{18-سورة الكهف مكية*110 آيات}
سورةُ الكَهفِ
مقدمة السورة
أسماء السورة:
وردَ لهذه السورةِ اسمانِ:
1- سورةُ الكَهفِ:
فعن النَّوَّاسِ بنِ سِمْعانَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((ذَكَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدجَّالَ ذاتَ غَداةٍ...))، وفيه أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فمَن أدْرَكه منكم، فليَقْرأْ عليه فواتحَ سورةِ الكهفِ )) .
وعن أبي الدَّرداءِ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن حَفِظَ عَشرَ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورةِ الكَهفِ، عُصِمَ مِن الدجَّالِ )) .
2- سورةُ أصحابِ الكَهفِ:
فعن النَّوَّاسِ بن سِمْعانَ رضي الله عنه، قال: ((ذكَرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدجَّالَ ذاتَ غَداةٍ...))، وفيه قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فمَن رآه منكم، فليَقرأْ فواتِحَ سُورةِ أصحابِ الكَهفِ ))
.
فضائل السورة وخصائصها:
1- أنَّ قِراءةَ سُورةِ الكَهفِ سَبَبٌ لِنُزولِ السَّكينةِ:
فعن البَراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ الله عنهما: ((قرأ رجلٌ الكَهفَ وفي
الدَّارِ الدَّابَّةُ، فجعَلَت تَنفِرُ، فسَلَّمَ، فإذا ضبابةٌ أو سَحابةٌ
غَشِيَته، فذكَرَه للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: اقرأْ فلانُ؛ فإنَّها
السكينةُ نَزَلت للقُرآنِ، أو تنزَّلَت للقُرآنِ ))
2- حِفظُ عَشرِ آياتٍ مِن أوَّلِ سورةِ الكهفِ عِصمةٌ مِن الدجَّالِ:
فعن النوَّاسِ بنِ سِمْعانَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((ذَكَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الدجَّالَ ذاتَ غَداةٍ...))، وفيه أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فمَن أدْرَكه منكم، فليَقْرأْ عليه فواتحَ سورةِ الكَهفِ )) .
وعن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن حَفِظَ عَشرَ آياتٍ مِن أوَّلِ سُورةِ الكَهفِ، عُصِمَ مِن الدجَّالِ )) .
3- أنها من السُّورِ العَتيقةِ، ومن قديمِ ما حُفِظَ عند الصَّحابةِ:
فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: (سورةُ بني إسرائيل والكهف، ومريم وطه والأنبياء: هُنَّ مِن العِتاقِ الأُوَلِ ، وهُنَّ مِن تِلادي .)
4- أنَّها كُلَّها مُحكَمةٌ:
وقد نُقل الإجماعُ على أنَّه ليس فيها مَنسوخٌ
بيان المكي والمدني:
سورةُ الكَهفِ مَكِّيَّةٌ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك
مقاصد السورة:
مِن أهَمِّ مقاصدِ هذه السُّورةِ: الهدايةُ إلى العقيدةِ الصحيحةِ، وإلى السلوكِ القويمِ، وإلى الخلقِ الكريمِ، وإلى التفكيرِ السليمِ الذي يهدى إلى السعادةِ في الدُّنيا والآخرةِ.
موضوعات السورة:
مِن أهَمِّ موضوعاتِ هذه السُّورةِ:
1- ذِكْرُ حَمدِ الله تعالى على إنزالِه الكتابَ على عَبدِه، ووصفُ هذا الكتابِ بأنَّه قيِّمٌ لا عوجَ فيه، جاء للتبشيرِ والإنذارِ.
2- بيانُ أنَّ ما على ظهرِ الأرضِ هو زينةٌ لها، جعَله الله اختبارًا وابتلاءً.
3- ذِكرُ قِصَّةِ أصحابِ الكَهفِ.
4- ذِكرُ فِتنةِ المالِ بذِكرِ خَبَرِ قِصَّةِ صاحِبِ الجنَّتَينِ.
5- ضَربُ المَثَلِ للحياةِ الدُّنيا بما يدُلُّ على فَنائِها وذَهابِ زُخرُفِها.
6- ذِكرُ شَيءٍ مِن مَشاهِدِ يومِ القيامةِ.
7- بيانُ عَداوةِ إبليسَ لآدَمَ وذُرِّيَّتِه، وفِسقِه عن أمرِ رَبِّه.
8- بيانُ سُنَّةِ اللهِ في إهلاكِ الظَّالمينَ، ورحمةِ اللهِ وإمهالِه للمُذنبينَ إلى أجَلٍ مَعلومٍ.
9- قِصَّةُ موسى عليه السَّلامُ مع العبدِ الصَّالحِ.
10- قِصَّةُ ذي القَرنَينِ.
11- إبطالُ الشِّركِ ووعيدُ أهلِه، وبيانُ ما أعدَّ الله للمؤمنينَ.
12- التَّمثيلُ لِسَعةِ عِلمِ الله تعالى، وبيانُ أنَّ القرآنَ وَحيٌ مِن الله تعالى إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم.
===============
غريب الكلمات-مشكل الإعراب المعنى الإجمالي
تفسير الآيات*الفوائد التربوية*الفوائد العلمية واللطائف
بلاغة الآيات
===
سورة الكهف مكية | رقم السورة: 18 - عدد آياتها : 110 عدد كلماتها : 1,583 - اسمها بالانجليزي : The Cave - ويستحب قراءتها يوم الجمعة
سورة الكهف مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة
بسم الله الرحمن الرحيم
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ (1) قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا (2) مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا (3) وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا (4) مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا (5) فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا (7) وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا (8) أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنۡ ءَايَٰتِنَا عَجَبًا (9) إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا (10) فَضَرَبۡنَا عَلَىٰٓ ءَاذَانِهِمۡ فِي ٱلۡكَهۡفِ سِنِينَ عَدَدٗا (11) ثُمَّ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَيُّ ٱلۡحِزۡبَيۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوٓاْ أَمَدٗا (12) نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى (13) وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا (14) هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا (15) وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا (16) ۞وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا (17) وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا (18) وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا (19) إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا (20) وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ إِذۡ يَتَنَٰزَعُونَ بَيۡنَهُمۡ أَمۡرَهُمۡۖ فَقَالُواْ ٱبۡنُواْ عَلَيۡهِم بُنۡيَٰنٗاۖ رَّبُّهُمۡ أَعۡلَمُ بِهِمۡۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيۡهِم مَّسۡجِدٗا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا (23) إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا (24) وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا (25) قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ لَهُۥ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا (26) وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا (27) وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا (28) وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا (29) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا (30) أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا (31) ۞وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا (32) كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا (33) وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا (35) وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا (36) قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا (37) لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا (38) وَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا (39) فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا (40) أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا (42) وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43) هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا (44) وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا (45) ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا (46) وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا (47) وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا (48) وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا (49) وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا (50) ۞مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا (51) وَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا (52) وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا (53) وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا (54) وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا (55) وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا (56) وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا (57) وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا (58) وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا (59) وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجۡمَعَ بَيۡنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ سَرَبٗا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدۡ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبٗا (62) قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا (63) قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبۡغِۚ فَٱرۡتَدَّا عَلَىٰٓ ءَاثَارِهِمَا قَصَصٗا (64) فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا (65) قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰٓ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمۡتَ رُشۡدٗا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (67) وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا (68) قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا (69) قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا (70) فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا (71) قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا (73) فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا (74) ۞قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا (75) قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا (76) فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا (77) قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا (78) أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا (79) وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا (80) فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا (81) وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا (82) وَيَسۡـَٔلُونَكَ عَن ذِي ٱلۡقَرۡنَيۡنِۖ قُلۡ سَأَتۡلُواْ عَلَيۡكُم مِّنۡهُ ذِكۡرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِن كُلِّ شَيۡءٖ سَبَبٗا (84) فَأَتۡبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا (86) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا (87) وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا (88) ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا (90) كَذَٰلِكَۖ وَقَدۡ أَحَطۡنَا بِمَا لَدَيۡهِ خُبۡرٗا (91) ثُمَّ أَتۡبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا (93) قَالُواْ يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِنَّ يَأۡجُوجَ وَمَأۡجُوجَ مُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَهَلۡ نَجۡعَلُ لَكَ خَرۡجًا عَلَىٰٓ أَن تَجۡعَلَ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَهُمۡ سَدّٗا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا (95) ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا (96) فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا (97) قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا (98) ۞وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ يَوۡمَئِذٖ يَمُوجُ فِي بَعۡضٖۖ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَٰهُمۡ جَمۡعٗا (99) وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ يَوۡمَئِذٖ لِّلۡكَٰفِرِينَ عَرۡضًا (100) ٱلَّذِينَ كَانَتۡ أَعۡيُنُهُمۡ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكۡرِي وَكَانُواْ لَا يَسۡتَطِيعُونَ سَمۡعًا (101) أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيٓ أَوۡلِيَآءَۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ نُزُلٗا (102) قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا (103) ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا (104) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا (105) ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا (107) خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا (108) قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا (109) قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا (110)
سورةُ الكَهفِ
الآيات (1-6)
ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَٰبَ وَلَمۡ يَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَاۜ (1) قَيِّمٗا لِّيُنذِرَ بَأۡسٗا شَدِيدٗا مِّن لَّدُنۡهُ وَيُبَشِّرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ أَنَّ لَهُمۡ أَجۡرًا حَسَنٗا (2) مَّٰكِثِينَ فِيهِ أَبَدٗا (3) وَيُنذِرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَدٗا (4) مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا (5) فَلَعَلَّكَ بَٰخِعٞ نَّفۡسَكَ عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ يُؤۡمِنُواْ بِهَٰذَا ٱلۡحَدِيثِ أَسَفًا (6){الكهف}
غريب الكلمات:
عِوَجًا: أي: زَيغًا وتَحريفًا، وأصْلُ (عوج): يدلُّ على المَيلِ في الشَّيءِ
.
قَيِّمًا: أي: مُستَقيمًا، أو مُقَوِّمًا لأمورِ مَعاشِهم ومَعادِهم، وأصلُ (قوم): يَدُلُّ على انتِصابٍ أو عَزمٍ .
كَبُرَتْ: أي: عَظُمَت، وأصلُ (كبر): يدُلُّ على خِلافِ الصِّغَرِ .
بَاخِعٌ: أي: قاتِلٌ ومُهلِكٌ، وأصلُ (بخع): يَدلُّ على الجَهدِ .
على آثَارِهِمْ: أي: مِن بَعدِ تَوَلِّيهم وإعراضِهم عنك، يقال: جئتُ على أثرِ فلانٍ، كأنَّ المرادَ أثرُ
سلوكِه الطريقَ، ثم استعمل بمعنى (بَعْدَ)، فيُقال: مات فلانٌ على أثرِ فلانٍ، أي:
بعدَه، وأصلُه من الأثَرِ: الذي هو العَلامةُ
مشكل الإعراب:
1- قَولُه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ...
قولُه: قَيِّمًا: في نصبِه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه حالٌ مِن الْكِتَابَ، وقولُه: وَلَمْ يَجْعَلْ اعتراضٌ بينهما. الثاني: أنَّه حالٌ مِن الهاءِ في لَهُ. الثالث: أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، تقديرُه: (جعَلَه أو: أنزله قيِّمًا)، وجملتُه مستأنفةٌ. الرابع: أنَّه حالٌ ثانيةٌ، وقولُه: وَلَمْ يَجْعَلْ حالٌ أيضًا، والتقديرُ: أنزَله غيرَ جاعلٍ له عوجًا، قيمًا
.
2- قولُه تعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
قوله: كَلِمَةً: تمييزٌ منصوبٌ، والفاعلُ مُضمَرٌ، أي: كبُرَت مقالتُهم
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ الله تعالى مفتتحًا هذه السورةَ بالثناءِ على نفسِه: الحَمدُ لله الذي أنزل على عَبدِه ورَسولِه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُرآنَ، ولم يَجعَلْ فيه زيغًا أو ميلًا عن الحَقِّ، أنزله مُستَقيمًا، قائِمًا على مَصالِحِ العِبادِ، مُهيمِنًا على سائِرِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ، مُصَدِّقًا لها، وشاهِدًا بصِحَّتِها؛ لِيُنذِرَ به الكافِرينَ عذابًا شديدًا مِن عِندِه، ويُبَشِّرَ المُؤمِنينَ الذين يَعمَلونَ الأعمالَ الصَّالِحاتِ بأنَّ لهم ثوابًا جَزيلًا، وهو الجَنَّةُ، مقيمينَ في هذا الثوابِ لا يُفارِقونَه أبدًا، ويُنذِرَ به كذلك الكافِرينَ الذين قالوا: اتَّخذَ اللهُ وَلَدًا، ما لهؤلاء المُشرِكينَ شَيءٌ مِن العِلمِ على ما يَدَّعونَه لله مِن اتِّخاذِ الوَلَدِ، كما لم يكُنْ لآبائِهم الجاهِلينَ.
ثمَّ ذمَّهم الله تعالى ذمًّا شديدًا على قولِهم هذا، فقال: عَظُمَت هذه المَقالةُ الشَّنيعةُ كلمةً تَخرُجُ مِن أفواهِهم، ما يَقولُونَ إلَّا قَولًا كاذِبًا.
ثم قال تعالى مسليًا رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا أصابه مِن حزنٍ بسببِ إعراضِ المشركينَ عن دعوةِ الحقِّ: فلعَلَّك -يا محمَّدُ- قاتِلٌ نَفسَك غمًّا وحُزنًا على تولِّي هؤلاء وإعراضِهم عنك، إنْ لم يُصَدِّقوا بهذا القُرآنِ ويَعمَلوا به!
تفسير الآيات:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1).
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ.
أي: الحَمدُ لله الذي أنزَلَ على عَبدِه مُحَمَّدٍ القُرآنَ
.
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا .
أي: أنزَلَه على عَبدِه والحالُ أنَّه لم يَجعَلْ فيه أيَّ نَوعٍ مِن المَيلِ والزَّيغِ عن الحَقِّ، والتَّناقُضِ والاختِلافِ، والخللِ في ألفاظِه ومَعانيه؛ فأخبارُه صادِقةٌ، وأحكامُه عادِلةٌ .
كما قال تعالى: قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر: 28] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] .
وقال سُبحانَه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا [الأنعام: 115] .
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2).
قَيِّمًا.
أي: أنزله مُستَقيمًا ، قائِمًا على مَصالِحِ العِبادِ في دِينهم ودُنياهم ، مُهيمِنًا على سائِرِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ، مُصَدِّقًا لها، وشاهِدًا بصِحَّتِها .
كما قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] .
لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى أنَّه أنزَلَ على عَبْدِه الكِتابَ المَوصوفَ بهذه الصِّفاتِ المَذكورةِ؛ أردَفَه ببَيانِ ما لأجْلِه أنزَلَه .
لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ.
أي: أنزَلَ اللهُ القُرآنَ على نَبيِّه مُحَمَّدٍ؛ لِيُنذِرَ الكافِرينَ عَذابًا شَديدًا في الدُّنيا والآخِرةِ، يأتيهم مِن عِندِ اللهِ .
كما قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام: 19] .
وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا.
أي: وأنزَلَ اللهُ القُرآنَ على نَبيِّه؛ لِيُبَشِّرَ المُؤمِنينَ باللهِ ورَسولِه وبِكُلِّ ما يَجِبُ عليهم الإيمانُ به، وقد صَدَّقوا إيمانَهم بقِيامِهم بالأعمالِ الصَّالِحةِ؛ يُبَشِّرُهم بأنَّ لهم ثَوابًا عَظيمًا جَميلًا، وهو الجنةُ .
كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 25] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9- 10] .
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3).
أي: والحالُ أنَّهم باقُونَ في الأجرِ الحَسَنِ الذي أعَدَّه اللهُ لهم، بلا زَوالٍ ولا انقِطاعٍ .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] .
وقال سُبحانَه: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة: 21، 22].
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان الغالبُ على الإنسانِ المخالَفةَ للأوامِرِ؛ لِما جُبِلَ عليه من النقائِصِ- كان الإنذارُ أهمَّ، فأعاده لذلك، ولأنَّ المقامَ له؛ تبكيتًا لليهودِ المضِلِّين لهؤلاء العرَبِ ولِمن قال بمقالتِهم .
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4).
أي: ويُنذِرَ الكافِرينَ -الذينَ قالوا: اتَّخَذ اللهُ لِنَفسِه ولَدًا- عَذابَه الشَّديدَ في العاجِلِ والآجِلِ .
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5).
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ.
أي: ما للقائِلينَ بذلك أيُّ شَيءٍ مِن العِلمِ بأنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ لنَفسِه ولَدًا، ولا لآبائِهم الجاهِلينَ مِن قَبلِهم الذين قالوا بمِثلِ قَولِهم .
كما قال تعالى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [النساء: 157].
وقال سُبحانَه: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [الصافات: 69، 70].
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ.
أي: عَظُمَت كَلِمتُهم هذه كَلِمةً تخرُجُ مِن أفواهِهم، بقَولِهم: اتَّخذَ اللهُ وَلَدًا، فما أشنَعَها مِن مَقالةٍ، وما أفظَعَ اجتِراءَهم على التلَفُّظِ بها !
كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا [مريم: 88 - 91].
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا.
أي: ما يَقولُ القائِلونَ بنِسبةِ الوَلَدِ إلى اللهِ إلَّا كَذِبًا على اللهِ تعالى؛ فهو قَولٌ مُنافٍ للصِّدقِ، مُخالِفٌ للواقِعِ، لا حَقيقةَ له بوَجهٍ مِنَ الوُجوهِ .
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6).
أي: فلعلَّك -يا مُحَمَّدُ- قاتِلٌ نَفسَك ومُهلِكُها؛ لشِدَّةِ الحزنِ بعدَ تَولِّيهم وإعراضِهم عنك، إن لم يُؤمِنوا بهذا القُرآنِ الذي أنزلتُه عليكَ
.
كما قال تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 176] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] .
وقال جلَّ جلالُه: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر: 8] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ [الحجر: 87 - 89] .
الفوائد التربوية:
1- قَولُه تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ خبرٌ مِن الله تعالى أنَّه حمِد نفسَه، وفي ضمنِه إرشادُ العبادِ ليحمَدوه على إرسالِ الرسولِ إليهم، وإنزالِ الكتابِ عليهم
.
2- قال الله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ذكَرَ نَفيَ العَيبِ أوَّلًا، فقال: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ثمَّ إثباتَ الكَمالِ ثانيًا، فقال: قَيِّمًا، فـ «التَّخليةُ قَبلَ التَّحليةِ»، يعني: قبل أن تُحَلِّيَ الشَّيءَ أخْلِ المَكانَ عَمَّا يُنافي التحَلِّيَ، ثُمَّ حَلِّه .
3- قولُه تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ يُفيدُ أنَّه لا بدَّ مع الإيمانِ مِن العَمَلِ الصَّالحِ، فلا يَكفي الإيمانُ وَحْدَه، بل لا بُدَّ مِن عَمَلٍ صالِحٍ؛ ولهذا قيلَ لبَعضِ السَّلَفِ: (أليس مِفتاحُ الجنَّةِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؟ يعني: فمَن أتى به فُتِحَ له، قال: بلى، ولكِنْ هل يَفتحُ المِفتاحُ بلا أسنانٍ؟!) .
4- قَولُ الله تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ذِكْرُ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ استِحقاقَ ذلك الأجرِ بحُصولِ هَذينِ الأمرَينِ .
5- قال اللهُ تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا قَولُه في هذه الآيةِ الكَريمةِ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ بَيَّنَت المرادَ به آياتٌ أُخَرُ، فدَلَّت على أنَّ العَمَلَ لا يكونُ صالِحًا إلَّا بثلاثةِ أُمورٍ:
الأوَّلُ: أن يكونَ مُطابِقًا لِما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فكُلُّ عَمَلٍ مُخالِفٍ لِما جاء به صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، فليس بصالحٍ، بل هو باطِلٌ؛ قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 7] ، وقال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80] ، وقال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ، وقال: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى: 21] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.
الثَّاني: أن يكونَ العامِلُ مُخلِصًا في عملِه لله فيما بينَه وبينَ اللهِ؛ قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] ، وقال: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 11 - 15] ، إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.
الثَّالِثُ: أن يكونَ العملُ مَبنيًّا على أساسِ الإيمانِ والعَقيدةِ الصَّحيحةِ؛ لأنَّ العملَ كالسَّقفِ، والعَقيدةَ كالأساسِ؛ قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النحل: 97] ، فجعل الإيمانَ قَيدًا في ذلك .
6- قَولُ الله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا في هذه الآيةِ ونَحوِها عِبرةٌ؛ فإنَّ المأمورَ بدُعاءِ الخَلقِ إلى اللهِ عليه التَّبليغُ والسَّعيُ بكُلِّ سَبَبٍ يُوصِلُ إلى الهِدايةِ، وسَدِّ طُرُقِ الضَّلالِ والغَوايةِ، بغايةِ ما يُمكِنُه، مع التوكُّلِ على اللهِ في ذلك، فإن اهتَدَوا فبها ونِعْمَتْ، وإلَّا فلا يَحزَنْ ولا يأسَفْ؛ فإنَّ ذلك مُضعِفٌ للنَّفسِ، هادِمٌ للقُوَى، ليس فيه فائِدةٌ، بل يَمضِي على فِعْلِه الذي كُلِّفَ به وتَوَجَّه إليه، وما عدا ذلك فهو خارِجٌ عن قُدرتِه، وإذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ اللهُ له: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] ، وموسى عليه السَّلامُ يقولُ: رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة: 25] الآية، فمَن عداهم مِن بابِ أَولى وأَحرى؛ قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ
[الغاشية: 21- 22] .
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ اللهِ تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ لَمَّا كان المُرادُ وَصفَ جُملةِ الكِتابِ بالإعجازِ مِن غَيرِ نَظَرٍ إلى التَّفريقِ والتَّدريجِ، عَبَّرَ بالإنزالِ دونَ التَّنزيلِ
.
2- قَولُ الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ رَتَّبَ استِحقاقَ الحَمدِ على إنزالِه؛ تَنبيهًا على أنَّه أعظَمُ نَعْمائِه؛ وذلك لأنَّه الهادي إلى ما فيه كَمالُ العِبادِ، والدَّاعي إلى ما به يَنتَظِمُ صَلاحُ المَعاشِ والمَعادِ .
3- قَولُ الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ خَصَّ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالذِّكرِ؛ لأنَّ إنزالَ القُرآنِ عليه كان نِعمةً عليه على الخُصوصِ، وعلى سائِرِ النَّاسِ على العُمومِ .
4- قَولُ الله تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا في وَصْفِه بالحُسنِ دَلالةٌ على أنَّه لا مُكَدِّرَ فيه ولا مُنَغِّصَ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ؛ إذ لو وُجِدَ فيه شَيءٌ مِن ذلك لم يكُنْ حُسنُه تامًّا .
5- في قَولِه تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا سَمَّى اللهُ عزَّ وجَلَّ ثوابَ الأعمالِ أجرًا؛ لأنَّها في مُقابلةِ العَمَلِ، وهذا مِن عَدْلِه جَلَّ وعَلا؛ أن يُسَمِّيَ الثَّوابَ الذي يُثيبُ به الطَّائِعَ أجرًا؛ حتى يَطمَئِنَّ الإنسانُ لِضَمانِ هذا الثَّوابِ؛ لأنَّه مَعروفٌ أنَّ الأجيرَ إذا قام بعَمَلِه فإنَّه يَستَحِقُّ الأجرَ .
6- قَولُ الله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَعطوفٌ على قَولِه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2] ، والمعطوفُ يغايِرُ المَعطوفَ عليه؛ فالأوَّلُ عامٌّ في حَقِّ كُلِّ مَن استَحَقَّ العذابَ، والثَّاني خاصٌّ بمن أثبَتَ للهِ ولَدًا، وعادةُ القرآنِ جارِيةٌ بأنَّه إذا ذَكَرَ قَضيَّةً كُلِّيَّةً عَطَفَ عليها بعضَ جُزئيَّاتِها؛ تَنبيهًا على كَونِه أعظَمَ جُزئيَّاتِ ذلك الكُلِّيِّ، كقَولِه تعالى: وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] ، فكذا هاهنا العَطفُ يَدُلُّ على أنَّ أقبَحَ أنواعِ الكُفرِ والمَعصيةِ إثباتُ الوَلَدِ لله تعالى .
7- قَولُ الله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا يظهَرُ فيه كيف أبطل اللهُ تعالى قَولَهم بالتَّدريجِ والانتقالِ مِن شَيءٍ إلى أبطَلَ منه؛ فأخبر أولًا أنَّه مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لَآبَائِهِمْ والقَولُ على اللهِ بلا عِلمٍ: لا شَكَّ في مَنعِه وبُطلانِه، ثم أخبر ثانيًا أنَّه قولٌ قَبيحٌ شَنيعٌ، فقال: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، ثمَّ ذكَر ثالثًا مرتبَتَه مِن القُبحِ، وهو الكَذِبُ المنافي للصِّدقِ .
8- حيث وُجِدَ في الكِتابِ والسُّنَّةِ -بل وفي كلامِ العَرَبِ نَظمِه ونَثْرِه- لَفظُ (كَلِمة)؛ فإنَّما يُرادُ به المفيدُ الذي تُسَمِّيه النُّحاةُ جُملةً تامَّةً، كقَولِه تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف: 4-5] ، وقَولِه تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا [التوبة: 40] ، وقَولِه تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64] ، وقَولِه تعالى: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: 28] ، وقَولِه تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا [الفتح: 26] ، وقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أصدَقُ كَلِمةٍ قالها شاعِرٌ كَلِمةُ لَبيدٍ:
ألا كُلُّ شَيءٍ ما خلا اللهَ باطِلُ )) .
9- قَولُ الله تعالى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا فيه أنَّ كُلَّ خبرٍ لا يطابِقُ المخبَرَ عنه فهو كذِبٌ، سواءٌ عَلِمَ القائِلُ بكَونِه مطابِقًا أو لم يعلَمْ؛ فإنَّه تعالى وصف قولَهم بإثباتِ الولَدِ لله بكونِه كَذِبًا، مع أنَّ الكثيرَ منهم يقولُ ذلك، ولا يعلم كونَه باطِلًا
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا
- قولُه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا جُملةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تُفيدُ استحقاقَه أكمَلَ الحمدِ، فأخبَرَ أنَّ مُستحِقَّ الحمدِ هو اللهُ تعالى لا غيرُه، فأجْرَى على اسمِ الجَلالةِ الوصفَ بالموصولِ؛ تَنويهًا بمضمونِ الصِّلةِ، وإيذانًا بعِظَمِ شأنِ التَّنزيلِ الجليلِ، ولِمَا يُفيدُه الموصولُ من تَعليلِ الخبرِ
.
- وموقعُ الافتتاحِ بهذا التَّحميدِ كموقعِ الخُطبةِ؛ يُفتتَحُ بها الكلامُ في الغرَضِ المُهمِّ، وافْتُتِحتْ بالتَّحميدِ على إنزالِ الكتابِ؛ للتَّنويهِ بالقُرآنِ. وأُدْمِجَ فيه إنذارُ المُعانِدين الَّذين نسَبوا للهِ ولدًا، وبِشارةُ المُؤمِنين، وتَسليةُ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم عن أقوالِهم، حين تريَّثَ الوحيُ لِما اقْتضَتْه سُنَّةُ اللهِ مع أوليائِه؛ من إظهارِ عتَبِه على الغَفلةِ عن مُراعاةِ الآدابِ الكاملةِ .
