الأحد، 21 يناير 2024

مختصر التحفة الاثني عشرية

 



مختصر التحفة الاثني عشرية

 

تقديم

 

 

مقدمة المختصر السيد محمود شكري الآلوسي

 

 

الباب الأول في ذكر فرق الشيعة وبيان أحوالهم وكيفية حدوثهم وتعداد مكائدهم

 

 

الباب الثاني في بيان أقسام أخبار الشيعة وأحوال رجال أسانيدهم وطبقات أسلافهم وما يتبع ذلك في بيان أقسام أخبار الشيعة وأحوال رجال أسانيدهم وطبقات أسلافهم وما يتبع ذلك

 

 

الباب الثالث في الإلهيات

 

 

الباب الرابع في النبوة

 

 

الباب الخامس في الإمامة

 

 

الباب السادس في بعض عقائد الإمامية المخالفة لعقائد أهل السنة

 

 

الباب السابع في الأحكام الفقهية

 

 

الباب الثامن مطاعنهم في الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة المكرمين وحضرة الصديقة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم أجمعين

 

 

الباب التاسع في ذكر ما اختص بهم ولم يوجد في غيرهم من فرق الإسلام

 

 

خاتمة

 

[ معلومات الكتاب - فهرس المحتويات ]

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

ـ[مختصر التحفة الاثني عشرية]ـ

ألّف أصله باللغة الفارسية: علامة الهند شاه عبد العزيز غلام حكيم الدهلوي

نقله من الفارسية إلى العربية: (سنة 1227 هـ) الشيخ الحافظ غلام محمد بن محيي الدين بن عمر الأسلمي

اختصره وهذبه: (سنة 1301 هـ) علامة العراق محمود شكري الألوسي

حققه وعلق حواشيه: محب الدين الخطيب

الناشر: المطبعة السلفية، القاهرة

عام النشر: 1373 هـ

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]

__________

(تنبيه): بالنسخة الإلكترونية هوامش كثيرة زيادة على هوامش المطبوعة

(/)

________________________________________

تقديم

- بسم الله الرحمن الرحيم -

الحمد لك اللهم لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد، وعلى أصحاب سيدنا محمد وعلى أزواج سيدنا محمد، وسلم تسليما كثيرا.

وبعد فإن الإسلام امتاز على أنظمة الدين والدنيا جميعا بكماله، ووفائه بحاجة المجتمع الإنساني ليكون به سعيدا في كل زمان ومكان، كما أمتاز بحفظ الله له - في أصليه الأصيلين: القرآن الحكيم والحديث النبوي - بما لم يسبق له نظير في كل هداية عرفها البشر.

والمسلمون الأولون - الذين تولى الهادي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - تربيتهم وتوجيههم وإعدادهم للاضطلاع بمهمة الإسلام العظمى - كانوا المثل الكامل للعمل بالإسلام: في إيمانهم، وطاعتهم لله، وأخلاقهم الكريمة، وسياستهم الحكيمة، وفتوحهم الرحيمة، وتكوينهم المجتمع الإسلامي الصالح، والدولة الإنسانية المثاليّة. وقد كافأهم الله على ذلك بانتشار رسالته على أيديهم، وذيوع دعوته بين الأمم اقتداء بهم، واتباعا لهم.

ولما تخطت رسالة الإسلام حدود الجزيرة العربية المباركة - فدخلت العراق وإيران شرقا، والشام شمالا، ومصر وإفريقية غربا - كان ذلك سعادةً للخيار من أهل البلاد المفتوحة، وغذاء لعقولهم، وبهجةً وحبورا تطمئن بهما قلوبهم. وشجى للأشرار منهم، وغصةً في حلوقهم، ومبعث إحنةٍ وغلٍّ تسمّمت بهما دماؤهم وأرواحهم.

(مقدمة/3)

________________________________________

إن الأخيار من طبقات سالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، فالحسن البصري، وعبد الله بن المبارك، فمحمد بن إسماعيل البخاري، وأبي حاتم الرازي، وابنه عبد الرحمن، وأندادهم وتلاميذهم، استقبلوا هداية الإسلام السليمة الأصلية بأرواحهم وعقولهم، وفتحوا لها أبوابهم وصدورهم، وأحلوا لغتها محلَّ لغاتهم، وعملوا بسننها بدلا من سننهم، ونسخوا بإيمانها كل ما كانوا - أو كان آباؤهم - عليه من قبل. فساهموا في حفظ كتاب الله وسنة رسوله الأعظم، وحرصوا على فهمها كما كان يفهمها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل ومن ائتم بهم وسار على منهاجهم، حتى صاروا بنعمة الله إخوانا للمسلمين كصالحي المسلمين، وأئمة المسلمين كسائر أئمة المسلمين.

وإن الأشرار من طبقة الهُرمُزان، وعبد الله بن سَبَأ، وعبد الله بن يسار، وأبي بكر الكرُّوس، ورُشيد الهجريّ، ومحمد بن أبي زينب، والأحول الخبيث شيطان الطاق، وجهم بن صفوان، وتلميذه هشام بن الحكم الذي كان غلاما لأبي شاكر الديصاني، وهشام الآخر وهو ابن سالم الجواليقي وكان يقول إن الله جسم ذو أبعاد ثلاثة، والأحوص أحمد ابن إسحاق القمي الذي اخترع لشيعة عصره عيد بابا شجاع الدين، (1) وبنو أعين: زرارة وبكير وحمران وعيسى وعبد الجبار، والمفضل بن عمر الذي وصفه جعفر الصادق بأنه كافر ومشرك وعده قدماء الشيعة من الغلاة، ثم جاء شيعة عصرنا ينافحون عنه ويعتذرون له بأن ما كان يعده قدماؤهم غلوا أصبح اليوم من ضروريات التشيع في شكله الحاضر (انظر كتابهم تنقيح المقال للمامقاني 3: 240 - 241) وهذا اعتراف علمي في أهم كتبهم في الجرح والتعديل بأنهم الآن كلهم غلاة كما كان المفضل بن عمر الذي وصفه جعفر الصادق بالكفر والإشراك، وإعلان منهم بأن المذهب الشيعي استقر الآن على ذلك الغلو، وكل ما كان يعد في السابق غلوا فهو اليوم من ضروريات المذهب.

_________

(1) هو لقب لقبوا به أبا لؤلؤة اللعين قاتل أمير المؤمنين عمر.

(مقدمة/4)

________________________________________

إن الأشرار ممن سمينا، وألوفا كثيرة من أمثالهم، قد أبغضوا من صميم قلوبهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأحبابه وأعوانه على الحق، لأنهم أطفأوا نار المجوسية إلى الأبد، وأدخلوا إيران في نطاق دولة الإسلام، وأقاموا المسجد الأقصى على أنقاض الهيكل. فهذا (الذنب) الذي ارتكبه نحو المجوسية واليهودية أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وأبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص ويزيد ومعاوية ابنا أبي سفيان، وسائر إخوانهم من الفاتحين والصالحين، لن ينساه لهم مبغضوهم من اليهود والمجوس. وقد قاوم أسلافهم زحف الإسلام وامتداد رسالته بأسلحتهم ودسائسهم جيشا لجيش، وجهادا لجهاد، ومعركة بعد معركة، حتى هزمهم الله في كل موقف، وخذلهم في كل ملحمة. فباتوا ينتظرون الفرص السانحة، ويترقبون للمسلمين الأولين ما يترقبه المبطلون لأهل الحق في كل زمان ومكان. فلما لم ينالوا منهم شيئا، وطالت عليهم خلافة أمير المؤمنين عمر، واتسعت الفتوح في زمنه، وانتشرت كلمة الإسلام في آفاق مترامية الأطراف، تآمروا حينئذ على سفك دم عمر وهو حمو رسول الله أبو أم المؤمنين حفصة، وصهر علي بن أبي طالب زوج بنته أم كلثوم الكبرى التي ولدت له ابنه زيدا وبنته رقية، وأم كلثوم بنت علي هي التي كانت في بيت أمير المؤمنين عمر لما تآمر على قتله الهرمزان وأبو لؤلؤة وغيرهما. ولا يزال الشيعة إلى اليوم مسرورين بما ساء عليا وبنته أم كلثوم وسائر أهل البيت من سفك دم أعدل من حكم في الأرض بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار المجاور لهما في المدفن النبوي الطاهر جوارا لا ينقطع في الدنيا ولا الآخرة. وقد ظن المجوس الذين قتلوا عمر أنهم قد قتلوا الإسلام بقتله، ولكنهم ما لبثوا أن علموا أنهم باءوا من هذه بمثل الذي باءوا به من تلك، وحفظ الله رسالته، وحاط دعوة الحق بعين عنايته وجميل رعايته، وعادت جيوش الإسلام في خلافة ذي النورين توغل فيما وراء إيران، وتفتح لكلمة الله آفاقا أخرى متجاوزة الحد المنيع الذي كانوا يسمونه «باب الأبواب»، فلم تكن على وج الأرض يومئذ - ولا في العصر التالية إلى يوم القيامة - رايات تخفق بالنصر والعدل والرحمة كهذه الرايات النيرة الظافرة.

(مقدمة/5)

________________________________________

حينئذ أيقن المجوس واليهود أن الإسلام إذا كان إسلاما محمديا صحيحا لا يمكن أن يحارب وجها لوجه في معارك شريفة سافرة، ولا سبيل إلى سحقه باغتيال أئمته وعظمائه. فأزمعوا الرأي أن يظاهروا بالإسلام، وأن ينخرطوا في سلكه، وأن يكونوا (الطابور الخامس) في قلعته. ومن ذلك الحين رسموا خطتهم على أن يحتموا بحائط يقاتلون من ورائه الرسالة المحمدية وأهلها الأولين، فتخيروا اسم «علي» ليتخذوه ردءا لهم. وأول من اختار ذلك لهم يهوديٌّ ابن يهودي من أخبث من ولدتهم نساء اليهود منذ عبدوا العجل في زمن موسى إلى أن اخترعوا الفكرة الصهيونية في الزمن الأخير.

نقل المامقاني في كتابهم تنقيح المقال (2: 184) عن الكشي رأس علمائهم في الجرح والتعديل ما نصه: «وذكر أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا، وكان يقول - وهو على يهوديته - في يوشع بن نون (وصي موسى)، فقال في إسلامه في علي مثل ذلك وكان (أي عبد الله بن سبأ) أول من شهر القول بإمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه (ومراد الكشي من أعداء علي إخوانه وأحبابه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، وكاشف مخالفيه وكفرهم. فمن هنا قال من خالف الشيعة: إن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهود». انتهى كلام الكشى إمام الشيعة في الجرح والتعديل ومؤرخ الرواية والرواة في نحلتهم، وما ينبئك مثل خبير.

وعبد الله بن سبأ كان ملعونا على لسان علي بن أبي طالب سلام الله عليه، ودعوته كانت مرذولة فيما كان يدين الله به كرم الله وجهه، وقد طارد هذا الملعون وحرق بالنار من وصلت إليهم يده من أصحابه ودعاته، وهذا هو المنتظر من إمام صالح راشد طالما خطب على منبر الكوفة فقال على رؤوس الأشهاد: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر» روي ذلك عنه من ثمانين وجها ورواه البخاري وغيره، وكان كرم الله وجهه يقول «لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري». ولما بلغت الجرأة والفجور باثنين من المتسممين بسموم عبد الله بن سبأ - ويقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله - فنالا

(مقدمة/6)

________________________________________

من أم المؤمنين عائشة سلام الله عليها، أمر علي القعقاع بن عمرو - رضي الله عنهما - بأن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة، وأن يجردهما من ثيابهما ففعل. وكان ذلك بعد وقعة الجمل.

هذا هو علي في صورته التاريخية الثابتة عنه بأوثق ما ثبتت حقائق الماضي، وهو غير علي في صورته الوهمية الكاذبة التي يصوره بها الشيعة على أنه مراءٍ جبان يمدح إخوانه الصحابة تقيةً ونفاقا ويضمر لهم البغضاء حسدا وأنانية. إن عليا أسمى من ذلك وأكرم عند الله. وصورته الصادقة هي التي ثبتت برواية الصادقين عن الصادقين من رواة أئمة السنة الأعلام الذين يخافون الله واليوم الآخر ويحبون عليا وآله حبا معقولا سليما من الآفات، ويحفظون لهم كل كرامة وفضيلة. والصورة التي يصوره بها كذبا مجوس هذه الأمة وتلاميذ اليهودي عبد الله بن سبأ صورة متناقضة جمعت بين تأليه علي ونعته بأحط النعوت وأسوإها. ولم يكن كل شيعة علي في زمن علي من هذا الطراز، بل كان فيهم كرام الصحابة وصالحو المؤمنون، والتحق بهم واندس في صفوفهم الكفرة والحمقى والغلاة وضعاف العقول والكاذبون في إسلامهم، ومنهم أُتي رضوان الله عليه، وهؤلاء هم الذين عاقوا هذا الإمام الأعظم عن أن يكون كما يحبه لنفسه وما يحبه الله له من نشر دعوة الله في آفاق أخرى لم تصل إليها دعوة الإسلام، وشغلوه بحمايتهم قتلة عثمان، وإن كان طالما أعلن لعنتهم على مسمع منهم وهم في كتائب جيشه، أو في صفوف المصلين تحت منبره في مسجد الكوفة.

إن هذا الطراز الضال المريب من شيعة علي في زمن علي كثيرون وكثيرون، وهم الذين كان علي يشكوهم ويتبرأ منهم، وكتاب نهج البلاغة ملئ بذمهم والزراية عليهم. وإن موقفهم من ابنه الحسن معروف في التاريخ، حتى لقد تجرأوا على إسالة دمه من جسمه الشريف بغيا عليه ونذالة منهم وكفرا، وهم الذين أغروا أخاه الحسين ودعوه من بلده إلى بلدهم، ثم تولوا بأيديهم سفك دمه الطاهر، وبعد مقتله خرجوا يستقبلون آله بعيون باكية.

نقل علامة الشيعة في هذا العصر الشيخ هبة الدين الشهرستاني ما رواه الجاحظ عن خزيمة السدي قال: دخلت الكوفة فصادفت منصرف علي بن الحسين بالذرية من

(مقدمة/7)

________________________________________

كربلاء إلى ابن زياد، ورأيت نساء الكوفة يومئذٍ قياما يندبن متهتكات الجيوب، وسمعت علي بن الحسين وهو يقول بصوت ضئيل - وقد نحل من شدة المرض -:

«يا أهل الكوفة، إنكم تبكون علينا، فمن قتلنا غيركم؟»

ورأيت زينب بنت علي - عليه السلام -، فلم أرَ والله خفرة أنطق منها بيانا، قالت: «يا أهل الكوفة، يا أهل الختر والخذل! فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرنة. إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم. ألا وهل فيكم إلا الصلف والشنف، وملق الإماء وغمز الأعداء؟ وهل أنتم إلا كمرعي على دمنة، أو كغضة على ملحودة؟ ألا ساء ما قدمت أنفسكم. أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون؟ أي والله فابكوا، وإنكم والله أحرياء بالبكاء. فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا، فلقد فزتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا».

ونقل عالمهم المامقاني في تنقيح المقال (1: 38) عن إمامهم الكشي بسندٍ رجاله كلهم من الشيعة أن بريدا العجلي قال: كنت أنا وأبو الصباح الكناني عند أبي عبد الله (أي جعفر الصادق) فقال: «كان أصحاب أبي خيرا منكم، كان أصحاب أبي ورقا لا شوك فيه، وأنتم شوك لا ورق فيه». فقال أبو الصباح: جعلت فداك، فنحن أصحاب أبيك! قال: «كنتم يومئذ خيرا منكم اليوم».

وبعده في الكتاب نفسه خبر آخر بأن أبا الصباح هذا الذي كان من كبار شيعة الصادق وأبيه الباقر قد عبث بثدي جارية ناهد خرجت له من منزل إمامه الباقر، فأنبّه على ذلك

ونقل المامقاني (2: 8) في ترجمة سدير بن حكيم الصيرفي عن آخر كتاب الروضة من (الكافي) عن المعلى قال: ذهبت بكتاب عبد السليم بن نعيم وسدير وغير واحد (أي وغير واحد من شيعة جعفر الصادق) إلى أبي عبد الله (وهو جعفر الصادق) ... فضرب بالكتاب الأرض ثم قال: «أف، أف، ما أنا لهؤلاء بإمام».

(مقدمة/8)

________________________________________

وفي ميزان الاعتدال للحافظ الذهبي (10: 347) أن جعفر الصادق قال لابن السماك: «إن زرارة بن أعين من أهل النار». وزرارة بن أعين هذا ممن يروي عنهم الكليني في الكافي نصيبا كبيرا من الأحاديث التي يكذبونها على آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعتبرونها دينا.

ومن أعلامهم أبو بصير الذي كذب على جعفر الصادق فادعى أنه سمع منه قوله «وإن عندنا لمصحف فاطمة، مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم هذا حرف واحد». ومع أن طائفة كبيرة من دينهم وأحاديث بُخاريهم الذي يسمونه (الكافي) مروية عن أبي بصير هذا فإن علماءهم معترفون بأن أبا بصير مطعون في دينه، لكنهم قالوا: «إنه ثقة، والطعن في دينه لايوجب الطعن!» وعلماء الجرح والتعديل عند الشيعة إذا قالوا في رجل منهم «إنه ثقة» لا يريدون من هذا الوصف أنه صادق من أهل العدالة، بقدر ما يريدون منه أنه معتصب لاتجاهاتهم، مبغض للصحابة، مجتهد في النيل منهم، والافتراء عليهم.

وإذا تتبعت تراجم أعلام الشيعة في زمن أئمتهم رأيتهم بين كذابين، وملاحدة، وشعوبيين، وفاسدي العقيدة، ومذمومين من أمتهم، أو عابثين بأثداء جواري أئمتهم، وكل ما يخطر ببالك من نقائص. وسبب ذلك أن دينهم من أصله فاسد، وهل يثمر الدين الفاسد إلا الفساد؟.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (1: 3): «إن أصل هذا المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين الذين عاقبهم في حياته علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فحرق منهم طائفة بالنار وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار، وتوعد بالجلد طائفة مغيرية فيما عرف عنه من الأخبار».

وأخرج الحافظ ابن عساكر (4: 165) أن الحسن المثنى ابن الحسن السبط ابن علي بن أبي طالب سلام الله عليهم قال لرجل من الرافضة: «والله لئن أمكننا منكم لنقطعن

(مقدمة/9)

________________________________________

أيديكم وأرجلكم، ثم لا نقبل منكم توبة». فقال له رجل: لم لا تقبل منهم توبة؟ قال: «نحن أعلم بهؤلاء منكم. إن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في (التقية). ويلك! إن التقية هي باب رخصة للمسلم، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله. وليست باب فضل، وإنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق. وأيم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله».

بل إن جعفرا الصادق دمغهم بكلمته المشهورة التي رواها عنه محمد بن بابويه القمي في كتاب التوحيد، وهي قوله «القدرية مجوس هذه الأمة: أرادوا أن يصفوا الله بعدله، فأخرجوه عن سلطانه». وكم له - عليه السلام - من كلمات فيهم كوى بها أجسادهم لو أن في أجسادهم حياة وشعورا.

والإمام زيد بن علي زين العابدين ابن الحسين (عم جعفر الصادق) من كبار علماء آل البيت وصلحائهم، رُوي عنه في كتاب (الحور العين) لنشوان الحميري ص 185 أن الشيعة لما قالوا له في أبي بكر وعمر «إن برئت منهما وإلا رفضناك» فقال لهم - رضي الله عنه -: الله أكبر، حدثني أبي أن رسول الله (قال لعلي - عليه السلام -: «إنه سيكون قوم يدّعون حبنا، لهم نبز يعرفون به، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون». اذهبوا فأنتم (الرافضة)!.

إن الشيعة كاذبون في مودة علي وأهل البيت، وقد تبرأ منهم علي وبنوه في مواقف لا تحصى. وإن الصالحين من أهل البيت الذين تبغضهم الشيعة وتذمهم أكثر عددا من الذين تتظاهر بحبهم وبالتشيع الكاذب لهم. ومن صالحي آل البيت الذين يبغضون الشيعة وتبغضهم الشيعة سيدنا الإمام زيد بن علي زين العابدين ابن الحسين السبط - رضي الله عنه - وعن آبائه. أما أهل السنة فيرون من السنة أن يحبوا آل البيت جميعا إلا من انحرف منهم عن سنة جدهم - صلى الله عليه وسلم -، ويتحرون الأخبار الصادقة عنهم، ويعرفون لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -

(مقدمة/10)

________________________________________

أقدارهم، ويضعون الناس كلهم في المواضع التي أمر الله أن يكونوا فيها، فلا يرفعونهم فوق بشريتهم، ولا يزعمون لأطفال مولودين يتبولون في حجور أمهاتهم أنهم أعلم من علماء الصحابة وهم في سن الكمال.

وهنالك ميزانان: يستعمل الشيعة أحدهما، ويستعمل أهل السنة المحمدية الميزان الآخر.

فالشيعة أبغضوا أصحاب رسول الله الذين قام الإسلام على أكتافهم، لأن الإسلام قام على أكتافهم، واخترعوا عداوة كاذبة لا أصل لها بين علي وإخوانه في الله. وافتروا على الفريقين حكايات في ذلك سودوا بها صفحات السوء من أسفارهم. وبنوا دعوتهم على أن الحب والبغض في الإسلام ليس لرسالة الإسلام نفسها، بل لأشخاص اخترعوا لهم شخصيات وهمية لا يعرفها التاريخ. ورووا - بألسنة ناس معروفين بالكذب - أقوالا وضعوها على ألسنة أولئك النفر من آل البيت لا صحة لها، ولم تصدر عنهم، وإن العقل والمنطق يكذبانها. ونقضوا قول علي كرم الله وجهه «اعرف الرجال بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال» فسنوا قاعدة «اعرف الحق بما رواه الكذبة عن رجال مخصوصين، ولا تنقد ما نسب إليهم كذبا بعرضه على ميزان الحق وقواعد المنطق». ولما انتهوا من دعوى أنهم شيعة هذا النفر القليل من آل البيت المكذوب عليهم، اخترعوا عداوة جديدة بين آل البيت أنفسهم، فتجاهلوا رقية وأم كلثوم بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهما كانتا زوجتي أمير المؤمنين عثمان الذي بشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة وشهد له بالجنة. وزعموا أن بعض آل البيت أعداء لبعض، إلى أن أسقطوا جميع آل البيت إلا ذلك النفر القليل الذي ثبت حتى في كتب الشيعة أنه كان يلعنهم ويتبرأ منهم. فميزان الشيعة ميزان (شخصيات وهمية) زعموا لها ما ليس للبشر من صفات، وتعصبوا لما اخترعوه هم من مبادئ وعقائد تخالف مبادئ الإسلام وعقائده، رغبة منهم في تبديله والقضاء على رسالة الإسلام.

أما ميزان أهل السنة فهو قول الله عز وجل {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. فاتباع الرسول فيما جاء به هو الميزان عندهم وعند الأئمة الصالحين من

(مقدمة/11)

________________________________________

أهل البيت أيضا، فيه يعرفون عدالة المسلم وصحة إيمانه، وكلما كان المسلم أصدق اتباعا لرسول الله فيما جاء به من الله كان أصح إيمانا وأصدق إسلاما. ومقياس الاتباع عندهم اتباع كتاب الله على ما فهمه الصحابة من رسول الله، واتباع سنته الصحيحة التي لم يمحص البشر أقوال رجلٍ في التاريخ وأعماله كما محص أهل السنة أحاديث هذا النبي الكريم وراقبوا أعماله. ولم يتناول التحقيق الإنساني صدق رواة الخبار أو كذبهم، وأهليتهم لحمل هذه الأمانة أو عدم أهليتهم لذلك، كما حقق ذلك أعلام السنة المحمدية.

هذا ميزان أهل السنة، وذاك ميزان الشيعة. والتشيع معناه العصبية لأشخاص، وأقبح العصبيات العصبية لأشخاص موهومين مكذوبٍ عليهم ومخترعة لهم شخصياتٌ لا تلائم دينهم وأخلاقهم وتقواهم لله عز وجل. وأصل هذا الكتاب (أعني التحفة الاثني عشرية) ألف لعرض هذين الميزانين وبيان حقيقتهما للشيعة وأهل السنة وللناس جميعا. وقد ألفه باللغة الفارسية عند انتهاء القرن الثاني عشر الهجري كبير علماء الهند في عصره شاه عبد العزيز الدهلوي (1159 - 1239) أكبر أنجال الإمام الصالح الناصح شاه ولي الله الدهلوي (1114 - 1176) وكان شاه عبد العزيز يُعد خليفة أبيه ووارث علومه. وكان رحمه الله مطلعا على كتب الشيعة متبحرا فيها وقد اختار لهذا الكتاب مع اسمه لقبا هو (نصيحة المؤمنين، وفضيحة الشياطين)، وذكر غرضه من هذا التأليف فقال:

«هذه رسالة في كشف حال الشيعة، وبيان أصول مذهبهم، ومآخذه، وطريق دعوتهم الآخرين إلى مذهبهم. وفي بيان أسلافهم، ورواة أخبارهم، وأحاديثهم، وبيان قليل من عقائدهم في الإلهيات، والنبوات، والإمامة، والمعاد».

