلِ، فيقولُ: وما نُرسِلُ الرُّسُلَ إلى النَّاسِ إلَّا ليكونوا مُبَشِّرينَ المُؤمِنينَ بالثَّوابِ العاجِلِ والآجِلِ، ومُخوِّفينَ الكافِرينَ من العِقابِ العاجِلِ والآجِلِ، ويُخاصِمُ الذين كَفَروا رُسُلَهم بالباطِلِ تَعَنُّتًا؛ لِيُزيلوا بباطِلِهم الحَقَّ الذي جاءَهم به الرَّسولُ، واتَّخَذوا كِتابي وحُجَجي وما خُوِّفوا به مِن العذابِ سُخريةً واستِهزاءً.

تفسير الآيات:

 

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ مَن أشرك به في الدُّنيا، وحَكَم بجَهلِ المشركِين وسَفَهِهم، وأبطَلَ هذا الشِّركَ غايةَ الإبطالِ، وأقام البُرهانَ القاطِعَ على بُعدِ رُتبةِ مَعبوداتِ المُشرِكينَ عن المَنزِلةِ التي أحَلُّوهم بها مِنَ الشِّركِ؛ أخبَرَ عن حالِهم مع شُرَكائِهم يومَ القيامةِ مبينًا أنَّهم مع عدَمِ نَفعِهم لهم في الدُّنيا، يتخَلَّونَ عنهم في الآخِرةِ أحوجَ ما يكونونَ إليهم؛ تخييبًا لِظَنِّهم أنَّهم يُقَرِّبونَهم إلى اللهِ زُلفى

.

وأيضًا فإنَّه انتقالٌ مِن إبطالِ مَعبوديَّةِ الشَّيطانِ والجِنِّ إلى إبطالِ إلهيَّةِ جَميعِ الآلهةِ التي عبَدَها دَهماءُ المُشرِكينَ، مع بيانِ ما يعتريهم من الخَيبةِ واليأسِ يَومَئذٍ .

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ.

أي: واذكُرْ يومَ يقولُ اللهُ للمُشرِكينَ يومَ القيامةِ تَوبيخًا وتقريعًا لهم: نادُوا آلهَتَكم التي ادَّعيتُم في الدُّنيا كَذِبًا أنَّهم شُرَكائي في العِبادةِ؛ نادُوهم لِيَنصُروكم ويَمنَعوكم مِن عَذابي .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] .

فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ.

أي: فاستغاثَ المُشرِكونَ بآلهَتِهم التي كانوا يَعبُدونَها في الدُّنيا، فلم يُجيبوهم ولم يَنصُروهم .

كما قال تعالى: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ [القصص: 64] .

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا.

أي: وجعَلْنا بين المُشرِكينَ وآلهَتِهم التي عَبَدوها حائِلًا مُهلِكًا يَفصِلُ بينهم؛ فليس لأحدِ الفريقَينِ مِن سَبيلٍ للوُصولِ إلى الآخَرِ .

كما قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ [يونس: 28] .

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53).

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا.

أي: وعاينَ المُشرِكونَ النَّارَ فتيَقَّنوا أنَّهم داخِلُوها، وواقِعونَ فيها .

وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا.

أي: ولم يجِدِ المُشرِكونَ عن النَّارِ التي رأَوها مَكانًا يَنصَرِفونَ إليه، فيَصرِفُهم عن الوقوعِ فيها، أو طَريقًا يعدِلون عنها إليه، فلا بدَّ لهم منها .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الكافرينَ لَمَّا افتخَروا على فُقَراءِ المسلمينَ بكثرةِ أموالِهم وأتباعِهم، وبيَّن تعالى بالوجوهِ الكثيرةِ أنَّ قولَهم فاسِدٌ، وشُبهَتَهم باطِلةٌ، وذكر فيه المَثَلينِ المتقَدِّمين، قال بعدَه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الكهف: 54] ، وهو إشارةٌ إلى ما سبق .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ.

أي: ولقد نَوَّعْنا وكرَّرْنا وبَيَّنَّا في هذا القُرآنِ للنَّاسِ الأمثالَ بعِباراتٍ مُختَلفةٍ، وأساليبَ مُتَنوِّعةٍ، ومِن كُلِّ جِنسٍ وصِنفٍ؛ لِيَعقِلوا ويتذَكَّروا، ويتَّعِظوا ويَهتَدوا إلى الحَقِّ .

وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا.

أي: ومع هذا البَيانِ لم يتقَبَّلوا القُرآنَ، وجادلوا فيه؛ لأنَّ الإنسانَ بطَبعِه هو أكثَرُ الأشياءِ مُجادَلةً ومُخاصَمةً، فيُعارِضُ الحَقَّ بالباطِلِ، فلا يُنيبُ إلى الحَقِّ، ولا يَنزَجِرُ بالمواعِظِ .

كما قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل: 4] .

وعن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَرَقَه وفاطِمةَ بنتَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليلةً، فقال لهم: ألَا تُصَلُّونَ؟! قال عليٌّ: فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّما أنفُسُنا بيَدِ اللهِ، فإذا شاء أن يبعَثَنا بعَثَنا، فانصرف رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قلتُ ذلك، ولم يرجِعْ إليَّ شَيئًا، ثمَّ سَمِعتُه وهو مُدبِرٌ يَضرِبُ فَخِذَه ويقولُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)) .

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55).

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ.

أي: وما منع النَّاسَ مِن الإيمانِ بالحَقِّ حين جاءَهم، وأن يَطلُبوا مِن رَبِّهم مَغفِرةَ ذُنوبِهم .

إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ.

أي: إلا ما قدَّره الله وسبَق في علمِه أنَّهم لا يؤمنون، بل يستمرُّون على كفرِهم حتى يأتيَهم سنةُ الأممِ الكافرةِ قبلَهم، وهي عذابُ الاستئصالِ، والإهلاكُ في الدُّنيا .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [الحجر: 10 - 13].

وقال عزَّ وجلَّ: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات: 52- 53].

وقال سُبحانَه: بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 81 - 83] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء: 59] .

وقال سُبحانه: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ [غافر: 84- 85] .

أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ قُبُلًا بضَمِّ القافِ والباءِ، قيل: جمعُ (قَبيلٍ)، أي: صنفًا صنفًا، ونوعًا نوعًا، والمعنى: يأتيهم العذابُ أنواعًا وأصنافًا مُختَلفةً يتلو بَعضُها بعضًا. وقيل: (قُبُل) بالضمِّ بمعنَى (قِبَل) بكسرِ القافِ، أي: مواجهةً، والمعنى: يأتيهم العذابُ عِيانًا أمامَ وُجوهِهم .

2- قِراءةُ قِبَلًا بكَسرِ القافِ وفتحِ الباءِ، أي: يأتيهم العذابُ عِيانًا أمامَ وُجوهِهم .

أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا.

أي: أو يأتيَ العذابُ الكُفَّارَ عِيانًا يَرَونَه أمامَ وُجوهِهم .

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) .

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه بعدَ أن أشارَ اللهُ تعالى إلى جِدالِ الكافرينَ في هُدى القُرآنِ، بما مهَّدَ له مِن قَولِه: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: ٥٤]، وأشار إلى أنَّ الجِدالَ فيه مُجَرَّدُ مُكابَرةٍ وعِنادٍ، وأنَّه لا يَحُفُّ بالقُرآنِ ما يَمنَعُ مِن الإيمانِ به، كما لم يَحُفَّ بالهُدى الذي أُرسِلَ إلى الأُمَمِ ما يمنَعُهم الإيمانَ به- أعقَبَ ذلك بأنَّ وظيفةَ الرُّسُلِ التَّبليغُ بالبِشارةِ والنِّذارةِ، لا التَّصدِّي للمُجادَلة؛ لأنَّها مُجادَلةٌ لم يُقصَدْ منها الاستِرشادُ، بل الغايةُ منها إبطالُ الحَقِّ .

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.

أي: وما نُرسِلُ الرُّسُلَ إلَّا لِيُبَشِّروا المُؤمِنينَ بالثَّوابِ العاجِلِ والآجِلِ، ويُنذِروا الكافِرينَ بالعِقابِ العاجِلِ والآجِلِ، ولم نُرسِلْهم عَبَثًا، ولا لِيَتَّخِذَهم النَّاسُ أربابًا، ولا لِيدْعوا إلى أنفُسِهم، ولا لِيَجبُروا النَّاسَ على الإيمانِ، ولا ليُجيبوا أقوامَهم إلى طَلَبِ الآياتِ المُقتَرَحةِ أو إتيانِهم بالعَذابِ والهَلاكِ؛ فليس لهم ذلك ولا هو مِن مَهامِّهم .

وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ.

أي: لَسْنا نَبعَثُ رُسُلَنا للجِدالِ والخُصُوماتِ، وإنَّما نَبعَثُهم مُبَشِّرينَ ومُنذِرينَ، ولكِنَّ الكُفَّارَ يُخاصِمونَ رُسُلَهم بالباطِلِ؛ لِيُزيلوا ويُبطِلوا بجِدالِهم الحقَّ الذي جاءَت به الرُّسُلُ .

كما قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32] .

وقال سُبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [غافر: 5] .

وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا.

أي: وجعَل الكُفَّارُ حُجَجي وبَراهيني، وما أيَّدتُ به رُسُلي من المُعجِزاتِ، وما خُوِّفوا به مِن العذابِ، موضعَ سخريةٍ واستخفافٍ واستهزاءٍ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا يخبِرُ الله تعالى عن عَظَمةِ القرآنِ، وجلالتِه، وعُمومِه، وأنَّه صَرَّف فيه مِن كُلِّ مَثَلٍ، أي: من كلِّ طريقٍ مُوصِلٍ إلى العلومِ النَّافعةِ، والسَّعادةِ الأبَديَّةِ، وكلِّ طريقٍ يَعصِمُ مِن الشَّرِّ والهلاكِ؛ ففيه أمثالُ الحلالِ والحرامِ، وجزاءُ الأعمالِ، والترغيبُ والترهيبُ، والأخبارُ الصَّادقةُ النافعةُ للقُلوبِ؛ اعتقادًا، وطُمأنينةً، ونورًا، وهذا مما يوجِبُ التَّسليمَ لهذا القرآنِ وتلقِّيَه بالانقيادِ والطاعةِ، وعدمَ المنازعةِ له في أمرٍ مِن الأمورِ، ومع ذلك كان كثيرٌ مِن النَّاسِ يجادِلونَ في الحَقِّ بعد ما تبَيَّن، ويجادِلونَ بالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ؛ ولهذا قال: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي: مجادلةً ومُنازعةً فيه، مع أنَّ ذلك غيرُ لائقٍ بهم، ولا عَدلٌ منهم، والذي أوجب له ذلك وعدمَ الإيمانِ باللهِ إنَّما هو الظُّلمُ والعِنادُ، لا لقُصورٍ في بيانِه وحُجَّتِه وبُرهانِه، وإلَّا فلو جاءهم العذابُ، وجاءهم ما جاء قَبلَهم؛ لم تكُنْ هذه حالَهم

.

2- الجدالُ مذمومٌ إذا استُعمِلَ عندَ عدمِ الحاجةِ إليه، فيكونُ حينئذٍ شاغلًا عن الدعوةِ ومؤديًا -في الأكثرِ- إلى الفسادِ والفتنةِ. فإذا كان الجدالُ لمجردِ الغلبةِ والظهورِ فهو شرٌّ كلُّه، وأشدُّ شرًّا منه إذا كان لمدافعةِ الحقِّ بالباطلِ، قال تعالى: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ، فكلُّ إنسانٍ يُجادِلُ مِن أجلِ أن يُدحِضَ الحقَّ، فله نصيبٌ من هذه الآيةِ أي: مِن الكُفرِ -والعياذُ باللهُ- لأنَّ الكافرينَ هم الذين يُجادِلونَ بالباطِلِ؛ لِيُدحِضوا به الحقَّ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا فهم تحقَّقوا -لا محالةَ- أنَّهم مُواقِعوها؛ لِيَكونَ ذلك من بابِ تَعجيلِ الهَمِّ والحَزَنِ لهم؛ فإنَّ توقُّعَ العذابِ والخَوفَ منه قبلَ وُقوعِه، عذابٌ ناجِزٌ

.

2- وجهُ الجَمعِ بينَ قَولِه تعالى هنا: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا، وبينَ قولِه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] بما حاصِلُه: أنَّ المانِعَ المذكورَ في سورة (الإسراء) مانِعٌ عاديٌّ يجوزُ تخَلُّفُه؛ لأنَّ استِغرابَهم بَعْثَ رَسولٍ مِن البشَرِ مانِعٌ عادِيٌّ يجوزُ تخَلُّفُه؛ لإمكانِ أن يستغرِبَ الكافِرُ بَعثَ رَسولٍ مِن البشَرِ، ثمَّ يُؤمِنَ به مع ذلك الاستغرابِ؛ فالحَصرُ في قَولِه تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] حصرٌ في المانعِ العاديِّ، وأمَّا الحصرُ في قَولِه هنا: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا فهو حَصرٌ في المانِعِ الحقيقيِّ؛ لأنَّ إرادتَه جَلَّ وعلا عَدَمَ إيمانِهم، وحُكْمَه عليهم بذلك، وقضاءَه به: مانِعٌ حقيقيٌّ مِن وقوعِ غيرِه .

3- قوله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا فيه دليلٌ على إثباتِ القدرِ

 

، وذلك على القولِ المختارِ في تفسيرِ الآيةِ.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا عطْفٌ على جُملةِ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ؛ فيُقدَّرُ: واذكُرْ يومَ يقولُ: نادُوا شُركائي، أو على جُملةِ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فالتَّقديرُ: ولا أشهدْتُ شُركاءَهم جميعًا، ولا تنفَعُهم شُركاؤُهم يومَ الحشرِ؛ فهو انتقالٌ مِن إبطالِ مَعبوديَّةِ الشَّيطانِ والجنِّ إلى إبطالِ إلهيَّةِ جميعِ الآلهةِ الَّتي عبَدَها دَهْماءُ المُشرِكين، مع بَيانِ ما يَعتريهم من الخَيبةِ واليأسِ يومئذٍ. وقد سلَكَ في إبطالِ إلهيَّتِها بالاستدلالِ على انتفاءِ الماهيَّةِ بانتفاءِ لَوازمِها؛ فإنَّه إذا انْتَفى نفْعُها للَّذين يَعبُدونها، استلزَمَ ذلك انتفاءَ إلهيَّتِها، وحصَلَ بذلك تَشخيصُ خَيبتِهم ويأسِهم من النَّجاةِ

.

- قولُه: وَيَوْمَ يَقُولُ، أي: اللهُ عَزَّ وجَلَّ للكافرينَ؛ تَوبيخًا وتَعجيزًا ، وضميرُ الغائبِ عائدٌ إلى اللهِ تعالى؛ لدَلالةِ المقامِ عليه .

- وإضافةُ الشُّركاءِ إليه في قولِه: شُرَكَائِيَ على زَعْمِهم؛ تَوبيخًا لهم، والإضافةُ تَكونُ بأدنى مُلابسةٍ. ومفعولَا (زعَمْتُم) مَحذوفانِ؛ لدَلالةِ المعنى عليهما؛ إذ التَّقديرُ: زعمْتُموهم شُركائي .

- قولُه: نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أمْرُه إيَّاهم بمُناداةِ شُركائِهم مُستعملٌ في معناه مع إرادةِ لازمِه، وهو إظهارُ باطلِهم؛ بقرينةِ فعْلِ الزَّعمِ، ولذلك لم يسَعْهم إلَّا أنْ يُنادوهم، حيث قال: فَدَعَوْهُمْ لطمَعِهم، فإذا نادَوهم تبيَّنَ لهم خَيبةُ طمَعِهم، ولذلك عُطِفَ فعْلُ الدُّعاءِ بالفاءِ الدَّالَّةِ على التَّعقيبِ، وأتَى به في صِيغَةِ المُضِيِّ؛ للدَّلالةِ على تَعجيلِ وُقوعِه حينئذٍ، حتَّى كأنَّه قدِ انْقَضى .

- وفيه تقديمُ وصْفِهم بوصْفِ الشُّركاءِ قبْلَ فعْلِ الزَّعمِ؛ تَهكُّمًا بالمُخاطبينَ، وتَوبيخًا لهم، ثمَّ أردَفَ بما يدُلُّ على كذِبِهم فيما ادَّعَوا بفعْلِ الزَّعمِ الدَّالِّ على اعتقادٍ باطلٍ .

- قولُه: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، أي: نادَوهم للإغاثةِ، وفيه بَيانٌ لكَمالِ اعتنائِهم بإعانتِهم على طريقةِ الشَّفاعةِ؛ إذ مَعلومٌ أنْ لا طريقَ إلى المُدافعةِ، وفي إيرادِ عدمِ استجابتِه لهم مع ظُهورِه: تَهكُّمٌ بهم، وإيذانٌ بأنَّهم في الحَماقةِ بحيثُ لا يَفْهمونه إلَّا بالتَّصريحِ به .

2- قوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا عطْفٌ على جُملةِ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا، أي: جعَلْنا المَوبقَ ورآهُ المُجْرِمون؛ فذِكْرُ المُجرِمين إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ للدِّلالةِ على ما يُفيده الْمُجْرِمُونَ من تلبُّسِهم بما استحقُّوا به عذابَ النَّارِ ، وكذلك عُبِّرَ بـ (النَّارِ) في مَقامِ الإضمارِ للمَوبقِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ المَوبقَ هو النَّارُ، فهو شَبيهٌ بعطْفِ البَيانِ . ولم يقل: (وَرأَوا)، ولكنَّه أظهرَ؛ للدَّلالةِ على تَعليقِ الحُكمِ بالوصفِ .

- قولُه: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا والظَّنُّ مُستعمَلٌ هنا في معنى التَّحقُّقِ، ولعلَّ اختيارَه هنا ضربٌ من التَّهكُّمِ بهم، بأنَّهم رَجَّحوا أنَّ تلك النَّارَ أُعِدَّتْ لأجْلِهم في حينِ أنَّهم مُوقِنون بذلك. والمُواقَعةُ: مُفاعَلةٌ من الوُقوعِ، وهو الحصولُ؛ لقصْدِ المُبالَغةِ، أي: واقِعون فيها وُقوعَ الشَّيءِ الحاصلِ في موقعٍ يتطلَّبُه، فكأنَّه يقَعُ هو فيه .

- قولُه: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا في الكلامِ إيجازٌ، تَقديرُه: وحاوَلوا الانقلابَ أو الانصرافَ، فلم يَجِدوا عنها مَصرِفًا .

3- قولُه تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا عطْفٌ على الجُملِ السَّابقةِ الَّتي ضُرِبَت فيها أمثالٌ، مِن قولِه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الكهف: 32] ، وقولِه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 45] ، ولمَّا كان في ذلك لهم مَقنعٌ، وما لهم منه مَدفعٌ، عاد إلى التَّنويهِ بهَدْيِ القُرآنِ عودًا ناظرًا إلى قولِه: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ [الكهف: 27] ، وقولِه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] ؛ فأشارَ لهم أنَّ هذه الأمثالَ الَّتي قرَعَتْ أسماعَهم هدْيٌ من جُملةِ هدْيِ القُرآنِ الَّذي تَبرَّموا منه .

- قولُه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ تَقدَّمَ نظيرُ هذه الآيةِ في سُورةِ الإسراءِ، فقال: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ، فقُدِّمَ في هذه الآيةِ أحدُ مُتعلِّقَي فعْلِ التَّصريفِ على الآخرِ؛ إذ قُدِّمَ هنا قولُه: فِي هَذَا الْقُرْآنِ على قولِه: لِلنَّاسِ، عكْسَ آيةِ سُورةِ الإسراءِ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ ذِكْرَ القُرآنِ أهمُّ من ذِكْرِ النَّاسِ بالأصالةِ، ولا مُقْتضى للعُدولِ عنه هنا، بل الأمْرُ بالعكْسِ؛ لأنَّ الكلامَ جارٍ في التَّنويهِ بشأْنِ القُرآنِ، وأنَّه يَنزِلُ بالحقِّ لا بِهَوى الأنفُسِ. والنَّاسُ: اسمٌ عامٌّ لكلِّ مَن يبلُغُه القُرآنُ في سائرِ العُصورِ المُستقبَلةِ، والمقصودُ على الخُصوصِ المُشرِكون، كما دَلَّ عليه جُملةُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكَثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، فوِزانُه وِزانُ قولِه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء: 89] ، وسيجيءُ قولُه: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الكهف: 56] . وهذا يُشبِهُ العامَّ الواردَ على سبَبٍ خاصٍّ وقرائنَ خاصَّةٍ .

- وجُملةُ: وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا تَذييلٌ، وهو مُؤذِنٌ بكلامٍ مَحذوفٍ على وجْهِ الإيجازِ، والتَّقديرُ: فجَادلوا فيه؛ وكان الإنسانُ أكثرَ جدَلًا، فإنَّ الإنسانَ اسمٌ لنَوعِ بني آدمَ، وحرْفُ (أل) فيه لتعريفِ الحقيقةِ، فهو أوسعُ عُمومًا من لفْظِ (النَّاس) .

- وقولُه: شَيْءٍ اسمٌ مُفردٌ مُتوغِّلٌ في العُمومِ؛ ولذلك صَحَّت إضافةُ اسمِ التَّفضيلِ إليه، أي: أكثرَ الأشياءِ، واسمُ التَّفضيلِ هنا مَسلوبُ المُفاضَلةِ، وإنَّما أُتِيَ بصِيغَتِه؛ لقصْدِ المُبالَغةِ في شِدَّةِ جدَلِ الإنسانِ، وجُنوحِه إلى المُماراةِ والنِّزاعِ حتَّى فيما تَرْكُ الجدالِ في شأْنِه أحسَنُ، بحيث إنَّ شِدَّةَ الوصفِ فيه تُشْبِهُ تفوُّقَه في الوصْفِ على كلِّ مَن يَعرِضُ أنَّه موصوفٌ به .

4- قوله تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا هذا تأسُّفٌ عليهم، وتَنبيهٌ على فَسادِ حالِهم؛ لأنَّ هذا المنْعَ لم يكُنْ بقصْدٍ منهم أنْ يَمتنِعوا ليَجِيئَهم العذابُ، وإنَّما امْتَنعوا هم مع اعتقادِ أنَّهم مُصيبونَ، لكنَّ الأمْرَ في نفْسِه يَسوقُهم إلى هذا، فكان حالُهم يَقْتضي التَّأسُّفَ عليهم .

- وهو عطْفٌ على جُملةِ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ... [الكهف: 54] ، ومعناها مُتَّصِلٌ تَمامَ الاتِّصالِ بمعنى الجُملةِ الَّتي قبْلَها، بحيث لو عُطِفَت عليها بفاءِ التَّفريعِ لكان ذلك مُقْتضَى الظَّاهرِ، وتُعْتَبَرُ جُملةُ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكَثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] مُعترِضةً بينهما، لولا أنَّ في جَعْلِ هذه الجُملةِ مُستقِلَّةً بالعطْفِ اهتمامًا بمضمونِها في ذاتِه، بحيث يُعَدُّ تَفريعُه على مَضمونِ الَّتي قبْلَها يَحيدُ به عن الموقعِ الجديرِ هو به في نُفوسِ السَّامعينَ؛ إذ أُريدَ أنْ يكونَ حقيقةً مُقرَّرةً في النُّفوسِ. ولهذه الخُصوصيَّةِ عُدِلَ في هذه الجُملةِ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ بقولِه: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ، وبقولِه: إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى دونَ أنْ يقولَ: وما منَعَهم أنْ يُؤمِنوا إذ جاءهم الهُدى؛ قصْدًا لاستقلالِ الجُملةِ بذاتِها غيرِ مُستعانةٍ بغيرِها، فتكونُ فائدةً مُستقِلَّةً تَستأهِلُ توجُّهَ العُقولِ إلى وعْيِها لذاتِها، لا لأنَّها فرعٌ على غيرِها. على أنَّ عُمومَ (النَّاس) هنا أشمَلُ من عُمومِ لفْظِ (النَّاس) في قولِه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ [الكهف: 54] ؛ فإنَّ ذلك يعُمُّ النَّاسَ الَّذين يَسْمَعون القُرآنَ في أزمانِ ما بعْدَ نُزولِ تلك الآيةِ، وهذا يعُمُّ النَّاسَ كلَّهم الَّذين امْتَنعوا من الإيمانِ باللهِ. وكذلك عُمومُ لفْظِ (الهُدى) يشمَلُ هُدى القُرآنِ وما قبْلَه من الكُتبِ الإلهيَّةِ وأقوالِ الأنبياءِ كلِّها؛ فكانت هذه الجُملةُ قِياسًا تَمثيليًّا بشَواهدِ التَّاريخِ وأحوالِ تلقِّي الأُمَمِ دَعواتِ رُسلِهم .

- وذِكْرُ الاستغفارِ هنا بعْدَ ذِكْرِ الإيمانِ تلْقينٌ لهم بأنْ يُبادِروا بالإقلاعِ عنِ الكُفرِ، وأنْ يَتوبوا إلى اللهِ من تَكذيبِ النَّبيِّ ومُكابرتِه .

- قولُه: إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أي: إلَّا طلَبُ، أو: انتظارُ، أو: تَقديرُ أنْ تَأتيَهم سُنَّةُ الأوَّلينَ، وهي الاستئصالُ؛ فحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إليه مَقامَه -وهذا على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ- والمرادُ: ما منَعهم إلَّا سببُ إتيانِ سُنَّةِ الأوَّلينَ لهم، أو إتيانُ العذابِ؛ وسببُ ذلك هو: التكبُّرُ والمكابرةُ والتمسُّكُ بالضلالِ؛ فلا يُوجَدُ مانعٌ يَمنعُهم الإيمانَ يُعطيهم المعذرةَ به، ولكنَّهم ساروا على سَننِ مَن قَبْلَهم مِن الضلالِ. وهذا كنايةٌ عن انتفاءِ إيمانِهم إلى أنْ يَحُلَّ بهم أحدُ العَذابَينِ، وفي هذه الكِنايةِ تهديدٌ وإنذارٌ وتحذيرٌ، وحثٌّ على المبادرةِ بالاستغفارِ مِن الكفرِ .

5- قوله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا

- جُملةُ: وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ عطْفٌ على جُملةِ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وكِلْتا الجُملتينِ مُرتبِطٌ بجُملتيْ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] ، وتَرتيبُ هذه الجُملِ في الذِّكرِ جارٍ على تَرتيبِ مَعانيها في النَّفسِ، بحيث يُشْعِرُ بأنَّ كلَّ واحدةٍ منها ناشئٌ مَعناها على معنى الَّتي قبْلَها؛ فكانت جُملةُ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ مُفيدةً معنى الاستدراكِ، أي: أرسَلْنا الرُّسلَ مُبشِّرينَ ومُنذِرينَ بما فيه مَقنعٌ لطالبِ الهُدى، ولكنَّ الَّذين كَفَروا جادَلوه بالباطلِ؛ لإزالةِ الحقِّ لا لقصْدٍ آخرَ .

- واختيارُ فِعْلِ المُضارَعةِ وَيُجَادِلُ؛ للدَّلالةِ على تكرُّرِ المُجادَلةِ، أو لاستحضارِ صُورةِ المُجادَلةِ .

- وجُملةُ: وَاتَّخَذُوا آيَاتِي عطْفٌ على جُملةِ وَيُجَادِلُ؛ فإنَّهم ما قَصَدوا مِن المُجادَلةِ الاهتداءَ، ولكنْ أرادوا إدحاضَ الحقِّ، واتِّخاذَ الآياتِ كلِّها -وبخاصَّةٍ آياتُ الإنذارِ- هُزؤًا .

- وفعلُ الاتِّخاذِ إِذا قُيِّد بحالةٍ يفيدُ شدَّةَ اعتناءِ المُتَّخِذِ بتلك الحالةِ بحيثُ ارتَكَب الفعلَ لأجلِها، وجَعَله لها قَصْدًا .

- وعطْفُ وَمَا أُنْذِرُوا على (الآياتِ) عطْفُ خاصٍّ على عامٍّ؛ لأنَّه أبلَغُ في الدَّلالةِ على توغُّلِ كُفْرِهم وحَماقةِ عُقولِهم. و(مَا) مَصدريةٌ، أي: وإنذارَهم، والإخبارُ بالمصدرِ للمُبالَغةِ .

================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (57-59)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات:

 

أَكِنَّةً: أي: أغطيةً، جمعُ كِنانٍ، وهو الغِطاءُ، وأصلُ (كنن): يدلُّ على سترٍ وصونٍ

.

وَقْرًا: أي: ثِقَلًا، وصممًا، وأصلُ (وقر): يدلُّ على ثِقَلِ الشيءِ .

مَوْئِلًا: أي: مَلْجَأً؛ يُقال: وَأَلَ فلانٌ إلى كذا: إذا لجأ، وأصلُ (وأل): يدُلُّ على تجَمُّعٍ والتِجاءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبينًا سوءَ عاقبةِ المعرضينَ: لا أحَدَ أشَدُّ ظُلمًا لِنَفسِه ممَّن وُعِظَ بآياتِ رَبِّه الواضِحةِ، فأعرضَ عنها، ونَسِيَ ما قدَّمَتْه يداه مِن السيِّئاتِ فلم يَرجِعْ عنها، ولم يَتُبْ إلى اللهِ منها، إنَّا جعَلْنا على قُلوبِهم أغطيةً، لئَلَّا يَفهَموا ما ذُكِّروا به منها، وجعَلْنا في آذانِهم ثِقلًا؛ لئلَّا يسمَعوه سماعَ انتفاعٍ، وإن تَدْعُهم إلى الحقِّ فلن يَستَجيبوا لك، ولن يَهتَدوا إليه أبدًا.

ثمَّ يذكرُ الله تعالى ما يدلُّ على سعةِ رحمتِه، وعظيمِ فضلِه، فيقول: وربُّك الغفورُ لذُنوبِ عِبادِه إذا تابوا، ذو الرَّحمةِ بهم، لو أراد أن يُعاقِبَ هؤلاء المُعرِضينَ عن آياتِه بما كَسَبوا من الذُّنوبِ والآثامِ، لعجَّلَ لهم العذابَ في الدُّنيا، بل لهم مَوعِدٌ وأجلٌ مقدَّرٌ لعذابِهم إذا حلَّ لم يتأخَّرْ عنهم، ولن يَجِدوا مَلجَأً يَلجَؤون إليه مِنَ العذابِ، وتلك القُرى أهلَكْنا أهلَها حين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي، وجعَلْنا لهلاكِهم مَوعِدًا مُقَدَّرًا.

تفسير الآيات:

 

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا حكى اللهُ تعالى عن الكُفَّارِ جِدالَهم بالباطِلِ، وصَفَهم بعدَه بالصِّفاتِ المُوجِبةِ للخِزيِ والخِذلانِ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المُشرِكينَ مِن مُجادَلةِ الرُّسُلِ، ومِن استهزائِهم بالإنذارِ، وعرَّضَ بحَماقتِهم؛ أتبَعَ ذلك بأنَّه أشَدُّ الظُّلمِ .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ.

أي: ولا أحدَ أظلمُ لِنَفسِه ممَّن ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّه التي تَدُلُّه على طريقِ الحَقِّ والنَّجاةِ مِن الهَلاكِ، فأعرضَ عنها، فلم يتدبَّرْها، ولم يتَّعِظْ ويتذكَّرْ بها، ونَسِيَ ما عَمِلَ مِن السيِّئاتِ مِن الكُفرِ والمعاصي، فلم يتفكَّرْ في عاقِبتِها، ولم يَتُبْ إلى اللهِ منها .

كما قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6] .

إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ.

أي: إنَّا جعَلْنا على قُلوبِ هؤلاء المُعرِضينَ عن آياتِ اللهِ إذا ذُكِّروا بها أغطيةً؛ لئَلَّا يَفهَموا ما ذُكِّروا به منها، ولا يُدرِكوا معانيَها إدراكًا ينتَفِعونَ به .

كما قال تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7] .

وقال سُبحانَه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23] .

وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا.

أي: وجعَلْنا في آذانِ المُعرِضينَ عن آياتِ اللهِ ثِقلًا؛ لئلَّا يَسمَعوا آياتِه سَماعَ فَهمٍ وانتِفاعٍ بها .

وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا.

أي: وإن تَدعُهم -يا مُحمَّدُ- إلى طريقِ الحَقِّ، فلن يَسلُكوه أبدًا؛ لإعراضِهم، وطبْعِ اللهِ على قُلوبِهم وأسماعِهم .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6- 7] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96- 97] .

وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 80- 81] .

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ مِن عادةِ القُرآنِ تَعقيبَ التَّرهيبِ بالتَّرغيبِ والعكس، فلمَّا رماهم بقوارعِ التَّهديدِ والوعيدِ؛ عطَفَ على ذلك التَّعريضَ بالتذكيرِ بالمغفرةِ؛ لعلَّهم يتفَكَّرونَ في مرضاتِه؛ ثمَّ التَّذكيرَ بأنَّه يَشمَلُ الخَلقَ برَحمتِه في حينِ الوعيدِ، فيؤخِّرُ ما توعَّدَهم به إلى حَدٍّ معلومٍ؛ إمهالًا للنَّاسِ لعلَّهم يَرجِعونَ عن ضلالِهم، ويتدبَّرونَ فيما هم فيه مِن نِعَمِ الله تعالى؛ فلعَلَّهم يَشكُرونَ .

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ.

أي: وربُّك -يا مُحمَّدُ- كثيرُ السَّترِ على ذُنوبِ عِبادِه، والتَّجاوُزِ عن مؤاخَذتِهم بها، وهو الرَّحيمُ بهم .

لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ.

أي: لو أراد اللهُ أن يُعاقِبَ هؤلاء الكفارَ، المُعرِضينَ عن آياتِه، بما عَمِلوا من الذُّنوبِ والآثامِ التي من جُملتِها: الكُفرُ، والمُجادلةُ، والإعراضُ؛ لعجَّلَ لهم العذابَ في الدُّنيا، ولكِنَّه تعالى لاتِّصافِه بالمغفرةِ والرَّحمةِ، ترَكَ معاجَلَتَهم .

كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45] .

بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا.

أي: ولكنْ لهم مَوعِدٌ مَضروبٌ، وأجلٌ مقدَّرٌ لعذابِهم ، يُؤَخِّرُهم اللهُ إليه، ولن يَجِدوا مَلجَأً يَلجَؤون إليه مِنَ العذابِ .

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه بعد أن أُزيلَ غُرورُ الكافِرينَ بتأخُّرِ العذابِ، وأُبطِلَ ظَنُّهم الإفلاتَ منه ببيانِ أنَّ ذلك إمهالٌ مِن أثَرِ رَحمةِ الله بخَلقِه؛ ضرَبَ لهم المثَلَ في ذلك بحالِ أهلِ القُرى السَّالفينَ الذين أُخِّرَ عنهم العذابُ مُدَّةً، ثمَّ لم يَنجُوا منه بأَخَرَةٍ، فالجُملةُ معطوفةٌ على جُملةِ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ .

وأيضًا لَمَّا كانت هذه سُنَّتَه في القُرونِ الماضيةِ والأُمَمِ الخالية؛ قال تعالى عاطِفًا على قَولِه: لَهُمْ مَوْعِدٌ مُرَوِّعًا لهم بالإشارةِ إلى ديارِهم، المُصَوِّرةِ لدمارِهم :

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا.

أي: وتلك قُرى قَومِ نُوحٍ، وهُودٍ، وصالحٍ، وشُعَيبٍ، ولوطٍ، وغيرِهم من الأُمَمِ الماضيةِ؛ أهلَكْنا أهلَها لَمَّا ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي .

كما قال تعالى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا * وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا * وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا [الفرقان: 37 - 39].

وقال سُبحانَه: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 100 - 102] .

وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا.

أي: وجعَلْنا لوَقتِ إهلاكِ القُرى الظَّالِمةِ مِيقاتًا مَعلومًا ومَوعِدًا مُقَدَّرًا لا يُتقَدَّمُ عنه ولا يُتأخَّرُ

 

.

كما قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] .

وقال سُبحانَه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا فيه مِنَ التَّخويفِ لِمَن ترَكَ الحَقَّ بعد عِلْمِه؛ أن يُحالَ بينَهم وبينَه، ولا يتمَكَّنَ منه بعدَ ذلك، ما هو أعظَمُ مُرَهِّبٍ وزاجرٍ عن ذلك

.

2- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ حَثٌّ على فِقْهِ القرآنِ، وأنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يقرأَ القرآنَ، ويَتَعَلَّمَ معناه، كما كان الصَّحابةُ -رضوانُ الله عليهم- لا يتجاوَزونَ عَشرَ آياتٍ حتى يتعَلَّموها وما فيها مِن العِلمِ والعَمَلِ ؛ فقَولُه: أَنْ يَفْقَهُوهُ يعودُ إلى القرآنِ كُلِّه، فعُلِمَ أنَّ الله يحِبُّ أن يُفقَهَ؛ ولهذا قال الحسَنُ البَصريُّ: (ما أنزل اللهُ آيةً إلَّا وهو يحِبُّ أن يُعلَمَ في ماذا أنزِلَت وماذا عَنى بها، وما استَثنى مِن ذلك لا مُتَشابِهًا ولا غيرَه). وقال مجاهِدٌ: (عرَضْتُ المُصحَفَ على ابنِ عبَّاسٍ مِن أوَّلِه إلى آخِرِه مرَّاتٍ، أقِفُ عند كلِّ آيةٍ وأسألُه عنها) .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ أخبَرَ تعالى عن سَعةِ مَغفِرتِه ورَحمتِه، وأنَّه يَغفِرُ الذُّنوبَ، ويتوبُ اللهُ على من يتوبُ، فيتغَمَّدُه برَحمتِه، ويَشمَلُه بإحسانِه، وأنَّه لو آخَذَ العِبادَ على ما قَدَّمَت أيديهم من الذُّنوبِ، لعجَّلَ لهم العذابَ، ولكِنَّه تعالى حليمٌ لا يَعجَلُ بالعقوبةِ، بل يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، والذنوبُ لا بُدَّ مِن وقوع آثارِها وإن تأخَّرَت عنها مُدَّةً طويلةً؛ ولهذا قال تعالى: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا فيه تحذيرٌ مِن الظُّلمِ؛ إذ نتيجتُه الإهلاكُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ يُخبِرُ تعالى أنَّه لا أعظَمَ ظُلمًا، ولا أكبَرَ جُرمًا، مِن عَبدٍ ذُكِّرَ بآياتِ اللهِ وبُيِّنَ له الحَقُّ مِن الباطِلِ، والهدَى مِنَ الضَّلالِ، وخُوِّفَ ورُهِّبَ ورُغِّبَ؛ فأعرض عنها، فلم يتذكَّرْ بما ذُكِّرَ به، ولم يَرجِعْ عمَّا كان عليه، ونَسِي ما قَدَّمَت يداه مِن الذُّنوبِ، ولم يُراقِبْ علَّامَ الغُيوبِ؛ فهذا أعظَمُ ظُلمًا مِن المُعرِضِ الذي لم تأتِه آياتُ الله ولم يُذَكَّرْ بها، وإن كان ظالِمًا، فإنَّه أخَفُّ ظُلمًا مِن هذا؛ لكَونِ العاصي على بصيرةٍ وعلمٍ أعظَمَ مِمَّن ليس كذلك

.

2- قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ يُفهَمُ منها خِلافُ هذا، كقَولِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] ، وقَولِه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام: 144] ، وقَولِه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ [الزمر: 32] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ.

وللجَمعِ بين هذه الآياتِ أوجهٌ:

منها: تخصيصُ كُلِّ موضِعٍ بمعنى صِلتِه، أي: لا أحَدَ مِن المانعينَ أظلَمُ ممَّن منع مساجِدَ الله، ولا أحدَ مِن المُفتَرين أظلَمُ ممَّن افترى على الله كَذِبًا، وإذا تخصَّصَت بِصِلاتِها زال الإشكالُ.

ومنها: أنَّ التَّخصيصَ بالنِّسبةِ إلى السَّبقِ، أي: لَمَّا لم يسبِقْهم أحدٌ إلى مِثلِه حُكِمَ عليهم بأنَّهم أظلَمُ ممَّن جاء بعدَهم سالِكًا طريقَهم، وهذا يَؤولُ معناه إلى ما قبلَه؛ لأنَّ المرادَ السَّبقُ إلى المانعيَّةِ والافترائيَّةِ مَثلًا.

ومنها: أنَّ نَفيَ التَّفضيلِ لا يَستلزِمُ نَفيَ المساواةِ؛ فلم يكُنْ أحدٌ ممَّن وُصِفَ بذلك يزيدُ على الآخَرِ؛ لأنَّهم يتساوَونَ في الأظلميَّةِ، فيصيرُ المعنى: لا أحَدَ أظلَمُ مِمَّن منَعَ مساجِدَ الله، ومَن افترى على الله كَذِبًا، ومَن كذَّب بآياتِ اللهِ، ولا إشكالَ في تساوي هؤلاء في الأظلميَّةِ، ولا يدُلُّ على أنَّ أحَدَهم أظلَمُ مِن الآخَرِ، كما إذا قُلْتَ: لا أحَدَ أفقَهُ مِن فلانٍ وفلانٍ مثلًا .

3- في قَولِه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا إنْ قيل: إذا كانوا لا يستطيعونَ السَّمعَ ولا يُبصِرون ولا يَفقَهون؛ لأنَّ الله جعل الأكِنَّةَ المانعةَ مِن الفَهمِ على قلوبِهم، والوَقْرَ -الذي هو الثِّقلُ المانِعُ من السَّمعِ- في آذانِهم، فهم مجبورونَ، فما وجهُ تعذيبِهم على شيءٍ لا يستطيعونَ العُدولَ عنه، والانصرافَ إلى غيره؟!

فالجواب: أنَّ الله جَلَّ وعلا بيَّنَ في آياتٍ كثيرةٍ مِن كتابِه العظيمِ أنَّ تلك الموانِعَ التي يجعَلُها على قُلوبِهم وسَمعِهم وأبصارِهم، كالخَتمِ والطَّبعِ، والغِشاوةِ والأكِنَّة، ونحو ذلك: إنما جعَلَها عليهم جزاءً وِفاقًا لِما بادروا إليه من الكُفرِ وتكذيبِ الرُّسُلِ باختيارِهم، فأزاغ اللهُ قُلوبَهم بالطَّبعِ والأكِنَّةِ ونحوِ ذلك؛ جزاءً على كُفرِهم. فمن الآياتِ الدالَّةِ على ذلك قولُه تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] ، أي: بسبَبِ كُفرِهم، وهو نصٌّ قرآنيٌّ صريحٌ في أنَّ كُفرَهم السَّابِقَ هو سبَبُ الطبعِ على قلوبِهم؛ وقَولُه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ، وهو دليلٌ أيضًا واضِحٌ على أنَّ سَبَبَ إزاغةِ الله قُلوبَهم هو زيغُهم السَّابِقُ؛ وقولُه: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المنافقون: 3] ، وقَولُه تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] ، وقَولُه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] ، وقَولُه تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ الدالَّةِ على أنَّ الطبعَ على القُلوبِ، ومَنْعَها مِن فَهمِ ما ينفَعُ: عِقابٌ مِن اللهِ على الكُفرِ السَّابِقِ على ذلك .

4- قال الله تعالى: فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا إنْ قال قائِلٌ: هل في هذا تيئيسٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أنَّه وإن دعا لا يُقبَلُ منه، أو فيه تَسليةٌ له؟

فالجواب: في هذا تسليةٌ له، وأنَّهم إذا لم يَقبَلوا الحَقَّ فلا عليك منهم؛ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا .

5- قَولُه تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ هذا فيه تسليةٌ للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يمكِنُ أن يقولَ: لماذا لم يُعاجَلوا بالعُقوبةِ، كيف يُكَذِّبونَني وأنا رسولُ الله ولم يعاقِبْهم؟! ولكِنْ بَيَّنَ اللهُ له أنَّه هو الْغَفُورُ أي: الذي يستُرُ الذنوبَ ويتجاوَزُ عنها، ذُو الرَّحْمَةِ أي: صاحِبُ الرَّحمةِ الذي يلطُفُ بالمُذنبِ؛ ولهذا قال: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ يعني: لو أراد اللهُ أن يؤاخِذَ النَّاسَ بما كسبوا، لعجَّلَ لهم العذابَ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ إن قيل: ظاهِرُ هذه الآيةِ يَقتضي أنَّ تأخيرَ العَذابِ عن الكُفَّارِ برحمةِ الله، ومعلومٌ أنَّه لا نَصيبَ لهم في رَحمتِه! فعنه جوابانِ:

أحدهما: أنَّ الرحمةَ هاهنا بمعنى النِّعمةِ، ونِعمةُ الله لا يخلو منها مؤمِنٌ ولا كافِرٌ، فأمَّا الرَّحمةُ التي هي الغُفرانُ والرِّضا، فليس للكافِرِ فيها نصيبٌ.

والثاني: أنَّ رحمةَ اللهِ مَحظورةٌ على الكُفَّارِ يومَ القيامةِ، فأمَّا في الدُّنيا فإنَّهم ينالونَ منها العافيةَ والرِّزقَ .

7- في قولِه تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا قد يقولُ قائِلٌ: هنا إشكالٌ: فإنَّ القُرى جمادٌ، والجَمادُ لا يعودُ عليه الضميرُ بصيغةِ الجَمعِ، فمثلًا يقال: هذه البيوتُ عَمَّرْناها، ولا يقال: عَمَّرْناهم،  فلماذا قال: أَهْلَكْنَاهُمْ؟

فالجواب: لأنَّ الذي يَهلِكُ هم أهلُ القرى، فالقرى قد يراد بها أهلُها، وقد يُراد بها البِناءُ المجتَمِعُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا

- قولُه: فَأَعْرَضَ عَنْهَا عطْفُ إعراضِهم عن الذِّكرِ على التَّذكيرِ بفَاءِ التَّعقيبِ: إشارةٌ إلى أنَّهم سارعوا بالإعراضِ، ولم يَتْركوا لأنفُسِهم مُهلةَ النَّظرِ والتَّأمُّلِ

.

- في قولِه: فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً علَّلَ إعراضَهم ونِسيانَهم بأنَّهم مَطبوعٌ على قُلوبِهم، وجمَعَ بعْدَ الإفرادِ؛ حمْلًا على لفْظِ (مَن) ومعناهُ .

- قولُه: وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وأكثرُ ما يُستعمَلُ مثْلُ هذا التَّركيبِ في القُرآنِ في العملِ السَّيِّئِ، فصار جاريًا مَجْرى المثَلِ؛ قال تَعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج: 10] ، وقال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] .

- وجُملةُ: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً مُستأنَفةٌ بَيانيَّةٌ، نشأَتْ على جُملةِ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، أي: إنْ لم تعلَمْ سبَبَ نِسيانِه ما قدَّمَت يداهُ، فاعلَمْ أنَّا جعَلْنا على قُلوبِهم أكِنَّةً .

- وعاد الضَّميرُ مُفردًا في قولِه: أَنْ يَفْقَهُوهُ؛ لأنَّ الآياتِ المُضافةَ إلى الرَّبِّ في قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ هي القُرآنُ .

- وجُملةُ: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى عطْفٌ على جُملةِ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وهي مُتفرِّعةٌ عليها، ولكنَّها لم تُعْطَفْ بالفاءِ؛ لأنَّ المقصودَ جَعْلُ ذلك في الإخبارِ المُستقِلِّ. وأكَّدَ نفْيَ اهتدائِهم بحرْفِ تَوكيدِ النَّفيِ وهو (لن)، وبلفظِ (أبدًا) المُؤكِّدِ لمَعنى (لن)، وبحرْفِ الجزاءِ المُفيدِ تسبُّبَ الجوابِ على الشَّرطِ. وإنَّما حصَلَ معنى الجزاءِ باعتبارِ تفرُّعِ جُملةِ الشَّرطِ على جُملةِ الاستئنافِ البَيانيِّ، أي: ذلك مُسبَّبٌ على فطْرِ قُلوبِهم على عدَمِ قَبولِ الحقِّ .

- قولُه: فَلَنْ يَهْتَدُوا، أي: فلا يكونُ منهم اهتداءٌ الْبتَّةَ، كأنَّه مُحالٌ منهم؛ لشِدَّةِ تَصميمِهم، أَبَدًا مُدَّةَ التَّكليفِ كلَّها. و(إِذًا) جزاءٌ وجوابٌ؛ فدَلَّ على انتفاءِ اهتدائِهم لدعوةِ الرَّسولِ، بمعنى أنَّهم جَعَلوا ما يجِبُ أنْ يكونَ سبَبَ وُجودِ الاهتداءِ سببًا في انتفائِه، وعلى أنَّه جوابٌ للرَّسولِ، على تَقديرِ قولِه: ما لي لا أدْعوهم حِرْصًا على إسلامِهم؟ فقيل: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا .

- قولُه: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا وهذا من العامِّ، والمُرادُ به الخُصوصُ، وهو مَن طبَعَ اللهُ على قلْبِه وقَضى عليه بالمُوافاةِ على الكُفْرِ؛ إذ قدِ اهتدى كثيرٌ من الكَفرةِ وآمَنوا، ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك حُكمًا على الجميعِ، وفي تَقييدِه بالأبديَّةِ مُبالَغةٌ في انتفاءِ هِدايتِهم .

- قولُه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا... قاله هنا بالفاءِ الدَّالَّةِ على التَّعقيبِ؛ لأنَّ ما هنا في الأحياءِ من الكفَّارِ؛ فإنَّهم ذُكِّروا فأعْرَضوا عَقِبَ ما ذُكِّروا، وقاله في السَّجدةِ بـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ على التَّراخي؛ لأنَّ ما هناك في الأمواتِ من الكُفَّارِ؛ فإنَّهم ذُكِّروا مرَّةً بعْدَ أُخرى، ثمَّ أعْرَضوا بالموتِ فلم يُؤْمِنوا .

2- قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا

وجَّه الخِطابَ إلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، مُفتتِحًا باستحضارِ الجَلالةِ بعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ؛ إيماءً إلى أنَّ مَضمونَ الخبرِ تكريمٌ له، كقولِه: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] .

- في قولِه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ أورَدَ المغفرةَ على صِيغَةِ المُبالَغةِ دُونَ الرَّحمةِ؛ للتَّنبيهِ على كثرةِ الذُّنوبِ. وتَقديمُ الوصْفِ الأوَّلِ؛ لأنَّ التَّخليةَ قبْلَ التَّحليةِ، أو لأنَّه أهمُّ بحسَبِ الحالِ؛ إذ المَقامُ مَقامُ بَيانِ تأخُّرِ العُقوبةِ عنهم بعدَ استيجابِهم لها .

- قولُه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ خُصَّ بالذِّكرِ من أسماءِ اللهِ تعالى اسمُ (الغفورِ)؛ تَعريضًا بالتَّرغيبِ في الاستغفارِ. و(الغفورُ) اسمٌ يتضمَّنُ مُبالغةَ الغُفرانِ؛ لأنَّه تعالى واسعُ المغفرةِ؛ إذ يغفِرُ لمَن لا يُحْصَونَ، ويغفِرُ ذُنوبًا لا تُحْصى إنْ جاءه عبْدُه تائبًا مُقلِعًا مُنكسِرًا، على أنَّ إمهالَه الكُفَّارَ والعُصاةَ هو أيضًا من أثرِ المغفرةِ؛ إذ هو مَغفرةٌ مُؤقَّتةٌ. وقولُه: ذُو الرَّحْمَةِ هو المقصودُ تمهيدًا لجُملةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا؛ فلذلك كانت تلك الجُملةُ بَيانًا لجُملةِ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، باعتبارِ الْغَفُورُ الخبَرَ، وهو الوصْفُ الثَّاني. والمعنى: أنَّهم فيما كَسَبوه من الشِّركِ والعِنادِ أحرياءُ بتَعجيلِ العُقوبةِ، لكنَّ اللهَ يُمْهِلُهم إلى أمدٍ معلومٍ مُقدَّرٍ. وفي ذلك التَّأجيلِ رحمةٌ بالنَّاسِ، بتَمكينِ بعضِهم من مُهْلَةِ التَّدارُكِ وإعادةِ النَّظرِ، وفيه استبقاؤُهم على حالِهم زمنًا. فوصف ذُو الرَّحْمَةِ يساوي وصف (الرحيم)؛ لأن (ذو) تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه. وإنما عدل عن وصف (الرحيم) إلى ذُو الرَّحْمَةِ؛ للتنبيه على أنَّه خبر لا نعت تنبيهًا بطريقة تغيير الأسلوب؛ فإنَّ اسم (الرَّحيم) -مع كونِه مُشتَقًّا ومُتضمِّنًا لصِفةٍ- صارَ شَبيهًا بالأسماءِ الجامدة؛ لأنَّه صِيغَ بصِيغةِ الصِّفةِ المُشبَّهةِ؛ فبَعُدَ عن مُلاحظةِ الاشتقاقِ فيه، واقترَبَ مِن صِنفِ الصِّفةِ الذَّاتيةِ .

- في قولِه: لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ أُوثِرَتِ المُؤاخذةُ -المُنْبِئةُ عن شِدَّةِ الأخْذِ بسُرعةٍ- على التَّعذيبِ والعُقوبةِ ونحوِهما؛ للإيذانِ بأنَّ النَّفيَ المُستفادَ من مُقدمِ الشَّرطيَّةِ مُتعلِّقٌ بوصْفِ السُّرعةِ، كما يُنبِئُ عنه تاليها. وإيثارُ صِيغَةِ الاستقبالِ -وإنْ كان المعنى على المُضِيِّ-؛ لإفادةِ أنَّ انتفاءَ تَعجيلِ العذابِ لهم بسبَبِ استمرارِ عدَمِ إرادةِ المُؤاخَذةِ؛ فإنَّ المُضارِعَ الواقعَ موقعَ الماضي يُفيدُ استمرارَ انتفاءِ الفعْلِ فيما مَضى .

- جُملةُ: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ معطوفةٌ على مُقدَّرٍ، كأنَّه قيل: لكنَّهم ليسوا بمُؤاخَذينَ بغْتةً... .

- قولُه: بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (بل) للإضرابِ الإبطاليِّ عن مَضمونِ جوابِ (لو)، أي: لم يُعَجِّلْ لهم العذابَ؛ إذ لهم موعدٌ للعذابِ مُتأخِّرٌ، وهذا تَهديدٌ بما يحصُلُ لهم، وأكَّدَ النَّفيَ بـ (لن)؛ رَدًّا على إنكارِهم؛ إذ هم يحْسَبون أنَّهم مُفلِتونَ من العذابِ حين يَرَون أنَّه تأخَّرَ مُدَّةً طويلةً، أي: لأنْ لا ملجَأَ لهم من العذابِ دُونَ وقْتِ وعْدِه أو مكانِ وعْدِه، فهو ملْجَؤُهم. وهذا مِن تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه، أي: هم غيرُ مُفلِتينَ منه .

3- قولُه تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا

- قولُه: لَمَّا ظَلَمُوا فيه إشعارٌ بعِلَّةِ الإهلاكِ، وهي الظُّلمُ، ففيه تَحذيرٌ من الظُّلمِ؛ إذ نَتيجتُه الإهلاكُ . وفيه ترْكُ المفعولِ، وهو إمَّا لتَعميمِ الظُّلمِ، أو لتَنزيلِه منزلةَ اللَّازمِ، أي: لمَّا فَعَلوا الظُّلمَ

==============

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (60-70)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ

غريب الكلمات:

 

لَا أَبْرَحُ: أي: لا أزالُ سائِرًا، مِن قَولِهم: بَرِحَ الرَّجُل بَراحًا: إذا راح مِن مَوضِعِه، وأصلُ (برح): يدلُّ على الزَّوالِ

.

مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ: أي: اجتماعَهما، أو: مُلتقاهما، وأصلُ (جمع): يدُلُّ على تضامِّ الشَّيءِ .

حُقُبًا: أي: زَمانًا ودَهرًا، وجمْعُه: أحقابٌ، ولا يكادُ يُستعملُ الحقبُ إلَّا حيثُ يُرادُ تتابعُ الأزمنةِ وتَواليها، وأصلُ (حقب): يدلُّ على ترادُفٍ وتتابُعٍ .

سَرَبًا: أي: طريقًا ومَذهَبًا، وأصلُ (سرب): يدلُّ على الاتِّساعِ والذَّهَابِ في الأرضِ .

نَصَبًا: أي: تَعَبًا وعَناءً، وأصلُ (نصب): يدُلُّ على إقامةِ شَيءٍ، لأنَّ الإنسانَ لا يزالُ مُنتَصِبًا حتى يُعيِي .

فَارْتَدَّا عَلى آثَارِهِمَا قَصَصًا: أي رَجَعا مِنَ الطَّريقِ الذي سَلَكاه يتَتبَّعانِ الأثَرَ، والارتدادُ: الرُّجوعُ، والقَصَصُ: اتِّباعُ الأثَرِ. وأصلُ (رد): يدلُّ على رَجعِ الشَّيءِ، و (أثر): يدُلُّ على رَسمِ الشَّيءِ الباقي، و (قص): يدُلُّ على تتبُّعِ الشَّيءِ .

خُبْرًا: أي: عِلمًا، والخُبْرُ: العلمُ بالأشياءِ المعلومةِ من جهةِ الخَبَرِ، وأصلُ (خبر): العِلمُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى مبينًا قصةَ موسَى والخضرِ -عليهما السلامُ-: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حينَ قال موسى لخادِمِه يوشَعَ بنِ نون: لا أزالُ أتابِعُ السَّيرَ حتى أصِلَ إلى مُلتقى البَحرينِ، أو أسيرَ زمنًا طويلًا حتى أجدَ العبدَ الصَّالحَ الذي أخبَرَني اللهُ بعِلمِه وفَضلِه؛ لأتعلَّمَ منه ما ليس عندي مِن العِلمِ، فلمَّا وصَل موسَى عليه السلامُ وفتاه إلى مُلتقى البَحرينِ نَسِيا حُوتَهما الذي جعَلَه اللهُ عَلامةً على وجودِ الخَضِرِ في المكانِ الذي يَفقِدانِه فيه، فشقَّ الحوتُ طَريقَه في البَحرِ نفقًا ظاهِرًا في الماءِ، فلمَّا فارقا المكانَ الذي نَسِيَا فيه الحوتَ قال موسى لخادِمِه: أحضِرْ إلينا غداءَنا، لقد لَقِينا مِن سَفَرِنا هذا تَعَبًا. قال له خادِمُه: أرأيتَ حين مكَثْنا عند الصَّخرةِ فإنِّي نَسِيتُ الحوتَ في ذلك المكانِ، وما أنساني أن أذكُرَ الحوتَ إلَّا الشَّيطانُ، واتَّخذ الحوتُ طريقَه في البَحرِ عجبًا.

قال موسى: ما حصَلَ مِن فَقدِ الحوتِ هو ما كنَّا نَطلُبُه؛ فإنَّه علامةٌ لي على مكانِ العبدِ الصَّالحِ، فرجَعا يتتَبَّعانِ آثارَ مَشيِهما حتى انتَهَيا إلى الصَّخرةِ التي فقدا الحوتَ عندها، فوجدَا هناك عبدًا صالحًا من عبادِنا -هو الخَضِرُ عليه السلامُ- آتيناه رحمةً مِن عِندِنا، وعَلَّمْناه مِن لدنَّا عِلمًا عَظيمًا نافِعًا. قال له موسى: أتأذَنُ لي أن أتَّبِعَك؛ لتُعَلِّمَني من العِلمِ الذي علَّمَك اللهُ إيَّاه ما أهتدي به إلى الصَّوابِ ؟ قال له الخَضِرُ: إنَّك -يا موسى- لن تُطيقَ أن تصبِرَ على اتِّباعي ومُلازَمتي، وكيف لك الصَّبرُ على ما سأفعَلُه مِن أمورٍ تَخفى عليك ممَّا عَلَّمَني اللهُ تعالى إياه؟! قال له موسى: ستَجِدُني إن شاء اللهُ صابِرًا على ما أراه منك، ولا أخالِفُ لك أمرًا تأمُرُني به. فقال له الخَضِرُ: فإنْ صاحَبْتَني فلا تسألْني عن شَيءٍ تُنكِرُه حتى أخبِرَك به دونَ سؤالٍ منك.

تفسير الآيات:

 

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

بعدَ أن ذكَرَ الله سُبحانَه قَصَصَ المُشرِكين الذين افتَخَروا على فُقَراءِ المؤمِنينَ بكَثرةِ الأموالِ والأنصارِ، وامتَنَعوا عن حضورِ مجلِسِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لئلَّا يشتَرِكوا معهم فى مجلسٍ واحدٍ- قفَّى على ذلك بذِكرِ قَصَصِ موسى عليه السَّلامُ مع الخَضِر؛ لِيبيِّنَ بها أنَّ موسى مع كونِه نبيًّا صادِقًا أرسَلَه اللهُ إلى بني إسرائيلَ بشيرًا ونذيرًا، وهو كليمُ اللهِ- أُمِرَ أن يذهَبَ إلى الخَضِرِ ليتعَلَّمَ منه ما لم يعلَمْه، وفى ذلك دليلٌ على أنَّ التواضُعَ خيرٌ مِن التكبُّرِ

.

وأيضًا فإنه لَمَّا جَرى ذِكرُ قصَّةِ خَلْقِ آدمَ وأمْرِ اللهِ الملائكةَ بالسُّجودِ له، وما عَرَضَ للشَّيطانِ مِن الكِبْرِ والاعتِزازِ بعُنصُرِه؛ جهلًا بأسبابِ الفضائلِ، ومُكابَرةً في الاعْتِرافِ بها، وحسَدًا في الشَّرفِ والفَضْلِ، فضرَب بذلك مَثلًا لأهلِ الضَّلال عَبيدِ الهَوى والكِبْرِ والحسَدِ، أعقَب تلك القِصَّةَ بقِصَّةٍ هي مَثلٌ في ضِدِّها؛ لأنَّ تَطلُّبَ ذي الفضلِ والكمالِ للازديادِ منهما وسَعْيِه للظَّفرِ بمَن يُبلِّغُه الزِّيادةَ مِن الكَمالِ، اعتِرافًا للفاضلِ بفَضيلتِه. وفي ذلك إبداءُ المقابَلةِ بين الخلقَيْن، وإقامةُ الحُجَّةِ على المماثَلةِ والمخالَفةِ بين الفريقَينِ المؤمنِين والكافِرين، وفي خلالِ ذلك تَعليمٌ وتنويهٌ بشَأنِ العِلم والهُدى، وتربيةٌ للمتَّقين .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حينَ قال موسَى لفتاه يُوشَعَ بنِ نون : لا أزالُ أسيرُ في طَلَبِ العَبدِ الذي أخبَرَني اللهُ بعِلمِه وفَضلِه، حتى أصِلَ إلى مَوضِعِ مُلتقَى البَحرينِ الذي أعرِفُه فألقاه هناك .

عن عُبَيدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ بنِ مَسعودٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّه تمارى هو والحُرُّ بنُ قَيسِ بنِ حصنٍ الفَزاريُّ في صاحِبِ موسى، فمَرَّ بهما أُبيُّ بنُ كَعبٍ، فدعاه ابنُ عبَّاسٍ فقال: إنِّي تماريتُ أنا وصاحبي هذا في صاحِبِ موسى الذي سأل السَّبيلَ إلى لُقِيِّه، هل سَمِعتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يذكُرُ شَأنَه؟ فقال أُبيٌّ: نعم، سَمِعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَذكُرُ شأنَه يقول: ((بينَما موسَى في ملإٍ مِن بني إسرائيلَ، إذ جاءه رجُلٌ فقال: أتعلَمُ أحدًا أعلَمَ منك؟ قال موسى: لا، فأوحى اللهُ عزَّ وجَلَّ إلى موسى: بلى، عَبدُنا خَضِرٌ، فسأل السَّبيلَ إلى لُقِيِّه، فجعَلَ اللهُ له الحوتَ آيةً، وقيل له: إذا فقَدْتَ الحُوتَ فارجِعْ فإنَّك ستلقاه، فكان موسى صَلَّى اللهُ عليه يَتبَعُ أثَرَ الحوتِ في البَحرِ، فقال فتى موسى لموسى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، قال موسى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فوجدا خَضِرًا، فكان من شأنِهما ما قصَّ اللهُ في كتابِه )) .

وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، قال: قلتُ لابنِ عَبَّاسٍ: إنَّ نَوْفًا البِكَاليَّ يزعُمُ أنَّ موسى صاحِبَ الخَضِرِ ليس هو موسى صاحِبَ بني إسرائيلَ! فقال ابنُ عبَّاسٍ: كذَبَ عَدُوُّ اللهِ ، حدَّثَني أُبيُّ بنُ كعبٍ أنَّه سَمِعَ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ موسى قام خطيبًا في بني إسرائيلَ، فسُئِلَ: أيُّ النَّاسِ أعلَمُ؟ فقال: أنا، فعتَب اللهُ عليه؛ إذ لم يَرُدَّ العِلمَ إليه، فأوحى اللهُ إليه: إنَّ لي عبدًا بمَجمَعِ البَحرينِ هو أعلَمُ منك. ..)) فذكَر الحديثَ إلى أن قال: ((رجعا يَقُصَّانِ آثارَهما حتى انتَهَيا إلى الصَّخرةِ، فإذا رجلٌ مُسجًّى ثوبًا فسَلَّمَ عليه موسى، فقال الخَضِرُ: وأنَّى بأرضِك السَّلامُ؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيلَ؟ قال: نعم، أتيتُك لتعَلِّمَني مما عُلِّمْتَ رُشدً ا...)) الحديث .

أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا.

أي: أو أسيرَ زمانًا طَويلًا -إن لم أظفَرْ به في مجمَعِ البَحرينِ الذي أعرِفُه- حتى أجِدَه؛ لأتعَلَّمَ منه ما لا أعلَمُ .

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61).

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا.

أي: فلمَّا وصَلَ موسى وفتاه إلى مكانِ اجتِماعِ البَحرينِ نَسِيَا حوتَهما الذي جعَلَه اللهُ علامةً على وجودِ الخَضِرِ في المكانِ الذي يَفقِدانِه فيه .

فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا.

أي: فشقَّ الحوتُ طريقَه الذي سلَكَه في البَحرِ نفقًا ظاهرًا في الماءِ، لا يَلتَئِمُ بعده !

وفي حديثِ قِصَّةِ موسى والخَضِرِ: ((وتَضَرَّبَ الحوتُ حتى دخل البَحرَ ، فأمسك اللهُ عنه جَريةَ البَحرِ، حتى كأنَّ أثَرَه في حَجَرٍ -قال لي عَمرٌو -: هكذا كأنَّ أثَرَه في حَجَرٍ، وحَلَّقَ بين إبهامَيه واللَّتَينِ تليانِهما )) .

وفي لفظٍ آخَرَ: ((... أوحى اللهُ إليه: إنَّ لي عبدًا بمَجمَعِ البَحرينِ هو أعلَمُ منك، قال موسى: يا ربِّ فكيف لي به، قال: تأخُذُ معك حوتًا فتَجعَلُه في مِكتَلٍ ، فحيثما فقدْتَ الحوتَ فهو ثَمَّ، فأخذ حوتًا فجعله في مِكتَلٍ، ثم انطلق وانطلَقَ معه بفتاه يوشَعَ بنِ نون، حتى إذا أتيا الصخرةَ وَضَعا رؤوسَهما فناما، واضطرب الحوتُ في المِكتَل، فخرج منه فسَقَط في البَحرِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وأمسك اللهُ عن الحوتِ جريةَ الماءِ، فصار عليه مِثلَ الطَّاقِ ، فلمَّا استيقظ نَسِيَ صاحِبُه أن يخبِرَه بالحوتِ، فانطلقا بقيَّةَ يَومِهما وليلَتَهما )) .

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62).

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا.

أي: فلمَّا جاوز موسى وفتاه مجْمَعَ البَحرينِ الذي نسِيا فيه الحوتَ، قال موسى لفتاه: أحضِرْ طعامَنا لنأكُلَ منه فنتقَوَّى به .

لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا.

أي: لقد وجَدْنا في سَفَرِنا هذا تعبًا ومَشقَّةً .

وفي قصةِ موسى والخضرِ من حديثِ أُبيِّ بنِ كعبٍ رضي اللهُ عنه: ((قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قال: ولم يجِدْ موسى النَّصَبَ حتى جاوَزا المكانَ الذي أمَرَ الله به )) !

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63).

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ.

أي: قال يُوشَعُ لموسى: أرأيتَ حينَ أقَمْنا عندَ الصَّخرةِ التي في مَجمَعِ البَحرينِ، فإنِّي نَسِيتُ الحوتَ في ذلك المكانِ !

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أُبيِّ بنِ كعبٍ رضي اللهُ عنه: ((قال: فبينما هو في ظِلِّ صَخرةٍ في مَكانٍ ثَرْيانَ ، إذ تضرَّبَ الحوتُ وموسى نائمٌ، فقال فتاه: لا أوقِظُه، حتى إذا استيقظ نَسِيَ أن يخبِرَه، وتضرَّبَ الحوتُ حتى دخل البحرَ، فأمسك اللهُ عنه جَريةَ البَحرِ، حتى كأنَّ أثَرَه في حَجَرٍ )) .

وفي روايةٍ: ((قال: فانطلق هو وفتاه حتى انتَهَيا إلى الصَّخرةِ، فعُمِّيَ عليه، فانطلق وترك فتاه، فاضطرب الحوتُ في الماء، فجعل لا يلتَئِمُ عليه، صار مِثلَ الكَوَّةِ، قال فقال فتاه: ألا ألحَقُ نبيَّ الله فأخبِرَه؟ قال: فنُسِّيَ )) .

وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ.

أي: وما أنساني أن أذكُرَ الحُوتَ إلَّا الشَّيطانُ .

وفي حديثِ قِصَّةِ موسى والخَضِر: ((ذكَّر -أي: موسى عليه السَّلامُ- النَّاسَ يومًا حتى إذا فاضت العيونُ، ورَقَّت القلوبُ، ولَّى، فأدركه رجلٌ فقال: أيْ رسولَ اللهِ، هل في الأرضِ أحَدٌ أعلَمُ منك؟ قال: لا، فعَتَب عليه؛ إذْ لم يرُدَّ العِلمَ إلى اللهِ، قيل: بلى، قال: أيْ رَبِّ، فأين؟ قال: بمجمَعِ البَحرينِ، قال: أيْ ربِّ، اجعَلْ لي عِلمًا أعلَمُ ذلك به -فقال لي عمرو - قال: حيث يفارِقُك الحوتُ -وقال لي يَعلى - قال: خُذْ نونًا ميِّتًا، حيث يُنفَخُ فيه الرُّوحُ، فأخذ حوتًا فجعَلَه في مِكْتَلٍ، فقال لِفَتاه: لا أكلِّفُك إلَّا أن تخبِرَني بحيث يفارِقُك الحوتُ، قال: ما كَلَّفْتَ كثيرًا؛ فذلك قولُه جلَّ ذِكرُه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ يُوشَعَ بنِ نونٍ )) .

وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا.

أي: واتَّخَذ الحوتُ طريقَه الذي سلَكه في البحرِ عجبًا .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعب رضي الله عنه: ((... واضطربَ الحوتُ في المِكتَلِ، فخرج منه فسقَطَ في البَحرِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، وأمسك اللهُ عن الحوتِ جَريةَ الماء، فصار عليه مِثلَ الطَّاقِ... قال: فكان للحُوتِ سَرَبًا، ولموسى ولفتاه عجَبًا )) .

وفي حديث أبيِّ بنِ كعبٍ أيضًا، في روايةٍ: ((ولم يَجِدْ موسَى النَّصَبَ حتَّى جاوَز حيثُ أمَرَه اللَّهُ، قالَ له فَتاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبًا فكانَ للحُوتِ سَرَبًا، ولهما عَجَبًا )) .

قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64).

قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ.

أي: قال موسى لفتاه: فقْدُ الحوتِ هو ما نَطلُبُه في سَفَرِنا؛ حيث نَجِدُ الرجُلَ الذي نبحَثُ عنه في المكانِ الذي فقَدْنا فيه الحوتَ .

فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا.

أي: فرجَعَ موسى وفتاه من الطريقِ الذي أتَيَا منه يتتَبَّعانِ آثارَ سَيرِهما؛ لِيَصِلا إلى الصَّخرةِ التي فقدا الحوتَ عندها .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ: ((... فقال موسى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، قال: رجعا يقُصَّانِ آثارَهما ...)) .

فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65).

فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا.

أي: فوجد موسى وفتاه عندَ الصَّخرةِ عَبدًا مِن عبادِ اللهِ -وهو الخَضِرُ - وهَبْنا له مِن عِندِنا رَحمةً واسعةً عَظيمةً .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيٍّ رضي الله عنه: ((... فقال موسى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، قال: رجعا يقُصَّانِ آثارَهما حتى انتَهَيا إلى الصَّخرةِ، فإذا رجلٌ مُسجًّى ثوبًا، فسَلَّمَ عليه موسى)) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما سُمِّي الخَضِرَ؛ أنَّه جلَس على فَروةٍ بَيضاءَ، فإذا هي تهتَزُّ مِن خَلفِه خَضراءَ) ) .

وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا.

أي: وعَلَّمْنا عَبْدَنا الخَضِرَ مِن عِندِنا عِلمًا نافِعًا خَصَصْناه به، ومن ذلك ما أطلَعَه اللهُ عليه مِن عِلمِ الغَيبِ .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيٍّ رضي الله عنه: ((... قال له الخَضِر: يا موسى، إنَّك على عِلمٍ مِن عِلمِ اللهِ عَلَّمَكَه اللهُ لا أعلَمُه، وأنا على علمٍ مِن عِلمِ اللهِ عَلَّمَنيه اللهُ لا تَعلَمُه... قال: ووقع عُصفورٌ على حَرفِ السَّفينةِ فغَمَس مِنقارَه في البَحرِ، فقال الخَضِرُ لموسى: ما عِلمُك وعِلمي وعِلمُ الخلائِقِ في عِلمِ اللهِ إلَّا مِقدارُ ما غَمَس هذا العُصفورُ مِنقارَه!! )) .

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66).

أي: قال موسى للخَضِرِ: هل أصحَبُك لتعَلِّمَني مِمَّا عَلَّمَك اللهُ عِلمًا أهتدي به إلى الصَّوابِ ؟

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيٍّ: ((... أتيتُك لتعَلِّمَني مما عُلِّمْتَ رُشدًا، قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا يا موسى، إنِّي على عِلمٍ مِن عِلمِ اللهِ عَلَّمَنيه لا تَعلَمُه أنت، وأنت على علمٍ مِن عِلمِ اللهِ عَلَّمَكَه اللهُ لا أعلَمُه )) .

قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67).

أي: قال الخَضِرُ لموسى: إنَّك لن تُطيقَ الصَّبرَ على اتِّباعي؛ لِما تراه مِن أفعالي التي ظاهِرُها مُنكَرٌ، وباطِنُها بخلافِ ذلك .

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68).