- وآثَرَ التَّعبيرَ بقولِه: عَبْدِهِ، ولم يَجِئِ التَّركيبُ: (أنزَلَ عليك)؛ لِمَا في عَبْدِهِ من الإضافةِ المُقتضيةِ تَشريفَه ، وأيضًا في التَّعبيرِ عن الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالعبْدِ مُضافًا إلى ضَميرِ الجَلالةِ: تَنبيهٌ على بُلوغِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى أعلى مَعارجِ العِبادةِ، وتَشريفٌ له أيَّ تَشريفٍ، وإشعارٌ بأنَّ شأنَ الرَّسولِ أنْ يكونَ عبدًا للمُرسِلِ، لا كما زعَمَتِ النَّصارى في حَقِّ عيسى عليه السَّلامُ ، وكذلك في ذِكْرِه بوصْفِ العُبوديَّةِ للهِ: تَقريبٌ لمَنزلتِه، وتَنويهٌ به بما في إنزالِ الكتابِ عليه من رِفعةِ قدْرِه .
- وتأخيرُ المفعولِ الصَّريحِ الْكِتَابَ عن الجارِّ والمجرورِ -عَلَى عَبْدِهِ- مع أنَّ حَقَّه التَّقديمُ عليه؛ ليتَّصِلَ به قولُه تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا .
- وجُملةُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا مُعترِضةٌ بين الْكِتَابَ وبينَ الحالِ منه وهو قَيِّمًا، ويجوزُ كونُ الجملةِ حالًا والوَاوِ حاليَّةً، والمقصودُ من هذه الجُملةِ المُعترِضةِ أو الحاليَّةِ: إبطالُ ما يَرْميه به المُشرِكون من قولِهم: (افتراهُ، وأساطيرُ الأوَّلينَ، وقولُ كاهنٍ)؛ لأنَّ تلك الأُمورَ لا تخْلو من عِوَجٍ؛ قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] .
- وفي قولِه: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا عُدِّيَ الجَعْلُ باللَّامِ دونَ (في)؛ لأنَّ العِوَجَ المعنويَّ يُناسِبُه حرْفُ الاختصاصِ (اللَّامُ) دون حرْفِ الظَّرفيَّةِ (في)؛ لأنَّ الظَّرفيَّةَ من علائقِ الأجسامِ، وأمَّا معنى الاختصاصِ فهو أعَمُّ .
- ونكَّرَ عِوَجًا ليعُمَّ جميعَ أنواعِه؛ لأنَّها نكِرةٌ في سِياقِ النَّفيِ .
2- قوله تعالى: قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
- قولُه: قَيِّمًا على القولِ بأنَّه قيِّمٌ بالمصالحِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ للعِبادِ؛ فيكونُ وصْفًا له بالتَّكميلِ بعدَ وصْفِه بالكمالِ. وعلى القولِ بأنَّ معنى قَيِّمًا على ما قبْلَه من الكتُبِ السَّماويَّةِ، شاهِدًا بصِحَّتِها، ومُهيمنًا عليها، أو مُتناهيًا في الاستقامةِ؛ فيكونُ قولُه: قَيِّمًا تأكيدًا لِما دَلَّ عليه نفْيُ العِوَجِ، مع إفادةِ كونِ ذلك من صِفاتِه الذَّاتيَّةِ اللَّازمةِ له، حسْبَما تُنْبِئُ عنه صِيغَةُ قَيِّمًا؛ فنفْيُ العِوَجِ معناهُ إثباتُ الاستقامةِ، وإنَّما جنَحَ إلى التَّكريرِ لفائدةٍ مُنقطعةِ النَّظيرِ، وهي التَّأكيدُ والبَيانُ؛ فرُبَّ مُستقيمٍ مَشهودٍ له بالاستقامةِ، مُجمَعٍ على استقامتِه، ومع ذلك فإنَّ الفاحِصَ المُدقِّقَ قد يجِدُ له أدنى عِوَجٍ؛ فلمَّا أثبَتَ له الاستقامةَ أزال شُبْهةَ بقاءِ ذلك الأدنى الَّذي يدِقُّ على النَّظرةِ السَّطحيَّةِ الأُولى .
- قولُه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ فيه تَقديمُ الإنذارِ على التَّبشيرِ؛ لإظهارِ كَمالِ العِنايةِ بزجْرِ الكُفَّارِ عمَّا هم عليه، مع مُراعاةِ تَقديمِ التَّخليةِ على التَّحليةِ ، فالمقصودُ مِن إرسالِ الرُّسُلِ إنذارُ المُذنبِينَ وبِشارةُ المُطيعينَ، ولَمَّا كان دَفْعُ الضَّررِ أهَمَّ عند ذَوي العُقولِ مِن إيصالِ النَّفعِ، لا جَرَمَ قَدَّمَ الإنذارَ على التَّبشيرِ في اللَّفظِ .
- وقولُه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ إيماءٌ بالتَّهديدِ للمُشرِكين بما سيَلْقونه من القتْلِ والأسْرِ بأيدي المُسلِمين، وذلك بأسٌ مِن لدُنْه تعالى؛ لأنَّه بتَقديرِه وبأمْرِه عِبادَه أنْ يفْعَلوه .
- وفي قولِه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ الاقتصارُ على أحدِ مفعوليْ (أنذر) وهو المُنْذَرُ؛ وذلك لأنَّه جُعِلَ المُنذَرُ به هو الغرَضَ المسبوقَ إليه؛ فوجَبَ الاقتصارُ عليه، ولدلالةِ السِّياقِ عليه؛ لظُهورِ أنَّه يُنذِرُ الَّذين لم يُؤْمِنوا بهذا الكتابِ ولا بالمُنزَلِ عليه، ولدلالةِ مُقابِلِه عليه في قولِه: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثمَّ صرَّحَ بالمُنذَرِ في قولِه حين كرَّرَ الإنذارَ، فقال: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا؛ فحُذِفَ المُنْذَرُ أوَّلًا؛ لدلالةِ الثَّاني عليه، وحُذِفَ المُنذَرُ به؛ لدلالةِ الأوَّلِ عليه، وهذا من بَديعِ الحذْفِ وجَليلِ الفصاحةِ، ولمَّا لم يُكرِّرِ البِشارةَ أتى بالمُبشَّرِ والمُبشَّرِ به. وقيل: المفعولُ الأوَّلُ لـ (يُنْذِر) مَحذوفٌ لقَصْدِ التَّعميمِ، أو تَنزيلًا للفعلِ مَنزلةَ اللَّازمِ؛ لأنَّ المقصودَ المُنذَرُ به، وهو البأسُ الشَّديدُ؛ تَهويلًا له، ولتَهديدِ المُشرِكين المُنكِرين إنزالَ القُرآنِ من اللهِ .
- في قولِه: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ آثرَ صِيغَةَ الاستقبالِ في الصِّلةِ يَعْمَلُونَ؛ للإشعارِ بتجدُّدِ الأعمالِ الصَّالحةِ واستمرارِها، وإجراءُ الموصولِ على مَوصوفِه المذكورِ؛ لِمَا أنَّ مدارَ قَبولِ الأعمالِ هو الإيمانُ ، وذِكْرُ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ استحقاقَ ذلك الأجْرِ بحُصولِ ذينك الأمرينِ .
- ولمَّا كنَّى عن الجنَّةِ بقولِه: أَجْرًا حَسَنًا، قال: مَاكِثِينَ فِيهِ، أي: مُقيمينَ فيه، فجعَلَه ظرفًا لإقامتِهم، ولَمَّا كان المُكْثُ لا يَقْتضي التَّأبيدَ، قال: أَبَدًا .
3- قولُه تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا تَعليلٌ آخرُ لإنزالِ الكتابِ على عبْدِه، جُعِلَ تاليًا لقولِه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ باعتبارِ أنَّ المُرادَ هنا إنذارٌ مَخصوصٌ مُقابِلٌ لِمَا بَشَّرَ به المُؤمِنين، وهذا إنذارٌ بجَزاءٍ خالدين فيه، وهو عذابُ الآخرةِ؛ فإنْ جرَيْتَ على تَخصيصِ البأسِ في قولِه: بَأْسًا شَدِيدًا بعذابِ الدُّنيا، كان هذا الإنذارُ مُغايرًا لِما قبْلَه، وإنْ جرَيْتَ على شُمولِ البأْسِ للعذابَينِ، كانت إعادةُ فعْلِ (يُنذِر) تأكيدًا، فكان عطْفُه باعتبارِ أنَّ لمفعولِه صِفَةً زائدةً على معنى مفعولِ فعْلِ (يُنذِر) السَّابقِ، يُعْرَفُ بها الفريقُ المُنْذَرون بكِلا الإنذارَينِ، وهو يُومِئُ إلى المُنْذَرينَ المحذوفِ في قولِه: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا، ويُغْني عن ذِكْرِه، وهذه العِلَّةُ أثارَتها مُناسبةُ ذِكْرِ التَّبشيرِ قبْلَها، وقد حُذِفَ هنا المُنذَرُ به؛ اعتمادًا على مُقابِلِه المُبشَّرِ به .
- قولُه: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا خَصَّهم بالذِّكرِ -أي: ويُنذِرَ من بين سائرِ الكفَرةِ هؤلاء المُتفوِّهينَ بمثْلِ هذه العظيمةِ خاصَّةً-، وكرَّرَ الإنذارَ مُتعلِّقًا بفرقةٍ خاصَّةٍ ممَّن عَمَّه الإنذارُ السَّابقُ من مُستحقِّي البأسِ الشَّديدِ؛ للإيذانِ بكَمالِ فَظاعةِ حالِهم لغايةِ شَناعةِ كُفْرِهم وضَلالِهم .
- والتَّعبيرُ عن هؤلاءِ بالموصولِ وصِلَتِه الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا؛ لأنَّهم قد عُرِفوا بهذه المقالةِ بين أقوامِهم وبين المُسلِمين؛ تَشنيعًا عليهم بهذه المقالةِ، وإيماءً إلى أنَّهم استحقُّوا ما أُنْذِروا به لأجْلِها ولغيرِها؛ فمضمونُ الصِّلةِ من مُوجباتِ ما أُنْذِروا به؛ لأنَّ العِللَ تتعدَّدُ ؛ فترْكُ إجراءِ الموصولِ على الموصوفِ كما فعَلَ في قولِه تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ للإيذانِ بكِفايةِ ما في حيِّزِ الصِّلةِ في الكُفْرِ على أقبْحِ الوُجوهِ .
- وإيثارُ صِيغَةِ الماضي قَالُوا في الصِّلةِ؛ للدَّلالةِ على تحقُّقِ صُدورِ تلك الكلمةِ القبيحةِ عنهم فيما سبَقَ .
4- قوله تعالى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا
- قولُه: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ (مِن) لتَوكيدِ النَّفيِ ، وفائدةُ ذِكْرِ هذه الحالِ أنَّها أشنَعُ في كُفْرِهم، وهي أنْ يقولوا كذِبًا ليس لهم فيه شُبهةٌ؛ فأُطْلِقَ العِلْمُ على سبَبِ العلْمِ، كما دَلَّ عليه قولُه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون: 117] .
- وعُطِفَ وَلَا لِآبَائِهِمْ لِقَطعِ حُجَّتِهم؛ لأنَّهم كانوا يقولونَ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: 23] ، فإذا لم يكُنْ لآبائِهم حُجَّةٌ على ما يقولون، فليسوا جَديرين بأنْ يُقلِّدوهم .
- وجُملةُ: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ استئنافٌ بالتَّشاؤُمِ بذلك القولِ الشَّنيعِ. وفِعْلُ كَبُرَتْ مُستعملٌ في التَّعجُّبِ مِن كُبْرِ هذه الكلمةِ في الشَّناعةِ بقَرينةِ المقامِ، ودَلَّ على قصْدِ التَّعجيبِ منها انتصابُ كَلِمَةً على التَّمييزِ؛ إذ لا يَحتمِلُ التَّمييزُ هنا معنًى غيرَ أنَّه تَمييزُ نِسبةِ التَّعجُّبِ، ووجْهُ فصْلِ الجُملةِ: أنَّها مُخالِفةٌ للَّتي قبْلَها بالإنشائيَّةِ المُخالِفةِ للخبريَّةِ .
- وجُملةُ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ صِفةٌ لـ كَلِمَةً، مقصودٌ بها استعظامُ جُرأتِهم على النُّطقِ بها ووَقاحتِهم في قولِها ، والتَّعبيرُ بالفعْلِ المُضارِعِ تَخْرُجُ؛ لاستحضارِ صُورةِ خُروجِها من أفواهِهم؛ تَخييلًا لفَظاعتِها. وفيه إيماءٌ إلى أنَّ مِثلَ ذلك الكلامِ ليس له مَصدرٌ غَيرُ الأفواهِ؛ لأنَّه لاستحالتِه تتلقَّاهُ وتنطِقُ به أفواهُهم، وتسمَعُه أسماعُهم، ولا تتعقَّلُه عُقولُهم؛ لأنَّ المُحالَ لا يَعتقِدُه العقْلُ ولكنَّه يتلقَّاهُ المُقلِّدُ دونَ تأمُّلٍ ، فصوَّر فَظاعةَ اجترائِهم على النُّطقِ بها بقولِه تعالى: تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، أي: لم يَكفِهم خُطورُها في نُفوسِهم، وتَردُّدُها في صُدورِهم، حتى تَلفَّظوا بها، وكان تلفُّظُهم بها على وجهِ التكريرِ- بما أشارَ إليه التعبيرُ بالمضارعِ .
- وجُملةُ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا مُؤكِّدةٌ لمَضمونِ جُملةِ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ؛ لأنَّ الشَّيءَ الَّذي تنطِقُ به الألسُنُ، ولا تحقُّقَ له في الخارجِ ونفْسِ الأمر، هو الكذِبُ، أي: تخرُجُ من أفواهِهم خُروجَ الكذِبِ، فما قولُهم ذلك إلَّا كذِبٌ، أي: ليستْ له صِفةٌ إلَّا صِفةُ الكذبِ. هذا إذا جُعِلَ القولُ المأخوذُ من يَقُولُونَ خُصوصَ قولِهم: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا [الكهف: 4] ، وعلى حمْلِ يَقُولُونَ على العُمومِ في سِياقِ النَّفيِ، أي: لا يَصدُرُ منهم قولٌ إلَّا الكذبُ؛ فيكونُ قصْرًا إضافيًّا ، أي: ما يقولونَه في القُرآنِ والإسلامِ، أو: ما يقولونَه من مُعتقداتِهم المُخالفةِ لِما جاء به الإسلامُ؛ فتكونُ جُملةُ إِنْ يَقُولُونَ تَذييلًا .
5- قولُه تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا تَفريعٌ على جُملةِ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا باعتبارِهم مُكذِّبينَ كافرينَ؛ بقَرينةِ مُقابَلةِ المُؤمِنين بهم في قولِه: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثمَّ قولِه: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، و(لعلَّ) هنا مُستعملةٌ في تَحذيرِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من الاغتمامِ والحُزْنِ على عدَمِ إيمانِ مَن لم يُؤْمِنوا من قومِه، وذلك في معنى التَّسليةِ لقِلَّةِ الاكتراثِ بهم، وكأنَّ هذا الكلامَ سِيقَ إلى الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ في آخرِ أوقاتِ رَجائِه في إيمانِهم؛ إيماءً إلى أنَّهم غيرُ صائرينَ إلى الإيمانِ، وتهيئةً لنفْسِه أنْ تتحمَّلَ ما سيَلقاه من عِنادِهم؛ رأفةً مِن ربِّه به؛ ولذلك قال: إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ بصِيغَةِ الفعْلِ المُضارِعِ المُقتضيةِ الحُصولَ في المُستقبلِ، أي: إنِ استمَرَّ عدَمُ إيمانِهم .
- وفي قولِه: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا تَشبيهٌ تَمثيليٌّ بليغٌ مَصونٌ عن الابتذالِ؛ حيث شبَّهَه تعالى وإيَّاهم حين تولَّوا عنه ولم يُؤْمِنوا به، وأصَرُّوا على المُكابَرةِ والعِنادِ واللَّجاجِ بالسَّفسطةِ الباطلةِ، ثمَّ ما تداخَلَه من جرَّاءِ ذلك؛ من أسَفٍ على تولِّيهم، وإشفاقٍ عليهم لسُوءِ الأمْرِ الَّذي تؤولُ إليه أُمورُهم؛ شَبَّه ذلك سُبحانَه برجُلٍ فارَقَه أحِبَّتُه وأعِزَّتُه، فهو يتساقَطُ حَسراتٍ على آثارِهم، ويبخَعُ نفْسَه وجْدًا عليهم، وتلهُّفًا على فراقِهم، وأتى بهذه الصُّورةِ الفريدةِ صِيانةً لتَشبيهِه من الابتذالِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى أراد أنْ يُسلِّيَ نَبِيَّه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنْ يُخفِّفَ عنه ما ألَمَّ به مِن هَمٍّ وألَمٍ، فعرَضَ الموقِفَ بصِيغَةِ التَّرجِّي فَلَعَلَّكَ، وإنْ كان المُرادُ به النَّهيَ، أي: لا تبخَعْ نفْسَك ولا تُهْلِكْها من أجْلِ غَمِّك على عدَمِ إيمانِهم .
- قولُه: بِهَذَا الْحَدِيثِ إشارةٌ إلى القُرآنِ؛ لأنَّه لحُضورِه في الأذهانِ كأنَّه حاضرٌ في مَقامِ نُزولِ الآيةِ؛ فأُشِيرَ إليه بذلك الاعتبارِ، وأتَى باسمِ الإشارةِ (هذا) لزِيادةِ تَمييزِه؛ تَقويةً لحُضورِه في الأذهانِ
=====================
سورةُ الكَهفِ
الآيتان (7-8)
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ
غريب الكلمات:
صَعِيدًا: أي: ترابًا، والصعيدُ: الأملسُ المستوي، ويُطلقُ أيضًا على وجهِ الأرضِ، وأصلُ (صعد): يدلُّ على ارتفاعٍ ومشقةٍ
.
جُرُزًا: أي: جَرداءَ لا نباتَ فيها، وأصلُ (جرز): يدلُّ على قَطعٍ
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ الله سبحانه وتعالى مسلِّيًا لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم ومُثَبِّتًا له: إنَّا جَعَلْنا ما على وَجهِ الأرضِ مِن الحيواناتِ والنباتِ والجمادِ زينةً لها؛ لنختبرَ العبادَ: أيُّهم أخلصُ عملًا وأصوبُه. وإنَّا لجاعِلونَ ما على الأرضِ مِن تلك الزِّينةِ عند انقِضاءِ الدُّنيا تُرابًا مستويًا لا نباتَ فيه، فهلَّا عَمِلوا للباقي ولم يغتَرُّوا بالفاني الزَّائلِ.
تفسير الآيتين:
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
ارتباطُ هذه الآيةِ بما قبْلَها هو على سَبيلِ التَّسليةِ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ أنَّه خلَقَ ما على الأرضِ من الزِّينةِ للابتلاءِ والاختبارِ؛ أيُّ النَّاسِ أحسَنُ عملًا، فليسوا على نمَطٍ واحدٍ في الاستقامةِ واتِّباعِ الرُّسلِ، بل لا بُدَّ أنْ يكونَ فيهم مَن هو أحسَنُ عمَلًا، ومَن هو أسوَأُ عملًا، فلا تغتَمَّ وتحزَنْ على مَن فُضِّلْتَ عليه بأنَّه يكونُ أسوَأَ عملًا، ومع كونِهم يكْفُرون بي لا أقطَعُ عنهم موادَّ هذه النِّعمِ الَّتي خلقْتُها
.
وأيضًا فهي تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ على إعراضِ المُشرِكينَ بأنَّ اللهَ أمهَلَهم وأعطاهم زِينةَ الدُّنيا؛ لعَلَّهم يَشكُرونَه، وأنَّهم بَطِروا النِّعمةَ، فإنَّ اللهَ يَسلُبُ عنهم النِّعمةَ فتَصيرُ بلادُهم قاحِلةً، ولهذا اتِّصالٌ بِقَولِه تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2] .
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا.
أي: إنَّا جَعَلْنا ما على وَجهِ الأرضِ من الحيواناتِ والنباتِ والجمادِ زِينةً لها ، فجعَلَ اللهُ تعالى الدنيا مُستطابةً في ذَوقِها، مُستَحسَنةً في مَنظَرِها وزُخرُفِها .
كما قال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف: 46] .
وقال سُبحانَه: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل: 5، 6].
وقال عزَّ وجلَّ: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 8].
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أخوَفُ ما أخافُ عليكم ما يُخرِجُ اللهُ لكم مِن زَهرةِ الدُّنيا، قالوا: وما زَهرةُ الدُّنيا يا رسولَ اللهِ؟ قال: بَرَكاتُ الأرضِ )) .
وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِي الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خَضِرةٌ ، وإنَّ اللهَ مُستَخلِفُكم فيها، فيَنظُرُ كيف تَعمَلونَ؛ فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النِّساءَ؛ فإنَّ أوَّلَ فِتنةِ بني إسرائيلَ كانت في النِّساءِ )) .
وعن حَكيمِ بنِ حِزامٍ رَضِي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ هذا المالَ خَضِرةٌ حُلوةٌ )) .
ثمَّ بيَّن الله تعالى الحكمةَ في خلقِ الأرضِ وزينتِها ، فقال:
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
أي: جعَلْنا ما على الأرضِ زِينةً لها؛ لِنَختَبِرَ النَّاسَ: أيُّهم أصلَحُ عَمَلًا -أي: أخلَصُه لله، وأصوَبُه مِن جِهةِ مُوافَقتِه للشَّرعِ - وأزهدُ في زينةِ الدُّنيا .
كما قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 14].
وقال سُبحانَه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] .
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8).
أي: وإنَّا لِمُصَيِّرونَ ما على وَجهِ الأرضِ مِن زِينتِها تُرابًا مُستَويًا خاليًا، يابسًا لا نباتَ فيه، ولا ماءَ ولا بِناءَ
.
كما قال تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] .
وقال سُبحانَه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف: 45] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [طه: 105 - 107] .
الفوائد التربوية:
1- العملُ اليسيرُ الموافِقُ لمرضاةِ الرَّبِّ وسُنَّةِ رسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم أحَبُّ إلى اللَّهِ تعالَى مِنَ العملِ الكثيرِ إذا خَلا عن ذلك أو عن بعضِه؛ ولهذا قالَ اللَّهُ تعالَى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ، وقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] ، فهو سبحانَه وتعالى إنَّما خلَق السمواتِ والأرضَ والموتَ والحياةَ، وزيَّن الأرضَ بما عليها؛ ليبلوَ عبادَه أيُّهم أحسنُ عملًا، لا أكثرُ عملًا
، فالعِبرةُ بالأحسَنِ لا بالأكثَرِ .
2- قال اللهُ تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ثمَّ بَيَّن الحكمةَ، فقال: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، فإذا عَرَف العبدُ أنَّه خُلِق لأجلِ أن يُختبَرَ في إحسانِ العملِ كان حريصًا على الحالةِ التي ينجحُ بها في هذا الاختبارِ؛ لأنَّ اختبارَ ربِّ العالمينَ يومَ القيامةِ مَنْ لم ينجَحْ فيه جُرَّ إلى النَّارِ، فعدمُ النجاحِ فيه مهلكةٌ ، ففي ذلك الحثُّ على محاسنِ الأعمالِ، والترقِّي دائمًا في مراتبِ الكمالِ .
3- قولُه تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا فيه إشارةٌ إلى التَّزهيدِ في الدُّنيا والرَّغبةِ عنها، وتَسليةٌ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا تَضمَّنَته أيدي المُتْرَفينَ من زينتِها؛ إذ مآلُ ذلك كلِّه إلى الفَناءِ ، وفيه أكبَرُ واعظٍ للنَّاسِ، وأعظَمُ زاجِرٍ عن اتِّباعِ الهَوى، وإيثارِ الفاني على الباقي ؛ وذلك لأنَّ هذه الأرضَ ستعودُ صَعيدًا جُرُزًا قد ذَهَبَت لذَّاتُها، وانقَطَعت أنهارُها، واندرَسَت آثارُها، وزال نَعيمُها، هذه حقيقةُ الدُّنيا قد جَلَّاها اللهُ لنا كأنَّها رأيُ عَينٍ، وحَذَّرَنا مِن الاغترارِ بها، ورَغَّبَنا في دارٍ يَدومُ نَعيمُها، ويَسعَدُ مُقيمُها؛ كلُّ ذلك رَحمةً بنا، فاغتَرَّ بزُخرُفِ الدُّنيا وزِينتِها مَن نظَرَ إلى ظاهِرِ الدُّنيا دَونَ باطِنِها، فصَحِبوا الدُّنيا صُحبةَ البهائِم، وتمَتَّعوا بها تمتُّعَ السَّوائِم، لا يَنظُرون في حَقِّ رَبِّهم، ولا يَهتَمُّونَ لِمَعرفتِه، بل هَمُّهم تَناوُلُ الشَّهواتِ مِن أيِّ وَجهٍ حصَلَت، وعلى أيِّ حالةٍ اتَّفَقت، فهؤلاء إذا حضَرَ أحَدَهم الموتُ، قَلِقَ لِخَرابِ ذاتِه، وفَواتِ لَذَّاتِه، لا لِما قَدَّمَت يداه مِن التَّفريطِ والسَّيِّئات. وأمَّا مَن نظَرَ إلى باطِنِ الدُّنيا، وعَلِمَ المقصودَ منها ومنه؛ فإنَّه يتناوَلُ منها ما يَستَعينُ به على ما خُلِقَ له، وانتهَزَ الفُرصةَ في عُمُرِه الشَّريفِ، فجعَلَ الدُّنيا مَنزِلَ عُبور لا مَحَلَّ حُبُور، وشُقَّةَ سَفَرٍ لا مَنزِلَ إقامةٍ، فبَذَل جُهدَه في معرفةِ رَبِّه، وتنفيذِ أوامِرِه، وإحسانِ العَمَلِ؛ فهذا بأحسَنِ المنازِلِ عند الله، وهو حَقيقٌ منه بكُلِّ كَرامةٍ ونَعيم، وسُرورٍ وتَكريم، فنَظَرَ إلى باطِنِ الدُّنيا حينَ نَظَرَ المغَتَرُّ إلى ظاهِرِها، وعَمِلَ لآخِرَتِه حينَ عَمِلَ البَطَّالُ لدُنياه، فشَتَّانَ ما بين الفَريقَينِ، وما أبعَدَ الفَرقَ بين الطَّائِفَتينِ
!!
الفوائد العلمية واللطائف:
1- اللهُ سبحانه قد عَلِمَ قبل أن يوجِدَ عبادَه أحوالَهم، وما هم عامِلون، وما هم إليه صائِرون، ثمَّ أخرجهم إلى هذه الدارِ؛ لِيَظهَرَ مَعلومُه الذي عَلِمَه فيهم كما عَلِمَه، وابتلاهم مِن الأمرِ والنَّهيِ والخيرِ والشرِّ بما أظهر مَعلومه، فاستحقُّوا المدحَ والذمَّ والثوابَ والعقابَ بما قام بهم مِن الأفعالِ والصِّفاتِ المُطابِقة للعِلمِ السَّابقِ، ولم يكونوا يستَحِقُّون ذلك وهي في عِلْمِه قبل أن يَعمَلوها؛ فأرسل رسُلَه وأنزل كتُبَه وشرَعَ شرائِعَه؛ إعذارًا إليهم، وإقامةً للحُجَّةِ عليهم؛ لئلَّا يقولوا: كيف تُعاقِبُنا على عِلْمِك فينا، وهذا لا يدخل تحت كَسبِنا وقُدرتِنا؟! فلما ظهر عِلمُه فيهم بأفعالِهم حصَلَ العِقابُ على معلومِه الذي أظهره الابتلاءُ والاختبارُ، وكما ابتلاهم بأمرِه ونهيِه ابتلاهم بما زيَّنَ لهم من الدُّنيا وبما ركَّبَ فيهم من الشَّهواتِ، فذلك ابتلاءٌ بشَرعِه وأمرِه، وهذا ابتلاءٌ بقَضائِه وقَدَرِه؛ قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
[هود: 7] .