وقال: «إن البلاد التي نحن بها ساكنون راج فيها مذهب الاثنى عشرية حتى قل بيت من أمصارها لم يتمذهب بهذا المذهب. وأكثرهم جهلة في علم التاريخ، غافلون عن أصولهم وما كان عليه أسلافهم الكرام». ثم قال: «وقد التزمت في هذه الرسالة أن لا أنقل شيئا من حال مذهب الشيعة وبيان أصولهم والإلزامات الموجهة إليهم إلا من كتبهم

(مقدمة/12)

________________________________________

الشهيرة المعتبرة، أو الموافقة لما فيها، لأحملهم على أن تكون الإلزامات التي يوردونها يزعمهم على أهل السنة والجماعة مطابقة لما في الكتب المعتبرة عند أهل السنة وموافقة لرواياتهم الصحيحة، وبذلك تنتفي عنا وعنهم تهمة التعصب».

وقال المترجم من الفارسية إلى العربية: «إن المؤلف حيثما أطلق الكلام جعله على طريقة الشيعة ومذهبهم. (1) وما أورده عن أهل السنة قيده بهم وعزاه إليهم. ومن هذا القبيل ما ذكره في باب الإمامة (ص 124) عن اجتهاد معاوية، فقد أورده بلسان الشيعة وطريقتهم تنزلا ليقيم عليهم الحجة فيما بعد. فأصل الكلام في هذه الرسالة على قواعد الشيعة وأصولهم ورواياتهم، لتقوم الحجة عليهم بذلك»

وبعد نحو ربع قرن من تأليف الكتاب بالفارسية وانتشاره في أقطار الهند وغيرها، شعر مسلمو الهند بحاجتهم إلى ترجمته بالعربية، وأول من اقترح ذلك الحافظ محمد حيدر، وقد كاشف في ذلك عمدة الأعيان الأمير محمد عبد الغفار خان بهادر ثابت جنك ابن محمد علي خان، واختاروا لترجمته الحافظ الشيخ غلام محمد الأسلمي لتمكنه من مؤلفات الشيعة ومعرفته بموضوع الكتاب، فضلا عن إجادته اللغة الفارسية، غير أن بيانه العربي لا يزيد على ما ينتظر من مثله. وهو يقول في مقدمة ترجمته العربية: «كان البدء بها في عهد عظيم الدولة بهادر أمير الهند والا جاه». وقال في خاتمتها: «اختتمت (الترجمة العبقرية، والصولة الحيدرية) عشاء ليلة الجمعة الخامسة من شهر شعبان سنة 1227 للهجرة في بندر مدراس). ثم شكا من الناسخ الذي عهد إليه تبييض الترجمة بأنه «لم يكن يميز السين من الشين، فمسخها، ثم ألزمني تصحيحها بواسطة من لا يسعني أن أخالف له أمرا، مستعجلا فيه غاية الاستعجال، فأديته كأنه وبال»

_________

(1) وقد نبهنا على ذلك في حواشي بعض الصفحات.

(مقدمة/13)

________________________________________

وبقي الأصل الفارسي وترجمته العربية مخطوطين يتناقلهما الناسخون بالقلم، ومع ذلك عم انتشارها في مختلف البلاد، وقد تفضل العالم السلفي الوجيه الكريم الشيخ محمد نصيف عين أعيان جدة فأرسل إلي بالطائرة نسخة مخطوطة من ترجمة الأسلمي، وهي في مجلد ضخم بلغ 1051 صفحة في كل صفحة 19 سطرا، ومع أنها كثيرة الأخطاء فضلا عن عجمة مترجمها فقد نفعتني كثيرا في تصحيح هذا المختصر الذي قام به - في ختام القرن الثالث عشر الهجري - علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي، وقد أرخ ذلك السيد شهاب الدين الموصلي بقوله:

لله تحفة ذي فضل مؤلفها ... ما بين أبحاثها قد أثبت الإلفه

واليوم شكري بحمد الله أوجزها ... ملخصا فضلها من غير ما كلفه

إيجازها كان وعدا، ثم أرخه ... نقدا بإيجازه قد أتحف التحفه

ثم في سنة 1315 طبع هذا المختصر طبعا سقيما على الحجر في المطبعة المجتبائية بمدينة بومباي بالهند، فجاء كثير الأخطاء. وقد اقترح علي تحقيق هذا المختصر والعناية به والتعليق عليه صديقي العلامة السلفي الشيخ محمد نصيف - بارك الله في حياته - فقمت من ذلك بما ساعدني عليه الوقت، مستعينا بالله، ومتقربا إليه بهذا العمل الذي أرجو الله أن يجعله خالصا لوجهه الكريم.

ولما علم أخي مؤرخ العراق الأستاذ السيد عباس العزاوي المحامي في بغداد بقيامي على خدمة هذا المختصر للسيد محمود شكري الآلوسي رحمه الله كتب إلي يقول:

إن كثيرا من علمائنا الأفاضل «رحمهم الله تعالى» ألفوا في كشف حقيقة التشيع بعد شيخ الإسلام ابن تيمية، وأذكر منهم الآن القاضي فضل بن روز بهان فإنه ألف في الرد على (منهاج الكرامة) لابن مطهر الحلي الذي هدمه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتابه الشهير (منهاج السنة النبوية).

(مقدمة/14)

________________________________________

ومنهم ميرزا مخدوم مؤلف (النواقض).

واختصره السيد البرزنجي بكتاب (نواقض الروافض).

والشيخ علي الهيتي بكتابه (السيف الباتر).

ولأبي الثناء الشهاب الآلوسي الكبير كتاب (الأجوبة العراقية، على الأسئلة الإيرانية (1)) وهو يحتوي الأجوبة السديدة على ثلاثين مسألة مهمة في مختلف العلوم وردت من إيران فدمغها الشهاب الآلوسي بهذه الأجوبة، وقد وصف شاعر العراق السيد عبد البقي العمري الأسئلة والأجوبة بقوله:

إن السؤال والجواب مثلما ... قد قيل في التمثيل: أنثى وذكر

وللآلوسي الكبير أيضا كتاب (نهج السلامة إلى مباحث الإمامة (2)).

وله أيضا (الأجوبة العراقية، عن الأسئلة اللاهورية (3)) ذب فيه عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجازه عليه السلطان محمود العثماني بجائزة عظيمة.

وللبندنيجي (الأجوبة على الأسئلة اللاهورية) أيضا، ومثلها للحيدري.

ومن الكتب الجيدة في هذا الباب (الصارم الحديد في الرد على ابن أبي الحديد (4)).

ورد الشيخ علي السويدي العباسي على الشيعة.

وللشيخ عثمان بن سند كتاب (الصارم القرضاب في نحر من سب أكابر الأصحاب) (5)

_________

(1) طبع سنة 1317هـ في القسطنطينية بمطبعة مكتب الصائع.

(2) نقل عنه السيد محمود شكرى الآلوسي في أوائل هذا الكتاب (مختصر التحفة الاثني عشرية). قال الأستاذ الكبير السيد محمد بهجة الأثري في (أعلام العراق): كتب منه الشهاب الآلوسي وهو مريض نحو عشرين كراسة وعاجلته المنية قبل أن يتمه.

(3) طبع سنة 1301 هـ بالمطبعة الحميدية في بغداد.

(4) انظر لابن أبي الحديد ص 9 من هذا الكتاب (مختصر التحفة الاثني عشرية).

(5) عثمان بن سند هو مؤلف (مطالع السعود) في تاريخ العراق مدة حياة داود باشا. أما كتابه (الصارم القرضاب) فقد قال عنه الأستاذ السيد محمد بهجة الأثري في ترجمة ابن سند المنشورة في أول مختصر مطالع السعود: هو كتاب في نحو ألفي بيت أو أكثر من الشعر الجزل الرائع ناقض به عبلا الخزاعي الشاعر الهجاء (وكان دعبل من شعراء الرافضة) فكال له الصاع صاعين في الدفاع عن حياض سادات المسلمين.

(مقدمة/15)

________________________________________

ومن الكتب في هذا الباب (حديقة السرائر وشرحها) لعبد الله البيتوشي الملقب بسيبويه الثاني، وهو من كبار علماء الأكراد.

أما السيد محمود شكري الآلوسي فله في الرد على الشيعة غير (مختصر التحفة الاثني عشرية) رسالة عنوانها (سعادة الدارين، في شرح حديث الثقلين). وهذه أيضا كان أصلها باللغة الفارسية وهي لمؤلف التحفة الاثني عشرية شاه عبد العزيز الدهلوي رحمه الله، وقد عربها السيد محمود شكرى وضم إليها فوائد متعلقة بحديث الثقلين، ورتبها على مقدمة ومقصد وخاتمة، فجاءت في 40 صفحة.

وله أيضا (السيوف المشرقة، مختصر الصواعق المحرقة)، وأصله للشيخ محمد خوجه نصر الله الحسيني الصديق الهندي ثم المكي، اختصره السيد محمود شكري الآلوسي سنة 1303 بعد اختصار التحفة الاثنى عشرية، وهو أكبر منها حجما بنحو الثلث.

وله أيضا كتاب (صب العذاب على من سب الأصحاب) ردًّ به على محمد الطباطبائي المتستر باسم أحمد الفاطمي في أرجوزة له تعرض فيها لأبي الثناء الشهاب الآلوسي الكبير في أجوبته على الأسئلة اللاهورية، فانتصر له حفيده السيد محمود شكري بهذا الكتاب وهو في 115 صفحة.

وبعد فإن الساهرين على حراسة التشيع لن يضروا الله شيئا، فقد تولى الله حفظ هذا الدين، وادخره لسعادة الإنسانية يوم تنشد الإنسانية سعادتها من أقرب الطرق وأسلمها، فلا تجد ذلك إلا فيما كان عليه تلاميذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتابعوهم، وتابعو التابعين لهم بإحسان. أما نشاط القوم فيما يصدرونه من كتب بذيئة ككتاب السقيفة والرد على رد السقيفة فستكون له فائدة واحدة وهي تفرغ طبقة من شباب الإسلام في أنحاء الوطن الإسلامي الأكبر لدراسة أصل التشيع وتطوره ومقاصده وأهدافه، وبراءة أهل البيت منه ومن طواغيته، إلى أن تنجلي الأمور على حقيقتها، ويبوء الكذب والباطل وأهلهما بما هم أهل له. والله ولي الصالحين.

وكتب في دار الفتح

بجزيرة الروضة * تجاه الفسطاط

في يوم الاثنين العاشر من صفر سنة 1373

محب الدين الخطيب

(مقدمة/16)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

مقدمة المختصر السيد محمود شكري الآلوسي

الحمد لله الذي ثبّت أركان الدين بأئمة أهل السنة وأعلامهم، وجعل خلفاء نبيه أتباعه في الدنيا ويوم يدعى كل أناس بإمامهم. وسلك بهم مسلك السداد، ومهد لهم طرق الهدى والرشاد. وعصمهم باتباع سنن رسوله - عليه الصلاة والسلام - من الزيغ والضلال والشبه والأوهام. والصلاة والسلام على سيدنا محمد صاحب الشريعة الغراء، الواضحة البيضاء. وعلى آله أئمة الدين، وصحابته الهادين المهديين.

وبعد فيقول المفتقر إلى الله، الملتجئ إلى ركن فضله وعلاه. خادم العلوم الدينية، في مدينة دار السلام المحمية. محمود شكري ابن السيد عبد الله الحسيني الآلوسي البغدادي، كان الله تعالى له خير معين وأحسن هادي:

إن علماء الشيعة لم يزالوا قائمين على ساق المناظرة، واقفين في ميادين المنافرة والمكابرة. مع كل قليل البضاعة، ممن ينتمى إلى مذاهب أهل السنة والجماعة. لا سيما في الديار العراقية، وما والاها من ممالك الدولة العلية العثمانية. حتى اغتر بشبههم من الجهلة الألوف، وانقاد لزمام دعواهم ممن لم يكن له على معرفة الحق وقوف. فلما رأيت الأمر اتسع خرقه، والشر تعددت طرقه. شمرت عن ساعد الجد والاجتهاد، في الذبّ عن مسلك ذوي الرشاد. ورأيت أن أؤلف في هذا الباب، كتابا مشتملا على فصل الخطاب، به يتميز القشر عن اللبان، ويتبين الخطأ من الصواب.

وقد ألف العالم العلامة والنحرير الفهامة الشيخ غلام محمد أسلمي الهندي، تغمده الله تعالى بغفرانه الأبدى. ترجمة التحفة الاثني عشرية، في الرد على فرق الشيعة الإمامية.

(1/1)

________________________________________

(1)

فوجدته كتابا انكشفت شبه المناظرين بأنوار دلائله، واندفعت شكوك المعاندين بمسلم براهينه وجلّي مسائله. قد انسد فيه دون الناقد البصير كل باب، وانهد به ركن الباطل والارتياب. فلا يستطيع الخصم أن يفوه ببنت شفة حيث أُلجم بلجام الإلزام. ولا يطيق العنود أن يفتح فمه لما حاك عليه من لثام العجز والإفحام. غير أن مؤلفه عليه الرحمة قد أطنب فيه وأطال، وكرر كثيرا من المسائل والأقوال. بعبارات ليس لها حظ من فصاحة الكلام، ولا نصيب من السلاسة والانسجام. حيث أنه ممن يتكلم بالهندية، ولم يمارس التحاطب باللغة العربية. فحداني التوفيق الإلهي إلى تلخيص ذلك الكتاب، وهداني التأييد الرباني إلى إبراز غواني معانيه بأبهى جلباب. مع ضم ما يؤدي إليه المقام، مما أفاده العلماء الأعلام. بعبارات سهلة موجزة مشتملة ينتفع بها الخاص والعام، ويتلقاها بالقبول ذوو الإنصاف من الأنام.

ولما يسر الله تعالى ما طلبته، وأجابني فيما رجوته ودعوته. سميت الكتاب (المنحة الإلهية، تلخيص ترجمة التحفة الاثني عشرية) وقدمته لأعتاب خليفة الله في أرضه، ونائب رسوله - عليه الصلاة والسلام - في إحياء سنته وفرضه. الذي راعي رعاياه بجميل رعايته، ودبرهم بصائب تدبيره وواسع درايته. وسلك أحسن المسالك في استقامة أمورهم، وصيانة نفوسهم، وحراسة جمهورهم. وخص من بينهم علماء دولته وصلحاء ملته بحسن ملاحظته وفضل محافظته، تمييزا لهم بالعناية، وتخصيصا بما يجب من الرعاية. ووضعا للأمور في مواضعها، وغصابة مواقعها. ألا وهو أمير المؤمنين، الواجب طاعته على الخلق أجمعين. سلطان البرين وخاقان البحرين، السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان. اللهم أيده بنصرك وانصره لتأبيد ذكرك. واطمس شر سويداء قلوب أعدائه وأعدائك، ودق أعناقهم بسيوف قهرك وسطوتك. اللهم واجعل رايات أنعمه منشورة بأيدي جنوده، واحجبهم بحجب حولك وقوتك من لحظات لمعات أبصار عدوه وحسوده. وصب عليهم ميازيب التوفيق آناء ليلك وأطراف نهارك،

_________

(1) وأصل التأليف باللغة الفارسية للعلامة النحرير الشيخ عبد العزيز الفاروقي الدهلوي (انظر: أعلام العراق للعلامة السيد محمد بهجة الأثري، طبع المطبعة السلفية، ص 124)

(1/2)

________________________________________

فإنهم حماة حرم دينك وحراس أبواب شريعتك وأعظم جنودك وأنصارك. وغرضي من عرض ذلك الكتاب إلى ساحته الرفيعة العتاب، أن يذر إكسير نظره عليه، ليحل محل القبول لديه. فهناك إن شاء الله تعالى يحصل الأمل، وأحظى بما رجوته من قبول العمل وقد رتبته على تسعة أبواب، وإلى الله الزلفى وحسن المآب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

الباب الأول في ذكر فرق الشيعة وبيان أحوالهم وكيفية حدوثهم وتعداد مكائدهم

اعلم أن الشيعة الذين يدعون مشايعة الأمير كرم الله نعالى وجهه ومتابعته، وحبه الذي افترضه الله تعالى على عباده، أربع فرق:

 

(فرق الشيعة) (الشيعة المخلصون)

الفرقة الأولى: الشيعة الأولى ويسمون «الشيعة المخلصين» أيضا، وهم عبارة عن الذين كانوا في وقت خلافة الأمير كرم الله وجهه من المهاجرين والأنصار والذين تبعوهم بإحسان، كلهم عرفوا له حقه، وأحلوه من الفضل محله ولم ينتقصوا أحدا من إخوانه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضلا عن إكفاره وسبّه. بيد أن منهم من قاتل معه على تأويل القرآن كما قاتلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تنزيله، فقد كان معه - رضي الله تعالى عنه - في حرب صفين (1) من أصحاب بيعة الرضوان ثمانمائة صحابي، وقد استشهد منهم تحت رايته هناك ثلاثمائة. ومنهم من تقاعد عن القتال تورعا واحتياطا لشبهة عرضت له، لكنه مع ذلك كان قائما بمحبته وتعظيمه ونشر فضائله، وذلك لا يقصر بكثير عن القتال معه. ومن مشهوري هذا الصنف عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -. وقد زالت شبهته بعد ذلك فندم غاية الندم على قعوده وتخلفه عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، لكن فات ذاك، وتعذر الاستدراك. وحالت المنية، دون الأمنية. وهذا يشبه من وجه ما كان من محمد بن الحنفية - رضي الله تعالى عنه - من التوقف يوم الجمل حتى قال له الأمير كرم الله تعالى وجهه: ويحك أتتوقف وأبوك سابقك؟ (2) ومنهم من غلب عليه القضاء والقدر فوقع منه ما أدى إلى قتاله،

_________

(1) قال ياقوت الحموي: «صفين: موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس، وكانت وقعة صفين سنة 37هـ في غرة صفر بين علي - رضي الله تعالى عنه - ومعاوية». معجم البلدان

(2) تاريخ الطبري: 3/ 44

(1/3)

________________________________________

كطلحة والزبير وأم المؤمنين - رضي الله تعالى عنهم -، فهم - وإن وقع بينهم وبين الأمير ما وقع يوم الجمل - محبون له عارفون له فضله، كما أنه - رضي الله تعالى عنه - في حقهم كذلك، وليس بين ذلك وبين القتال الواقع في البين تنافٍ، لأن القتال لم يكن مقصودا، بل وقع عن غير قصد، لمكر من قتلة عثمان - رضي الله تعالى عنه - الذين كانوا بعشائرهم في عسكر الأمير، إذ غلب على ظنهم من خلوته بطلحة والزبير أنه سيسلمهم إلى أولياء عثمان، فأطاروا من نيران غدرهم شرارا، ومكروا مكرا كبارا، فأوقعوا القتال بين الفريقين، فوقع ما وقع إن شاء وإن أبى أبو الحسنين فكل من الفريقين كان معذورا، وكان أمر الله قدرا مقدورا. وسيأتي تفصيل ذلك كله في باب المطاعن إن شاء الله تعالى (1) قال الجد روَّحَ الله تعالى روحَه في كتاب (نهج السلامة (2)) بعد ذلك الكلام على أن القتال لو فرض أنه كان قصدا فهو بشبهة قوية عند المقاتل أوجبت عليه أن يقاتل. فهو بزعمه من الدين ونصرة المسلمين، وليس من الغي والاستهانة بالأمير في شيء. ومتى كان كذلك فهو لا ينافي المحبة، ولا يدنس رداء الصحبة. وقد صرح بعض العلماء أن شكوى الولد على أبيه لدين له عليه قادر على أدائه ومماطل فيه ليس من العقوق، ولا يخل بما للوالد من واجب الحقوق.

وإن أبى تعصبك هذا قلنا: إن القوم - رضي الله تعالى عنهم - كانوا من قبل ما وقع من الشيعة المخلصين الأبرار، لكن لعدم الإثم وقع منهم ما غسلوه ببرد التوبة وثلج الاستغفار، ويأبى الله تعالى أن يذهب صحابي إلى ربه، قبل أن يغسل بالتوبة والاستغفار دون ذنبه. وبنحو هذا يجاب عن أصحاب صفين، من رؤساء الفرقة الباغية على علي أمير المؤمنين. فالمتلوثة سيوفهم في تلك الفتنة من الصحابة أقل قليل، ولولا عريض

_________

(1) أي في الباب الثامن

(2) نهج السلامة في مباحث الإمامة لأبي الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي مؤلف تفسير (روح المعاني). وكتابه (نهج السلامة) في الرد على الشيعة ألفه في آخر حياته وكتب منه وهو مريض عشرين كراسة ثم عاجلته المنية قبل أن يتمه.

(1/4)

________________________________________

الصحبة وعميق المحبة لدلع أفعوان القلم لسانه الطويل. فقف عند مقدارك، فما أنت وإن بلغت الثريا إلا دون ثرى نعال أولئك. نعم يلزمك أن تقول: إن الحق فيما وقع كان مع زوج البتول. انتهى ما قال، عليه رحمة المتعال. وهو كلام موجز يغني عن المطولات، ويكفي عن كثير من العبارات.

هذا واعلم أن ظهور هذا اللقب (1) كان عام سبع وثلاثين من الهجرة والله تعالى أعلم.

 

(الشيعة التفضيلية)

الفرقة الثانية الشيعة التفضيلية: وهم عبارة عن الذين يفضلون الأمير كرم الله وجهه على سائر الصحابة من غير إكفار واحد منهم ولا سب ولا بغض، كأبي الأسود الدؤلي الذي اشتهر - وهو الأصح بل الصحيح - أنه واضع النحو بأمر باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه، وكتلميذه أبي سعيد يحيى بن يعمر أحد قراء البصرة، وكسالم بن أبي حفصة راوي الحديث عن الإمامين الباقر وابنه الصادق - رضي الله تعالى عنهما -، وكعبد الرزاق صاحب المصنف في الحديث، وكأبي يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت صاحب (إصلاح المنطق) في اللغة وكخلق آخرين، ولبعض متأخري الصوفية قدست أسرارهم كالفاضل الجامي كلمات ترشح بالتفضيل، وانسلاكهم في هذا القبيل، وكثير من العلماء يصرفها عن ذلك صيانة لأولئك الأجلة عن أن ينسب إليهم الابتداع (2) والانخزال عن «الشيعة المخلصين» من الأتباع. وقد ظهرت هذه الفرقة بعد الأولى بنحو عامين أو ثلاثة، وصح أن الأمير كرم الله تعالى وجهه أحس أيام خلافته بقوم يفضلونه على الشيخين، فكان ينهى عن ذلك حتى قال «لئن سمعت أحدا يفضلني على الشيخين - رضي

_________

(1) أي لقب «الشيعة»

(2) عبد الرحمن الجامي واقع في الابتداع من ناحية قوله بوحدة الوجود. قبل أن يقع فيه من ناحية نصبه نفسه قاضيا للحكم على سادة الأمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، - رضي الله عنهم - وألهمنا معرفة أقدار انفسنا.

(1/5)

________________________________________

الله تعالى عنهما - لأحدنه حد الفرية» (1) وهو على ما في (التحفة) ثمانون جلدة وقيل عشر، والله تعالى أعلم.

 

(الشيعة السبية)

الفرقة الثالثة الشيعة السبّية: ويقال لها «التبرئية» وهم عبارة عن الذين يسبون الصحابة، إلا قليلا منهم كسلمان الفارسي وأبي ذر والمقداد وعمار بن ياسر - رضي الله تعالى عنهم -، وينسبونهم - وحاشاهم - إلى الكفر والنفاق، ويتبرأون منهم، ومنهم من يزعم والعياذ بالله تعالى ارتداد جميع من حضر غدير خم (2) يوم قال - عليه الصلاة والسلام - «من كنت مولاه فعلي مولاه» الحديث، ولم يف بمقتضاه من بيعة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - بل بايع غيره. وهذه الفرقة حدثت في عهد الأمير - رضي الله تعالى عنه - بإغراء عبد الله بن سبأ اليهودي الصنعاني (3) كما سيأتي. وليس هو هيان بن بيان، (4) وزعمُ ذلك مكابرة وإنكار للمتواتر. ولما ظهرت أظهر الأمير كرم الله تعالى وجهه البراءة منها، وخطب عدة خطب في قدحها وذمها. وقد روى الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الزيدي (5) في آخر كتابه (طوق الحمامة في مباحث الإمامة) (6)

عن سويد بن غفلة أنه قال: مررت بقوم ينتقصون أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -، فأخبرت عليا كرم الله وجهه وقلت: لولا أنهم يرون أنك تضمر ما أعلنوا ما اجترأوا على ذلك، منهم عبد الله بن سبأ. فقال علي - رضي الله تعالى عنه - «نعوذ بالله، رحمهما الله» (7) ثم نهض وأخذ بيدي وأدخلني المسجد فصعد المنبر ثم قبض على لحيته وهي بيضاء فجعلت دموعه تتحادر عليها، وجعل ينظر للقاع حتى اجتمع الناس، ثم خطب فقال: «ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين، وأنا برئ مما يذكرون، وعليه معاقب. صحبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحب والوفاء والجد في أمر الله، يأمران وينهيان ويغضبان في أمر الله، فقبض وهو عنهما راض، والمسلمون راضون، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره في حياته وبعد موته، فقبضا على ذلك رحمهما الله،

_________

(1) ذكره الخطيب البغدادي في كتابه: الكفاية في علم الرواية 1/ 376 ثم قال: «قال أبو عبد الله البوشنجي هذا الحديث الذي سقناه ورويناه من الأخبار الثابتة لأمانة حمّاله وثقة رجاله وإتقان آثاريه وشهرتهم بالعلم في كل عصر من أعصارهم إلى حيث بلغ من نقله إلى الإمام الهادي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حتى كأنك شاهد حول المنبر وعلي فوقه وليس مما يدخل إسناده وهم ولا ضعف» وذكره ابن أبي عاصم في كتابه السنة 2/ 575.