أي: وكيف تَصبِرُ -يا موسى- على إقراري على فِعلِ ما تظنُّه مُنكَرًا، وأنت لا تعلَمُ وَجهَ صَوابِه، ولا الحِكمةَ مِن فِعلي له، ولا مَصلحَتَه الباطِنةَ التي أُطلِعْتُ عليها دونَك ؟!

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا شيءٌ أُمِرتُ به أن أفعَلَه، إذا رأيتَه لم تَصبِرْ ) ) .

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69).

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا.

أي: قال موسى للخَضِر: ستَجِدُني -إن شاء اللهُ- صابِرًا على ما أرى منك، وإن كان على خلافِ ما أراه صَوابًا .

وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا.

أي: ولا أخالِفُك في أيِّ شَيءٍ تأمُرُني به .

قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70).

قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ.

أي: قال الخَضِرُ لموسى: فإنْ صَحِبْتَني فلا تبتَدِئْني بالسُّؤالِ عن أيِّ شَيءٍ أفعَلُه مِمَّا تَستَنكِرُه .

حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا.

أي: لا تَسأَلْني أبدًا إلى أن أُخبِرَك عن سَبَبِ فِعلي الذي تَستَنكِرُه، وأبَيِّنَ لك حقيقَتَه، ووجهَ صَوابِه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا... فموسَى عليه السلامُ رحَل مسافةً طويلةً، ولقِي النَّصَبَ في طلبِ العلمِ، وفي ذلك دَليلٌ على فضيلةِ العلمِ، والحَثِّ على الرِّحلةِ في طَلَبِه

، واغتنامِ لِقاءِ الفُضَلاءِ والعُلَماءِ وإن بَعُدت أقطارُهم، وذلك كان دأبَ السَّلَفِ الصَّالحِ، وبسبَبِ ذلك وصلَ المرتَحِلونَ إلى الحَظِّ الرَّاجِحِ، وحصَلوا على السَّعيِ النَّاجِحِ، فرسَخَت لهم في العُلومِ أقدامٌ، وصَحَّ لهم مِن الذِّكرِ والأجرِ والفَضلِ أفضَلُ الأقسامِ؛ قال البخاريُّ : ورحل جابرُ بنُ عبدِ اللهِ مَسيرةَ شَهرٍ إلى عبدِ اللهِ بنِ أُنَيسٍ في حديثٍ !

2- قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا هذا إخبارٌ مِن موسى بأنَّه وطَّن نَفسَه على تحمُّلِ التَّعَبِ الشَّديدِ والعَناءِ العَظيمِ في السَّفَرِ لأجلِ طَلَبِ العِلمِ، وذلك تنبيهٌ على أنَّ المتعَلِّمَ لو سافرَ مِن المَشرِق إلى المَغربِ لطَلَبِ مَسألةٍ واحدةٍ، لَحَقَّ له ذلك .

3- قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا... رحَل موسَى عليه السلامُ لطلبِ العلمِ، وترَك القعودَ عندَ بني إسرائيلَ؛ لتعليمِهم وإرشادِهم، وفي ذلك دليلٌ على البداءةِ بالأهمِّ فالأهمِّ؛ فإنَّ زيادةَ العلمِ، وعلم الإنسانِ: أهمُّ مِن تركِ ذلك، والاشتغالِ بالتعليمِ مِن دونِ تزوُّدٍ مِن العلمِ، والجمعُ بينَ الأمرينِ أكملُ .

4- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ فيه أنَّ المُسافِرَ لطَلَبِ عِلمٍ أو جِهادٍ أو نحوِه، إذا اقتَضَت المَصلحةُ الإخبارَ بمَطلَبِه، وأين يُريدُه، فإنَّه أكمَلُ مِن كَتمِه؛ فإنَّ في إظهارِه فوائِدَ، مِن الإعدادِ له عُدَّتَه، وإتيانِ الأمرِ على بصيرةٍ، وإظهارِ شَرَفِ هذه العبادةِ الجَليلةِ .

5- إسنادُ النِّسيانِ إليهما في قولِه تعالى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا حقيقةٌ -على أحد القولين-؛ لأنَّ يوشَعَ وإن كان هو الموكَّلَ بحِفظِ الحوتِ، فكان عليه مراقبَتُه، إلَّا أنَّ موسى هو القاصِدُ لهذا العَمَلِ، فكان يُهِمُّه تَعهُّدُه ومراقَبتُه؛ وهذا يدُلُّ على أنَّ صاحِبَ العَمَلِ أو الحاجةِ إذا وكَلَه إلى غيرِه، لا ينبغي له تَركُ تعَهُّدِه .

6- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا فيه استحبابُ إطعامِ الإنسانِ خادِمَه مِن مأكَلِه، وأكلِهما جميعًا؛ لأنَّ ظاهِرَ قَولِه: آتِنَا غَدَاءَنَا إضافةً إلى الجَميعِ: أنَّه أكل هو وخادِمُه جميعًا .

7- قولُ الله تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا فيه أنَّ المعونةَ تَنزِلُ على العَبدِ على حَسَبِ قيامِه بالمأمورِ به، وأنَّ الموافِقَ لأمرِ اللهِ يُعانُ ما لا يُعانُ غَيرُه ، فقد قال أهلُ العلمِ: إنَّ هذا مِن آياتِ الله؛ فقد سارا قبلَ ذلك مسافةً طويلةً ولم يتعَبا، ولمَّا جاوزا المكانَ الذي فيه الخَضِرُ، تعِبا سريعًا مِن أجلِ ألا يتمادَيا في البعدِ عن المكانِ ؛ لأنَّ الله ميسرٌ أسبابَ الامتثالِ لأوليائِه .

8- لَمَّا سافَرَ موسَى إلى الخَضِرِ وجَدَ في طريقِه مَسَّ الجُوعِ والنَّصَبِ، فقال لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا فإنَّه سفَرٌ إلى مخلوقٍ، ولَمَّا واعده ربُّه ثلاثين ليلةً وأتمَّها بعشرٍ، فلم يأكُلْ فيها، لم يجِدْ مَسَّ الجوعِ ولا النَّصَبِ؛ فإنَّه سفَرٌ إلى رَبِّه تعالى. وهكذا سَفَرُ القلبِ وسَيرُه إلى رَبِّه؛ لا يجِدُ فيه مِن الشَّقاءِ والنَّصَبِ ما يجِدُه في سَفَرِه إلى بعضِ المخلوقينَ .

9- في قولِه: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ حُسنُ أدَبٍ؛ حيثُ نسَب النِّسيانَ إلى المتسبِّبِ فيه بوَسْوستِه ، وهو الشيطانُ، فمِن وسوستِه أن يشغَلَ القلبَ بحديثِه حتى ينسيَه ما يريدُ أن يفعلَه، ولهذا يُضاف النسيانُ إليه إضافتَه إلى سببِه ، والشرُّ وأسبابُه وسائرُ الأمورِ المكروهةِ تُنسَبُ إلى الشيطانِ؛ تأدُّبًا عن نسبتِها إلى اللهِ تعالى، وإن كان الكُلُّ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه .

10- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا فيه دليلٌ على التواضُعِ للعالمِ ، فموسَى عليه السلامُ راعى في ذلك غايةَ التَّواضُعِ والأدَبِ، فاستجهَل نفْسَه، واستأذَن أن يَكونَ تابِعًا له، وسأَل مِنه أن يُرشِدَه ويُنعِمَ عليه بتَعليمِ بعضِ ما أنعَم اللهُ عليه .

11- قال قتادة: (لو كان أحدٌ يكتفي مِن العِلمِ بشَيءٍ، لاكتفى موسى عليه السَّلامُ، ولكنَّه قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) .

12- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا فيه دليلٌ على حُسنِ التلَطُّفِ والاستنزالِ، والأدَبِ في طَلَبِ العِلمِ ، فقال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا فأخرَج الكلامَ بصورةِ الملاطفةِ والمشاورةَ، وأنَّك هل تأذنُ لي في ذلك أو لا، وإقرارُه بأنَّه يتعلمُ منه، بخلافِ ما عليه أهلُ الجفاءِ أو الكبرِ، لا يُظهِرُ الواحدُ منهم للمعلِّمِ افتقارَه إلى علمِه، بل يدَّعي أنَّه يتعاونُ هو وإيَّاه، بل ربَّما ظنَّ أنَّه يُعَلِّمُ معلِّمَه، وهو جاهلٌ جدًّا، فالذلُّ للمعلِّمِ، وإظهارُ الحاجةِ إلى تعليمِه، مِن أنفعِ شيءٍ للمتعلِّمِ ، وبَيَّنَ موسى عليه السلامُ أنَّه لا يَطلُبُ من الخضر غيرَ العِلمِ، بقَولِه: عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ، وزاد في التلَطُّفِ بالإشارةِ إلى أنَّه لا يَطلُبُ جميعَ ما عِندَه لِيَطولَ عليه الزَّمانُ، بل جوامِعَ منه يسترشِدُ بها إلى باقيه، فقال: مِمَّا عُلِّمْتَ .

13- قول اللهِ تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ حقَّ المعلِّمِ على المتعلِّمِ اتِّباعُه والاقتداءُ به . وفيه دَليلٌ على أنَّ المتعَلِّمَ تَبَعٌ للعالمِ، وإن تفاوَتَت المراتِبُ .

14- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا فيه المُسافَرةُ مع العالمِ؛ لاقتباسِ فوائِدِه .

15- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا فيه تواضُعُ الفاضِلِ للتعَلُّمِ ممَّن دُونَه؛ فإنَّ موسى-بلا شَكٍّ- أفضَلُ مِن الخَضِر .

16- قال بعضُ أهلِ العِلمِ: (إنَّ فيما عاناه موسى مِن الدَّأبِ والسَّفَرِ، وصَبَر عليه من التواضُعِ والخُضوعِ للخَضِر بَعدَ مُعاناةِ قَصْدِه، مع محلِّ موسى مِن اللهِ ومَوضِعه مِن كرامتِه، وشَرفِ نُبُوَّتِه- دَلالةً على ارتفاعِ قَدرِ العِلمِ، وعلوِّ مَنزلةِ أهلِه، وحُسنِ التواضُعِ لِمن يُلتَمَس منه ويُؤخَذ عنه، ولو ارتفع عن التواضُعِ لِمخلوقٍ أحدٌ، بارتفاعِ دَرجةٍ، وسُمُوِّ منزلةٍ؛ لسبق إلى ذلك موسى، فلما أظهرَ الجِدَّ والاجتهادَ، والانزعاجَ عن الوطنِ، والحِرصَ على الاستفادةِ، مع الاعترافِ بالحاجةِ إلى أن يَصِلَ من العلمِ إلى ما هو غائبٌ عنه؛ دلَّ على أنَّه ليس في الخَلقِ مَن يعلو على هذه الحالِ، ولا يَكبُرُ عنها) .

17- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا فيه تعَلُّمُ العالِمِ الفاضِلِ للعِلمِ الذي لم يتمَهَّرْ فيه، ممَّن مهَرَ فيه، وإن كان دونَه في العِلمِ بدَرَجاتٍ كثيرةٍ؛ فإنَّ موسى -عليه السَّلامُ- مِن أُولي العَزمِ مِن المُرسَلينَ الذين منحَهم اللهُ وأعطاهم من العِلمِ ما لم يُعطِ سِواهم، ولكِنْ في هذا العِلمِ الخاصِّ كان عند الخَضِر ما ليس عندَه؛ فلهذا حَرَص على التعَلُّمِ منه .

18- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا فيه إضافةُ العِلمِ وغيرِه مِن الفضائِلِ لله تعالى، والإقرارُ بذلك، وشُكرُ الله عليها؛ لِقَولِه: عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ أي: ممَّا عَلَّمَك اللهُ تعالى .

19- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا فيه أنَّ العِلمَ النَّافِعَ هو العِلمُ المُرشِدُ إلى الخيرِ، فكُلُّ عِلمٍ يكونُ فيه رُشدٌ وهدايةٌ لطُرقِ الخيرِ، وتحذيرٌ عن طريقِ الشَّرِّ، أو وسيلةٌ لذلك؛ فإنَّه مِن العِلمِ النَّافِعِ، وما سوى ذلك فإمَّا أن يكونَ ضارًّا، أو ليس فيه فائِدةٌ .

20- قَولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا في هذا أصلٌ مِن أصولِ التَّعليمِ: أن يُنَبِّهَ المعلِّمُ المتعَلِّمَ بعوارِضِ مَوضوعاتِ العُلومِ المُلَقَّنةِ، لا سيَّما إذا كانت في معالجَتِها مَشقَّةٌ .

21- قولُ الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا فيه أنَّ مَن ليس له قُوَّةُ الصبرِ على صُحبةِ العالِمِ والعِلمِ، وحُسنِ الثَّباتِ على ذلك، أنَّه يفوتُه بحَسَبِ عَدَمِ صَبرِه كثيرٌ مِن العِلمِ؛  فمَن لا صَبْرَ له لا يُدرِك العِلمَ، ومن استعمل الصَّبرَ ولازَمَه، أدرك به كُلَّ أمرٍ سعى فيه؛ لِقَولِ الخَضِر يَعتَذِرُ من موسى بذِكرِ المانِعِ لموسى في الأخذِ عنه: إنَّه لا يصبِرُ معه .

22- السَّبَبُ الكبيرُ لحُصولِ الصَّبرِ على أمرٍ ما، هو إحاطةُ الإنسانِ عِلمًا وخِبرةً بذلك الأمرِ الذي أُمِرَ بالصَّبرِ عليه، وإلَّا فالذي لا يَدريه، أو لا يَدري غايتَه ولا نتيجَتَه، ولا فائِدَتَه وثمَرتَه، ليس عنده سَبَبُ الصبرِ عليه؛ نستفيدُ ذلك مِن قَولِ الخَضِرِ لموسى عليه السَّلامُ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا فجعَلَ المُوجِبَ لعدَمِ صَبرِه عَدَمَ إحاطتِه خُبرًا بالأمرِ .

23- قَولُ الخَضِر لموسى عليه السَّلامُ: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا نِسبةٌ إلى قِلَّةِ العِلمِ والخُبرِ، وقَولُ موسى له: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا تواضُعٌ شديدٌ وإظهارٌ للتحَمُّلِ التامِّ والتواضُعِ الشَّديدِ، وكلُّ ذلك يدُلُّ على أنَّ الواجِبَ على المتعَلِّم إظهارُ التواضُعِ بأقصى الغاياتِ، وأمَّا المعَلِّمُ فإنْ رأى أنَّ في التَّغليظِ على المتعَلِّمِ ما يفيدُه نفعًا وإرشادًا إلى الخيرِ، فالواجِبُ عليه ذِكرُه؛ فإنَّ السُّكوتَ عنه يُوقِعُ المتعَلِّمَ في الغُرورِ والنَّخوةِ، وذلك يمنَعُه من التعَلُّمِ .

24- نَستفيدُ مِن قَولِه تعالى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا  تعليقَ الأمورِ المُستقبليَّةِ التي من أفعالِ العِبادِ بالمَشيئةِ، وألَّا يقولَ الإنسانُ للشَّيءِ: إني فاعِلٌ ذلك في المُستَقبلِ، إلَّا أن يقولَ: (إنْ شاء الله) .

25- قَولُ الله تعالى: قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فيه الأمرُ بالتَّأنِّي والتثَبُّت، وعَدَمُ المبادرةِ إلى الحُكمِ على الشَّيءِ حتى يُعرَفَ ما يُرادُ منه وما هو المَقصودُ .

26- في قَولِه تعالى: قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا هذا توجيهٌ مِن مُعَلِّمٍ لِمَن يتعلَّمُ منه؛ ألَّا يَتعجَّلَ في الرَّدِّ على معلِّمِه، بل ينتظرُ حتى يُحدِثَ له بذلك ذِكْرًا، وهذا مِن آدابِ المُتَعَلِّم؛ ألَّا يَتَعَجَّلَ في الرَّدِّ حتى يتبيَّنَ الأمْر .

27- في قوله تعالى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا قبولُ نصيحةِ الشيخِ؛ لعلمِه منك ما لا تعلمُه مِن نفسِك، وإن كنتَ أفضلَ منه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا تسميةُ التلميذِ الخادمِ فتًى

.

2- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ فيه مِن الفِقهِ: استِعانةُ العالمِ على رِحلتِه في طَلبِ الازديادِ مِن العِلمِ بالخادِمِ والصَّاحِبِ ، وأنَّه لا بأسَ بالاستخدامِ، واتخاذِ الرقيقِ والخادمِ في السفرِ .

3- في قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا أنَّه يجوزُ على النبيِّ النسيانُ .

4- قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا السَّفَرُ الطَّويلُ الذي وصلا به إلى مجمَعِ البَحرينِ لم يجِدا مَسَّ التَّعَبِ فيه، وهذا مِن الآياتِ والعَلاماتِ الدالَّةِ لموسى على وجودِ مَطلَبِه، وأيضًا فإنَّ الشَّوقَ المتعَلِّقَ بالوصولِ إلى ذلك المكانِ سَهَّلَ لهما الطَّريقَ، فلمَّا تجاوَزا غايتَهما وجَدَا مَسَّ التَّعَبِ .

5- قَولُ الله تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا فيه اتِّخاذُ الزَّادِ للسَّفَرِ، وأنَّه لا يُنافي التوكُّلَ، وهو رَدٌّ على الصُّوفيَّةِ الجَهَلةِ الأغْمار، الذين يقتَحِمونَ المَهامِهَ والقِفارَ، زعمًا منهم أنَّ ذلك هو التوكُّلُ على اللهِ الواحِدِ القَهَّارِ؛ هذا موسى نبيُّ اللهِ وكَليمُه مِن أهلِ الأرضِ قد اتَّخَذ الزادَ، مع مَعرِفتِه برَبِّه وتوكُّلِه على رَبِّ العِبادِ .

6- يقولُ الله تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا فيه جوازُ إخبارِ الإنسانِ عَمَّا هو مِن مُقتضى طبيعةِ النَّفسِ؛ مِن نَصَبٍ أو جُوعٍ أو عَطَشٍ، إذا لم يكُنْ على وجهِ التسَخُّطِ، وكان صِدقًا .

7- قَولُ الله تعالى: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا فيه سؤالٌ: كيف نسي يوشَعُ ذلك، ومِثلُه لا يُنسَى؛ لكَونِه أمارةً لهما على الطَّلِبةِ التي تناهَضا من أجلِها، ولكونِه مُعجِزةً؟ ثمَّ كيف استمَرَّ به النسيانُ حتى خَلَّفا الموعِدَ، وحتى طلب موسى عليه السَّلامُ الحوتَ؟

الجوابُ من وجوهٍ:

الأول: أنَّه قد شَغَله الشيطانُ بوساوسِه، فذهب بفِكرِه كُلَّ مَذهَبٍ، حتى اعتراه النِّسيانُ .

الثاني: أَنَّ يُوشَعَ كان قد شاهَدَ المعجزاتِ القاهرةَ مِنْ موسَى عليه السَّلامُ كثيرًا، فلم يَبْقَ لهذه المعجزةِ عندَه وَقعٌ عظيمٌ؛ فجاز حصولُ النِّسيان.

الثالث: أنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا استعظم عِلمَ نَفسِه، أزال الله عن قَلبِ صاحِبِه هذا العِلمَ الضَّروريَّ؛ تنبيهًا لِموسى عليه السلام على أنَّ العِلمَ لا يحصُلُ إلَّا بتعليمِ اللهِ وحِفظِه على القَلبِ والخاطِرِ .

8- في قوله تعالى -عن فتى موسى: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ حجةٌ في إجازة «أرأيتَ» في المخاطبات؛ وإباحتِه في المحاورات، وردٌّ على مَن ينكرُ اللفظةَ في نفْسِها مِن أَجْلِ استعمال أهلِ الرأي لها، وقد ذكرها اللهُ تعالى عن نفْسِه في غيرِ موضعٍ مِن كتابه فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ [الأنعام: 46] . وأمَّا قولُ الشعبيِّ رحمه اللهُ: (بَغَّض هذا المسجدَ إليَّ الأرأيتيُّونَ: أرأيتَ أرأيتَ)؛ فإنما أنْكَر منهم مرادَهم به، لا نفسَ الكلمةِ .

9- نسيانُ الخيرِ يكونُ مِن الشيطانِ؛ قال الله تعالى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ، وقال تعالى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] ، وقال: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يوسف: 42] ، وقال أيضًا: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة: 19] .

10- دلَّ قولُه تعالى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا على أنَّ العِلْمَ غيرُ مقسومٍ على فضائلِ الرِّجالِ ودَرَجاتِهم عندَ الله، حتى يكونَ مَن هو أعظمُ فضلًا في عَمَلِه ودَرَجتِه أعلمَ في دِينِه، أو أنَّه غيرُ جائزٍ أنْ يكونَ الأدْوَنُ في الفَضلِ أعلمَ في أشياءَ ممَّن فَوقَه في درجةِ الفَضلِ، وإنَّما العِلمُ مَوهبةٌ مِن مواهبِ اللهِ يَخُصُّ به مَن يشاءُ مِن عبادِه، ويُفَضِّلُ بعضَهم على بعضٍ فيه .

11- قولُ الله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا يُؤخَذُ منه جوازُ التَّعاقُدِ على تعليمِ القرآنِ والعلمِ، فصيغةُ: (أفعلُ كذا على كذا)، مِنْ صِيَغِ الالتزامِ والتَّعاقُدِ .

12- قَولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا فيه اعتِذارُ العالمِ إلى مَن يريدُ الأخذَ عنه، في عَدَمِ تعليمِه ما لا يَحتَمِلُه طَبعُه .

13- قَولُه تعالى: قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا حكَمَ عليه بعادةِ الخَلقِ في عَدَمِ الصَّبرِ عمَّا يخرجُ مِن الاعتيادِ، وهو أصلٌ في الحُكمِ بالعادةِ .

14- في قَولِه تعالى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا دَلالةُ على أنَّ الاختيارَ والمستحَبَّ في الاستثناءِ أن يكونَ في ابتداءِ الكلامِ؛ لأنَّ موسى ابتدأَ به، وكذلك قَولُه: وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ [البقرة: 70] فإذا ترَكَه في أوَّلِ كلامِه أو نَسِيَ، يَستثني في آخِرِه .

15- قولُه تعالى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا فيه دليلٌ على أنَّ أفعالَ العبادِ واقعةٌ بمشيئةِ اللهِ تعالى .

16- قَولُ الله تعالى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا فيه أنَّ العَزمَ على فِعلِ الشَّيءِ ليس بمَنزلةِ فِعلِه؛ فإنَّ موسى عليه السَّلامُ قالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، فوطَّنَ نَفسَه على الصَّبرِ ولم يَفعَلْ .

17- قَولُ الله تعالى: قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فيه جوازُ اشتراطِ المَتبوعِ على التَّابِعِ، وأنَّه يَلزَمُ الوفاءُ بالشَّرطِ .

18- قولُه: قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فيه إيذانٌ بأنَّ كلَّ ما صدَر عنه فله حِكمةٌ وغايةٌ حميدةٌ البتَّةَ .

19- قال تعالى: قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فنهَى الخضرُ موسَى عليه السلامُ عن السُّؤالِ عن شيءٍ ممَّا يُشاهِدُه مِن تَصرُّفاتِه حتَّى يُبيِّنَه له مِن تِلْقاءِ نَفْسِه؛ لأنَّ السُّؤالَ قد يُصادِفُ وقتَ اشتغالِ المسؤولِ بإكمالِ عملِه، فتَضيقُ له نفسُه، فرُبَّما كان الجوابُ عنه بدونِ نشاطِ نفْسٍ، وربَّما خالَطه بعضُ القلقِ، فيكونُ الجوابُ غيرَ شافٍ، فأراد الخَضِرُ أن يتَولَّى هو بيانَ أعمالِه في الإبَّانِ الَّذي يَراه مُناسِبًا؛ ليكونَ البيانُ أبسَطَ، والإقبالُ أبهجَ، فيَزيدَ الاتِّصالُ بينَ القَرينينِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا في سَوْقِ هذه القِصَّةِ تعريضٌ بأهلِ الكتابِ بأنَّ الأوْلَى لهم أن يَدُلُّوا النَّاسَ على أخبارِ أنبياءِ بني إسرائيلَ، وعلى سَفَرٍ لأجلِ تحصيلِ العِلمِ والحِكْمةِ، لا سَفَرٍ لأجْلِ بَسْطِ المُلْكِ والسُّلطانِ

.

- وجملةُ: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ... معطوفةٌ على جُملةِ: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ [الكهف: 50] عَطْفَ القِصَّةِ على القصَّةِ، والتَّقديرُ: واذْكُرْ إذْ قال مُوسى لِفَتاه، أيِ: اذْكُرْ ذلك الزَّمَنَ وما جَرى فيه. وناسَبَها تقديرُ فِعلِ (اذْكُرْ)؛ لأنَّ في هذه القصَّةِ موعِظةً وذِكْرى، كما في قِصَّةِ خَلْقِ آدمَ .

- وابتُدِئَت القصَّةُ بحِكايةِ كلامِ موسى عليه السَّلامُ المقتَضِي تَصميمًا على ألَّا يَزولَ عمَّا هو فيه، أي: لا يَشتَغِلَ بشيءٍ آخَرَ حتَّى يَبلُغَ مَجْمَعَ البحرَينِ، ابتِداءً عَجيبًا في بابِ الإيجازِ. وحُذِف ذِكرُ الغرَضِ الَّذي سارَ لأجْلِه موسى عليه السَّلامُ؛ لأنَّه سيُذكَرُ بعدُ، وهو حَذفُ إيجازٍ وتشويقٍ، له مَوقِعٌ عظيمٌ في حكايةِ القِصَّةِ؛ لإخراجِها عن مَطْروقِ القَصصِ إلى أسلوبِ بديعِ الحِكَمِ والأمثالِ؛ قَضاءً لحقِّ بلاغةِ الإعجازِ .

- قوله: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا عُطِفَ أَمْضِيَ على أَبْلُغَ بـ (أَوْ)، فصارَ المعطوفُ إحْدى غايتَيْنِ للإقلاعِ عن السَّيرِ، أي: إمَّا أن أبلُغَ المكانَ، أو أَمْضيَ زمَنًا طويلًا. ولَمَّا كان موسى لا يُخامِرُه الشَّكُّ في وُجودِ مكانٍ هو مَجمَعٌ للبَحْرينِ، وإلْفاءِ طِلْبَتِه عِندَه؛ لأنَّه عَلِم ذلك بوَحيٍ مِن اللهِ تعالى - تَعيَّن أن يكونَ المقصودُ بحَرفِ التَّرديدِ (أو) تأكيدَ مُضيِّه زمَنًا يتَحقَّقُ فيه الوصولُ إلى مَجمَعِ البحرَين .

2- قوله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا

- قولُه: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا الفاءُ للتَّفريعِ، والفَصيحةُ؛ لأنَّها تُفْصِحُ عن كلامٍ مُقدَّرٍ، أي: فسَارَا حتَّى بَلَغا مَجمعَ البحرَين .

- قولُه: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا شَبَّهَ بالسَّرَبِ مَسْلَكَ الحوتِ في الماء حينَ لم يَنطبِقِ الماءُ بعدَه، بل بَقِي كالطَّاقِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال عزَّ وجلَّ هنا: نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ، وفي الآيةِ الثَّالثةِ: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ [الكهف: 63] ؛ وذلك لأنَّ الفاءَ للتَّعقيبِ والعَطْفِ، فكان اتِّخاذُ الحوتِ للسَّبيلِ عَقِيبَ النِّسيانِ، فذُكِرَ بالفاءِ. وفي الآيةِ الأُخْرى لَمَّا حِيلَ بينَهما بقَولِه: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف: 63] زالَ مَعنى التَّعقيبِ، وبَقي العَطفُ المجرَّدُ، وحَرفُه الواوُ .

3- قولُه تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا

- حُذِفَ مفعولُ جَاوَزَا للعِلْمِ، أي: جاوَزا مَجْمَعَ البحرَين .

- وجملةُ: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا في مَحلِّ التَّعليلِ للأمرِ بإيتاءِ الغَداءِ؛ إمَّا باعتبارِ أنَّ النَّصَبَ إنَّما يَعتَري بسبَبِ الضَّعفِ النَّاشئِ عن الجُوعِ، وإمَّا باعتبارِ ما في أثْناءِ التَّغدِّي مِن استراحةٍ ما .

4- قوله تعالى: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا

- في قولِه: قَالَ أَرَأَيْتَ مُرادُه بالاستفهامِ تَعجيبُ موسى عليه السَّلامُ ممَّا اعْتراه هُناك مِن النِّسيانِ، مع كَونِ ما شاهَدَه مِن العَظائمِ الَّتي لا تَكادُ تُنْسى .

- قولُه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ، ذَكَر الإِواء إليها مع أنَّ المذكورَ فيما سبَق مرَّتَين بُلوغُ مجمَعِ البحرَين؛ لِزيادةِ تَعْيينِ مَحلِّ الحادثةِ؛ فإنَّ المَجمَعَ محلٌّ متَّسِعٌ لا يُمكِنُ تحقيقُ المرادِ المذكورِ بنِسْبةِ الحادثةِ إليه، ولِتَمهيدِ العُذرِ؛ فإنَّ الإواءَ إليها، والنَّومَ عِندَها ممَّا يُؤدِّي إلى النِّسيانِ عادةً .

- قولُه: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فيه تأكيدٌ للتَّعجيبِ، وتربيةٌ لاستِعْظامِ المنسيِّ. وإيقاعُ النِّسيانِ على اسْمِ الحوتِ دونَ ضميرِ الغَداءِ، مع أنَّه المأمورُ بإتيانِه؛ للتَّنبيهِ مِن أوَّلِ الأمرِ على أنَّه ليس مِن قَبيلِ نِسيانِ المسافِرِ زادَه في المنزِلِ، وأنَّ ما شاهَدَه ليس مِن قَبيلِ الأحوالِ المتعلِّقةِ بالغَداءِ مِن حيث هو غَداءٌ وطَعامٌ، بل مِن حيث هو حوتٌ كَسائرِ الحيتانِ، مع زيادةٍ، أي: نَسيتُ أن أَذكُرَ لك أمْرَه، وما شاهَدتُ مِنه مِن الأمورِ العَجيبةِ .

- ووجهُ حَصرِه إسنادَ هذا الإنساءِ إلى الشَّيطانِ: أنَّ ما حَصَل له مِن نسيانٍ أن يُخبِرَ موسى بتِلْك الحادثةِ نِسيانٌ ليس مِن شأنِه أن يقَعَ في زمَنٍ قريبٍ، مع شِدَّةِ الاهتمامِ بالأمرِ المنسيِّ، وشِدَّةِ عنايتِه بإخبارِ نبيِّه به. ومعَ كونِ المنسيِّ أُعْجوبةً شأنُها ألَّا تُنْسى- يتَعيَّنُ أنَّ الشَّيطانَ أَلْهاه بأشياءَ عن أن يتَذكَّرَ ذلك الحادثَ العَجيبَ، وعَلِم يوشَعُ أنَّ الشَّيطانَ يَسوءُه الْتِقاءُ هذَيْن العبدَيْن الصَّالِحَين، وما له مِن الأثرِ في بَثِّ العلومِ الصَّالحةِ؛ فهو يَصرِفُ عنها ولو بتَأخيرِ وُقوعِها؛ طَمَعًا في حُدوثِ العَوائقِ .

- وقولُه: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اعتراضٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه . وقُدِّم على المعطوفِ عليه؛ للاعْتِناءِ بالاعْتِذارِ .

5- قوله تعالى: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا

- قولُه: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا تَنكيرُ عَبْدًا للتَّفخيمِ، والإضافةُ في عِبَادِنَا للتَّشريفِ والاختصاصِ ؛ فوُصِف بأنه مِن عبادِ اللهِ تَشريفًا له، وعَدَل عن الإضافةِ إلى التَّنكيرِ والصِّفةِ؛ لأنَّه لم يَسبِقْ ما يَقْتَضي تعريفَه، وللإشارةِ إلى أنَّ هذا الحالَ الغريبَ العظيمَ الَّذي ذُكِر مِن قصَّتِه ما هو إلَّا مِن أحوالِ عبادٍ كَثيرينَ للهِ تعالى .

- والمخالَفةُ بينَ مِنْ عِنْدِنَا وبينَ مِنْ لَدُنَّا للتَّفنُّنِ؛ تَفادِيًا مِن إعادةِ الكلمةِ .

6- قوله تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤالٍ نشَأ مِن السِّياقِ، كأنَّه قيل: فماذا جَرى بينَهما مِن الكلامِ؟ فقيل: قال له مُوسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ . وجملةُ قَالَ لَهُ مُوسَى ابتداءُ مُحاوَرةٍ، فهو استِئْنافٌ ابتدائيٌّ؛ ولذلك لم يقَعِ التَّعبيرُ بـ (قالَ) مُجرَّدةً عن العاطِفِ . وفي الكلامِ محذوفٌ تقديرُه: فلَمَّا الْتَقيَا وتَراجَعا الكلامَ قال له موسى: هل أتَّبِعُك ؟

- قولُه: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا الاستفهامُ مُستعمَلٌ في العَرْضِ؛ بقَرينةِ أنَّه استِفْهامٌ عن عمَلِ نفسِ المستفهِمِ .

- و(على) مُستعمَلةٌ في معنى الاشْتِراط؛ جعَل الاتِّباع كأنَّه مُستعمَلٌ فوقَ التَّعليمِ؛ لِشِدَّةِ المقارَنةِ بينَهما .

7- قوله تعالى: قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا

- قولُه: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا نَفى عنه استِطاعةَ الصَّبرِ معَه على وُجوهٍ مِن التَّأكيدِ؛ كأنَّها ممَّا لا يَصِحُّ ولا يَستقيمُ، وعَلَّل ذلك واعتذَر عنه بقولِه: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ؛ فأكَّد جملة إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا بحرف (إنَّ) وبحرف (لَن)؛ تَحقيقًا لِمَضمونِها مِن تَوقُّعِ ضِيقِ ذَرْعِ مُوسى عن قَبولِ ما يُبْديه إليه؛ لأنَّه عَلِم أنَّه تَصْدُرُ منه أفعالٌ ظاهِرُها المنكَرُ، وباطِنُها المعروفُ. وهذا تحذيرٌ مِنه لِمُوسى عليه السَّلامُ، وتنبيهٌ على ما يَستقبِلُه منه؛ حتَّى يُقْدِمَ على مُتابَعتِه إنْ شاء على بَصيرةٍ وعلى غيرِ اغْتِرارٍ، وليس المقصودُ منه الإخبارَ ؛ فمَناطُ التَّأكيداتِ في جُملةِ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا إنَّما هو تحقيقُ خُطورةِ أعمالِه وغَرابتِها في المتعارَفِ بحيث لا تُتحَمَّلُ، ولو كان خَبرًا على أصلِه لم يُقبَلْ فيه المراجعةُ، ولم يُجِبْه موسى بقولِه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وزادَها تأكيدًا عُمومُ الصَّبرِ المنفيِّ؛ لِوُقوعِه نَكِرةً في سياقِ النَّفيِ، وأنَّ المنفيَّ استِطاعتُه الصَّبرُ المفيدُ أنَّه لو تَجشَّم أن يَصبِرَ لم يَستطِعْ ذلك، فأفادَ هذا التَّركيبُ نفْيَ حُصولِ الصَّبرِ منه في المستقبَلِ على آكَدِ وجْهٍ .

- وفي زِيادةِ مَعِيَ إيماءٌ إلى أنَّه يَجِدُ مِن أعمالِه ما لا يَجِدُ مِثلَه معَ غيرِه؛ فانْتِفاءُ الصَّبرِ على أعمالِه أجْدَرُ .

8- قوله تعالى: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا

- جُملةُ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا في موضِعِ الحالِ مِن اسْمِ (إنَّ) أو مِن ضميرِ تَسْتَطِيعَ؛ فالواوُ واوُ الحالِ، وليسَت واوَ العطفِ؛ لأنَّ شأنَ هذه الجملةِ ألَّا تُعطَفَ على الَّتي قبْلَها؛ لأنَّ بينَهما كَمالَ الاتِّصالِ؛ إذِ الثَّانيةُ كالعِلَّةِ للأُولى. وإنَّما أُوثِرَ مَجيئُها في صورةِ الجملةِ الحاليَّةِ، دونَ أن تُفصَلَ عن الجملةِ الأُولى فتَقَعَ عِلَّةً، مع أنَّ التَّعليلَ هو المرادُ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ مَضمونَها عِلَّةٌ مُلازِمةٌ لِمَضمونِ الَّتي قبلَها؛ إذْ هي حالٌ مِن المسنَدِ إليه في الجملةِ قبلَها .

- و(كيف) للاستِفْهامِ الإنكاريِّ في معنى النَّفْيِ، أي: وأنتَ لا تَصبِرُ على ما لم تُحِطْ به خُبرًا .

9- قوله تعالى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا

- قولُه: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا أبْلَغُ في ثُبوتِ الصَّبرِ مِن نحوِ: (سأَصبِرُ)؛ لأنَّه يَدُلُّ على حُصولِ صبرٍ ظاهرٍ لرَفيقِه ومَتبوعِه .

- وفي تأكيدِه ذلك بالتَّعليقِ على مَشيئةِ اللهِ -استِعانةً به وحِرصًا على تَقدُّمِ التَّيسيرِ؛ تأدُّبًا مع اللهِ-: إيذانٌ بأنَّ الصبرَ والطَّاعةَ مِن المتعلِّمِ الَّذي له شيءٌ مِن العلمِ أعسَرُ مِن صَبرِ وطاعةِ المتعلِّمِ السَّاذَجِ .