2- قولُه تعالى: أَحْسَنُ عَمَلًا قال الفضيلُ بنُ عياضٍ: (أخلصُه وأصوبُه). والخالصُ: أن يكونَ لله، والصوابُ: أن يكونَ على السنةِ، وهما أصلانِ عظيمانِ: أحدُهما: أن لا نعبدَ إلا الله، والثاني: أن لا نعبدَه إلا بما شرَع، لا نعبدُه بعبادةٍ مبتدَعةٍ، وهذان الأصلانِ هما تحقيقُ شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله
.
بلاغة الآيتين:
1- قولُه تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا
- قولُه: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ... استئنافٌ، وتَعليلٌ لِما في (لعلَّ) مِن معنى الإشفاقِ
؛ فمَوقعُ (إنَّ) في صَدْرِ هذه الجُملةِ موقعُ التَّعليلِ للتَّسليةِ الَّتي تضمَّنَها قولُه قبْلُ: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ .
- وأُوثِرَ الاستدلالُ بحالِ الأرضِ الَّتي عليها النَّاسُ؛ لأنَّها أقرَبُ إلى حِسِّهم وتَعقُّلِهم .
- قولُه: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه إيرادُ صِيغَةِ التَّفضيلِ أَحْسَنُ، مع أنَّ الابتلاءَ شامِلٌ للفريقينِ باعتبارِ أعمالِهم المُنقسمةِ إلى الحَسنِ والقبيحِ أيضًا، لا إلى الحَسنِ والأحسنِ فقطْ؛ للإشعارِ بأنَّ الغايةَ الأصليَّةَ للجَعلِ المذكورِ إنَّما هو ظُهورُ كَمالِ إحسانِ المُحسنينَ .
- وقد جاء نظْمُ هذا الكلامِ على أُسلوبِ الإعجازِ في جمْعِ معانٍ كثيرةٍ يصلُحُ اللَّفظُ لها مِن مُختلَفِ الأغراضِ المقصودةِ؛ فإنَّ الإخبارَ عن خلْقِ ما على الأرضِ زينةً، يجمَعُ الامتنانَ على النَّاسِ، والتَّذكيرَ ببَديعِ صُنْعِ اللهِ؛ إذ وضَعَ هذا العالَمَ على أتقَنِ مثالٍ مُلائمٍ لِما تحِبُّه النُّفوسُ من الزَّينةِ والزُّخرفِ، والامتنانُ بمثْلِ هذا كثيرٌ. ولا تكونُ الأشياءُ زِينةً إلَّا وهي مبثوثةٌ فيها الحياةُ الَّتي بها نَماؤُها وازدهارُها. وهذه الزِّينةُ مُستمِرَّةٌ على وجْهِ الأرضِ منذُ رآها الإنسانُ، واستمرارُها باستمرارِ أنواعِها، وإنْ كان الزَّوالُ يعرِضُ لأشخاصِها، فتَخلُفُها أشخاصٌ أُخرى مِن نَوعِها، فيتضمَّنُ هذا امتنانًا ببَثِّ الحياةِ في الموجوداتِ الأرضيَّةِ. ومن لوازمِ هذه الزِّينةِ: أنَّها تُوقِظُ العُقولَ إلى النَّظرِ في وُجودِ مُنْشِئها، وتسبُرُ غوْرَ النُّفوسِ في مقدارِ الشُّكرِ لخالِقِها وجاعِلِها لهم، فمِن مُوفٍ بحَقِّ الشُّكرِ، ومُقصِّرٍ فيه، وجاحدٍ كافرٍ بنعمةِ هذا المُنعِمِ، ناسِبٍ إيَّاها إلى غيرِ مُوجدِها. ومن لوازمِها أيضًا: أنَّها تُثيرُ الشَّهواتِ لاقتطافِها وتناوُلِها، فتُسْتثارُ مِن ذلك مُختلَفُ الكيفيَّاتِ في تناوُلِها، وتعارُضُ الشَّهواتِ في الاستيثارِ بها، ممَّا يُفْضي إلى تغالُبِ النَّاسِ بعضِهم بعضًا، واعتداءِ بعضِهم على بعضٍ، وذلك الَّذي أوجَدَ حاجتَهم إلى الشَّرائعِ؛ لتَضبُطَ لهم أحوالَ مُعاملاتِهم؛ ولذلك علَّلَ جَعْلَ ما على الأرضِ زِينةً بقولِه: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أي: أفوتُ في حُسْنِ العمَلِ من عمَلِ القلْبِ الرَّاجعِ إلى الإيمانِ والكُفْرِ، وعمَلِ الجسَدِ المُتبدِّي في الامتثالِ للحقِّ والحَيدةِ عنه. فمجموعُ النَّاسِ مُتفاوتونَ في حُسنِ العملِ، ومِن دَرجاتِ التَّفاوُتِ في هذا الحُسنِ تُعلَمُ بطريقِ الفحوى درجةُ انعدامِ الحُسنِ من أصْلِه، وهي حالةُ الكُفْرِ وسُوءِ العمَلِ .
2- قولُه تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا هذه الجُملةُ لتكميلِ ما في السَّابقةِ من التَّعليلِ .
- قولُه: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لزيادةِ التَّقريرِ، أو لإدراجِ المُكلَّفينَ فيه .
========================
سورةُ الكَهفِ
الآيات (9-12)
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
غريب الكلمات :
الْكَهْفِ: أي: الغارِ الواسعِ في الجبلِ
.
وَالرَّقِيمِ: أي: الكِتابِ، وهو فَعيلٌ بمعنى مَفعولٍ، والأصلُ فيه المرقومُ، وسُمِّيَ رَقيمًا؛ لأنَّ أسماءَ أصحابِ الكَهفِ كانت مَرقومةً -أي: مَكتوبةً- فيه. وقيل: الرقيمُ اسمُ الجبلِ الذي فيه الكهفُ، أو: اسمُ الوادي. وأصلُ (رقم): يدُلُّ على خَطٍّ وكِتابةٍ .
الْفِتْيَةُ: أي: الشبابُ، جمعُ فتًى، وأصلُ (فتى) هنا: يدُلُّ على طَراوةٍ وجِدَّةٍ .
رَشَدًا : الرَّشَدُ، والرُّشْدُ: نقيضُ الضلالِ، وهو الاهتداءُ والدَّيمومةُ عليه، وأصلُ (رشد): يدُلُّ على استقامةِ الطَّريقِ .
الْحِزْبَيْنِ: أي: الطائفتينِ، أو: الفريقينِ، والحزبُ: الجماعةُ مِنَ النَّاسِ الَّذينَ تَوافَقوا على شيءٍ واحدٍ، وأصلُ (حزب): تجمُّعُ الشَّيءِ .
أَمَدًا: أي: زَمانًا وغايةً
.
مشكل الإعراب:
قولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا
أَيُّ اسمُ استفهامٍ مبتدأٌ، وهو معلِّقٌ لفعلِ (نَعلَم) عن العمَلِ، و أَحْصَى الخبَرُ، والجملةُ سدَّت مسدَّ مفعولي (نعلَم). و أَحْصَى يحتَمِلُ أن يكونَ فِعلًا ماضيًا، وفاعِلُه ضميرُ أَيُّ، و أَمَدًا مفعولٌ به، و لِمَا لَبِثُوا: متعلِّقٌ بأحصى، أو نعتٌ لـ أَمَدًا قُدِّمَ عليه فصار حالًا. ويحتَمِلُ أن يكونَ أَحْصَى اسمَ تفضيلٍ مصوغًا من الرُّباعي قياسًا، على قَولِ سيبويه والزجَّاج، وعلى خلافِ القياسِ عندَ غيرهما. و أَمَدًا تمييزٌ لاسمِ التَّفضيلِ تمييزُ نسبةٍ محوَّلٌ عن المفعولِ، وأصلُه أحصى أمدَ الزَّمانِ الذي لَبِثوا فيه. وقيل: محولٌ عن الفاعِلِ
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ تعالى مبينًا قصةَ أصحابِ الكهفِ: أظننتَ -يا مُحمَّدُ- أنَّ أصحابَ الكَهفِ والكتابِ كانوا مِن آياتِنا العَجيبةِ؟! فإنَّ في آياتِنا ما هو أعجَبُ مِن ذلك! اذكُرْ حينَ لجأ أولئك الشُّبَّانُ إلى الكَهفِ؛ خَشيةً مِن فِتنةِ قَومِهم الكُفَّارِ لهم، فقالوا: ربَّنا أعطِنا مِن عِندِك رحمةً تُثبِّتُنا بها، ويَسِّرْ لنا أسبابًا توصِلُنا إلى ما تُحِبُّ، فألقَينا عليهم نَوْمًا ثَقيلًا عَميقًا سِنينَ كَثيرةً، ثمَّ أيقَظْناهم مِن نَومِهم؛ لنعلمَ علمَ ظهورٍ ومشاهدةٍ: أيُّ الطَّائِفَتَينِ المُتَنازِعَتَينِ في مُدَّةِ لُبثِهم أضبَطُ وأتقَنُ في الإحصاءِ.
تفسير الآيات:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9).
أي: أظنَنْتَ -يا مُحمَّدُ- أنَّ أصحابَ الكَهفِ والكِتابِ
كانوا مِن آياتِنا العَجيبةِ؟ بل في آياتِنا ما هو أعجَبُ مِن ذلك .
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا صَغَّر اللهُ تعالى أمْرَهم بالنِّسبةِ إلى جَليلِ آياتِه، وعَظيمِ بيِّناتِه، وغَريبِ مَصنوعاتِه؛ لَخَّصَ قِصَّتَهم التي عَدُّوها عَجَبًا، وتَرَكوا الاستِبصارَ على وحدانيَّةِ الواحِدِ القَهَّارِ، بما هو العجَبُ العَجيبُ، والنَّبأُ الغَريبُ، فقال تعالى :
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ.
أي: واذكُرْ حينَ لجأ أولئك الشَّبابُ إلى كَهفِ جَبَلٍ؛ خَوفًا مِن أن يَفتِنَهم قَومُهم الكُفَّارُ عن دِينِهم .
فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً.
أي: فبادَرَ أولئك الشَّبابُ حين أَوَوا إلى الكَهفِ إلى الدُّعاءِ، فقالوا: ربَّنا أعطِنا مِن عِندِك رحمةً عَظيمةً تَرحَمُنا بها .
وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا.
أي: وأعِدَّ لنا أسبابًا وأحوالًا تكونُ عاقِبَتُها حُصولَ ما خَوَّلْتَنا مِن الثَّباتِ على الحَقِّ، والنَّجاةِ من المُشرِكينَ، وحُصُولَ العِلمِ النَّافِعِ، والعَمَلِ به، فيكونُ أمرُ دِينِنا ودُنيانا صالِحًا مُوافِقًا للصَّوابِ .
فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11).
أي: فألقَيْنا عليهم نَوْمًا ثَقيلًا عَميقًا لسِنينَ ذواتِ عَدَدٍ كثيرٍ .
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12).
أي: ثمَّ أيقَظْناهم مِن نَوْمِهم -بعدَ مُضِيِّ تلك السِّنينَ الكَثيرةِ- لنعلمَ علمًا يَظهرُ في الوجودِ : أيُّ الفَريقَينِ المُختَلِفَينِ في مِقدارِ نَومِهم في الكَهفِ أضبَطُ وأتقَنُ في حِسابِ تلك المُدَّةِ
.
الفوائد التربوية:
1- قَولُ الله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا فيه لفتٌ للعقولِ عن الاشتغالِ بعجائبِ القصصِ إلى أنَّ الأوْلَى الاتِّعاظُ بما فيها مِن العبرِ والأسبابِ وآثارِها؛ ولذلك ابْتُدِئَ ذكرُ أحوالِهم بقولِه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فأعْلَم النَّاسَ بثباتِ إيمانِهم باللَّهِ ورَجائِهم فيه، وبقولِه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى... الآياتِ [الكهف: 13] ، الدَّالِّ على أنَّهم أبْطَلوا الشِّرْكَ، وسَفَّهوا أهلَه؛ تعريضًا بأنَّ حقَّ السَّامِعينَ أنْ يَقْتَدوا بهُداهم
.
2- قال الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا هذه الآيةُ صَريحةٌ في الفِرارِ بالدِّينِ، وهِجرةِ الأهلِ والبَنينَ، والقَراباتِ والأصدقاءِ، والأوطانِ والأموالِ؛ خَوفَ الفِتنةِ وما يَلقاه الإنسانُ مِن المِحنةِ، وقد خرج النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فارًّا بدِينِه وكذلك أصحابُه، وجلس في الغارِ -وقد نَصَّ اللهُ تعالى على ذلك في سورةِ «التَّوبة»- وهَجَروا أوطانَهم، وتَرَكوا أرْضَهم وديارَهم، وأهاليَهم وأولادَهم، وقَراباتِهم وإخوانَهم؛ رجاءَ السَّلامةِ بالدِّينِ، والنَّجاةِ مِن فِتنةِ الكافرينَ .
3- قَولُ الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا جَمَعوا بين السَّعيِ والفرارِ مِن الفِتنةِ إلى محَلٍّ يُمكِنُ الاستِخفاءُ فيه، وبين تَضَرُّعِهم وسُؤالِهم لله تَيسيرَ أُمورِهم، وعَدَمِ اتِّكالِهم على أنُفسِهم وعلى الخَلقِ؛ فلذلك استجابَ اللهُ دُعاءَهم، وقَيَّضَ لهم ما لم يَكُنْ في حِسابِهم
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ الشُّبَّانُ أقبَلُ للحَقِّ وأهدى للسَّبيلِ مِن الشُّيوخِ
؛ ولهذا كان أكثرُ المستجيبينَ لِلَّه ولرَسولِه صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ شَبابًا، وأَمَّا المشايخُ مِنْ قُرَيْشٍ فعامَّتُهم بَقُوا علَى دينِهم، ولم يُسْلِمْ منهم إِلَّا القليلُ. وهكذا أخبرَ تعالَى عن أصحابِ الكهفِ أنَّهم كانوا فتيةً شبابًا .
2- قال الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا خَصَّصَ سُبحانَه وتعالى الآذانَ بالذِّكرِ؛ لأنَّها الجارِحةُ التي منها عُظْمُ فَسادِ النَّومِ، وقَلَّما يَنقَطِعُ نَومُ نائمٍ إلَّا مِن جِهةِ أذُنِه، ولا يَستَحكِمُ نَومٌ إلَّا مع تعَطُّلِ السَّمعِ، ومِن ذِكرِ الأُذُنِ في النَّومِ قَولُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ذلك رجُلٌ بال الشَّيطانُ في أُذُنِه )) ، أشار عليه السَّلامُ إلى رجُلٍ طَويلِ النَّومِ لا يَقومُ باللَّيلِ .
3- قال الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا في النَّومِ المَذكورِ حِفظٌ لقُلوبِهم من الاضطرابِ والخَوفِ، وحِفظٌ لهم مِن قَومِهم، ولِيَكونَ آيةً بَيِّنةً .
4- قَولُ الله تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ فيه دَليلٌ على صِحَّةِ القَولِ بالكَراماتِ ؛ فإنَّ بقاءَهم ثلاثَمِئةِ سَنةٍ بلا آفةٍ: مِنْ أعظمِ الخوارقِ .
5- قال الله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا سَمَّى سُبحانَه وتعالى الاستِيقاظَ مِن النَّومِ بَعثًا؛ لأنَّ النَّومَ وَفاةٌ، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ [الأنعام: 60] ، وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر: 42] ؛ فالنَّومُ وَفاةٌ .
6- قولُه تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ المقصودُ من هذه القِصَّةِ إثباتُ البعثِ بعدَ الموتِ؛ فكان في ذِكْرِ لفظِ (البَعثِ) تَنبيهٌ على أنَّ في هذه الإفاقةِ دليلًا على إمكانِ البَعثِ وكيفيَّتِه
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
- قولُه: أَمْ حَسِبْتَ (أمْ) للإضرابِ الانتقاليِّ من غرَضٍ إلى غرضٍ
، ولمَّا كان هذا من المقاصِدِ الَّتي أُنزِلَتِ السُّورةُ لبَيانِها، لم يكُنْ هذا الانتقالُ اقتضابًا، بلْ هو كالانتقالِ من الدِّيباجةِ والمُقدِّمةِ إلى المقصودِ، على أنَّ مُناسبةَ الانتقالِ إليه تتَّصِلُ بقولِه تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] ؛ إذ كان ممَّا صرَفَ المُشرِكين عن الإيمانِ إحالتُهم الإحياءَ بعدَ الموتِ، فكان ذِكْرُ أهْلِ الكهفِ وبعْثِهم بعدَ خُمودِهم سِنينَ طويلةً مِثالًا لإمكانِ البعْثِ .
- والاستفهامُ المُقدَّرُ بعدَ (أمْ) تَعجبيٌّ، والتَّقديرُ: أحسِبْتَ أنَّ أصحابَ الكهفِ كانوا عجَبًا من بينِ آياتِنا، أي: أعجَبَ من بقيَّةِ آياتِنا؛ فإنَّ إماتةَ الأحياءِ بعدَ حياتِهم أعظَمُ من عجَبِ إنامةِ أهْلِ الكهفِ؛ لأنَّ في إنامتِهم إبقاءً للحياةِ في أجسامِهم، وليس في إماتةِ الأحياءِ إبقاءٌ لشَيءٍ من الحياةِ فيهم على كثرتِهم وانتشارِهم. وهذا تَعريضٌ بغَفلةِ الَّذين طَلبوا من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلمَ بَيانَ قِصَّةِ أهْلِ الكهفِ لاستعلامِ ما فيها من العجَبِ، بأنَّهم سَألوا عن عجيبٍ، وكَفروا بما هو أعجَبُ، وهو انقراضُ العالَمِ .
- ومعنى مِنْ في قولِه: مِنْ آيَاتِنَا التَّبعيضُ، أي: ليست قِصَّةُ أهْلِ الكهْفِ مُنفردةً بالعجَبِ من بينِ الآياتِ الأُخرى. أو تُجعَلُ للظَّرفيَّةِ، أي: كانوا عجبًا في آياتِنا، أي: وبقيَّةُ الآياتِ ليست عجَبًا، وهذا نِداءٌ على سُوءِ نظَرِهم؛ إذ يُعلِّقون اهتمامَهم بأشياءَ نادرةٍ، وبين يدَيْهم من الأشياءِ ما هو أجدَرُ بالاهتمامِ .
- قولُه: كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا أخبَرَ عن أصحابِ الكهفِ بالعجَبِ، وإنَّما العجَبُ حالُهم في قومِهم، فثَمَّ مُضافٌ مَحذوفٌ يدُلُّ عليه الكلامُ، وأيضًا أخبَرَ عن حالِهم بالمصدَرِ عَجَبًا؛ مُبالغةً، والمُرادُ (عَجيب) .
2- قولُه تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
- قولُه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ (إذ) ظرفٌ مُضافٌ إلى الجُملةِ بعدَه، وهو مُتعلِّقٌ بـ كَانُوا [الكهف: 9] ، فتكونُ هذه الجُملةُ مُتَّصلةً بالَّتي قبلها. أو مُتعلِّقٌ بفعْلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: (اذْكُر)؛ فتكونُ مُستأنَفةً استئنافًا بَيانيًّا للجُملةِ الَّتي قبْلها، والمقصودُ على كِلا الأمرينِ: إجمالُ قِصَّتِهم ابتداءً؛ تَنبيهًا على أنَّ قِصَّتَهم ليست أعجَبَ آياتِ اللهِ، مع التَّنبيهِ على أنَّ ما أكرَمَهم اللهُ به من العِنايةِ إنَّما كان تأييدًا لهم لأجْلِ إيمانِهم؛ فلذلك عُطِفَ عليه قولُه: فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً .
- قولُه: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ فالفتيةُ هم أصحابُ الكهْفِ المَذكورونَ في الآيةِ الَّتي قبْلُ، ومُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (إذ أوَوا)؛ فعُدِلَ عن ذلك لِما يدُلُّ عليه لفظُ الْفِتْيَةُ من كونِهم أترابًا مُتقاربي السِّنِّ، وذِكْرُهم بهذا الوصفِ؛ للإيماءِ إلى ما فيه من اكتمالِ خُلقِ الرُّجوليَّةِ المُعبَّرِ عنه بالفُتوَّةِ الجامعِ لمعنى سَدادِ الرَّأيِ، وثَباتِ الجأْشِ، والدِّفاعِ عن الحقِّ؛ ولذلك عُدِلَ عن الإضمارِ فلم يُقَلْ: (إذ أوَوا إلى الكهفِ) . وقيل: إنَّما أُبرِزَ الضميرُ لبيانِ أنَّهم شُبَّانٌ ليسوا بكَثيري العَددِ؛ فليستْ لهم أسنانٌ استفادوا بها من التَّجارِبِ والتعلُّمِ ما اهتَدَوا إليه من الدِّين والدُّنيا، ولا كثرةٌ حُفِظوا بها ممَّن يُؤذيهم أَيقاظًا ورُقودًا .
- قولُه: فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا دلَّتِ الفاءُ في جُملةِ فَقَالُوا على أنَّهم لمَّا أوَوا إلى الكهف، بادروا بالابتهالِ إلى اللهِ، ودَعوا اللهَ أنْ يُؤتِيَهم رحمةً من لَدُنْه، وذلك جامعٌ لخيرِ الدُّنيا والآخرةِ، أي: أنْ يمُنَّ عليهم برحمةٍ عظيمةٍ تُناسِبُ عِنايتَه باتِّباعِ الدِّينِ الَّذي أمَرَ به؛ فزيادةُ مِنْ لَدُنْكَ للتَّعلُّقِ بفعْلِ الإيتاءِ تُشيرُ إلى ذلك؛ لأنَّ في (مِن) معنى الابتداءِ، وفي (لَدُن) معنى العِنديَّةِ والانتسابِ إليه؛ فذلك أبلَغُ ممَّا لو قالوا: (آتِنا رحمةً)، ثمَّ سألوا اللهَ أنْ يُقدِّرَ لهم أحوالًا تكونُ عاقِبتُها حُصولَ ما خوَّلَهم من الثَّباتِ على الدِّينِ الحقِّ، والنَّجاةَ من مُناوأةِ المُشرِكين؛ فعُبِّرَ عن ذلك التَّقديرِ بالتَّهيئةِ الَّتي هي إعدادُ أسبابِ حُصولِ الشَّيءِ .
- وفي قولِه: آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا تَقديمُ المُجرورَين -لَنَا ومِنْ أَمْرِنَا- على المفعولِ الصَّريحِ رَشَدًا؛ لإظهارِ الاعتناءِ بهما، وإبرازِ الرَّغبةِ في المُؤخَّرِ بتقديمِ أحوالِه؛ فإنَّ تأخيرَ ما حقُّه التَّقديمُ عمَّا هو من أحوالِه المُرغِّبةِ فيه، كما يُورِثُ شوقَ السَّامعِ إلى وُرودِه، يُنْبِئُ عن كَمالِ رَغبةِ المُتكلِّمِ فيه، واعتنائِه بحُصولِه لا مَحالةَ، وكذا الكلامُ في تَقديمِ قولِه تعالى: مِنْ لَدُنْكَ على تَقديرِ تعلُّقِه بـ آتِنَا. وتَقديمُ لَنَا على مِنْ أَمْرِنَا؛ للإيذانِ من أوَّلِ الأمْرِ بكونِ المَسؤولِ مرغوبًا فيه لدَيْهم .
3- قولُه تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا تَفريعُ هذه الجُملةِ بالفاءِ إمَّا على جُملةِ دُعائِهم فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً...؛ فيُؤذِنُ بأنَّ مَضمونَها استجابةُ دَعوتِهم، فجعَلَ اللهُ إنامتَهم كرامةً لهم، بأنْ سلَّمَهم من التَّعذيبِ بأيدي أعدائِهم، وأيَّدَ بذلك أنَّهم على الحقِّ، وأرى النَّاسَ ذلك بعدَ زمَنٍ طويلٍ. وإمَّا على جُملةِ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ...؛ فيُؤذِنُ بأنَّ اللهَ عجَّلَ لهم حُصولَ ما قَصَدوه ممَّا لم يكُنْ في حُسبانِهم .
- وحُذِفَ مفعولُ فَضَرَبْنَا لظُهورِه، أي: ضرَبْنا على آذانِهم غِشاوةً أو حائلًا عن السَّمعِ، كما يُقال: بنى على امرأتِه، تَقديرُه: بنى بيتًا .
- قولُه: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ الضَّربُ على الآذانِ كِنايةٌ عن الإنامةِ؛ لأنَّ النَّومَ الثَّقيلَ يَستلزِمُ عدَمَ السَّمعِ؛ لأنَّ السَّمعَ السَّليمَ لا يَحجُبُه إلَّا النَّومُ، بخِلافِ البَصرِ الصَّحيحِ، فقد يُحْجَبُ بتَغميضِ الأجفانِ، وهذه الكِنايةُ من خَصائصِ القُرآنِ لم تكُنْ معروفةً قبْلَ هذه الآيةِ، وهي من الإعجازِ . وعُبِّرَ بالضَّربِ؛ ليدُلَّ على قُوَّةِ المُباشَرةِ واللُّصوقِ واللُّزومِ .
- قولُه: سِنِينَ عَدَدًا فيه وصْفُ السِّنينَ بـ عَدَدًا، وهو للتَّكثيرِ؛ لأنَّه لا يُحْتاجُ أنْ يُعَدَّ إلَّا ما كثُرَ لا ما قَلَّ، وهو الأنسبُ بإظهارِ كَمالِ القُدرةِ. وقيل: للتَّقليلِ، وهو الأليقُ بمَقامِ إنكارِ كونِ القِصَّةِ عجَبًا من بين سائرِ الآياتِ العجيبةِ؛ فإنَّ مُدَّةَ لُبْثِهم كبعضِ يومٍ عنده عَزَّ وجَلَّ . وقد أُجْمِلَ العددُ هنا تَبعًا لإجمالِ القصَّةِ .
======================
سورةُ الكَهفِ
الآيات (13-15)
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ
غريب الكلمات :
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ: أي: ثبَّتْنا قلوبَهم، وألْهَمناهم الصَّبرَ، وأصلُ (ربط): يدُلُّ على شَدٍّ وثَباتٍ
.
شَطَطًا: أي: قَولًا جائِرًا بعيدًا عن الحَقِّ، وأصلُ (شطط): يدُلُّ على البُعدِ .
بِسُلْطَانٍ: أي: بحُجَّةٍ، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقَهرُ، مِن التَّسلُّطِ؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا
.