(2) اسم بئر، قال ابن إسحاق: «وأصلها من خممت الماء: إذا كنسته، وهو بين مكة والمدينة على ثلاثة أميال من الجحفة». البكري، معجم ما استعجم: 2/ 510؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان: 2/ 389.

(3) أظهر عبد الله بن سبأ اليهودي الإسلام، وهو أول من طعن بالخلفاء الثلاثة - رضي الله عنهم -، وقد قال الحسن بن موسى النوبختي (من كبار علماء الإمامية) في كتابه فرق الشيعة: «فلما قتل علي - عليه السلام - افترقت التي ثبتت على إمامته وأنها فرض من الله عز وجل ورسول الله - عليه السلام - فصاروا فرقا ثلاثة»، وقال: «والسبئية أول من قال منها بالغلو، وهم أصحاب عبد الله بن سبأ اليهودي ... وحكى جماعة من أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا - عليه السلام -، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون بعد موسى - عليه السلام - بهذه المقالة، فقال في إسلامه بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في علي - عليه السلام - بمثل ذلك، وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي - عليه السلام -، وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه». وهذا يثبت حقيقة هذه الشخصية ودورها في الغلو، رغم أن الكثير من علماء الإمامية المتأخرين والمعاصرين حاولوا التشكيك في وجوده، لتجنب نسبة الرفض إلى اليهودية. يضاف إلى تقرير النوبختي كلام العلماء الذين كتبوا في تاريخ الفرق والمقالات. ينظر النوبختي، فرق الشيعة ص 19 - 20؛ الأشعري، مقالات الإسلاميين: 1/ 85 - 86؛ الإسفراييني، التبصير في الدين: ص 71 - 72، الشهرستاني، الملل والنحل: 1/ 155 - 156.

(4) تقول العرب لمن لا يعرف أصله أو نسبه: هو هيان بن بيان، انظر فتح الباري: 7/ 490

(5) من أكابر علماء اليمن، علوي، ولد في صنعاء سنة 669هـ؛ وتبحر في العلوم والفنون، توفي سنة 705هـ. البدر الطالع: 2/ 331؛ هدية العارفين: 1/ 820.

(6) في مكتبة الأحقاف في مدينة تريم باليمن، والمخطوط بعنوان (أطواق الحمامة في حمل الصحابة على السلامة من كتاب الانتصار في الذب عن الصحابة الأخيار للإمام المؤيد)، رقم (2707/ 2)، وهو خمس لوحات ..

(7) في الأصل: رحمنا والتصحيح من نهج السلامة

(1/6)

________________________________________

فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل، ولا يبغضهما إلا شقي مارق. وحبهما قربة، وبغضهما مروق» (1) الخ وفي رواية «لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل». (2) ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن وقال: لا تساكني في بلدة أبدا. (3) وهذا مما يفت بأعضاد هذه الفرقة أعني الشيعة السبية لا المخلصين. ولما ظهرت ما ارتضى الشيعة المخلصون بلقب «الشيعة» فتركوه تحرزا عن الالتباس، وكراهة للاشتراك الاسمي مع أولئك الأرجاس، ولقبوا أنفسهم بأهل السنة والجماعة. فما وقع في بعض الكتب كتاريخ الواقدي (4) والاستيعاب (5) من أن فلانا كان من الشيعة مثلا لا ينافي ما وقع في غيرها من أنه من رؤساء أهل السنة والجماعة، حيث أن المراد بالشيعة هناك الشيعة الأولى، وكان أهل السنة منهم. وكيف لا وهم يرون فرضية حب أهل البيت، وعليّ كرم الله تعالى وجهه عمادهم، ويروون في ذلك عدة أحاديث منها ما رواه البيهقي وأبو الشيخ والديلمي أن رسول الله قال «لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، وتكون عترتي أحب إليه من نفسه» (6) وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي» (7) إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى أو يحصر.

وقد نسب للإمام الشافعي - وموضعه من أهل السنة موضع الواسطة من العقد - نظم كثير يشهد بما ذكرناه عن أهل السنة، ويرد به على من أنكر ذلك من جهلة الشيعة، كقوله - رضي الله تعالى عنه -:

يا أهل بيت رسول الله حبكم ... فرض من الله في القرآن أنزله

يكفيكم من عظيم الفخر أنكم ... من لم يصل عليكم لا صلاة له (8)

وقوله:

إن فتشوا قلبي رأوا وسطه ... سطرين قد خُطا بلا كاتب

العلم والتوحيد في جانب ... وحب أهل البيت في جانب (9)

وقوله:

إذا ذكروا عليا أو نبيه ... وجاءوا بالروايات العليه (10)

_________

(1) المخطوط المذكور، صفحة: 1/ب.

(2) السابق

(3) الفرق بين الفرق: ص 223؛ الملل والنحل: 1/ 174.

(4) الواقدي هو أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي الأسلمي المدني، وكان كما قال الذهبي إماما بالمغازي والسير، لكنه ضعيف الحديث. تاريخ بغداد: 3/ 3؛ وفيات الأعيان: 4/ 348؛ تذكرة الحفاظ: 1/ 348.

(5) كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب، للإمام يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي المالكي، من أشهر علماء الحديث في الأندلس، توفى سنة 463هـ. ترتيب المدارك: 4/ 808؛ سير أعلام النبلاء: 18/ 154

(6) قال الهيثمي في (مجمع الزوائد: 1/ 88): «وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ لا يحتج به».

(7) الترمذي والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان. ضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية. وهو في ضعيف الجامع: رقم 176.

(8) ديوان الشافعي: ص 106.

(9) ليسا للشافعي بل للصاحب بن عباد الوزير البويهي والشاعر الإمامي، كما في أمل الآمل: 2/ 37؛ أعيان الشيعة: 3/ 358.

(10) البيت في الديوان: إذا في مجلس نذكر عليا ... وسبطيه وفاطمة الزكية

(1/7)

________________________________________

يقال تجاوزوا يا قوم عنه ... فهذا من حديث الرافضية

برئت إلى المهيمن من أناس ... يرون الرفض حب الفاطمية (1)

وقوله:

يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كما علم الفرات الفائض

إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي (2)

وقوله:

إلام أُلام وحتى متى ... أعاتب في حب هذا الفتى

فهل زوجت غيرَه فاطم ... وفي غيره هل أتى «هل أتى» (3)

إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الشيعة، صحت نسبته إليه أم لا. وهذا أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - وهو هو بين أهل السنة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السنتان لهلك النعمان، يريد السنتين اللتين صحب فيهما لأخذ العلم الإمام جعفر الصادق - رضي الله تعالى عنه -. وقد قال غير واحد أنه أخذ العلم والطريقة من هذا ومن أبيه الإمام محمد الباقر ومن عمه زيد بن علي بن الحسين - رضي الله تعالى عنهم -. وللأعمش وهو أحد مجتهدي أهل السنة سفر كبير في مناقب الأمير كرم الله وجهه. ويكفي في هذا الباب أن معظم طرائق أهل السنة موصولة بأهل البيت، ولا يكاد ينكر هذا الأمر إلا من ينكر الفرق بين الحي والميت. ومن الشبه من يزعم أنه لا يعد محبا لعلي وسائر أهل البيت - رضي الله عنهم - من أحب الشيخين وأضرابهما من الصحابة الذين لم يبايعوا الأمير كرم الله تعالى وجهه يوم وفاته - عليه الصلاة والسلام - حيث يزعمون أنهم أعداء الأمير، وينشدون في ذاك قول من قال:

إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام

_________

(1) ديوان الشافعي: ص126

(2) ديوان الشافعي: ص 89.

(3) ليسا في ديوان الشافعي.

(1/8)

________________________________________

وقوله:

صديق صديقي داخل في صداقتي ... عدو صديقي ليس لي بصديق

ولا يخفى كذب مبناه، ويشير إلى كذبه الخبر الذي قدمناه عن يحيى بن حمزة المؤيد بالله وكذا غيره من الأخبار، التي ملئت منها بطون الأسفار. ورحم الله تعالى امرءا أنصف وعرف الحق فاعترف.

 

(الشيعة الغلاة)

الفرقة الرابعة الشيعة الغلاة: وهم عبارة عن القائلين بألوهية الأمير كرم الله تعالى وجهه، ونحو ذلك من الهذيان. قال الجد روَّح الله روحَه: وعندي أن ابن أبي الحديد (1) في بعض عباراته - وكان يتلون تلون الحرباء - كان من هذه الفرقة، وكم له في قصائد السبع الشهيرة من هذيان، كقوله يمدح الأمير كرم الله تعالى وجهه:

ألا إنما الإسلام لولا حسامه ... كعفطة عنز أو قلامة ظافر (2)

وقوله:

يجل عن الأعراض والأين والمتى ... ويكبر عن تشبيهه بالعناصر (3)

إلى غير ذلك. وأول حدوثهم قيل في عهد الأمير بإغواء ابن سبأ أيضا، وقد قتل كرم الله تعالى وجهه من صح عنده أنه يقول بألوهيته، فلم ينحسم بذلك عرق ضلالتهم ولم ينصرم حبل جهالتهم، بل استمر الفساد، وقوي العناد {ومن يضلل الله فما له من هاد} وهذه الفرقة على قلتها بالنسبة إلى الفرق الأخرى انقسمت على ما في (التحفة) إلى أربع وعشرين فرقة:

_________

(1) عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين أبي الحديد أو حامد، من أعيان المعتزلة، قال عنه ابن كثير: شيعي غال، كانت علاقة قوية بالوزير الشعوبي ابن العلقمي، مات سنة 586هـ. البداية والنهاية: 13/ 199؛ شذرات الذهب: 6/ 281.

(2) هذا تكذيب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»، وقائل البيت قليل أدب يبرأ الإسلام منه.

(3) وأصرح من ذلك في شرك ابن أبي الحديد ووثنيته قوله يخاطب عليا كرم الله وجهه: تقيلت أخلاق الربوبية التي ... عذرت بها من شك أنك مربوب ومنه سرق الطوفي الرافضي قوله في أبي بكر وعلي رضوان الله وسلامه عليهما: كم بين من شك في خلافته ... وبين من قيل إنه الله

(1/9)

________________________________________

(فرق الشيعة الغلاة) (السبئية)

الأولى السبئية: أصحاب عبد الله بن سبأ الذين قالوا: إن عليا هو الإله ولما استشهد الأمير كرم الله تعالى وجهه زعم ابن سبأ أنه لم يمت وأن ابن ملجم (1) إنما قتل شيطانا تصور بصورة عليّ، وأنه مختف في السحاب وأن الرعد صوته، والبرق سوطه، وأنه ينزل إلى الأرض بعد هذا ويملأها عدلا وينتقم من أعدائه. ولهذا أن هذه الفرقة إذا سمعت صوت الرعد قالوا «عليك السلام أيها الأمير». (2) ولا يخفى أن الأمير لو كان كما زعموا لكان مقتدرا على إهلاك أعدائه بصوت شديد من الرعد وإلقاء الصواعق، فلأي شيء هذا الانتظار، مع وجود الاستطاعة والاقتدار؟ (3)

 

(المفضلية)

الثانية المفضلية: أصحاب المفضل الصيرفي وقد زادوا على السبئية بقولهم إن نسبة الأمير لله تعالى كنسبة المسيح، فمثله كمثله، فقد وافقوا النصارى في قولهم باتحاد اللاهوت بالناسوت، (4) وفي زعمهم أن النبوة والرسالة لا تنقطع أبدا، فمن اتحد به اللاهوت فهو نبي، فإن دعا الناس إلى الهدى فهو رسول. ولذا ترى أن كثيرا منهم ادعى النبوة والرسالة. (5)

 

(السريغية)

الثالثة السريغية: أصحاب السريغ بفتح السين وكسر الراء المهملتين وفي آخره معجمة. ومذهبهم كمذهب المفضلية، إلا أنهم حصروا حلول اللاهوت في الناسوت في خمسة، وهم النبي والعباس وعلي وجعفر وعقيل.

 

(البزيعية)

الرابعة البزيعية: أصحاب بزيع بن يونس (6) الذي قال بألوهية جعفر الصادق وأنه ظهر في شخص (7) وإلا فهو في الحقيقة منزه عنه، وقالوا: إن الأئمة الآخرين لم يكونوا آلهة ولكن أوحي إليهم، وأثبتوا لهم المعراج. (8)

 

(السبئية)

الخامسة الكاملية: أصحاب أبي كامل، وهم يقولون إن الأرواح تتناسخ وتنتقل من بدن إلى بدن بعد خراب البدن الأول، وأن روح الله تعالى كانت في آدم ثم في شيث ثم صارت إلى الأنبياء. وهؤلاء القوم يكفرون جميع الصحابة بتركهم البيعة لعلي، ويكفرون عليا أيضا بتركه طلب حقه. (9)

 

(المغيرية)

السادسة المغيرية: أصحاب المغيرة بن سعد العجلي، (10) زعموا أن الله تعالى جسم،

_________

(1) عبد الرحمن بن ملجم المرادي قال عنه الذهبي: «ذاك المغتر الخارجي ليس بأهل أن يروى عنه وما أظن له رواية كان عبادا قانتا لله لكنه ختم له بشر فقتل أمير المؤمنين عليا - رضي الله عنه - متقربا إلى الله بدمه بزعمه فقطعت أربعته ولسانه وسملت عيناه ثم أحرق نسأل الله العفو والعافية». ميزان الاعتدال: 4/ 320؛ لسان الميزان: 3/ 439.

(2) الفرق بين الفرق: ص 224.

(3) ينظر الملل والنحل: 1/ 174؛ منهاج السنة النبوية: 3/ 459.

(4) اللاهوت عند النصارى إشارة إلى الله تعالى، والناسوت إشارة إلى بشرية المسيح - عليه السلام -، وقالوا باتحاد اللاهوت بالناسوت، واختلفوا في الكيفية. الفصل: 2/ 14؛ الملل والنحل: 1/ 220.

(5) ينظر: الفرق بين الفرق: ص236؛ الملل والنحل: 1/ 181.

(6) ذكره الأشعري باسم بزيغ بن موسى، وذكره ابن حزم. مقالات الإسلاميين: ص 12؛ الفصل: 4/ 142؛ الملل والنحل: 1/ 180

(7) يبدو أن العبارة ناقصة، ويعنون أن الصادق منزه عن الرؤية وأنه غير الذي يرون!

(8) مقالات الإسلاميين: 1/ 12؛ الفرق بين الفرق: ص 12؛ الملل والنحل: 1/ 180.

(9) اعتقادات فرق المسلمين: ص 60؛ الفرق بين الفرق: ص 308؛ الملل والنحل: 1/ 174.

(10) هو مغيرة بن سعيد الكوفي، قال يحيى: «كان رجلا كذابا»، وقال السدي: «قتل على ادعاء النبوة»، وقال ابن حبان: «كان من حمقى الروافض يضع الحديث»، وقال الخطيب: «كان غاليا في الرفض وله طائفة تنسب إليه»، قتل سنة 119هـ. ابن حبان، المجروحين: 3/ 7؛ ابن الجوزي، ديوان الضعفاء والمتروكين: 3/ 134.

(1/10)

________________________________________

وأن صورته صورة رجل من نور وعلى رأسه تاج من نور وله قلب تنبع منه الحكمة، وأنه لما أراد خلق العالم تكلم بالاسم الأعظم فطار ووقع تاجا على رأسه، ثم إنه كتب على كتفه أعمال الدنيا، فغضب من المعاصي حتى عرق فاجتمع من عرقه بحران أحدهما ملح مظلم والثاني عذب نير، ثم اطلع في البحر النير فأبصر ظله فانتزع بعض ظله وخلق منه الشمس والقمر وأفنى باقي ظله وقال: لا ينبغي أن يكون معي إله غيري. ثم إنه خلق الخلق كله من البحرين: الكفر من البحر المظلم، والإيمان من البحر النير، ثم أرسل إلى الناس محمدا وهم ضلال، ثم عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال وهي أن يمنعن عليا من الإمامة فأبين ذلك، (1) ثم عرضها على الناس فأمر عمر بن الخطاب أبا بكر أن يتحمل منعه من ذلك، وضمن له أن يعينه على الغدر به، بشرط أن يجعل الخلافة له من بعده فقبل منه، وأقدما على المنع متظاهرين عليه. وقوله تعالى {فحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} يعني أبا بكر. (2) وزعم هؤلاء أن قوله تعالى {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، فلما كفر قال إني برئ منك} نزلت في حق عمر وأبي بكر، وهؤلاء يزعمون أن الإمام المنتظر محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، (3) وأنه حي لم يمت، وهو مقيم في جبال حاجر إلى أن يؤمر بخروجه. ومنهم من يقول إن الإمام المنتظر هو المغيرة، كذا في «أبكار الأفكار» لسيف الدين الآمدي. (4) ولم يكن هذا التفصيل في الأصل. (5)

 

(الجناحية)

السابعة الجناحية: أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، (6) يزعمون أن الرواح تتناسخ، وأن روح الإله تعالى كانت في آدم ثم في شيث، ثم صارت إلى الأنبياء والأئمة، حتى انتهت إلى عليّ وأولاده الثلاثة من بعده ن ثم صارت إلى عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر وأنه حي لم يمت وأنه يجبل من جبال أصبهان، وكفروا بالقيامة واستحلوا المحرمات من الخمر والميتة وغيرها. (7)

 

(البيانية)

الثامنة البيانية: أصحاب بيان بن سمعان التميمي، (8) زعموا أن الإله تعالى على صورة إنسان، وأنه يهلك كله إلا وجهه لقوله {كل شيء هالك إلا وجهه} وأن روح

_________

(1) مقالات الإسلاميين: ص 7؛ الفصل: 4/ 141.

(2) وتلقف فيما بعد الإمامية هذه العقيدة عن أتباع المغيرة وأوردوها في كتبهم، فروى الصفار عن جابر عن أبي جعفر في تفسير الآية: «قال الولاية أبين أن يحملنها كفرا بها وعنادا وحملها الإنسان، والإنسان الذي حملها أبو فلان». بصائر الدرجات: 76. وهناك رواية قريبة في تفسير القمي: 2/ 198. ويعنون بأبي فلان (أبا بكر الصديق) كما صرح الفيض الكاشاني: «وحملها الإنسان يعني الأول إنه كان ظلوما جهولا». تفسير الصافي: 4/ 207.

(3) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله، يروي عن جماعة من التابعين، قتل بالمدينة سنة 145هـ. الثقات: 7/ 363؛ الجرح والتعديل: 7/ 295.

(4) كتاب (أبكار الأفكار) في الكلام لسيف الدين الآمدي، قال عنه حاجي خليفة: «وهو مرتب على ثماني قواعد متضمنة جميع مسائل الأصول». كشف الظنون: 1/ 4

(5) أي التحفة الاثني عشرية التي اختصرها المصنف. وينظر اعتقادات فرق المسلمين: ص 58؛ التبصير في الدين: ص 125؛ الملل والنحل: 1/ 176

(6) قال الزبير بن بكار: «كان جوادا شاعرا، وكان قد طلب الخلافة وثار في أواخر دولة بني أمية، وتابعه جماعة»، ثم لما آل الأمر لبني العباس فسجنه أبو مسلم الخراساني، ومات في سجنه سنة 131هـ، قال ابن حزم: «وكان عبد الله بن معاوية رديء الدين معطلا يصحب الدهرية». تاريخ الطبري: 4/ 275؛ لسان الميزان: 3/ 363.

(7) اعتقادات فرق المسلمين: ص 59؛ الفرق بين الفرق: ص225؛ التبصير في الدين: ص 126؛ تلبيس إبليس: ص119.

(8) ظهر بالعراق بعد المائة وقال بألوهية علي - رضي الله عنه - وأن فيه جزءا اتحد بناسوته، ثم من بعده ابنه محمد بن الحنفية ثم في أبي هاشم ولد ابن الحنفية ثم من بعده في بيان هذا، أحرقه بالنار خالد بن عبد الله القسري. ميزان الاعتدال: 2/ 72؛ لسان الميزان: 2/ 69.

(1/11)

________________________________________

الإله تعالى حلت في علي ثم بعده في ابنه محمد بن الحنفية ثم بعده في ابنه أبي هاشم ثم بعده في بيان. (1)

 

(المنصورية)

التاسعة المنصورية: أصحاب أبي منصور العجلي، وهؤلاء يقولون: إن الرسالة لاتنقطع أبدا، والعلم قديم، وأحكام الشريعة كلها مخترعات العلماء والفقهاء، ولا جنة ولا نار، وأن أبا منصور هو الإمام بعد الإمام الباقر - رضي الله تعالى عنه -. (2)

 

(الغمامية)

العاشرة الغمامية: ويقال لها «الربيعية» أيضا، وهم يعتقدون أن صانع العالم ينزل إلى الأرض في فصل الربيع في حجاب السحاب، ويطوف حول الدنيا ثم يصعد إلى السماء، فالأزهار والرياحين والأثمار ونحو ذلك مما يظهر في الربيع بسبب ذلك النزول. (3)

 

(الأموية)

الحادية عشرة الأموية: (4) وهم يقولون: إن الأمير كان شريكا للنبي - عليه الصلاة والسلام - في نبوته ورسالته. (5)

 

(التفويضية)

الثانية عشر التفويضية: وهم يقولون: إن الله تعالى خلق محمدا وفوض غليه خلق الدنيا، وأنه الخلاق لها بما فيها. ومنهم من قال مثل هذه المقالة في علي كرم الله وجهه ومنهم من قال باشتركهما في ذلك. (6)

 

(الخطابية)

الثالثة عشر الخطابية: أصحاب أبي الخطاب الأسدي، (7) زعموا أن الأئمة أنبياء، وأن أبا الخطاب كان نبيا، وأن الأنبياء فرضوا على الناس طاعته. ثم زادوا وزعموا أن الأئمة آلهة، وأن أبناء الحسن والحسين أبناء الله وأحباؤه، وأن جعفرا إله، وأن أبا الخطاب أفضل منه ومن علي بن أبي طالب، ويستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم. ثم افترق هؤلاء بعد قتل أبي الخطاب، فمنهم من قال: الإمام بعد أبي الخطاب معمر، وعبدوه كما عبدوا أبا الخطاب، وزعموا أن الجنة هي ما ينالهم من خير في الدنيا ونعيم فيها، وأن

_________

(1) مقالات الإسلاميين: ص 5؛ الفرق بين الفرق: ص227؛ الملل والنحل: 1/ 152؛ منهاج السنة النبوية: 2/ 502.

(2) مقالات الإسلاميين: ص 9؛ اعتقادات فرق المسلمين: ص 58؛ الفرق بين الفرق: ص 234؛ الملل والنحل: 1/ 178؛ منهاج السنة النبوية: 2/ 505.

(3) عدها الأسفرايني من فرق الخطابية التي ظهرت بعد موت أبي الخطاب وكانوا يقولون: «إن جعفرا كان إلها ولم يكن جعفر ذلك الذي يراه الناس بل كان ما يراه الناس في صورة مثاله». التبصير في الدين: ص 127.

(4) في المطبوع (الإمامية)، والتصحيح من نهج السلامة والسيوف المشرقة

(5) الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 87؛ فضائح الباطنية: ص71.

(6) الفرق بين الفرق: ص238؛ التبصير في الدين: ص 128؛ الصواعق المحرقة: 2/ 593؛ المواقف: ص684.

(7) هو أبو الخطاب محمد بن أبي زينب (واسمه مقلاص) الأسدي الكوفي، قال المجلسي: «كان في أول أمره من أجلاء أصحاب الصادق - عليه السلام - ثم ارتد وابتدع مذاهب باطلة ولعنه الصادق - عليه السلام - وتبرأ منه ... واختلف الأصحاب فيما رواه حال استقامته والأكثر على جواز العمل بها ... ». بحار الأنوار: 69/ 220؛ أعيان الشيعة: 2/ 348.