- قولُه: وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا لَمَّا كان هذا الصَّبرُ الكاملُ يَقْتضي طاعةَ الآمِرِ فيما يأمُرُه به- عطَف عليه ما يُفيدُ الطَّاعةَ؛ إبلاغًا في الاتِّسام بأكمَلِ أحوالِ طالبِ العلمِ .

10- قوله تعالى: قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا

- الفاءُ في قولِه: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ... تَفريعٌ على وعْدِ موسى إيَّاه بأنَّه يَجِدُه صابِرًا، ففَرَّع على ذلك نَهْيَه عن السُّؤالِ عن شيءٍ ممَّا يُشاهِدُه مِن تَصرُّفاتِه حتَّى يُبيِّنَه له مِن تِلْقاءِ نَفْسِه

================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (71-73)

ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ

غريب الكلمات:

 

إِمْرًا: أي: عَظِيمًا مُنكرًا، من قَولِهم: أمِرَ الأمرُ، أي: كَبُر وكَثُر. وقيل: عجبًا

.

تُرْهِقْنِي: تُغْشِني، وتُكَلِّفْني، وتُلْحِقْني، وأصلُ (رهق): يدُلُّ على غِشيانِ الشَّيءِ الشَّيءَ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: فانطلق موسى والخَضِرُ يَمشِيانِ على السَّاحِلِ، فمَرَّت بهما سَفينةٌ، فطلبا مِن أهلِها أن يركَبا معهم، فلمَّا رَكِبا قَلَعَ الخَضِرُ لوحًا من السَّفينةِ فخَرَقَها، فقال له موسى: أَخَرَقْتَ السَّفينةَ؛ لتُغرِق أهلَها؟! لقد فعَلْتَ فعلًا عظيمًا مُنكَرًا. قال له الخَضِرُ: قد قُلتُ لك مِن أوَّلِ الأمرِ: إنَّك لن تستطيعَ الصَّبرَ على صُحبتي. قال موسى مُعتَذِرًا: لا تؤاخِذْني بنِسياني شَرطَك عليَّ، ولا تُكَلِّفْني مَشقَّةً في تعلُّمي منك، وعامِلْني بيُسرٍ ورِفقٍ.

تفسير الآيات:

 

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71).

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا.

أي: فانطلق موسى والخَضِرُ يَسيرانِ إلى أنْ رَكِبا سَفينةً في البَحرِ، فقام الخَضِرُ بخَرقِها

.

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيٍّ: ((فانطلقَ الخَضِرُ وموسى يمشِيانِ على ساحِلِ البَحرِ، فمَرَّت بهما سَفينةٌ، فكَلَّماهم أن يحمِلوهما، فعَرَفوا الخَضِرَ، فحَمَلوهما بغَيرِ نَولٍ ، فعمَد الخَضِرُ إلى لوحٍ مِن ألواحِ السَّفينةِ فنَزَعه )) .

وفي روايةٍ: ((وجدا معابِرَ صِغارًا تحمِلُ أهلَ هذا السَّاحِلِ إلى أهلِ هذا السَّاحِلِ الآخَرِ، عَرَفوه فقالوا: عبدُ الله الصَّالحُ -قال: قُلْنا لسعيدِ بنِ جُبَير: خَضِر؟ قال: نَعَم- لا نحمِلُه بأجرٍ، فخَرَقَها ووتَدَ فيها وتدً ا ) .

قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا.

أي: قال موسى للخَضِر: أخرَقْتَ السَّفينةَ لتُغرقَ ركَّابَها؛ فإنَّ خرقَها سببٌ لدخولِ الماءِ فيها وغَرقِهم ؟!

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((فقال له موسى: قومٌ حَمَلونا بغيرِ نَولٍ، عَمَدْتَ إلى سفينتِهم فخَرَقْتَها لتُغرِقَ أهلَها؟ !)) .

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا.

أي: لقد أتيتَ شيئًا عظيمًا، وفعَلْتَ فِعلًا منكرًا !

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72).

أي: قال الخَضِرُ لِموسى: ألم أُخبِرْك بأنَّك لن تُطيقَ الصَّبرَ على اتِّباعي؛ لِما تراه مِن أفعالي التي ظاهِرُها مُنكَرٌ قَبيحٌ؟! وأنَّك لن تَصبِرَ عن سؤالي عن أفعالي؛ لأنَّك لم تُحِطْ بها خُبْرًا ؟!

قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73).

قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ.

أي: قال موسى للخَضِر مُعتَذِرًا: لا تُؤاخِذْني بالذي نَسيتُه مِن عَهدِك إليَّ، واشتِراطِك ألَّا أسألَك عن شَيءٍ حتى تُخبِرَني .

عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ قال: ((كانت الأولى مِن موسى نِسيانًا ) ) .

وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا.

أي: ولا تُضَيِّقْ عليَّ أمري معك، وتشدِّدْ عليَّ في صُحبتي لك

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- في قولِه: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا نِسيانُ نَفسِه عندَما قال: لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا وهو بينَ الرَّاكِبين، وهو جَديرٌ بأن يَنهمِكَ بأمرِ نفْسِه، وما هو مُقْدِمٌ عليه مِن سوءِ المصيرِ، وإنَّما حمَلَه على المبادَرةِ بالإنكارِ الالْتِهابُ والحَميَّةُ للحقِّ، فنَسِي نفْسَه واشتَغَل بغيرِه في الحالةِ الَّتي يقولُ فيها كلُّ واحدٍ: نَفْسي نَفسي، ولا يَلْوي على مالٍ ولا ولَدٍ، وتلك حالةُ الغرَقِ تَذهَلُ فيها العقولُ، وتَغرُبُ الأحلامُ، ويَضيعُ الرُّشدُ مِن الألبابِ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا فيه أنَّه ينبغي للإنسانِ أن يأخُذَ مِن أخلاقِ النَّاسِ ومُعامَلاتِهم العَفوَ منها، وما سَمَحَت به أنفُسُهم، ولا ينبغي له أن يُكَلِّفَهم ما لا يُطيقونَ، أو يَشُقَّ عليهم ويُرهِقَهم؛ فإنَّ هذا مَدعاةٌ إلى النُّفورِ منه والسَّآمةِ، بل يأخُذُ المُتيَسِّرَ ليتيسَّرَ له الأمرُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَانْطَلَقَا إنْ قيل: فما بالُ فتَى موسَى ذُكِر في أوَّلِ القصةِ، ثمَّ لم يُذكَرْ بعدَ ذلك؟

فالجوابُ: أنَّ المقصودَ بالسياقِ إنما هو قصةُ موسَى معَ الخضرِ، وذِكرُ ما كان بينهما، وفتى موسى معه تبعٌ، فاقتصر على ذكرِ المتبوعِ دونَ التابعِ، ويحتملُ أن يكونَ يوشعُ تأخَّر عنهما؛ لأنَّ المذكورَ انطلاقُ اثنينِ

. وقيل: كان موسى قد صَرَفه ورَدَّه إلى بَني إسرائيلَ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ فيه جوازُ رُكوبِ البَحرِ في غيرِ الحالةِ التي يُخافُ منها .

3- قَولُ اللهِ تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا فيه أنَّ الأمورَ تجري أحكامُها على ظاهِرِها، وتُعَلَّقُ بها الأحكامُ الدُّنيويَّةُ، في الأموالِ والدِّماءِ وغَيرِها؛ فإنَّ موسى -عليه السَّلامُ- أنكر على الخَضِر خَرْقَه السَّفينةَ، وقَتْلَ الغُلامِ -كما سيأتي-، وأنَّ هذه الأمورَ ظاهِرُها أنَّها مِن المُنكَر، وموسى عليه السَّلامُ لا يَسَعُه السُّكوتُ عنها في غيرِ هذه الحالِ التي صَحِبَ عليها الخَضِرَ، فاستعجل عليه السَّلامُ، وبادر إلى الحُكمِ في حالتِها العامَّةِ، ولم يلتَفِتْ إلى هذا العارِضِ الذي يوجِبُ عليه الصَّبرَ، وعَدَمَ المبادرةِ إلى الإنكارِ .

4- في قَولِه تعالى عن موسى عليه السَّلامُ: قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا دَلالةٌ على أنَّ قُلوبَ المؤمنينَ مَجبولةٌ على إنكارِ المنكَر؛ وغيرُ مالكةٍ للصَّبرِ على احتمالِه؛ لأنَّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَعَد الخَضِرَ أنْ يَصْبِرَ على ما يراه منه، فلمَّا رأَى منه ما يَعتقدُ أنه منكرٌ أنكَرَه عليه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ فيه أنَّ النَّاسيَ غيرُ مُؤاخَذٍ بنِسيانِه؛ لا في حقِّ اللهِ، ولا في حُقوقِ العِبادِ .

6- قَولُه تعالى عن موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا إلى قَولِه سُبحانَه: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا [الكهف: 76] فيه قيامُ العُذْرِ بالمَرَّة الواحدةِ، وقيامُ الحُجَّةِ بالثَّانيةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا

- في الكلامِ إيجازٌ دلَّ عليه قولُه: إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ؛ فأصلُ الكلامِ: حتَّى استَأْجَرا سفينةً فرَكِباها، فلمَّا رَكِبا في السَّفينةِ خرَقَها، وتعريفُ السَّفينةِ تعريفُ العَهدِ الذِّهْنيِّ

.

- والاستفهامُ في أَخَرَقْتَهَا للإنكارِ، ومَحلُّ الإنكارِ هو العِلَّةُ بقولِه: لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؛ لأنَّ العِلَّةَ مُلازِمةٌ للفِعْلِ المستفهَمِ عنه؛ ولذلك تَوجَّهَ أن يُغيِّر موسى عليه السَّلامُ هذا المنكَرَ في ظاهرِ الأمرِ، وتأكيدُ إنكارِه بقولِه: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيث قال عزَّ وجلَّ هنا مُخبِرًا عن قولِ موسى للخَضِرِ عَليهِما السَّلامُ حين خرَق السَّفينةَ: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، وعندَ قَتلِ الغُلامِ قال: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف: 74] ؛ ففي الأُولى (الإِمْرُ) وفي الثَّانيةِ: (النُّكْرُ)، وذلك لِمُناسَبةٍ حسَنةٍ: وهي أنَّ خَرْقَ السَّفينةِ لم يَبلُغْ بحيثُ يُتلِفُها، وإنَّما قَصَد به الخَضِرُ عَيْبَها؛ ليَزهدَ فيها مُريدُ غَصْبِها؛ بدليلِ قولِه بعدُ: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [الكهف: 79] ، فإنَّما أراد إبقاءَها على مالِكِها، ودَفْعَ هذا الغاصبِ إذا رأى ما بها مِن العيبِ المانِعِ مِن الرَّغبةِ فيها، وهذا لا يَبلُغُ ظاهِرُه مبلغَ ظاهرِ قتلِ الغُلامِ بغيرِ سببٍ ظاهرٍ، فوصَف بإمرٍ في قولِه: شَيْئًا إِمْرًا، وهو دُونَ النُّكْرِ. وأمَّا البادي الظَّاهرُ مِن قتْلِ الغُلامِ عِندَ مَن يَغيبُ عنه ما عَلِمه مِن الخَضِرِ فشيءٌ نُكْرٌ، ومُرتَكَبٌ -عندَ مَن لَحَظَه بظاهرِه، وغابَ عنه ما في طَيِّه- شنيعٌ ووِزرٌ، فوقَع التَّعبيرُ في الموضِعَينِ بما يُناسِبُ كِلا الفِعْلَين، وعن قتادةَ رَحِمه اللهُ: (النُّكْرُ أشَدُّ مِن الإمْرِ)، فجاء كلٌّ على ما يُلائِمُ، ولم يَكُنْ لِيَحسُنَ مَجيءُ أحَدِ الوصفَينِ في الموضِعِ الآخَرِ، واللهُ أعلمُ . وقيل: لأنَّ العملَ الذي عَمِله الخَضِرُ ذَريعةٌ للغرقِ، ولم يقَعِ الغرقُ بالفِعلِ، أمَّا قتلُ النفسِ فإنَّه مباشرةٌ، وهو منكرٌ حادثٌ ما فيه احتمالٌ، فالأوَّلُ ذريعةُ فسادٍ، والثاني فسادٌ حاصلٌ .

2- قوله تعالى: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا

- قولُه: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا استفهامُ تَقريرٍ وتعريضٍ باللَّومِ على عَدمِ الوَفاءِ بما الْتَزم، أي: أتُقِرُّ أنِّي قُلتُ: إنَّك لا تَستطيعُ مَعي صَبرًا ؟ ومَعِيَ ظرفٌ مُتعلِّقٌ بـ تَسْتَطِيعَ، فاستِطاعةُ الصَّبرِ المنفيَّةُ هي الَّتي تَكونُ في صُحبتِه؛ لأنَّه يَرى أُمورًا عَجيبةً لا يُدرِكُ تأويلَها. وحذَف مُتعلَّقَ القولِ؛ تنزيلًا له مَنزِلةَ اللَّازِم، أي: ألَم يقَعْ منِّي قولٌ فيه خِطابُك بعدَمِ الاستِطاعةِ ؟

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيثُ قال تعالى في حِكايةِ قَولِ الخَضِرِ لموسى عليهِما السَّلامُ في خَرْقِ السَّفينةِ: أَلَمْ أقُلْ إنَّكَ بحَذفِ لَكَ، وفي قَتْلِ الغلامِ: أَلَمْ أقُلْ لَكَ إِنَّكَ [الكهف: 75] بذِكْرِه؛ لأنَّ في ذِكْرِه قصْدَ زِيادةِ المواجَهةِ بالعِتابِ على تَرْكِ الوصيَّةِ مرَّةً ثانيةً ، فإثباتُه فيه لومٌ أشدُّ على موسَى، فلو أنَّك كلَّمتَ شخصًا بشيءٍ، وخالَفك، فتقولُ في الأوَّلِ: (ألم أقلْ: إنَّك)، وفي الثاني تقولُ: (ألم أقلْ لك)، يعني: أنَّ الخطابَ ورَد عليك ورودًا لا خفاءَ فيه، ومع ذلك خالفْتَ، فكان قولُ الخضرِ لموسَى في الثانيةِ أشدَّ .

وقيل: إنَّ إثباتَه للتوكيدِ، واختزالَه له؛ لوضوحِ المعنَى، وكلاهما معروفٌ عندَ الفصحاءِ .

وقيل: إنَّ الفَرقَ الموجِبَ لزِيادة «لك» في هذا القول الثَّاني: أنَّ الخَضِرَ قد كان قال لِمُوسى -حينَ قال له موسى عليه السَّلامُ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا-:  قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، فلَمَّا كان مِن موسى عندَ خَرْقِ السَّفينةِ ما كان مِن الإنكارِ بقولِه: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف: 71] ، ذَكَّره الخَضِرُ بما كان قدْ قاله له، مِن غيرِ أن يَزيدَه على إيرادِ ما كان قد قالَه، فاعتذَر موسى عليه السَّلامُ بقولِه: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف: 73] ، فلمَّا وقَع منه بعدَ ذلك إنكارُ قتلِ الغُلامِ، وأبلَغ في وصْفِ الفَعْلةِ بقولِه: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف: 74] ، قابَل الخَضِرُ ذلك بتَأكيدِ الكلامِ المتقدِّمِ، فقال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف: 75] ؛ فهذه الزِّيادةُ (لَك) بيانٌ جيءَ به تأكيدًا؛ لِيُقابِلَ بالكَلامِ ما وقَع جَوابًا له مِن قَولةِ موسى عليه السَّلامُ؛ زيادةً للتَّناسُبِ .

- وقِيل: وجهُ زيادة (لك): أنَّ الخَضِرَ عليه السَّلامُ قال في الأولى: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، أي: إنَّك تَعجِزُ عن احْتِمالِ ما تَرى حتَّى تُبادِرَ إلى الإنكارِ، فلمَّا رأى قَتْلَ الغُلامِ وعادَ إلى الإنكارِ أكَّد التَّقريرَ الثَّانيَ بقولِه: لَكَ، وهذا وجَبَ في الثَّاني لا في الأوَّلِ الَّذي لم تتَأكَّدْ حُجَّةُ الخَضِرِ كتَأكُّدِها في الثَّاني .

3- قوله تعالى: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا

قولُه: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي المؤاخَذةُ: مُفاعَلةٌ مِن الأخذِ، وهي هُنا للمُبالَغةِ؛ لأنَّها مِن جانبٍ واحدٍ؛ كقَولِه تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ [النحل: 61] .

- قولُه: قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ أي: بالذي نسيتُه، أو بشيءٍ نسيتُه، أو بنِسْياني: أراد أنَّه نَسي وصيَّتَه، ولا مُؤاخَذةَ على النَّاسي. أو أخرَج الكلامَ في مَعرِضِ النَّهيِ عن المؤاخَذةِ بالنِّسيانِ، يُوهِمُه أنَّه قد نَسي؛ لِيَبسُطَ عُذرَه في الإنكارِ، وهو مِن التوريةِ ومَعاريضِ الكلامِ الَّتي يُتَّقى بها الكَذِبُ، مع التَّوصُّلِ إلى الغرَضِ، وهو هنا إيهامُ خِلافِ المرادِ؛ لِئلَّا يُلزَمَ الكَذِبَ، وهو فنٌّ ظَريفٌ مِن فُنونِهم، ولَعلَّه أجمَلُ أنواعِ التَّوريَةِ . وقيل: اعتذَر موسى بالنِّسيانِ، وكان قد نَسِي التزامَه بما غَشِي ذِهنَه مِن مُشاهدةِ ما يُنكِرُه. والنَّهيُ مُستعمَلٌ في التَّعطُّفِ والتماسِ عدمِ المؤاخذةِ؛ لأنَّه قد يُؤاخِذُه على النِّسيانِ مُؤاخذةَ مَن لا يَصلُحُ للمُصاحبةِ؛ لِما يَنشأُ عن النِّسيانِ مِن خطَرٍ؛ فالحزامةُ الاحتِرازُ مِن صُحبةِ مَن يَطرَأُ عليه النِّسيانُ؛ ولذلك بُني كلامُ موسى على طلَبِ عدمِ المؤاخَذةِ بالنِّسيانِ، ولم يُبنَ على الاعتذارِ بالنِّسيانِ، كأنَّه رأى نفْسَه مَحقوقًا بالمؤاخَذةِ، فكان كَلامًا بَديعَ النَّسيجِ في الاعْتِذارِ

===============

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (74-76)

ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ

غريب الكلمات:

 

زَكِيَّةً: أي: طاهِرةً من الذُّنوبِ، وأصلُ (زكي): يدلُّ على طَهارةٍ

.

نُكْرًا: أي: مُنكرًا عظيمًا، وأصلُ (نكر): يدُلُّ على خِلافِ المَعرِفةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: انطلق موسَى والخضرُ بعدَ أن خرَجَا مِن السَّفينةِ، فبينما هما يَمشِيانِ إذ أبصَرَا غُلامًا صغيرًا، فقَتَلَه الخَضِرُ، فأنكر موسى عليه وقال: كيف قتَلْتَ نَفسًا طاهِرةً من الذنوبِ وهي لم تَقتُلْ نفسًا، حتى تستحِقَّ القَتلَ بها؟! لقد فَعَلْتَ أمرًا مُنكَرًا عظيمًا. قال الخَضِرُ لموسى مُعاتِبًا ومُذَكِّرًا: ألم أقُلْ لك إنَّك لن تستطيعَ معيَ صَبرًا؟ قال موسى له: إنْ سألْتُك عن شَيءٍ بعد هذه المَرَّةِ فاترُكْني ولا تُصاحِبْني، قد وصلتَ إلى حالٍ تُعْذَرُ فيها في مفارقتي.

تفسير الآيات:

 

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74).

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ.

أي: فانطلقَ موسى والخَضِرُ بعدَ ذلك يَسيرانِ إلى أن لَقِيَا غُلامًا صَغيرًا

، فقتَلَه الخَضِرُ !!

وفي قِصَّةِ موسَى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((فلمَّا خَرَجا مِن البَحرِ مَرُّوا بغُلامٍ يلعَبُ مع الصِّبيانِ، فأخَذ الخَضِرُ برأسِه فقَلَعَه بيَدِه هكذا- وأومأ سُفيانُ بأطرافِ أصابعِه كأنَّه يَقطِفُ شَيئً ا!)) .

وفي روايةٍ: ((وَجَد غِلمانًا يَلعَبونَ فأخذ غُلامًا كافِرًا ظَريفًا ، فأضجَعَه ثمَّ ذبَحَه بالسِّكِّينِ ) .

وفي روايةٍ: ((فانطلَقا حتى إذا لَقِيا غِلمانًا يَلعَبونَ، قال: فانطلَقَ إلى أحَدِهم باديَ الرَّأيِ فقتَلَه، فذُعِرَ عندها موسى عليه السَّلامُ ذَعرةً مُنكَرةً )) .

قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ.

أي: قال موسى مُنكِرًا على الخَضِرِ قَتْلَ الغُلامِ: أقتَلْتَ نفسًا طاهرةً من الذُّنوبِ بغيرِ حَقٍّ ومُستَنَدٍ يُخَوِّلُ لك قَتْلَه؟! فلمْ يَقتُلِ الغُلامُ أحدًا حتى تَقتُلَه !

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِرِ من حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ رضي الله عنه: ((قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لم تعمَل بالحِنثِ ؟!)) .

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا.

أي: لقد فعلتَ -بقَتلِك الغُلامَ بغيرِ ذَنبٍ- فِعلًا مُنكَرًا ظاهِرَ النَّكارةِ !

قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75).

أي: قال الخَضِرُ لموسى: ألم أقُلْ لك مِن قَبلِ أن تَصحَبَني: إنَّك لن تُطيقَ الصَّبرَ على اتِّباعي؛ لِما تراه من أفعالي التي ظاهِرُها مُنكَرٌ، وإنَّك لن تَصبِرَ عن سُؤالي عن أفعالي؛ لأنَّك لم تُحِطْ بها خُبْرًا ؟!

قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76).

قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي.

أي: قال موسى للخَضِرِ: إنْ سألتُك عن أيِّ شَيءٍ بعد هذه المرَّة، ففارِقْني، واترُك صُحبَتي .

قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا.

أي: قد وصلتَ إلى حالٍ تُعْذَرُ فيها في مُفارَقتي، وتَرْكِ مُصاحَبتي؛ وذلك باعتراضي مَرَّتَينِ، واحتِمالِك لي فيهما .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندَ هذا المكانِ: ((رحمةُ الله علينا وعلى موسى، لولا أنَّه عَجَّلَ لرأى العَجَب، ولكِنَّه أخذَتْه مِن صاحِبِه ذِمامةٌ ، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، ولو صبَرَ لرأى العَجَب!! ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا فيه أنَّه ينبغي للصَّاحِبِ ألَّا يُفارِقَ صاحِبَه في حالةٍ مِن الأحوالِ، ويَترُكَ صُحبَتَه، حتى يُعتِبَه

، ويُعذِرَ منه، كما فعل الخَضِرُ مع موسى

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قوله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا الحكمُ بالظاهرِ؛ لقولِه عليه السلامُ: نَفْسًا زَكِيَّةً

.

2- قَولُ الله تعالى: قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا فيه أنَّ القَتلَ قِصاصًا غيرُ مُنكَرٍ، وأنَّ القصاصَ كان في شرعِ مَن قبلَنا .

3- قَولُ الله تعالى: قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا فيه أنَّ القَتلَ مِن أكبَرِ الذُّنوبِ .

4- قوله تعالى: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا لم يَعتذِرْ هنا موسى عليه السَّلامُ بالنِّسيانِ؛ إمَّا لأنَّه لم يَكُنْ نَسي، ولكنَّه رجَّح تغييرَ المنكَرِ العَظيمِ، وهو قَتْلُ النَّفسِ بدونِ موجِبٍ، على واجبِ الوفاءِ بالالْتِزامِ، وإمَّا لأنَّه نَسي وأعرَض عن الاعتِذارِ بالنِّسيانِ؛ لِسَماجَةِ تَكرُّرِ الاعْتِذارِ به، وعلى الاحْتِمالَينِ فقد عدَل إلى المبادَرةِ باشْتِراطِ ما تَطمئِنُّ إليه نفسُ صاحبِه بأنَّه إن عاد للسُّؤالِ الَّذي لا يَبْتَغيه صاحِبُه فقد جعَل له أن لا يُصاحِبَه بعدَه .

5- قَولُ الله تعالى: قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا فيه أنَّ للثَّلاثِ اعتِبارًا في التَّكرارِ ونَحوِه .

6- قَولُ موسى للخَضِر: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي والتزامُ موسى بذلك ولم يكتُبا ذلك، ولم يُشهِدا أحدًا؛ فيه دَلالةٌ على العَمَلِ بمُقتضى ما دلَّ عليه الشَّرطُ؛ فإنَّ الخَضِرَ قال لموسى لَمَّا أخلَفَ الشَّرطَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78] ولم يُنْكِرْ موسى ذلك

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا

- قولُه: فَانْطَلَقَا في الكلامِ حذفٌ تَقديرُه: فخرَجا مِن السَّفينةِ، ولم يقَعْ غرَقٌ بأهلِها، فانطلَقا

، أو: فقَبِل عُذرَه، فخَرَجا مِن السَّفينةِ، فانطَلَقا .

- وفيه مُناسَبةٌ حسَنة؛ حيثُ قال عزَّ وجلَّ هُنا: حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ بالفاءِ؛ وقال فيما سبق: حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا بغيرِ فاءٍ، ووجهُ ذلك: أنَّه جعَل خَرْقَها جَزاءَ الشَّرطِ، فلم يَحتَجْ للفاءِ، وجعَلَ قتْلَ الغُلامِ مِن جُملةِ الشَّرطِ؛ فعَطَفه عليه بالفاءِ، وجَزاءُ الشَّرطِ قولُه: قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف: 74] ، وخُولِفَ بينَهما؛ لأنَّ خَرْقَ السَّفينةِ لم يَتعقَّبِ الرُّكوبَ، وقد تَعقَّبَ القَتْلُ لِقاءَ الغُلامِ .  وقيل: لعلَّ تَغْييرَ النَّظْمِ بأنْ جعَل خرْقَها جَزاءً، واعتِراضَ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مُستَأنَفًا في الأُولى وفي الثَّانية (قَتَلَهُ) مِن جُملةِ الشَّرطِ واعتِراضَه جَزاءً؛ لأنَّ القتلَ أقبَحُ والاعتِراضَ عليه أدخَلُ؛ فكان جَديرًا بأن يُجعَلَ عُمدةَ الكَلامِ؛ ولذلك فصَلَه بقولِه: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا . وقيل: ولعلَّ تَغْييرَ النَّظْمِ الكَريمِ بِجَعلِ ما صدَر عن الخَضِرِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هاهنا مِن جُملةِ الشَّرطِ وإبرازِ ما صدَر عن موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في مَعرِضِ الجَزاءِ المقصودِ إفادتُه، مع أنَّ الحَقيقَ بذلك إنَّما هو ما صدَر عَن الخَضِرِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن الخَوارِقِ البَديعةِ؛ لاسْتِشرافِ النَّفْسِ إلى وُرودِ خَبرِها لِقلَّةِ وُقوعِها في نفسِ الأمرِ، ونُدْرةِ وُصولِ خبَرِها إلى الأذهانِ؛ ولذلك رُوعِيَت تلك النُّكتةُ في الشَّرطيَّةِ الأُولى لِما أنَّ صُدورَ الخَوارِقِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خرَج بوُقوعِه مرَّةً مَخرَجَ العادةِ، فانصرَفَتِ النَّفسُ عن تَرقُّبِه إلى تَرقُّبِ أحوالِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ هل يُحافِظُ على مُراعاةِ شَرطِه بمُوجِبِ وعْدِه الأكيدِ عِندَ مُشاهَدةِ خارِقٍ آخَرَ، أو يُسارِعُ إلى المناقَشةِ، كما مرَّ في المرَّةِ الأُولى؟ فكان المقصودُ إفادةَ ما صدَر عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ففعَل ما فعَل، وللهِ دَرُّ شأنِ التَّنزيلِ .

وقيل: خَرقُ السفينةِ ملائِمٌ لِسَببِه وهو الركوبُ؛ لأنَّهم فعلوا معهم أمرًا ملائِمًا، فحملوهم بغيرِ نَولٍ، ففعل هو معهم بسبَبِ ذلك أمرًا ملائِمًا، وهو خَرقُ السفينةِ الموجِبُ إنجاءَهم من المَلِك الذي يأخُذُ كُلَّ سفينةٍ غَصبًا، فناسب جعْلَه سببًا عنه، وأمَّا قَتلُ الغلامِ فليس ملائِمًا للَّقاءِ، وإنَّما الملائِمُ له فِعلٌ مُقدَّرٌ، وهو خوفُ أن يُرهِقَ والِدَيه المؤمِنَينِ طُغيانًا وكفرًا؛ فلذلك عطَفَه على الشَّرطِ، ولم يجعَلْه جوابًا له ولا سببًا عنه .

- قولُه: فَقَتَلَهُ تَعقيبٌ لفِعلِ لَقِيَا تأكيدًا للمُبادَرةِ المفهومةِ مِن تقديمِ الظَّرفِ؛ فكانَت المبادرةُ بقَتلِ الغُلامِ عندَ لِقائِه أسرَعَ مِن المبادَرةِ بخَرقِ السَّفينةِ حينَ رُكوبِها .

- قولُه: بِغَيْرِ نَفْسٍ، أي: بغَيرِ قتلِ نَفْسٍ محرَّمةٍ، وتخصيصُ نَفْيِ هذا المبيحِ بالذِّكْرِ مِن بينِ سائرِ المبيحاتِ؛ مِن الكُفرِ بعدَ الإيمانِ، والزِّنا بعدَ الإحصانِ؛ لأنَّه الأقرَبُ إلى الوُقوعِ نَظرًا إلى حالِ الغُلامِ .

2- قوله تعالى: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا

- في قولِه: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا استفهامُ تقريرٍ وتعريضٍ باللَّومِ على عدَمِ الوفاءِ بما الْتزَم، أي: أتُقِرُّ أنِّي قُلتُ: إنَّك لا تَستطيعُ مَعي صبرًا ؟!

- واللامُ في قولِه لَكَ لامُ التَّبليغِ، وذلك عندَما يَكونُ الْمَقولُ له الكلامُ مَعلومًا مِن السِّياقِ، فيَكونُ ذِكرُ اللَّامِ لزيادةِ تَقوِّي الكَلامِ، وتَبْليغِه إلى السَّامِعِ؛ ولذلك سُمِّيَت لامَ التَّبليغِ؛ فاللَّامُ لم يُحتَجْ لذِكْرِها في جوابِه أوَّلَ مرَّةٍ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 72] ؛ فكان التَّقريرُ والإنكارُ مع ذِكْرِ لامِ تَعدِيَةِ القولِ أقْوى وأشَدَّ

================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيتان (77-78)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

 

فَأَبَوْا: أي: امْتَنعوا، والإباءُ: شِدَّةُ الامتناعِ؛ فكلُّ إباءٍ امتناعٌ، وليس كلُّ امتناعٍ إباءً .

يَنْقَضَّ: أي: يَسقُطَ وينهَدِمَ، وأصلُ (نقض): يدُلُّ على هُوِيِّ الشَّيءِ .

بِتَأْوِيلِ: أي: بعِلْمِ وتَفسيرِ، وأصلُ (أول): يدلُّ على الرُّجوعِ إلى الأصلِ؛ لأنَّ التَّأويلَ: إخبارٌ عمَّا يَرجِعُ إليه اللَّفظُ مِن المعنى .

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: فسار موسى والخَضِرُ حتى أتيا أهلَ قَريةٍ، فطَلَبا منهم طعامًا على سَبيلِ الضِّيافةِ، فامتَنَعوا عن ضيافتِهما، فوجدا فيها حائِطًا مائِلًا يُوشِكُ أن يَسقُطَ، فأصلَحَه الخَضِرُ حتى صار مستقيمًا، قال له موسى: لو شِئتَ لأخَذْتَ على هذا العَمَلِ أجرًا، ولم تُقِمْه لهم مجَّانًا. قال الخَضِر لموسى: هذا وقتُ الفِراقِ بيني وبينَك، سأُخبِرُك بما أنكَرْتَ عليَّ مِن أفعالي التي فعَلْتُها، والتي لم تستَطِعْ أن تصبِرَ عن سؤالي عنها والإنكارِ عليَّ فيها.

تفسير الآيتين:

 

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77).

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا.

أي: فانطلق موسى والخَضِرُ يَسيرانِ بعدَ قَتْلِ الغُلامِ إلى أن بَلَغا قريةً فطَلَبا مِن أهلِها إطعامَهما، فامتَنَعوا عن أن يُنزِلوهما ويُطعِموهما؛ لُؤمًا منهم !

وفي حديثِ قِصَّةِ موسى والخَضِر: ((فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئامًا، فطافا في المجالِسِ فـ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)) .

فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ.

أي: فوجَد موسى والخَضِرُ في تلك القريةِ حائِطًا مائِلًا يُوشِكُ أن يَسقُطَ ويَنهَدِمَ، فأصلَحَه الخَضِرُ، وعدَّل مَيلَه فاستقامَ .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ: ((فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ يقولُ: مائِلٌ، قال الخَضِرُ بيده هكذا، فأقامَه )) .

وفي روايةٍ: ((أومَأَ بِيَدِه هكذا، وأشار سُفيانُ كأنَّه يَمسحُ شَيئًا إلى فوق )) .

قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا.

أي: قال موسى للخَضِر: لو شِئتَ لم تُصلِحْ جِدارَ أهلِ هذه القريةِ اللِّئامِ، حتى يعطوك أُجرةً على ذلك، ولم تُقِمْه لهم مجَّانًا .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ: ((قال له موسى: قومٌ أتيناهم فلم يُضَيِّفونا ولم يُطعِمونا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)) !

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر في روايةٍ: ((لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا: أجرًا نأكُلُه )) .

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78).

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ.

أي: قال الخَضِرُ لموسى: سُؤالُك لي واعتراضُك على فِعلي للمَرَّةِ الثالثةِ سَبَبُ حُصولِ الفِراقِ بيني وبينَك، وقد انتهى ما بينَنا، فلن تَصحَبَني بعدَ الآن .

سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا.

أي: سأُخبرُك قبل مُفارَقتِك بتفسيرِ أفعالي التي أنكَرْتَها عليَّ، ولم تستَطِعْ أن تصبِرَ عن سؤالي عنها حتى أُخبِرَك بحَقيقتِها .

الفوائد التربوية:

 

قال الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فمَن لم يُعْطَ يَتَعَزَّ بهذه القصةِ، وكم ممن هانَ على الناسِ وهو جليلٌ عندَ الله .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، قال: أَتَيَا، ولم يقُلْ: (وصَلا إلى أهلِ قريةٍ)؛ إشارةً إلى أنَّ إتيانَهم لها كان على قَصدٍ .

2- قَولُ الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا في الآيةِ دَليلٌ على إباحةِ طَلَبِ الطعامِ لعابِرِ السَّبيلِ؛ لأنَّه شَرعُ مَن قَبلَنا، وحكاه القرآنُ، ولم يَرِدْ ما يَنسَخُه .

3- قَولُ الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا في الآيةِ مَشروعيَّةُ ضيافةِ عابِرِ السَّبيلِ إذا نزَل بأحدٍ مِن الحَيِّ أو القَريةِ .

4- في قولِه تعالى: اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ما عليه الإنسانُ مِن البشريةِ ولو كان نبيًّا، وذلك مِن أدلةِ التوحيدِ .

5- قال الله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا في هذه الآيةِ إباحةُ المكاسِبِ، وأخذِ الأُجرةِ على العَمَلِ، وفي ذلك تجهيلُ مَن يُحَرِّمُ الكَسبَ مِن الصوفيَّةِ؛ لأنَّ موسى صلَّى اللهُ عليه وسلم قال له: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا فلم يُنْكِرِ الخَضِرُ ما قال، بل أعلَمَه أنَّ الانتظارَ به إلى وقتِ اتِّخاذِه الأجرَ لم يُمكِنْه؛ لِما خشِيَ مِن ظهورِ الكَنزِ بعد انقِضاضِه .

6- قَولُ الله تعالى: قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا أي: كان في مُكْنَتِك أي: استطاعتِك أن تجعَلَ لنفسِك أجرًا على إقامةِ الجِدارِ تأخُذُه ممَّن يَملِكُه من أهلِ القريةِ، ولا تقيمَه مجانًّا؛ لأنَّهم لم يقوموا بحَقِّ الضيافةِ، ونحن بحاجةٍ إلى ما نُنفِقُه على أنفُسِنا، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ نَفَقةَ الأتباعِ على المتبوعِ .

7- وقولُ موسى عليه السَّلامُ: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا لَوْمٌ، وهذا اللَّومُ يتَضمَّنُ سُؤالًا عن سَببِ تَرْكِ المشارَطةِ على إقامةِ الجِدارِ عند الحاجةِ إلى الأجرِ، وليس هو لَوْمًا على مجرَّدِ إقامتِه مجَّانًا؛ لأنَّ ذلك مِن فِعلِ الخيرِ، وهو غيرُ مَلومٍ .

8- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قال: لَوْ شِئْتَ، وهذا لا شَكَّ أنَّه أُسلوبٌ رَقيقٌ فيه عَرضٌ لَطيفٌ، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا أي: عِوَضًا عن بنائِه .