المعنى الإجمالي:
بعدَ أن أجمَل الله تعالى الكلامَ عن أصحابِ الكهفِ أخَذ يُفصِّلُ قصتَهم، فقال تعالى: نحن نَقُصُّ عليك -يا مُحَمَّدُ- خبَرَ أصحابِ الكَهفِ بالصِّدقِ، إنَّ أصحابَ الكَهفِ شَبابٌ آمنوا باللهِ، وزِدْناهم ثَباتًا وهُدًى، وثبَّتْنا قُلوبَهم بالإيمانِ، حين قاموا فقالوا: رَبُّنا هو رَبُّ السَّمَواتِ والأرضِ، لن نَعبُدَ غَيرَه مِن الآلهةِ، لو عَبَدْنا غيرَه لكُنَّا قد قُلْنا قَولًا جائِرًا بعيدًا عن الصَّوابِ والحَقِّ، هؤلاء قَومُنا اتَّخَذوا آلِهةً غَيرَ اللهِ تعالى، فهلَّا يأتونَ بدَليلٍ واضِحٍ على صِحَّةِ عبادتِهم لها، فلا أحَدَ أشَدُّ ظُلْمًا ممَّن اختَلَقَ على اللهِ الكَذِبَ، فادعى شريكًا له في الألوهيةِ.
تفسير الآيات:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ.
أي: نحن -يا مُحَمَّدُ- لا غَيرُنا نَروي لك خبَرَ أصحابِ الكَهفِ بالصِّدقِ المُطابِقِ للواقِعِ، واليَقينِ الذي لا شَكَّ فيه
.
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ.
أي: إنَّ أصحابَ الكَهفِ شَبابٌ آمنُوا باللهِ حقًّا ، فوحَّدُوه ولم يُشرِكُوا به شَيئًا .
وَزِدْنَاهُمْ هُدًى.
أي: وبسَبَبِ أصلِ اهتدائِهم مِن قَبلُ إلى الإيمانِ، زِدْنَاهم إيمانًا، وعِلمًا بالحقِّ، وعملًا صالحًا .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] .
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14).
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ.
أي: وشَدَدْنا على قُلوبِهم، وثَبَّتْناها بالإيمانِ والصَّبرِ، فاشتَدَّ عَزمُهم، وقَوِيَ صَبْرُهم .
كما قال تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص: 10] .
إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا.
أي: رَبَطْنا على قُلوبِهم حِينَ قاموا لله، فقالوا مُعلِنينَ الحَقَّ : رَبُّنا الذي خَلَقَنا ويَملِكُنا ويَرزُقُنا ويُدَبِّرُ أمورَنا، هو الرَّبُّ المتفَرِّدُ بخَلقِ السَّمواتِ والأرضِ ومِلْكِها وتَدبيرِها، لن نَعبُدَ غَيرَه أبدًا؛ فهو الإلهُ المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه لا شريكَ له .
لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا.
أي: لو دَعَوْنا غيرَ اللهِ لَكُنَّا قد أفرَطْنا وغَلَوْنا في قَولِ الكَذِبِ، والتحَدُّثِ بالباطِلِ والبهتانِ .
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وَحَّد هؤلاء الفِتيةُ اللهَ تعالى، ورَفَضوا ما دُونَه مِن الآلهةِ، وذكَروا ما مَنَّ اللهُ به عليهم مِن الإيمانِ والهُدى؛ التَفَتوا إلى ما كان عليه قَومُهم مِن اتِّخاذِ الآلِهةِ مِن دونِ اللهِ، وأخَذُوا في ذَمِّهم وسُوءِ فِعلِهم، وأنَّهم لا حُجَّةَ لهم في عبادةِ غيرِ الله، ثمَّ عَظَّموا جُرْمَ مَن افتَرى على اللهِ كَذِبًا .
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً.
أي: قال الفِتيةُ المُؤمِنونَ : هؤلاءِ أهلُ عَصْرِنا وبَلَدِنا اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ آلِهةً يَعبُدونَها .
لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ.
أي: فهلَّا يأتي قَومُنا بحُجَّةٍ واضِحةٍ تدُلُّ على صَوابِ عِبادةِ تلك الآلهةِ التي يَتَّخِذونَها ؟!
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا .
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
أنَّه تسَبَّبَ عن عَجزِهم عن دَليلٍ أنَّهم أظلَمُ الظَّالِمينَ؛ لافتِعالِهم الكَذِبَ عن مَلِكِ المُلوكِ ومالِكِ المُلكِ؛ فلذلك قالوا :
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا .
أي: فلا أحدَ أشَدُّ ظُلمًا ممَّن اختَلَقَ الكَذِبَ على اللهِ، فادَّعى أنَّ له شَريكًا يُعبَدُ
.
الفوائد التربوية:
1- قال اللهُ تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ الكَريمةِ أنَّ مَن آمَنَ برَبِّه وأطاعَه، زاده رَبُّه هُدًى؛ لأنَّ الطَّاعةَ سَبَبٌ للمَزيدِ مِن الهُدى والإيمانِ
، وإنَّ مِن ثوابِ الحسنةِ الحسنةَ بعدَها، ومَن عمِل بما يعلمُ أورَثه الله تعالى علمَ ما لم يعلَمْ .
2- قَولُ الله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ يُفهَمُ مِنه أنَّ مَن كان في طاعةِ رَبِّه جَلَّ وعَلا، أنَّه تعالى يُقَوِّي قَلْبَه، ويُثَبِّتُه على تحَمُّلِ الشَّدائِدِ، والصَّبرِ الجَميلِ .
3- في قوله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أنَّ المؤمنَ أحوجُ شيءٍ إلى أن يربِطَ الله على قلبِه، ولولا ذلك الربطُ افتتنوا
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قَولُ الله تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ هذا مِن جُموعِ القِلَّةِ، ويدُلُّ على أنَّهم كانوا دونَ العَشرةِ
.
2- قَولُ الله تعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى استَدَلَّ بهذه الآيةِ وأمثالِها غيرُ واحدٍ مِن الأئمَّةِ -كالبُخاريِّ وغَيرِه- على زيادةِ الإيمانِ وتَفاضُلِه، وأنَّه يزيدُ ويَنقُصُ؛ ولهذا قال تعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى، كما قال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] ، وقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة: 124] ، وقال: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4] إلى غيرِ ذلك منَ الآياتِ الدَّالَّةِ على ذلك .
3- قال اللهُ تعالى عن أهلِ الكَهفِ: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا قاموا فذَكَروا اللهَ على هِدايَتِه، وشَكَروا لِمَا أَولاهم مِن نِعْمَتِه، ثمَّ هامُوا على وُجوهِهم مُنقَطِعينَ إلى رَبِّهم، خائِفينَ مِن قَومِهم، وهذه سُنَّةُ اللهِ في الرُّسُلِ والأنبياءِ والفُضَلاءِ الأولياءِ .
4- قال اللهُ تعالى عن أهلِ الكَهفِ: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا، فاستَدَلُّوا بتَوحيدِ الرُّبوبيَّةِ على توحيدِ الإلهيَّةِ؛ ولهذا قالوا: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا .
5- قال تعالى: فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا أي: لو دَعَوْنا وعَبَدْنا مِن دونِه إلهًا واللهِ لقد قُلْنا إِذًا شَطَطًا، واستلزامُ العبادةِ القَولَ؛ لِمَا أنَّها لا تَعرَى عن الاعترافِ بألوهيَّةِ المعبودِ، والتضَرُّعِ إليه، وفي هذا القَولِ دَلالةٌ على أنَّ الفِتيةَ دُعُوا لعبادةِ الأصنامِ، ولِيمُوا على تَركِها
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
- هذا شُروعٌ في مُجْمَلِ القصَّةِ والاهتمامِ بمَواضعِ العِبْرةِ منها
، وقُدِّمَ منها ما فيه وصْفُ ثَباتِهم على الإيمانِ، ومُنابذتِهم قومَهم الكَفَرةَ، ودُخولِهم الكهْفَ. ولمَّا اقْتَضى قولُه قبْلُ: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى أنَّ في نبَأِ أهْلِ الكهْفِ تَخرُّصاتٍ ورجْمًا بالغيبِ؛ أثارَ ذلك في النَّفسِ تطلُّعًا إلى معرفةِ الصِّدقِ في أمْرِهم، من أصْلِ وُجودِ القصَّةِ إلى تَفاصيلِها، من مُخبِرٍ لا يُشَكُّ في صِدْقِ خبَرِه؛ فكانت جُملةُ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ استئنافًا بَيانيًّا لجُملةِ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا .
- قولُه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ تَقديمُ المُسنَدِ إليه نَحْنُ على المُسنَدِ الفعليِّ نَقُصُّ يُفيدُ الاختصاصَ، أي: نحن لا غيرُنا يقُصُّ قصَصَهم بالحقِّ .
- والباءُ في قولِه: بِالْحَقِّ للمُلابَسةِ، أي: القَصصُ المُصاحِبُ للصِّدقِ لا للتَّخرُّصاتِ .
- وجُملةُ: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا مُبيِّنةٌ للقصصِ والنَّبأِ. وافتتاحُ الجُملةِ بحرْفِ التَّأكيدِ إِنَّهُمْ؛ لمُجرَّدِ الاهتمامِ، لا لردِّ الإنكارِ .
- وقولُه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ استئنافٌ تَحقيقيٌّ مَبْنيٌّ على تَقديرِ السُّؤالِ من قِبَلِ المُخاطَبِ .
- قولُه: آمَنُوا بِرَبِّهِمْ فيه الْتِفاتٌ، حيث لم يقُلْ: (آمَنوا بِنا)؛ للإشعارِ بعِلِّيَّةِ وصْفِ الرُّبوبيَّةِ لإيمانِهم، ولمُراعاةِ ما صدَرَ عنهم من المقالةِ حسَبَما سيُحْكَى عنهم ، أو للإشعارِ بتلك الرُّتبةِ؛ وهي أنَّهم مَرْبوبون له مَمْلوكون .
- وأيضًا في قولِه: وَزِدْنَاهُمْ الْتِفاتٌ من الغَيبةِ إلى ما عليه سَبْكُ النَّظمِ سِباقًا وسِياقًا من التَّكلُّمِ، ولم يأْتِ التَّركيبُ: (وزادهم)؛ لِما في لفظةِ (نا) من العَظمةِ والجَلالِ .
2- قوله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا
- قولُه: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ لمَّا كان الفزَعُ وخوفُ النَّفسِ يُشْبِهُ بالتَّناسُبِ الانحلالَ، حسُنَ في شِدَّةِ النَّفسِ وقُوَّةِ التَّصميمِ أنْ تُشْبِهَ الرَّبطَ .
- قولُهم: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا عَرَّفوا اللهَ تعالى بطريقِ الإضافةِ إلى ضَميرِهم؛ إمَّا لأنَّهم عُرِفوا من قبْلُ بأنَّهم عَبَدوا اللهَ المُنزَّهَ عن خَصائصِ المُحدَثاتِ، وإمَّا لأنَّ اللهَ لم يكُنْ مَعروفًا باسمٍ علَمٍ عندَ أولئك المُشرِكين؛ فلم يكُنْ طَريقٌ لتَعريفِهم الإلهَ الحقَّ إلَّا طريقَ الإضافةِ، هذا إنْ كان القولُ مَسوقًا إلى قومِهم المُشرِكين؛ قَصَدوا به موعظةَ قومِهم بدونِ مُواجهةِ خِطابِهم؛ استِنزالًا لطائرِهم على طَريقةِ التَّعريضِ من بابِ (إيَّاكِ أعْني فاسْمَعي يا جارةُ)، واستقصاءً لتَبليغِ الحقِّ إليهم، أو قَصَدوا به إعلانَ إيمانِهم بين قومِهم، وإظهارَ عدَمِ الاكتراثِ بتَهديدِ الملِكِ وقومِه. وإنْ كان هذا القولُ قد جرى بينهم في خاصَّتِهم تَمهيدًا لقولِهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ...، وتضمَّن التعريفُ بالإضافةِ تَشريفًا لأنفُسِهم ، وضَمَّنوا دَعواهم ما يُحقِّقُ فَحواها، ويَقْضي بمُقتضاها؛ فإنَّ رُبوبيَّتَه عَزَّ وجَلَّ للسمواتِ والأرضِ تَقْتضي رُبوبيَّتَه لِما فيهما ، وفيه تأكيدُ هذا التَّوحيدِ بالبَراءةِ من إلهٍ غيرِه بلفْظِ النَّفيِ (لن) المُستغرِقِ تأبيدَ الزَّمانِ على قولٍ .
- قولُهم: لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا فيه ذِكْرُ الدُّعاءِ دُونَ العِبادةِ؛ لأنَّ الدُّعاءَ يشمَلُ الأقوالَ كلَّها من إجراءِ وصْفِ الإلهيَّةِ على غيرِ اللهِ، ومن نِداءِ غيرِ اللهِ عندَ السُّؤالِ .
- وفي قولِه: إِلَهًا العُدولُ عن أنْ يُقالَ: (ربًّا)؛ للتَّنصيصِ على رَدِّ المُخالِفين؛ حيث كانوا يُسمُّون أصنامَهم آلهةً، وللإشعارِ بأنَّ مَدارَ العِبادةِ وصْفُ الأُلوهيَّةِ، وللإيذانِ بأنَّ رُبوبيَّتَه تعالى بطريقِ الألوهيَّةِ .
- وجُملةُ: لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا استئنافٌ بيانيٌّ لِما أفاده تَوكيدُ النَّفيِ بـ (لن) . واللَّامُ في لَقَدْ لامُ تَوكيدٍ .
- قولُه: لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا أي: قولًا ذا شطَطٍ، أي: تجاوُزًا عن الحَدِّ. أو: قولًا شَططًا، فجعَلَه هو عينَ الشَّططِ، على أنَّه وُصِفَ بالمصدرِ مُبالغةً، ثمَّ اقتُصِرَ على الوصْفِ؛ مُبالغةً على مُبالغةٍ .
3- قوله تعالى: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا
- قولُه: هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استئنافٌ بيانيٌّ لِما اقتضَتْه جُملةُ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا؛ إذ يَثورُ في نفْسِ السَّامعِ أنْ يَتساءلَ عمَّن يقولُ هذا الشَّططَ؟ إنْ كان في السَّامعينَ مَن لا يعلَمُ ذلك، أو بتَنزيلِ غيرِ السَّائلِ منزلةَ السَّائلِ .
- والإشارةُ إلى قومِهم بـ هَؤُلَاءِ لقَصدِ تَمييزِهم بما سيُخْبَرُ به عنهم. وفي هذه الإشارةِ تَعريضٌ بالتَّعجُّبِ مِن حالِهم، وتَفضيحُ صُنْعِهم، واحتقارٌ لهم، وهو من لَوازمِ قصْدِ التَّمييزِ . وجُملةُ: اتَّخَذُوا خبَرٌ عن اسمِ الإشارةِ، وهو خبَرٌ مُستعملٌ في الإنكارِ عليهم دونَ الإخبارِ؛ إذ اتِّخاذُهم آلهةً من دُونِ اللهِ معلومٌ بين المُتخاطبينَ، فليس الإخبارُ به بمُفيدٍ فائدةَ الخبَرِ .
- في قولِه: لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ تَحضيضٌ صَحِبَه الإنكارُ؛ إذ يستحيلُ وُقوعُ سُلطانٍ بيِّنٍ على ثُبوتِ الإلهيَّةِ للأصنامِ الَّتي اتَّخَذوها آلهةً، بقَرينةِ أنَّهم أنْكَروه عليهم؛ فلا يُمكِنُ فيه التَّحضيضُ الصِّرفُ؛ فانصرَفَ التَّحضيضُ إلى التَّبكيتِ والتَّغليطِ، وكان حضُّهم على ذلك على سَبيلِ التَّعجيزِ لهم، أي: اتَّخَذوا آلهةً من دُونِ اللهِ لا بُرهانَ على إلهيَّتِهم؛ فكانت هذه الجُملةُ مُؤكِّدةً للجُملةِ الَّتي قبْلَها باعتبارِ أنَّها مُستعملةٌ في الإنكارِ؛ لأنَّ مَضمونَ هذه الجُملةِ يُقوِّي الإنكارَ عليهم .
======================
سورةُ الكَهفِ
الآيات (16-18)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ
غريب الكلمات:
اعْتَزَلْتُمُوهُمْ: أي: فارَقْتُموهم، وأصلُ (عزل): يدُلُّ على تَنحيةٍ
.
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: أي: فصِيروا إليه، واجْعَلوه مَأْواكم، والمأْوَى: المَكانُ الَّذي يُرْجَعُ إليه ليلًا أو نهارًا، يُقال: أَوَى إلى كذا، أي: انضمَّ إليه، وأصْلُه: التَّجمُّعُ .
يَنْشُرْ: أي: يبسُطْ ويُوَسِّعْ، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فتحِ شيءٍ وتَشَعُّبِه .
مِرْفَقًا: أي: ما تَرتَفِقون به، أي: تَنْتَفعون به، والمِرفَقُ والمَرفِقُ: ما يُرتفَقُ به، والارتفاقُ: الانتفاعُ، وأصلُ (رفق): يدُلُّ على مُوافَقةٍ ومُقارَبةٍ بلا عُنفٍ .
تَزَاوَرُ: أي: تَميلُ، وأصلُ (زور): يدلُّ على مَيلٍ وعُدولٍ .
تَقْرِضُهُمْ: أي: تُجاوِزُهم وتَدَعُهم، أي: لا تَطلُعُ في كَهفِهم، يُقالُ: قرضْتُ موضعَ كذا؛ إذا قطعتَه فجاوزتَه، وأصلُ (قرض): يدلُّ على القَطعِ .
فَجْوَةٍ: أي: مُتَّسَعٍ، وأصلُ (فجو): يدُلُّ على اتِّساعٍ في شَيءٍ .
بِالْوَصِيدِ: أي: فِناءِ الكَهفِ، وأصلُ (وصد): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ إلى شَيءٍ
.
المعنى الإجمالي:
يحكي الله سبحانه ما تناجَى به أولئك الفتيةُ فيما بينَهم، وما قرَّروه بعدَ اعتزالِ قومِهم، فيذكرُ أنَّ بعضَ الفتيةِ قال لِبَعضٍ: ولِكَونِكم فارَقتُم قَومَكم، وتَرَكتُم ما يَعبُدونَ مِن الآلهةِ سوى اللهِ، فالجَؤوا إلى الكَهفِ لتَعبُدوا رَبَّكم وَحدَه، يَبْسُطْ لكم ربُّكم مِن رَحمتِه، ويُسَهِّلْ لكم مِن أمْرِكم ما تَنتَفِعونَ به في حياتِكم من أسبابِ العَيشِ.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى بعضَ أحوالِ هؤلاء الفتيةِ بعدَ استقرارِهم في الكهفِ، وإلقاءِ النومِ عليهم، فيذكر مِن مظاهِرِ حِفظِه لهم أنَّك ترى الشَّمسَ إذا أشرَقَت تَميلُ عن الكهفِ إلى جِهةِ اليمينِ؛ لئلَّا تُصيبَهم أشعَّتُها، وإذا غَرَبت تترُكُهم وتتجاوَزُهم إلى جهةِ اليَسارِ، وهم في مكانٍ مُتَّسِعٍ مِن الكَهفِ، ذلك الذي فعَلْناه بهؤلاء الفِتيةِ مِن دلائِلِ قُدرةِ اللهِ، وعَظيمِ لُطفِه بعبادِه.
ثمَّ ختَم الله تعالى هذه الآيةَ، فقال: مَن يُوَفِّقْه اللهُ للاهتداءِ إلى الحَقِّ، فهو الموفَّقُ حقًّا، ومَنْ لم يوفِّقْه لذلك فلن تجِدَ له مُعِينًا يُرشِدُه إلى الحَقِّ.
ثم يحكي الله تعالى مشهدًا عجيبًا لأصحابِ الكهفِ، فيقولُ تعالى: وتظُنُّ أهلَ الكَهفِ -لو قُدِّر لك النَّظَرُ إليهم- أيقاظًا، وهم في الواقِعِ نِيامٌ، ونُقَلِّبُهم حالَ نَومِهم؛ مَرَّةً للجَنبِ الأيمَنِ، ومَرَّةً للجَنبِ الأيسَرِ، وكَلبُهم الذي صاحَبَهم مادٌّ ذراعَيه بفِناءِ الكَهفِ، لو أشرفتَ عليهم وعايَنْتَهم لفرَرْتَ منهم هارِبًا، ولمُلِئَت نفسُك منهم فَزَعًا.
تفسير الآيات:
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا استدَلَّ الفِتيةُ على مُعتَقَدِهم، وعَلِموا سَفَهَ مَن خالَفَهم، وهم قَومٌ لا قُدرةَ لهم ولا طاقةَ بمقاومَتِهم؛ لِكَثرتِهم وقِلَّتِهم- تسَبَّبَ عن ذلك هِجرَتُهم؛ لِيَسلَمَ لهم دينُهم، فقال تعالى شارِحًا لِما بَقِيَ مِن أمرِهم
:
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ.
أي: قال بعضُ الفِتيةِ لِبَعضٍ : ولأجلِ أنَّكم انفرَدْتُم وتباعَدْتُم عن مُخالطةِ قَومِكم الكافرينَ، وتَرَكتُم ما يَعبُدونَ مِن الآلهةِ سوى اللهِ؛ فاتَّخِذوا الكَهفَ مأوًى لكم؛ لِتَختَفوا فيه مِن قَومِكم، وتَعبُدوا اللهَ وَحدَه .
يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.
أي: فإنِ اعتَزَلْتُم قَومَكم وما يَعبُدونَ مِن دُونِ اللهِ، وصِرتُم إلى الكَهفِ؛ يَبسُطْ لكم رَبُّكم مِن رَحمتِه، فيَحفَظْ لكم دينَكم، ويُنجِكم مِن قَومِكم .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] .
وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا.
أي: ويُسَهِّلْ لكم ربُّكم مِن أمْرِكم الذي أنتم فيه ما تَنتَفِعونَ به في أمرِ مَعيشَتِكم، فيأتِكم باليُسرِ والرِّفقِ واللُّطفِ .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكر اللهُ تعالى قَولَ بَعضِهم لبَعضٍ: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا [الكهف: 16] ؛ بيَّن سبحانَه حالَهم بعد أن أَوَوا إلى الكَهفِ، مُشيرًا إلى تحقيقِ رَجائِهم في ربِّهم، وهو ما هيَّأ لهم في أمرِهم مِن مِرفَقٍ، وأنَّ ذلك جزاؤُهم على اهتدائِهم، وهو من لُطفِ اللهِ بهم .
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ.
أي: وترى الشَّمسَ إذا أشرَقَتْ تَميلُ عن الكَهفِ الذي أوَى إليه الفِتيةُ، إلى جِهةِ يمينِه؛ لئلَّا تصيبَهم أشعَّتُها .
وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ.
أي: وترَى الشَّمسَ إذا غَرَبَت تَعدِلُ عن الفتيةِ وتَترُكُهم جِهةَ شِمالِ الكَهفِ، فلا يُصيبُهم شُعاعُها .
وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ.
أي: والفتيةُ في مكانٍ متَّسِعٍ داخِلَ الكَهفِ .
ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ.
أي: فعلُنا الذي فعَلْنا بهؤلاء الفِتيةِ؛ من تيسيرِ الكهفِ لحفظِهم فيه، وميلِ الشمسِ عنهم عندَ طلوعِها، وتركِها لهم عندَ غروبِها- مِن عجائبِ صُنعِ اللهِ الدَّالَّةِ على عَظيمِ قُدرَتِه وسُلطانِه، ولُطفِه بعِبادِه .
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان انفِرادُهم بالهُدَى عن أهلِ ذلك القَرنِ كُلِّهم عَجَبًا؛ وصَلَ به ما إذا تؤُمِّلَ زال عجَبُه، فقال تعالى :
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.
أي: مَن يُرشِدْه اللهُ ويوفِّقْه للاهتداءِ إلى الحَقِّ، فهو المهتدي حقًّا، مِثل هؤلاء الفِتيةِ الذين هداهم اللهُ مِن بَينِ قَومِهم .
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.
أي: ومَن يَخذُلْه اللهُ، فلن تجِدَ له -يا مُحَمَّدُ- خليلًا ومُعِينًا يتولَّى إرشادَه إلى الحَقِّ .
كما قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الرعد: 33] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ [الإسراء: 97] .
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18).
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ.
أي: وتَظُنُّ هؤلاء الفِتيةَ -لو رأيتَهم- أيقاظًا، والحالُ أنَّهم نائِمونَ !
وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ.
أي: ونقلِّبُهم على جُنوبِهم؛ مرَّةً للجَنبِ الأيمَنِ، ومرَّةً للأيسَرِ .
وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ.
أي: وكَلبُ هؤلاء الفِتيةِ جالسٌ على بَطنِه مادٌّ يَدَيه عندَ مَدخَلِ الكَهفِ بفِنائِه؛ لحِراستِهم .
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا.
أي: لو أشرَفْتَ على أصحابِ الكَهفِ فرأيتَهم وهم رُقودٌ، لفَرَرْتَ منهم هارِبًا .
وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا.
أي: ولامتَلأَتْ نفسُك خَوفًا وفَزَعًا منهم
.
الفوائد التربوية:
1- قال الله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا هذا يدُلُّ على أنَّ اعتزالَ المؤمِنِ قَومَه الكُفَّارَ ومَعبوديهم، مِن أسبابِ لُطفِ اللهِ به ورَحمتِه
.
2- قال الله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا المشروعُ عند وُقوعِ الفِتَنِ في النَّاسِ، أن يَفِرَّ العَبدُ منهم خَوفًا على دينِه، كما جاء في الحديثِ: ((يُوشِكُ أن يكونَ خَيرَ مالِ المسلم غَنَمٌ يَتبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ومواقِعَ القَطْرِ ؛ يَفِرُّ بدِينِه مِن الفِتنِ) ) ، ففي هذه الحالِ تُشرَعُ العُزلةُ عن النَّاسِ، ولا تُشرَعُ فيما عداها؛ لِما يَفوتُ بها مِن تَركِ الجَماعاتِ والجُمَعِ ، فاللهُ تعالى مدَح في هذه الآيةِ مَن فَرَّ بدِينِه خَشيةَ الفِتنةِ عليه .
3- قال الله تعالى: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا، وفيما تقَدَّمَ أخبَرَ أنَّهم دَعَوه بقَولِهم: رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف: 10] فجَمَعوا بين التَّبرِّي مِن حَولِهم وقُوَّتِهم، والالتجاءِ إلى اللهِ في صلاحِ أمْرِهم ودُعائِه بذلك، وبين الثِّقةِ باللهِ أنَّه سيَفعَلُ ذلك .
4- يجِبُ على الإنسانِ أن يعتمِدَ على الله سبحانه وتعالى في أدَبِ أولادِه وهدايتِهم؛ فإنَّ الله تعالى هو الهادي سُبحانَه وبحمدِه؛ قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وعلى هذا فالذي يحَدِّدُ نسلَه خوفًا مِن عدمِ القدرةِ على تأديبِهم، هو أيضًا مسيءُ الظَّنِّ برَبِّه تبارك وتعالى، وإلَّا فالله سبحانه وتعالى بيدِه الأمورُ .
5- قَولُه تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا فيه تَنبيهٌ إلى عدمِ سؤالِ الهِدايةِ إلَّا مِنَ اللهِ، وعدمِ الجزعِ أو السخطِ عندَ رؤيةِ مَن هو ضالٌّ؛ فالله تعالى جَعَلَ النَّاسَ على قِسمَينِ: مهتدٍ وضالٍّ، فلا بدَّ مِن الإيمانِ بالقدرِ، والرضَا به على كُلِّ حالٍ، وألا نَسخَطَ الإضلالَ الواقِعَ مِن اللهِ، أما المقدورُ ففيه تَفصيلٌ ، ولكنْ يجبُ علينا مع ذلك أنْ نسعى في هدايةِ الخَلقِ، وأنْ نُرشِدَ هؤلاء الضالِّينَ .