(1/12)

________________________________________

النار ما يصيبهم فيها من المشاق والهدم، واستباحوا المحرمات وترك الفرائض. ومنهم من قال: الإمام بعد أبي الخطاب بزيع، وأن كل مؤمن يوحى إليه، تمسكا بقوله تعالى: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله} أي يوحى من الله. وزعموا أن فيهم خيرا من جبرائيل، وميكائيل، وأنهم لا يموتون، وأن الواحد منهم إذا بلغ النهاية ارتفع إلى الملكوت. ومنهم من قال: الإمام بعد أبي الخطاب عمر بن بيان العجلي، إلا أنهم يموتون. كذا في (أبكار الأفكار). (1)

 

(المعمرية)

الرابعة عشرة المعمرية: أصحاب المعمر، القائلون بنبوة الإمام جعفر الصادق، وأن أبا الخطاب بعده نبي، وأن أحكام الشرع مفوضة إلى المعمر، وأن المعمر آخر الأنبياء، وقد أسقط الأحكام ورفع التكاليف. وهم قسم من الخطابية. (2)

 

(الغرابية)

الخامسة عشر الغرابية: وهم القائلون إن عليا كان أشبه بمحمد من الغراب بالغراب والذباب بالذباب، وأن الله تعالى بعث جبرائيل إلى علي فغلط وأدى الرسالة إلى محمد لمتشابهته به، (3) ولذلك يعنون صاحب الريش أي جبرائيل، وقد قال شاعرهم «غلط الأمين فجازها عن حيدر». (4)

 

(الذبابية)

السادسة عشرة الذبابية: وهم قسم من الغرابية إلا أنهم زادوا عليهم بقولهم بنبوة محمد وأنه أشبه بالإله من الذباب بالذباب. قاتلهم الله تعالى. (5)

 

(الذمية)

السابعة عشر الذمية: وإنما لقبوا ذلك لأنهم يرون ذم محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويزعمون أن عليا إله، وأنه بعث محمدا ليدعو إليه فادعى الأمر لنفسه. ومنهم من قال بإلهية محمد وعلي إلا أن منهم من يقدم عليا في أحكام الإلهية، ومنهم من يقدم محمدا، ومنهم من قال بإلهية خمسة أشخاص وهم أصحاب العبا (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين) وأن خمستهم شيء واحد، وأن الروح حالة فيهم بالسوية، ولا فضل لواحد على لآخر، ولم يسموا فاطمة بالتأنيث بل «فاطم» (6) ولذلك قال شاعرهم:

توليت بعد الله في الدين خمسة ... نبيا وسبطيه وشيخا وفاطما (7)

_________

(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل: 2/ 33؛ الملل والنحل: 1/ 179، منهاج السنة النبوية: 2/ 502.

(2) مقالات الإسلاميين: ص 11؛ الملل والنحل 1/ 65؛ المواقف: ص667.

(3) الفرق بين الفرق: ص237؛ التبصير في الدين: ص 128؛ المواقف: ص 673.

(4) المواقف: ص 682.

(5) الفرق بين الفرق: ص237؛ المواقف: ص681.

(6) الفرق بين الفرق: ص238؛ التبصير في الدين: ص 129؛ الملل والنحل: 1/ 176؛ المواقف: ص 673.

(7) الشهرستاني، الملل والنحل: 1/ 176.

(1/13)

________________________________________

(الاثنينية)

الثامنة عشرة الاثنينية: وهم فرقة من الذمية الذين يعتقدون إلهية محمد - صلى الله عليه وسلم - بالتفصيل السابق. (1)

 

(الخمسية)

التاسعة عشر الخمسية: وهم أيضا فرقة من الذمية الذين يعتقدون إلهية خمسة أشخاص على ما سبق، وقد تبعنا في هذا العد صاحب الأصل، وإلا فغيره لم يذكر هاتين الفرقتين بالاستقلال. (2)

 

(النصيرية)

العشرون النصيرية: (3) القائلون بحلول الإله في عليّ وأولاده، ولكن يخصون الحلول بالأئمة، وقد يطلقون لفظ الإله على الأمير مجازا من باب إطلاق اسم الحال على المحل. (4)

 

(الإسحاقية)

الحادية والعشرون الإسحاقية: وهم يقولون: لم تخل الأرض ولا تخلو عن نبي وأن الباري حل في عليّ. ووقع الاختلاف بينهم في من حل الإله بعد عليّ. (5)

 

(العلبائية)

الثانية والعشرون العلبائية: أصحاب علباء بن اروع الأسدي، وقيل الأوسي، وهم قائلون بألوهية الأمير وأنه أفضل من محمد وأن محمد بايع عليا. (6)

 

(الرزامية)

الثالثة والعشرون الرزامية: وهم الذين ساقوا الإمامة إلى محمد بن الحنفية، ثم إلى ابنه، (7) ثم إلى علي بن عبد الله بن العباس، (8) ثم ساقوها في ولده إلى (9) المنصور، ثم ادعوا حلول الإله تعالى في أبي مسلم وأنه لم يقتل، واستحلوا المحارم، ومنهم من ادعى الإلهية في المقنع. (10)

 

(المقنعية)

الرابعة والعشرون المقنعية: أصحاب المقنع (11) الذين يعتقدون أن المقنع إله بعد الإمام الحسين - رضي الله تعالى عنه -، (12) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

_________

(1) وهم فرقة من الذمية. السيوف المشرقة: ص 6/أ.

(2) وهم فرقة من الذمية يعتقدون إلهية خمسة أشخاص. السيوف المشرقة: ص 6/أ.

(3) وهذه الفرقة لها بقية في ديار الشام بين حمص واللاذقية وحلب وفي شمال حلب ويتسمون الآن «العلويون»

(4) أتباع أبي شعيب محمد بن نصير. الملل والنحل: 1/ 188؛ منهاج السنة النبوية: 2/ 627؛ الجواب الصحيح: 4/ 303؛ المواقف: ص 47.

(5) الملل والنحل: 1/ 188.

(6) الملل والنحل: 1/ 175.

(7) هو أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، يقال له عبد الله الأكبر، قال ابن سعد: «كان أبو هاشم صاحب رواية وكان ثقة قليل الحديث وكانت الشيعة يلقونه ويتولونه»، أخرج له البخاري ومسلم في صحيحيهما، توفى سنة 98هـ. طبقات ابن سعد: 5/ 327؛ التاريخ الكبير: 6/ 14؛ تهذيب التهذيب: 6/ 14.

(8) قال عنه الذهبي: «الإمام القانت، ولد عام قتل الإمام علي فسمي باسمه»، قال ابن سعد: «كان ثقة قليل الحديث، لقب بالسجاد لكثرة صلاته»، ومن نسله كان خلفاء بني العباس، توفى سنة 118هـ. طبقات ابن سعد: 5/ 313؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء: 5/ 284.

(9) في المطبوع (أبي) والتصحيح من السيوف المشرقة

(10) مقالات الإسلاميين: ص 21؛ الفرق بين الفرق: ص 242؛ الملل والنحل: 1/ 153.

(11) يعرف بالمقنّع الخراساني، من أهل مرو وكان يعرف شيئا من السحر، فادعى الربوبية من طريق المناسخة، يقال إنه اتخذ قناعا من ذهب لقبحه، تبعه خلق كثير، وقتل سنة 163هـ. تاريخ الطبري: 4/ 560 وما بعدها؛ وفيات الأعيان: 3/ 263.

(12) اعتقادات فرق المسلمين: ص 79؛ الفرق بين الفرق: ص215.

(1/14)

________________________________________

(فرق الشيعة الإمامية)

ثم اعلم أن أكثر الفرق الأربع الشيعة السبية، فقد انتشرت في جميع الربع المعمور، فلا تكاد ترى بلدا إلا وهو بها مغمور، والإمامية فرقة منها، وهي أيضا فرقة كبيرة وطائفة كثيرة، وقد انقسمت إلى تسع وثلاثين فرقة.

 

(الحسنية)

الأولى الحسنية يقولون: إن الحسن المجتبى هو الإمام بعد أبيه علي المرتضى، والإمام من بعده الحسن المثنى بوصية له، ثم ابنه عبد الله، ثم ابنه محمد الملقب بالنفس الزكية، (1) ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله، (2) وهذان خرجا في عهد المنصور الدوانيقي (3) ودعوا الناس إلى متابعتهما فتبعهما خلق كثير. واستشهدوا بعد حرب شديد على يد بعض أمراء الدوانقي رحمة الله عليهما. وقد ظهرت هذه الفرقة ستة مائة وخمس وتسعين.

 

(النفسية)

الثانية النفسية: وهي طائفة من الحسنية يقولون إن النفس الزكية لم يقتل بل غاب واختفى وسيظهر بعد. (4)

 

(الحكمية)

الثالثة الحكمية: ويقال لها (الهشامية) أيضا، وهم أصحاب هشام بن الحكم (5) يقولون بإمامة الحسين بعد أخيه الحسن، ثم بإمامة أولاده على الترتيب المشهور إلى الصادق، وقد ظهرت سنة مائة وتسع. (6)

 

(السالمية)

الرابعة السالمية: ويقال لها أيضا «الجواليقية» وهم أصحاب هشام بن سالم الجواليقي (7) وهم في الإمامية كالحكمية، وفي الاعتقاد مختلفون: فالحكمية يقولون: إن الله عزوجل جسم طويل عريض عميق متساوى الأبعاد غير مصور بالصور المتعارفة، وهم يقولون جسم مصور بصورة الانسان، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وقد ظهرت سنة مائة وثلاث عشرة. (8)

 

(الشيطانية)

الخامسة الشيطانية: ويقال لها «النعمانية» أيضا أصحاب محمد بن نعمان الصيرفي

_________

(1) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، خرج في خلافة المنصور بالمدينة، فقتل سنة 145هـ، وادعى أعوانه عدم موته وأنه المهدي. الملل والنحل: 1/ 176 سير أعلام النبلاء: 6/ 210؛ تهذيب التهذيب: 9/ 224.

(2) قتله أيضا المنصور العباسي سنة 145هـ بعد خروجه في البصرة. الطبري، التاريخ: حوادث سنة 145؛ سير أعلام النبلاء: 6/ 218.

(3) الخليفة المنصور

(4) الفصل: 4/ 137؛ التبصير في الدين: ص 31.

(5) هو هشام بن الحكم الشيباني الكوفي، سكن بغداد، قال الحافظ ابن حجر: «كان من كبار الرافضة ومشاهيرهم يزعم أن ربه طوله سبعة أشبار بشبر نفسه»، توفي نحو 190هـ. لسان الميزان: 6/ 194، وقال عنه ابن قتيبة: «كان من الغلاة ويقول بالجبر الشديد ويبالغ في ذلك ويجوز المحال الذي لا يتردد في بطلانه ذو عقل». تأويل مختلف الحديث. وهو عند الشيعة الإمامية من أشهر رواتهم وأوثقهم، ويروون مدحه عن أئمة أهل البيت، وأن الصادق دعى له بقوله: «أقول لك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان: لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك». بحار الأنوار: 21/ 388، وأنه قال له: «هذا ناصرنا بقلبه ولسانه ويده»، بحار الأنوار: 21/ 295. لكن هناك روايات تكذبها منها ما أخرجه الكليني عن: «علي بن حمزة قال قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أن الله جسم صمدي نوري معرفته ضرورة يمنّ بها على من يشاء من خلقه، فقال - عليه السلام -: سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو {ليس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}». الكافي: 1/ 104. والجرح مقدم على التعديل، وهذا يظهر كثرة تناقض أخبارهم. وينظر: ابن النديم، الفهرست: ص249؛ الأشعري، مقالات الإسلاميين: ص31؛ الشهرستاني، الملل والنحل: 1/ 184.

(6) مقالات الإسلاميين: 1/ 31؛ الفرق بين الفرق: ص 216؛ الملل والنحل: 1/ 72

(7) هشام بن سالم الجواليقي العلاف، زعم أن معبوده على صورة الإنسان. الفرق بين الفرق: ص216؛ الملل والنحل: 1/ 185. وهو من ثقات الرواة عن الصادق عند الإمامية قال عنه النجاشي: «ثقة ثقة». رجال النجاشي: 2/ 339، وذكره الكشي في رجاله: ص 281 ..

(8) التبصير في الدين: ص 133 تلبيس إبليس: ص 104.

(1/15)

________________________________________

الملقب بشيطان الطاق، (1) وهم يقولون بالإمامة على الترتيب المشهور إلى موسى الكاظم (2) وبالتجسيم كالسالمية. وقد ظهرت سنة مائة وثلاث عشرة أيضا. (3)

 

(الزرارية)

السادسة الزرارية: أصحاب زرارة بن أعين الكوفي. وهم في الإمامية كالحكمية وخالفوهم في زعمهم أن صفاته تعالى حادثة لم تكن في الأزل وقد ظهرت سنة مائة وخمس وأربعين.

 

(البدائية، المفوضة، اليونسية)

السابعة والثامنة والتاسعة البدائية، والمفوضة، واليونسية: أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي، (4) وكلهم متفقون على إمامة الأئمة الستة بالترتيب المشهور وزعمت اليونسية منهم أن الله سبحانه على العرش بالمعنى المعروف تحمله الملائكة. (5) والبدائية أن الله سبحانه قد يريد بعض الأشياء ثم يبدو له ويندم لكونه خلاف المصلحة، وحملت خلافة الثلاثة ومدحهم في الآيات على ذلك. (6) والمفوضة منهم من يزعم أن الله تعالى فوّض خلق الدنيا إلى محمد - عليه الصلاة والسلام -، ومنهم من يقول: إلى علي كرم الله تعالى وجهه. ومنهم من يقول إلى كليهما. (7) وقد ظهرت البدائية والمفوضة سنة ظهور الزرارية.

 

(الباقرية)

العاشر الباقرية: يقول إن الإمام محمد الباقر لم يمت وهو المنتظر. (8)

 

(الحاصرية)

الحادية عشرة الحاصرية: (9) يقولون: إن الإمام بعد محمد الباقر ابنه زكريا، وهو مختف في جبل الحاصر (10) لا يخرج حتى يؤذن له. (11)

 

(الناووسية)

الثانية عشر الناووسية: أصحاب عبد الله بن ناووس البصري، يقولون: إن الإمام جعفر الصادق حي غائب وهو المهدي المنتظر. (12)

_________

(1) ويسميه الشيعة «مؤمن الطاق» و «مؤمن آل محمد» وهو الذي اخترع لهم في الإمامة أن الأشخاص منصوص عليهم بأعيانهم. فقال له الإمام زيد: كيف تعرف أنت هذا وأنا لا أعرفه ولم يذكره لي أبي؟ وشيطان الطاق أيضا هو الذي زعم في الكتاب الذي ألفه في الإمامة أن الله عز وجل لم يقل (ثاني اثنين إذ هما في الغار). ينظر: اعتقادات فرق المسلمين: ص 65؛ الملل والنحل: 1/ 186؛ منهاج السنة النبوية: 2/ 227؛ لسان الميزان: 5/ 300. وهو من أوثق الرجال عند الإمامية، قال النجاشي: «فأما منزلته في العلم وحسن الخاطر فأشهر، وقد نسب إليه أشياء لم تثبت عندنا». رجال النجاشي: 2/ 203؛ تنقيح المقال: 3/ 162.

(2) هو موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال أبو حاتم: ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين، توفى سنة 183هـ. تاريخ بغداد: 13/ 27؛ سير أعلام النبلاء: 6/ 270؛ تهذيب التهذيب: 10/ 302.

(3) اعتقادات فرق المسلمين: ص 65؛ الفرق بين الفرق: ص 53؛ التبصير في الدين: ص 40؛ الملل والنحل: 1/ 186.

(4) ذكره أهل السنة في كتب الملل والنحل فقد زعم أن الله تعالى يحمله حملة عرشه. مقالات الإسلاميين: ص35؛ الفرق بين الفرق: ص 52؛ الملل والنحل: 1/ 140. أما عند الشيعة الإمامية فهو من رواتهم الثقات عن الكاظم والرضا، قال عنه النجاشي: «كان وجها في أصحابنا متقدما عظيم المنزلة»، مات سنة 208هـ. رجال النجاشي: 2/ 420؛ الخلاصة: ص 184.

(5) مقالات الإسلاميين: ص 35؛ الفرق بين الفرق: ص 52؛ الملل والنحل: 1/ 188.

(6) المواقف: ص 684.

(7) الفرق بين الفرق: ص 238؛ المواقف: ص 684.

(8) اعتقادات فرق المسلمين: ص 53؛ الفرق بين الفرق: ص 53؛ التبصير في الدين: 35؛ الملل والنحل: 1/ 165.

(9) في المطبوع (الحاضرية) والتصحيح من نهج السلامة

(10) التصحيح من نهج السلامة

(11) ينظر: المواقف: ص 680.

(12) ينظر: مقالات الإسلاميين: ص25؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 138؛ الملل والنحل: 1/ 166

(1/16)

________________________________________

(العمارية)

الثالثة عشر العمارية: أصحاب عمار يقولون: إن الصادق قد مات والإمام بعده ابنه محمد، وقد ظهرت سنة مائة وخمس وأربعين. (1)

 

(المباركية)

الرابعة عشر المباركية: من الإسماعيلية أصحاب المبارك، يعتقدون أن الإمام بن جعفر ابنه الأكبر إسماعيل ثم ابنه محمد وهو خاتم الأئمة والمهدي المنتظر. (2)

 

(الباطنية)

الخامسة عشر الباطنية: من الإسماعيلية أيضا يرسلون الإمامة بعد إسماعيل من جعفر في أولاده بنص السابق على اللاحق، ويزعمون وجوب العمل بباطن الكتاب دون ظاهره. (3)

 

(القرامطة)

السادسة عشرة القرامطة: من الإسماعيلية أيضا وهم أصحاب قرمط، وهو المبارك في قول، (4) وقال بعض العلماء اسم رجل آخر من أهل سواد الكوفة اخترع ما عليه القرامطة، وقيل هو اسم أبيه، وأما المخترع نفسه فاسمه حمدان، وكان ظهوره سنة سبعين ومائتين. وقيل إن قرمط اسم لقرية من قرى واسط منها حمدان المخترع، وهو قرمطي وأتباعه قرامطة، وكان ظهوره فيها، وقيل غير ذلك. ومذهبهم أن إسماعيل بن جعفر خاتم الأئمة وهو حي لا يموت، ويقولون بإباحة المحرمات. (5)

 

(الشمطية)

السابعة عشرة الشمطية: أصحاب يحيى بن أبي الشمط (6) يزعمون أن الإمامة تعلقت بعد الصادق بكل من أبنائه الخمسة بهذا الترتيب: إسماعيل ثم محمد ثم موسى الكاظم ثم عبد الله الأفطح ثم إسحاق. (7)

 

(الميمونية)

الثامنة عشرة الميمونية: أصحاب عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي، (8) وهم قائلون بإمامة إسماعيل، ويزعمون أن العمل بظواهر الكتاب والسنة حرام، ويجحدون المعاد. (9)

 

(الخلفية)

التاسعة عشرة الخلفية: أصحاب خلف، وهم قائلون بإمامة إسماعيل ونفى المعاد كالميمونية، إلا أنهم يقولون: كل ما في الكتاب والسنة من الصلاة والزكاة ونحوها محمول على المعنى اللغوي لا غير. (10)

 

(البرقعية)

العشرون البرقعية: أصحاب محمد بن علي البرقعي، (11) وهم في الإمامة كمن سمعت

_________

(1) ينظر: مقالات الإسلاميين: ص28؛ الملل والنحل: 1/ 29.

(2) ينظر: مقالات الإسلاميين: ص27؛ الفرق بين الفرق: ص47؛ الملل والنحل: 1/ 168.

(3) ينظر: الفرق بين الفرق: ص265؛ الملل والنحل: 1/ 167؛ فضائح الباطنية: ص16.

(4) يقال اسمه حمدان بن الأشعث، رجل من سواد الكوفة، ظهر سنة 281هـ في خلافة المعتضد، وقويت شوكتهم وأخافوا السبيل، لهم مقالات كثيرة. تاريخ الطبري: 5/ 603؛ الكامل في التاريخ: 6/ 364.

(5) ينظر: مقالات الإسلاميين: ص26؛ الفرق بين الفرق: ص272؛ الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 143.

(6) في المطبوع (الشميط) والتصحيح من نهج السلامة

(7) اعتقادات فرق المسلمين: ص45؛ الملل والنحل: 1/ 167.

(8) كان من الزنادقة فانسلك في خدمة جعفر الصادق، ثم ابنه إسماعيل، فلما مات لزم خدمة محمد، وتبنى الباطنية، تركه محدثو أهل السنة. قال البخاري والترمذي: منكر الحديث، وقال أبو زرعة: واهي الحديث. اعتقادات فرق المسلمين: ص 76؛ الفرق بين الفرق: ص 267؛ تهذيب التهذيب: 6/ 44. وعند الإمامية فرغم أنه من الباطنية وإليه تنسب الميمونية، فهو من ثقات الرواة عن الباقر والصادق، مع أنه لا يقول بإمامة موسى الكاظم بعد أبيه الصادق بل بإمامة إسماعيل بن جعفر الصادق ثم ابنه محمد، فرجال الإمامية لفقوا من معظم الفرق الشيعية. ينظر: رجال النجاشي: 2/ 8؛ تنقيح المقال: 2/ 186.

(9) مقالات الإسلاميين: ص93؛ الفرق بين الفرق ص 75؛ الملل والنحل: 1/ 129.

(10) ينظر: مقالات الإسلاميين: ص93؛ الفرق بين الفرق: ص75؛ الملل والنحل: 1/ 130.

(11) هو محمد بن علي بن عبد الرحيم البرقعي، يعرف بصاحب الزنج، ادعى أنه من نسل زيد بن علي بن الحسين، وخرج سنة 249هـ أولا بهجر، ثم خرج بالبصرة فالتف عليه خلق من الزنج (العبيد)، وبقي مدة خمسة عشر عاما. واستمرت فتنته حتى قتل سنة 271هـ. ينظر تاريخ الطبري: 5/ 332؛ البداية والنهاية: 11/ 18

(1/17)

________________________________________

آنفا، وينكرون أيضا المعاد، ويؤولون النصوص بما تهوى أنفسهم، وينكرون نبوة بعض الأنبياء، ويوجبون لعنهم والعياذ بالله تعالى. (1)

 

(الجنابية)

الحادية والعشرون الجنابية: أتباع أبي طاهر الجنابي، وهم كالقرامطة في الإمامة، وينكرون المعاد والأحكام بأسرها، ويوجبون قتل من يعمل بها ولذا قتلوا الحجاج، وقلعوا الحجر الأسود، (2) وعدهم غير واحد فرقة من القرامطة، كما أنهم عدوا القرامطة فرقة من الإسماعيلية. (3)

 

(السبعية)

الثانية والعشرون السبعية: وهم أيضا من الإسماعيلية، يقولون: إن الأنبياء الناطقين بالشرائع سبعة: آدم وأولو العزم الخمسة والمهدي، وأن بين كل رسولين سبعة رجال آخرين يقيمون الشريعة السابقة إلى حدوث اللاحقة، وإسماعيل بن جعفر كان أحد هؤلاء السبعة، وهم المقيمون للشريعة بين محمد - صلى الله عليه وسلم - والمهدي المنتظر وهو آخر الرسول بزعمهم. وزعموا أنه لا يخلو الزمان عن واحد من أولئك الرجال. (4)

 

(المهدوية)

الثالثة والعشرون المهدوية: زعموا أن الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد الوصي، (5) ثم لابنه أحمد الوفي، (6) ثم لابنه محمد التقي، وفي بعض الكتب: قاسم التقي، (7) ثم لابنه عبيد الله (8) الرضي، (9) ثم لابنه أبي القاسم عبد الله، (10)

ثم لابنه محمد الذي لقب نفسه بالمهدي، (11) وقد

_________

(1) تاريخ الطبري: 5/ 332؛ البداية والنهاية: 11/ 18 وما بعدها.

(2) تفاقم أمرهم حتى استحلوا المسجد الحرام سنة 317هـ، فسفكوا دم الحجيج وسط المسجد حول الكعبة، وكسروا الحجر الأسود واقتلعوه من مكانه وأخذوه إلى البحرين، وبقي عندهم إلى سنة 339هـ، قال ابن كثير: «وكل ذلك من ضعف الخليفة وتلاعب الترك بمنصب الخلافة واستيلائهم على البلاد وتشتت الأمر». البداية والنهاية: 11/ 63.

(3) الفرق بين الفرق: ص267؛ منهاج السنة النبوية: 6/ 343.

(4) اعتقادات فرق المسلمين: ص80؛ تلبيس إبليس: ص125؛ منهاج السنة النبوية: 3/ 481.

(5) ومن المعروف أن محمد بن إسماعيل مات ولم يخلف ولدا، لكن يعتقد الإسماعيلية أنه ترك ابنا سماه محمدا، وهو من الأئمة (المستورين).