9- قَولُ اللهِ تعالى: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ فيه سؤالٌ: كيف ساغ إضافةَ (بين) إلى غيرِ متعدِّدٍ؟

الجواب: أنَّ مسوِّغَ ذلك تكريرُه بالعَطفِ بالواو، ألا ترى أنَّك لو اقتصرت على قولِك: (المالُ بيني) لم يكُنْ كلامًا حتى تقولَ: (بينَنا) أو (بيني وبينَ فلانٍ) .

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا

- قوله: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فيه تكرارُ (أَهْل) على سَبيلِ التَّوكيدِ، وقد يَظهَرُ له فائدةٌ عن التَّوكيدِ، وهو أنَّهما حينَ أتَيَا أهْلَ القريةِ لم يأتِيا جَميعَ أهْلِ القريةِ، إنَّما أتَيَا بعضَهم، فلمَّا قال: اسْتَطْعَمَا احتَمَل أنَّهما لم يَستطعِما إلَّا ذلك البعضَ الَّذي أتَيَاه، فجِيءَ بلَفظِ أَهْلَهَا؛ لِيَعُمَّ جَميعَهم، وأنَّهم يتبعونهم واحِدًا واحدًا بالاستِطْعامِ، ولو كان التَّركيبُ (استَطْعَماهم) لكان عائِدًا على البعضِ المأتيِّ ؛ فإظهارُ لفظِ أَهْلَهَا دونَ الإتيانِ بضميرِهم؛ لزيادةِ التَّصريحِ، تَشنيعًا بهِم في لُؤمِهم؛ إذْ أبَوْا أن يُضيِّفوهما .

2- قوله تعالى: قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا

- قولُه: فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ فيه تَكريرُ (بين)، وعُدولُه عن (بَينِنا)؛ لِمَعنى التَّأكيدِ .

- وجملةُ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بيانيًّا، تقَعُ جَوابًا لسُؤالٍ يَهجِسُ في خاطِرِ موسى عليه السَّلامُ عن أسبابِ الأفعالِ الَّتي فعَلَها الخَضِرُ عليه السَّلامُ، وسأَله عنها موسى؛ فإنَّه قد وعَده أن يُحْدِثَ له ذِكْرًا ممَّا يفعَلُه .

- والسِّينُ في سَأُنَبِّئُكَ للتَّأكيدِ؛ لِعدَمِ تَراخي التَّنبِئةِ ، أي: سأُخبِرُك عن قُربٍ قبلَ المفارقةِ، و(السينُ) تدُلُّ على القُربِ، وتفيدُ مع القُربِ التَّحقيقَ .

- وأكَّد الموصولَ الأولَ الواقِعَ في قولِه: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا؛ تأكيدًا للتَّعريضِ باللَّومِ على عدَمِ الصبرِ ؛ ففي جَعْلِ صِلَةِ الموصولِ عدَمَ استِطاعةِ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للصَّبرِ -دونَ أن يُقالَ: بتأويلِ ما فعَلت، أو بتأويلِ ما رأيتَ، ونَحوُهما-: نوعُ تعريضٍ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وعِتابٍ .

=========================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (79-82)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ

غريب الكلمات :

 

زَكَاةً: أي: صلاحًا وطَهارةً، وأصل (زكو): يدُلُّ على نماءٍ وزيادةٍ

.

رُحْمًا: أي: رَحمةً وعَطفًا، وأصلُ (رحم): يدُلُّ على الرِّقَّةِ والعَطفِ والرَّأفةِ .

أَعِيبَهَا: أي: أجعَلَها ذاتَ عَيبٍ .

يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا: بلَغ أشدَّه، أي: بلَغ مُنْتهَى شَبابِه وقُوَّتِه، أو: اشتدَّ جِسْمُه وقوي، والبُلوغُ والبَلاغُ: الانتهاءُ إلى أقصَى المقصدِ والمنتهَى. وأصلُ (بلغ): الوصولُ إلى الشَّيءِ، وأصل (شدد): يدلُّ على قوةٍ في الشيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ الله تعالى قولَ الخضرِ لموسى حيثُ بيَّن له ما خفِي عليه مِن الأمورِ الثلاثةِ، وأنَّه قال له: أمَّا السَّفينةُ التي خَرقتُها فإنَّها كانت لأُناسٍ مَساكينَ يَعمَلونَ في البَحرِ عليها، فأردتُ أن أَعيبَها بذلك الخَرقِ؛ لأنَّ أمامَهم مَلِكًا كان يَستولي على كُلِّ سَفينةٍ صالحةٍ غَصبًا مِن أصحابِها. وأمَّا الغلامُ الذي قتَلْتُه فكان أبوه وأمُّه مُؤمِنَينِ، وكان هو -في عِلمِ ربِّك- كافرًا، فخَشِينا لو بَقِيَ الغلامُ حيًّا أن يَحمِلَ والِدَيه على الكُفرِ باللهِ تعالى، فأرَدْنا أن يُبدِلَ اللهُ أبَوَيه بمن هو خيرٌ منه صَلاحًا ودينًا، وطهارةً مِن الذُّنوبِ، وبِرًّا بهما، وأرحمُ بهما منه. وأمَّا الحائِطُ الذي أقمتُه فكان لغُلامَينِ يَتيمَينِ في المدينةِ، وكان تحته كَنزٌ لهما، وكان أبوهما رَجُلًا صالحًا، فأراد ربُّك أن يَكبَرا ويبلُغا تمامَ قُوَّتِهما، ويسَتخرِجا كنزَهما؛ رحمةً مِن رَبِّك بهما. وما فعَلْتُ -يا موسى- جميعَ الأمورِ التي رأيتَني فعَلْتُها، عن أمري ومِن تلقاءِ نَفسي، وإنَّما فعَلْتُها عن أمرِ اللهِ، ذلك الذي بَيَّنْتُ لك أسبابَه هو تَفسيرُ الأمورِ التي لم تَستَطِعْ صَبْرًا عن سؤالي عنها.

تفسير الآيات:

 

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79).

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ.

أي: قال الخَضِرُ لموسى: أمَّا السَّفينةُ التي خَرَقْتُها فكانت لمساكينَ يَطلُبونَ فيها الرِّزقَ في البَحرِ

.

وفي قصةِ موسَى والخضرِ عليهما السلامُ، من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((وجدا معابِرَ صِغارًا تحمِلُ أهلَ هذا السَّاحِلِ إلى أهلِ هذا السَّاحِلِ الآخَرِ، عَرَفوه فقالوا: عبدُ الله الصَّالحُ -قال: قُلْنا لسعيدِ بنِ جُبَير: خَضِر؟ قال: نَعَم- لا نحمِلُه بأجرٍ، فخَرَقَها ووتَدَ فيها وتدًا )) .

فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا.

أي: فأردتُ أن أخرِقَ السَّفينةَ، فأجعَلَها مَعِيبةً .

وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا.

أي: وكان أمامَ أصحابِ السَّفينةِ مَلِكٌ ظالِمٌ يَستولي على كُلِّ سَفينةٍ صالحةٍ قَهرًا .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، فإذا جاء الذي يُسَخِّرُها وجَدَها مُنخَرِقةً فتَجاوَزَها، فأصلَحوها بخَشَبةٍ )) .

وفي روايةٍ: ((فأرَدتُ إذا هي مَرَّتْ به أن يَدَعَها لِعَيبِها، فإذا جاوَزوا أصلَحوها، فانتَفَعوا بها )) .

وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: (فكان ابنُ عبَّاسٍ يقرأُ: «وكان أمامَهم مَلِكٌ يأخُذُ كُلَّ سَفينةٍ صالحةٍ غَصبًا» ) .

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80).

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ.

أي: وأمَّا الغلامُ الذي قتَلْتُه، فكان أبوه وأمُّه مُؤمِنَينِ باللهِ، وكان الغُلامُ كافِرًا .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيٍّ: ((وأمَّا الغُلامُ فطُبِعَ يومَ طُبِعَ كافِرًا )) .

وعن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: (فكان ابنُ عَبَّاسٍ يَقرأُ: «وأمَّا الغلامُ فكان كافِرًا وكان أبواه مؤمِنَينِ» ) .

فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا.

أي: فخَشِينا إنْ بَقِيَ الغلامُ حيًّا أن يغْشَى أبوَيه بالعُقوقِ، ويَحمِلَهما على الكُفرِ باللهِ .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيٍّ: ((وأمَّا الغُلامُ فطُبِع يومَ طُبِع كافِرًا، وكان أبواه قد عطَفَا عليه، فلو أنَّه أدرك، أرهَقَهما طُغيانًا وكُفرًا )) .

وفي روايةٍ: ((فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا أن يَحمِلَهما حُبُّه على أن يُتابِعاه على دِينِه )) .

فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81).

أي: قال الخَضِرُ: فأرَدْنا بقَتلِ الغُلامِ الكافِرِ أن يُبدِلَ اللهُ أبوَيه المُؤمِنَينِ ولَدًا صالِحًا خَيرًا مِن الأوَّلِ: دينًا، وصَلاحًا، وطهارةً مِن الذُّنوبِ، وأرحمَ بوالِدَيه، وأبَرَّ بهما منه .

وفي قِصَّةِ موسى والخَضِر من حديثِ أبيِّ بن كعبٍ رضي الله عنه: ((ووقع أبوه على أمِّه فَعَلِقَتْ ، فوَلَدَت منه خيرًا منه زكاةً، وأقرَبَ رُحمًا )) .

وفي حديثِ أبيِّ بنِ كعبٍ أيضًا في روايةٍ: ((وَأَقْرَبَ رُحْمًا هما به أرحَمُ منهما بالأوَّلِ الذي قَتَل خَضِرٌ )). قال ابنُ جُرَيجٍ: وزعم غيرُ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ: أنهما أُبدِلَا جاريةً. وأما داودُ بنُ أبي عاصِمٍ فقال: عن غيرِ واحدٍ: إنَّها جاريةٌ .

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82).

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ.

أي: وأمَّا الحائِطُ الذي أقَمْتُه فكان لغُلامَينِ يتيمَينِ في المدينةِ التي أبَى أهلُها أن يُضَيِّفونا، فحالُهما تقتضي رحمَتَهما والرَّأفةَ بهما؛ لكَونِهما صَغيرَينِ فَقَدا أباهما .

وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا.

أي: وكان تحت الجِدارِ مالٌ عَظيمٌ مَدفونٌ لليتيمَينِ، فلو وقع الجِدارُ لكان أقرَبَ إلى ضَياعِ مالِهما .

وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا.

أي: وكان والِدُ اليتيمَينِ -الذي مات وخلَّفهما- صالِحًا، فينبغي مُراعاتُه، والعنايةُ بذُرِّيتِه .

فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا.

أي: فأراد ربُّك -يا موسى- أن يَكبَرَ اليتيمانِ حتى يَصِلا إلى سِنِّ الرُّشدِ، وتَمامِ القُوَّةِ، ويَستَخرِجا حينَئذٍ مالَهما المدفونَ تحت الجِدارِ .

رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.

أي: هذا الذي كان -يا موسى- إنما فَعَلْتُه رَحمةً مِنْ رَبِّك .

وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي.

أي: وما فعلتُ جميعَ تلك الأمورِ التي رأيتَني فعَلْتُها عن رأيي، ومِن تِلقاءِ نَفسي، وإنَّما فعَلْتُها بأمرِ اللهِ .

ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا.

أي: ذلك الذي بيَّنْتُه لك -يا مُوسى- هو تَفسيرُ أفعالي التي استنكَرْتَها عليَّ، ولم تستَطِعْ أن تَصبِرَ عن سؤالي عنها

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا يدُلُّ على أنَّ العبدَ الصَّالحَ قدْ يحفظُه الله تعالى بصلاحِه بعدَ موتِه في ذُرِّيَّتِه، وتشملُ بركةُ  عبادتِه لهم في الدُّنيا والآخرةِ، بشفاعتِه فيهم، ورفعِ درجتِهم إلى أعلَى درجةٍ في الجنَّةِ؛ لتَقَرَّ عينُه بهم، كما جاءَ في القرآنِ، وورَدَتِ السُّنَّةُ به

، فالآيةُ دلَّت على أنَّ الوعدَ على العملِ الصالحِ ليس مختصًّا بالآخرةِ، بل يدخلُ فيه أمورُ الدنيا حتى في الذريَّةِ بعدَ موتِ العاملِ .

2- قولُ الله تعالى: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فيه أنَّ هذه القَضايا التي أجراها الخَضِرُ، هي قَدَرٌ مَحضٌ، أجراها الله وجعَلَها على يَدِ هذا العَبدِ الصَّالحِ؛ لِيستَدِلَّ العبادُ بذلك على ألطافِه في أَقضِيَتِه، وأنَّه يُقدِّرُ على العبدِ أمورًا يَكرَهُها جِدًّا، وهي صلاحُ دِينِه، كما في قَضِيَّةِ الغُلامِ، أو وهي صَلاحُ دُنياه كما في قَضِيَّةِ السَّفينةِ، فأراهم نَموذجًا مِن لُطفِه وكَرَمِه؛ لِيَعرِفوا ويَرضَوا غايةَ الرِّضا بأقدارِه المكروهةِ .

3- قَولُ الله تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فيه أنَّ خِدمةَ الصَّالِحينَ أو من يتعَلَّقُ بهم، أفضَلُ مِن غَيرِها؛ لأنَّه عَلَّلَ استخراجَ كَنزِهما، وإقامةَ جِدارِهما بأنَّ أباهما صالِحٌ .

4- قَولُ الله تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا فيه استِعمالُ الأدَبِ مع الله تعالى في الألفاظِ؛ فإنَّ الخَضِرَ أضاف عَيبَ السَّفينةِ إلى نَفسِه، وأمَّا الخَيرُ فأضافه إلى اللهِ تعالى فقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، كما قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] ، وقالت الجِنُّ: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10] ، مع أنَّ الكُلَّ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فيه أنَّ المسكينَ قد يكونُ له مالٌ لا يَبلُغُ كِفايتَه، ولا يَخرُجُ بذلك عن اسمِ المَسكنةِ؛ لأنَّ الله أخبَرَ أنَّ هؤلاء المساكينَ لهم سَفينةٌ

، وأنَّ المسكينَ أصلَحُ حالًا مِن الفَقيرِ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فيه أنَّ العَمَلَ يجوزُ في البَحرِ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا فيه دَليلٌ على أنَّ عَمَلَ الإنسانِ في مالِ غَيرِه، إذا كان على وَجهِ المَصلَحةِ وإزالةِ المَفسَدةِ، أنَّه يجوزُ ولو بلا إذنٍ، حتى ولو ترَتَّبَ على عَمَلِه إتلافُ بَعضِ مالِ الغَيرِ، كما خَرَق الخَضِرُ السَّفينةَ؛ لِتَعيبَ فتَسلَمَ مِن غَصبِ المَلِك الظَّالمِ، فعلى هذا لو وقَعَ حَرقٌ أو غَرَقٌ أو نحوُهما في دار إنسانٍ أو مالِه، وكان إتلافُ بَعضِ المالِ، أو هَدمُ بعضِ الدارِ، فيه سَلامةٌ للباقي؛ جاز للإنسانِ، بل شُرِعَ له ذلك؛ حِفظًا لمالِ الغَيرِ، وكذلك لو أراد ظالِمٌ أخْذَ مالِ الغَيرِ، ودفَعَ إليه إنسانٌ بعضَ المالِ؛ افتداءً للباقي جاز، ولو مِن غَيرِ إذنٍ .

4- في قَولِه تعالى حكايةً عن الخَضِر: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا إلى قَولِه سُبحانَه: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ دَلالةٌ على أنَّ الحقَّ عندَ اللهِ واحِدٌ، وإنْ كان قد جُعِلَ لكلٍّ بأنْ يتكَلَّمَ فيه على اختلافِ ظاهرِ الرأيِ؛ إِذْ إنكارُ موسى فِعْلَ الخَضِرِ -صلَّى اللهُ عليهما- كان حقًّا في الظَّاهِرِ عندَه، وفِعْلُ الخَضرِ هو الحقُّ عندَ اللهِ في الباطِنِ .

5- في قَولِه تعالى حكايةً عن الخَضِر: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا دَلالةٌ على أنَّ إحياءَ الحُقوقِ بذَهابِ بَعضِها قُربةٌ إلى اللهِ، إذا لم يوجدِ السَّبيلُ إليه إلَّا بذلك؛ لأنَّ الخَضِرَ صلَّى اللهُ عليه قد أنقَصَ بخَرقِ السَّفينةِ مِن ثَمَنِها؛ طَمَعًا في أنْ يبقى أصلُها لأصحابِها .

6- قال الله تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا عن قتادةَ قال: قال مُطَرِّفُ بنُ الشِّخِّيرِ: (إنَّا لَنعلَمُ أنَّهما قد فَرِحا به يومَ وُلِدَ، وحَزِنا عليه يومَ قُتِلَ، ولو عاش لكان فيه هلاكُهما، فلْيَرضَ العَبدُ بما قَسَم اللهُ له؛ فإنَّ قَضاءَ اللهِ للمُؤمِنِ خَيرٌ مِن قَضائِه لِنَفسِه، وقضاءُ اللهِ لك فيما تَكرَهُ خَيرٌ مِن قَضائِه لك فيما تُحِبُّ) .

7- قال الله تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا يُستفادُ مِن هذه الآيةِ تَهوينُ المصائِبِ بفَقدِ الأولادِ، وإن كانوا قِطَعًا مِن الأكبادِ، ومَن سَلَّم للقضاءِ، أسفَرَت عاقِبَتُه عن اليدِ البَيضاءِ .

8- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ؛ لأنَّ الأمَّةَ بأسرِها مُجمِعةٌ على أنَّ المولودَ بين أبوينِ مُؤمِنَينِ يكونُ مُؤمِنًا، وهذا مولودٌ طُبِعَ كافِرًا، وأبواه مُؤمِنان، وليس في ذلك ارتيابٌ البتَّةَ؛ لإباحةِ قَتلِه، ولإخبارِ الكُفرِ عنه بلَفظِه، فلو لم يكُنْ مِن الحُجَّةِ عليهم إلَّا هذا الغلامُ المخلوقُ كافرًا، وإباحةُ قَتلِه قبلَ بُلوغِ الحِنثِ، وجَريِ القَلَمِ عليه، والسَّلكُ به غيرَ مَسلَكِ أبوَيه؛ لكفى، فأين تَحذلُقُهم وادِّعاءُ الفَلسفةِ في مَعرفةِ عَدْلِ اللهِ عندهم بعُقولِهم النَّاقِصةِ العاثرةِ؟! وهل يَقدِرونَ في هذا الموضِعِ إلَّا على التَّسليمِ لعَدلٍ لا يَعرِفونَه ضَرورةً، فيَلزَمُهم أن يُسَلِّموه في بابِ القَضاءِ والقَدَرِ ضَرورةً، أو يَكفُرونَ بالقُرآنِ، ويَنسُبونَ الخَضِرَ -صلى الله عليه- إلى أنَّه قَتَل في الحقيقةِ نَفسًا زكيَّةً بغيرِ نَفسٍ، كما رأى موسى -صلَّى الله عليه- مِن ظاهِرِ فِعلِه، وكيف لهم بذلك -وَيْلَهم- وقد سَلَّمَه موسى للخَضِر، وعَلِمَ أنَّه الحَقُّ، ثمَّ أخبَرَ اللهُ نبيَّه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأنزله في كتابِه الذي لا يأتيه الباطِلُ مِن بينِ يَدَيه ولا مِن خَلفِه مِن غيرِ إنكارٍ عليه؟! بل أخبَرَ أنَّه فعَلَ بأمْرِه تبارك وتعالى حيثما يقولُ إخبارًا عنه -صلَّى الله عليه-: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا .

9- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا فيه دليلٌ على أنَّه يُدفَعُ الشَّرُّ الكبيرُ بارتِكابِ الشَّرِّ الصَّغيرِ، وأنَّه يُراعى أكبَرُ المصلَحَتينِ بتَفويتِ أدناهما؛ فإنَّ قَتلَ الغُلامِ شَرٌّ، ولكِنَّ بقاءَه حتى يَفتِنَ أبوَيه عن دينِهما أعظَمُ شَرًّا منه، وبقاءُ الغلامِ مِن دونِ قَتلٍ وعِصمَتُه، وإن كان يُظَنُّ أنَّه خَيرٌ، فالخَيرُ ببقاءِ دينِ أبوَيه وإيمانِهما خيرٌ مِن ذلك؛ فلذلك قَتَله الخَضِر، وتحت هذه القاعدةِ مِن الفُروعِ والفوائِدِ ما لا يدخُلُ تحتَ الحَصرِ، فتزاحُمُ المصالحِ والمفاسِدِ كُلِّها داخِلٌ في هذا .

10- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ لَمَّا كان التَّعويضُ عن هذا الولَدِ لله وَحدَه، أسنَدَ الفِعلَ إليه تعالى .

11- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ فيه دليلٌ على إطلاقِ القريةِ على المدينةِ، وجوازِ تَسميةِ إحداهما بالأُخرى؛ لأنَّه قال أولًا: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ، وقال هاهنا: فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ .

12- وَصْفُ الغُلامَينِ باليُتْمِ في قَولِه: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ يَدُلُّ على أنَّهما كانا صَغيرَين .

13- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا يدُلُّ على أنَّه يجوزُ دَفنُ المالِ في الأرضِ .

14- في قَولِه تعالى: وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إباحةُ حِفْظِ الأموالِ على الصِّغارِ إلى وقتِ البُلوغِ .

15- قولُه تعالى: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فيه ردٌّ على مَن اعتقَد أنَّ الإنسانَ لا ينتفعُ إلَّا بعملِه؛ فإنَّ الغلامَينِ اليتيمَينِ قد انتَفَعا بصَلاحِ أبيهما، وليس مِن سَعيِهما .

16- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي استَدَلَّ به مَن قال بنُبُوَّةِ الخَضِر؛ لأنَّه يقتضي أنَّه أُوحِيَ إليه ، وهو مِن أوضَحِ ما يُستدلُّ به على نُبُوَّتِه .

17- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا في قِصَّةِ موسى مع الخَضِر حثٌّ كبيرٌ على المجاهَرةِ بالمُبادرة بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَر والمُصابرةِ عليه، وألَّا يُراعَى فيه كَبيرٌ ولا صغيرٌ، إذا كان المرءُ على ثقةٍ مِن أمْرِه في الظَّاهِرِ بما عنده في ذلك مِن العِلمِ عن اللهِ ورَسولِه وأئِمَّةِ دِينِه .

18- هذه القِصَصُ التي أخبر اللهُ عزَّ وجَلَّ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها عن موسى وصاحبِه: تأديبٌ منه له، وتقدُّمٌ إليه بتركِ الاستعجالِ بعُقوبةِ المُشرِكين الذين كذَّبوه واستهزَؤوا به وبكتابِه، وإعلامٌ منه له أنَّ أفعالَه بهم وإن جرت فيما ترى الأعيُنُ بما قد يجري مثلُه أحيانًا لأوليائِه؛ فإنَّ تأويلَه صائرٌ بهم إلى أحوالِ أعدائِه فيها، من هلاكِهم وبوارِهم بالسَّيفِ في الدُّنيا، واستحقاقِهم من اللهِ في الآخرةِ الخِزيَ الدَّائِمَ، كما كانت أفعالُ صاحبِ موسى واقعةً بخلافِ الصحَّةِ في الظاهِرِ عند موسى -إذ لم يكُنْ عالِمًا بعواقِبِها- وهي ماضيةٌ على الصحَّةِ في الحقيقةِ، وآيلةٌ إلى الصوابِ في العاقبةِ؛ يُنبئُ عن صحَّةِ ذلك قولُه: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: 58] ، ثمَّ عقَّب ذلك بقصَّةِ موسى وصاحِبِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا

- معنى كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا فيه حذفٌ، والتقديرُ: أي: كُلَّ سَفِينَةٍ صالِحةٍ، بقَرينةِ قولِه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا

.

- قولُه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا فيه تَقديمٌ وتَأخيرٌ، حيث قدَّم قولَه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا على قولِه: فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ، وقولِه: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ؛ لأنَّ إرادةَ التَّعييبِ مُسبَّبةٌ عن خوفِ الغَصبِ عليها، فكان حقُّ قولِه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا أن يتَأخَّرَ عن السَّببِ، وإنَّما قُدِّم؛ للعِنايةِ، ولأنَّ خوفَ الغَصبِ ليس هو السَّببَ وحدَه، ولكنْ مع كونِها للمَساكينِ . أو: لأنَّ السببَ لَمَّا كان مجموعَ الأمرَيْنِ: خَوْف الغَصْبِ، ومَسكَنة المُلَّاكِ؛ رتَّبه على أقْوى الجُزْأَين وأدْعاهُما، وعقَّبَه بالآخَرِ على سَبيلِ التَّقْييدِ والتَّتْميمِ .

- وقُدِّم قولُه: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا أيضًا خِلافًا لِمُقتَضى الظَّاهرِ؛ لِقَصدِ الاهْتِمامِ والعنايةِ بإرادةِ إعابةِ السَّفينةِ -حيثُ كان عمَلًا ظاهِرُه الإنكارُ، وحَقيقتُه الصَّلاحُ- زيادةً في تشويقِ موسى إلى عِلمِ تأويلِه؛ لأنَّ كَونَ السَّفينةِ لِمَساكينَ ممَّا يَزيدُ السَّامِعَ تَعجُّبًا في الإقدامِ على خَرقِها. والمعنى: فأرَدتُ أن أَعيبَها وقد فعَلْتُ، وإنَّما لم يَقُلْ: (فعِبْتُها)؛ لِيَدُلَّ على أنَّ فِعلَه وقَع عن قصدٍ وتأمُّلٍ .

- ومِن المُناسَبةِ الحَسَنةِ كذلك: أنَّه عزَّ وجلَّ حَكَى عن الخَضِرِ أنَّه قال هنا: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا، وقال بَعدَه: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً [الكهف: 81] ، وقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا [الكهف: 82] ؛ فاختَلَفَتِ الإضافةُ في هذه الإراداتِ الثَّلاثِ، وهي كُلُّها في قِصَّةٍ واحدةٍ وفِعلٍ واحدٍ؛ ووجهُ ذلك: أنَّه لَمَّا ذَكَر (العَيب) أضافَ عَيبَ السَّفينةِ إلى إرادةِ نفسِه، فقال: أَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا، مِن بابِ الأدَبِ مع اللهِ في الألفاظِ، أمَّا الخيرُ فأضافَه إلى اللهِ، فقال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. وأيضًا لَمَّا ذَكَر رِعايةَ مَصالِحِ اليتيمَيْنِ لأجْلِ صَلاحِ أبيهِما؛ أضافَه إلى اللهِ تعالى؛ لأنَّه سُبحانَه هو المتكفِّلُ بمَصالِحِ الأبناءِ لرِعايَةِ حقِّ الآباءِ. وقيل: أسنَد الإرادةَ في قصَّةِ الجِدارِ إلى اللهِ تعالى دونَ القِصَّتَينِ السَّابقَتين؛ لأنَّ العمَلَ فيهما كان مِن شأنِه أن يَسعَى إليه كلُّ مَن يَقِفُ على سِرِّه؛ لأنَّ فيهِما دفْعَ فَسادٍ عن النَّاسِ، بخِلافِ قِصَّةِ الجِدارِ؛ فتِلْك كَرامةٌ مِن اللهِ لأَبي الغُلامَين. وأيضًا قال في قِصَّة الجِدارِ والغُلامَينِ: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا؛ لأنَّ بَقاءَ الغُلامَينِ حتى يَبلُغَا أَشُدَّهما ليس للخَضِرِ فيه أيُّ قُدرةٍ، لكنِ الخَشيةُ -خشيةُ أنْ يُرْهِقَ الغُلامُ أبويه بالكُفرِ- تَقَعُ مِن الخَضرِ، وكذلك إرادةُ عَيبِ السَّفينةِ.  ولَمَّا ذكَر (القَتْلَ) عبَّر عن نفْسِه بلَفظِ الجَمعِ، فقال: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً [الكهف: 81] ؛ ووجهُ ذلك: الإشارةُ إلى أنَّه لا يُقْدِمُ على هذا القتلِ إلَّا لحِكْمةٍ عاليَةٍ، ولأنَّ قَتْلَه للغُلامِ إفسادٌ من حَيثُ القَتلُ، وإنعامٌ من حيثُ التَّأويلُ؛ فأسنَده إلى نَفْسِه وإلى اللهِ عزَّ وجلَّ، بخِلافِ الأوَّلِ (عَيْب السَّفينة) فإنَّه في الظَّاهرِ إفسادٌ؛ فأسنَدَه إلى نَفْسِه، والثَّالثَ (إقامة الجِدار) فإنَّه إنعامٌ مَحضٌ؛ فأسنَدَه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ. وأيضًا ضَميرَا الجَماعةِ في قولِه: فَخَشِينَا، وقولِه: فَأَرَدْنَا عائِدانِ إلى المتكلِّمِ الواحدِ بإظهارِ أنَّه مُشارِكٌ لغيرِه في الفِعلِ، وهذا الاستِعْمالُ يَكونُ من التَّواضُعِ لا مِن التَّعاظُمِ؛ لأنَّ الْمَقامَ مَقامُ الإعلامِ بأنَّ اللهَ أطْلَعه على ذلك، وأمَرَه، فناسبَه التَّواضُعُ، فقال: فَخَشِينَا فَأَرَدْنَا، ولم يَقُلْ مِثلَه عندَما قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا؛ لأنَّ سبَبَ الإعابةِ إدراكُ حالِ تِلك الأصْقاعِ .

2- قوله تعالى: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا

- قولُه: فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ولم يُصرِّحْ بكُفرِ الغُلامِ؛ إشعارًا بعدَمِ الحاجةِ إلى الذِّكْرِ؛ لظُهورِه .

3- قوله تعالى: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا

- قوله: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا في التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ، والإضافةِ إليهما: ما لا يَخْفى مِن الدَّلالةِ على إرادةِ وُصولِ الخيرِ إليهِما .

- وقال: زَكَاةً مُراعاةً لقولِ موسى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً .

4- قوله تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا

- قولُه: فِي الْمَدِينَةِ هي القريةُ المذكورةُ فيما سبَق؛ ولعلَّه عبَّر عنها بذلك؛ لإظهارِ نوعِ اعْتِدادٍ بها، باعْتِدادِ ما فيها مِن اليتيمَيْن وأَبيهِما الصَّالحِ .

- قولُه: فَأَرَادَ رَبُّكَ في إضافةِ الرَّبِّ إلى ضَميرِ موسَى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دونَ ضَميرِهما: تَنبيهٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على تَحتُّمِ كَمالِ الانْقِيادِ والاستِسْلامِ لإرادَتِه سُبحانه، ووجوبِ الاحْتِرازِ عن المناقَشةِ فيما وقَع بحسَبِها مِن الأمورِ المذكورةِ .

- وقولُه: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي تصريحٌ بما يُزيل إنكارَ موسى عليه تَصرُّفاتِه هذه بأنَّها رحمةٌ ومصلَحةٌ؛ فلا إنكارَ فيها بعدَ مَعرِفةِ تأويلِها. ثمَّ زاد بأنَّه فعَلَها عن وحيٍ مِن اللهِ؛ لأنَّه لَمَّا قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي عَلِم موسى أنَّ ذلك بأمرٍ مِن اللهِ تعالى؛ لأنَّ النَّبيَّ إنَّما يتَصرَّفُ عن اجتهادٍ أو عن وحيٍ -هذا على القولِ بأنَّ الخضرَ كان نبيًّا-، فلمَّا نَفى أن يَكونَ فِعلُه ذلك عن أمرِ نفسِه تعيَّن أنَّه عن أمرِ اللهِ تعالى. وإنَّما أُوثِرَ نفيُ كَونِ فِعلِه عن أمرِ نفْسِه على أن يَقولَ: (وفَعَلتُه عن أمرِ ربِّي)؛ تَكمِلةً لِكَشفِ حَيرةِ موسى وإنكارِه؛ لأنَّه لَمَّا أنكَر عليه فَعْلاتِه الثَّلاثَ كان يُؤيِّدُ إنكارَه بما يَقْتَضي أنَّه تَصرَّف عن خطأٍ .

5- قوله: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا

- وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن مَعْنى البُعْدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ درَجتِها في الفَخامةِ .

- وجُملةُ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فَذْلَكةٌ للجُمَلِ الَّتي قبْلَها ابْتِداءً مِن قولِه: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ [الكهف: 79] ؛ فالإشارةُ بذلك إلى المذكورِ في الكلامِ السَّابقِ، وهو تَلْخيصٌ للمَقْصودِ .

- وفي جَعْلِ الصِّلةِ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا عَيْنَ ما مرَّ تَكريرٌ للتَّنكيرِ، وتَشديدٌ للعتابِ .

- وقولُه: مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيث قال عزَّ وجلَّ هنا: تَسْطِعْ بحذفِ التاءِ، بينما قال في الآيةِ الأُولَى: مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا، بإثباتِ التَّاءِ؛ وذلك لأنَّه لمَّا أنْ فسَّرَه له وبَيَّنَه ووضَّحه، وأزالَ المشكلَ؛ قال: تَسْطِعْ، وقبلَ ذلك كان الإشكالُ قويًّا ثقيلًا فقَال: تَسْتَطِعْ فقابلَ الأثقلَ بالأثقلِ، والأخفَّ بالأخفِّ . وقيل: تَسْطِعْ مضارِعُ (اسْطَاعَ) بمَعْنى (اسْتَطَاعَ)، فحذَف تاءَ الاستِفْعالِ تَخفيفًا؛ لِقُربِها مِن مَخرَجِ الطَّاءِ، والمخالَفةِ بينَه وبينَ قولِه: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا للتَّفنُّنِ؛ تَجنُّبًا لإعادةِ لَفْظٍ بعَينِه مع وجودِ مُرادِفِه، وابتُدِئَ بأشهَرِهما استِعْمالًا، وجيءَ في الثَّانيةِ بالفِعْلِ المخفَّفِ؛ لأنَّ التَّخفيفَ أولَى به؛ لأنَّه إذا كَرَّر تَسْتَطِعْ يَحصُلُ مِن تَكْريرِه ثِقَلٌ

====================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (83-91)

ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ

غريب الكلمات:

 

سَبَبًا: أي: طَريقًا ومَسلكًا، يُقالُ للطَّريقِ إلى الشَّيءِ: سَبَبٌ، وللحَبْلِ يُتوصَّلُ به إلى الماءِ: سَبَبٌ، ولكُلِّ ما يُتوصَّلُ به إلى شَيءٍ يَبعُدُ عنك: سَبَبٌ، وأصلُ (سبب): يدُلُّ على طولٍ وامتِدادٍ

.

عَيْنٍ حَمِئَةٍ: أي: عينِ ماءٍ ذاتِ حَمْأةٍ، والعينُ تُطلَقُ على الينبوعِ، وهو الماءُ الكثيرُ، والمرادُ بالعينِ: البحرُ، أو عينٌ مِن البحرِ، والحمأةُ هي: الطِّينُ الأسْودُ المُنتِنُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ويَسألُك -يا مُحمَّدُ- هؤلاء الكفَّارُ عن خَبَرِ ذي القَرنَينِ، قُل لهم: سأقصُّ عليكم منه ذِكْرًا تتذَكَّرونَه وتَتَّعِظونَ به: إنَّا مكَّنَّا له في الأرضِ،  وآتيناه مِن كُلِّ شيءٍ يحتاج إليه مثلُه مِن علمٍ أو قدرةٍ أو آلةٍ، ليصلَ به إلى مقصودِه، فأخذَ بتلك الأسبابِ التي تُوصِلُه إلى مَقصودِه، حتى إذا وصل ذو القَرنَينِ إلى مَغرِبِ الشَّمسِ وَجَدها في مرأى العَينِ كأنَّها تَغرُبُ في بحرٍ ذي طينٍ أسوَدَ، ووجد عند مَغرِبِها أمةً مِن الأممِ. قُلْنا: يا ذا القَرنَينِ، إمَّا أن تُعَذِّبَ مَن أصرَّ منهم على الكُفرِ، وإمَّا أن تُحسِنَ إليهم، فتُعَلِّمَهم الهُدى وتُبَصِّرَهم الرَّشادَ.

قال ذو القَرنَينِ: أمَّا مَن ظلَمَ نَفسَه منهم فأصرَّ على الكُفرِ، فسوف نُعَذِّبُه في الدُّنيا، ثمَّ يَرجِعُ إلى رَبِّه فيُعَذِّبُه عذابًا فظيعًا شَديدًا، وأمَّا مَن آمنَ منهم برَبِّه وعَمِلَ صالحًا، فله الجنَّةُ ثوابًا مِنَ اللهِ، وسنُحسِنُ إليه، ونُلينُ له في القَولِ، ونُعامِلُه باليُسرِ.

ثمَّ سار ذو القَرنَينِ إلى المَشرِقِ مُتَّبِعًا الأسبابَ التي أعطاه اللهُ إيَّاها، حتى إذا وصل إلى مَطلِعِ الشَّمسِ وجَدَها تَطلُعُ على قَومٍ ليس لهم شيءٌ يَستُرُهم منَ الشَّمسِ، كذلك وقد أحاط عِلْمُنا بما عِندَ ذي القرنَينِ من شيءٍ.

تفسير الآيات:

 

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا فرَغَ اللهُ تعالى مِن قِصَّةِ موسى والخَضِر -عليهما السَّلامُ- التي حاصِلُها أنَّها طَوافٌ في الأرضِ لطَلَبِ العِلمِ؛ عَقَّبَها بقِصَّةِ مَن طاف الأرضَ لطَلَبِ الجِهادِ، وقدَّم الأُولَى إشارةً إلى علوِّ دَرَجةِ العِلمِ؛ لأنَّه أساسُ كُلِّ سَعادةٍ، وقِوامُ كُلِّ أمرٍ

.