6- قال الله تعالى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ شَمِلَت كَلْبَهم بركتُهم، فأصابه ما أصابَهم مِن النَّومِ على تلك الحالِ، وهذه فائدةُ صُحبةِ الأخيارِ؛ فإنَّه صار لهذا الكلبِ ذِكرٌ وخبَرٌ وشأنٌ ، فذِكْرُ هذا الكَلبِ على طولِ الآبادِ بجَميلِ هذا الرُّقادِ: مِن بركةِ صُحبةِ الأمجادِ ، فمن أحبَّ أهل الخير نال مِن بركتِهم؛ فهذا الكَلبُ أحَبَّ أهلَ فَضلٍ وصَحِبَهم، فذكَرَه الله في مُحكَمِ تنزيلِه . وإذا كان بعضُ الكلابِ قد نال هذه الدَّرجةَ العليا بصُحبته ومخالطتِه الصُّلَحاءَ والأولياءَ حتى أخبَرَ الله تعالى بذلك في كتابِه جلَّ وعلا، فما ظَنُّك بالمُؤمِنين الموحِّدين المُخالطين المحِبِّين للأولياءِ والصالحين؟! بل في هذا تسليةٌ وأُنسٌ للمؤمنينَ المقصِّرينَ عن دَرَجاتِ الكمالِ، المحبِّينَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وآلِه
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قولُه تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فيه اعتزالُ أهلِ الشِّركِ، واعتزالُ مَعْبوديهم
.
2- قولُه تعالى: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ فيه شدةُ صلابتِهم في دينِهم؛ حيثُ عزَموا على تركِ ما كانوا فيه مِن النعمةِ العظيمةِ، واستبدلوا بها كهفًا في رأسِ جبلٍ .
3- حسنُ ظنِّ أصحابِ الكهفِ باللهِ ومعرفتُهم ثمرةَ الطاعةِ، ولو كان مباديها ذهابَ الدنيا، حيث قالوا: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً .
4- قولُه: تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ التَّعريفُ في الْيَمِينِ والشِّمَالِ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: يمينَ الكهْفِ وشِمالَه؛ فيدُلُّ على أنَّ فَمَ الكهْفِ كان مفتوحًا إلى الشِّمالِ الشَّرقيِّ؛ فالشَّمسُ إذا طلعَتْ تطلُعُ على جانبِ الكهْفِ ولا تخترِقُه أشعَّتُها، وإذا غربَتْ كانت أشعَّتُها أبعدَ عن فَمِ الكهْفِ منها حينَ طُلوعِها، وهذا وضْعٌ عجيبٌ يسَّرَه اللهُ لهم بحكمتِه؛ ليكونَ داخلُ الكهْفِ بحالةِ اعتدالٍ، فلا يَنتابُ البِلى أجسادَهم، وذلك من آياتِ قُدرةِ اللهِ .
5- قال الله تعالى: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي: مِن الكَهفِ، أي: مكانٍ مُتَّسِعٍ؛ وذلك لِيَطرُقَهم الهواءُ والنَّسيمُ، ويزولَ عنهم الوَخمُ والتأذِّي بالمكانِ الضَّيِّقِ، خصوصًا مع طولِ المُكثِ .
6- في قَولِه تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا بيانُ فَسادِ مذهَبِ القَدَريَّةِ الذين يَزعُمونَ أنَّ العبدَ لا يَفتَقِرُ في حصولِ هذا الاهتداءِ إلى اللهِ، بل كلُّ عبدٍ عندهم فمَعَه ما يحصُلُ به الطَّاعةُ والمعصيةُ، لا فرْقَ عندهم بين المؤمِنِ والكافِرِ! ولم يَخُصَّ اللهُ المؤمِنَ عندهم بهُدًى حصلَ به الاهتداءُ !
7- دلَّ قَولُ الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا على أنَّ كلَّ مَن هداه اللهُ اهتدى، ولو هدى الكافرَ -كما هدَى المُؤمِنَ- لاهتدَى .
8- قَولُ الله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ هذا مِن حِفظِ اللهِ تعالى لأبدانِهم؛ لأنَّ الأرضَ مِن طبيعتِها أكلُ الأجسامِ المتَّصِلةِ بها، فكان مِن قَدَرِ الله أنْ قَلَّبَهم على جُنوبِهم يَمينًا وشِمالًا بقَدْرِ ما لا تُفسِدُ الأرضُ أجسامَهم -هذا على أحدِ الأقوالِ في الحكمةِ مِن تقليبِهم-، واللهُ تعالى قادِرٌ على حِفْظِهم مِنَ الأرضِ مِن غَيرِ تَقليبٍ، ولكنَّه تعالى حَكيمٌ، أراد أن تَجريَ سُنَّتُه في الكَونِ، ويَربِطَ الأسبابَ بمُسَبَّباتِها .
9- قال الله تعالى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ في قَولِه: وَنُقَلِّبُهُمْ دليلٌ على أنَّ فِعْلَ النائمِ لا يُنسَبُ إليه، ووجهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللهَ أضاف تقلُّبَهم إليه، فلو أنَّ النَّائِمَ قال في نَومِه: (امرأتي طالِقٌ) أو: (في ذِمَّتي لفلانٍ ألفُ ريالٍ) لم يَثبُتْ؛ لأنَّه لا قَصْدَ له ولا إرادةَ له، لا في القَولِ ولا في الفِعلِ .
10- في قَولِه تعالى: وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ دليلٌ على جوازِ اتِّخاذِ الكَلبِ لحراسةِ الآدميِّينِ، أمَّا حراسةُ الماشيةِ، وحراسةُ الحرثِ فقد جاءَت به السنةُ . وإذا جاز اتخاذُ الكلبِ لحراسةِ الماشيةِ والحرثِ، أو للصيدِ الذي هو كمالٌ؛ فاتِّخاذُه لحراسةِ البيتِ مِن بابِ أولَى
.
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا
- قولُه: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ... يحتملُ أنْ يكونوا قال بعضُهم لبعضٍ ذلك بعدَ اليأْسِ من رُجوعِ قومِهم عن فِتْنتِهم في مَقامٍ آخرَ. ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك في نفْسِ المقامِ الَّذي خاطبوا فيه قومَهم، بأنْ غيَّروا الخِطابَ من مُواجهةِ قومِهم إلى مُواجهةِ بعضِهم بعضًا، وهو ضرْبٌ من الالتفاتِ؛ فعلى الوجْهِ الأوَّلِ يكونُ فِعْلُ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ مُستعمَلًا في إرادةِ الفِعلِ، مثْلُ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] ، وعلى الوجْهِ الثَّاني يكونُ الاعتزالُ قد حصَلَ فيما بين مَقامِ خِطابِهم قومَهم وبين مُخاطَبةِ بعضِهم بعضًا؛ وعلى الاحتمالينِ فقدِ اقتُصِرَ في حكايةِ أقوالِهم على المقصَدِ الأهمِّ منها في الدَّلالةِ على ثَباتِهم، دُونَ ما سِوى ذلك ممَّا لا أثَرَ له في الغرَضِ، وإنَّما هو مُجرَّدُ قَصصٍ
.
- قولُه: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ الفاءُ للتَّفريعِ على جُملةِ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ باعتبارِ إفادتِها معنى: اعتزلْتُم دِينَهم اعتزالًا اعتقاديًّا؛ فيُقدَّرُ بعدَها جُملةٌ نحوُ: اعْتَزِلوهم اعتزالَ مُفارقةٍ، فأْوُوا إلى الكهفِ، أو يُقدَّرُ: وإذِ اعتزَلْتُم دِينَهم يُعذِّبونكم، فأْوُوا إلى الكهفِ .
- قولُه: يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا فيه تَقديمُ لَكُمْ في الموضعينِ؛ للإيذانِ من أوَّلِ الأمْرِ بكَونِ المُؤخَّرِ من مَنافعِهم، والتَّشويقِ إلى وُرودِه .
- ويَنْشُرْ مجزومٌ في جوابِ الأمْرِ، وهو مَبْنيٌّ على الثِّقةِ بالرَّجاءِ والدُّعاءِ، وساقُوه مَساقَ الحاصلِ؛ لشِدَّةِ ثِقَتِهم بلُطْفِ ربِّهم بالمُؤمِنين .
2- قوله تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا
- قولُه: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ... بَيانٌ لحالِهم بعدَما أوَوا إلى الكهفِ، وقد أوجَزَ مِن الخبَرِ أنَّهم لمَّا قال بعضُهم لبعضٍ: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ: أنَّهم أوَوا إليه، والتَّقديرُ: فأخَذوا بنَصيحتِه، فأوَوا إلى الكهْفِ، ودَلَّ عليه قولُه في صَدْرِ القصَّةِ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ؛ فرَدَّ عجُزَ الكلامِ على صَدْرِه .
- والإتيانُ بفعْلِ المُضارَعةِ تَزَاوَرُ؛ للدَّلالةِ على تكرُّرِ ذلك كلَّ يومٍ .
- قولُه: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الإشارةُ بقولِه: ذَلِكَ إلى المذكورِ من قولِه: وَتَرَى الشَّمْسَ؛ للتَّعظيمِ، والجُملةُ مُعترِضةٌ في خِلالِ القصَّةِ؛ للتَّنويهِ بأصحابِها .
- قولُه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا استئنافٌ بيانيٌّ لِما اقتضاهُ اسمُ الإشارةِ من تَعظيمِ أمْرِ الآيةِ وأصحابِها ، والمُرادُ بقولِه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ إمَّا الثَّناءُ عليهم، أو التَّنبيهُ على أنَّ أمثالَ هذه الآياتِ كثيرةٌ، ولكنَّ المُنتفِعَ بها مَن وفَّقَه اللهُ للتَّأمُّلِ فيها، والاستبصارِ بها .
3- قوله تعالى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا
- قولُه: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ عطْفٌ على بقيَّةِ القصَّةِ، وما بينهما اعتراضٌ، وهذا انتقالٌ إلى ما في حالِهم من العِبْرةِ لمَن لو رآهم مِن النَّاسِ، مُدمجٌ فيه بَيانُ كَرامتِهم، وعظيمِ قُدرةِ اللهِ في شأنِهم، وهو تعجُّبٌ من حالِهم لمَن لو رآهُ من النَّاسِ .
- وصِيغَ فِعْلُ (تَحْسَبُهُمْ) مُضارِعًا؛ للدَّلالةِ على أنَّ ذلك يتكرَّرُ مُدَّةً طويلةً .
- والإتيانُ بالمُضارعِ وَنُقَلِّبُهُمْ؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ بحسَبِ الزَّمنِ المَحكيِّ، ولا يلزَمُ أنْ يكونوا كذلك حين نُزولِ الآيةِ ، وفيه مَزيدُ اعتناءِ اللهِ بهم؛ حيث أسنَدَ التَّقليبَ إليه تعالى، وأنَّه هو الفاعلُ ذلك .
- قولُه: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ... الاطِّلاعُ افتعالٌ مِن (طلَعَ)، وصِيغَ الافتعالُ؛ للمُبالَغةِ في الارتقاءِ، وضُمِّنَ معنى الإشرافِ، فعُدِّيَ بـ (على) .
- وتأخَّرَ قولُه: وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا عن ذِكْرِ التَّوليةِ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ منهما في التَّرتُّبِ على الاطِّلاعِ؛ إذ لو رُوعِيَ تَرتيبُ الوُجودِ لَتَبادرَ إلى الفَهمِ ترتُّبُ المجموعِ من حيث هو هو عليه، وللإشعارِ بعدَمِ زَوالِ الرُّعبِ بالفِرارِ كما هو المُعتادُ .
- وانتصَبَ رُعْبًا على تَمييزِ النِّسبةِ المُحوَّلِ عن الفاعلِ في المعنى؛ لأنَّ الرُّعبَ هو الَّذي يمْلَأُ، فلمَّا بُنِيَ الفعْلُ إلى المجهولِ لقصْدِ الإجمالِ ثمَّ التَّفصيلِ، صار ما حَقُّه أنْ يكونَ فاعلًا تَمييزًا، وهو إسنادٌ بديعٌ حصَلَ منه التَّفصيلُ بعدَ الإجمالِ
=================
سورةُ الكَهفِ
الآيتان (19-20)
ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ
غريب الكلمات:
بِوَرِقِكُمْ: الوَرِقُ: الفِضَّةُ المَضروبةُ، وهي الدَّراهِمُ، وأصلُ (ورق): يدُلُّ على خَيرٍ ومالٍ
.
أَزْكَى: أي: أطْيبُ، وأحلُّ، وأطهرُ، والزَّكوُ: الزِّيادةُ في الخيرِ والنَّفعِ، وأصلُ الزكاءِ: النَّماءُ والزِّيادةُ .
بِرِزْقٍ: أي: بطعامٍ تأكلونَه، وقوتٍ تقتاتونَه، والرِّزقُ يُطلَقُ على ما يصِلُ إلى الجوفِ ويُتغَذَّى به؛ فيُطلَقُ على الطَّعامِ والثِّمارِ وعلى ما هو أعمُّ مِن ذلك مما يُنتفَعُ به، وأصلُ (رزق): يَدُلُّ على عطاءٍ لوَقْتٍ .
وَلْيَتَلَطَّفْ: أي: ولْيُدقِّقِ النَّظرَ، ولْيَحتَلْ حتى لا يطَّلِعَ عليه أحَدٌ، ويُعبَّرُ باللَّطافةِ واللُّطفِ عن الحَرَكةِ الخفيفةِ، وعن تعاطي الأُمورِ الدَّقيقةِ، وأصلُ (لطف): يدُلُّ على رِفقٍ .
يَظْهَرُوا: أي: يَطَّلِعوا ويُشرِفوا على مكانِكم أو على أنفُسِكم، والظُّهورُ أصلُه: البروزُ دونَ ساترٍ، ويُطلَقُ على الظَّفَرِ بالشَّيءِ، وعلى الغَلَبةِ على الغَيرِ، وهو المرادُ هنا .
يَرْجُمُوكُمْ: أي: يَقْتُلوكم بالرَّجْمِ، والرَّجْمُ: الرَّميُ بالرِّجامِ، وهي الحجارةُ، وأصلُ (رجم): الرَّميُ بالحجارةِ
.
المعنى الإجمالي:
حكى الله سبحانه حالَ هؤلاء الفتيةِ بعدَ استيقاظِهم مِن هذا النومِ الطويلِ، فقال: وكما أنَمْناهم وحَفِظْناهم هذه المُدَّةَ الطَّويلةَ أيقَظْناهم مِن نَومِهم على هَيئَتِهم دونَ تغيُّرٍ؛ ليسألَ بَعضُهم بعضًا: كم مِن الوَقتِ مَكَثْنا نائمينَ هنا؟ فقال بعضُهم: مَكَثْنا يومًا أو بعضَ يومٍ، ففَوَّضوا عِلْمَ ذلك إلى اللهِ لَمَّا أعياهم التحَقُّقُ، وقالوا: ربُّكم أعلَمُ بمدَّةِ نَومِكم، فأرسِلوا أحَدَكم بدراهمِكم الفِضِّيَّةِ هذه إلى مَدينتِنا، فلْيَنظُرْ: أيُّ أهلِ المدينةِ أطيَبُ وأحَلُّ طَعامًا؟ فلْيَأتِكم بقُوتٍ منه، ولْيَترفَّقْ في دخولِه المدينةَ، وشِرائِه، وخُروجِه منها، ومجيئِه إلى الكَهفِ، ولا يُعْلِمَنَّ بكم أحدًا مِن النَّاسِ؛ إنَّ قَومَكم إنْ يَعْلموا بمكانِكم، ويَظْفروا بكم؛ يَرجُموكم بالحِجارةِ، فيَقتُلوكم، أو يَرجِعوكم إلى دينِهم، فتَصِيروا كُفَّارًا مِثلَهم، ولن تَفوزوا بالخيرِ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ -إنْ فَعلْتُم ذلك- أبدًا.
تفسير الآيتين:
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19).
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ.
أي: وكما أنَمْنا هؤلاء الفِتيةَ فحَفِظناهم في الكَهفِ، كذلك أيقَظْناهم مِن نَومِهم الطَّويلِ بذاتِ الحالةِ التي كانوا عليها، دونَ أن يتغيَّرَ مِن أحوالِهم وهَيئاتِهم شَيءٌ؛ ليَسألَ بَعضُهم بعضًا عن مُدَّةِ نَومِهم، فإذا تبيَّنوا طولَ الزَّمانِ عليهم، وهم بنَفسِ هَيئتِهم التي رَقَدوا بها، ازدادوا مَعرفةً بعَظيمِ سُلطانِ اللهِ وعجائِبِ قُدرتِه، وبحُسنِ دِفاعِ اللهِ عن أوليائِه، وازدادوا بصيرةً في أمْرِهم الذي هم عليه مِن التبَرُّؤِ مِن عبادةِ الآلهةِ، وإخلاصِ العبادةِ لله وَحْدَه لا شريكَ له
.
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ.
أي: قال قائِلٌ مِن الفِتيةِ لأصحابِه: كم كانت مُدَّةُ نَومِكم ؟!
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
أي: فأجابه الآخَرونَ بما يَظُنُّونَ: لَبِثْنا في نَومِنا يومًا كاملًا أو بعضًا منه .
قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ.
أي: قالوا مُفَوِّضينَ العِلمَ لله: ربُّكم أعلَمُ منكم بمدَّةِ نَومِكم .
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
أي: قال الفِتيةُ: فأرسلوا واحِدًا مِنَّا بهذه الدَّراهِمِ الفِضِّيةِ التي بحَوزَتِنا، إلى مَدينَتِنا التي فرَرْنا منها .
فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ.
أي: فلْيَنظُرْ مَن ستُرسِلونَه: أيُّ أهلِ المدينةِ أطيَبُ وأحَلُّ وأطهَرُ طعامًا مِن غَيرِه ، فلْيَشتَرِ لكم قُوتًا منه، ولْيُحضِرْه إليكم لِتَأكلوه .
وَلْيَتَلَطَّفْ.
أي: ولْيَترفَّقِ الذي ستُرسِلونَه لشِراءِ الطَّعامِ، فيتخَفَّ ويتحَيَّلْ في دخولِه المدينةَ، وشِرائِه، وخُروجِه منها، ومجيئِه إلى الكَهفِ .
وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا.
أي: ولا يُعلِمَنَّ أحدًا من النَّاسِ بمَكانِكم الذي تختَبِئونَ فيه، فلا يقولَنَّ أو يفعَلَنَّ ما يُؤدِّي مِن غيرِ قَصدٍ منه إلى الشُّعورِ بكم .
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا نَهَوا رسولَهم عن الإشعارِ بهم، عَلَّلوا ذلك، فقالوا :
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ.
أي: وذلك لأنَّ قَومَكم الكُفَّارَ إن يَعلَموا بمكانِكم في الكَهفِ ويَظفَروا بكم، يَقتُلوكم رَجمًا بالحِجارةِ إن ثَبَتُّم على ما أنتم عليه مِن الحَقِّ .
أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ.
أي: أو يَرجِعوكم لِتَدخُلوا قَهرًا في دِينِهم، فتُصبِحوا كُفَّارًا مِثلَهم .
كما قال تعالى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف: 88- 89].
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا.
أي: ولن تَفوزوا بالخَيرِ أبدًا في الدُّنيا ولا في الآخِرةِ إن عُدتُم في ملَّتِهم
.
الفوائد التربوية:
1- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ دَلَّ على الحَثِّ على العِلمِ، وعلى المُباحثةِ فيه؛ لِكَونِ اللهِ بعَثَهم لأجلِ ذلك
.
2- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فيه الأدَبُ فيمن اشتَبَه عليه العِلمُ؛ أن يَرُدَّه إلى عالِمِه، وأن يَقِفَ عند حَدِّه .
3- قَولُ الله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ السَّعيَ في إمساكِ الزَّادِ أمرٌ مُهِمٌّ مَشروعٌ، وأنَّه لا يُبطِلُ التوكُّلَ على اللهِ تعالى؛ إذ حَقيقةُ التوكُّلِ على اللهِ تعالى: تهيئةُ الأسبابِ، واعتِقادُ أنْ لا مُسَبِّبَ للأسبابِ إلَّا اللهُ تعالى ، فتزوُّدُهم ما كان معهم مِن الوَرِقِ عندَ فِرارِهم دَليلٌ على أنَّ حَملَ النَّفَقةِ وما يُصلِحُ المسافِرَ، هو رأيُ المتوكِّلينَ على اللهِ دونَ المُتَّكِلينَ على الاتِّفاقاتِ، وعلى ما في أوعيةِ القَومِ مِن النَّفَقاتِ .
4- قَولُ الله تعالى: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا فيه الحَثُّ على التحَرُّزِ، والاستخفاءِ، والبُعدِ عن مواقِعِ الفِتَنِ في الدِّينِ، واستِعمالِ الكِتمانِ في ذلك على الإنسانِ وعلى إخوانِه في الدِّينِ . وفيه أيضًا دَليلٌ على أخْذِ الحَذَرِ مِن الأعداءِ بكُلِّ وسيلةٍ، إلَّا الوسائلَ المُحَرَّمةَ؛ فإنَّها مُحرَّمةٌ لا يجوزُ أنْ يقعَ الإنسانُ فيها .
5- قَولُ الله تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا دَلَّ على ذِكرِ ما اشتملَ عليه الشرُّ مِن المضارِّ والمفاسِدِ الدَّاعيةِ لبُغضِه وتَرْكِه، وأنَّ هذه الطريقةَ هي طريقةُ المؤمنينَ المتقَدِّمينَ والمتأخِّرينَ؛ لِقَولِهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قال الله تعالى حكايةً عن أصحابِ الكهفِ: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا لم يعثُرْ عليهم أحَدٌ مع قُربِهم من المدينةِ جِدًّا، والدَّليلُ على قُربِهم أنَّهم لَمَّا استيقظوا أرسلوا أحَدَهم يشتري لهم طعامًا من المدينةِ، وبَقُوا في انتظارِه؛ فدَلَّ ذلك على شِدَّةِ قُربِهم منها
.
2- قَولُه تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أصلٌ في الوَكالةِ والنِّيابةِ ، وفيه دليلٌ على صحةِ الوكالةِ في البيعِ والشراءِ ، والوَكالةُ عَقدُ نيابةٍ أذِنَ الله فيه للحاجةِ إليه، وقيامِ المَصلحةِ به؛ إذ يَعجِزُ كُلُّ أحدٍ عن تناوُلِ أمورِه إلَّا بمعونةٍ مِن غَيرِه، أو يترَفَّهُ فيستنيبُ من يُريحُه، حتى جاز ذلك في العباداتِ؛ لُطفًا منه سبحانَه، ورِفقًا بضَعَفةِ الخليقةِ؛ ذكَرَها الله كما تَرَون، وبيَّنَها رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم كما تسمَعونَ، وهو أقوَى آيةٍ في الغَرَضِ .
3- قَولُ الله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ يدُلُّ على جوازِ خَلطِ دراهِمِ الجماعةِ، والشِّراءِ بها، والأكلِ مِن الطَّعامِ الذي بينهم بالشَّرِكةِ، وإن كان فيهم مَن يأكُلُ أكثَرَ ومَن يأكُلُ أقَلَّ؛ وذلك أنَّه قال: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فأضاف الوَرِقَ إلى الجَميعِ .
4- إنْ قيل: أليس أنَّهم لو أُكرِهوا على الكفرِ حتى أظهَروا الكفرَ لم يكنْ عليهم مضرَّةٌ، فكيفَ قالوا: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا؟
وأُجِيب: أنَّهم خافوا أنَّهم لو بَقُوا على الكفرِ مُظهرينَ له، فقد يميلُ بهم ذلك إلى الكفرِ الحقيقيِّ، فكان خوفُهم بسببِ هذا الاحتمالِ .
وقيل: إنَّ العُذرَ بالإكراهِ مِن خَصائِصِ هذه الأمَّةِ؛ لأنَّ قَولَه عن أصحابِ الكَهفِ: إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ظاهِرٌ في إكراهِهم على ذلك، وعدَمِ طواعِيتِهم، ومع هذا قال عنهم: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ ذلك الإكراهَ ليس بعُذرٍ
.
بلاغة الآيتين:
1- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا
- قولُه: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ الكافُ للتَّشبيهِ، والإشارةُ بـ (ذلك) إلى المذكورِ من إنامتِهم وكيفيَّتِها، أي: كما أنَمْناهم قُرونًا بعَثْناهم
، ووجْهُ الشَّبهِ: أنَّ في الإفاقةِ آيةً على عظيمِ قُدرةِ اللهِ تعالى مثْلَ آيةِ الإنامةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ تَشبيهُ البَعثِ المذكورِ بنفْسِه؛ للمُبالغةِ في التَّعجيبِ .
- قولُه: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ فيه الاقتصارُ على ذِكْرِ التَّساؤُلِ بينهم؛ لاستتباعِه لسائرِ آثارِه، والتَّقديرُ: ليَسألَ بعضُهم بعضًا، فيترتَّبُ عليه ما فُصِّلِ من الحِكَمِ البالغةِ. وجعْلُه غايةً للبعثِ المُعلَّلِ فيما سبَقَ بالاختبارِ، مِن حيثُ إنَّه من أحكامِه المُترتِّبةِ عليه .
- وجُملةُ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ بَيانٌ لجُملةِ لِيَتَسَاءَلُوا، وسُمِّيَت هذه المُحاورةُ تَساؤُلًا؛ لأنَّها تحاوُرٌ عن تطلُّبِ كلٍّ رأيَ الآخرِ؛ للوُصولِ إلى تَحقيقِ المُدَّةِ. والَّذين قالوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ هم مَن عدا الَّذي قال: كَمْ لَبِثْتُمْ، وأسنَدَ الجوابَ إلى ضَميرِ جماعتِهم؛ إمَّا لأنَّهم تَواطؤوا عليه، وإمَّا على إرادةِ التَّوزيعِ، أي: منهم مَن قال: لبِثْنا يومًا، ومنهم قال: لبِثْنا بعضَ يومٍ، وعلى هذا يَجوزُ أنْ تكونَ (أو) للتَّقسيمِ في القولِ؛ بدَليلِ قولِه بعْدُ: قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، أي: لمَّا اخْتَلفوا رجَعوا، فعَدلوا عن القولِ بالظَّنِّ إلى تَفويضِ العلْمِ إلى اللهِ تعالى، وذلك من كَمالِ إيمانِهم .
- وتَفريعُ قولِهم: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ على قولِهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ؛ لأنَّه في معنى: فدَعوا الخوضَ في مُدَّةِ اللُّبثِ؛ فلا يعلَمُها إلَّا اللهُ، وخُذوا في شَيءٍ آخرَ ممَّا يهُمُّكم ، وهو قريبٌ من الأُسلوبِ الحكيمِ، وهو تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تَنبيهًا على أنَّ غيرَه أولَى بحالِه، ولولا قولُهم: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، لكانَ قولُهم: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ عيْنَ الأُسلوبِ الحكيمِ .
- قولُه: وَلْيَتَلَطَّفْ، أي: ولْيتكلَّفِ اللُّطفَ في الاستخفاءِ؛ لئلَّا يُعْرَفَ، وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا مِن أهْلِ المدينةِ؛ فإنَّه يَستدْعي شُيوعَ أخبارِكم، أي: لا يفعلَنَّ ما يُؤدِّي إلى ذلك؛ فالنَّهيُ على ذلك تأكيدٌ للأمْرِ بالتَّلطُّفِ .
- قولُه: وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا سُمِّيَ ذلك إشعارًا منه بهم؛ لأنَّه سبَبٌ فيه؛ فالتَّقديرُ: ولا يفعلَنَّ ما يُؤدِّي من غيرِ قصْدٍ منه إلى الشُّعورِ بنا .
وقيل: ولا يُخبِرَنَّ بوُجودِكم أحدًا؛ فهنا مُضافٌ مَحذوفٌ دَلَّت عليه دَلالةُ الاقتضاءِ ، فيشمَلُ جميعَ أحوالِهم؛ من عدَدِهم ومكانِهم وغيرِ ذلك .