(6) وهو الإمام الثامن عند الإسماعيلية رغم أن محمد بن إسماعيل لم يعقب، إلا أن الإمامية والإسماعيلية أثبتوا له ولدا اسمه عبد الله أو أحمد واختلفوا في اسمه، فهو أحمد عند الإمامية وعبد الله عند الإسماعيلية الذين يعتقدون إمامته ويلقبونه بأحمد الوفي ويؤرخون ولادته بسنة 159هـ، لكنهم يعترفون بأنه يعرف بين الناس باسم عبد الله بن ميمون القداح! وكان ذلك كما ادعوا لإخفاء شخصيته كما ذكر مؤرخهم عارف تامر في تاريخ الإسماعيلية: 1/ 130. وهذا دليل صريح على فساد مذهبهم وبعدم وجود ابن أصلا لمحمد بن إسماعيل بن جعفر. فسلك القداح مقالة (غيبة الإمام) قبل الإمامية باعتباره لحل معضلة موت الإمام بلا ذرية. ومن ثم فإن الشيعة الإمامية قالوا بغيبة الإمام بعد أن مات الحسن بن علي (العسكري) بلا ذرية، وبهذا يتضح تلفيق العبيديين لنسبهم، فهم يعودون إلى القداح الفارسي مولاهم المخزومي لا إلى البيت العلوي، وهذا النسب هو ما ذهب إليه الباقلاني. ينظر: النجوم الزاهرة: 4/ 76.

(7) واسمه عند الإسماعيلية: أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل ولقبه (محمد التقي)، وهو الإمام التاسع عند الإسماعيلية ومن الأئمة المستورين عنده، ولد سنة 179هـ وفق قولهم. مات (محمد التقي) على قول مؤرخهم عارف تامر سنة 225هـ. تاريخ الإسماعيلية: 1/ 132. ولا يظهر وجود ترجمة له إلا في هذا الكتاب. وهو ابن القداح رغم ادعائه النسب العلوي.

(8) نقل الدكتور برنارد لويس في كتابه (أصول الإسماعيلية) ص 74 من الترجمة العربية على كتاب (غاية المواليد) - وهو من كتب الإسماعيليين السرية - اعترافا لهم بأن عبيد الله لم يكن علويا، ثم بسط الدكتور برنارد لويس الكلام في ص 117 وما بعدها على «الأبوة الروحانية» أو «النكاح الروحاني» عند الإسماعيلية، واستعمالهم كلمتي «أب» و «ابن» في غير معناهما الحقيقي. وهو بحث مهم فارجع إليه، ومنه تعلم أن نسب العبيديين الروحاني لمحمد بن إسماعيل، وإن كان نسبهم الحقيقي بدمائهم لميمون القداح.

(9) والمحقق أنه الحسين بن أحمد بن عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي، يعرف عند الإسماعيلية برضي الدين عبد الله، وهو الإمام العاشر عندهم، وفي عهده تأسس النظام السياسي للدعوة الميمونية الباطنية التي سميت لاحقا بالدعوة العبيدية (الفاطمية) فأرسل أبو عبد الله الشيعي إلى المغرب، ومات سنة 289هـ على قول الإسماعيلية. تاريخ الإسماعيلية: 1/ 133.

(10) المعروف أن الأئمة المستورين ثلاثة عند الإسماعيلية: أحمد الوفي ومحمد التقي وعبد الله الرضي، أما أبو القاسم هذا فهو اسم آخر لمحمد المهدي فهو اسمه المستور قبل أن يستولي على بعض بلاد المغرب ..

(11) أما عند ابن خلكان فاسمه أبو محمد عبيد الله الملقب بالمهدي، قال الذهبي: «أول من قام من الخلفاء الخوارج العبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام وأعلنوا بالرفض وأبطنوا مذهب الإسماعيلية وبثوا الدعاة يستغوون الجبلية والجهلة»، وقد مهد له أبو عبد الله الشيعي وهو من دعاة الباطنية الطريق في إفريقية، وخلصه من أسر القبائل، ويذكر ابن خلكان أن المهدي هذا قد قتل في الأسر في سجلماسة، «فخاف أبو عبد الله الشيعي أن ينتقض عليه ما دبره إن علمت العساكر بقتل المهدي، فأخرج رجلا كان يخدمه وقال: هذا هو المهدي». ومهما يكن فلا صلة له بلبيت العلوي، لكنه بويع للخلافة بالمغرب سنة 296هـ، ولما استتب له الأمر قتل أبا عبد الله الشيعي وقتل أخاه بتهمة المؤامرة، ثم بنى مدينة المهدية بإفريقية وفرغ منها سنة 308هـ، وبقي في الحكم خمسا وعشرين عاما، ومات سنة 322هـ. وفيات الأعيان: 3/ 117؛ سير أعلام النبلاء: 15/ 141.

(1/18)

________________________________________

صار واليا بالمغرب، واستولى على بلاد إفريقية، وملك بنوه مصر وما حولها. ثم لابنه أحمد (1) القائم بأمر الله، ثم لابنه إسماعيل المنصور بقوة الله، (2) ثم لابنه معد المعز لدين الله، (3) ثم لابنه المنصور نزار العزيز بالله، (4) ثم لابنه أبي علي الحاكم بأمر الله، (5) ثم لأبي الحسن الظاهر بدين الله، (6)

ثم لمعد المستنصر بالله، (7) وذلك بنص الآباء بترتيب الولادة. وهذا الترتيب إلى هنا مجمع عليه عندهم.

واختلفوا بعد المنتصر لما أنه نص أولا على إمامة ابنه (8) نزار، وثانيا على إمامة ابنه أبي القاسم المستعلي بالله، (9) فبعضهم تمسك بالنص الثاني وقال إنه ناسخ للأول، فقال بإمامة المستعلي فسموا المهدوية (المستعلية) (10) ثم بإمامة ابنه المنصور الآمر بأحكام الله، (11) ثم بإمامة أخي المنصور هذا عبد المجيد الحافظ لدين الله، (12) ثم بإمامة ابنه أبي المنصور محمد الظافر بأمر الله، (13) ثم بإمامة ابنه أبي القاسم الفائز بنصر الله، (14) ثم بإمامة ابنه محمد العاضد لدين الله، (15)

وقد خرج على هذا أمراء الشام واستولوا عليه فسجنوه حتى مات وما بقي بعده أحد من أولاد المهدي داعيا للإمامة.

وبعضهم تمسك بالنص الأول وألغى الثاني فقال بإمامة نزار ويقال للقائلين بذلك «النزارية» وقد يقال لهم «الصباحية» و «الحميرية» نسبة للحسن ابن صباح الحميري (16) حيث قام بالدعوة لطفل سماه الهادي زاعما أنه ابن نزار، (17) فهو الإمام عندهم بعد أبيه، ثم ابنه الحسن، (18) وزعم هذا أنه يجوز للإمام أن يفعل ما شاء، وأن يسقط التكاليف الشرعية. وقد قال لأصحابه: إنه أوحي إلي أن أسقط عنكم التكاليف الشرعية، وأبيح لكم المحرمات، بشرط أن لا تنازعوا بينكم ولا تعصوا إمامكم. ثم ابنه محمد، (19) وكان متخلقا بأخلاق أبيه، وكذا ابنه علاء الدين محمد. (20)

وأما ابنه جلال الدين حسن ابن محمد بن الحسن (21) فقد كان متصلبا في الإسلام منكرا مذهب آبائه حسن الأخلاق آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. وأما ابنه علاء الدين (22) فقد صار ملحدا بعد أبيه الحسن، وكذا ابنه ركن الدين. (23) وقد ظهر في زمن هذا جنكيزخان (24) فخرب مملكته وكان إذ ذاك بالري (25) وتحصن في قلعة ألموت (26) من قلاع طبرستان، (27) ولم يتم له ذلك، بل كان آخر أمره من أتباع

_________

(1) اسمه في المصادر محمد وليس أحمد. تولى بعد أبيه سنة 322هـ وتلقب بالقائم بأمر الله، حاول احتلال مصر وفشل، مات سنة 334هـ. أخبار بني عبيد: ص 53؛ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى: 2/ 6.

(2) هو إسماعيل بن محمد بن عبيد الله المهدي، أبو طاهر المنصور، ثالث خلفاء الدولة العبيدية بالمغرب بويع سنة 336هـ، وتوفي سنة 341هـ. أخبار بني عبيد: ص53؛ وفيات الأعيان: 1/ 234.

(3) هو أبو تميم معد بن إسماعيل بن محمد بن عبيد الله المهدي، الملقب بالمعز لدين الله، تولى أمر بني عبيد سنة 341هـ، وانتقل إلى مصر سنة 262هـ، ووطد حكم العبيديين فيها فبنى القاهرة واستقر بها، وكانت وفاته سنة 365هـ. وفيات الأعيان: 5/ 224؛ سير أعلام النبلاء: 15/ 159؛ النجوم الزاهرة: 3/ 308.

(4) هو نزار بن معد بن إسماعيل بن محمد بن عبيد الله المهدي، الملقب بالعزيز بالله، آل إليه الأمر في القاهرة سنة 365هـ، ومات سنة 380هـ. وفيات الأعيان: 5/ 371؛ أخبار بني عبيد: ص 93؛ سير أعلام النبلاء: 15/ 167.

(5) سادس خلفاء العبيديين، تولى سنة 386هـ، وصفه الذهبي ب: «الرافضي بل الإسماعيلي الزنديق المدعي للربوبية ... » وقال عنه: «كان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون سفاكا للدماء خبيث النحلة عظيم المكر ... كان فرعون زمانه يخترع كل وقت أحكاما يلزم الرعية بها، أمر بسب الصحابة - رضي الله عنهم -، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع وأمر عماله بالسب»، تولى مصر 411هـ، ومات سنة 427هـ. سير أعلام النبلاء: 15/ 173؛ النجوم الزاهرة: 4/ 276؛ شذرات الذهب: 3/ 192.

(6) بويع وهو صبي بعد مقتل أبيه في شوال سنة 411، مات سنة 427هـ. أخبار بني عبيد: 1/ 301؛ سير أعلام النبلاء: 15/ 184؛ النجوم الزاهرة: 4/ 247 ..

(7) تولى بعد أبيه وله سبع سنين، وذلك في شعبان سنة 427هـ، فامتد حكمه ستين سنة وأربعة أشهر، وخطب له بأمرة المؤمنين على منابر العراق سنة 451هـ، بعد تغلب بعض دعاة الإسماعيلية عليها وهروب الخليفة العباسي القائم بأمر الله، مات المستنصر سنة 487هـ. أخبار بني عبيد: ص 104؛ وفيات الأعيان: 5/ 229؛ سير أعلام النبلاء 15/ 186.

(8) في المطبوع (أخيه)، حيث ذكر المؤرخون للمستنصر ولدين، نزار وأحمد، وكان المستنصر عقد ولاية العهد لابنه الكبير نزار، وعندما مات المستنصر مال رجال القصر لبيعة أحمد، وبايعوه ولقبوه بالمستعلي، لكن خرج نزار إلى الإسكندرية، وبويع فيها ولقب بالمصطفى لدين الله، وتحارب الطرفان، حتى تغلبت جيوش المستعلي ودخلت الإسكندرية سنة 437هـ. النجوم الزاهرة: 5/ 143 - 145

(9) هو أبو القاسم أحمد بن معد المستنصر، ولي الأمر سنة 487هـ، قال الذهبي: «وفي أيامه وهت الدولة العبيدية واختلت قواعدها وانقطعت الدعوة لهم من أكثر مدائن الشام واستولى عليها الإفرنج وغيرهم .. »، مات سنة 495هـ. أخبار بني عبيد: ص 105؛ وفيات الأعيان: 1/ 178؛ سير أعلام النبلاء: 15/ 196.

(10) وبسبب ذلك افترقت الإسماعيلية فرقتين إحداهما يرأسها في زماننا آغا خان، والأخرى وتسمى «البهرة» يرأسها طاهر سيف الدين.

(11) ولي أمر مصر وهو صغير سنة 495هـ، فاستولى الصليبيون على معظم المدن الساحلية الشامية، وصفه الذهبي ب «الرافضي الظلوم، كان متظاهرا بالمكر واللهو والجبروت» قتل سنة 524هـ من غير عقب فبويع ابن عمه عبد المجيد الحافظ لدين الله. أخبار بني عبيد: ص 105؛ سير أعلام النبلاء: 15/ 197؛ شذرات الذهب: 4/ 72.

(12) عبد المجيد بن محمد بن المستنصر، ولي الأمر سنة 524هـ وكان ضعيف الرأي فتغلب على الأمر أمير الجيش أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي، وهذا على مذهب الاثني عشرية، فأصبحت الدعوة في مصر للمنتظر صاحب السرداب، ولذلك قتل على يد فارس من خاصته سنة 526هـ، فعاد الأمر إلى الحافظ، مات سنة 544هـ. سير أعلام النبلاء: 15/ 199؛ النجوم الزاهرة: 5/ 237؛ شذرات الذهب: 4/ 138.

(13) ابن الحافظ، ولي أمر مصر بعد أبيه سنة 544هـ، قال الذهبي: «وكان شابا جميلا وسيما لعابا عاكفا على الأغاني والسراري .. »، وفي عهده انقطعت دعوة الباطنية في سائر الشام والمغرب والحرمين، وبقي لهم إقليم مصر، وقد تغلب عليه وزيره العادل ابن سلار الذي كان سنيا شافعيا، ولكنه قتل، ثم قتل الظافر بعده بعام سنة 459هـ. أخبار بني عبيد: ص 106؛ سير أعلام النبلاء: 15/ 205؛ شذرات الذهب: 4/ 152.

(14) بويع وهو ابن خمس سنوات بعد مقتل أبيه على يد وزيره عباس بن أبي الفتوح سنة 549هـ، وحاول الوزير الاستئثار بالأمر لكن أعوان ونساء الظافر راسلوا طلائع بن رزيك الأرمني الرافضي والي المنية، فدخل القاهرة بلا قتال فهرب عباس إلى الشام، مات الفائز سنة 555هـ. سير أعلام النبلاء: 15/ 205؛ النجوم الزاهرة: 15/ 207؛ شذرات الذهب: 4/ 222.

(15) كذا .. وعند الذهبي: هو عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله، أقامه طلائع بن رزيك بعد موت الفائز، فكان تحت سطوته: «لا حل لديه ولا ربط». ووصف بأنه كان «سبابا خبيثا متخلفا»، وقد قمع أمر العاضد والعبيديين على يد صلاح الدين الأيوبي الذي أزال دولة الرفض، وخلع العاضد سنة 567هـ. وفيات الأعيان: 2/ 528؛ سير أعلام النبلاء: 15/ 207؛ شذرات الذهب: 4/ 222.

(16) الحسن بن الصبّاح بن علي الإسماعيلي، من دعاة الباطنية، اتصل سنة 479هـ بالمستنصر العبيدي، وعرض عليه الدعوة لهم في خراسان، فأمده بالمال، واستولى على قلعة ألموت من نواحي قزوين سنة 483هـ. قال الذهبي: «كان من كبار الزنادقة ومن دهاة العالم»، مات سنة 518هـ، والفرقة التي أنشأها امتداد للإسماعيلية، وتعرف أيضا بالنزارية. الكامل في التاريخ: 8/ 220.

(17) عند الإسماعيلية هو علي بن نزار بن معد بن الحاكم بأمر الله منصور العبيدي، أول أئمة الإسماعيلية النزارية في قلعة ألموت، ولد ونشأ في القاهرة، وارتحل إلى ألموت فتولى إمامة الإسماعيلية بعد موت أبيه وتلقب بالهادي، وعلي هذا هو صاحب فرقة (الفدائية أو الحشاشين) كانت مهمتهم اغتيال أعداء الإسماعيلية، مات سنة 530هـ. الأعلام: 5/ 29؛ تاريخ الإسماعيلية: 4/ 187.

(18) ويلقب عند الإسماعيلية بالمهتدي، ولد سنة 503هـ، وتسلم أمور الإسماعيلية سنة 530هـ بعد موت أبيه، وكان محمد كيا بزرك هو المتصرف الحقيقي في القلعة حتى وفاة المهتدي سنة 552هـ. تاريخ الإسماعيلية: 4/ 94

(19) محمد بن كيا بزرك أميد ثالث الحجج عند الإسماعيلية، تولى الأمر بعد أبيه سنة 532هـ، وعاش حتى سنة 557هـ. تاريخ الإسماعيلية: 4/ 94.

(20) محمد بن الحسن الملقب ب (أعلا محمد)، تسلم إمامة الإسماعيلية سنة 561هـ، وكان من المتعصبين الغالين، مات سنة 607هـ. تاريخ الإسماعيلية: 4/ 95.

(21) تولى إمامة الإسماعيلية في (ألموت) بعد محمد بن الحسن (أعلا محمد) ابنه حسن المعروف بجلال الدين تولى أمر الإمامة عندهم سنة 607هـ، وكان حريصا على نشر مذهب الإسماعيلية في بلاد الشام وفارس، مات سنة 619هـ. تاريخ الإسماعيلية: 4/ 96.

(22) كان صغيرا عند مقتل والده سنة 619هـ، فتسلمت أمه أمور الإسماعيلية بالوصاية عليه، وعندما بلغ الخامسة عشر تسلم الأمر، واشتهر بالصلاح وعودته إلى دين الحق، ولذلك ذمه مؤرخو الإسماعيلية واتهموه بأنه لسبب انهيار دولتهم في قلعة (ألموت). تاريخ الإسماعيلية: 4/ 97.

(23) تسلم بعد مقتل والده سنة 653هـ، وفي عهده بدأ غزو المغول للعالم الإسلامي، حيث سيطر المغول على قلعة ألموت فأخذ ركن الدين أسيرا سنة 655هـ، فأمر بقتله إمبراطور المغول وبقتل أولاده أينما كانوا. تاريخ الإسماعيلية: 4/ 99 - 100.

(24) قائد مغولي قاد قومه التتر في فتوحات واسعة، قال الذهبي: أول مظهره سنة 559هـ، ومات سنة 624هـ. سير أعلام النبلاء: 12/ 379؛ شذرات الذهب: 5/ 113؛ دائرة المعارف الإسلامية: 22/ 234.

(25) مدينة في خراسان. معجم البلدان: 3/ 116.

(26) القلعة في جبال (البرز) شمال غربي مدينة قزوين، بناها البويهيون ثم استولى عليها الحسن بن الصباح فحصنها وجعلها مقرً أئمة الإسماعيلية. تاريخ الإسماعيلية: 4/ 92.

(27) مدينة كبيرة في خراسان. معجم البلدان: 4/ 13.

(1/19)

________________________________________

جنكيزخان، وقد انطلق معه جين عاد إلى وطنه فمات في الطريق، ثم خرج ابنه الملقب نفسه بجديد الدولة، فلما سمع به ملوك التاتار فرقوا جمعه فاختفى في قرى طبرستان حتى مات، فلم يبق من أولاده أحد مدعيا الإمامة. (1) وهذه الفرقة هي الرابعة والعشرون وكان ظهور المهدوية الجامعة للفرقتين سنة مائتين وتسع وتسعين. (2)

 

(الأفطحية)

الخامسة والعشرون الأفطحية: ويقال لها العمارية أيضا لأنهم كانوا أصحاب عبد الله بن عمار وهم قائلون بإمامة عبد الله الأفطح أي عريض الرجلين ابن جعفر الصادق شقيق إسماعيل معتقدين موته ورجعته إذ لم يترك ولدا حتى ترسل سلسلة الإمامة في نسله. (3)

 

(المفضلية)

السادسة والعشرون المفضلية: أصحاب مفضل بن عمرو ويقال لهم القطعية أيضا لأنهم قاطعون بإمامة موسى الكاظم، قاطعون بموته. (4)

 

(الممطورية)

السابعة والعشرون الممطورية: وهم قائلون بإمامة موسى معتقدون أنه حي وأنه المهدي الموعود، متمسكين يقول الأمير كرم الله نعالى وجهه: سابعهم قائمهم سَمِيُّ صاحب التوراة. وقيل لهم: «ممطورية» لقول يونس بن عبد الرحمن رئيس القطعية لهم اثناء مناظرة وقعت بينهما «أنتم أهون عندنا من الكلاب الممطورة» أي المبلولة بالمطر. (5)

 

(الموسوية)

الثامنة والعشرون الموسوية: يقطعون بإمامة موسى، ويترددون في موته وحياته ولذا لا يرسلون سلسلة الإمامة بعده في أولاده. (6)

 

(الرجعية)

التاسعة والعشرون الرجعية: وهم قائلون بإمامة موسى أيضا لكنهم يقولون بموته ورجعته. وهذه الفرق الثلاث يقال لها «الواقفية» أيضا لوقفهم الإمامة على موسى الكاظم وعدم إرسالها في أولاده.

 

(الإسحاقية)

الثلاثون الإسحاقية: يعتقدون بإمامة إسحاق بن جعفر، (7) وكان في العلم والتقوى على جانب عظيم، وقد روى عنه ثقات المحدثين من أهل السنة ك سفيان بن عيينة وغيره. (8)

_________

(1) ادعى الإسماعيلية أن ركن الدين هرب أحد أبنائه عندما فتك المغول به وبأسرته، وهو محمود وكان عمره يومئذ سبع سنوات، ولقبه شيعته بشمس الدين، وهو الإمام الخامس والعشرون عندهم، وآخر أئمتهم في قلعة (ألموت) وبسبب المغول عاش مشردا إلى أن مات سنة 711هـ بقونية. تاريخ الإسماعيلية: 4/ 96.

(2) لا يسلم الإسماعيلية بانقراض الإمامة عندهم، بل يقولون بأن الإمام شمس الدين محمود عند موته أوصى بالإمامة لابنه قاسم شاه، ومنهم من يقول لابنه مؤمن شاه، فانقسموا إلى فرقتين، ومن نسل قاسم شاه أئمة الإسماعيلية حتى الوقت الحاضر، أما الفرع الثاني الذي يتبع حفدة مؤمن شاه فقد توقف عند محمد حيدر أو محمد الباقر هو الإمام الأربعين عند من يتبعون مذهب الإسماعيلية مات في حدود 1239هـ، وانتهت عنده إمامة من يدعي إمامته من الإسماعيلية، وهم إسماعيلية الشام. ينظر تاريخ الإسماعيلية: 4/ 102 وما بعدها.

(3) ينظر: مقالات الإسلاميين: ص 28؛ الملل والنحل: 1/ 167.

(4) مقالات الإسلاميين: ص13؛ الملل والنحل: 1/ 181.

(5) مقالات الإسلاميين: ص 29؛ اعتقادات فرق المسلمين: ص54؛ الفرق بين الفرق: ص 53؛ الملل والنحل: 1/ 29.

(6) الفرق بين الفرق: ص41؛ الملل والنحل: 1/ 168.

(7) هو إسحاق بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال أبو حاتم كان صدوقا. الجرح والتعديل: 2/ 215؛ الثقات: 8/ 111؛ تهذيب التهذيب: 1/ 200.

(8) الملل والنحل: 1/ 188؛ الصواعق المحرقة: 2/ 485.

(1/20)

________________________________________

(الأحمدية)

الحادية والثلاثون الأحمدية: يقولون بإمامة أحمد بن موسى الكاظم (1) بعد وفاة أبيه. (2)

 

(الاثنا عشرية)

الثانية والثلاثون الاثنا عشرية: وهذه في المتبادرة عند الإطلاق من لفظ الإمامية. وهم قائلون بإمامة علي الرضا (3) بعد أبيه موسى الكاظم، ثم بإمامة ابنه محمد التقي المعروف بالجواد، (4) ثم بإمامة ابنه علي النقي المعروف بالهادي، (5) ثم بإمامة ابنه الحسن العسكري، (6) ثم بإمامة ابنه محمد المهدي، (7) معتقدين أنه المهدي المنتظر، ولم يختلفوا في ترتيب الإمامة على هذا الوجه. نعم اختلفوا في وقت غيبة المهدي وعامها وسنه يوم غاب، بل قال بعضهم بموته وأنه سيرجع إلى الدنيا إذ عم الجور وفشا، والعياذ بالله تعالى من الحور بعد الكور. (8)

وقد ظهرت هذه الفرقة سنة مائتين وخمس وخمسين، وهي قائلة بالبداء (9) ولذا تراها تنادي بأعلى صوت عند زيارة روضة موسى الكاظم: (10) أنت الذي بدا الله فيه، يعنون ما كان بزعمهم من نصب أخيه إسماعيل إماما بعد أبيه وموته من قبل أن ينال الإمامة ونصب أبيه إياه إماما، وكأنهم تبعوا في ذلك البداية وأنهم قالوا بالبداء بمعنى، وقالت البدائية به بمعنى آخر.

 

(الجعفرية)

الثالثة والثلاثون الجعفرية: يرتبون الإمامة نحو ترتيب الاثني عشرية، بيد أنهم يقولون: إن الإمام بعد الحسن العسكري أخوه جعفر، هـ (11) وقد اتفقوا على ذلك، واختلفوا في أنه هل ولد ولد للعسكري اسمه محمد أم لا، فقال بعضهم بأنه لم يولد له، وقال آخرون ولد وعاش بعد أبيه لكنه مات صغيرا أو قتله سرا من كان في زمانه من خلفاء بني العباس، وقد علم بذلك عمه جعفر فادعى إرثه فلقبه الاثنا عشرية بالكذاب. (12)

هذا ولعل ما سمعت من اختلاف بعض الفرق يجعل كل طائفة من المختلفين فرقة، وبذلك تتم فرق الإمامية تسعا وثلاثين، فليراجع وليتأمل.