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ.

أي: ويَسألُك الكُفَّارُ -يا محمَّدُ- عن شَأنِ ذي القَرنَينِ وخَبَرِه .

قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا.

أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمَن سألَك عن ذي القَرنَينِ: سأقُصُّ عليكم بعضَ أخبارِه مِمَّا يكونُ فيها ذِكرى وعِبرةٌ وعِظةٌ .

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84).

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ.

أي: إنَّا وطَّأْنا ومهَّدْنا لذي القَرنَينِ المُلكَ في الأرضِ، فأقدَرْناه على ذلك، وقوَّيناه بكَثرةِ الجُنودِ وآلاتِ الحَربِ، وحُسنِ التدبيرِ، وبسْطِ الهَيبةِ، وغيرِ ذلك .

كما قال تعالى: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 247] .

وقال سُبحانَه: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 26] .

وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا.

أي: وآتَيناه مِن كُلِّ شَيءٍ يحتاجُ إليه مِثلُه مِن علمٍ أو قدرةٍ أو آلةٍ؛ حتَّى يصلَ به إلى مقصودِه مِن فَتحِ الأقاليمِ، وكَسرِ الأعداءِ، والتمكينِ في الأرضِ إلى غيرِ ذلك .

فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85).

أي: فسار ذو القرنينِ في طَريقٍ آخذًا بالأسبابِ والوسائِلِ التي تُوصِلُه إلى مَقصودِه .

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86).

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ.

القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ حَمِئَةٍ أي: عَينٍ ذاتِ حَمْأةٍ، وهو: الطِّينُ الأسوَدُ المُنتِنُ .

2- قِراءةُ حَامِيَةٍ أي: عَينِ ماءٍ حارَّةٍ .

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ.

أي: سار ذو القرنَينِ إلى أن بلغَ أقصى موضِعٍ يُمكِنُ سُلوكُه مِن اليابِسةِ مِن الجِهةِ الغَربيَّةِ للأرضِ، فوجد الشَّمسَ تَغرُبُ -في ناظِرَيه - في بحرٍ ذي طينٍ أسودَ مُنتِنٍ، فرآها وكأنَّها تَغرُبُ في ذلك البحرِ .

وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا.

أي: ووجد ذو القَرنَينِ عندَ تلك العَينِ على ساحِلِ البَحرِ أُمَّةً مِن الأُمَمِ .

قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا.

أي: قُلْنا: يا ذا القَرنَينِ، إمَّا أن تُعَذِّبَ مَن أصَرَّ منهم على الكُفرِ ، وإمَّا أن تُحسِنَ إليهم .

قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87).

قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ.

أي: قال ذو القرنَينِ : أمَّا مَن ظلَمَ نَفسَه بالإصرارِ على الكُفرِ بعد دَعوتِه للحقِّ، فسوف نُعَذِّبُه .

ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا.

أي: ثُمَّ يَرجِعُ الكافِرُ بعد تعذيبِنا له في الدُّنيا إلى رَبِّه، فيُعَذِّبُه عذابًا فَظيعًا شَديدًا .

وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88).

وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى.

أي: وأمَّا مَن آمنَ بعدَ كُفرِه، وعَمِلَ بطاعةِ اللهِ مُخلِصًا له وَحدَه لا شَريكَ له؛ فله في الآخرةِ الجَنَّةُ ثوابًا على إيمانِه وعَمَلِه الصَّالحِ .

وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا.

أي: وسنُلطِفُ له القَولَ ونُلينُه في الدُّنيا، ونُعَلِّمُه ما تيسَّرَ تعليمُه مِن الخيرِ، ونُعامِلُه باليُسرِ، ونُحسِنُ إليه .

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89).

أي: ثمَّ سار ذو القرنَينِ في طريقٍ آخَرَ آخِذًا بالأسبابِ والوسائِلِ؛ كي يصِلَ إلى جهةِ المَشرِقِ .

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90).

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ.

أي: سار ذو القَرنَينِ إلى أن بلغ أقصى مَوضِعٍ يُمكِنُ سُلوكُه من الجِهةِ الشَّرقيَّةِ للأرضِ، حيث تَطلُعُ الشَّمسُ .

وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا.

أي: فوجد الشَّمسَ تَطلُعُ على قَومٍ ليس لهم شيءٌ يُظِلُّهم منها؛ من جَبَلٍ أو شَجَرٍ أو بِناءٍ !

كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91).

أي: كذلك ، وقد عَلِمْنا ما لدى ذي القرنَينِ مِن الجُندِ والأموالِ، والآلاتِ وأسبابِ المُلكِ والقُوَّة، فلم يخْفَ علينا شيءٌ مِن ذلك

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5].

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا إلى آخرِ الآياتِ: الاعتبارُ بتخليدِ جميلِ الثَّناءِ، وجليلِ الآثارِ؛ فإنَّ مَن أنعَمَ النَّظَرَ فيما قُصَّ عنه في هذه الآياتِ الكريمةِ يتَّضِحُ له جَليًّا حُسنُ سجاياه، وسموُّ مزاياه: من الشَّجاعةِ، وعلوِّ الهِمَّةِ، والعِفَّةِ، والعدلِ، ودأبِه على توطيدِ الأمنِ، وإثابتِه المحسنينَ، وتأديبِه للظَّالمينَ، والإحسانِ إلى النَّوعِ البشري، لا سيَّما في زمانٍ كان فيه أكثَرُ عوائِدِ وأخلاقِ الأُمَمِ -المتمَدِّنةِ وغيرِ المتمَدِّنةِ- وحشيةً فاسدةً

.

2- في قَولِه تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا الاعتبارُ برفعِ الله بعضَ النَّاسِ دَرَجاتٍ على بَعضٍ، ورِزقِه من يشاءُ بغيرِ حِسابٍ -مُلكًا ومالًا- لِما له مِن خَفِيِّ الحِكَمِ، وباهِرِ القُدرةِ، فلا إلهَ سِواه .

3- في قَولِه تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ الإشارةُ إلى القيامِ بالأسبابِ، والجريِ وراءَ سُنَّةِ الله في الكَونِ مِن الجِدِّ والعَمَلِ، وأنَّ على قَدْرِ بَذلِ الجُهدِ يكونُ الفوزُ والظَّفَرُ؛ فإنَّ ما قُصَّ عن ذي القرنينِ مِن ضَرْبِه في الأرضِ إلى مَغرِبِ الشَّمسِ ومَطلعِها وشِمالها، وعَدَمِ فُتورِه، ووجدانِه اللذَّةَ في مواصلةِ الأسفارِ، وتجَشُّمِ الأخطارِ، وركوبِ الأوعارِ والبِحارِ؛ ثمَّ إحرازِه ذلك الفَخارَ -الذي لا يُشَقُّ له غُبارٌ- أكبَرُ عبرةٍ لأولي الأبصارِ .

4- في قَولِه تعالى: فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ تنشيطُ الهِمَمِ لرَفعِ العوائِقِ، وأنَّه ما تيسَّرَت الأسبابُ فلا ينبغي أن يُعَدَّ ركوبُ البَحرِ ولا اجتيازُ القَفرِ عُذرًا في الخُمولِ والرِّضا بالدُّونِ! بل ينبغي أن يَنشَطَ ويتمَثَّلَ في مرارتِه حَلاوةَ عُقباه من الرَّاحةِ والهناءِ، كما قضى ذو القَرنينِ عُمُرَه ولم يذُقْ إلَّا حلاوةَ الظَّفَرِ ولذَّةَ الانتصارِ؛ إذ لم يكُنْ مِن الذين تُقعِدُهم المصاعِبُ عن نَيلِ ما يبتغونَ .

5- في قَولِه تعالى: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا أنَّ مَن قدَرَ على أعدائِه وتمكَّن منهم؛ فلا ينبغي له أن تُسكِرَه لذَّةُ السُّلطةِ بسَوقِهم بعَصا الإذلال، وتجريعِهم غُصَصَ الاستعبادِ والنَّكال! بل يعامِلُ المحسِنَ بإحسانِه، والمسيءَ بقَدرِ إساءتِه؛ فإنَّ ما حُكِيَ عن ذي القرنينِ مِن قَولِه هو نهايةٌ في العدلِ، وغايةٌ في الإنصافِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا قَولُه: مِنْهُ ذِكْرًا تنبيهٌ على أنَّ أحوالَه وأخبارَه كَثيرةٌ، وأنَّهم إنَّما يُهِمُّهم بعضُ أحوالِه المُفيدةِ ذِكرًا وعِظةً؛ ولذلك لم يقُلْ في قِصَّةِ أهلِ الكَهفِ: نحن نقُصُّ عليك مِن نَبَئِهم؛ لأنَّ قِصَّتَهم مُنحَصِرةٌ فيما ذُكِرَ، وأحوالَ ذي القرنَينِ غَيرُ مُنحَصِرةٍ فيما ذُكِرَ هنا

.

2- والأمرُ في قولِه: قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ إذْنٌ مِن اللهِ لرَسولِه بأن يَعِدَ بالجَوابِ عن سُؤالِهم؛ عَملًا بقولِه: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف: 23، 24] على أحَدِ تأويلَينِ في مَعناه .

3- قَولُ الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا جعل خبَرَ ذي القَرنَينِ تِلاوةً وذِكرًا؛ للإشارةِ إلى أنَّ المُهِمَّ مِن أخبارِه ما فيه تذكيرٌ، وما يَصلُحُ لأن يكونَ تلاوةً حَسَب شأنِ القُرآنِ، فإنَّه يُتلَى لأجلِ الذِّكرِ، ولا يُساقُ مَساقَ القَصَصِ ، لذا لم يتَجاوَزِ القرآنُ ذِكْرَ هذا الرَّجلِ بأكثرَ مِن لقَبِه المشتهِرِ به إلى تعيينِ اسمِه وبلادِه وقومِه؛ لأنَّ ذلك مِن شُؤونِ أهلِ التَّاريخِ والقَصصِ، وليس مِن أغراضِ القرآنِ؛ فكان مِنه الاقتصارُ على ما يُفيدُ الأُمَّةَ مِن هذه القِصَّةِ عِبرةً حُكميَّةً أو خُلقيَّةً؛ فلِذلك قال الله: قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا .

4- قَولُ الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ افتِتاحُ هذه القِصَّةِ بـ وَيَسْأَلُونَكَ يدُلُّ على أنَّها مِمَّا نزلت السُّورةُ للجوابِ عنه، كما كان الابتداءُ بقِصَّةِ أصحابِ الكَهفِ اقتِضابًا؛ تنبيهًا على مِثلِ ذلك .

5- قَولُ الله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا أي: استعمَلَها على وَجهِها؛ فليس كلُّ مَن عندَه شَيءٌ مِن الأسبابِ يَسلُكُه، ولا كُلُّ أحدٍ يكونُ قادِرًا على السَّبَبِ، فإذا اجتمع القُدرةُ على السَّبَبِ الحقيقيِّ والعَمَلُ به، حصل المقصودُ، وإن عَدِما أو أحدُهما، لم يَحصُلْ .

6- في قَولِه تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أنَّه لا حرجَ أن يُخبِرَ الإنسانُ عن الشَّيءِ الذي تراه عيناه بحَسَبِ ما رآه؛ فمعلومٌ أنَّ الشَّمسَ تغرُبُ في هذه العَينِ الحَمِئةِ حَسَبَ رؤيةِ الإنسانِ؛ وإلَّا فهي أكبَرُ مِن الأرضِ، وأكبَرُ من هذه العَينِ الحَمِئةِ .

7- قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا فوعَدَ الظَّالِمَ بأمرَينِ: أنَّه يُعذِّبُه، وأنَّه يُرَدُّ إلى رَبِّه، فيُعَذِّبُه عذابًا نُكرًا، والمؤمِنُ وَعَده بأمرينِ: بأنَّ له الحُسنَى، وأنَّه يُعامِلُه بما فيه اليُسرُ والسُّهولةُ، لكِنْ تأمَّلْ في حالِ المشركِ؛ بدأ بتعذيبِه ثم ثَنَّى بتعذيبِ الله، والمؤمنُ بدأ بثوابِ اللهِ أولًا، ثمَّ بالمعاملةِ باليُسْرِ ثانيًا، والفرقُ ظاهرٌ؛ لأنَّ مقصودَ المؤمنِ الوصولُ إلى الجنَّةِ، والوصولُ إلى الجنَّةِ لا شَكَّ أنَّه أفضَلُ وأحَبُّ إليه مِن أن يُقالَ له قَولٌ يُسْرٌ، وأمَّا الكافرُ فعذابُ الدُّنيا سابقٌ على عذابِ الآخرةِ وأيسرُ منه؛ فبدأَ به، وأيضًا فالكافرُ يخافُ مِن عذابِ الدُّنيا أكثرَ مِن عذابِ الآخرةِ؛ لأنَّه لا يؤمِنُ بالثَّاني

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا

- قولُه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فيه إيجازٌ بالحَذْفِ؛ إذْ إنَّ المرادَ بالسُّؤالِ عن ذي القَرنينِ السُّؤالُ عن خبَرِه، فحذَف المضافَ إيجازًا؛ لِدَلالةِ المَقامِ

.

- والتعبيرُ بصِيغةِ الاستِقْبالِ وَيَسْأَلُونَكَ؛ للدَّلالةِ على استِمْرارِهم على ذلك إلى وُرودِ الجوابِ .

- قولُه: سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا السِّينُ للتَّأكيدِ في سَأَتْلُو، والدَّلالةِ على التَّحقيقِ المناسِبِ لِمَقامِ تأييدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتَصديقِه، بإنْجاز وعْدِه، أي: لا أترُكُ التِّلاوةَ البَتَّةَ، لا الدَّلالةِ على أنَّ التِّلاوةَ ستَقَعُ فيما يُستقبَلُ كما قيل؛ لأنَّ هذه الآيةَ ما نزَلَتْ بانفِرادِها قبلَ الوحيِ بتَمامِ القصَّةِ، بل موصولةً بما بَعدَها . والسِّينُ في قولِه: سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ لتحقيقِ الوَعدِ .

- قولُه: سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا فيه إيجازٌ بحَذفِ المضافِ، أي: مِن خبَرِه، و(مِن) تبعيضيَّةٌ، والذِّكْرُ: التَّذكُّرُ والتَّفكُّرُ، أي: سأَتْلو علَيكم ما به التَّذكُّرُ؛ فجعَل المتلُوَّ نفْسَه ذِكرًا مُبالَغةً بالوصفِ بالمصدَرِ .

2- قوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا

-  إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، أي: مكَّنَّا له أمْرَه مِن التَّصرُّفِ فيها كيف شاء، فحذَف المفعولَ .

- واللَّامُ في قولِه: مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ للتَّوكيدِ .

3- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا

- قوله: وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا تنكيرُ قَوْمًا يُؤذِنُ بأنَّهم أمَّةٌ غيرُ مَعروفةٍ ولا مألوفةٍ حالةُ عَقائدِهم وسيرتِهم .

- قولُه: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ استِئنافٌ بَيانيٌّ لِما أشعَرَ به تنكيرُ قَوْمًا مِن إثارةِ سؤالٍ عن حالِهم وعمَّا لاقاه بهم ذو القرنَين .

- قولُه تعالى: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ قيل: إنَّه كنايةٌ عن تمكينِه تعالى له منهم، لا أنَّه قولُ مشافهةٍ .

- قولُه: وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا [الكهف: 86] ، فيه إيجازٌ بحذفِ المُضافِ، أي: أمرًا ذا حُسْنٍ؛ على حَذْفِ المضافِ، أو على طَريقةِ إطلاقِ المصدَرِ على مَوصوفِه مُبالَغةً؛ وذلك بالدَّعوةِ إلى الإسلامِ، والإرشادِ إلى الشَّرائعِ .

- قولُه: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا يَجوزُ أن يَكونَ (إمَّا) و(إمَّا) للتَّقْسيمِ دونَ التَّخييرِ، أي: لِيَكُنْ شأنُك معَهم إمَّا التَّعذيبَ وإمَّا الإحسانَ، فالأوَّلُ لِمَن أصَرَّ على الكُفرِ، والثَّاني لِمَن تاب عنه .

- قولُه: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا، أي: إمَّا أن تُكفِّرَ فتُعذِّبَ، وإمَّا أن تُؤمِّنَ فتُحْسِنَ؛ فعبَّر في التَّخْييرِ بالمسبَّبِ عن السَّببِ .

- وحُسْنًا مصدَرٌ، وعدَل عن (أن تُحسِنَ إليهِم) إلى أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا مُبالَغةً في الإحسانِ إليهم حتَّى جُعِل كأنَّه اتَّخَذ فيهم نفْسَ الحُسْنِ، وفي هذه المبالَغةِ تَلْقينٌ لاخْتِيارِ أحَدِ الأمرَينِ المخيَّرِ بينَهما .

4- قوله تعالى: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا

- قولُه: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ اجتِلابُ حرفِ الاستِقْبالِ والتَّنفيسِ (سوف) يُشيرُ إلى أنَّه سيَدْعوه إلى الإيمانِ، فإنْ أصَرَّ على الكُفرِ يُعذِّبُه؛ فأَتَى بحَرفِ التَّنفيسِ؛ لِمَا يُتخَلَّلُ بين إظهارِه كُفْرَه وبين تَعذيبِه، مِن دُعائِه إلى الإيمانِ وتأبِّيه عنه؛ فهو لا يُعاجِلُهم بالقَتلِ على ظُلمِهم، بل يَدْعُوهم ويُذَكِّرُهم، فإنْ رجَعوا وإلَّا فالقَتلُ. وقد صرَّح بهذا المفهومِ في قولِه: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، أي: آمَن بعدَ كُفرِه. ولا يَجوزُ أن يَكونَ المرادُ مَن هو مُؤمِنٌ الآنَ؛ لأنَّ التَّخييرَ بينَ تَعذيبِهم، واتِّخاذِ الإمهالِ معَهم؛ يَمنَعُ أن يَكونَ فيهم مؤمِنون حينَ التَّخْييرِ. وأتى بنُون العظَمةِ في نُعَذِّبُهُ على عادةِ المُلوكِ في قولِهم: (نحن فعَلْنا) .

- وما أحسَنَ مَجيءَ هذه الجُمَلِ! لَمَّا ذكَر ما يَستحِقُّه مِن ظُلمٍ بدَأ بما هو أقرَبُ لهم ومَحسوسٌ عِندَهم، وهو قولُه: فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، ثمَّ أخبَر بما يَلحَقُه آخِرًا يومَ القيامةِ، وهو تعذيبُ اللهِ إيَّاه العذابَ النُّكْرَ، ولأنَّ التَّرتيبَ الواقِعَ هو كذا .

5- قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا

- قولُه: جَزَاءً الْحُسْنَى جَزَاءً مصدرٌ مُؤكِّدٌ لِمَضمونِ الجُملةِ؛ قُدِّمَ على المبتدَأِ اعتِناءً به .

- وتأنيثُ الحُسْنى باعتِبارِ الخَصْلةِ أو الفَعْلةِ. ويَجوزُ أن تَكونَ الحُسْنى هي الجَنَّةَ كما في قولِه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] ، فإن كان المرادُ مِن الحُسنى الخِصالَ الحُسْنى، فمَعنى عَطْفِ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا أنَّه يُجازي بالإحسانِ وبالثَّناءِ، وكِلاهُما مِن ذي القَرْنين، وإنْ كان المرادُ مِن الحُسْنى ثوابَ الآخِرةِ فذلك مِن أمرِ اللهِ تعالى، وإنَّما ذو القَرنَين مخبِرٌ به خبرًا مُستعمَلًا في فائدةِ الخبرِ، على معنى: إنَّا نُبشِّرُه بذلك، أو مُستعمَلًا في لازِمِ الفائدةِ تأدُّبًا مع اللهِ تعالى، أي: أنِّي أعلَمُ جَزاءَه عِندَك الحُسْنى. وعُطِف عليه: وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا؛ لبيانِ حَظِّ الملِكِ مِن جَزائِه، وأنَّه البِشارةُ والثَّناءُ .

- قولُه: يُسْرًا أُطلِق عليه المصدرُ؛ مُبالَغةً .

- وما أحسَنَ مَجيءَ هذه الجُمَلِ! لَمَّا ذكَر ما يَستحِقُّه مَن آمَنَ وعَمِل صالِحًا، ذكَر جَزاءَ اللهِ له في الآخِرةِ وهو الحُسْنى، أي: الجَنَّةُ؛ لأنَّ طمَعَ المؤمِنِ في الآخِرةِ ورَجاءَه هو الَّذي حمَلَه على أنْ آمَن؛ لأجْلِ جَزائِه في الآخرةِ، وهو عَظيمٌ بالنِّسبةِ للإحسانِ في الدُّنْيا، ثمَّ أتبَعَ ذلك بإحسانِه له في الدُّنيا، بقولِه: وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا، ولَمَّا ذكَر ما أعَدَّ اللهُ له مِن الحُسْنى جَزاءً لم يُناسِبْ أن يَذكُرَ جَزاءَه بالفِعْلِ، بل اقتَصر على القولِ؛ أدَبًا مع اللهِ تعالى، وإن كان يَعلَمُ أنه يُحسِنُ إليه فِعلًا وقولًا .

6- قوله تعالى: كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا

- قولُه: كَذَلِكَ الكافُ في كَذَلِكَ للتَّشبيهِ، والمشبَّهُ به شيءٌ تضَمَّنه الكلامُ السَّابقُ بلَفظِه أو مَعْناه، ويجوزُ أن يكونَ صِفةً لـ قَوْمًا، أي: قومًا كذلكَ القومِ الَّذين وجَدَهم في مَغرِبِ الشَّمسِ، أي: في كَونِهم كُفَّارًا، وفي تَخييرِه في إجراءِ أمْرِهم على العقابِ أو على الإمْهالِ. ويَجوزُ أن يكونَ المجرورُ جُزءَ جملةٍ أيضًا جُلِبَت للانتقالِ مِن كلامٍ إلى كلامٍ يَكونُ فَصْلَ خِطابٍ، كما يُقال: هذا الأمرُ كذا. وعلى الوُجوهِ كُلِّها فهو اعتراضٌ بينَ جُملةِ: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ...، إلخ، وجُملةِ: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ... [الكهف: 92، 93]، إلخ .  وقيل: كَذَلِكَ، أي: أمْرُ ذي القرنَيْن كذَلِك، أي: كما وصَفْناه؛ تَعظيمًا لأمرِه . وقيل: كَذَلِكَ مَعْناه: فَعَل معَهم كفِعْلِه مع الأوَّلين أهْلِ المغرِبِ، وأخبَر بقولِه: كَذَلِكَ، ثمَّ أخبَر تعالى عن إحاطتِه بجَميعِ ما لَدى ذي القرنَيْن وما تَصرَّف فيه مِن أفعالِه. ويَحتمِلُ أن يكونَ كَذَلِكَ استئنافَ قولٍ، ولا يَكونَ راجِعًا على الطَّائفةِ الأُولى

=====================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (92-98)

ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ

غريب الكلمات :

 

السَّدَّيْنِ: أي: الجَبَلين، وأصلُ (سدد): يدُلُّ على رَدمِ شَيءٍ ومُلاءمتِه

.

خَرْجًا: أي: جُعْلًا وأجرًا، وأصلُ (خرج): يدُلُّ على النَّفاذِ عن الشَّيءِ؛ لأنَّه مالٌ يُخرِجُه المُعطي .

رَدْمًا: أي: حاجِزًا حَصينًا، وأصلُ (ردم): يدلُّ على سدِّ الثُّلمةِ (أي: الفراغِ، أو: الشقِّ) .

زُبَرَ الْحَدِيدِ: أي: قِطَعَه الضَّخمةَ العَظيمةَ، واحِدُها: زُبْرةٌ، وأصلُ (زبر): يدُلُّ على الاجتِماعِ؛ لأنَّ الزُّبرةَ جملةٌ مُجتَمِعةٌ مِن الحديدِ .

الصَّدَفَيْنِ: أي: ناحِيَتي الجَبَل، أو: ما بين النَّاحِيَتينِ مِن الجَبَلينِ، وأصلُ (صدف): يدُلُّ على المَيلِ .

أُفْرِغْ: أي: أصُبَّ، يُقالُ: أفرغْتُ الدَّلوَ: أي: صببْتُ ما فيه، وأصلُ (فرغ): يدُلُّ على خُلُوٍّ وسَعَةِ ذَرْعٍ .

قِطْرًا: أي: نُحاسًا ذائبًا، وأصلُه مِن القَطْرِ؛ وذلك أنَّه إذا أُذيبَ قَطَر كما يَقطُرُ الماءُ .

يَظْهَرُوهُ: أي: يَعلُوه ويتسَوَّروه، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على بُروزٍ .

نَقْبًا: ثَقبًا وخَرقًا، وأصلُ (نقب): يدُلُّ على فَتحٍ في شَيءٍ .

دَكَّاءَ: أي: مَدكوكًا مُستويًا مع وجهِ الأرضِ، وأصلُ (دكك): يدلُّ على تَطامُنٍ وانسِطاحٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: ثمَّ سار ذو القرنينِ آخِذًا بالطُّرُقِ والأسبابِ التي منَحْناها إيَّاه، حتى إذا وصل مَوضِعًا بين جبَلَينِ، وجَدَ مِن دونِهما قَومًا لا يكادونَ يَعرِفونَ كَلامَ غَيرِهم. قالوا: يا ذا القَرنَينِ، إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ مُفسِدونَ في الأرضِ بالقَتلِ والنَّهبِ وغيرِ ذلك، فهل نجعَلُ لك أُجرةً أو جُعْلًا على أن تجعَلَ بيننا وبينهم حاجِزًا يمنَعُهم مِن الوصولِ إلينا؟ قال ذو القَرنَينِ: ما أعطانيه رَبِّي مِن التَّمكينِ والمُلكِ والعلمِ والمالِ: خَيرٌ لي مِن مالِكم، فأعينوني برِجالٍ أقوياءَ منكم أجعَلْ بينكم وبينهم سَدًّا مَنيعًا؛ أعطوني وناولوني قِطَعَ الحَديدِ الضَّخمةَ، فلما جاؤُوه بها وحاذَوا بها جانِبَي الجَبَلينِ، قال لهم: انفُخوا في النَّار، حتى إذا صار الحديدُ كُلُّه نارًا، قال: أعطوني نُحاسًا أَصُبَّه عليه، فما استطاعت يأجوجُ ومأجوجُ أن تصعَدَ فَوقَ السَّدِّ؛ لارتِفاعِه ومَلاستِه، وما استَطاعوا أن يَخرِقوا فيه خَرقًا مِن أسفَلِه؛ لإحكامِ بنائِه، وقُوَّتِه. قال ذو القرنَينِ: هذا الحاجِزُ الذي بَنَيتُه بينكم وبين يأجوجَ ومأجوجَ؛ رَحمةٌ مِن رَبِّي بالنَّاسِ، فإذا جاء وعدُ رَبِّي بخروجِ يأجوجَ ومأجوجَ، جعلَ اللهُ هذا الحاجِزَ مُنهَدِمًا مُستويًا بالأرضِ، وكان وَعدُ رَبِّي حقًّا.

تفسير الآيات:

 

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92).

أي: ثمَّ سار ذو القَرنَينِ في طريقٍ ثالثٍ آخِذًا بالأسبابِ والوسائِلِ؛ لِيَبلُغَ الجِهةَ التي يُريدُها

.

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93).

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ.

أي: سار إلى أن بلَغَ مَوضِعًا بين جبَلَينِ .

وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ يُفْقِهُونَ بضَمِّ الياءِ، وكَسرِ القافِ، أي: لا يَكادونَ يُفهِمونَ أحدًا إذا نَطَقوا .

2- قِراءةُ يَفْقَهُونَ بفَتحِ الياءِ والقافِ، أي: لا يَكادونَ يَفهمونَ ما يُقالُ لهم .

وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا.

أي: وجد ذو القرنين مِن دُونِ الجبَلَينِ قومًا لا يَكادونَ يَفهمونَ ما يُقالُ لهم بغيرِ لُغتِهم .

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94).

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.

أي: قال أولئك القَومُ: يا ذا القَرنَينِ، إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ يَخرُجونَ مِن بينِ السَّدَّينِ، فيُفسِدونَ في أرضِنا بالقَتلِ والنَّهبِ والتَّخريبِ، وغيرِ ذلك مِن وُجوهِ الإفسادِ .

عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ تعالى:  يا آدَمُ، فيقولُ: لبَّيك وسَعدَيك ، والخيرُ في يَدَيك، فيقولُ: أخرِجْ بَعْثَ النَّارِ ، قال: وما بَعثُ النَّارِ؟ قال: مِن كُلِّ ألفٍ تِسعَمائةٍ وتِسعةً وتسعينَ! فعنده يَشيبُ الصَّغيرُ، وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَملٍ حَمْلَها، وترى النَّاسَ سُكارى وما هم بسُكارى، ولكِنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ! قالوا: يا رسولَ اللهِ، وأيُّنا ذلك الواحِدُ؟! قال: أبشِروا؛ فإنَّ منكم رجُلًا، ومِن يأجوجَ ومأجوجَ ألفًا. ثمَّ قال: والذي نَفسي بِيَدِه، إنِّي أرجو أن تكونوا رُبُعَ أهلِ الجَنِّة! فكَبَّرْنا، فقال: أرجو أن تكونوا ثُلُثَ أهلِ الجنَّةِ! فكَبَّرْنا، فقال: أرجو أن تكونوا نِصفَ أهلِ الجنَّةِ! فكَبَّرْنا، فقال: ما أنتم في النَّاسِ إلَّا كالشَّعرةِ السَّوداءِ في جِلدِ ثَورٍ أبيَضَ، أو كشَعرةٍ بَيضاءَ في جِلدِ ثَورٍ أسوَدَ !)) .

فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ خَرَاجًا بألِفٍ، وهو الذي يُؤخَذُ على الأرضِ في كُلِّ عامٍ مِن الضرائِبِ، فكأنَّهم قالوا: فهل نجعَلُ لك أجرةً مَعلومةً نُؤدِّيها إليك كلَّ سَنةٍ، على أن تبنيَ بيننا وبينهم سدًّا ؟

2- قراءةُ خَرْجًا بغيرِ ألِفٍ، أي: جُعْلًا، فكأنَّهم قالوا: نجعَلُ لك جُعْلًا ندفَعُه إليك الآن مِن أموالِنا مَرَّةً واحِدةً، على أن تبنيَ بيننا وبينهم سَدًّا؟ وقيل: الخرجُ والخراجُ بمعنًى واحدٍ .

فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا.

أي: فهل نجعَلُ لك -يا ذا القَرنَينِ- أُجرةً أو جُعلًا مِن أموالِنا على أن تبنيَ لنا حاجِزًا بيننا وبين يأجُوجَ ومأجوجَ، فلا يُمكِنَهم الوصولُ إلينا ؟

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95).

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ.

أي: قال ذو القَرنَينِ: الذي بَسَطَه لي ربِّي مِن المُلكِ والعِلمِ، والقُوَّةِ والقُدرةِ والأموالِ؛ خَيرٌ مِن المالِ الذي تَعرِضونَه عليَّ .

كما قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 36] .

فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا.

أي: قال ذو القَرنَينِ: فأعينُوني برِجالٍ أقوياءَ يُحسِنونَ العَمَلَ، وبآلاتٍ للبناءِ؛ أجعَلْ بينكم وبينَ يأجوجَ ومأجوجَ حاجِزًا مَنيعًا وقَويًّا .

آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96).

آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ.

أي: قال ذو القَرنَينِ للقَومِ الذين سألوه بناءَ السَّدِّ: أعطوني قِطَعَ الحَديدِ الضَّخمةَ وناوِلونيها .

حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا.

أي: فلمَّا جاؤوه بقِطَعِ الحَديدِ الكَبيرةِ، وغطَّى بها ذو القَرنَينِ المَنفَذَ بينَ الجبَلَينِ حتَّى حاذَى بذلك البناءِ رُؤوسَهما؛ قال للعُمَّالِ: انفُخوا النَّارَ بالآلاتِ على قِطَعِ الحديدِ .

حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا.

أي: فنَفَخوا حتى جعل ذو القَرنَينِ الحديدَ نارًا، فقال: أعطوني نُحاسًا ذائِبًا أَصُبَّه على الحديدِ المُحْمَى .

فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97).

فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ .

أي: ففَعَلوا ذلك، فاختَلَط والتصَقَ بعضُه ببعضٍ، وصار حاجِزًا صَلْدًا مَنيعًا، واستحكَمَ استحكامًا هائلًا، فلم يَقدِرْ يأجوجُ ومأجوجُ على صعودِ ذلك الرَّدمِ فيَنزِلوا منه على النَّاسِ؛ لارتفاعِه ومَلاستِه، فهو مُستَوٍ مع الجَبَلِ، والجبَلُ عالٍ لا يُرامُ .

وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا.

أي: ولم يَقْدِروا على خَرقِ ذلك الرَّدمِ مِن أسفَلِه خَرقًا يَنفُذُ بهم إلى الجِهةِ الأُخرى؛ وذلك لإحكامِ بنائِه، وصَلابتِه وشِدَّتِه .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ لَيَحفِرونَ السَّدَّ كُلَّ يَومٍ ، حتى إذا كادُوا يَرَونَ شُعاعَ الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارجِعوا فستَحفِرونَه غَدًا، فيَعودونَ إليه كأشَدِّ ما كان، حتى إذا بلَغَت مُدَّتُهم وأراد اللهُ أن يبعَثَهم على النَّاسِ، حَفَروا، حتى إذا كادوا يَرَونَ شُعاعَ الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارجِعوا فستَحفِرونَه غَدًا إن شاء اللهُ، ويَستَثني، فيعودونَ إليه وهو كهيئَتِه حين ترَكَوه، فيَحفِرونَه ويَخرُجونَ على النَّاسِ، فيُنَشِّفونَ المياهَ، ويتحَصَّنُ النَّاسُ منهم في حُصونِهم، فيَرمُونَ بسِهامِهم إلى السَّماءِ، فترجِعُ وعليها كهيئةِ الدَّمِ! فيقولون: قَهَرْنا أهلَ الأرضِ، وعَلَونا أهلَ السَّماءِ، فيَبعَثُ الله عليهم نَغَفًا في أقفائِهم فيَقتُلُهم بها، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: والذي نَفسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، إنَّ دوابَّ الأرضِ لَتَسمَنُ وتَشكَرُ شَكَرًا مِن لُحومِهم ودمائِهم )) .

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98).

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.

أي: قال ذو القَرنَينِ: هذا الرَّدمُ الذي مكَّنَني اللهُ مِن جَعْلِه حاجزًا بينَ يأجوجَ ومأجوجَ وبينَ الإفسادِ في الأرضِ؛ رَحمةٌ مِن رَبِّي بالنَّاسِ .

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ.

أي: فإذا جاء وعدُ رَبِّي الذي وقَّتَه لخُروجِ يأجوجَ ومأجوجَ مِن وَراءِ هذا الرَّدْمِ، جعَلَ اللهُ هذا الرَّدمَ مُنهَدِمًا مُستَويًا بالأرضِ .

كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء: 96- 97].

وعن زينبَ بنتِ جَحشٍ رَضِيَ الله عنها، ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخَل عليها فَزِعًا يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وَيلٌ للعَرَب مِن شَرٍّ قد اقتَرَب؛ فُتِحَ اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه -وحَلَّق بإصبَعِه الإبهامِ والتي تليها- فقُلتُ: يا رسولَ الله، أنَهلِكُ وفينا الصَّالِحونَ؟ قال: نعم، إذا كَثُرَ الخَبَثُ ) .

وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فُتِح اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مِثلُ هذه -وعقد بِيَدِه تِسعينَ ) .

وعن النوَّاسِ بنِ سِمعانَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((ذكَرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدجَّالَ ذاتَ غَداةٍ، فخَفَّض فيه ورَفَّ ع ...))، وفيه: ((ثُمَّ يأتي عيسَى ابنَ مريمَ قومٌ قد عَصَمهم اللهُ منه، فيمسحُ عن وجوهِهم، ويحدِّثُهم بدرجاتِهم في الجنَّةِ، فبينما هو كذلك إذ أوحى اللهُ إلى عيسى: إنِّي قد أخرجتُ عِبادًا لي لا يدانِ لأحَدٍ بقِتالِهم، فحرِّزْ عبادي إلى الطُّورِ ، ويَبعَثُ اللهُ يأجوجَ ومأجوجَ، وهم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلونَ ، فيمُرُّ أوائِلُهم على بُحَيرةِ طَبَريَّة فيَشرَبونَ ما فيها، ويمُرُّ آخِرُهم فيقولونَ: لقد كان بهذه مَرَّةً ماءٌ! ويُحصَرُ نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه، حتى يكونَ رأسُ الثَّورِ لأحَدِهم خيرًا مِن مائةِ دينارٍ لأحَدِكم اليومَ! فيَرغَبُ نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه، فيُرسِلُ اللهُ عليهم النَّغَفَ في رقابِهم، فيُصبِحونَ فَرسَى كمَوتِ نَفسٍ واحدةٍ، ثمَّ يَهبِطُ نبيُّ اللهِ عيسى وأصحابُه إلى الأرضِ، فلا يَجِدونَ في الأرضِ مَوضِعَ شِبرٍ إلَّا ملأه زَهَمُهم ونَتْنُهم، فيرغَبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابُه إلى اللهِ، فيُرسِلُ اللهُ طيرًا كأعناقِ البُختِ ، فتَحمِلُهم فتَطرَحُهم حيثُ شاء الله، ثم يُرسِلُ اللهُ مَطرًا لا يَكُنُّ منه بَيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ ، فيَغسِلُ الأرضَ حتى يتركها كالزَّلَفةِ ، ثمَّ يقالُ للأرضِ: أنبِتي ثَمَرتَكِ، ورُدِّي بركَتَكِ، فيَومئذٍ تأكُلُ العِصابةُ مِن الرُّمَّانةِ، ويَستَظِلونَ بقِحْفِها ، ويُبارَكُ في الرِّسْلِ ، حتى إنَّ اللِّقْحةَ من الإبِلِ لتكفي الفِئامَ مِن النَّاسِ، واللِّقْحةَ من البَقَرِ لتكفي القبيلةَ مِن النَّاسِ، واللِّقْحةَ من الغَنَمِ لتكفي الفَخْذَ مِن النَّاسِ! فبينما هم كذلك إذ بعثَ اللهُ ريحًا طيِّبةً، فتأخُذُهم تحت آباطِهم، فتَقبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤمِنٍ وكُلِّ مُسلِمٍ، ويبقى شِرارُ النَّاسِ يتهارَجونَ فيها تهارُجَ الحُمُرِ، فعليهم تقومُ السَّاعةُ )) .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَيُحَجَّنَّ البَيْتُ، ولَيُعتمَرَنَّ بعدَ خُروجِ يأجوجَ ومأجوجَ )) .

وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.

أي: وكان وَعدُ اللهِ عِبادَه بخُروجِ يأجوجَ ومأجوجَ في آخرِ الزَّمانِ وغيرِ ذلك مِن وُعودِه، كائنًا لا محالةَ

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد: 31].

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أنَّ على المَلكِ التعفُّفَ عن أموالِ رعيَّتِه، والزُّهدَ في أخذِ أُجرةٍ في مُقابلةِ عَمَلٍ يأتيه -ما أغناه اللهُ عنه- ففي ذلك حِفظُ كرامتِه، وزيادةُ الشَّغَفِ بمحبَّتِه، كما تأبَّى ذو القرنينِ؛ تفَضُّلًا وتكَرُّمًا

.

2- في قَولِه تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ التحَدُّثُ بنِعمةِ الله تعالى إذا اقتَضاه المقامُ، كقَولِ ذي القرنينِ هذا في مقامِ تعَفُّفِه عن أموالِهم، والشَّفَقةِ عليهم؛ وكقَولِ سُلَيمانَ: فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ [النمل: 36] .

3- في قَولِه تعالى: قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا مُشاطَرةُ المَلِكِ العُمَّالَ في الأعمالِ، ومُشارفتُهم بنفسِه إذا اقتضى الحالُ؛ تنشيطًا لهِمَّتِهم، وتجرئةً لهم، وترويحًا لقُلوبِهم، وقد كان ذو القرنينِ يقاسِمُ الرِّجالَ الأتعابَ، ويديرُ العَمَلَ بنَفسِه .

4- قَولُ الله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا لَمَّا فعَلَ ذو القَرنَينِ هذا الفِعلَ الجَميلَ والأثَرَ الجليلَ، أضاف النِّعمةَ إلى مُولِيها، فقال: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، وهذه حالُ الخُلَفاءِ الصَّالحينَ: إذا منَّ اللهُ عليهم بالنِّعَمِ الجليلةِ، ازداد شُكرُهم وإقرارُهم، واعترافُهم بنِعمةِ الله، ولم يُسنِدوا ما يَعمَلونَه إلى أنفُسِهم، ولكِنَّهم يُسنِدونَه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وإلى فَضلِه .

5- في قَولِه تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي تعريفُ الغيرِ ثمرةَ العَمَلِ المهِمِّ؛ ليَعرِفوا قَدْرَه، فيُظهِروا شُكرَه .

6- في قَولِه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا الإعلامُ بالدَّورِ الأُخرويِّ، وانقضاءِ هذا الطَّورِ الأوَّليِّ؛ لتبقى النفوسُ طامحةً إلى ذلك العالَمِ الباقي، والنَّعيمِ السَّرمديِّ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا فيه سؤالٌ: كيف فَهِمَ ذو القرنَينِ منهم هذا الكلامَ بعد أن وصَفَهم اللهُ تعالى بقَولِه: لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا؟

الجواب من وجوهٍ:

الوجهُ الأولُ: أنَّ (كاد) فيه قولان: الأوَّلُ: أنَّ إثباتَه نفيٌّ، ونفيَه إثباتٌ؛ فقَولُه: لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لا يدُلُّ على أنَّهم لا يَفهَمون شيئًا، بل يدُلُّ على أنَّهم قد يفهمونَ على مشقَّةٍ وصُعوبةٍ. والقول الثاني: أنَّ (كاد) معناه المقاربةُ، وعلى هذا القَولِ فقَولُه: لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أي: لا يعلَمونَ، وليس لهم قُربٌ مِن أن يفقَهوا. وعلى هذا القَولِ فلا بدَّ مِن إضمارٍ، وهو أن يقال: لا يكادونَ يفهَمونَه إلَّا بعد تقريبٍ ومشقَّةٍ مِن إشارةٍ ونَحوِها

.

الوجه الثاني: أنَّه تكلَّم عنهم مُترجِمٌ ؛ فذو القرنين أعطاه الله تعالى مُلكًا عظيمًا، وعنده من المترجِمينَ ما يَعرِفُ به ما يريدُ .

الوجه الثالث: أنَّ الله قد أعطى ذا القرنينِ مِن الأسبابِ العِلميَّةِ ما فَقِهَ به ألسنةَ أولئك القَومِ، وفَقَّهَهم، وراجَعَهم وراجَعوه .

الوجه الرابع: أنَّه قد يكون الله عزَّ وجَلَّ قد ألهمه لغةَ النَّاسِ الذين استولى عليهم كلِّهم .

2- قولُهم: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ افْتَتحوا الكلامَ بالنِّداءِ، ونادَوْه نِداءَ المستغيثينَ المضطرِّينَ، ونداؤُهم إيَّاه بلَقبِ ذي القرنَينِ يدُلُّ على أنَّه مشهورٌ بمعنَى ذلك اللَّقبِ بينَ الأُممِ المتاخِمةِ لبلادِه .

3- قَولُ الله تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا فيه جوازُ الخَراجِ والأجرِ على الأعمالِ .

4- قَولُ الله تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا فيه أنَّ على المَلِك القِيامَ بمصالحِ الخَلقِ، وسَدَّ الفُرَج، وإصلاحَ الثُّغورِ، ولو بأن يأخُذَ مِن أموالِهم إذا احتاجَ ، وأنَّ عليه أن يَبذُلَ وُسعَه في الرَّاحةِ والأمنِ؛ دِفاعًا عن الوطنِ العزيزِ، وصيانةً للحريَّةِ والتمَدُّنِ، مِن مخالبِ التوحُّشِ والخَرابِ؛ قيامًا بفريضةِ دَفعِ المُعتَدين، وإمضاءِ العَدلِ بينَ العالَمينَ، كما لبَّى ذو القرنينِ دَعوةَ الشاكينَ في بناءِ السَّدِّ .

5- قال الله تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا في هذه الآيةِ دليلٌ على اتِّخاذِ السُّجونِ، وحَبسِ أهلِ الفَسادِ فيها، ومَنعِهم من التصَرُّفِ لِما يُريدونَه، ولا يُترَكونَ وما هم عليه .

6- قَولُه تعالى: فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ هذا تأييدٌ مِن اللهِ تعالى لذي القرنينِ في هذه المحاورةِ؛ فإنَّ القَومَ لو جمعوا له خَرْجًا لم يُعِنْه أحدٌ، ولوكَلُوه إلى البُنيانِ. ومعونتُه بأنفُسِهم أجمَلُ به، وأسرَعُ في انقضاءِ هذا العمَلِ .

7- قال الله تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ المَلِكَ فُرِضَ عليه أن يقومَ بحمايةِ الخَلقِ في حِفظِ بَيضتِهم، وسَدِّ فُرجتِهم، وإصلاحِ ثُغورِهم، من أموالِهم التي تَفيءُ عليهم، وحُقوقِهم التي تجمَعُها خِزانتُهم تحت يَدِه ونَظَرِه، حتى لو أكلَتْها الحقوقُ وأنفَذَتْها المُؤَن، لكان عليهم جَبرُ ذلك من أموالِهم، وعليه حُسنُ النَّظَرِ لهم، وذلك بثلاثةِ شُروطٍ: الأول: ألَّا يَستأثِرَ عليهم بشيءٍ. الثاني: أن يبدأ بأهلِ الحاجةِ فيُعينَهم. الثالث: أن يُسَوِّيَ في العطاءِ بينهم على قَدرِ مَنازِلِهم. فإذا فَنِيت بعد هذا، وبَقِيَت صفرًا، فأطلَعَت الحوادِثُ أمرًا، بذلوا أنفُسَهم قبل أموالِهم، فإنْ لم يُغنِ ذلك فأموالُهم تؤخَذُ منهم على تَقدير، وتَصريفٍ بتدبير؛ فهذا ذو القرنينِ لَمَّا عَرَضوا عليه المالَ في أن يكُفَّ عنهم ما يَحذَرونَه مِن عاديةِ يأجوجَ ومأجوجَ، قال: لستُ أحتاجُ إليه، وإنَّما أحتاجُ إليكمفَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، أي: اخدُموا بأنفُسِكم معي؛ فإنَّ الأموالَ عندي والرِّجالَ عندكم، ورأى أنَّ الأموالَ لا تُغني عنهم؛ فإنَّه إن أخَذَها أجرةً نَقَص ذلك ممَّا يحتاجُ إليه، فيعودُ بالأجرِ عليهم، فكان التطَوُّعُ بخِدمة الأبدانِ أولى. وضابِطُ الأمورِ: لا يحِلُّ مالُ أحدٍ إلَّا لضَرورةٍ تَعرِضُ، فيؤخَذُ ذلك المالُ جَهرًا لا سِرًّا، ويُنفَقُ بالعَدلِ لا بالاستيثارِ، وبرأي الجَماعةِ لا بالاستبدادِ بالأمرِ .

8- في قَولِه تعالى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا تدعيمُ الأسوارِ والحُصونِ في الثُّغورِ، وتقويتُها بذَوبِ الرَّصاصِ، وبوَضعِ صَفائِحِ النُّحاسِ خِلالَ الصُّخورِ الصُّمِّ؛ صِدقًا في العَمَلِ، ونُصحًا فيه، ليُنتَفَعَ به على تطاوُلِ الأجيالِ؛ فإنَّ البناءَ غيرَ الرَّصينِ لا ثمرةَ فيه .

9- إنْ قيلَ: ما الجَمعُ بينَ قَولِه تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا، وبين الحَديثِ الذي رواه البخاريُّ ومُسلِمٌ: ((فُتِحَ اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوجَ مِثلُ هذه -وعَقَدَ بِيَدِه تِسعينَ )) ؟

فالجوابُ: أمَّا على قَولِ مَن ذهب إلى أنَّ هذا الحديثَ إشارةٌ إلى فَتحِ أبوابِ الشَّرِّ والفِتَن، وأنَّ هذا استعارةٌ مَحضةٌ وضَربُ مَثَلٍ، فلا إشكالَ. وأمَّا على قَولِ مَن جعل ذلك إخبارًا عن أمرٍ مَحسوسٍ -كما هو الظاهِرُ المتبادِرُ- فلا إشكالَ أيضًا؛ لأنَّ قَولَه: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا أي: في ذلك الزَّمانِ؛ لأنَّ هذه صيغةُ خبرٍ ماضٍ، فلا ينفي وقوعَه فيما يُستقبَلُ بإذنِ اللهِ لهم في ذلك قَدَرًا، وتسليطَهم عليه بالتدريجِ قليلًا قليلًا، حتى يتِمَّ الأجَلُ وينقضيَ الأمَدُ المقدورُ، فيَخرُجون، كما قال الله تعالى: وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء: 96] .

10- قولُه: هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فيه إيذانٌ بأنَّه ليس مِن قَبيلِ الآثارِ الحاصِلةِ بمُباشَرةِ الخلقِ عادَةً، بل هو إحسانٌ إلهيٌّ محضٌ، وإن ظهَر بمُباشَرتي .

11- قولُه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ فيه بيانٌ لعِظَمِ قُدرتِه عزَّ وجلَّ بعدَ بيانِ سَعةِ رَحمتِه .

12- قَولُه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا فيه خروجُ يأجوجَ ومأجوجَ قُرْبَ السَّاعةِ .

13- مِن المناسباتِ الصُّوريَّةِ بين قِصَّةِ ذي القرنين وموسى مع الخَضِرِ: أنَّ في قِصَّةِ كلٍّ منهما ثلاثةَ أشياءَ آخِرُها بناءُ جِدارٍ لا سَقْفَ له، وإنَّما هو لأجلِ حِفظِ ما يُهتَمُّ به خَوفَ المُفسِدِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا فيه إطلاقُ السَّدِّ على الجبلِ؛ لأنَّه سَدٌّ في الجُملة، أو لكونِه مُلاصِقًا للسدِّ

.

2- قوله تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا

-  فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا الاستفهامُ مُستعمَلٌ في العَرْضِ ، والفاءُ لِتَفريعِ العَرضِ على إفسادِهم في الأرضِ ، وهو استِدْعاءٌ منهم قَبولَ ما يَبذُلونه ممَّا يُعينُه على ما طلَبوا على جِهَةِ حُسنِ الأدَبِ؛ إذْ سأَلوه ذلك .

3- قوله تعالى: قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا

- قولُه: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ الفاءُ لِتَفريعِ الأمرِ بالإعانةِ على خيريَّةِ ما مَكَّنه اللهُ تعالى فيه مِن مالِهم، أو على عدَمِ قَبولِ خَرْجِهم .

- قولُه: أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فيه تقديمُ إضافةِ الظَّرفِ إلى ضَميرِ المخاطَبينَ بَيْنَكُمْ على إضافتِه إلى ضَميرِ يَأْجوجَ ومأجوجَ: وَبَيْنَهُمْ؛ لإظهارِ كَمالِ العِنايَةِ بمَصالِحِهم كما راعَوْه في قولِهم: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ .

4- قوله تعالى: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا

- قولُه: آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ لَعلَّ تَخصيصَ الأمرِ بالإيتاءِ بها دونَ سائرِ الآلاتِ مِن الصُّخورِ والحطَبِ ونَحوِهما؛ لأنَّ الحاجَةَ إليها أمَسُّ؛ إذْ هي الرُّكنُ في السَّدِّ، ووُجودُها أعَزُّ .

- قولُه: أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ، و: سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، و: جَعَلَهُ نَارًا و: أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، فيه إسنادُ ذلك إلى ذي القرنَين مع أنَّه فِعلُ العُمَّال؛ للتَّنبيهِ على أنَّه العمدةُ في ذلك، وهم بمَنزِلةِ الآلةِ .

- قولُه: جَعَلَهُ نَارًا تَشبيهُ بليغٌ، أي: كالنَّارِ في الحرارةِ وشِدَّةِ الاحْمِرارِ؛ حُذِفَت أداةُ التَّشبيهِ ووَجهُ الشَّبهِ، فأصبَح بَليغًا .

- قولُه: حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ فيه إيجازٌ بالحَذْفِ؛ حيث إنَّ تقديرَ الكلامِ: فآتَوْه زُبَرَ الحديدِ فنَضَدَها وبَناها، حتَّى إذا جعَل ما بينَ الصَّدَفَين مُساوِيًا لعُلوِّ الصَّدَفين .

- وحذَف مُتعلَّقَ انْفُخُوا؛ لِظُهورِه مِن كَونِ العمَلِ في صُنعِ الحديدِ. والتَّقديرُ: انفُخوا في الكِيران .

- قولُه: قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فيه إيجازٌ بحَذْفِ المفعولِ به للفِعْلِ آتُونِي، وتقديرُه: آتوني قِطْرًا أُفرِغْ عليه قِطْرًا؛ فحُذِفَ الأوَّلُ؛ لِدَلالةِ الثَّاني عليه .

5- قوله تعالى: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا

- فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ جاء قولُه: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ هنا بتَخْفِيفِ (اسْتَطَاعُوا) من غيرِ تاءٍ، ثُمَّ قال: وَمَا اسْتَطَاعُوا بالتاء؛ ووجه ذلك: أنَّ مِن خَصائصِ مُخالَفةِ مُقْتضى الظَّاهرِ هنا إيثارَ فِعْلٍ ذي زِيادةٍ في المبْنَى بمَوْقِعٍ فيه زِيادةُ المعنى؛ لأنَّ استِطاعةَ نَقْبِ السَّدِّ أقْوى مِن استِطاعةِ تَسلُّقِه، فهذا مِن مَواضِعِ دَلالةِ زِيادةِ المبنى على زيادةٍ في المعنى ؛ فجِيءَ أوَّلًا بالفِعْلِ مُخفَّفًا عِندَ إرادةِ نَفْيِ قُدرتِهم على الظُّهورِ على السَّدِّ، والصُّعودِ فوقَه، ثمَّ جِيءَ بأصلِ الفِعلِ مُستَوْفَى الحُروفِ عندَ نفْيِ قُدرتِهم على نَقْبِه وخَرْقِه، ولا شكَّ أنَّ الظُّهورَ أيسَرُ مِن النَّقْبِ، والنَّقْبُ أشَدُّ عليهِم وأثقَلُ، فجِيءَ بالفِعلِ مُخفَّفًا معَ الأخَفِّ، وجيءَ به تامًّا مستوفًى مع الأثقَلِ، فتَناسَب، ولو قُدِّر بالعَكسِ لَما تَناسَب. وأيضًا فإنَّ الثَّانيَ في مَحلِّ التَّأكيدِ لِنَفيِ قُدرتِهم على الاسْتيلاءِ على السَّدِّ وتَمكُّنِهم منه؛ فناسَب ذلك الإطالةَ، واللهُ سبحانه أعلمُ بما أراد . وقيل: لأنَّ الثَّانيةَ تعدَّت إلى اسمٍ، وهو قولُه عزَّ وجلَّ: نَقْبًا فخَفَّ مُتعلَّقُها، فاحتمَلَتْ بأن يَتِمَّ لَفظُها، وأمَّا الأُولى فإنَّها تَعلَّقَ مَكانُ مفعولِها بـ (أنْ) والفِعْلِ بعدَها، وهي أربعةُ أشياءَ: أنْ، والفِعلُ، والفاعِلُ، والمفعولُ الَّذي هو الهاءُ، فثَقُلَ لفظُ اسْتَطَاعُوا، وكان يَجوزُ تَحقيقُه حيث لا يُقارِنُه ما يَزيدُه ثِقلًا، فلمَّا اجتمَع الثقلانِ، واحتَمَل الأوَّلُ التَّخفيفَ، ألزمَ في الأوَّلِ دونَ الثَّاني الَّذي خفَّ مُتعلَّقُه .

6- قوله تعالى: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا

- قولُه: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي قيل: في الكلامِ حَذْفٌ، وتَقديرُه: فلَمَّا أكمَل بِناءَ السَّدِّ واستَوى واستَحْكَم قال: هذا رحمةٌ مِن ربِّي .

- جملةُ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّه لما آذَن الكلامُ بانْتِهاءِ حكايةِ وصْفِ الرَّدْمِ كان ذلك مُثيرًا سُؤالَ مَن يَسأَلُ: ماذا صدَر مِن ذي القَرْنَين حين أتَمَّ هذا العمَلَ العظيمَ؟ فيُجابُ بجُملةِ: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، وجُعِلَت الرَّحمةُ مِن اللهِ؛ لأنَّ اللهَ ألْهمَه لذلك ويَسَّر له ما هو صعبٌ ، وفي التَّعرُّضِ لِوَصفِ الرُّبوبيَّةِ تَربيةُ مَعْنى الرَّحمةِ .

- قولُه: دَكَّاءَ الدَّكَّاءُ: بمَعْنى المفعولِ؛ للمُبالَغةِ، أي: جعَله مَدْكوكًا، أي: مُسوًّى بالأرضِ بعدَ ارتِفاعٍ .

- قولُه: وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا تذييلٌ للعِلْمِ بأنَّه لا بُدَّ له مِن أجَلٍ يَنْتهي إليه، وكان تأجيلُ اللهِ الأشياءَ حقًّا ثابِتًا لا يتَخلَّفُ؛ فهذه الجملةُ بعُمومِها وما فيها مِن حِكمةٍ كانت تَذْييلًا بَديعًا

====================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (99-102)

ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

 

يَمُوجُ: أي: يَضطَرِبُ ويختَلِطُ، وأصلُ (موج): يدلُّ على اضْطِرابٍ فِي شَيءٍ

.

الصُّورِ: أي: القرنِ ينفخُ فيه إسرافيلُ. وقيل: الصورُ جمعُ صُورَةٍ يَنْفُخُ فيها رُوحَها فتَحْيا .

نُزُلًا: النُّزُلُ: ما يُعَدُّ للنَّازلِ مِن الزَّادِ، وما يُقدَّمُ للضيفِ، أو: النُّزُلُ: المنزلُ وموضعُ النُّزولِ، وأصلُ (نزل): يدُلُّ على هُبوطِ شَيءٍ ووُقوعِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكرُ الله تعالى بعضَ أهوالِ يومِ القيامةِ، فيقولُ: وترَكْنا يأجوجَ ومأجوجَ -يومَ يأتيهم وَعْدُ الله بِدَكِّ الردمِ- يَخرُجونَ مُزدَحِمينَ مُختَلِطينَ بالنَّاسِ، وينتَشِرونَ بينهم مفسدينَ. ونُفِخَ في الصُّورِ للبَعثِ، فجَمَعْنا الخَلقَ جَميعًا للحِسابِ والجزاءِ، وأبرَزْنا جهنَّمَ للكافرينَ ليَرَوها عِيانًا؛ الذين كانت أعيُنُهم في الدُّنيا في غِطاءٍ عن النَّظَرِ في آياتِ القُرآنِ وتدَبُّرِها، وكانوا لا يُطيقونَ سَماعَ كَلامي، أفظَنَّ الذين كَفَروا أن يتَّخِذوا عبادي أولياءَ مِن دوني؟ إنَّا أعتَدْنا نارَ جهنَّمَ للكافرينَ مَنزِلًا.

تفسير الآيات:

 

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا انقضى الجوابُ عَمَّا سأل عنه الكافِرونَ على أحسَنِ وَجهٍ، في أبلَغِ سِياقٍ وأبدَعِ تناسُبٍ؛ وأدرجَ اللهُ تعالى في خلالِه ما أدرَجَ مِن التَّذكيرِ والوَعظِ، والأمرِ والنَّهيِ، والوَعدِ والوَعيدِ، والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ، والتَّبكيتِ للكاتمينَ لِما عِندَهم من العِلمِ، النَّاكبينَ عمَّا استبان لهم مِن الطَّريقِ والمَنهجِ الواضِحِ، وخَتَمه بما هو عَلَمٌ عَظيمٌ للسَّاعةِ- ذكَرَ ما يكونُ إذ ذاك، وما يكونُ بَعدَه إلى حُصولِ كُلٍّ مِن الفَريقَينِ في دارِه، ومحَلِّ استِقرارِه

.

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ.

أي: وتَرَكْنا يأجوجَ ومأجوجَ يومَ يأتي وعدُ اللهِ بدَكِّ الرَّدمِ، يَخرُجونَ مُزدَحِمينَ مُختَلِطينَ بالنَّاسِ، وينتَشِرونَ بينهم للإفسادِ في الأرضِ .

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ.

أي: ونُفِخَ في البُوقِ؛ لتَعودَ الأرواحُ إلى أجسادِها، فإذا هم قيامٌ لرَبِّ العالَمينَ .

عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ما الصُّورُ؟ قال: قَرْنٌ يُنفَخُ فيه )) .

وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كيف أنعَمُ، وقد الْتقمَ صاحبُ القرنِ القرنَ، وحنَى جبهتَه، وأصْغَى سمعَه، ينتَظِرُ أن يُؤمرَ أن يَنفُخَ فيَنفُخَ؟! قال المُسلِمونَ: فكيف نقولُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: قولوا: حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، توكَّلْنا على اللهِ ربِّنا -وربَّما قال سفيانُ-: على اللهِ توكَّلْنا )) .

فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا.

أي: فجَمَعْنا جميعَ الخَلقِ إلى مَوقِفِ القيامةِ؛ لحِسابِهم ومُجازاتِهم على أعمالِهم .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49، 50].

وقال سُبحانَه: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47].

وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100).

أي: وأبرَزْنا جهنَّمَ يومَ القيامةِ، وأظهَرْناها للكافرينَ؛ حتى يُشاهِدوها عِيانًا قبلَ دُخولِها .

كما قال تعالى: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 44- 45] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [الشعراء: 91] .

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101).

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي.

أي: أظهَرْنا جهنَّمَ للكافرينَ الذين كانت أعيُنُهم مُغَطَّاةً عن النَّظَرِ في آياتِ القُرآنِ وتدَبُّرِها، وتَعامَوا عن قَبولِ الحَقِّ واتِّباعِه .

كما قال تعالى: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] .

وقال سُبحانَه: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] .

وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا.

أي: وكان الكافِرونَ لا يُطيقونَ سَماعَ كَلامِ اللهِ .

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بَيَّن الله تعالى مِن حالِ الكافرينَ أنَّهم أعرَضوا عن الذِّكرِ، وعن استِماعِ ما جاء به الرَّسولُ؛ أتبَعَه بقَولِه: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ، والمراد: أفظَنُّوا أنَّهم ينتَفِعون بما عَبَدوه مع إعراضِهم عن تدبُّرِ الآياتِ، وتمَرُّدِهم عن قَبولِ أمرِه، وأمرِ رَسولِه ؟

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ.

أي: أفظَنَّ الذين كَفَروا باللهِ أن يتَّخِذوا عباديَ الذينَ عَبَدوهم مِن دوني -كالمسيحِ عيسى ابنِ مريمَ، والملائكةِ والأنبياءِ، وغيرِهم من الصَّالحينَ- أولياءَ لهم ؟

كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ * فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ: 40 - 42] .

وقال سُبحانَه: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 116- 117] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81، 82].

وقال سُبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5- 6].

إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا.

أي: إنَّا هيَّأْنا جهنَّم مَنزِلًا للكافرينَ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قال الله تعالى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا مِن الحِكَمِ في إخبارِ اللهِ عزَّ وجلَّ بذلك: أنْ يُصْلِحَ الإنسانُ ما بينه وبينَ اللهِ؛ وأنْ يَخافَ مِن هذا اليومِ، وأنْ يَستعِدَّ له، وأنْ يُصَوِّرَ نفسَه وكأنَّه تحتَ قدَمَيه، كما قال الصِّديقُ رَضِيَ الله عنه:

(كلُّ امرئٍ مُصَبَّحٌ في أهلِه [* والموتُ أدنى مِن شِراكِ نَعْلِه)

]

فتصَوَّرْ هذا، وتصوَّرْ أنَّه ليس بينك وبينه إلَّا أنْ تَخرجَ هذه الرُّوحُ مِن الجسَدِ، وحينئذٍ ينتهي كلُّ شيءٍ

 

!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- تَرْكُه سُبحانَه للشَّيءِ صِفةٌ مِن صفاتِهِ الفِعليَّةِ، الواقعةِ بمشيئتِه، التَّابعةِ لحكمتِه؛ قال الله تعالى: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف: 99] ، وقال تعالى: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً [العنكبوت: 35] ، والنصوصُ في ثبوتِ التَّرْكِ وغيرِه مِن أفعالِه المتعَلِّقةِ بمشيئتِه كثيرةٌ معلومةٌ، وهي دالَّةٌ على كمالِ قُدرتهِ وسُلطانهِ. وقيامُ هذه الأفعالِ به سُبحانَه لا يُماثِلُ قيامَها بالمَخلوقينَ، وإنْ شارَكَه في أصلِ المعنى، كما هو معلومٌ عند أهلِ السُّنَّةِ

.

2- قال الله تعالى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ليكونَ ذلك أبلَغَ في تعجيلِ الهَمِّ والحُزنِ لهم .

3- النَّارُ تُعرَضُ على الكافرين ويُعرَضونَ عليها؛ لأنها تُقرَّبُ إليهم ويُقرَّبونَ إليها، كما قال تعالى في عَرضِها عليهم هنا: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا، وقال في عَرضِهم عليها: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ

 

[الأحقاف: 20] .

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا كلامٌ مَسوقٌ مِن جَنابِه تعالى مَعطوفٌ على قولِه تعالى: جَعَلَهُ دَكَّاءَ، ومُحقِّقٌ لِمَضمونِه

؛ فهو عطفٌ على الجُملةِ الَّتي قبْلَها ابتِداءً مِن قولِه: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ، فهذه الجملةُ لذِكْرِ صُنعِ اللهِ تعالى في هذه القِصَّةِ الثَّالثةِ مِن قَصصِ ذي القَرْنينِ؛ إذْ ألْهمَه دفْعَ فَسادِ يأجوجَ ومأْجوجَ، بمَنزِلةِ جُملةِ: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ في القصَّةِ الأُولى، وجملةُ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا؛ فجاء أسلوبُ حِكايَةِ هذه القَصصِ الثَّلاثِ على نسَقٍ واحِدٍ .

- قولُه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا هذا تخلُّصٌ مِن أغراضِ الاعْتِبارِ بما في القِصَّةِ مِن إقامةِ المصالِحِ في الدُّنيا على أيدي مَن اختارَه اللهُ لإقامتِها مِن خاصَّةِ أوليائِه، إلى غرَضِ التَّذكيرِ بالموعظةِ بأحوالِ الآخرةِ، وهو تَخلُّصٌ يُؤذِنُ بتشبيهِ حالِ تَموُّجِهم بحالِ تَموُّجِ النَّاسِ في المحشرِ؛ تذكيرًا للسَّامِعين بأمْرِ الحشرِ، وتقريبًا بحُصولِه في خَيالِ المشرِكين؛ فإنَّ القادِرَ على جمعِ أمَّةٍ كامِلةٍ وراءَ هذا السَّدِّ، بفعلِ مَن يَسَّره لذلك مِن خَلْقِه، هو الأقدرُ على جمعِ الأُممِ في الحشرِ بقُدرتِه؛ لأنَّ مُتعلَّقاتِ القُدرةِ في عالَمِ الآخرةِ أعجبُ .

2- قوله تعالى: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا

-  وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ قيل: اللَّامُ بمَعْنى (على). وتَخصيصُه بالكافِرين بِشارةٌ للمُؤمِنين ، وتخصيصُ العَرْضِ بهِم مع أنَّها بمَرْأًى مِن أهلِ الجَمْعِ قاطِبةً؛ لأنَّ ذلك لأجْلِهم خاصَّةً .

- قولُه: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ عَرْضُ جَهنَّمَ مُستعمَلٌ في إبرازِها حين يُشْرِفون عليها وقد سِيقوا إليها، فيَعلَمون أنَّها المهيَّأةُ لهم؛ فشُبِّه ذلك بالعَرْضِ تَهكُّمًا بهم؛ لأنَّ العَرْضَ هو إظهارُ ما فيه رَغبةٌ وشهوةٌ .

- قولُه: فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، وقولُه: وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا فيهما تأكيدُ الفِعلَينِ (جمَع - عرَض) بمَصْدرَيهِما (جَمْعًا - عرْضًا)؛ لِتحقُّقِ أنَّه جمعٌ حقيقيٌّ وعرضٌ حقيقيٌّ، ليْسا مِن المَجازِ .

- وفي تنكيرِ الجَمْعِ والعَرْضِ تهويلٌ .

- واستُعمِلَ الماضي مَوضِعَ المضارِعِ؛ تَنبيهًا على تحقيقِ وُقوعِه .

3- قوله تعالى: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا

- قولُه: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي جيءَ بالموصولِ؛ لِذَمِّهم، وللتَّنبيهِ على أنَّ مَضْمونَ الصِّلَةِ هو سببُ عَرْضِ جَهنَّمَ لهم، أي: الَّذين عُرِفوا بذلك في الدُّنْيا .

- وحَرْفُ (في) للظَّرفيَّةِ المَجازيَّةِ، وهي تَمكُّنُ الغِطاءِ مِن أعيُنِهم؛ بحيث كأنَّها مَحْويَّةٌ للغِطاءِ .

- قولُه: وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا نَفْيُ استِطاعَتِهم السَّمعَ: أنَّهم لشِدَّةِ كُفرِهم لا تُطاوِعُهم نُفوسُهم للاستِماعِ، فنَفيُ الاستِطاعةِ مُستعمَلٌ في نَفْيِ الرَّغبةِ وفي الإعراضِ، كقَولِه: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت: 5] ، وهو مُبالَغةٌ في انتفاءِ السَّمعِ؛ إذ نُفِيتِ الاستطاعةُ .

4- قولُه تعالى: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا أعْقَب وَصْفَ حِرْمانِهم الانْتِفاعَ بدَلائلِ المشاهَداتِ على وَحْدانيَّةِ اللهِ وإعراضِهم عن سَماعِ الآياتِ بتَفْريعِ الإنكارِ -لاتِّخاذِهم أولياءَ مِن دونِ اللهِ يَزعُمونها نافِعةً لهم تَنصُرُهم- تَفْريعَ الإنكارِ على صِلَةِ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي؛ لأنَّ حُسْبانَهم ذلك نشَأ عن كَوْنِ أعيُنِهم في غِطاءٍ، وكَونِهم لا يَستَطيعون سَمعًا .

- قولُه: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا استِفْهامٌ فيه مَعْنى الإنكارِ والتَّوبيخِ؛ للإنكارِ عليهم فيما يَحسَبونه يَقْتضي أنَّ ما ظنُّوه باطِلٌ ، والإنكارُ مُتسلِّطٌ على مَعمولِ المفعولِ الثَّاني وهو أَوْلِيَاءَ المعمولُ لـ يَتَّخِذُوا بقَرينةِ ما دلَّ عليه فِعلُ (حَسِبَ) مِن أنَّ هُنالِك مَحسوبًا باطِلًا، وهو كونُهم أولياءَ باعْتِبارِ ما تَقْتَضيه حقيقةُ الوِلايةِ مِن الحمايةِ والنَّصرِ .

- قولُه: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه إظهارُ قولِه: الَّذِينَ كَفَرُوا دونَ أن يُقالَ: (أفحَسِبوا)، بإعادةِ الضَّميرِ إلى الكافِرينَ في الآيةِ قبْلَها؛ لِقَصدِ استِقْلالِ الجُمْلةِ بدَلالتِها، وزِيادةً في إظهارِ التَّوبيخِ لها .

- قولُه: أَنْ يَتَّخِذُوا صِيغَ فِعلُ الاتِّخاذِ بصِيغَةِ المضارِعِ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِه منهم، وأنَّهم غيرُ مُقْلِعينَ عنه .

- قولُه: أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ في الكلامِ إيجازٌ بالحَذْفِ، والتَّقديرُ: أن يَتَّخِذوا عِبادي مِن دوني أوْلياءَ، فيُجْدي ذلك ويَنتفِعون بذلك الاتِّخاذِ .

- قولُه: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا مُقرِّرٌ لإنكارِ انْتِفاعِهم بأوليائِهم؛ فأُكِّد بأنَّ جَهنَّمَ أُعِدَّتْ لهم نُزلًا؛ فلا مَحيصَ لهم عَنْها؛ ولذلك أكَّد بحَرْفِ (إنَّ) . وفيه: تَهكُّمٌ وتَنبيهٌ على أنَّ لهم وَراءَها مِن العَذابِ ما تُستَحقَرُ دونَه . وهذا على القولِ بأنَّ معنى النُّزلِ ما يعدُّ للضيفِ.

- وجَعَل المسنَدَ إليه في أَعْتَدْنَا ضَميرَ الجلالةِ (نا)؛ لإدخالِ الرَّوعِ في ضَمائرِ المشرِكين .

- وفي قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا عَدَل عن الإضمارِ -فلم يَقُلْ: أعتَدْنا لهم-؛ ذَمًّا لهم، وإشعارًا بأنَّ ذلك الإعدادَ بسبَبِ كُفرِهم المتضمِّنِ لِحُسبانِهم الباطلِ

===============

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (103-106)

ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غريب الكلمات:

 

فَحَبِطَتْ: أي: بَطَلتْ وذَهَبتْ، من الحَبَطِ: وهو فَسادٌ يَلحَقُ الماشيةَ في بُطونِها لأكلِ الكَلأِ حتى تَنتَفِخَ أجوافُها، وأصلُ (حبط): يدُلُّ على بُطلانٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا

في توجيهِه أوجُهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ ذَلِكَ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: الأمرُ ذلك، وجَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملةً اسميَّةً برأسِها. الثاني: أن يكونَ ذَلِكَ مبتدأً أولَ، وجَزَاؤُهُمْ مبتدأً ثانيًا، وجَهَنَّمُ خبَرَه، وهو وخَبرُه خبرَ الأوَّلِ. والعائدُ محذوفٌ، أي: جزاؤُهم به. الثالثُ: أن يكونَ ذَلِكَ مبتدأً، وجَزَاؤُهُمْ بدلًا منه، و جَهَنَّمُ خبرَه. الرَّابعُ: أن يكونَ ذَلِكَ مبتدأً، وجَزَاؤُهُمْ خبَرَه،  وجَهَنَّمُ بدَلًا منه، أو خبَرَ مبتدأٍ محذوفٍ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يأمرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يبينَ للناسِ مَن هم الأخسرونَ أعمالًا، فيقول: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: هل نُخبِرُكم بأخسَرِ النَّاسِ أعمالًا؟ إنَّهم الذين بطَل عمَلُهم في الحياةِ الدُّنيا مِن المُشرِكين والضالِّين عن سَواءِ السَّبيلِ، وهم يظنُّونَ أنَّهم مُحسِنونَ في أعمالِهم ولا يَعلَمونَ أنَّها باطِلةٌ، أولئك هم الذين كَفَروا بآياتِ رَبِّهم وكذَّبوا بها، وأنكَروا البعثَ، فبَطَلت أعمالُهم بسَبَبِ كُفرِهم، فلا نُثَقِّلُ موازينَهم يومَ القيامةِ؛ لأنَّه ليس لهم حَسَناتٌ، ذلك جزاؤُهم نارُ جهنَّمَ؛ بسَبَبِ كُفرِهم باللهِ واتِّخاذِهم آياتِه ورُسُلَه استهزاءً وسُخريةً.