- والنُّونُ في وَلَا يُشْعِرَنَّ لتَوكيدِ النَّهيِ؛ تَحذيرًا من عَواقبِه المُضمَّنةِ في جُملةِ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ .
2- قولُه تعالى: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا عِلَّةٌ للأمْرِ بالتَّلطُّفِ، والنَّهيِ عن إشعارِ أحدٍ بهم ، وبَيانٌ لوجْهِ تَوكيدِ النَّهيِ بالنُّونِ في وَلَا يُشْعِرَنَّ؛ فهي واقعةٌ موقعَ العلَّةِ والبَيانِ، وكِلاهما يَقْتضي فصْلَها عمَّا قبْلَها .
- وفي قولِه: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ تَقديمُ احتمالِ الرَّجمِ على احتمالِ الإعادةِ؛ لأنَّ الظَّاهرَ من حالِهم هو الثَّباتُ على الدِّينِ المُؤدِّي إليه .
- قولُه: أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ فيه إيثارُ كلمةِ (في) على كلمةِ (إلى)؛ للدَّلالةِ على الاستقرارِ الَّذي هو أشَدُّ شَيءٍ عندهم كراهةً .
- قولُه: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا فيه تأكيدُ التَّحذيرِ من الإرجاعِ إلى مِلَّتِهم بأنَّها يترتَّبُ عليها انتفاءُ فَلاحِهم في المُستقبَلِ؛ لِما دلَّتْ عليه (إذن) مِن الجَزائيَّةِ. وأَبَدًا ظرفٌ للمُستقبَلِ كلِّه، وهو تأكيدٌ لِما دَلَّ عليه النَّفيُ بـ (لن) من التَّأبيدِ أو ما يُقارِبُه ، وفيه من التَّشديدِ في التَّحذيرِ ما لا يَخْفى .
- وضَميرُ الخِطابِ في المواضعِ الأربعةِ (عَلَيْكُمْ - يَرْجُمُوكُمْ - يُعِيدُوكُمْ - وَلَنْ تُفْلِحُوا)؛ للمُبالَغةِ في حملِ المبعوثِ على الاستخفاءِ، وحَثِّ الباقينَ على الاهتمامِ بالتَّوصيةِ؛ فإنَّ تَمحيضَ النُّصحِ أدخَلُ في القَبولِ، واهتمامُ الإنسانِ بشأْنِ نفْسِه أكثَرُ وأوفَرُ
=====================
سورةُ الكَهفِ
الآيات (21-26)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
غريب الكلمات :
أَعْثَرْنَا: أي: أظهَرْنا وأطلَعْنا، وأصلُ (عثر) هنا: يدُلُّ على الاطِّلاعِ على الشَّيءِ
.
رَجْمًا بِالْغَيْبِ: أي: ظنًّا غيرَ يقينٍ، ويُعَبَّرُ بالرَّجمِ عن الرَّميِ بالظنِّ، وأصلُ (رجم): يدُلُّ على الرَّميِ بالحجارةِ، وأصلُ (غيب): يدُلُّ على تَستُّرِ الشَّيءِ عن العيونِ .
تُمَارِ مِرَاءً: المِراءُ: الجِدالُ، يُقالُ: مارَى يُماري مُماراةً ومِراءً، أي: جادَل؛ مِن: مَرَيْتُ الشاةَ؛ إذا استخرجتَ لبنَها، كأنَّ المجادلَ يستخرِجُ غضبَ خصمِه أو ما عندَه. وقيل: أصلُه يدُلُّ على صلابةٍ في شيءٍ؛ لأنَّ المراءَ كلامٌ فيه بعضُ الشِّدَّةِ .
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ: أي: ما أبصَرَه وأسمَعَه
!
المعنى الإجمالي:
يحكي الله تعالى لنا مشهدًا آخرَ مِن أحوالِ هؤلاء الفتيةِ، فيقول: وكما أنَمْناهم سِنينَ كَثيرةً وأيقَظْناهم بعدَها، أطْلَعْنا عليهم أهلَ المدينةِ؛ ليَعلَموا أنَّ وَعْدَ اللهِ بالبَعثِ حَقٌّ، وأنَّ القيامةَ آتيةٌ لا شَكَّ في وقوعِها، إذ يتنازَعُ المطَّلِعونَ على أصحابِ الكَهفِ في أمرِ البعثِ بعدَ الموتِ؛ فمِن مُثْبِتٍ له ومِن مُنْكِرٍ، فقال الذين أعثَرَهم اللهُ على أصحابِ الكَهفِ: ابنُوا عليهم بناءً يَحجُبُهم، ربُّهم أعلَمُ بحالِهم وشَأنِهم، وقال الرُّؤساءُ أصحابُ الغَلَبةِ والنُّفوذِ: لنتَّخِذَنَّ على مكانِهم مَسجِدًا للعبادةِ.
ثم يحكي الله تعالى ما حصَل مِن خلافٍ حولَ عددِ أصحابِ الكهفِ قائلًا: سيقولُ بَعضُ الخائِضينَ في عَدَدِ أصحابِ الكَهفِ: هم ثلاثةٌ رابِعُهم كَلبُهم، ويقولُ بعضُهم: هم خَمسةٌ سادِسُهم كلبُهم، وكلامُ الفريقينِ قَولٌ بالظَّنِّ مِن غيرِ عِلمٍ ولا دَليلٍ، ويقولُ بَعضُهم: هم سبعةٌ وثامِنُهم كَلبُهم.
قُل -يا مُحمَّدُ- للخائِضينَ في عَدَدِ أصحابِ الكَهفِ بلا عِلمٍ: ربِّي هو الأعلَمُ بعَدَدِهم، ما يعلَمُ عَدَدَهم إلَّا قليلٌ مِن خَلقِه؛ فلا تجادِلْ في عَدَدِهم إلَّا جِدالًا ظاهِرًا، ولا تَسألْهم عن عَدَدِهم وأحوالِهم.
وينهَى الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإخبارِ عن فعلِ شيءٍ مستقبلًا إلَّا بعدَ تقديمِ مشيئتِه سبحانَه، فيقولُ: ولا تقولَنَّ -يا محمَّدُ- لشَيءٍ تَعزِمُ على فِعلِه: إنِّي فاعِلٌ ذلك الشَّيءَ غدًا، إلَّا أن تُعَلِّقَ قَولَك بالمَشيئةِ، فتقولَ: إن شاء الله. واذكُرْ رَبَّك عند النِّسيانِ بقَولِك: إن شاء اللهُ، وقل: عسى أن يهديَني ربِّي لأقرَبِ الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلى الهُدى والرَّشادِ.
ثمَّ يبينُ الله تعالى المدةَ التي مكَثها الفتيةُ في الكهفِ، فيقولُ: ومكثَ الفِتيةُ نِيامًا في كَهفِهم ثلاثَمِئةِ سَنةٍ وتِسعَ سِنينَ، قُل -يا محمدُ-: اللهُ أعلَمُ بمُدَّةِ لُبثِهم في الكَهفِ، له غيبُ السَّمَواتِ والأرضِ، ما أبصَرَ اللهَ لكُلِّ مَوجودٍ، وما أسمَعَه سبحانَه لكُلِّ صَوتٍ! ليس للخَلقِ أحَدٌ غَيرُه يُدَبِّرُ شُؤونَهم، ويتولَّى أمورَهم، وليس له شَريكٌ في حُكمِه وقَضائِه بين خَلقِه سُبحانَه وتعالى.
تفسير الآيات:
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّها انتِقالٌ إلى جُزءِ القِصَّةِ الذي هو مَوضِعُ عِبرةِ أهلِ زَمانِهم بحالِهم، وانتفاعِهم باطمِئنانِ قُلوبِهم لوقوعِ البَعثِ يومَ القيامةِ بطريقةِ التَّقريبِ بالمُشاهَدةِ، وتأييد الدِّينِ بما ظهَرَ مِن كَرامةِ أنصارِه، فالكلامُ عَطفٌ على قَولِه: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ
[الكهف: 19] .
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
أي: وكما أنَمْنا الفِتيةَ وبَعَثْناهم مِن نَومِهم على هَيئتِهم، أطلَعْنا عليهم أهلَ المدينةِ في ذلك الزَّمانِ؛ ليَعلَموا أنَّ وعدَ اللهِ بإحياءِ الموتى حقٌّ، فلا يَشكُّونَ في قُدرةِ الله على البَعثِ؛ لأنَّ حالةَ أصحابِ الكَهفِ في نَومِهم وانتباهتِهم بعدَ مُدَّةٍ طَويلةٍ كحالِ مَن يموتُ ثُمَّ يُبعَثُ .
وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا.
أي: وأنَّ القيامةَ حَقٌّ، لا شَكَّ في مجيئِها، ووقُوعِ الثَّوابِ والعقابِ فيها .
كما قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [غافر: 59] .
إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ.
أي: أعْثَرْنا على أصحابِ الكهفِ حينَ اختَلف أهلُ ذلك الزمانِ في البعثِ بعدَ الموتِ، فمِنهم مَن يؤمنُ به، ومِنهم مَن ينكرُه .
فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ.
أي: فقال الذين أعثَرَهم اللهُ على أصحابِ الكَهفِ حين ماتُوا: ابنُوا عليهم بنيانًا يَستُرُهم ؛ ربُّهم أعلَمُ بهم وبِشَأنِهم وحالِهم .
قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا.
أي: قال رُؤساءُ المدينةِ الذين غَلَبوا على أهلِها : لَنبنيَنَّ عليهم مَسجِدًا يُعبَدُ اللهُ فيه .
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22).
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ.
أي: سيقولُ بَعضُ الخائِضينَ في عَدَدِ أصحابِ الكَهفِ: هم ثلاثةُ أشخاصٍ، والرَّابِعُ هو كَلبُهم .
وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ.
أي: وسيقولُ بَعضُهم: هم خمسةُ أشخاصٍ، والسَّادِسُ هو كَلبُهم .
رَجْمًا بِالْغَيْبِ.
أي: إنَّما يقولُ الخائِضونَ في عَددِ الفتيةِ ما يقولونَ بمُجَرَّدِ الظَّنِّ والتَّخمينِ، مِن غيرِ عِلمٍ ولا يقينٍ .
وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
أي: ويقولُ بَعضُهم: عدَدُ أصحابِ الكَهفِ سَبعةٌ، والثَّامِنُ هو كَلبُهم .
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ.
أي: قل -يا مُحَمَّدُ- للخائِضينَ في عَدَدِ أصحابِ الكَهفِ بلا عِلمٍ: ربِّي أعلَمُ مِن غَيرِه بعَدَدِ الفِتيةِ عِلمًا تامًّا .
مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.
أي: ما يعلَمُ عَدَدَ أصحابِ الكَهفِ على الصَّوابِ إلَّا قليلٌ مِن خَلقِه .
فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا.
أي: فلا تُحاجِجْ -يا مُحمَّدُ - في أصحابِ الكَهفِ إلَّا مُحاجَّةً ظاهِرةً ، ولا تُجهِدْ نَفسَك فيما لا طائِلَ مِن ورائِه .
وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا.
أي: ولا تَسألْ -يا مُحمَّدُ- في أصحابِ الكَهفِ أحدًا مِن أهلِ الكِتابِ .
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23).
أي: ولا تَقولَنَّ -يا محمَّدُ- لأيِّ شيءٍ تعزِمُ على فِعْلِه: إنِّي فاعلٌ ذلك الأمرَ في المُستَقبلِ .
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24).
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
أي: إلَّا أن تقولَ مع ذلك القَولِ: إن شاء اللهُ .
كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] .
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ.
أي: إن قُلتَ -يا محمَّدُ-: سأفعَلُ شيئًا غدًا، ونَسِيتَ أن تقولَ: إن شاءَ اللهُ، فاذكُرْ رَبَّك بعد نِسيانِك بقَولِك: إن شاء اللهُ .
وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا.
أي: وقُلْ -يا محمَّدُ- داعيًا ربَّك: أرجو أن يوفِّقَني ربِّي، ويَدُلَّني إلى طريقٍ هو أقرَبُ الطُّرُقِ المُوصِلةِ إلى الرَّشادِ، ويُثبِّتَني عليه .
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن استفتاءِ أهلِ الكتابِ في شأنِ أهلِ الكَهفِ؛ لِعَدَمِ عِلمِهم بذلك، وكان اللهُ عالِمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، العالمَ بكُلِّ شَيءٍ؛ أخبَرَ بمُدَّةِ لُبثِهم، وأنَّ عِلمَ ذلك عنده وَحدَه؛ فإنَّه مِن غَيبِ السَّمواتِ والأرضِ، وغَيبُها مختَصٌّ به سُبحانَه، فما أخبَرَ به عنها على ألسنةِ رُسُلِه، فهو الحَقُّ اليقينُ الذي لا يُشَكُّ فيه، وما لا يُطلِعُ رُسُلَه عليه فإنَّ أحدًا من الخَلقِ لا يَعلَمُه .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا فَرَغ اللهُ تعالى مِن هذه التَّربيةِ في أثناءِ القِصَّةِ، وخَتَمَها بالتَّرجيةِ في الهدايةِ للأرشَدِ، وكان عِلمُ مُدَّةِ لُبثِهم أدَقَّ وأخفى مِن عِلمِ عَدَدَهم؛ شَرَعَ في إكمالِها مُبَيِّنًا لهذا الأخفى .
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25).
أي: وبَقِيَ الفِتيةُ في الكَهفِ نِيامًا مُدَّةَ ثَلاثِمئةِ سَنةٍ وزيادة تِسعِ سنينَ .
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26).
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: اللهُ أعلَمُ بمُدَّةِ لُبثِ الفِتيةِ في الكَهفِ نائِمينَ، وقد أخبَرَنا بمقدارِ تلك المُدَّةِ بالحَقِّ، والصِّدقِ المطابِقِ للواقِعِ، فلا نقبَلُ قَولَ غَيرِه .
لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: لله وَحدَه عِلمُ ما غاب وخَفِيَ في السَّمواتِ والأرضِ، ولا يخفى عليه شَيءٌ فيهما .
كما قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .
وقال سُبحانَه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وقال عزَّ وجَلَّ: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ.
أي: ما أبصَرَ اللهَ لكُلِّ مَوجودٍ، وما أسمَعَه لكُلِّ صَوتٍ، فلا يخفى عليه شَيءٌ من ذلك !
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج: 75] .
مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ.
أي: ما لجَميعِ الخَلقِ في السَّمَواتِ والأرضِ مِن دونِ اللهِ مِن وَليٍّ يلي أمرَهم، ويُدَبِّرُ شُؤونَهم، ومن ذلك أنَّه تولَّى شأنَ أصحابِ الكَهفِ بلُطفِه وكَرَمِه، ولم يَكِلْهم إلى أحَدٍ مِن خَلقِه .
وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ وَلَا تُشْرِكْ بالتاء والجزمِ، بتوجيهِ الخطابِ بالنَّهيِ عن الإشراكِ باللهِ في حُكمِه، فلا يَحكُم بين النَّاسِ بغيرِ حُكمِ اللهِ .
2- قِراءةُ وَلَا يُشْرِكُ بالياء والرَّفع، على الخبَرِ عن اللهِ تعالى أنَّه نفى عن أيِّ أحدٍ مِن خَلقِه إشراكَه في حُكمِه وقَضائِه، أي: لا يُشرِكُ اللهُ في حُكمِه أحدًا سواه؛ فهو المتفَرِّدُ وَحدَه بالحُكمِ بين العبادِ .
وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا.
أي: ولا يُشركُ اللهُ في قَضائِه بين خَلقِه وفي تدبيرِهم أحدًا سواه؛ فهو المتفرِّدُ وَحدَه بالحُكمِ في خَلقِه قَضاءً وقَدَرًا، وخلْقًا وتدبيرًا، وبالحُكمِ فيهم أمرًا ونهيًا، وثوابًا وعقابًا
.
كما قال تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا [الأنعام: 114] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام: 57] .
وقال سُبحانَه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] .
الفوائد التربوية:
1- الخُلاصةُ التي تُستخلَصُ مِن قِصَّةِ أهلِ الكَهفِ هي: أنَّ كُلَّ مَنِ التجأَ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يحميه بأسبابٍ قد يُدرِكُها وقد لا يُدرِكُها، وهو مِصداقُ قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 38] ؛ فإنَّ مُدافعةَ اللهِ عن المؤمنينَ قد تكونُ بأسبابٍ معلومةٍ، وقد تكونُ بأسبابٍ مجهولةٍ لهم؛ فهذا يُرشِدُنا إلى أنْ نُحَقِّقَ الإيمانَ بالله عزَّ وجَلَّ، والقيامَ بطاعتِه
.
2- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا في هذه القِصَّةِ دَليلٌ على أنَّ مَن فَرَّ بدِينِه مِن الفِتَنِ، سَلَّمَه اللهُ منها، وأنَّ مَن حَرَص على العافيةِ عافاه الله، ومَن أوى إلى الله آواه الله، وجعلَه هدايةً لغيرِه، ومن تحمَّلَ الذُّلَّ في سبيلِه وابتغاءَ مَرضاتِه، كان آخِرَ أمْرِه وعاقِبتَه العِزُّ العظيمُ مِن حيثُ لا يحتَسِبُ ، فالخوفُ العظيمُ مِن أهلِ الكَهفِ وقتَ إيمانِهم، ودخولِهم في الغارِ، أبدلهم الله به بعدَ ذلك أمنًا وتعظيمًا مِن الخلقِ، وهذه عوائِدُ الله فيمن تحمَّلَ المشاقَّ مِن أجلِه: أن يجعَلَ له العاقِبةَ الحَميدةَ .
3- قَولُ الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أبهم تعالى على عُمومِ النَّاسِ الإعلامَ بذلك؛ لحِكمةٍ، وهي أن تتعوَّدَ الأمَّةُ بتَركِ الاشتغالِ فيما ليست منه فائدةٌ للدينِ أو للنَّاسِ .
4- قَولُه تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا اشتملَ على الأدَبِ في هذا المقامِ، وتعليمِ ما ينبغي في مِثْلِ هذا؛ فإنَّه تعالى أخبَرَ عنهم بثلاثةِ أقوالٍ، ضَعَّفَ القَولَينِ الأوَّلَينِ، وسَكَتَ عن الثَّالثِ، فدلَّ على صِحَّتِه؛ إِذْ لو كان باطِلًا لردَّه كما ردَّهما، ثمَّ أرشدَ إلى أنَّ الاطِّلاعَ على عِدَّتِهم لا طائِلَ تحتَه، فيُقالُ في مِثلِ هذا: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ؛ فإنَّه ما يعلمُ بذلك إلَّا قليلٌ مِن النَّاسِ ممَّن أطْلَعَه اللهُ عليه؛ فلهذا قال: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا أي: لا تُجْهِدْ نفسَك فيما لا طائِلَ تحته، ولا تَسألْهم عن ذلك؛ فإنَّهم لا يَعلَمونَ مِن ذلك إلَّا رَجْمَ الغَيبِ، فهذا أحسنُ ما يكونُ في حكايةِ الخلافِ: أنْ تُستَوعَبَ الأقوالُ في ذلك المقامِ، وأن يُنبَّهَ على الصَّحيحِ منها، ويُبطَلَ الباطِلُ، وتُذكَرَ فائِدةُ الخلافِ وثَمرتُه؛ لئلَّا يَطولَ النزاعُ والخِلافُ فيما لا فائدةَ تحتَه، فيُشتَغَلَ به عن الأهَمِّ، كذلك مَن نَصَب الخِلافَ فيما لا فائِدةَ تَحتَه، أو حكى أقوالًا متعدِّدةً لفظًا، ويَرجِعُ حاصِلُها إلى قَولٍ أو قَولينٍ معنًى؛ فقد ضَيَّعَ الزمانَ وتكَثَّرَ بما ليس بصحيحٍ؛ فهو كلابِسِ ثَوبَي زُورٍ، واللهُ الموفِّقُ للصَّوابِ .
5- قَولُ الله تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إرشادٌ إلى أنَّ الأحسَنَ في مِثلِ هذا المقامِ رَدُّ العِلمِ إلى اللهِ تعالى؛ إذ لا احتياجَ إلى الخَوضِ في مِثلِ ذلك بلا عِلمٍ، لكِنْ إذا اطَّلَعْنا على أمرٍ قُلنا به، وإلَّا وقَفْنا حيث وقَفْنا ؛ ففيه تعليمٌ للنَّاسِ أن يردُّوا عِلمَ الأشياءِ إلى خالِقِها جلَّ وعلا وإن عَلِموا بها، كما أعلم نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بمدَّةِ لُبثِهم في قَولِه: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف: 25] ، ثم أمَرَه مع ذلك برَدِّ العلمِ إليه جلَّ وعلا في قَولِه جلَّ وعلا: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... .
6- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ فيه دليلٌ على المَنعِ مِن استِفتاءِ مَن لا يَصلُحُ للفَتوى؛ إما لِقُصورِه في الأمرِ المُستفتَى فيه، أو لِكَونِه لا يُبالي بما تكَلَّمَ به، وليس عِندَه وَرَعٌ يَحجُزُه، وإذا نُهيَ عن استفتاءِ هذا الجِنسِ، فنَهيُه هو عن الفتوى مِن بابِ أولَى وأحرَى .
7- قال الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فنهى أن يقولَ العبدُ في الأمورِ المُستقبَلة، إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ مِن دونِ أن يقرِنَه بمشيئةِ الله؛ وذلك لِما فيه من المحذورِ، وهو: الكلامُ على الغَيبِ المُستقبَلِ الذي لا يَدري هل يفعَلُه أم لا، وهل يكونُ أم لا، وفيه ردُّ الفِعلِ إلى مشيئةِ العبدِ استقلالًا، وذلك محذورٌ محظورٌ؛ لأنَّ المشيئةَ كُلَّها لله وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29] ، ولِما في ذِكرِ مَشيئةِ الله مِن تيسيرِ الأمرِ وتَسهيلِه، وحُصولِ البركةِ فيه، والاستعانةِ مِن العبدِ لرَبِّه .
8- من تَرَك شيئًا مِن ذِكرِ اللهِ الواجِبِ عليه سَهوًا، فلْيعُدْ إليه إذا ذَكَر، كما قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ؛ فقد أمَرَه إذا نسيَ رَبَّه أن يذكُرَه بعد ذلك، فمن نسيَ الصَّلاةَ فقد نسيَ ذِكرَ رَبِّه، فإذا ذكَرَ أنَّه نَسِيَ فلْيعُدْ إلى ذكرِ الله بعدَ نِسيانِه . وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.
9- في قَولِه تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ الإيمانُ بأنَّ اللهَ تعالى ذو بَصَرٍ نافذٍ لا يَغيبُ عنه شيءٌ، وذو سَمعٍ ثاقبٍ لا يخفَى عليه شَيءٌ، والإيمانُ بذلك يَقتَضي للإنسانِ ألَّا يُريَ ربَّه ما يكرَهُه، ولا يُسمِعه ما يكرَهُه؛ لأنَّك إنْ عَمِلتَ أيَّ عَمَلٍ رآه، وإنْ قُلْتَ أيَّ قولٍ سَمِعَه، وهذا يُوجِبُ أن تخشى اللهَ عزَّ وجلَّ، وألَّا تفعلَ فِعلًا يَكرَهُه، ولا تقولَ قَولًا يَكرَهُه اللهُ عزَّ وجلَّ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- إنَّ قصةَ أصحابِ الكَهفِ هي مِن آياتِ الله؛ فإنَّ مُكثَهم نِيامًا لا يَموتونَ ثلاثَمِئةِ سَنةٍ وتسعَ سنينَ؛ آيةٌ دالةٌ على قُدرةِ الله ومَشيئتِه، وأنَّه يَخلُقُ ما يشاءُ، ليس كما يقولُه أهلُ الإلحادِ، وهي آيةٌ على مَعادِ الأبدانِ، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا، وكان الناسُ قد تنازَعوا في زَمانِهم: هل تعادُ الأرواحُ دُونَ الأبدانِ؟ وإخبارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقِصَّتِهم -مِن غيرِ أنْ يُعَلِّمَه بَشَرٌ- آيةٌ على نبُوَّتِه، فكانت قصَّتُهم آيةً على أصولِ الإيمانِ الثلاثةِ: الإيمانُ باللهِ، واليومِ الآخِرِ، والإيمانُ برَسولِه، ومع هذا فليسوا من آياتِ اللهِ بعَجَبٍ، بل مِن آياتِ اللهِ ما هو أعجَبُ مِن ذلك؛ قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا
[الكهف: 9] .
2- اتخاذُ القبورِ مساجدَ ليس هو مِن شريعةِ الإسلامِ، بل مِن عملِ اليهودِ والنصارى، وقد لعَنهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم على ذلك، وقال تعالى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا فجعَل اتِّخاذَ المساجِدِ على القُبورِ مِن فِعْلِ أهلِ الغَلَبةِ على الأمورِ، وذلك يُشْعِرُ بأنَّ مُستَندَه القَهْرُ والغَلَبةُ واتِّباعُ الهوى، وأنَّه ليس مِن فِعْلِ أهلِ العِلمِ والفَضلِ المُتَّبِعينَ لِمَا أنزلَ اللهُ على رُسُلِه مِن الهُدى .
3- قال الله تعالى: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا مِن فوائِدِ الآيةِ أنَّ مِن أسبابِ بناءِ المَساجدِ على القُبورِ الغُلوَّ في أصحابِ القُبورِ؛ لأنَّ الذين غَلَبوا على أمْرِهم بَنَوا عليهم المساجِدَ؛ لأنَّهم صاروا عِندَهم مَحَلَّ الاحترامِ والإكرامِ، فغَلَوا فيهم .
4- قَولُ الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ وصفُ الأوَّلَينِ بالرَّجمِ بالغَيبِ دُونَ الثَّالِثِ يدُلُّ على أنَّه مَرْضِيٌّ وصَحيحٌ .
5- هنا نُكتةٌ في مسألةِ العَدَدِ؛ فاللهُ تعالى قال: سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم يقُلْ: ثمانيةٌ ثامِنُهم كلبُهم؛ لأنَّ الكلبَ مِن غيرِ الجِنسِ، وإذا كان مِن غيرِ الجِنسِ؛ فإنَّه لا يَدخُلُ في العددِ، ولكِنَّه يُجعَلُ بعدَه؛ ولهذا قال اللهُ عزَّ وجلَّ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة: 7] ولم يَقُلْ: «مِن نجوى أربعةٍ إلَّا هو رابِعُهم»؛ لأنَّه خالِقٌ وهم مخلوقونَ .
6- قال الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا دَلَّ عَلَمُ الاستقبالِ -السينُ في سيَقولونَ- على أنَّ النَّاسَ لا يزالونَ يَخوضونَ في ذلك .
7- قَولُ الله تعالى: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا فيه تحريمُ الجِدالِ بغَيرِ عِلمٍ وبلا حُجَّةٍ ظاهرةٍ .
8- قَولُ الله تعالى: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا فيه دَليلٌ على أنَّ الشَّخصَ قد يكون مَنهيًّا عن استفتائِه في شيءٍ دون آخَرَ، فيُستفتَى فيما هو أهلٌ له، بخلافِ غيرِه؛ لأنَّ الله لم ينهَ عن استفتائِهم مطلقًا، إنما نهَى عن استفتائِهم في قِصَّةِ أصحابِ الكهفِ، وما أشبهَها .
9- قولُ الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقَدَريةِ واضحةٌ؛ ألا ترى أنَّ الله جَلَّ جلالُه كيف أدَّب نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، فأعلَمَه أنَّ فِعلَه الشيءَ -وإن كان منسوبًا إليه- فبمَشيئتِه يَفعَلُه، ونهاه أن يُطلِقَ القَولَ في فِعلِه بغيرِ استثناءِ مَشيئتِه .
10- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فيه استِحبابُ تَقديمِ المَشيئةِ في كُلِّ شَيءٍ .
11- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ استدَلَّ به الشَّافِعيُّ وغَيرُه على أنَّ الاستِثناءَ في الأيمانِ والطَّلاقِ والعِتقِ، مُعتبَرٌ .
12- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إلَّا قَولًا مَقرونًا بمَشيئةِ الله؛ فقَرنُ ذلك بمشيئةِ الله يَستفيدُ منه الإنسانُ فائِدَتينِ عَظيمَتينِ:
إحداهما: أنَّ اللهَ يُيَسِّرُ الأمرَ له؛ حيث فوَّضَه إليه جلَّ وعلا.
والثانيةُ: إنْ لم يَفعَلْ لم يَحنَثْ .
13- قال الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا الفائِدةُ مِن أمْرِ اللهِ تعالى أنْ نَذكُرَه إذا نَسِينا هو ارتِفاعُ الإثمِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ فإذا نَسِيتَ فقُلْها إذا ذكَرْتَ، لكنْ هل تنفعُك فلا تَحنَثُ، أم يرتَفِعُ عنك الإثمُ دونَ حُكْمِ اليَمينِ؟ الظَّاهرُ: الثَّاني؛ أنْ يَرتفِعَ الإثمُ، وأمَّا الحِنْثُ فإنَّه يَحنَثُ لو خالفَ؛ لأنَّ الاستثناءَ بالنِّسبةِ للحِنْثِ لا ينبغي إلَّا أنْ يكونَ مُتَّصِلًا . وقد أجمع المُسلِمونَ على أنَّ الحالِفَ إذا استثنى في يمينه مُتَّصِلًا بها فقال: لأفعلَنَّ كذا أو لا أفعَلُه إن شاء اللهُ؛ أنَّه لا يحنَثُ إذا خالفَ ما حلف عليه؛ لأنَّ مِن أصلِ أهلِ الإسلامِ أنَّه لا يكون شيءٌ إلَّا بمشيئةِ الله، فإذا عَلَّقَ الحالِفُ الفِعلَ أو التَّركَ بالمشيئةِ، لم يحنَثْ عند عَدَمِ المشيئةِ، ولا تجِبُ عليه الكَفَّارةُ .
14- قوله: وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا عَسَى مستعملةٌ في الرجاءِ تأدُّبًا .
15- قَولُ الله تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ استُدِلَّ بالتَّعجُّبِ فيه على جوازِ إطلاقِ صِيغةِ التعجُّبِ في صفاتِ اللهِ، كقَولِ: ما أعظَمَ اللهَ وما أجَلَّه !
16- قال الله تعالى: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا على قراءةِ: ولَا تُشْرِكْ فالمعنى: لا يجوزُ أن يَحكُمَ حاكِمٌ إلَّا بما حكَمَ اللهُ، أو بما يدُلُّ عليه حُكمُ الله، وليس لأحدٍ أن يَحكُمَ مِن ذاتِ نَفسِه، فيكونَ شَريكًا لله في حُكمِه .
17- يُفهِمُ قَولُه: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا على كِلتا قراءتَيه ، وكذلك قولُه تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف: 40] ، وقولُه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [المائدة: 50] إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ- أنَّ متَّبِعي أحكامِ المشَرِّعين غيرَ ما شرَعَه اللهُ؛ أنَّهم مُشرِكون بالله، وهذا المفهومُ جاء مُبيَّنًا في آياتٍ أُخَرَ، كقَولِه فيمن اتَّبَع تشريعَ الشيطانِ في إباحةِ المَيتةِ بدعوى أنَّها ذبيحةُ اللهِ: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] ، فصَرَّح بأنَّهم مُشرِكون بطاعتِهم، وهذا الإشراكُ في الطاعةِ. واتِّباعُ التَّشريعِ المخالِفُ لِما شرعه اللهُ تعالى: هو المرادُ بعبادةِ الشَّيطانِ في قَولِه تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 60، 61]، وقَولِه تعالى عن نبيِّه إبراهيمَ: يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم: 44]، وقَولِه تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء: 117] ، أي: ما يعبدون إلَّا شيطانًا، أي: وذلك باتِّباعِ تَشريعِه، ومِن أصرَحِ الأدلَّةِ في هذا: أنَّ الله جلَّ وعلا في سورةِ (النساء) بيَّنَ أنَّ مَن يريدون أن يتحاكَموا إلى غيرِ ما شرَعَه الله يُتعَجَّبُ مِن زعمِهم أنَّهم مؤمِنون، وما ذلك إلَّا لأنَّ دعواهم الإيمانَ مع إرادةِ التَّحاكُمِ إلى الطاغوتِ بالغةٌ مِن الكَذِبِ ما يحصُلُ منه العَجَبُ، وذلك في قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا
[النساء: 60] .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا
- قولُه: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ فقبْلَ هذا الكلامِ جُملٌ مَحذوفةٌ؛ والتَّقديرُ: فبَعَثوا أحدَهم ونظَرَ أيُّها أزكى طعامًا وتلطَّفَ، ولم يُشْعِرْ بهم أحدًا، فأطلَعَ اللهُ أهْلَ المدينةِ على حالِهم، وقصَّةِ ذَهابِه إلى المدينةِ، وما جَرى له مع أهْلِها
.
- ومفعولُ أَعْثَرْنَا مَحذوفٌ، دَلَّ عليه عُمومُ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا، تَقديرُه: أعثَرْنا أهلَ المدينةِ عليهم .
- قولُه: إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ الظَّرفُ مُتعلِّقٌ بقولِه: أَعْثَرْنَا؛ قُدِّمَ عليه الغايةُ إظهارًا لكَمالِ العنايةِ بذِكْرِها، أي: أعثَرْنا عليهم حين تَنازعوا أمْرَهم. وصِيغَ ذلك بصِيغَةِ الظَّرفيَّةِ؛ للدَّلالةِ على اتِّصالِ التَّنازُعِ في أمْرِ أهْلِ الكهفِ بالعُثورِ عليهم، بحيث تَبادروا إلى الخوضِ في كَرامةٍ يَجْعلونها لهم ، وهذا إدماجٌ لذِكْرِ نِزاعٍ جَرى بين الَّذين اعْتَدوا عليهم في أُمورٍ شَتَّى، جمَعَها قولُه تعالى: أَمْرَهُمْ؛ فضميرُ يَتَنَازَعُونَ وبَيْنَهُمْ عائدانِ إلى ما عاد إليه ضَميرُ لِيَعْلَمُوا ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- والإتيانُ بالمُضارِعِ يَتَنَازَعُونَ؛ لاستحضارِ حالةِ التَّنازُعِ .
- قولُه: فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا معطوفٌ على يَتَنَازَعُونَ، وإيثارُ صِيغَةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا القولَ ليس ممَّا يَستمِرُّ ويتجدَّدُ كالتَّنازُعِ .
- قولُه: فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا طُوِيَ هنا وصْفُ العُثورِ عليهم، وذِكْرُ عودِهم إلى الكهفِ؛ لعدَمِ تعلُّقِ الغرَضِ بذِكْرِه؛ إذ ليس موضعَ عِبْرةٍ؛ لأنَّ المصيرَ إلى مَرقدِهم، وطُرُوَّ الموتِ عليهم شأنٌ مُعتادٌ لكلِّ حَيٍّ .
2- قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا
- جيء بسينِ الاستقبالِ في قولِه: سَيَقُولُونَ الأوَّل دونَ الآخرَيْنِ: وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ؛ إمَّا لأنَّه يدخلُ الآخرانِ في حكمِ (السينِ)، كما تقولُ: قد أُكرَمُ وأُنعمُ، تريدُ معنى التوقعِ في الفعلينِ جميعًا؛ فحَرفُ العَطفِ يُوجِبُ دُخولَ القَولَينِ الآخرَينِ فيه، وإمَّا يرادُ بـ (يفعل) معنى الاستقبالِ الَّذي هو صالحٌ له .
- قولُه: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.. فيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قال هنا: وَثَامِنُهُمْ بزيادةِ واوِ العطْفِ، بخِلافِ الَّذي قبْلَه رَابِعُهُمْ سَادِسُهُمْ؛ فاختُصَّت الثَّمانيةُ بالواوِ، ولمْ ترِدِ الجُملةُ من قوله تعالى: وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ صِفةً للنَّكرةِ قبْلَها كما تقدَّمَ فيما قبْلُ، وعُدِلَ إلى العطْفِ؛ ووجه ذلك قيل: إنَّ هذا الإخبارَ مُعرِّفٌ باختلافِ اليهودِ في فِتية الكَهفِ، وإنَّهم أو أكثرَهم لم يَتحقَّقوا عددَهم؛ فحَكَى سُبحانَه أقوالَهم، وأومأَ إلى تقريرِ الصَّحيحِ منها، مع أنَّ أكثرَ اليهود غيرُ عالِمينَ بذلك ولا مُرجِّحين؛ فأتى بالجُملتَينِ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، ثمَّ قال: وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، ثمَّ أتْبَع هذا الكلامَ مِن اختلافِهم بقولِه: رَجْمًا بِالْغَيْبِ؛ فأفهمَ أنَّ هذا ليس مِن نَمطِ ما تَقدَّم، كأنَّه قيل: ويقولون سَبعةٌ وثامنُهم كلبُهم، وأنَّ هذا ليس داخلًا تحت ما تقدَّمَ من أنَّه رجمٌ بالغَيبِ .
وقيل: هذه الواوُ هي الواوُ الَّتي تدخُلُ على الجُملةِ الواقعةِ صِفَةً للنَّكرةِ، وفائدتُها توكيدُ اتِّصالِ الصِّفةِ بالموصوفِ، والدَّلالةُ على أنَّ اتِّصالها أمرٌ ثابتٌ مُستقِرٌّ، وهذه الواو هي الَّتي آذنَتْ بأنَّ الَّذين قالوا: سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قالوا عن ثباتِ علْمٍ وطُمأنينةِ نفْسِ، ولم يَرْجُموا بالظَّنِّ كما غيرُهم. والدَّليلُ عليه: أنَّ اللهَ سُبحانَه أتبَعَ القولينِ الأوَّلينِ قولَه: رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وأتبَعَ القولَ الثَّالثَ قولَه: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ .
- وقيل: إنَّ الفِرقةَ الَّتي قالتْ: كانوا ثلاثةً، كانتْ بعدَها فِرقتانِ أُخريانِ، وكذلك الثَّانيةُ الَّتي قالت: خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ، وأمَّا السَّبعةُ فانتهَتْ عندها العِدَّةُ، وانقطَعَتْ بها القصَّةُ، ولم تكُنْ هناك فِرقةٌ رابعةٌ تَذكُرُ قولًا رابعًا، والشَّيءُ إذا تَمَّ وانتهى، وكانت الجُملةُ فيما لم يَنْتَهِ تتَّصِلُ بالأوَّلِ اتِّصالَ الشَّيءِ منه؛ كانتِ الواوُ فيها دَليلًا على انقضائِها، والآخر في كلامٍ في حُكْمِ المَنقطعِ منها في اللَّفظِ، وإنْ كان اتِّصالُه بها في المعنى كاتِّصال الأوَّلينِ . وقيل: لمَّا كانتِ السَّبعةُ أصلًا للنِّهايةِ في تركيبِ العدَدِ؛ فصارتِ السَّبعةُ أصلًا للمُبالَغةِ في العدَدِ .
- وقيل: إنَّ العرَبَ تقولُ: واحدٌ، اثنانِ، ثلاثةٌ، أربعةٌ، خمسةٌ، سِتَّةٌ، سبعةٌ، وثمانيةٌ، فإذا بلغَتِ الثَّمانيةَ لم تُجْرِها مَجْرى الأخواتِ الَّتي لا يُعْطَفُ بعضُها على بعضٍ، فيُعْطَفُ الثَّامنُ على ما قبْلَه، ولم يدخُلْ واوُ العطْفِ على ما قبْلَه .
- وجُملةُ: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا لِما تُثيرُه جُملةُ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ إلى آخرِها، مِن ترقُّبِ تَعيينِ ما يُعتمَدُ عليه من أمْرِ عِدَّتِهم؛ فأُجِيبَ بأنْ يُحالَ العلْمُ بذلك على علَّامِ الغُيوبِ .
- وإسنادُ اسمِ التَّفضيلِ إلى اللهِ تعالى في قولِه: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ يُفيدُ أنَّ علْمَ اللهِ بعِدَّتِهم هو العلْمُ الكاملُ، وأنَّ علْمَ غيرِه مُجرَّدُ ظَنٍّ وحَدَسٍ، قد يُصادِفُ الواقعَ وقد لا يُصادِفُه .
- وجُملةُ: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ الإخبارَ عن اللهِ بأنَّه الأعلَمُ يُثيرُ في نُفوسِ السَّامعينَ أنْ يَسألوا: هل يكونُ بعضُ النَّاسِ عالمًا بعِدَّتِهم علْمًا غيرَ كاملٍ؟ فأُجِيبَ بأنَّ قليلًا من النَّاسِ يَعْلمون ذلك، ولا مَحالةَ هم مَن أطلَعَهم اللهُ على ذلك بوحيٍّ، وعلى كل حالٍ فهم لا يُوصفونَ بالأعلميَّةَ؛ لأنَّ علْمَهم مُكتسبٌ من جِهَةِ اللهِ الأعلَمِ بذلك .
- قولُه: فَلَا تُمَارِ الفاءُ لتَفريعِ النَّهيِ على ما قبْلَه، أي: إذ قد عرَفْتَ جهْلَ أصحابِ القولينِ الأوَّلينِ، فلا تُجادِلهم ، وهذا التَّفريعُ وما عُطِفَ عليه مُعترِضٌ في أثناءِ القصَّةِ .
- قولُه: فَلَا تُمَارِ سَمَّى مُراجعتَه لهم مِراءً على سَبيلِ المُقابَلةِ؛ لمُماراةِ أهْلِ الكتابِ له في ذلك .
- قولُه: فَلَا تُمارِ فِيهِمْ يعني: في عدَّتِهم، وحُذِفت العِدَّةُ؛ لدلالةِ ظاهرِ القولِ عليها ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- قولُه: وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا المُرادُ من النَّهيِ عن استفتائِهم: الكِنايةُ عن جهْلِهم بأمْرِ أهْلِ الكهفِ؛ فضميرُ مِنْهُمْ عائدٌ إلى ما عاد إليه ضَميرُ سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ، أو يكونُ كِنايةً رمزيَّةً عن حُصولِ علْمِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلمَ بحقيقةِ أمْرِهم، بحيث هو غَنِيٌّ عن استفتاءِ أحدٍ، وتكونُ (مِن) تَعليليَّةً .
3- قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا
- قولُه: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ في الكلامِ حذفٌ يقتضيه الظاهرُ، ويحسنُه الإيجازُ، والتقديرُ: إلَّا أن تقولَ: إلَّا أن يشاءَ الله، أو: إلَّا أن تقولَ: إنْ شاءَ اللهُ .
- قولُه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ في تعريفِ الجلالةِ بلفظِ الربِّ مضافًا إلى ضميرِ المخاطبِ دونَ اسمِ الجلالةِ العَلَمِ مِن كمالِ الملاطفةِ ما لا يخفَى .
4- قوله تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا
- قولُه: ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا فيه تفصيلٌ بعدَ الإجمالِ؛ فالجملةُ مستأنفةٌ، مُبيِّنةٌ لِمَا أُجْمِل فيما سبَق في قولِه: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا .
- قوله: وَازْدَادُوا تِسْعًا أي: تسعَ سنينَ، فاستغنَى عن ذِكرِ السنينَ؛ لتقدُّمِ ذِكرِها .
5- قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا
- قولُه: لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فيه تقديمُ الخبر المجرور؛ لإفادة الاختصاص، أي: للهِ لا لغيره؛ ردًّا على الَّذين يزعمون علمَ خبرِ أهلِ الكهفِ ونحوِهم .
- قولُه: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ فيه مجيءُ ما دلَّ على التعجُّبِ مِن إدراكِه المسموعاتِ والمبصَراتِ؛ للدلالةِ على أنَّ أمرَه في الإدراكِ خارجٌ عن حدِّ ما عليه إدراكُ السامعينَ والمبصِرينَ؛ لأنَّه يدركُ ألطفَ الأشياءِ وأصغرَها، كما يدركُ أكبرَها حجمًا وأكثفَها جِرمًا، ويدركُ البواطنَ كما يدركُ الظواهرَ .
- وفي قولِه: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ تقديمُ أمرِ الإبصارِ على السمعِ؛ ولعلَّ ذلك لأنَّ الشيءَ المتحدَّثَ عنه مِن قبيلِ المبصَراتِ .
- قولُه: وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا أبلغُ في نفيِ الشريكِ مِن أن يُقالَ: مِن وليٍّ ولا شريكٍ
===================
سورةُ الكَهفِ
الآيات (27-29)
ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
غريب الكلمات :
مُلْتَحَدًا: أي: مَلجأً تَميلُ إليه، وأصلُ (لحد): يدُلُّ على مَيلٍ
.
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ: الغَداةُ: أوَّلُ النَّهارِ، وأصلُ (غدو): يَدُلُّ على زَمانٍ . والعَشِيُّ: مِنْ زوالِ الشَّمْسِ إلى الصَّباحِ، وآخِرُ النَّهارِ، وأصلُ (عشو): يدُلُّ على ظَلامٍ، وقِلَّةِ وضوحِ الشَّيءِ .
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ: أي: لا تَصرِفْ عَينيك عنهم، ولا تُجاوِزْهم إلى غَيرِهم، وأصلُ (عدو): يدُلُّ على التَّجاوزِ في الشَّيءِ .
أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ: أي: شغَلْنا قلبَه، وجعَلْناه غافلًا، والغفلةُ: سهوٌ يعتري الإنسانَ مِن قلَّةِ التَّحفُّظِ والتَّيقُّظِ. وقيل: المعنى: تركناه غُفْلًا، أي: فارغًا، والغُفْلُ: الشيءُ الفارغُ، والأرضُ الغُفْلُ: التي لا علامةَ بها .
فُرُطًا: أي: سَرَفًا وتَفريطًا وضَياعًا، وهو مِنَ الإفراطِ في الشَّيءِ والتَّجاوُزِ فيه، وقيل: أصلُه مِن التفريطِ، وهو تقديمُ العَجْزِ، فمَن قدَّم العَجْزَ في أمرِه أضاعَه وأهلَكه .
سُرَادِقُهَا: أي: فُسطاطُها وسُورُها، وكُلُّ ما أحاط بشيءٍ واشتمَلَ عليه مِن ثَوبٍ أو حائطٍ، يقالُ له: سُرادِقٌ، وهو فارسيٌّ مُعَرَّب .
كَالْمُهْلِ: المُهلُ: ما انتهى حَرُّه مِمَّا أُذِيبَ من النُّحاس والرَّصاصِ وأشباهِ ذلك، أو عَكَرُ الزَّيتِ، وأصلُ (مهل): يدل على جِنسٍ مِن الذَّائباتِ .
مُرْتَفَقًا: أي: مَنزِلًا، ومَقرًّا يُعَدُّ للارتفاقِ والانتفاعِ، أو مجلسًا، وأصلُ الارتفاقِ: الاتكاءُ على المِرْفقِ، وأصلُ (رفق): يدُلُّ على مُوافَقةٍ ومُقارَبةٍ بلا عنفٍ، ويُشتَقُّ منه كلُّ شيءٍ يَدْعو إلى راحةٍ وموافَقَةٍ
.
المعنى الإجمالي:
يقولُ تعالى: واقرأْ -يا مُحمَّدُ- ما أوحاه اللهُ إليك من القُرآنِ، وبلِّغْه للناسِ، واتَّبِعْه؛ فإنَّه لا يستطيعُ أحَدٌ أن يُبدِّلَ كَلِماتِ اللهِ؛ ولن تجِدَ مِن دونِ رَبِّك مَلجأً تلجأُ إليه إن أنت لم تَتلُ القرآنَ وتتَّبِعْه وتبلِّغْه.
ثم يرشدُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أحدِ الآدابِ المهمةِ، فيقولُ: واحبِسْ نفسَك -يا مُحمَّدُ- مع أصحابِك الذين يَعبُدونَ رَبَّهم وحدَه، ويَدْعُونَه أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه مُخلِصينَ في عبادتِه، ولا تَصرِفْ نَظَرَك عنهم إلى غَيرِهم مِن الكُفَّارِ مِن أهلِ الغنَى والجاهِ؛ راغبًا في مجالستِهم، ولا تُطِعْ مَن جعَلْنا قلبَه غافِلًا عن ذِكرِنا، وآثَرَ هواه، وصار أمرُه في جميعِ أعمالِه ضَياعًا وسَفَهًا وتفريطًا.
ثمَّ يأمرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أن يجهرَ بكلمةِ الحقِّ، فيقولُ تعالى: وقُلْ لهؤلاء الغافلينَ: ما جئتُكم به هو الحَقُّ مِن رَبِّكم، فإنْ شِئتُم فآمِنوا، وإن شِئتُم فاكفُروا، إنا أعدَدْنا للكافرينَ نارًا شديدةً أحاط بهم سُورُها مِن كُلِّ جانبٍ، وإنْ يَستَغِثْ هؤلاء الكُفَّارُ في النَّارِ بطَلَبِ الماءِ مِن شِدَّةِ عطَشِهم، يُؤتَوا بماءٍ مُنتِنٍ أسودَ شَديدِ الحرارةِ يَشوي وجوهَهم، قَبُحَ هذا الشرابُ الذي يُؤتَونَ به، وقَبُحَت النَّارُ مَنزِلًا لهم ومُقامًا!
تفسير الآيات:
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا أنزَل اللهُ تعالى على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أنزَل مِن قِصَّةِ أهل الكهفِ؛ أمَرَه بأن يقُصَّ ويتلوَ على معاصريه ما أوحَى إليه تعالى مِن كتابِه في قِصَّةِ أهلِ الكَهفِ وفي غيرِهم
.
وأيضًا لَمَّا دلَّ اشتمالُ القُرآنِ على قِصَّةِ أصحابِ الكَهفِ، مِن حيث إنَّها من المُغَيَّباتِ بالإضافةِ إلى الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، على أنَّه وحيٌ مُعجِزٌ؛ أمَرَه أن يداوِمَ دَرسَه، ويلازِمَ أصحابَه .
وأيضًا لَمَّا أخبَر الله تعالى أنَّ له غيبَ السَّمواتِ والأرضِ، فليس لمخلوقٍ إليها طريقٌ إلَّا عن الطريقِ التي يخبِرُ بها عبادَه، وكان هذا القرآنُ قد اشتملَ على كثيرٍ مِن الغيوبِ؛ أمر تعالى بالإقبالِ عليه، فقال :
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ.
أي: واقرأ -يا محمَّدُ- ما أوحَى اللهُ إليك مِن القرآنِ، وأبلِغْه إلى النَّاسِ، واتَّبِعْه بتصديقِ أخبارِه والعَمَلِ بما فيه، بامتثالِ أوامِرِه واجتنابِ نواهيه .
كما قال تعالى: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام: 106] .
وقال سُبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل: 91- 92] .
وقال عزَّ وجَلَّ: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43] .
وقال جلَّ جلالُه: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] .
لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ.
أي: لا أحدَ يَستطيعُ أن يغيِّرَ كَلِماتِ الله الشرعيةَ، فيُحَرِّفَ القرآنَ بتغييرِ أخبارِه، وتبديلِ أحكامِه، أو صرفِها عن معانيها الصَّحيحةِ ، ولا أن يُغيِّرَ كَلِماتِه الكونيةَ .
كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ [الأنعام: 115] .
وقال سُبحانَه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [يونس: 15] .
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا.
أي: ولن تَجِدَ -يا مُحمَّدُ- مِن دونِ اللهِ مَلجأً تَهرُبُ إليه، وتحتمي به مِن العذابِ، إن أنتَ لم تتلُ القُرآنَ فتَتَّبِعْه وتُبَلِّغْه .
كما قال تعالى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن: 22] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28).
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ.
أي: واحبِسْ نفسَك -يا مُحمَّدُ- مع أصحابِك الذين يَعبُدونَ رَبَّهم أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، ويَدْعونَه ويَذكُرونَه مُخلِصينَ له في ذلك .
كما قال تعالى: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] .
وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِتَّةَ نَفَرٍ، فقال المُشرِكونَ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اطرُدْ هؤلاء لا يَجتَرِئونَ علينا! قال: وكنتُ أنا وابنُ مسعودٍ، ورجلٌ مِن هُذَيل، وبِلالٌ، ورجلانِ لستُ أُسمِّيهما، فوقع في نفسِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما شاء اللهُ أن يقعَ، فحدَّث نفسَه، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] )) .
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَأنْ أقعُدَ مع قَومٍ يَذكُرونَ اللهَ تعالى مِن صَلاةِ الغَداةِ حتى تَطلُعَ الشَّمسُ، أحَبُّ إليَّ مِن أن أُعتِقَ أربعةً مِن ولَدِ إسماعيلَ، ولَأنْ أقعُدَ مع قومٍ يَذكُرونَ اللهَ مِن صلاةِ العَصرِ إلى أن تَغرُبَ الشَّمسُ، أحَبُّ إليَّ مِن أن أُعتِقَ أربعةً )) .
وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
أي: ولا تَصرِفْ عينَيك -يا مُحمَّدُ- عن الذين يَعبُدونَ رَبَّهم بالغَداةِ والعَشيِّ؛ لرثاثةِ هيئتِهم وزِيِّهم، مُحتَقِرًا لهم، فتَتجاوزَهم إلى أهلِ الشَّرَفِ والجاهِ، والغنَى والثروةِ، طامحًا إلى مُجالَستِهم بدلًا مِن أولئك .
كما قال تعالى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] .
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا.
أي: ولا تُطِعْ -يا مُحمَّدُ- من جعَلْنا قلبَه غافلًا عن ذِكرِنا وعبادتِنا وعن القرآنِ، وانشغل عن ذلك بالدُّنيا .
كما قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [النجم: 29] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان: 24] .
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ.
أي: وآثَرَ اتِّباعَ شَهواتِ نَفسِه، فاختار الكُفرَ والشِّركَ والمعاصيَ على الإيمانِ والتَّوحيدِ والطَّاعةِ .
وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.
أي: وكانت شُؤونُه وأعمالُه سَفَهًا وتفريطًا وضَياعًا، قد تجاوَز فيها الحَدَّ، وتقدَّم فيها على الحَقِّ، نابذًا له وراءَ ظهرِه .
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه بعد أن أمَرَ اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم بما فيه نَقضُ ما يَفتِلونَه مِن مُقتَرحاتِهم، وتعريضٌ بتأييسِهم من ذلك -كاقتراحِهم طردَ الفقراءِ حتَّى يُؤمنوا-؛ أمَرَه أن يُصارِحَهم بأنَّه لا يَعدِلُ عن الحَقِّ الذي جاءه مِن الله، وأنَّه مُبلِّغُه بدونِ هَوادةٍ، وأنَّه لا يَرغَبُ في إيمانِهم ببَعضِه دونَ بَعضٍ، ولا يتنازَلُ إلى مُشاطَرتِهم في رَغَباتِهم بشَطرِ الحَقِّ الذي جاء به، وأنَّ إيمانَهم وكُفرَهم موكولٌ إلى أنفُسِهم، لا يَحسَبونَ أنَّهم بوعدِ الإيمانِ يَستَنزِلونَ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عن بعضِ ما أُوحيَ إليه، فالدينُ الحقُّ إنما أتَى مِن عندِ الله، فإن قبلوه عاد النفعُ إليهم، وإن لم يقبلوه عاد الضررُ إليهم، ولا تعلُّقَ لذلك بالفقرِ والغنَى، والقبحِ والحسنِ، والخمولِ والشهرةِ .