_________

(1) أحمد بن موسى بن جعفر الصادق، لم يذكره مؤرخو أهل السنة، قال العاملي: «كان كريما جليلا ورعا، وكان أبوه يحبه ويقدمه ووهب له ضيعته المعروفة باليسيرة، أعتق ألف مملوك، يقال خرج في عهد المأمون مع بعض أتباعه في شيراز، فقتل وليس له عقب». أعيان الشيعة: 3/ 192؛ دائرة المعارف الشيعية العامة: 2/ 680.

(2) نهج السلامة

(3) ثامن الأئمة عند الإمامية، ومن أجلاء أهل البيت، كانت علاقته قوية بالخليفة المأمون، فعهد إليه بالخلافة، لكنه توفى في حياة المأمون سنة 203هـ. وفيات الأعيان: 3/ 269؛ سير أعلام النبلاء: 9/ 387.

(4) تاسع الأئمة عند الإمامية، ولد في المدينة وكفله المأمون بعد وفاة والده ثم زوجه ابنته، ومات في بغداد سنة 220هـ. معجم الأدباء: 6/ 480؛ البداية والنهاية: 10/ 238؛ وفيات الأعيان: 4/ 175.

(5) عاشر الأئمة عند الإمامية، استقدمه المتوكل فأسكنه في مدينة سر من رأى، والتي تسمى مدينة العسكر لأن المعتصم بناها وجعل فيها العسكر، وفيها مات أبو الحسن العسكري سنة 254هـ. تاريخ بغداد: 12/ 56؛ وفيات الأعيان: 3/ 272.

(6) الإمام الحادي عشر عند الإمامية، ولد بالمدينة سنة 232هـ، وانتقل مع أبيه إلى سامراء (مدينة العسكر) فنسب إليها، توفى سنة 260هـ. وفيات الأعيان: 2/ 49؛ شذرات الذهب: 2/ 141.

(7) الإمام المنتظر عند الإمامية ويعتقدون أنه حي لم يمت منذ سنة 260هـ، رغم أن المؤرخين أثبتوا أن الحسن العسكري مات من غير عقب. وفيات الأعيان: 4/ 17 سير أعلام النبلاء:

(8) جزء من حديث أخرجه الترمذي والنسائي معناه (من الزيادة بعد النقصان)

(9) قال الطوسي: «البداء في اللغة هو الظهور ... ويستعمل في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا وكذلك في الظن». عدة الأصول: 3/ 28. ويعني علم الله بالشي بعد أن كان جاهلا به، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وقال المرتضى الملقب ب (علم الهدى): «ويمكن أن ينص أنها حقيقة ... لأن البداء إذا كان في اللغة العربية اسما للظهور، وإذا سمينا من ظهر له من المعلومات ما لم يكن ظاهرا، حتى اقتضى ذلك أن يأمر بنفس ما نهى عنه، أو ينهي عن نفس ما أمر به، أنه قد بدا، لم يمتنع أن يسمي الأمر بعد النهي والحظر بعد الإباحة على سبيل التدريج، فإنه بداء له، لأنه ظهر من الأمر ما لم يكن ظاهرا، وبدا ما لم يكن بائنا، بمعنى البداء الذي هو الظهور والبروز حاصل في الأمرين ... ». رسائل المرتضى: 1/ 413. وينظر دائرة المعارف الشيعية: 6/ 99.

(10) يقع في وسط بغداد في جانب الكرخ، ويطوف الشيعة الإمامية حول القبر ويسجدون له ويسألونه الحاجات ....

(11) وأبو عبد الله جعفر بن علي الهادي بن محمد الجواد، يلقبه الشيعة الإمامية ب (الكذاب) لأنه أخذ ميراث أخيه الحسن بن علي العسكري وأنكر أن يكون له ولد عندما مات بلا عقب، وأهل مكة أدرى بشعابها. ورغم أنهم يعترفون بأنه شريف النسب اتهموه بالفسق والفجور وشرب الخمر كما روى المجلسي في مرآة العقول: 1/ 422، ويروون الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بكذب دعواه كما في كمال الدين: ص185، توفى سنة 271هـ. عمدة الطالب: ص 199؛ دائرة المعارف الشيعية: 7/ 196.

(12) اعتقادات فرق المسلمين: ص 55؛ التبصير في الدين: ص 77.

(1/21)

________________________________________

قال الجد (1) روَّح الله روحَه في كتابه (نهج السلامة) بعد عدِّه فرق الإمامية: ثم اعلم أن الاثني عشرية المعروفين اليوم على علاتهم في الاعتقادات أهون شرا بكثير من كثير من فرق الإمامية وسائر الشيعة، فهم في معظم الاعتقاديات متطفلون على المعتزلة (2) وقول الخواجة نصير الدين الطوسي (3) المتكلم - على ما نقله عنه تلميذه ابن المطهر الحلي (4) - أنهم مخالفون لجميع الفرق في ذلك مما يتعجب منه المطلع على اعتقاداتهم، وأعجب من ذلك جعله تلك المخالفة دليلا على أنهم الفرقة الناجية.

 

(الشيخية أو الأحمدية)

ثم قال العلامة الجد عليه الرحمة: قد ظهرت في هذه الأعصار من الاثني عشرية طائفة يقال لهم الشيخية، وقد يقال لهم «الأحمدية»، وهم أصحاب الشيخ أحمد الأحسائي، ترشح كلماتهم بأنهم يعتقدون في الأمير كرم الله تعالى وجهه نحو ما يعتقد الفلاسفة في العقل الأول، بل أدهى وأمر. (5)

 

(الرشتية الكشفية)

وطائفة أخرى يقال له الرشتية، وكثيرا ما يقال لها «الكشفية»، وهو لقب لقبهم به بعض وزراء الزوراء (6) أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين، وهم أصحاب السيد كاظم الحسيني الرشتي، (7) وهو تلميذ الأحسائي وخريجه، لكن خالفه في بعض المسائل، وكلماته ترشح بما هو أدهى وأمر مما ترشح به كلمات شيخه، حتى إن الاثنى عشرية يعدونه من الغلاة، وهو يبرأ مما تشعر به ظواهر كلماته. قال عليه الرحمة: وقد عاشرته كثيرا فلم أدرك فيه ما يقول فيه مكفروه من علماء الاثني عشرية. نعم عنده على التحقيق غير ما عندهم في الأئمة وغيرهم مما يتعلق بالمبدأ والمعاد. ولقد وجدت أكثر ما يقرره ويحرره مما لا برهان له سوى سراب شُبه يحسبه الظمآن ماء، ولا أظن أن مخالفاته لشيخه تجعله وأصحابه القائلين بقوله فرقة غير الشيخية.

_________

(1) وهو الشهاب محمود الآلوسي صاحب تفسير (روح المعاني)

(2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2: 24): كان قدماء الشيعة متفقين على إثبات القدر والصفات. وإنما شاع فيهم رد القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة في دولة بني بويه

(3) كان عالما بالعلوم العقلية والفلسفة، ومن غلاة الباطنية والمقربين لهولاكو، فكان يشاوره، وهو الذي اقترح على هولاكو استباحة بغداد وإسقاط الخلافة العباسية، مات سنة 672هـ. شذرات الذهب: 5/ 339؛ مفتاح السعادة: 1/ 261؛ طبقات أعلام الشيعة: ص 12.

(4) من علماء الإمامية. ألف كتاب (منهاج الكرامة) الذي رد عليه ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية)، مات سنة 726هـ. الدرر الكامنة: 2/ 71؛ لسان الميزان: 2/ 317.

(5) تنسب إلى أحمد الأحسائي، ولد سنة 1157هـ/ 1744م في الإحساء، وانتقل إلى إيران ومات سنة 1242هـ/ 1827م، كان يعد حلوليا، ومن عبدة علي. دائرة المعارف الإسلامية: 1/ 338.

(6) والي بغداد علي رضا.

(7) من تلاميذ أحمد الأحسائي، وينسب إلى رشت بإيران، سكن كربلاء، ومذهبه امتداد لمذهب شيخه، مات سنة 1259هـ/ 1843م) دائرة المعارف الإسلامية: 1/ 448؛ الأعلام: 5/ 216.

(1/22)

________________________________________

(البابية)

ثم قال عليه الرحمة: وقد ظهرت أيضا طائفة أخرى يقال لها البابية، (1) وهم أصحاب ميرزا علي محمد الملقب بالباب، والباب واحد الأبواب، وهم أحد الأقسام السبعة لمن لا بد منه في بناء المذهب: الأول (الإمام) الذي يصل إليه علم الغيب بلا واسطة، والثاني (الحجة) الذي يقرر علم الإمام على وفق مذاق المخاطبين وقدر عقولهم وفهومهم بالبرهان والخطابة، الثالث (ذو المصة) الذي يمتص العلم من ثدي الحجة، الرابع الأبواب ويقال لهم الدعاة ولهم مراتب، وأكبرهم من يرفع درجات المؤمنين عند الإمام والحجة، وهذا الأكبر هو رابع السبعة، الخامس (الداعي المأذون) الذي يأخذ العهود والمواثيق من الناس ويفتح للطالب باب العلم والمعرفة، السادس (المكلَّب) الذي شأنه البحث والاحتجاج والترغيب في صحبة الداعي وليس له الإذن بالدعوة، وسمي بذلك على التشبيه بالكلب المعلََّم. السابع (المؤمن المتبع) الذي يؤمن بالإمام بمساعي المكلَّب والداعي.

ثم قال عليه الرحمة: وقد أظهر هذا الباب شنائع كثيرة، منها زعمه ارتفاع فرضية الصلوات الخمس، وأنه سترفع فرضية الحج، وأنه يوحى إليه. وألف كتابا زعم أنه تفسير سورة يوسف، مع أنه ليس فيه تفسير شيء من آياتها، وقد حشاه هذيانات، وحرّف فيه آيات، وزعم التحدي به، وذكر فيه أنه تحرم كتابته بالحبر الأسود المعروف، وأنه يحرم مسه لغير متظهر، إلى أمور أخرى شنيعة ينكرها عليه سائر الشيعة. وقد أرسل بعض دعاته بكتابه إلى قصبة كربلاء فزمر فيها بنغم شنائع تؤد أذن المؤمن من لو كانت عنها صماء، فرقص على زمره في المقام الحسيني جملة من جهلة شيعة العراق، وصبا إليه غير واحد من ذوي الشقاء والشقاق.

فلما سمعت عرضت ذلك لوزير الزوراء، فانتهض لإطفاء تلك الثائرة بهمته الشمّاء، وعَقدَ لحل ما عُقِدَ من المحنة مجلسا عظيما فيه علماء الاثني عشرية وعلماء أهل السنة، فكنت أنا والحمد لله تعالى المباحث ذلك الداعي إلى مهاوي الحَيْن، فلم يتفرق ذلك الجمع حتى أجمع على كفر تلك الفرقة علماء الفرقتين، فكتبوا بذلك محضرا للدولة العلية العثمانية، فبعد أيام حضر الأمر بنفي ذلك الداعي إلى

_________

(1) اشتهرت كلمة البابية عندما ادعى علي الشيرازي أنه باب العلم الإلهي وسمى نفسه بالباب سنة 1260هـ/1844م، وتقول البابية إن آخر مبشر به بعد الأنبياء والرسل رجلان عالمان وهما الشيخ أحمد الأحسائي والسيد كاظم الرشتي. دائرة المعارف الإسلامية: 3/ 227؛ تاريخ البابية: 115.

(1/23)

________________________________________

الديار الرومية (1)، فنفي وأثبت محبوسا في تكرلي طاغ، وأرغم بموته هناك أنف كل طاغ.

وأما الباب ففتح باب البغي والخروج على شاه إيران، وأمر بعض مردته بقتله غيلة ليتم له ما أضمره من الإضلال والعدوان، فلم يتيسر له ما أراد، وقتل في تبريز مع جملة من أتباعه ذوي الفساد، ولم يزل الشاه يتتبع قتل أتباع الباب بعد تعذيبهم بأنواع العذاب، والعجب أنهم يرون العذاب عذبا، فترى أحدهم يضحك والعذاب يصب على رأسه صبا.

 

(القرتية)

وقال عليه الرحمة أيضا: وطائفة أخرى يقال لها القرتية: أصحاب امرأة اسمها هند، وكنيتها أم سلمة، ولقبها قرة العين، لقبها بذلك السيد كاظم الرشتي في مراسلاته لها إذ كانت من أصحابه، وهي ممن قلدت الباب بعد موت الرشتي، ثم خالفته في عدة أشياء منها التكاليف، فقيل أنها كانت تقول بحل الفروج ورفع التكاليف بالكلية، وأنا لم أحس منها بشيء من ذلك مع أنها حبست في بيتي نحو شهرين، وكم بحث جرى بيني وبينها رفعت فيه التقية من البين.

والذي تحقق عندي أن البابية والقرتية طائفة واحدة، يعتقدون في الأئمة نحو اعتقاد الكشفية فيهم، ويزعمون انتهاء زمن التكليف بالصلوات الخمس، وأن الوحي غير منقطع فقد يوحى للكامل لكن لا وحي تشريع، بل وحي تعليم لما شرع قبل ولنحو ذلك، وهو رأي لبعض المتصوفة.

وأخبرني بعض من خالطهم أنهم يوجبون على من نظر أجنبية من غير قصد التصدق بمثقال من الذهب، وعلى من نظرها بقصد التصدق بمثقالين منه، وأن منهم من يحيي الليل بكاءً وتضرعا، وأنهم يخالفون الاثني عشرية في كثير من الفروع، وأنا حققت أن الاثني عشرية يكفرونهم ويبرؤن منهم، ثم إني أرى أنهم شرارة من نيران الكشفية والأحسائية، وأعظم أسباب ضلالتهم النظر في كلام الرشتي وشيخه الأحسائي مع عدم فهم مقاصدهما منه، وحمله على ما هو بعيد عن الدين المحمدي بمراحل، ولذا أكفرهم أصحاب هذين الرجلين أيضا على ما سمعته بأذني من كبارهم.

وقد قتلت هذه المرأة أيضا بعد أن بغت وخرجت على الشاه ناصر الدين في

_________

(1) أي إلى بلاد الأناضول

(1/24)

________________________________________

طهران، (1) وتتبع أصحابها بالقتل، فقتلوا إلا قليلا منهم تحصن بالتقية، والانسلاك ظاهرا في سلك الاثني عشرية، وفي قرى العراق بقية يسيرة منهم، وكم من شنيعة تروى عنهم؟ ثم إنه لا يبعد أن تظهر فرق أخرى من الإمامية بعد، نسأل الله تعالى العافية في الدين والدنيا والآخرة.

انتهى كلامه الشريف ولفظه الظريف، وهذا التفصيل مما لا تجده في كتاب، ولا تراه في باب من الأبواب، فتوجه بهمه إليه، وأقبل بجميع شراشرك (2) عليه.

 

مكائد الرافضة

وإذ فرغنا من عد الفرق فقد آن أن نشرع في ذكر شيء من مكائدهم، التي توصلوا بها إلى ترويج مذهبهم الباطل وإضلال العباد، وهي كثيرة جدا لا تدري اليهود بعشرها، وهذا الكتاب يضيق عن حصرها:

 

الأولى

فمن مكائدهم أنهم يقولون: إن أهل السنة يخالفون القرآن المجيد، فإنهم يغسلون الأرجل بدل المسح، والكتاب يدل ظاهرا على المسح. (3)

والجواب أن آية الوضوء تواترت إلينا كسائر القرآن بالقراءات السبع المتواترة، تواتر القراءتين منها ثابت بإجماع الفريقين، بل بإجماع المسلمين وهما قراءتا النصب والجر في الأرجل، وقد ثبت في أصول الفريقين أن القراءتين إذا تعارضتا في آية واحدة فهما في حكم الآيتين، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وههنا كذلك إذ يمكن الجمع بينهما حسب قواعدنا بوجهين:

الأول: بحمل المسح على الغسل، قال أبو زيد الأنصاري وغيره من أئمة اللغة: إن المسح في كلام العرب قد يكون بمعنى الغسل، يقال للرجل إذا توضأ: تمسح، ومسح الله ما بك أي أزال عنك المرض، (4) فإن قال الشيعة: يلزم من ذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممتنع، (5) قلنا لا يلزم ذلك، فإنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا، وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بتعدد المعنى، فالمسح الذي يتعلق بالرؤوس حقيقي، والمتعلق بالأرجل مجازي.

الثاني: إن الجر بالجوار، وهو في التنزيل كثير الوقوع، فتأول قراءة الجر إلى قراءة النصب، وجوز سيبويه والأخفش وأبو البقاء (6) وسائر المحققين من النحاة جر الجوار في النعت والعطف، أما النعت فكقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيم ٍ} فقد جر (أليم) بمجاورة (يوم) مع أنه نعت

_________

(1) وقامت جماعة من أتباع من ادعى أنه باب المهدي وادعى بعضهم أنه الحسن وبعضهم أنه الحسين وغيرهما، وقتل شاه إيران (ناصر الدين شاه) الباب مع بعض اتباعه سنة 1274هـ، لكن أتباعه ادعوا أنه لم يمت وأنه صعد إلى السماء. دائرة المعارف الشيعية العامة: 6/ 18؛ موسوعة الأديان والمذاهب: 3/ 294.

(2) قال ابن منظور: «شراشر وشريشر: أسماء». لسان العرب

(3) قال الحلي: «ذهبت الإمامية إلى وجوب مسح الرجلين وأنه لا يجزئ الغسل فيهما ... وقال الفقهاء الأربعة: الغرض هو الغسل، وقد خالفوا نص القرآن ... ». نهج الحق: ص 409.

(4) نقله الأنباري عن أبي زيد الأنصاري، ثم قال: «والذي يدل على ذلك قولهم تمسحت للصلاة أي توضأت، والوضوء يشتمل على ممسوح ومغسول، والسر في ذلك أن المتوضئ لا يقنع بصب الماء على الأعضاء حتى يمسحها مع الغسل؛ فلذلك سمى الغسل مسحا فالرأس والرجل ممسوحان، إلا أن المسح في الرجل المراد به الغسل لبيان السنة، ولولا ذلك لكان محتملا، والذي يدل على أن المراد به الغسل ورود التحديد في قوله إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في المغسول لا في الممسوح». الإنصاف في مسائل الخلاف: 2/ 610.

(5) قرر هذا الكراكجي في القول المبين في وجوب المسح على الرجلين: ص 25.

(6) عبد الحميد بن عبد المجيد، أبو الخطاب، من كبار العلماء بالعربية توفي سنة 177هـ. أنباه الرواة: 2/ 157؛ بغية الوعاة: 13/ 252.

(1/25)

________________________________________

للعذاب. (1) وأما العطف فكقوله تعالى: {وَحُورٍ عِينٍ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤ الْمَكْنُونِ} على قراءة حمزة والكسائي، فإنه مجرور بمجاورة: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} مع أنه معطوف على: {ولدَانٌ مُخَلَّدُونَ}. (2) وقد وقع هذا الجر في كلام العرب العرباء أيضا، فمن ذلك قول النابغة: (3)

لم يَبقَ غير أسير (4) غَيرِ مُنْفَلِتٍ ... ومُوثَق في حِبالِ القِدّ مَكبولِ

بجر (موثق) و (مكبول) بجوار (منفلت) مع أنهما معطوفان على أسير، فلا يلتفت إلى إنكار الزجاج وقوع جر الجوار في المعطوف. (5)

وقد ذكر الشيعة في الجمع بين القراءتين وجهين أيضا: الأول أن تعطف قراءة النصب على محل رؤوسكم لا على المنصوب السابق لاستلزامه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية، فحينئذ حكم الأرجل حكم الرؤوس المعطوف عليه في المسح، الثاني أن الوارد فيه بمعنى مع، كقولهم «استوى الماء والخشبة». (6)

هذا وفي كلا الوجهين نظر من وجوه: أما الأول فلأن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، وإن استدلوا على خلاف الظاهر بقراءة الجر فقد سبق وجه رجوعها إلى قراءة النصب، على أنها لا تدل على مدعاهم لوجود احتمال جر الجوار، وأما ثانيا فلأن استلزام الفصل بجملة أجنبية إنما يخل إذا لم تكن جملة {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} لها تعلق بما قبلها. وأما إذا قلنا إن المعنى وامسحوا بعد الغسل (برءوسكم)، فلا فصل كما هو مذهب أكثر أهل السنة من جواز المسح ببقية الغسل، ومع ذلك فلم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفين، بل نقل أبو البقاء إجماع النحاة على جوازه. نعم توسيط الأجنبي في كلام البلغاء لا بد أن يكون لنكتة، وفائدة النكتة ههنا التنبيه على أنه لا ينبغي أن يقتصد في صب الماء على الأرجل وتغسل غسلا يقرب من المسح، وتخصيصها بالتنبيه لكونها مظنة للإسراف، وللإيماء إلى وجوب الترتيب. وأما ثالثا فلأنه لو عطف (وأرجلكم) على محل (برءوسكم)، جاز لنا أن نفهم منه معنى الغسل؛ لأن من القواعد المقررة في العربية أنه إذا اجتمع فعلان متقاربان بحسب المعنى جاز حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة العامري:

_________

(1) ينظر تفسير الطبري: 25/ 94؛ روح المعاني: 25/ 97.

(2) ينظر النحاس، إعراب القرآن: 3/ 324؛ البنا، إتحاف فضلاء البشر: ص 407.

(3) شاعر جاهلي

(4) في الأصل غير طريد. ينظر ديوان النابغة

(5) قال: «وإنكار الزجاج الجر بالمجاور في غير النعت، ومع العطف لا معتبر له أن ثبت بعد أن أثبته من هو أعلى كعبا منه، ومن لا يشق الزجاج غباره كسيبويه والأخفش ووافقهما جماهير أهل العربية، وورد في كلام البلغاء مع أن شهادة الزجاج لو ثبتت نفي، وشهادة جمهور أئمة العربية إثبات، وهي مقبولة، وشهادة النفي غير مقبولة، ودعوى قلة وقوعها في كلام العرب باطل، كيف وقد نص أبو البقاء وجمع من أئمة العربية على وروده في النظم والنثر كثيرا». السيوف المشرقة

(6) قرره عبد الله التستري في نهاية الإقدام: ص 427.

(1/26)

________________________________________

فَعَلا فُرُوعُ الأيْهُقَانِ وَأطْفَلَتْ ... بالجَلهَتين ظِبَاؤهَا ونَعَامُهَا

أي وباضت نعامها، فإن النعام لا تلد بل تبيض، إذ هي من الطيور وهي لا تلد إلا الخفاش.

ومنه قول الآخر: (1)

إذا ما الغانيات برزن يوما وزَجِّجْنَ الْحَوَاجِبَ والْعُيُونا

أي وكحلن العيون. ومنه قول الآخر: (2)

تَراهُ كأنَّ اللهَ يَجدَعُ أنفَه ... وعَينَيهِ إِنْ مولاهُ ثابَ له وَفْرُ

ومنه قول الأعرابي: علفتها تبنا وماء باردا، أي وسقيتها. (3)

وأما رابعا: فلأن حمل الواو على معنى مع بدون قرينة لا يجوز، ولا قرينة ههنا، بل القرينة على خلافه لما تبين من وجوه التطبيق.

هذا ولما حصل الجمع بين الفريقين ولزم الترجيح رجع المحققون إلى سنة خير الورى - صلى الله عليه وسلم - إذ هي المبينة لمعاني القرآن المجيد، وهذه واقعة جلية فقد كان - عليه الصلاة والسلام - يتوضأ في اليوم والليلة خمس مرات على رؤوس الأشهاد لأجل التعليم، ولم يروِ أحد - ولو بطريق الآحاد - أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح الرجلين، وقد روى الجميع غسلها بروايات متواترة، وقد اعترف بذلك الشيعة إلا أنهم يقولون قد روي لنا المسح عن الأئمة، وما روى أهل السنة الغسل عن أولئك محمول على التقية. هذا مع أن روايات غسل الرجلين عن الأئمة ثابتة في كتب الإمامية الصحيحة المعتبرة بحيث لا مجال للتقية فيها، فرواية الغسل متفق عليها ورواية المسح مختلف فيها عند الشيعة مع قطع النظر عن أهل السنة، فإن بعضهم قد روى تلك الرواية وبعضهم لم يروها، وفعله - عليه الصلاة والسلام - سالم عن المعارض عند الفريقين؛ لأنه لم يروِ أحد المسح عنه - عليه الصلاة والسلام -، وظاهر أن فهم معاني القرآن كما هو مراد الله تعالى لم يكن لغير الرسول - صلى الله عليه وسلم - ففهمنا حينئذ مطابق لفهمه - عليه الصلاة والسلام -.

ولنذكر ما روي في كتبهم من روايات غسل الرجلين التي لم يصل أحد منهم للطعن فيها:

فقد روى العياشي عن علي بن أبي حمزة قال: «سألت أبا إبراهيم (4) عن القدمين، فقال

_________

(1) الراعي النميري

(2) خالد بين الطيفان. ينظر الحيوان

(3) قال سليمان بن داود البغدادي: «فهذا باتفاق علماء النحو وغيرهم دليل جواز تغاير المعطوف والمعطوف عليه في العامل، ثم قياسه صورة ما في الآية، على ما مثل به قياس مع الفارق، فإن وجود التقييد بالكعبين هو الحامل على تفسير المسح بالغسل الشبيه بالمسح ليتساوى المحدودان، وهما الأيدي والأرجل، وأيضا قراءة النصب قرينة أخرى لأنها ناصة على الغسل بعطفها الظاهر، بخلاف مثاله فإنه خال عن القرينتين، مع إن العمدة في مثل هذا المطالب، لا على اللفظ فقط، حتى يستنبط منه ليكون مشابها، بل العمدة على النقل المبين للقرآن من الشارع الذي هو المبين له، فلا يضر لو كان الكلام خاليا عن القرائن والاعتبارات فكيف بها». رسالة في الرد على الرافضة في مسح القدمين: 11/ب.