تفسير الآيات:

 

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا تبيَّنَ بما لا مِريةَ فيه أنَّ الكافرينَ خَسِروا خَسارةً لا رِبحَ معها، وخاب ما كانوا يُؤمِّلونَ؛ أمَرَ تعالى نبيَّه أن ينَبِّهَهم على ذلك، فقال

:

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103).

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ : هل نُخبِرُكم بأخسَرِ النَّاسِ أعمالًا وأضيَعِها، فلا ينتَفِعون بها ؟

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104).

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

أي: هم الذين بَطَلت أعمالُهم التي عَمِلوها في الدُّنيا واضمحلَّتْ؛ لفَسادِ اعتقادِهم، ومخالفتِهم شَريعةَ ربِّهم .

كما قال سُبحانَه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .

وقال عزَّ وجلَّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية: 2-4] .

وعن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمْرُنا، فهو رَدٌّ )) .

وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا.

أي: والحالُ أنَّهم يظُنُّونَ أنَّهم يُحسِنونَ في أعمالِهم، وسيَنتَفِعونَ بآثارِها، ولا يَدرونَ أنَّها باطِلةٌ .

كما قال تعالى: وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف: 30] .

أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105).

أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ.

أي: أولئك هم الذين كَفَروا بحُجَجِ رَبِّهم وأدِلَّتِه وكذَّبوا بالبَعثِ بعد الموتِ، فأبطلَ اللهُ أعمالَ الخيرِ التي عَمِلوها، فلا يُثابونَ عليها في الآخرةِ؛ لعَدَمِ بِنائِها على أساسٍ مِن الإيمانِ .

فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا.

أي: فلا نُثقِّلُ مَوازينَهم يومَ القيامةِ؛ لأنَّه ليس لهم حَسَناتٌ .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّه لَيأتي الرجُلُ العَظيمُ السَّمينُ يومَ القيامةِ لا يَزِنُ عند الله جَناحَ بَعوضةٍ، وقال: اقرؤوا: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)) .

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) .

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا.

أي: إنما جازينا أولئك الكافرين بجهنم بسَبَبِ كُفرِهم .

وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا.

أي: وبسَبَبِ استِهزائِهم، واستِخفافِهم بالحُجَجِ والدَّلائِلِ ورُسُلِ اللهِ، وسُخريتِهم منهم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا لَمَّا كانت أعمالُ الكافرينَ مُختَلِفةً؛ فمنهم من يعبُدُ الملائِكةَ، ومنهم مَن يَعبُدُ النُّجومَ، ومنهم من يَعبُدُ بعضَ الأنبياءِ، ومنهم مَن يعبُدُ الأوثانَ، ومنهم من يكفُرُ بغير ذلك- جمع الممَيِّزَ فقال: أَعْمَالًا

؛ لأنَّ أعْمالَهم في الضَّلالِ مُختلِفةٌ، ولَيْسوا مُشتَرِكين في عمَلٍ واحدٍ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا فيه دَلالةٌ على أنَّ مِن النَّاسِ مَن يعمَلُ العَمَلَ وهو يَظُنُّ أنَّه مُحسِنٌ، وقد حَبِطَ سَعيُه، والذي يُوجِبُ إحباطَ السَّعيِ إمَّا فَسادُ الاعتقادِ أو المُراءاة .

3- قال الله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ... هذا مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ على خطأِ قَولِ مَن زعَمَ أنَّه لا يَكفُرُ باللهِ أحَدٌ إلَّا مِن حيثُ يَقصِدُ إلى الكُفرِ بعد العِلمِ بوحدانيَّتِه؛ وذلك أنَّ الله -تعالى ذِكْرُه- أخبر عن هؤلاء الذين وَصَف صِفَتَهم في هذه الآيةِ: أنَّ سَعْيَهم الذي سَعَوا في الدنيا ذهب ضلالًا، وقد كانوا يَحسَبونَ أنَّهم مُحسِنونَ في صُنعِهم ذلك، وأخبَرَ عنهم أنَّهم هم الذين كفَروا بآياتِ رَبِّهم، ولو كان القَولُ كما قال الذين زعموا أنَّه لا يَكفُرُ بالله أحَدٌ إلَّا مِن حيث يعلَمُ، لوجب أن يكونَ هؤلاء القَومُ في عمَلِهم الذي أخبر اللهُ عنهم أنَّهم كانوا يَحسَبون فيه أنَّهم يُحسِنون صُنعَه، كانوا مُثابين مأجورين عليها، ولكِنَّ القَولَ بخلافِ ما قالوا، فأخبر جلَّ ثناؤه عنهم أنَّهم بالله كَفَرةٌ، وأنَّ أعمالهم حابِطةٌ .

4- في قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا دلالةٌ على أنَّ الإنسانَ يُوزَنُ مع عمَلِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا

- قولُه: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا اعتراضٌ باستئنافٍ ابتدائيٍّ أَثاره مَضمونُ جُملةِ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا...، وافْتِتاحُ الجُمْلةِ بالأمرِ بالقَوْلِ قُلْ؛ للاهْتِمامِ بالمقولِ بإصغاءِ السَّامِعين؛ لأنَّ مِثلَ هذا الافْتِتاحِ يُشعِرُ بأنَّه في غرَضٍ مهمٍّ، وكذلك افْتِتاحُه باستِفْهامِهم عن إنبائِهم استفهامًا مُستعمَلًا في العَرْضِ؛ لأنَّه بمَعْنى: أتُحِبُّون أن نُنبِّئَكم بالأخسَرين أعمالًا؟ وهو عرضُ تَهكُّمٍ؛ لأنَّه مُنبِّئُهم بذلك دونَ توقُّفٍ على رِضاهم

، هذا على أن المقولَ لهم: هم المشرِكون، قاله لهم؛ تَوبيخًا لهم، وتَنْبيهًا على ما غَفَلوا عنه مِن خَيبةِ سَعيِهم .

- وفي قولِه: نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الْتِفاتٌ؛ حيث عدَل فيه عن طريقةِ الخِطابِ بأن يُقالَ لهم: هل نُنبِّئُكم بأنَّكم الأخْسَرون أعمالًا؟ إلى طريقةِ الغَيْبةِ؛ بحيث يَستشرِفون إلى مَعرِفةِ هؤلاء الأخْسَرينَ فما يَروعُهم إلَّا أن يَعلَموا أنَّ المخبَرَ عَنهم هم أنفُسُهم ، هذا على أنَّ المقولَ لهم هم المشركون. ونونُ المتكلِّمِ المشارِكِ في قولِه: نُنَبِّئُكُمْ يَجوزُ أن تَكونَ نونَ العظَمةِ راجِعةً إلى ذاتِ اللهِ، على طَريقةِ الالْتِفاتِ في الحِكايةِ. ومُقْتضى الظَّاهرِ أن يُقالَ: هل يُنبِّئُكم اللهُ، أي: سيُنبِّئُكم. ويَجوزُ أن تَكونَ للمُتكلِّمِ المشارِكِ، راجِعةً إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم وإلى اللهِ تعالى؛ لأنَّه يُنبِّئُهم بما يُوحَى إليه مِن ربِّه. ويجوزُ أن تكونَ راجِعةً للرَّسولِ وللمسلمينَ .

2- قولُه تعالى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا

- في قولِه: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بعدَ قولِه: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا: إطنابٌ؛ لزيادةِ التَّشويقِ إلى مَعرِفةِ هؤلاءِ الأخْسَرين؛ حيث أجْرى عليهِم مِن الأوصافِ ما يَزيدُ السَّامِعَ حِرْصًا على مَعرِفةِ الموصوفينَ بتلك الأوصافِ والأحوالِ .

- قولُه: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فيه تشبيه سَعْيِهم غيرِ المثمِرِ بالسَّيرِ في طريقٍ غيرِ مُوصِّلةٍ .

3- قولُه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا

- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا كلامٌ مُستأنَفٌ مِن جَنابِه تعالى، مَسوقٌ لِتَكميلِ تَعريفِ الأخسَرين، وتَبْيينِ سببِ خُسْرانِهم وضَلالِ سَعْيِهم وتَعْيينِهم؛ بحيث يَنطبِقُ التَّعريفُ على المخاطَبين، غيرَ داخِلٍ تحتَ الأمرِ .

- قولُه: الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فيه: التَّعرُّضُ لِعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ؛ لزِيادةِ تَقْبيحِ حالِهم في الكُفْر المذكورِ .

- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ جيءَ باسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ لِتَمييزِهم أكمَلَ تَمييزٍ؛ لِئلَّا يَلتَبِسوا بغَيرِهم، وللتَّنبيهِ على أنَّ المشارَ إليهم أحْرِياءُ بما بعدَ اسْمِ الإشارةِ مِن حُكْمٍ؛ بِسبَبِ ما أُجْرِي عليهم مِن الأوصافِ .

- وقولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، ومُقتَضى الظَّاهرِ أن يُقالَ: (أولَئِك الَّذين كفَروا بآياتِنا) .

- قولُه: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا نَفيُ إقامةِ الوَزْنِ مُستعمَلٌ في عدَمِ الاعْتِدادِ بالشَّيءِ، وفي حَقارتِه؛ لأنَّ النَّاسَ يَزِنونَ الأشياءَ المتنافَسَ في مَقاديرِها، والشَّيءَ التَّافِهَ لا يُوزَنُ -على أحدِ القولينِ في التفسيرِ-. وجعَلَ عدَمَ إقامةِ الوزنِ مُفرَّعًا على حَبْطِ أعمالِهم؛ لأنَّهم بحَبْطِ أعمالِهم صاروا مُحقَّرين لا شيءَ لهم مِن الصَّالحاتِ .

4- قوله تعالى: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا  بَيانٌ لِمَآلِ كُفرِهم، وسائِرِ مَعاصيهم، إثْرَ بيانِ مآلِ أعْمالِهم المحبَطةِ .

- وقولُه: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا... قولُه: جَهَنَّمُ بدَلٌ مِن جَزَاؤُهُمْ بدَلًا مُطابِقًا؛ لأنَّ إعدادَ جهَنَّمَ هو عَينُ جَهنَّم، وإعادةُ لفظِ (جَهَنَّمَ) أكْسَبه قوَّةَ التَّأكيدِ، والباءُ للسَّببيَّةِ، و(ما) مَصْدريَّةٌ، أي: بسبَبِ كُفرِهم .

- قولُه: بِمَا كَفَرُوا تَصريحٌ بأنَّ ما ذُكِر: جَزاءٌ لكُفرِهم المتضمِّنِ لِسائرِ القبائحِ الَّتي أنبَأ عنها قولُه تعالى: وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا .

- قولُه: وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (الرُّسُلُ) يَجوزُ أن يُرادَ به حَقيقةُ الجَمْعِ؛ فيَكونَ إخْبارًا عن حالِ كُفَّارِ قُريشٍ ومَن سبَقَهم مِن الأمَمِ المكذِّبين، ويَجوزُ أن يُرادَ به الرَّسولُ الَّذي أُرسِلَ إلى النَّاسِ كُلِّهم، وأطلَق عليه اسْمَ الجَمْعِ تَعظيمًا؛ كما في قولِه: نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: 44] .

- والهُزُؤُ -بضَمَّتَينِ- مَصْدرٌ بمَعْنى المفعولِ، وهو أشَدُّ مُبالَغةً مِن الوَصفِ باسْمِ المفعولِ، أي: كانوا كَثيري الهزُؤِ بهِم

===================

 

سورةُ الكَهفِ

الآيات (107-110)

ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ

غريب الكلمات:

 

الْفِرْدَوْسِ: أي: أعلَى الجنَّةِ، وأوسطِها، أو: مُعْظم الجنَّةِ. وقيل: هو البستانُ المخصوصُ بالحسنِ وذلك بلسانِ الرُّومِ. وأصلُ الفردوسِ: البستانُ الواسعُ الجامعُ لأصنافِ الثَّمَرِ

.

حِوَلًا: أي: تَحَوُّلًا، وأصلُ (حول): يَدلُّ على تَغيُّرِ الشَّيءِ، وانفصالِه عن غَيرِه .

لَنَفِدَ: أي: فَنِيَ، والنَّفادُ: الفَناءُ، وأصلُ (نفد): يدُلُّ على انْقِطاعِ شيءٍ وفَنائِه .

مَدَدًا: أي: زيادةً، وأصلُ (مدد): يدُلُّ على اتِّصالِ شَيءٍ بشَيءٍ في استِطالةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى مبينًا الوعدَ الحسنَ للمؤمنينَ: إنَّ الذين آمَنوا، وعَمِلوا الصَّالحاتِ؛ لهم جنَّاتُ الفِردَوسِ مَنزِلًا، خالدينَ فيها أبدًا، لا يُريدونَ عنها تحوُّلًا. قُلْ -يا محمَّدُ-: لو كان ماءُ البَحرِ حِبرًا للأقلامِ التي يُكتَبُ بها كَلامُ اللهِ، لنَفِدَ ماءُ البَحرِ قبلَ أن تنفَدَ كَلِماتُ اللهِ، ولو جِئْنا بمِثلِ البَحرِ بِحارًا أُخرى مَدَدًا له. قُلْ -يا محمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: إنَّما أنا بشَرٌ مِثلُكم يُوحَى إليَّ مِن ربِّي أنَّ مَعبودَكم إلهٌ واحِدٌ، فمَن كان يرجو رؤيةَ اللهِ في الآخرةِ وثوابَه، ويخشى عِقابَه؛ فلْيعمَلْ عَملًا صالِحًا لرَبِّه مُوافِقًا لشَرعِه، ولا يُشرِكْ في العبادةِ معه أحدًا غيرَه، ولا يراءِ في عبادتِه أحدًا.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما فرغَ مِن ذِكرِ الكفرةِ والأخسرينَ أعمالًا الضالِّينَ- عقَّب بذِكرِ حالةِ المؤمنينَ؛ ليظهرَ التباينُ

.

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الوعيدَ؛ أتبَعَه بالوعدِ، ولَمَّا ذكر في الكُفَّارِ أنَّ جهنَّمَ نُزُلُهم؛ أتبَعَه بذِكرِ ما يُرغِّبُ في الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، فقال :

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107).

أي: إنَّ الذينَ آمنوا باللهِ وبما جاءت به رسُلُه، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحاتِ الخالِصةَ لله، الموافِقةَ لشريعتِه؛ كانت لهم بساتينُ الفِردوسِ منازِلَ يَسكُنونَها .

عن أبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ في الجنَّةِ مائةَ دَرَجةٍ، أعدَّها اللهُ للمُجاهِدينَ في سَبيلِ اللهِ، ما بين الدَّرَجتَينِ كما بينَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سألتُم اللهَ فاسْألوه الفِردَوسَ؛ فإنَّه أوسَطُ الجنَّةِ، وأعلى الجنَّةِ، وفوقه عَرشُ الرَّحمنِ، ومنه تفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ) ) .

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108).

أي: لابثينَ في جنَّاتِ الفِردَوسِ أبدًا، لا يَطلُبونَ عنها تَحوُّلًا إلى غَيرِها، ولا يَختارونَ سِواها .

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما ذكَر الله تعالى في هذه السورةِ أنواعَ الدلائلِ والبيناتِ، وشرَح أقاصيصَ الأولينَ؛ نبَّه على كمالِ حالِ القرآنِ .

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي.

سَبَبُ النُّزولِ:

عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (قالت قُرَيشٌ لليهودِ: أعطُونا شَيئًا نسألُ عنه هذا الرَّجلَ، فقالوا: سَلُوه عن الرُّوحِ، فسألوه، فنَزَلت: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، قالوا: أُوتينا عِلمًا كثيرًا؛ أُوتينا التَّوراةَ، ومَن أُوتيَ التَّوراةَ فقد أُوتيَ خيرًا كثيرًا! قال: فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي) .

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: لو كان البَحرُ مِدادًا للأقلامِ التي تُكتَبُ بها كَلِماتُ رَبِّي ، لفَرَغ ماءُ البحرِ قبل أن يُفرَغَ مِن كِتابةِ كَلِماتِ رَبِّي؛ لعدَمِ تناهي مَعلوماتِه سُبحانَه وبِحَمدِه .

وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا.

أي: ولو زِدْنا البحرَ بمِثلِ ما فيه من الماءِ مَرَّةً بعدَ أُخرى، لنَفِدَ ماءُ البحرِ وما زِيدَ فيه مِن بحارٍ، ولم تَنفَدْ كَلِماتُ اللهِ .

كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: 27] .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ كَمالَ كَلامِ اللهِ، أمَرَ مُحمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَسلُكَ طريقةَ التواضُعِ، فقال: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أي: لا امتيازَ بيني وبينكم في شَيءٍ مِن الصِّفاتِ إلَّا أنَّ اللهَ تعالى أوحى إليَّ أنَّه: لا إلهَ إلَّا اللهُ الواحدُ الأحدُ الصَّمدُ .

وأيضًا لَمَّا كان الكافرون ربَّما قالوا: ما لك لا تحَدِّثُنا من هذه الكلماتِ بكُلِّ ما نسألُك عنه حيثما سألناك؟! وكانوا قد استنكروا كونَ النبيِّ بشَرًا، وجوَّزوا كونَ الإلهِ حَجَرًا! وغَيَّوا إيمانَهم به بأمورٍ سألوه في الإتيانِ بها، وكان قد ثبَت بإجابتِهم عن المسائِلِ على هذا الوجهِ أنَّه رسولٌ- أمَرَه سبحانَه أن يجيبَهم عن ذلك كُلِّه بما يَرُدُّ عليهم غلَطَهم، ويفضَحُ شُبَهَهم؛ إرشادًا لهم إلى أهَمِّ ما يَعنيهم مِنَ الحَرْفِ الذي النِّزاعُ كُلُّه دائرٌ عليه، وهو التَّوحيدُ .

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ المكَذِّبينَ برِسالتِك : إنَّما أنا بشَرٌ مِثلُكم مِن بني آدَمَ، لا عِلمَ لي بالغَيبِ إلَّا ما عَلَّمَني ربِّي، وقد أوحى إليَّ بأنْ أُبلِّغَكم أنَّ مَعبودَكم الذي يستَحِقُّ العبادةَ واحدٌ لا شريكَ له .

فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا.

أي: فمَن كان يرجو رُؤيةَ اللهِ في الآخرةِ، وثوابَه، ويخشَى عِقابَه؛ فلْيَعمَلْ في الدُّنيا عَمَلًا صالِحًا خالِصًا لله، مُوافِقًا لِشَرعِه .

وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا.

أي: لا يعبُدْ معَ اللهِ غيرَه ولا يُراءِ في عبادةِ اللهِ أحدًا مِن الخَلقِ، بل يَجعَل عبادتَه خالِصةً لله وَحدَه لا شَريكَ له .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُّرَكاءِ عن الشِّركِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشرَكَ فيه معيَ غيري، تَرَكتُه وشِرْكَه )) .

وعن أبي هُريرةَ رضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى يومَ القيامةِ عليه رجُلٌ استُشهِد، فأُتيَ به، فعرَّفه نِعَمَه فعَرَفَها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فيك حتى استُشهِدتُ، قال: كَذَبتَ، ولكِنَّك قاتَلْتَ؛ لِأن يُقالَ: جريءٌ، فقد قيل، ثمَّ أُمِر به فسُحِبَ على وجهِه حتى أُلقيَ في النَّارِ! ورجلٌ تعلَّم العِلمَ وعلَّمَه، وقرأ القُرآنَ، فأُتيَ به، فعرَّفه نِعَمه فعَرَفَها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعَلَّمتُه، وقرأتُ فيك القُرآنَ، قال: كَذبْتَ، ولكنَّك تعَلَّمتَ العِلمَ؛ لِيُقالَ: عالمٌ، وقرأتَ القُرآنَ؛ لِيُقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِب على وجهِه، حتى أُلقيَ في النَّارِ! ورجلٌ وسَّع اللهُ عليه، وأعطاه مِن أصنافِ المالِ كُلِّه، فأُتيَ به، فعرَّفه نِعَمَه فعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِن سَبيلٍ تحِبُّ أن يُنفَقَ فيها إلَّا أنفَقتُ فيها لك، قال: كذبْتَ، ولكِنَّك فعَلْتَ؛ ليقالُ: هو جَوادٌ، فقد قيل، ثمَّ أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه، ثم أُلقيَ في النَّارِ !))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110] أي: لا يُراءِ بعَمَلِه، بل يعمَلُه خالِصًا لوجهِ اللهِ تعالى؛ فالذي يجمَعُ بين الإخلاصِ والمُتابعةِ، هو الذي ينالُ ما يرجو ويَطلُبُ، وأمَّا مَن عدا ذلك، فإنَّه خاسِرٌ في دُنياه وأُخراه، وقد فاته القُربُ مِن مَولاه، ونَيلُ رِضاه

.

2- في قَولِه تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا أنَّه لا بدَّ مِن مُلاقاةِ الله عزَّ وجلَّ، والنصوصُ في هذا كثيرةٌ، كقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] ، فيُؤخَذُ مِن ذلك: أنَّه يجِبُ على الإنسانِ أنْ يَستَعِدَّ لمُلاقاةِ اللهِ، وأنْ يَعرِفَ كيف يُلاقي اللهَ؛ هل يُلاقيه على حالٍ مَرْضيَّةٍ عندَ الله عزَّ وجلَّ، أو على العَكسِ؟ ففتِّشْ نفسَك واعرِفْ ما أنت عليه .

3- قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا مَن عَلِمَ أنَّ إلهَهُ ومَعبودَه فَردٌ؛ فليُفرِدْه بالعُبوديَّةِ .

4- قال اللهُ تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا في تأمُّلِ قَولِه تعالى: بِعِبَادَةِ رَبِّهِ يتبيَّنُ أنَّه جلَّ وعلا حَقيقٌ بألَّا يُشرَكَ به؛ لأنَّه الربُّ الخالِقُ المالكُ المُدَبِّرُ لجميعِ المخلوقاتِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا دفعًا لِما قد يُتوَهَّمُ مِن أنَّ الأمرَ كما في الدُّنيا مِن أنَّ كُلَّ أحدٍ في أيِّ نعيمٍ كان: يشتهي ما هو أعلى منه؛ لأنَّ طولَ الإقامةِ قد يُورِثُ السَّآمةَ، بل هم في غايةِ الرِّضا بها؛ لِما فيها من أنواعِ الملاذِّ التي لا حَصرَ لها ولا انقِضاءَ، لا يشتهي أحدٌ منهم غيرَ ما عنده سواءٌ كان في الفردوسِ أو فيما دونَه

.

2- في قَولِه تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا فَرَّقَ سُبحانَه بين المِدَادِ الذي يُكتَبُ به كلماتُه وبين كلماتِه؛ فالبحرُ وغيرُه مِن المِدَادِ الذي يُكْتَبُ به الكلماتُ مخلوقٌ؛ وكلماتُ اللهِ غيرُ مخلوقةٍ .

3- كونُ الرَّبِّ لم يَزَلْ مُتكلِّمًا إذا شاء -كما هو قولُ أهلِ الحديثِ- مبنيٌّ على مُقَدِّمتَينِ: على أنَّه تقومُ به الأمورُ الاختياريَّةُ، وأنَّ كلامَه لا نهايةَ له؛ قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: 27] .

4- قولُه تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا هذا مِن بابِ تقريبِ المعنى إلى الأذهانِ؛ لأنَّ هذه الأشياءَ مخلوقةٌ، وجميعُ المخلوقاتِ مُنقَضيةٌ مُنتَهِيةٌ، وأمَّا كلامُ اللهِ فإنَّه من جملةِ صفاتِه، وصفاتُه غيرُ مخلوقةٍ، ولا لها حَدٌّ ولا مُنتهى، فأيُّ سَعةٍ وعَظَمةٍ تصوَّرَتْها القُلوبُ، فالله فوقَ ذلك، وهكذا سائِرُ صِفاتِ الله تعالى؛ كعِلْمِه، وحِكْمتِه، وقُدرتِه، ورَحمتِه .

5- قَوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فيه دَليلٌ على رؤيةِ اللهِ، وقد أجمع أهلُ اللِّسانِ على أنَّ اللقاءَ متى نُسِبَ إلى الحيِّ السَّليمِ مِن العَمَى والمانِعِ، اقتضَى المعاينةَ والرُّؤيةَ .

6- في قَولِه تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا دَلالةٌ على أنَّه لا بدَّ في العملِ أنْ يكونَ مَشروعًا مأمورًا به -وهو العملُ الصَّالحُ- ولا بدَّ أنْ يُقصَدَ به وجهُ اللهِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا

هذا مُقابِلُ قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [الكهف: 102] ، على عادةِ القرآنِ في ذِكْرِ البِشارةِ بعدَ الإنذارِ

، وهو بيانٌ -بطَريقِ الوعدِ- لِمآلِ الَّذين اتَّصَفوا بأضدادِ ما اتَّصَف به الكفَرةُ إثْرَ بَيانِ مآلِهم بطريقِ الوعيدِ، أي: آمَنوا بآياتِ ربِّهم ولِقائِه .

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فيه تأكيدُ الجملةِ للاهتمامِ بها؛ لأنَّها جاءَت في مُقابلةِ جملةِ: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [الكهف: 102] ، وهي مُؤكَّدةٌ؛ كي لا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ جزاءَ المؤمِنين غيرُ مُهتمٍّ بتأكيدِه مع ما في التَّأكيدَيْنِ مِن تَقْويَةِ الإنذارِ وتقْويةِ البِشارةِ .

- وفي قولِه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَعْلُ المسنَدِ إليه الموصولَ بصِلَةِ الإيمانِ وعمَلِ الصَّالحاتِ؛ للاهْتِمامِ بشأنِ أعمالِهم؛ فلِذلك خُولِف نَظْمُ الجملةِ الَّتي تُقابِلُها، فلم يَقُلْ: (جَزاؤُهم الجَنَّةُ) .

- قولُه: كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا في الإتيانِ بقولِه: كَانَتْ دَلالةٌ على أنَّ استِحْقاقَهم الجَنَّاتِ أمرٌ مُستقِرٌّ مِن قَبلُ مهيَّأٌ لهم. وجيءَ بلامِ الاستِحْقاقِ؛ تَكريمًا لهم بأنَّهم نالوا الجَنَّةَ باستِحْقاقِ إيمانِهم وعمَلِهم .

- قولُه: جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ جمَعَ الجنَّاتِ؛ إيماءً إلى سَعَةِ نَعيمِهم، وأنَّها جِنانٌ كثيرةٌ. وإضافةُ الجَنَّاتِ إلى الفِرْدَوسِ بَيانيَّةٌ، أي: جَنَّاتٌ هي مِن صِنْفِ الفِرْدَوسِ، وهو البستانُ الجامعُ لكلِّ ما يكونُ في البساتينِ، أو تكونُ إِضَافَةُ (جَنَّات) إلى (الفردوسِ) إضافةً حقيقيَّةً، أي: جنَّاتُ هذا المكانِ، على اعتبار أن الفردوسَ هو أعلَى الجنَّةِ أو وسطُها .

- قولُه: نُزُلًا المعنى: كانَت لهم ثِمارُ جَنَّاتِ الفِرْدَوسِ نُزلًا، أو جُعِلَت نفْسُ الجَنَّاتِ نُزلًا؛ مُبالَغةً في الإكرامِ، وفيه إيذانٌ بأنَّها عِندما أعَدَّ اللهُ لهم على ما جَرى على لِسانِ النُّبوَّةِ مِن قولِه: (أعدَدتُ لعِبادي الصَّالِحين ما لا عَينٌ رأَتْ، ولا أذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قلبِ بشَر) ، بمَنْزِلة النُّزلِ بالنِّسبةِ إلى الضِّيافةِ ، وذلك على أحدِ القولينِ في معنَى النزلِ.

2- قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا

- قولُه: لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا، أي: لا مَزيدَ عليها حتَّى تُنازِعَهم أنفُسُهم إلى ما هو أجْمَعُ لأغراضِهم وأمانيِّهم. وهذه غايةُ الوصفِ؛ لأنَّ الإنسانَ في الدُّنيا في أيِّ نعيمٍ كان فهو طامِحُ الطَّرْفِ إلى أرفَعَ مِنه. ويَجوزُ أن يُرادَ نَفْيُ التَّحوُّلِ وتأكيدُ الخُلودِ . وهو تعريضٌ بالكَفَرةِ في أنَّهم يَصطَرِخون في النَّارِ: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا [المؤمنون: 107] ، وذلك عكسُ ما كان في الدُّنيا من ركونِ الكُفَّارِ إليها، ومحبَّتِهم في طولِ البَقاءِ فيها، وعزوفِ المؤمنين عنها، وشَوقِهم إلى رَبِّهم بمفارقتِها .

3- قوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا استِئْنافٌ ابتِدائيٌّ، وهو انْتِقالٌ إلى التَّنويهِ بعِلْمِ اللهِ تعالى مُفِيضِ العِلمِ على رَسولِه صلَّى اللهُ علَيه وآلِه وسلَّم؛ لأنَّ المشرِكين لَمَّا سأَلوه عن أشياءَ يَظُنُّونَها مُفحِمةً للرَّسولِ وأنْ لا قِبَلَ له بعِلْمِها عَلَّمه اللهُ إيَّاها، وأخبَر عنها أصْدَقَ خبَرٍ، وبيَّنها بأقْصَى ما تَقبَلُه أفهامُهم، وبما يَقصُرُ عنه عِلمُ الَّذين أغْرَوُا المشْرِكين بالسُّؤالِ عنها، وكان آخِرُها خبَرَ ذي القرنَيْنِ؛ أتْبَع ذلك بما يُعلَمُ منه سَعةُ عِلْمِ اللهِ تعالى، وسَعةُ ما يَجْري على وَفْقِ عِلمِه مِن الوحيِ إذا أرادَ إبلاغَ بعضِ ما في علمِه إلى أحدٍ مِن رسلِه. وفي هذا رَدُّ عَجُزِ السُّورةِ على صَدْرِها ؛ فإنَّه لَمَّا ابتُدِئتْ هذه السُّورةُ بالتنويهِ بشَأنِ القُرآنِ، حيث قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا [الكهف: 1-2] ثُمَّ أُفيض فيها من أفانينِ الإرشادِ والإنذارِ والوعدِ والوعيدِ، وذُكِرَ فيها مِن أحسنِ القَصصِ ما فيه عِبرةٌ ومَوعظةٌ، وما هو خَفيٌّ من أحوالِ الأممِ؛ حوَّلَ الكلامَ إلى الإيذانِ بأنَّ كلَّ ذلك قَليلٌ مِن عَظيمِ عِلمِ اللهِ تعالى، الذي يَنفَدُ البَحرُ قَبلَ أنْ تَنفَدَ كَلِماتُه سُبحانَه .

- قولُه: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي اللَّامُ في قَولِه: لِكَلِمَاتِ لامُ العِلَّةِ، أي: لأجْلِ كَلِماتِ ربِّي، والكَلامُ يُؤْذِنُ بمُضافٍ محذوفٍ، تَقديرُه: لِكِتابةِ كَلِماتِ ربِّي؛ إذِ المِدادُ يُرادُ للكِتابةِ وليس البَحرُ ممَّا يُكتَبُ به، ولكنَّ الكلامَ بُنِي على المفروضِ بواسطةِ لَوْ .

- قولُه: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي في إضافةِ الكَلِماتِ إلى اسْمِ الرَّبِّ المضافِ إلى ضَميرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الموضعَينِ مِن تفخيمِ المضافِ، وتشريفِ المضافِ إليه ما لا يخفَى .

- وإظهارُ البحرِ والكلماتِ في مَوضِعِ الإضْمارِ لزِيادةِ التَّقريرِ .

- وقال: وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ولم يَقُلْ: (مِدادًا)؛ إذْ ليس المقصودُ تشبيهَه بالحِبْرِ؛ لِحُصولِ ذلك بالتَّشبيهِ الَّذي قبْلَه، وإنَّما قصَد هنا أنَّ مِثلَه يُمِدُّه . وانْتصَب مَددًا على التَّمييزِ المفسِّرِ؛ للإبهامِ الَّذي في لَفْظِ بِمِثْلِهِ .

- جوابُ (لو) في قولِه: وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا محذوفٌ؛ لِدَلالةِ المَعْنى عليه، تَقديرُه: لَنَفِد .

4- قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا

- قولُه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ استئنافٌ ثانٍ، انْتقَل به مِن التَّنويهِ بسَعةِ عِلمِ اللهِ تعالى، وأنَّه لا يُعجِزُه أن يُوحِيَ إلى رَسولِه بعِلْمِ كلِّ ما يُسأَلُ عن الإخبارِ به .

- والحَصْرُ في قولِه: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ؛ لِقَصرِ الموصوفِ على الصِّفَةِ، وهو إضافيٌّ للقَلْبِ ، أي: ما أنا إلَّا بشَرٌ لا أتجاوزُ البشَريَّةَ إلى العلمِ بالمغيباتِ .

- قولُه: يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ أَدْمَج في هذا أهَمَّ ما يُوحَى إليه وما بُعِث لأجْلِه، وهو تَوحيدُ اللهِ، والسَّعيُ لِما فيه السَّلامةُ عندَ لِقاءِ اللهِ تعالى. وهذا مِن رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ مِن قولِه في أوَّلِ السُّورةِ: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2] ، إلى قولِه: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 5] .

- قولُه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فيه إدخالُ الماضي كَانَ على المستقبَلِ يَرْجُو -إذْ إنَّ الرَّجاءَ تَوقُّعُ وُصولِ الخيرِ في المستقبَلِ-؛ للدَّلالةِ على أنَّ اللَّائقَ بحالِ المؤمِنِ الاستِمْرارُ والاستدامةُ على رَجاءِ اللِّقاءِ .

- وتَفْريعُ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا هو مِن جُملةِ الموحَى به إليه، أي: يُوحَى إلَيَّ بوَحْدانيَّةِ الإلهِ، وبإثباتِ البَعْثِ وبالأعمالِ الصَّالحةِ؛  فجاء النَّظْمُ بطَريقةٍ بَديعةٍ في إفادةِ الأُصولِ الثَّلاثةِ؛ إذْ جُعِل التَّوحيدُ أصلًا لها، وفُرِّع عليه الأصْلانِ الآخَران، وأُكِّد الإخبارُ بالوَحْدانيَّةِ بالنَّهيِ عن الإشراكِ بعِبادةِ اللهِ تعالى بقولِه: وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا، وحصَل مع ذلك رَدُّ العَجُزِ على الصَّدْرِ، وهو أسلوبٌ بديعٌ .

- قولُه: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا فيه وَضْعُ المُظهَرِ رَبِّهِ موضعَ المُضمَرِ في الموضِعَينِ، معَ التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ؛ لِزِيادةِ التَّقْريرِ، وللإشْعارِ بعِلِّيَّةِ العُنوانِ للأمْرِ والنَّهيِ، ووُجوبِ الامْتِثالِ فِعلًا وتركًا .

- وفيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث قال عزَّ وجلَّ هنا: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وفي سورةِ الأنبياءِ: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنبياء: 108] ؛ فلم يقَعْ في هذه الثَّانيةِ لفظُ أَنَا بَشَرٌ، ووَرَد في الأُولى؛ ووجه ذلك: أنَّه لَمَّا تَقدَّم في أوَّلِ سورةِ الأنْبِياءِ إثباتُ كَونِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ مِن البشَرِ، فيما حَكاه تعالى مِن قولِ الكُفَّارِ بَعضِهم لبعضٍ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: 3] ، ثمَّ قال تعالى رادًّا لقولِهم، مُثبِتًا كونَ الرُّسلِ مِن البشَرِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء: 7] ، ثمَّ تَتابَع في السُّورةِ ذِكْرُ الرُّسلِ مِن البشَرِ في عِدَّةِ مَواضِعَ إفصاحًا وإشارةً، آخِرُها قولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، والخِطابُ لِنَبيِّنا عليه السَّلامُ، قال تعالى بعدَ ذلك: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [الأنبياء: 108] ، فلم يُحتَجْ هنا أن يُذكرَ كونُه عليه السَّلامُ مِن البشَرِ؛ إذ قد تَوالَى ذِكرُ ذلك جُملةً وتَفصيلًا. أمَّا سورةُ الكهفِ فلم يتَقدَّمْ فيها مِثلُ هذا؛ فكان مَظِنَّةَ الإعلامِ بكَونِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن البشَرِ إرغامًا لأعدائِه، ولِمَا في ذلك مِن تَلطُّفِه تعالى بالخَلقِ ورَحمتِه إيَّاهم؛ فكَونُ الرُّسلِ مِن البشَرِ مِن أعظَمِ إنعامِه سُبحانه على الخَلقِ، وخُصَّتْ آيةُ الكَهفِ بذِكْرِ بَشريَّتِه عليه السَّلامُ لِما بُيِّن؛ فوَرَد كلُّ ذلك على ما يُناسِبُ، ولم يَكُنْ عَكْسُ الوارِدِ لِيُناسِبَ **

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...