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: وقُلْ -يا مُحمَّدُ- مُعلِنًا : هذا الذي جِئتُكم به مِن عندِ رَبِّكم هو الحَقُّ بلا شَكٍّ، فلا تَطلُبوه مِن غَيرِه؛ فهو وَحدَه الذي يَهدي إليه مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ويُضِلُّ مَن يشاءُ منهم .
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ.
أي: فإنْ شِئتُم فآمِنوا، وإن شِئتُم فاكفُروا؛ فإن اختَرتُم الإيمانَ فلكم الجنَّةُ، وإن اختَرْتُم الكُفرَ فقد أُعِدَّت لكم النَّارُ .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا هدَّدَ السَّامِعينَ بما حاصِلُه: لِيَختَرْ كلُّ امرئٍ لنَفسِه ما يجِدُه غَدًا عندَ الله تعالى؛ أتبَعَ هذا التهديدَ تَفصيلًا لِمَا أَعَدَّ للفَريقينِ مِن الوَعدِ والوعيدِ ، ولَمَّا كان الكلامُ مع الكُفَّارِ وفي سياقِ ما طلبوا من الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كانت البداءةُ بما أعَدَّ لهم أهَمَّ وآكَدَ .
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا.
أي: إنَّا أعدَدْنا وأرصَدْنا وهيَّأْنا للكافرينَ نارًا يُحيطُ بهم سُورُها مِن كُلِّ جانبٍ، فلا سبيلَ لهم إلى الخُروجِ منها .
كما قال تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 31] .
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ.
أي: وإنْ يَطلُبِ الكافِرونَ المعذَّبونَ في النَّارِ الماءَ؛ مِن شِدَّةِ عَطَشِهم، يُؤتَوا بماءٍ مُنتِنٍ غَليظٍ أسودَ، غاية في الحرارةِ، يشوي وُجوهَهم ؛ مِن شِدَّةِ حَرِّه .
بِئْسَ الشَّرَابُ.
أي: بئسَ شَرابُ الكافرينَ هذا الماءُ الذي يُؤتَونَ به، فيكونُ زيادةً في عقابِهم .
وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا.
أي: وقبُحَت جهنَّمُ مُقامًا يَستَقِرُّ فيه الكافِرونَ
.
كما قال تعالى: إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان: 66] .
الفوائد التربوية:
1- قَولُ الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فيه الأمرُ بصُحبةِ الأخيارِ، ومُجاهَدةِ النَّفسِ على صُحبَتِهم ومخالَطتِهم وإن كانوا فُقرَاءَ؛ فإنَّ في صُحبَتِهم مِن الفوائِدِ ما لا يُحصى
.
2- في قَولِه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ دَلالةٌ على أنَّ مُجالسةَ الصالحينَ مأثورةٌ على مجالِسِ غَيرِهم، ومَندوبٌ إليها المُؤمِنونَ .
3- في قَولِه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إرشادٌ إلى حَمْلِ النَّفسِ على المَكارهِ، والْتِماسِ القُرْبَةِ إلى الله، وصرْفِها عمَّا تُنَازِعُ إليه مِن هواها .
4- قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ في الآيةِ الكريمةِ فَضْلُ الاجتماعِ على الذِّكْرِ والدُّعاءِ .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فيه فَضْلُ الإخلاصِ، وأنَّ الإخلاصَ هو الذي عليه مدارُ كلِّ شيءٍ .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الآيةِ أنَّ الإنسانَ لا ينبغي له أنْ يدَعَ أحوالَ الآخرةِ والعباداتِ إلى أحوالِ الدُّنيا .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فيه استحبابُ الذِّكرِ والدُّعاءِ والعبادةِ طَرَفي النَّهارِ؛ لأنَّ اللهَ مَدَحهم بفِعلٍ، وكلُّ فِعلٍ مدحَ اللهُ فاعِلَه، دلَّ ذلك على أنَّ اللهَ يُحِبُّه، وإذا كان يحِبُّه فإنَّه يأمرُ به، ويُرَغِّبُ فيه .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا يدُلُّ على أنَّ الذي ينبغي أن يُطاعَ، ويكونَ إمامًا للنَّاسِ: مَن امتلأ قلبُه بمحَبَّةِ الله، وفاض ذلك على لِسانِه، فلَهِجَ بذِكرِ الله، واتَّبَع مراضيَ رَبِّه، فقَدَّمَها على هواه، فحَفِظَ بذلك ما حَفِظَ مِن وَقتِه، وصَلَحت أحوالُه، واستقامت أفعالُه، ودعا النَّاسَ إلى ما مَنَّ الله به عليه؛ فحَقيقٌ بذلك أن يُتَّبعَ ويُجعَلَ إمامًا ، أمَّا مُتَّبِعُ الهوى فليس أهلًا أنْ يُطاعَ، ولا أنْ يكونَ إمامًا ولا مَتبوعًا؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى نهَى عن طاعتِه كما في هذه الآيةِ، وعَزَله عنِ الإمامةِ، كما في قولِه تعالى لخليلِه إبراهيم عليه السلامُ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] أي: لا ينالُ عهدي -بالإمامةِ- ظالِمًا، وكلُّ مَنِ اتَّبَع هواه فهو ظالمٌ، كما قال الله تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الروم: 29] ، فينبغي للرجُلِ أنْ يَنظرَ في شَيخِه وقُدوتِه ومَتبوعِه؛ فإنْ وجَدَه كذلك فليَبعُدْ عنه، وإنْ وجَدَه ممن غَلَب عليه ذِكْرُ اللهِ تعالى، واتِّباعُ السُّنَّةِ، وأمْرُه غيرُ مفروطٍ عليه، بل هو حازمٌ في أمْرِه؛ فليستَمسِك بغَرْزِه .
9- في قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ دَلالةٌ على أنَّ ذِكْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ هو ذِكْرُ القَلبِ، وأمَّا ذِكْرُ اللِّسانِ مجرَّدًا عن ذِكْرِ القَلبِ، فإنَّه ناقِصٌ؛ فلم يَقُلْ سُبحانه: (مَن أمسَكْنا لِسانَه عن ذِكرِنا)، بل قال: مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا؛ فالذِّكْرُ النافعُ هو ذِكْرُ القَلبِ .
10- قال الله تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا في هذه الآية إشارةٌ إلى أهميَّةِ حُضورِ القَلبِ عندَ ذِكْرِ اللهِ، وأنَّ الإنسانَ الذي يَذْكُرُ اللهَ بلسانِه، لا بقَلبِه، تُنزَعُ البركةُ مِن أعمالِه وأوقاتِه، حتى يكونَ أمرُه فُرُطًا عليه؛ تجدُه يبقَى السَّاعاتِ الطويلةَ ولم يُحَصِّلْ شيئًا، ولكن لو كان أمرُه مع الله لحصَلَتْ له البركةُ في جميعِ أعمالِه .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ يدُلُّ على أنَّ شَرَّ أحوالِ الإنسانِ أن يكونَ قَلبُه خاليًا عن ذِكرِ الحَقِّ، ويكونَ مملوءًا مِن الهوى الدَّاعي إلى الاشتغالِ بالخَلقِ .
12- قولُه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا فيه تَنبيهٌ على أنَّ الباعثَ لهم إلى استدعاءِ الطردِ: غفلةُ قلوبِهم عن جنابِ الله تعالى شأنُه، وملاحظةِ المعقولاتِ، وانهماكُهم في المحسوساتِ، حتَّى خفِيَ عليهم أنَّ الشَّرفَ بحِلْيةِ النَّفسِ لا بزِينةِ الجسَدِ
.
الفوائد العلمية واللطائف:
1- قولُه تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، أي: مِن البشرِ، وإلَّا فاللهُ يُبدِّلُها؛ قال تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106] ، وقال: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ... الآيةَ
[النحل: 101] .
2- قال الله تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ في إضافةِ الرَّبِّ إلى الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دَليلٌ على أنَّ ما أوحاه اللهُ إلى رَسولِه من تمامِ عِنايتِه به .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ بُني فِعلُ (أُوحي) للمفعولِ؛ لأنَّ الخِطابَ مع النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وهو على القَطعِ بأنَّ الموحِيَ إليه هو اللهُ سُبحانَه وتعالى .
4- قال الله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ في الآيةِ إثباتُ الوَجهِ لله تعالى، وقد أجمعَ سلَفُ الأمَّةِ، وعُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ على ثُبوتِ الوَجهِ لله تعالى، بدَلالةِ الكِتابِ والسُّنةِ على ذلك؛ قال الله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 27]، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أعوذُ بوَجهِك )) .
5- قَولُه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فيه دَلالةٌ على أنَّ الدعاءَ بالغَدواتِ والعَشِيَّاتِ أفضَلُ وأجدَرُ بالإجابةِ .
6- في قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ دَلالةٌ على أنَّ الاستبدالَ بمجالسةِ صالحي الفقراءِ مجالسةَ طالحي الأغنياءِ، مَعصيةٌ، وإنْ لم يعملِ المُستبدِلُ بأعمالِهم .
7- في قَولِه تعالى: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إشارةٌ إلى أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لو فارَقَهم -هؤلاء الذين يَدْعُونَ اللهَ- لِمَصلحةٍ دينيَّةٍ؛ لم يدخُلْ هذا في النَّهيِ .
8- قولُه تعالى: أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ فيه دَليلٌ على أنَّ ما يَعرِضُ للعَبدِ مِن غَفلةٍ ومعصيةٍ، إنَّما هو بمشيئةِ الله تعالى؛ إذ لا يقَعُ شَيءٌ البتَّةَ كائِنًا ما كان إلَّا بمشيئتِه الكونيَّةِ القَدَريَّةِ -جلَّ وعلا- وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا [الأنعام: 107] ، وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة: 13] ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ [الأنعام: 35] ، خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] ، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام: 25] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ الدالَّةِ على أنَّ كُلَّ شيءٍ مِن خيرٍ وشَرٍّ، لا يقَعُ إلَّا بمشيئةِ خالقِ السَّمواتِ والأرضِ .
9- في قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ؛ لقَولِه تعالى: أَغْفَلْنَا -ولم يقُلْ: (غَفَلوا)-، ثمَّ قال: وَاتَّبَعَ هَوَاهُ -ولم يقلْ: (وأتبَعْناه هواه)-، ففيه أكبرُ الدليلِ على أنَّ إضافةَ أفعالِهم إليهم في مواضِعِ الإضافةِ في القُرآنِ غيرُ دافعٍ فِعْلَه بهم وإرادتَه فيهم؛ إِذْ قد يُجْمَعُ بينهما في حَرفٍ واحدٍ كما ترى .
10- قولُه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا هذا نَهيٌ جامعٌ عن مُلابَسةِ شَيءٍ ممَّا يأمُرُه به المُشرِكون، والمقصودُ من النَّهيِ تأسيسُ قاعدةٍ لأعمالِ الرَّسولِ والمُسلِمين تُجاهَ رغائبِ المُشرِكين، وتأييسُ المُشرِكين من نَوالِ شَيءٍ ممَّا رَغِبوه من النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ يدُلُّ على أنَّ صُدورَ الفِعلِ عن الفاعِلِ بدونِ القَصدِ والدَّاعي، مُحالٌ .
12- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ هذه الصيغةُ تهديدٌ ووعيدٌ، وليست بتخييرٍ، وذلك يدُلُّ على أنَّ صِيغةَ الأمرِ لا لمعنى الطَّلَبِ في كتابِ اللهِ كثيرةٌ .
13- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ الآيةُ تدُلُّ على أنَّه تعالى لا ينتَفِعُ بإيمانِ المؤمنينَ ولا يستَضِرُّ بكُفرِ الكافرينَ، بل نَفعُ الإيمانِ يعودُ إليهم، وضرَرُ الكُفرِ يَعودُ عليهم، كما قال تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء: 7] .
14- قَولُ اللهِ تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ فيه سؤالٌ: هل في هذا إباحةُ الكُفرِ؟
الجواب: لا؛ فالأَمْرُ في قوله تعالى: فَلْيَكْفُرْ للتهديد وليس للإباحة! كما يُهَدِّدُ الإنسانُ غيرَه فيقول: «إنْ كنتَ صادقًا فافعلْ كذا»، ويدلُّ عليه قولُه تعالى بعده: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا يعني: مَن كَفَرَ؛ فله النارُ قد أُعِدَّتْ ، وهذا بِناءً على أن الضَّميرَ في (شاء) لـ (مَن)، وعليه الجُمهورُ.
وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّ مَن شاء اللهُ إيمانَه آمنَ، ومن شاء كُفرَه كفَرَ، بناءً على أنَّ الضميرَ فيه (لله) ، وكأنَّه لمَّا كان الإيمانُ والكُفْرُ تابعيْنِ لمَشيئةِ اللهِ، جاء بصِيغَةِ الأمْرِ، حتَّى كأنَّه تحتَّمَ وُقوعُه، مأمورٌ به، مطلوبٌ منه
.
بلاغة الآيات:
1- قولُه تعالى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا
- الأمْرُ في قولِه: وَاتْلُ كِنايةٌ عن الاستمرارِ. ومَا أُوحِيَ مُفيدٌ للعُمومِ، أي: كلَّ ما أُوحِيَ إليك، ومفهومُ الموصولِ: أنَّ ما لم يُوحَ إليه لا يَتْلوه
.
- قولُه: لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ لَا مُبَدِّلَ عامٌّ، ولِكَلِمَاتِهِ عامٌّ أيضًا؛ فالتَّخصيصُ إمَّا في لَا مُبَدِّلَ، أي: لا مُبدِّلَ له سِواهُ، ألَا ترى إلى قولِه: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ [النحل: 101] . وإمَّا في كَلِمَاتِهِ، أي: لكلماتِه المُتضمِّنةِ الخبرَ؛ لأنَّ ما تضمَّنَ غيرَ الخبرِ وقَعَ النَّسخُ في بعْضِه .
- قولُه: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا فيه مَجيءُ مُلْتَحَدًا بصِيغَةِ الافتعالِ؛ لأنَّ أصْلَه تكلُّفُ الميْلِ، ويُفْهَمُ من صِيغَةِ التَّكلُّفِ أنَّه مَفَرٌّ من مَكروهٍ، يتكلَّفُ الخائفُ أنْ يأوِيَ إليه؛ فلذلك كان المُلتحَدُ بمعنى الملجَأِ، والمقصودُ من هذا تأييسُهم ممَّا طَمِعوا فيه .
2- قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
- قولُه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ (مع) تَقْتضي الصُّحبةَ والمُوافقةَ، والأمْرُ بالصَّبرِ هنا يظهَرُ منه كبيرُ اعتناءٍ بهؤلاء الَّذينَ أُمِرَ أنْ يصبِرَ نفْسَه معهم .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث قال في سُورةِ الأنعامِ: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] ؛ وذلك أنَّ سادةَ المُشركينَ كانوا زعَموا أنَّه لولا أنَّ مِن المُؤمِنين ناسًا أهْلَ خَصاصةٍ في الدُّنيا، وأرقَّاءَ لا يُدانونهم ولا يستأْهِلونَ الجُلوسَ معهم؛ لأتَوْا إلى مُجالَسةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ، واسْتَمعوا القُرآنَ، فاقْتَرحوا عليه أنْ يطرُدَهم مِن حولِه إذا غشِيَه سادةُ قُريشٍ؛ فرَدَّ اللهُ عليهم بما في سُورةِ الأنعامِ، وما هنا في هذه السُّورةِ آكَدُ؛ إذ أمَرَه بمُلازمتِهم بقولِه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ، ولتَضمينِ فعْلِ (اصْبِر) معنى المُلازَمةِ عُلِّقَ به ظرْفُ (مع) .
- قولُه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ والتَّعبيرُ عنهم بالموصولِ الَّذِينَ؛ للإيماءِ إلى تَعليلِ الأمْرِ بمُلازمتِهم، أي: لأنَّهم أحرياءُ بذلك؛ لأجْلِ إقبالِهم على اللهِ، فهم الأجدرُ بالمُقارَنةِ والمُصاحبةِ .
- قولُه: الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ فيه تخصيصُ الغداةِ والعشيِّ بالذِّكرِ؛ لأنَّ العربَ إذا أرادَتِ الدوامَ أطْلَقَتِ الليلَ والنهارَ، والغداةَ والعشيَّ، يَعْنُونَ أنَّهم دائمونَ على ذلك، أو: لأنَّ أولَ النهارِ وآخِرَهُ من أفضلِ الأوقاتِ التي تُنْتَهَزُ فيها فرصةُ العباداتِ .
- قولُه: وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ جِيءَ بقولِه: عَيْنَاكَ والمقصودُ هو؛ لأنَّهما بهما تكونُ المُراعاةُ للشَّخصِ والتَّلفُّتُ له، والمعنى: ولا تَعْدُ أنت عنهم النَّظرَ إلى غيرِهم . وفيه تأكيدُ الأمْرِ بمُواصلتِهم بالنَّهيِ عن أقَلِّ إعراضٍ عنهم، وظاهِرُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ نهْيُ العينينِ عن أنْ تَعْدُوَا عن الَّذين يَدْعون ربَّهم، والمقصودُ: الإعراضُ؛ ولذلك ضُمِّنَ فعْلُ العَدوِ معنى الإعراضِ؛ فعُدِّيَ إلى المفعولِ بـ (عن)، وكان حَقُّه أنْ يتعدَّى إليه بنفْسِه، أو ضُمِّن معنى (نَبا) و(علا)، والغرضُ في هذا التَّضمينِ -وعدَمِ قولِه مثلًا: (ولا تَعْدُهم عيناكَ)، أو: (ولا تعْلُ عيناكَ عنهم)- إعطاءُ مجموعِ مَعنيينِ، وذلك أقوى من إعطاءِ معنًى فردٍ؛ إذ المعنى هنا: ولا تَقْتحِمْهم عيناكَ مُجاوِزَتينِ إلى غيرِهم .
- قولُه: تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فيه تَعريضٌ بحَماقةِ سَادةِ المُشرِكين الَّذين جعَلوا همَّهم وعِنايتَهم بالأُمورِ الظَّاهرةِ، وأهْمَلوا الاعتبارَ بالحقائقِ والمَكارمِ النَّفسيَّةِ، فاسْتَكبروا عن مُجالَسةِ أهْلِ الفضلِ والعُقولِ الرَّاجحةِ والقُلوبِ النَّيِّرةِ، وجَعَلوا هَمَّهم الصُّورَ الظَّاهرةَ .
- في قولِه: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عبَّرَ عنهم بالموصولِ مَنْ أَغْفَلْنَا؛ للإيذانِ بعِلِّيةِ ما في حيِّزِ الصِّلةِ للنَّهيِ عن الإطاعةِ .
- قولُه: وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا فيه زِيادةُ فعْلِ الكونِ؛ للدَّلالةِ على تمكُّنِ الخبرِ من الاسمِ، أي: حالةَ تمكُّنِ الإفراطِ والاعتداءِ على الحقِّ .
3- قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا
- التَّعبيرُ بـ رَبِّكُمْ للتَّذكيرِ بوُجوبِ تَوحيدِه .
- قولُه: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إمَّا من تَمامِ القولِ المأمورِ به، والفاءُ لتَرتيبِ ما بعدها على ما قبْلَها بطَريقِ التَّهديدِ، لا لتَفريعِه عليه، كما في قولِه تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص: 39] ، وقولِه تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة: 147] ، أي: عَقِيبَ تحقُّقِ أنَّ ما أُوحِيَ إليَّ حَقٌّ لا ريبَ فيه، وأنَّ ذلك الحقَّ من جِهَةِ ربِّكم؛ فمَن شاء أنْ يُؤمِنَ به، فلْيُؤْمِنْ كسائرِ المُؤمِنين، ولا يتعلَّلْ بما لا يكادُ يصلُحُ للتَّعليلِ، ومَن شاء أنْ يكفُرَ به فلْيفعَلْ، وفيه من التَّهديدِ وإظهارِ الاستغناءِ عن مُتابعتِهم، وعدَمِ المُبالاةِ بهم وبإيمانِهم وُجودًا وعدَمًا: ما لا يَخْفى. وإمَّا تَهديدٌ من جِهَةِ اللهِ تعالى، والفاءُ لتَرتيبِ ما بعدَها من التَّهديدِ على الأمْرِ، لا على مَضمونِ المأمورِ به، والمعنى: قُلْ لهم ذلك، وبعدَ ذلك مَن شاء أنْ يُؤمِنَ به أو أنْ يُصدِّقَك فيه، فلْيُؤمِنْ، ومَن شاء أنْ يكفُرَ به أو يُكذِّبَك فيه، فلْيفعَلْ .
- والأمْرُ في قولِه: فَلْيُؤْمِنْ وقولِه: فَلْيَكْفُرْ؛ للتَّسويةِ المُكنَّى بها عن الوعدِ والوعيدِ. وقُدِّمَ الإيمانُ على الكُفرِ؛ لأنَّ إيمانَهم مَرغوبٌ فيه. وفِعْلا (يُؤمِن، ويَكفُر) مُستعملانِ للمُستقبَلِ، أي: مَن شاء أنْ يُوقِعَ أحدَ الأمرينِ، ولو بوجْهِ الاستمرارِ على أحدِهما المُتلبِّسِ به الآنَ؛ فإنَّ العزْمَ على الاستمرارِ عليه تَجديدٌ لإيقاعِه .
- وجُملةُ: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ ما دَلَّ عليه الكلامُ من إيكالِ الإيمانِ والكُفْرِ إلى أنفُسِهم، وما يُفيدُه من الوعيدِ، كِلاهما يُثيرُ في النُّفوسِ أنْ يقولَ قائلٌ: فمَاذا يُلاقي مَن شاء، فاستمَرَّ على الكُفْرِ؟ فيُجابُ بأنَّ الكُفْرَ وخيمُ العاقبةِ عليهم . وتنكيرُ نَارًا؛ للتَّهويلِ والتَّعظيمِ .
- قولُه: إِنَّا أَعْتَدْنَا... فيه وعيدٌ شَديدٌ، وتأكيدٌ للتَّهديدِ، وتَعليلٌ لِما يُفيدُه من الزَّجْرِ عنِ الكُفْرِ، أو لِما يُفْهَمُ من ظاهرِ التَّخييرِ؛ من عدَمِ المُبالاةِ بكُفْرِهم، وقِلَّةِ الاهتمامِ بزجْرِهم عنه؛ فإنَّ إعدادَ جزائِه مِن دواعي الإملاءِ والإمهالِ، وعلى القولِ بأنَّه مِن تمامِ القولِ المأمورِ بهِ فهو تَعليلٌ للأمْرِ بما ذُكِرَ من التَّخييرِ التَّهديديِّ، أي: قُلْ لهم ذلك .
- والتَّعبيرُ عنهم بـ الظَّالِمِينَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ مَشيئةَ الكُفْرِ واختيارَه تَجاوزٌ عن الحدِّ، ووضْعٌ للشَّيءِ في غيرِ مَوضعِه. وأُوثِرَت صِيغَةُ الماضي في قولِه: أَحَاطَ؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ .
- وفي قولِه: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا تَشبيهٌ مُؤكِّدٌ؛ فقد شبَّهَ النَّارَ المُحيطةَ بهم بالسُّرادقِ المضروبِ على مَن يَحتويهم، وأُضِيفَ السُّرادِقُ إلى النَّارِ؛ فذلك هو التَّشبيهُ المُؤكِّدُ، وهو أنْ يُضافَ المُشبَّهُ إلى المُشبَّهِ به .
- قولُه: يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ فيه تهكُّمٌ، حيث سمَّى أعلَى أنواعِ العَذابِ إغاثةً -والإغاثةُ هي الإنقاذُ من العذابِ-؛ تهكُّمًا بهم وتَشفِّيًا منهم، والتَّهكُّمُ فنٌّ طريفٌ من فُنونِهم، وهو من تَأكيدِ الشَّيءِ بما يُشْبِهُ ضِدَّه. والتَّشبيهُ في قولِه: كَالْمُهْلِ في سَوادِ اللَّونِ وشِدَّةِ الحرارةِ، فلا يَزيدُهم إلَّا حرارةً؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه: يَشْوِي الْوُجُوهَ، وهو استئنافٌ ابتدائيٌّ .
- وقيل: أتى قولُه: يُغَاثُوا على سَبيلِ المُقابَلةِ لقولِه: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا، وإلَّا فليست إغاثةً .
- قولُه: يَشْوِي الْوُجُوهَ فيه اختصاصُ الوُجوهِ بهذا؛ لكونِها عندَ شُربِهم يقرُبُ حرُّها من وُجوهِهم. وقيل: عُبِّرَ بالوُجوهِ عن جميعِ أبدانِهم .
- وجُملةُ: بِئْسَ الشَّرَابُ مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ؛ لتَشنيعِ ذلك الماءِ مَشروبًا كما شُنِّعَ مُغتَسلًا، والمخصوصُ بذَمِّ (بئْس) محذوفٌ، دَلَّ عليه ما قبْلَه، والتَّقديرُ: بئْسَ الشَّرابُ ذلك الماءُ .
- وجُملةُ: وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا معطوفةٌ على جُملةِ: يَشْوِي الْوُجُوهَ، فهي مُستأنَفةٌ أيضًا لإنشاءِ ذَمِّ تلك النَّارِ بما فيها، وشأْنُ المُرتفَقِ أنْ يكونَ مكانَ استراحةٍ؛ فإطلاقُ ذلك على النَّارِ تهكُّمٌ، كما أُطْلِقَ على ما يُزادُ به عذابُهم لفظُ الإغاثةِ، وكما أُطْلِقَ على مكانِهم السُّرادقُ ؛ فهو لمُقابَلةِ ومُشاكَلةِ قولِه: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا، وإلَّا فلا ارتفاقَ لأهْلِ النَّارِ
========================
سورةُ الكَهفِ
الآيتان (30-31)
ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ
غريب الكلمات:
أَسَاوِرَ: جمعُ أسورةٍ، وأسورةٌ جمعُ سِوارٍ، وهو الذي يُلبَسُ في الذِّراعِ مِن ذهبٍ
.
سُنْدُسٍ: أي: رَقيقِ الحَريرِ .
وَإِسْتَبْرَقٍ: أي: غليظِ الحريرِ .
الْأَرَائِكِ: أي: جمعُ أريكةٍ، وهي السريرُ في الحجالِ ، وأصلُ (أرك) هنا: إقامةٌ، سُمِّيت بذلك؛ لكونِها مكانًا للإقامةِ
.
المعنى الإجمالي:
يبينُ الله تعالى حسنَ عاقبةِ المؤمنينَ، فيقولُ: إنَّ الذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ، إنَّا لا نُضيعُ أجورَهم ولا نَنقُصُها؛ لأنَّهم أحسَنوا عَمَلَهم، أولئك لهم جنَّاتُ إقامةٍ دائمةٍ، تجري مِن تحتِ غُرَفِهم ومَنازِلِهم وأشجارِهم الأنهارُ العَذبةُ، يُحَلَّونَ فيها مِن أساوِرِ الذَّهبِ، ويَلْبَسونَ ثيابًا خَضراءَ مِن حريرٍ رَقيقٍ وغَليظٍ، يتَّكِئونَ فيها على الأسِرَّةِ المُزينةِ المغطَّاةِ بقُبَّةٍ مِن الثِّيابِ الفاخِرةِ، نِعْمَ الثوابُ تلك الجنَّاتُ، وحَسُنت مَنزِلًا ومَقرًّا لهم!
تفسير الآيتين