(4) في المطبوع (أبا هريرة) والتصحيح من كتب الإمامية

(1/27)

________________________________________

تغسل غسلا». (1)

وروى محمد بن نعمان (2) عن أبي بصير (3) عن أبي عبد الله - عليه السلام -: «إذا نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك حتى تغسل رجليك، فامسح رأسك ثم اغسل رجليك»، (4) وهذا الحديث أيضا رواه الكليني وأبو جعفر الطوسي بأسانيد صحيحة، ولا يمكن حملها على التقية، إذ المخاطب شيعي خاص.

وروى محمد بن الحسن الصفار (5) عن زيد بن علي عن أبيه عن جده أمير المؤمنين قال: «جلست أتوضأ فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غسلت قدمي قال: يا علي خلل بين الأصابع» (6) إلى غير ذلك من الأخبار الثابتة في كتبهم الصحيحة. (7)

وأما ما روي عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه توضأ ومسح على قدميه فهو شاذ منكر لتفرده ومخالفته للجمهور. (8) وما روي عن أمير المؤمنين أنه مسح وجهه بيديه ومسح على رأسه ورجليه وشرب فضل طهوره قائما وقال، وقال: «إن الناس تزعم أن الشرب قائما لا يجوز وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع ما صنعت فهذا وضوء من لم يُحْدِث»، (9) فلا يجدي للشيعة نفعا ولا يكون لهم به تمسك، لأن الكلام في الوضوء من الحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف.

وبعض الشيعة ادعوا أن المسح مذهب لجمع من الصحابة مثل عبد الله بن عباس وأبي ذر وأنس بن مالك، وهذا كذب مفترى عليهم، فإنه لم يروِ عن أحد منهم بطريق صحيح أنه جوّز المسح إلا عن ابن عباس فإنه قال: «لم نجد في كتاب الله إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل»، (10) يعني ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يعملوا إلا الغسل، فقوله هذا دليل صريح على أن قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، وهكذا كل ما يروونه في هذه المسألة عن أحد أئمة السنة فهو إفك وزور، فقد تبين أن هذا الكيد صار في نحرهم ودل بمخالفتهم النصوص القولية على كفرهم، {وَكَفَى اللهُ المؤْمِنِيَن الْقِتَالَ}، والحمد لله على كل حال، سوى الكفر والضلال.

 

الثانية

ومن مكائدهم أنهم يقولون: إن أهل السنة يشرعون أحكاما من عند أنفسهم، كما جعلوا القياس دليلا شرعيا ويثبتون كثيرا من الأحكام به،

والجواب أن هذا الطعن يعود حينئذ على أهل البيت، فإن الزيدية وأهل السنة يرون القياس عن الأئمة، وقد قال

_________

(1) عن علي بن أبي حمزة قال: «سألت أبا إبراهيم - عليه السلام - عن قول الله {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} إلى قوله تعالى: {إلى الكعبين} فقال: صدق الله، قلت جعلت فداك كيف يتوضأ؟ قال مرتين مرتين، قلت: يمسح؟ قال مرة مرة، قلت: من الماء مرة؟ قال: نعم قلت: جعلت فداك فالقدمين؟ قال: اغسلهما غسلا». تفسير العياشي: 1/ 301.

(2) المشهور بالشيخ المفيد ويعرف بابن المعلم، عاش في بغداد وكان عالم الإمامية في عصره، قال الخطيب البغدادي: «شيخ الرافضة والمتعلم على مذاهبهم صنف كتبا كثيرة في ضلالاتهم والذب عن اعتقاداتهم ومقالاتهم والطعن على السلف الماضين من الصحابة والتابعين وعامة الفقهاء المجتهدين وكان أحد الأئمة الضلال هلك به خلق من الناس إلى أن أراح الله المسلمين منه»، وقال الذهبي عن كتبه: «طعن فيها على السلف». أما النجاشي فقال: «شيخنا وأستاذنا فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والرواية والثقة والعلم». مات سنة 413 هـ. رجال النجاشي: 2/ 327؛ تاريخ بغداد: 3/ 231؛ ميزان الاعتدال: 4/ 30.

(3) قال عنه النجاشي: «ثقة وجيه، روى عن أبي محمد وأبي الله عليهما السلام»، وهو من مشاهير رواة الإمامية. رجال النجاشي: 2/ 411؛ تنقيح المقال: 3/ 308.

(4) الكليني، الكافي: 3/ 35؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 1/ 99؛ الاستبصار: 1/ 74.

(5) قال النجاشي: «كان وجها في أصحابنا القميين ثقة عظيم القدر راجحا قليل السقط في الرواية» مات سنة 290هـ. رجال النجاشي: 2/ 252؛ مجمع الرجال: 6/ 189.

(6) لطوسي، تهذيب الأحكام: 1/ 93؛ الاستبصار: 1/ 65؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة: 1/ 421.

(7) وعلق الطوسي على الخبر بقوله: «فهذا الخبر موافق للعامة قد ورد مورد التقية ... ». وهذا من مغالطاته لأن التقية لا تجوز على النبي - صلى الله عليه وسلم - عندهم.

(8) قال ابن الجوزي بعد سرد روايات المسح: «ليس في هذه الأحاديث ما يصح» ثم أشار إلى الرواية عن عباد بن تميم فقال: «في إسناده ابن لهيعة وليس بشيء». العلل المتناهية: 1/ 349.

(9) أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما.

(10) ابن أبي شيبة، المصنف: 1/ 27؛ ابن ماجة، السنن: 1/ 156.

(1/28)

________________________________________

أبو نصر هبة الله بن الحسين أحد علماء الإمامية بحجية القياس، وتبعه على ذلك جماعة منهم، وقد ثبت ذلك في كتبهم أيضا بطرق صحيحة.

فمن ذلك ما روى أبو جعفر الطوسي في (التهذيب) عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال: «جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تقولون في رجل يأتي أهله ولا ينزل؟ فقالت الأنصار: الماء من الماء، وقال المهاجرون: إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فقال عمر لعلي - رضي الله عنهما -: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال: توجبون عليه الجلد ولا توجبون عليه صاعا من الماء؟» (1) فقاس - رضي الله تعالى عنه - ههنا الغسل على الحد بالصراحة. وأجاب بعض علماء الشيعة عن هذا القياس بأن ما قال الأمير ليس بقياس، بل هو استدلال بالأولوية، يقابله في عرف الحنفية (دلالة النص) كدلالة {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} على حرمة الشتم والضرب، وهما سواء في مهمة المجتهد وغيره، وحاصل هذا التقرير أن تأثير المجامعة بلا إنزال لما ثبت في أقوى المشقتين وهو الحد كان ثبوته في أضعفهما وهو الغسل بالطريق الأولى.

وفيه خبط ظاهر لأن المساحقة موجبة للتعزير عند أهل السنة وللحد عند الإمامية، ولا توجب الغسل بالإجماع، وكذا اللواطة إن كانت بطريق الإيلاج فهي موجبة للحد عند بعض أهل السنة والإمامية وموجبة للتعزير عند غيرهم، ولا غسل على مرتكبها عند الإمامية، (2) وكذا المباشرة الفاحشة مع الأجنبية توجب التعزير ولا توجب الغسل بالاتفاق، فلم يثبت تأثير هذه الأمور في الغسل بدلالة النص أصلا فضلا عن الطريق الأولى كما ترى.

وشارح (مبادئ الأصول) (3) مع تشيعه وفرط عناده لأنه ابن المطهر الحلي (4) اعترف بان القياس كان جاريا في زمن الصحابة، وسيجيء إن شاء الله تعالى ذكر إجازة الأئمة كالباقر والصادق وزيد الشهيد أبا حنيفة بالقياس، وأما دلائل تجويز القياس وإبطال قول منكريه فمذكورة في كتب أصول أهل السنة فارجع إليها إن أردت. (5)

 

الثالثة

ومن مكائدهم أنهم يقولون: إن مذهب الاثني عشرية حق لأنهم أقل من أهل السنة وأذل منهم قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} و {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ}. (6)

_________

(1) الطوسي، تهذيب الأحكام: 1/ 119؛ النوري، مستدرك الوسائل: 1/ 451.

(2) روى الكليني وغيره عن الصادق أنه قال: «إذا أتى الرجل المرأة في دبرها فلم ينزل فلا غسل عليهما، فإن أنزل فعليه الغسل ولا غسل عليها». الكافي: 3/ 47؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 1/ 125.

(3) ألفه علي بن الحسين بن علي الإمامي من تلاميذ الحلي، شارحا كتاب (مبادئ الأصول) لشيخه، وفرغ منه سنة 706هـ. الذريعة: 7/ 213

(4) الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، من أشهر علماء الإمامية. ألف كتاب (منهاج الكرامة) فرد عليه ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية)، مات سنة 726هـ. الدرر الكامنة: 2/ 71؛ لسان الميزان: 2/ 317؛ رجال المامقاني: 1/ 314.

(5) بل من علماء الإمامية من كان يقيس. حيث ذكر النجاشي في ترجمة ابن الجنيد، وهو من أشهر مؤلفيهم، بأنه كان يقول بالقياس، فقال المامقاني: «رميه بالقياس ليس قادحا في عدالته ... » فكيف يعاب على أهل السنة القياس ولا يعاب على أصحابهم؟ رجال النجاشي: 2/ 310؛ تنقيح المقال: 2/ 67.

(6) قال ابن رستم الطبري: «فإنا وجدنا الكثرة في موارد من كتاب الله تعالى هي المذمومة والقلة هي المحمودة ... »، ثم قال: «أفلا ترى أن القلة حمدت وإنما قلوا وما كانت يد الله على جماعة أهل الباطل قط، فإن زعمتم أن يد الله على من قال بقولكم فهذه شنيعة أخرى تزعمون أن يد الله على من نسب الحكم إلى غيره ... ». الإيضاح: ص 125.

(1/29)

________________________________________

والجواب أنه لا يخفى على العاقل أن في هذا التقرير تحريفا لكلام الله تعالى، فإن الله قال في حق أصحاب اليمين: {ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ}، والثلة هي الجمُّ الغفير، (1) وليس في الآية الكريمة المذكورة بيان حقيقة المذاهب أو بطلانها، بل إنما هي لبيان قلة الشاكرين وكثرة غيرهم، وكذا في قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} بيان قلة العاملين بجميع الأعمال الصالحة، كما يدل الكلام السابق على ذلك وهو قوله تعالى: {إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وليس فيها بيان حقية العقائد أو بطلانها.

وعلى تقدير تسليم كون القلة والذلة موجبة للحقية يلزم أن يكون النواصب (2) والخوارج والزيدية والأفطحية وغيرهم أحق من الاثني عشرية لأنهم أقل منهم بكثير وأذل، نعم إن العزة للمؤمنين لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} وقوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ} وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتبعوا السواد الأعظم» (3) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كثرة أهل الحق، فبان كيدهم وخسر هنالك المبطلون.

 

الرابعة

ومن مكائدهم أنهم يقولون: إن كبار أهل السنة وأئمتهم كأبي بكر وعمر وعثمان حرفوا القرآن، (4) وأسقطوا كثيرا من الآيات والسور التي نزلت في فضائل أهل البيت،

_________

(1) ينظر لسان العرب، مادة ثلة: 11/ 90.

(2) النواصب عند أهل السنة: هم المتدينون ببغض علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهم طائفة من الخوارج. الرازي، كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية: ص 256؛ ابن منظور، لسان العرب، مادة نصب: 1/ 758. أما عند الإمامية فكل من خالفهم في العقيدة واستنكر بدعهم فهو من النواصب، كما نسبوا ذلك إلى الصادق أنه قال: «الناصب: من نصب لكم، وهو يعلم أنكم تولونا وأنتم من شيعتنا». بحار الأنوار: 8/ 369؛ العاملي، وسائل الشيعة: 9/ 486. ورجح الأعلمي قول الإمامية بأن الناصبي: «من نصب العداوة لشيعتهم وفي الأحاديث ما يصرح به ... » ثم أورد الرواية المنسوبة للصادق. دائرة المعارف الشيعية العامة: 18/ 30 - 33.

(3) لم يرد في الحديث لفظ اتبعوا. وقد جاء الحديث مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه ابن ماجة في سننه أنس بن مالك: 2/ 1303. وقال البوصيري في الزوائد: في إسناده أبو خلف الأعمى ... ضعيفّ. والحديث حسن موقوف كما قال سليم الهلالي في كتابه نصح الأمة: ص21.

(4) وقد ألف أحد طواغيتهم واسمه حسن بن محمد تقي النوري الطبرسي كتابا في ذلك سماه (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب) بلغ عدد صفحاته 400 صفحة كبيرة، وفيه مئات النصوص والنقول عن كبار طواغيتهم بدعوى أن القرآن محرف. وقد ارتكب هذا الطبرسي جناية تأليف كتابه سنة 1292 هـ في المشهد المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه بالنجف وطبع في إيران سنة 1298، وفي خزانة كتب دار الفتح نسخة منه، وإن المنافقين منهم يتظاهرون بالبراءة من هذا الكتاب تقية، ولكن هذه البراءة لا تنفعهم، لأنهم يحملون منذ ألف سنة إلى الآن أوزار النصوص والنقول الموجودة في كتبهم بهذا المعنى وقد جمعت كلها في هذا الكتاب

(1/30)

________________________________________

والأمر باتباعهم والنهي عن مخالفتهم وإيجاب محبتهم، وأسماء أعدائهم والطعن فيهم واللعن عليهم، فشق عليهم ذلك ونبض عرق الحسد منهم فتجاسروا على ذلك. (1)

ومن جملة ما أسقطوه من سورة ألم نشرح (وجعلنا عليا صهرك)، وهو يدل على تخصيص علي بكونه صهرا دون عثمان، (2) ومنها (سورة الولاية) ويزعمون أنها سورة طويلة قد ذكر فيها فضائل

_________

(1) أخرج الطبرسي وغيره عن أبي ذر: «أنه لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع علي القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار، وعرضه عليهم لما قد أوصاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما فتحه أبو بكر خرج في أول صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر وقال: يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه، فأخذه علي - عليه السلام - وانصرف، ثم أحضر زيد بن ثابت وكان قارئا للقرآن، فقال له عمر: إن عليا جاءنا بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد رأينا أن نؤلف القرآن ونسقط منه ما كان فيه من فضيحة وهتك المهاجرين والأنصار، فأجابه زيد إلى ذلك، ثم قال: فإن فرغت من القرآن على ما سألتم وأظهر علي القرآن الذي ألفه أليس قد بطل كل ما عملتم؟ قال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة، فقال عمر: ما حيلة دون أن نقتله ونستريح منه، فدبر في قتلهِ خالد بن الوليد فلم يقدر على ذلك، فلما استخلف عمر سألوا عليا - عليه السلام - أن يرفع إليهم القرآن فيحرّفوه فيما بينهم فقال عمر: يا أبا الحسن إن جئت بالقرآن كنت جئت به إلى أبي بكر حتى نجتمع عليه، فقال: هيهات ليس إلى ذلك من سبيل، إنما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم ولا تقولوا يوم القيامة {إنا كنا عن هذا غافلين} أو تقولوا ما جئتنا به، إن هذا القرآن الذي عندي لا يمسه إلا المطهرون الأوصياء من ولدي، فقال عمر: فهل وقتٌ لإظهاره معلوم؟ فقال - عليه السلام -: نعم إذا قام القائم من ولدي ويظهره ويحمل الناس عليه». الطبرسي، الاحتجاج: 1/ 82؛ المجلسي، بحار الأنوار: 92/ 42 تفسير الصافي، المقدمة (المقدمة السادسة): 1/ 39.

(2) روى ابن شاذان وغيره عن المقداد بن الأسود قال: «كنا مع سيدنا رسول الله وهو متعلق باستار الكعبة وهو يقول: اللهم اعضدني واشدد أزري واشرح صدري وارفع ذكري، فنزل عليه جبرئيل - عليه السلام - وقال: اقرأ يا محمد، قال وما أقرأ قال اقرأ (ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك. مع علي بن أبي طالب صهرك». فقرأها النبي صلى الله عليه وآله وأثبتها عبد الله بن مسعود في مصحفه، فأسقطها عثمان بن عفان حين وحد المصاحف». الفضائل: ص 151؛ المجلسي، بحار الأنوار: 36/ 116.

(1/31)

________________________________________

أهل البيت. (1)

والجواب أن الله تعالى قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فما كان في حماية الباري عز اسمه كيف يمكن للبشر تنقيصه وتحريفه، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم، ونعوذ بك من الشيطان الرجيم.

 

الخامسة

ومن مكائدهم أن جماعة من علمائهم اشتغلوا بعلم الحديث أولا وسمعوا من ثقات المحدثين من أهل السنة فضلا عن العوام، ولكن الله سبحانه وتعالى قد تفضل على أهل السنة فأقام لهم من يميز بين الطيب والخبيث، وصحيح الحديث وموضوعه، حتى إنهم لم يخفَ عليهم وضع كلمة واحدة من الحديث الطويل. (2)

 

السادسة

ومن مكائدهم أنهم ينظرون في أسماء الرجال المعتبرين عند أهل السنة، فمن وجدوه موافقا لأحد منهم في الاسم واللقب أسندوا رواية حديث ذلك الشيعي إليه، فمن لا وقوف له من أهل السنة يعتقد أنه إمام من أئمتهم فيعتبر بقوله ويعتد بروايته، كالسدي فإنهما رجلان أحدهما السدي الكبير، (3) والثاني السدي الصغير، (4) فالكبير من ثقات أهل السنة، والصغير من الوضاعين الكذابين وهو رافضي غال، وعبد الله بن قتيبة رافضي غالٍ، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة (5) من ثقات أهل السنة، وقد صنف كتابا سماه بالمعارف، فصنف ذلك الرافضي كتابا وسماه بالمعارف أيضا قصدا للإضلال.

_________

(1) سورة الولاية واردة في كتاب الطبرسي (فصل الخطاب) ص 180، وهو يقول إنها ثابتة في كتابهم الفارسي (دبستان مذاهب) لمؤلفه محسن فاني الكشميري وهو مطبوع في إيران طبعات متعددة.

(2) ومثال هؤلاء جابر بن يزيد بن الحرث الجعفي الكوفي، اختلف علماء الحديث من أهل السنة فيه، فوثقه بعضهم وضعفه وتركه آخرون، فقد تركه النسائي، وقال يحيى: «لا يكتب حديثه ولا كرامة»، ونقل عباس الدوري عن زائدة قوله عن الجعفي: «بأنه كان كذابا»، مات سنة 128هـ. ميزان الاعتدال: 2/ 103. أما عند الإمامية فهو من خيرة رواتهم عن الباقر والصادق حتى قيل إنه روى عنهما سبعين ألف حديث، قال المامقاني: إن الرجل في غاية الجلالة ونهاية النبالة، وله المنزلة العظيمة عليهما السلام بل، من أهل أسرارهما وبطانتهما ومورد ألطافهما الخاصة وعنايتهما المخصوصة وأمينهما على ما لا يؤتمن عليه إلا أوحدي العدول من الأسرار ومناقب أهل البيت عليهم السلام». تنقيح المقال: 1/ 203؛ رجال النجاشي: 1/ 313.

(3) من المفسرين المشهورين بالرواية، قال الحافظ ابن حجر: «مقارب الحديث»، توفي سنة 127هـ. طبقات ابن سعد: 6/ 323؛ تهذيب التهذيب: 1/ 373.

(4) هو محمد بن مروان السدي الكوفي، قال البخاري: «لا يكتب حديثه البتة»، وقال النسائي: «متروك الحديث»، وقال الذهبي: «تركوه واتهمه بعضهم بالكذب»، مات سنة 189هـ. تاريخ بغداد: 3/ 291؛ ميزان الاعتدال: 6/ 328؛ شذرات الذهب: 1/ 325.

(5) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، من علماء الحديث، له تصانيف، توفي سنة 276. سير أعلام النبلاء: 13/ 296.

(1/32)

________________________________________

السابعة

ومن مكائدهم أنهم ينسبون بعض الكتب لكبار علماء السنة مشتملة على مطاعن في الصحابة وبطلان مذهب أهل السنة، وذلك مثل كتاب (سر العالمين) فقد نسبوه إلى الإمام محمد الغزالي (1) عليه الرحمة وشحنوه بالهذيان، (2) وذكروا في خطبته عن لسان ذلك الإمام وصيته بكتمان هذا السر وحفظ هذه الأمانة، وما ذكر في هذا الكتاب فهو عقيدتي، وما ذكر في غيره فهو للمداهنة، فقد يلتبس ذلك على بعض القاصرين، نسأل الله عز وجل العصمة من مثل هذا الزلل

 

الثامنة

ومن مكائدهم أنهم يذكرون أحد علماء المعتزلة أو الزيدية أو نحو ذلك، ويقولون إنه من متعصبي أهل السنة، ثم ينقلون عنه ما يدل على بطلان مذهب أهل السنة وتأييد مذهب الإمامية الاثني عشرية ترويجا لضلالهم، كالزمخشري (3) صاحب (الكشاف) الذي كان معتزليا تفضيليا، والأخطب الخوارزمي (4) فإنه زيدي غال، وابن قتيبة صاحب المعارف الذي هو رافضي عنيد (5)، وابن أبي الحديد شارح (نهج البلاغة) الذي هو من الغلاة على قول، ومن المعتزلة على قول آخر، وهشام الكلبي (6) الذي هو من الغلاة، وكذلك المسعودي (7) صاحب (مروج الذهب) وأبو الفرج الأصفهاني (8) صاحب (الأغاني) وغيرهم، وقصدوا بذلك إلزام أهل السنة بما لهم من الأقوال، مع أن حالهم لا تخفى حتى على الأطفال.

 

التاسعة

ومن مكائدهم أنهم يقولون: نحن أتباع أهل البيت الذين قال تعالى فيهم {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (9) وغير الشيعة تابعون لغير أهل البيت، فلزم كون الشيعة هي الفرقة الناجية، (10) ويؤكدون ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق». (11)

والجواب أن هذا الكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل، والرائج من القول بالعاطل: فإنا نسلم أن أتباع أهل البيت

_________

(1) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، (ت 505هـ). وفيات الأعيان: 4/ 216؛ سير أعلام النبلاء: 19/ 322؛ طبقات الشافعية الكبرى: 6/ 191.

(2) تردد معاصرو الإمامية في صحة نسبة الكتاب للغزالي كما في الذريعة: 12/ 168.

(3) ولد سنة 467هـ بزمخشر قرى خوارزم، وقدم بغداد وسمع، قال ابن خلكان: «كان إمام عصره وكان متظاهرا بالاعتزال، وله تصانيف بديعة»، وقال عنه السيوطي: «اللغوي المتكلم المعتزلي المفسر»، مات سنة 583هـ. وفيات الأعيان: 5/ 168؛ طبقات المفسرين: ص 120.

(4) كان من غلاة الزيدية، وعده الإمامية من رجالهم فذكره الخونساري، قال الذهبي في ترجمة محمد بن أحمد بن علي بن شاذان: «لقد ساق خطيب خوارزم من طريق هذا الدجال ابن شاذان أحاديث كثيرة باطلة سمجة ركيكة في مناقب علي - رضي الله عنه -»، مات الأخطب الخوارزمي سنة 567هـ. ميزان الاعتدال: 6/ 55؛ السيوطي، بغية الوعاة: ص 401.

(5) وهو غير ابن قتيبة السني كما تقدم في الصفحة السابقة

(6) هشام بن محمد بن أبي النضر بن السائب الكلبي، أبو المنذر، مؤرخ وعالم بالنسب وأخبار العرب وأيامها، قال عنه الإمام أحمد: «كان صاحب سمر ونسب ما ظننت أن أحدا يحدث عنه»، وقال ابن عساكر: «رافضي ليس بثقة». مات سنة 204هـ. الفهرست: 140؛ وفيات الأعيان: 4/ 309.

(7) أبو الحسن علي بن الحسين بن علي من ذرية ابن مسعود، قال عنه الذهبي: «كان أخباريا صاحب ملح وغرائب وعجائب وفنون، وكان معتزليا»، مات سنة 345هـ. سير أعلام النبلاء: 15/ 569.

(8) أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد الأموي الأصبهاني، اشتهر بكتابه الأغاني، كان من أهل الأدب والأنساب والسير، اشتهر بتشيعه وكان يأتي بأعاجيب على قول الذهبي، مات سنة 356هـ. وفيات الأعيان: 3/ 307؛ ميزان الاعتدال: 5/ 151.

(9) وهذه الآية من سورة الأحزاب نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي مقدمتهن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -

(10) كذا قال ابن رستم الطبري في آخر كتابه الإيضاح.

(11) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط وابن عدي في الكامل في الضعفاء. ضعفه ابن كثير في تفسيره وابن حجر في ذخيرة الحفاظ: 2/ 2091. وهو في ضعيف الجامع: رقم 1974.

(1/33)

________________________________________

ناجون، وأن مقلديهم هم المصيبون، ولكن أين الشيعة الطغام، من أولئك السادات الكرام والأئمة العظام؟ كما سيأتي من بيان ما لهم من الأحوال، وذكر ما اعتقدوه من الكفر والضلال، فهيهات هيهات، وقد فات عنهم ما فات، بل الحق الحقيق بالقبول أن أهل السنة هم أتباع بيت الرسول، وهم السالكون طريقتهم والمجيبون دعوتهم، والأئمة الأطهار كانوا على ما عليه أهل السنة الأخيار، كيف لا وأبو حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء الأعلام، قد أخذوا العلم عن أولئك الأئمة العظام، والحمد لله تعالى على ذلك الإنعام.

 

العاشرة

ومن مكائدهم أنهم يؤلفون في الفقه كتابا وينسبونه إلى أحد أئمة أهل السنة، ويذكرون فيه بعض المفتريات مما يوجب الطعن على أهل السنة، كالمختصر المنسوب إلى الإمام مالك الذي صنفه أحد الشيعة فذكر فيه أن مالك العبد يجوز له أن يلوط به لعموم قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقد فات ذلك صاحب (الهداية) فنسب حل المتعة إلى الإمام مالك، (1) مع أنه كذب وبهتان، بل قيل إنه [لا] يوجب الحد عليها بخلاف الأئمة الثلاثة. (2)

 

الحادية عشر

ومن مكائدهم أنهم يزيدون بعض الأبيات في شعر أحد أئمة أهل السنة مما يؤذن بتشيعه، كما فعلوا في ديوان حافظ الشيرازي (3) وديوان مولانا الرومي (4) والشيخ شمس الدين التبريزي (5) (قدس سرهم)، وقد ألحق بعض الشيعة المتقدمين بما نسب للإمام الشافعي - رضي الله تعالى عنه - من الأبيات الثلاثة السابقة التي أولها:

يَا راكبا قِفْ بالمُحصَّب مِنْ مِنًى ... وَاهْتِفْ بساكنِ خَيْفهِا والنَّاهِضِ

ثلاثة أبيات أخرى تشير بتشيعه وحاشاه من ذلك وهي هذه:

قف ثم نادِ بأنني لمحمد ... ووصيه وبنيه لست بباغضِ

_________

(1) ثبت عن مالك تحريمه لهذا النكاح، فقد قال عندما سئل عن الزواج المؤقت: «النكاح باطل يفسخ وهذه المتعة وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحريمها قلت: أرأيت إن قال لها إن مضى هذا الشهر فأنا أتزوجك ورضي بذلك وليها ورضيت؟ قال: هذا النكاح باطل ولا يقام عليه». المدونة: 4/ 196.

(2) نقل عن الإمام مالك: «نكاح المتعة عامدا لا يحدون في ذلك ويعاقبون؟ قال: نعم.». المدونة: 16/ 203.

(3) شمس الدين محمد الشهير بحافظ الشيرازي، توفي سنة 792هـ. كشف الظنون: 1/ 783

(4) كان عالما بالفقه على مذهب أبي ثم ترك التدريس، وتصوف واشتغل بالسماع والموسيقى ونظم الشعر، وشعره يدل على غلوه في الاتحاد والحلول والباطنية وقد حذر منه العلماء، مات سنة 672هـ. الجواهر المضيئة: ص 367؛ الأعلام: 7/ 31.

(5) شمس الدين محمد بن محمد بن عبد الله التبريزي الإيجي الشافعي، الإمام العالم، توفي بمكة سنة 880هـ. شذرات الذهب: 7/ 330.

(1/34)

________________________________________

وأخبرهم أني من النفر الذي ... لِوَلاءِ أهل البيت ليس بناقض

وقل ابن إدريس بتقديم الذي ... قدمتموه على علي ما رضي (1)

والفرق بين تلك الثلاثة وهذه مما لا يخفى على صغار المتعلمين، إذ هذه الثلاثة في غاية من الركاكة فلا يتصور صدورها عن مثل ذلك الإمام البليغ الذي له اليد الطولى في العربية، وقد نسبوا له أيضا أبياتا أخر غير التي ذكرناها سابقا مثل قولهم:

شفيعي نبي والبتول وحيدر ... وسبطاه والسجاد والباقر المجدي

وجعفر والثاوي ببغداد والرضا ... وفلذته والعسكريان والمهدي (2)

ولا يخفى بطلان ما نسب إلى ذلك الإمام على من تصفح كتب التاريخ، لأن ولادة الإمام علي ابن محمد التقي كانت سنة أربع عشر ومائتين، وولادة الإمام حسن العسكري بعد ذلك بزمن طويل، ووفاة الإمام الشافعي سنة أربع ومائتين في عهد المأمون العباسي. (3) نعم إن الإمام الشافعي قد ذكر فضائل من أدركه من أئمة أهل البيت، وهكذا شأن جميع علماء أهل السنة ولله تعالى الحمد كما سبق. (4)

 

الثانية عشر

ومن مكائدهم أنهم يفترون على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنه قال: «لا تُسأل شيعة علي يوم القيامة عن صغيرة ولا كبيرة، بل تبدل سيئاتهم بالحسنات»، (5) وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: لا أعذب أحدا والى عليا وإن عصاني». (6)

فاغتر بهذا بعض الجهال فهاموا في أودية الضلال، مع أنه قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه}، فقد كذبوا على النبي المختار، فليتبوءوا مقعدهم من النار.

_________

(1) ليست في ديوان الشافعي

(2) منسوبة لأبي الواثق العنبري كما في أعيان الشيعة: 2/ 442.

(3) عبد الله المأمون بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور، الخليفة العباسي الذي تولى سنة 198هـ، اشتهر باعتنائه بالعلم والعلماء لكنه تعصب لمذهب المعتزلة في القول بخلق القرآن، وفي عهده سجن الإمام أحمد، قال ابن كثير: «وقد كان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة»، مات سنة 218هـ. سير أعلام النبلاء: 10/ 272؛ البداية والنهاية: 10/ 275.

(4) ومن هذا الباب إضافتهم إلى أبيات قليلة للفرزدق في الإمام زين العابدين أبياتا من وزنها ورويها بعضها للحزين الكناني في عبد الله بن عبد الملك بن مروان وهي في حماسة أبي تمام (2: 284)، وبعضها في نقد الشعر لقدامة (19 و 27) وبعضها في مدح بعض بني مروان أيضا أوردها الجاحظ في كتاب الحيوان (3: 152 ساسي) وفي أول الجزء الثالث من البيان والتبيين. وانظر الأغاني 14: 76 - 79 بولاق. أما الأبيات للفرزدق في زين العابدين فهي ستة لا غير في ديوانه الذي أملاه محمد بن حبيب وطبع بالفطوغراف في مونخن بألمانيا سنة 1900 وقد بسطت القول فيه بمقال مطول في جريدة (الأخوان المسلمون) اليومية بعنوان «طائرات في أسراب غير أسرابها».

(5) روى الصفار عن أبي جعفر قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا علي إن ربي وعدني في شيعتك خصلة، قلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: المغفرة لمن آمن منهم واتقى، لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة ولهم تبدل سيئاتهم حسنات». بصائر الدرجات: ص 83؛ المجلسي، بحار الأنوار: 17/ 153.

(6) أخرج الكليني عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله مثّل لي أمتي في طين وعلمني أسمائهم كما علم آدم الأسماء كلها، فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرنّ لعلي وشيعته إن ربي وعدني في شيعة علي خصلة، قيل: يا رسول الله وما هي؟ قال: المغفرة لمن آمن منهم وأن لا يغادر منهم صغيرة ولا كبيرة، ولهم تبدل السيئات حسنات». الكافي: 1/ 443.

(1/35)

________________________________________

ومن مكائدهم أنهم يقولون: إن فضائل أهل البيت وما روى في إمامة الأمير متفق عليه عند الفريقين، بخلاف فضائل الخلفاء الثلاثة فهي مختلف فيها، فينبغي للعاقل أن يختار ما اتفق عليه بموجب «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك». (1)

والجواب أن شبهتهم هذه كشبهة اليهود والنصارى في قولهم: إن نبوة موسى وعيسى متفق عليها عند الفريقين، بخلاف نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. والذى يزيل هذه الشبهة هو أن الأخذ بالمتفق عليه وترك المختلف فيه إنما يكون بمقتضى العقل لو لم يوجد دليل آخر، فإن وجد فلا التفات للاتفاق والاختلاف. على أن هذه الشبهة تتقلب عليه ويعود وبالها وبلاؤها على رءوسهم، كيف لا وقد تقرر عندهم من القواعد أن الروايتين عن الأئمة إن وافقت أحداهما العامة دون الأخرى فالتمسك إنما هو بالمخالفة ولو كانت ضعيفة، وهذا مصرح به في أصولهم. (2)

ومن مكائدهم أنهم ينسبون إلى الأمير من الروايات ما هو برئ منه ويحرفون ما ورد عنه، فمن ذلك (نهج البلاغة) الذي ألفه الرضي (3) وقيل أخوه المرتضى، (4) فقد وقع فيه تحريف كثير وأسقط كثير من العبارات حتى لا يكون به متمسك لأهل السنة، مع أن ذلك أمر ظاهر، بل مثل الشمس زاهر.

ومن مكائدهم أنهم ينظمون بعض الأبيات على لسان اليهود أو النصارى مما يؤذن تحقيقه مذهب التشيع، فمن ذلك ما ينسبونه إلى ابن فضلون اليهودي:

على أمير المؤمنين عزيمة ... وما لسواه في الخلافة مطمع

له النسب العايى وإسلامه الذي ... تقدم، بل فيه الفضائل أجمع

ولو كنت أهوى ملة غير ملتي ... لما كنت إلا مسلما أتشيع (5)

وكذا ينسبون إليه هذه الأبيات:

حب علي في الورى جنة ... فامحُ بها يا رب أوزاري

لو أن ذميا نوى حبه ... حُصن في النار من النار (6)

إلى غير ذلك، وسيجئ منه إن شاء الله في آخر الكتاب.

ومن مكائدهم أنهم يقولون: إن الشيعة أمنون من عذاب يوم القيامة ودخول النار

_________

(1) أخرج الحديث أحمد والنسائي والحاكم

(2) روى عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان، فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فذروه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله، فاعرضوهما على أخبار العامة [أهل السنة]، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه». المفيد، جوابات أهل الموصل: ص 47؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة: 27/ 118.

(3) هو محمد بن الحسين بن موسى العلوي، المشهور بالشريف الرضي، ولد وتوفي ببغداد، قال عنه ابن حجر: «كان مشهورا بالرفض»، وإليه ينسب تأليف كتاب نهج البلاغة العاري من الأسانيد، مات في سنة 406هـ. تاريخ بغداد: 2/ 246؛ لسان الميزان: 5/ 141.

(4) هو علي بن الحسين بن موسى بن محمد العلوي الشريف المرتضى، المتكلم الشيعي المعتزلي، صاحب التصانيف، عاش في بغداد، توفي سنة 436هـ. تاريخ بغداد: 11/ 402؛ لسان الميزان: 4/ 223

(5) نسب الأبيات ابن شهر آشوب المازندراني إلى بعض النصارى في كتابه مناقب آل أبي طالب: 2/ 27؛ وأخرجها ابن طاووس في الطرائف: 2/ 555.

(6) ومن كذبهم أن المازندراني نسب هذه الأبيات إلى الإمام أحمد في فضائل الصحابة والديلمي في مسند الفردوس قال: قال: عمر بن الخطاب قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حب علي براءة من النار وأنشد ... ». ثم أورد هذه الأبيات في كتابه مناقب آل أبي طالب: 3/ 9؛ وأوردها أيضا البيضاني في الصراط المستقيم: 2/ 50 وعنهما المجلسي في بحار الأنوار: 39/ 358 وليست في كتب السنة التي زعموا ..

(1/36)

________________________________________

وكل ما في القرآن من الوعيد فهو لغيرهم. (1) ولا يخفى أن عقيدتهم هذه تشبه عقيدة اليهود حيث قالوا {لن تمسنا النار إلا أياما معدودة}، {نحن أبناء الله وأحباؤه} ويردهم قوله تعالى {من يعمل سوءا يجز به} وغير ذلك من الآيات والأحاديث المتفق على صحتها عند الفريقين. (2)

ومن مكائدهم أنهم يقولون: إن أهل السنة يختارون مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد ويؤثرونه على مذهب الأئمة الأطهار مع أنهم أحق بالأتباع، لأنهم تربوا في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأهل البيت أدرى بما فيه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إنى تارك فيكم الثَّقَلَين ما إن تمسكتم بها لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (3) وقال - صلى الله عليه وسلم - «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق» (4) ولأن كمالهم وعلمهم وتقواهم من المتفق عليه عند الفريقين، فهم بالاتباع أحق، وبالاقتداء أليق. والجواب أن الإمام نائب النبي وخليفة لا صاحب المذهب، لأن المذهب طريق الذهاب الذي فتح على بعض الأمة فهم أحكام الشريعة من أصولها، ولذا احتمل الصواب والخطأ، والإمام عندكم معصوم عن الخطأ كالنبي فلا يتصور نسبة المذهب إليه، ومن ثم كان نسبة المذهب إلى الله تعالى والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من فضول الكلام، ومعدودا من جملة الأوهام. بل فقهاء الصحابة رضى الله تعالى عنهم أفضل عند أهل السنة من الأئمة الأربعة، ومع ذلك لا يعدونهم أصحاب مذاهب، بل إنما يجعلون أقوالهم وأفعالهم مدارك الفقه ودلائل الحكام، وواسطة في أخذ شريعة الرسول - عليه الصلاة والسلام -.

على أن أهل السنة هم المقتدون بالأئمة الأطهار، فإن أئمة مذاهبهم قد أخذوا العلم من أولئك الأخيار، فرتبتهم عند أهل السنة رتبة النبي والأصحاب الكبار، ولكن لا ينسبون أنفسهم إليهم، ولا يدعون أخذ العلم عنهم كما هو حالهم مع الصحابة. وتحقيق هذا المطلب أن منصب الإمام إصلاح العالم في أمر المعاش والمعاد كما هو شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالأئمة في زمنهم اشتغلوا في ألهم من بيان ما يحصل به الشفاء من

_________

(1) أورد ذلك ابن المطهر في كتابه منهاج الكرامة بقوله: «إن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم قاطعون بذلك وبحصول ضدها لغيرهم وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم فيكون اتباع أولئك أولى». ونقله عنه ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: 3/ 485

(2) وقد رد ابن تيمية في منهاج السنة: 3/ 486 عليه وأوفى. ثم قال: «ففي الجملة لا يدعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به وما ادعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه والقول بكون الرجل المعين من أهل الجنة قد يكون سببه إخبار المعصوم وقد يكون سببه تواطؤ شهادات المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض». منهاج السنة النبوية: 3/ 497.

(3) رواه الترمذي 5/ 662 عن أبي سعيد الخدري وقال: هذا حديث حسن غريب وابن أبي شيبة 6/ 309 والطبراني في المعجم الصغير 1/ 232 وهو ضعيف بهذا اللفظ، قال ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/ 269: «هذا حديث لا يصح أما عطية فقد ضعفه أحمد ويحيى وغيرهما وأما ابن عبد القدوس قال يحيى ليس بشيء رافضي خبيث وأما عبد الله بن داهر فقال أحمد ويحيى ليس بشيء ما يكتب منه إنسان فيه خير».

(4) تقدم ضعفه

(1/37)

________________________________________

الأمراض النفسانية ورفع المهلكات، وأحالوا الأحكام الشرعية إلى تلاميذهم وأصحابهم. فتوجهوا إلى إقامة تلك الأحكام، كما توجه الأئمة إلى العبادات والرياضات وتصفية القلوب وتعيين الأذكار وتعليم الأدعية وتهذيب الأخلاق، وإرشادهم إلى المعارف الإلهية بأخذها من كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا نقل عنهم دقائق علم الطريقة وغوامض أسرار الحقيقة، ويشير حديث الثقلين إلى ذلك، لأن كتاب الله تعالى يكفى في تعليم ظاهر الشريعة، ولا حاجة لمن له معرفة بالأصول والفقه في فهم الأحكام الشرعية منه إلى إرشاد إمام، وإنما الحاجة إليه لتعليم الأسرار الإلهية، ولهذا لم نر أحدا منهم صنف كتابا في أصول أو فروع باتفاق الفريقين، بل انتشرت روايات المسائل والأحكام عنهم في أصحابهم وصارت قواعد الاستنباط مهجورة فلابد لها من يجمعها ويحرزها ويمهد قواعد الاجتهاد ومراسمه.

والشيعة وإن كانوا يدعون ظاهرا أتباع الأئمة ولكنهم في الحقيقة يقلدون في المسائل غير المنصوصة عن الأئمة علماءهم ومجتهديهم كابن عقيل (1) والسيد المرتضى والشيخ (2) والشهيد (3) ويأخذون بأقوالهم ولو كانت مخالفة للروايات الصحيحة عن الأئمة كما سيجئ إن شاء الله تعالى من ذلك في المسائل الفقهية.

فإذا جاز عندهم تقليد مجتهديهم فيما يخالف الروايات الثابتة عن الأئمة فأي محذور يلزم أهل السنة في أخذهم بأقوال المذاهب الأربعة والاقتداء بهم مع موافقتهم لما عليه الأئمة من الأصول والقواعد، ولا محذور في المخالفة في بعض الفروع، كما أن محمد بن الحسن (4) وأبا يوسف (5) قد خالفا مقتداهما أبا حنيفة في كثير من المسائل، ومع ذلك فهما من أتباعه، وما قاله ابن الأثير الجزري (6) صاحب (جامع الأصول) أن الإمام على الرضا كان مجددا لمذهب الإمامية في القرن الثالث فمراده أن الإمامية يوصلون إليه مذهبهم المدون في ذلك القرن ويعلمونه مأخذ مذهبهم، كما ان ابن مسعود من الصحابة وعلقمة من التابعين كانا بانيين لمذهب أبي حنيفة، وأن نافعا والزهري من التابعين وابن عمر من الصحابة كانوا بانين لمذهب مالك، مع أن ما ذكره ابن الأثير بناه على زعم الإمامية ومعتقدهم بناء على ما صرح به من أنه

_________

(1) هو أبو محمد الحسن بن علي بن عيسى بن أبي عقيل العماني الحذاء، قال عنه النجاشي: «فقيه متكلم ثقة، له كتب في الفقه والكلام»، وقال عنه العاملي: «هو من قدماء الأصحاب، ويعبر عنه وعن ابن الجنيد بالقديمين، وهما من أهل المائة الرابعة». رجال النجاشي: 1/ 153؛ أعيان الشيعة: 5/ 158.

(2) الشيخ عند الإمامية محمد بن الحسن بن علي، أبو جعفر الطوسي، قال عنه السبكي: «فقيه الشيعة ومصنفهم»، قال ابن المطهر الحلي: «شيخ الإمامية ورئيس الطائفة جليل القدر عظيم المنزلة ثقة عين صدوق عارف بالأخبار والرجال والفقه والأصول والكلام ... قال ابن النجار أحرقت كتبه عدة بمحضر من الناس في رحبة جامع النصر واستتر خوفا على نفسه بسبب ما يظهر عنه من انتقاص السلف» توفي سنة 460هـ. رجال النجاشي: 2/ 332؛ الخلاصة: ص 148؛ لسان الميزان: 5/ 135؛ أعيان الشيعة: 9/ 159.

(3) هو أبو عبد الله محمد بن مكي العاملي الجزيني، له مصنفات كثيرة، حبس سنة في قلعة الشام، ثم قتل بالسيف وصلب ثم رجم ثم أحرق في دولة السلطان برقوق، بفتوى من العلماء، بسبب مقالاته الشنيعة التي بثها بين الناس، فشهد عليه جماعة وقتل سنة 786هـ، وتسميه الإمامية (الشهيد الأول). أمل الآمل: 1/ 181؛ تنقيح المقال: 3/ 191؛ معجم المؤلفين: 12/ 48.

(4) أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، فقيه مشهور، توفى سنة 189هـ. تاريخ بغداد: 2/ 172؛ لسان الميزان: 5/ 121.

(5) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن حبيش الأنصاري، الإمام المجتهد العلامة قاضي القضاة؛ قال ابن معين: «ما رأيت في أصحاب الرأي أثبت في الحديث ولا أحفظ ولا أصح رواية من أبي يوسف»، توفي سنة 182هـ. تاريخ بغداد: 14/ 242؛ سير أعلام النبلاء: 8/ 536.

(6) أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري، محدث ولغوي وأصولي، ولد ونشأ في جزيرة ابن عمر سنة 555هـ، وانتقل إلى الموصل، وكان نسابة إخباريا عارفا بالرجال، لا سيما الصحابة، توفي سنة 606 هـ. وفيات الأعيان: 4/ 141؛ السيوطي، طبقات الحفاظ: 2/ 495.

(1/38)

________________________________________

يذكر مجددي كل مذهب على زعم أصحابه ومعتقدهم والله تعالى أعلم.

ومن مكائدهم أنهم يذكرون في كتب التواريخ حكايات موضوعة وخرافات شنيعة مما يؤيد عقائدهم الفاسدة ويروج مذاهبهم الكاسدة. فمن ذلك حكاية حليمة السعدية (1) مرضعة النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قالوا: إنها قدمت على الحجاج الثقفي (2) في العراق فقال لها الحجاج: جاء بك الله إلي وقد كنت أردت أن أكلفك بالحضور لأنتقم منك. فسألته حليمة عن السبب، فقال: سمعت أنك تفضلين عليا على أبي بكر وعمر، فأطرقت رأسها ساعة ثم رفعته وقالت: أيها الحجاج، والله إنى لا أفضله على أبي بكر وعمر وحدهما إذ أي كمال وفضل لهما!؟ بل أفضله على آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلاة والسلام. فاشتد إذ ذاك غضب الحجاج وقال: لئن لم تثبتي هذه الدعوى لأقطعنك إربا إربا لتكوني عبرة لمن يعتبر. فقالت حليمة: أصغ إلى مقالتي واسمع دليلي وحجتي. فقال لها الحجاج: فيم تفضلين عليا على آدم وقد خلقه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وأسكنه الجنة وأمر الملائكة بالسجود له وكرمه بانواع الكرامات؟ فقالت حليمة بما قال الله تعالى {وعصى آدم ربه فغوى} وقد وصف عليا وأثنى عليه في سورة «هل أتى» بقوله تعالى {إنما وليكم الله ورسوله} الآية، ولم يسبقه أحد بالتصديق في الصلاة حيث أعطي الفقير خاتمه وهو فيها. (3)

فقال الحجاج صدقت، فبأي دليل تفضلين عليا على نوح؟ فقالت: لأن زوجة علي فاطمة البتول سيدة نساء العالمين بضعة خير الخلق أجمعين زوجت تحت سدرة المنتهى بشهادة الملائكة المكرمين وإخبار الروح الأمين، وزوجة نوح كانت كافرة كما نطق به القرآن! فقال الحجاج: بما تفضلين عليا على إبراهيم خليل الرحمن؟ فقالت: إن إبراهيم قال {رب أرني كيف تحيي الموتى. قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} وقال علي على رءوس الأشهاد: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا. (4) ثم قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان جالسا وحوله المؤمنون والمنافقون فقال: أيها المؤمنون قد وضع لي المنبر ليلة أسرى بي فجلست عليه وجاء أبي إبراهيم فصعد المنبر وجلس عليه دون درجة

_________

(1) كذا في الأصل، وفي كتب الإمامية: حرة بنت حليمة السعدية. لا ترجمة لها، لكن أمها - إن صح الخبر - حليمة السعدية مرضعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الاستيعاب: 4/ 1812؛ الإصابة: 7/ 584.

(2) وسف بن عمر الثقفي المعروف بالحجاج، كان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن، قال عنه الذهبي: «كان ظلوما جبارا ناصبيا خبيثا سفاكا للدماء»، ولي ولاية العراق عشرين سنة لبني أمية، مات سنة 127هـ. وفيات الأعيان: 7/ 101؛ سير أعلام النبلاء: 4/ 343.

(3) إشارة إلى الأثر المروي عن عمار بن ياسر قال: «وقف على علي بن أبي طالب سائل وهو راكع في تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعلمه ذلك، فنزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه». أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط: 6/ 218. وأخرجه الطبري عن السدي عن علي - رضي الله عنه - في تفسيره: 6/ 228. وقال ابن كثير عن طرقه: «وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها». التفسير: 2/ 72 واستعرض الطرق ابن تيمية وبين أنها ضعيفة واهية ثم قال: «أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه وأن عليا لم يتصدق بخاتمه في الصلاة وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع». منهاج السنة النبوية: 7/ 11 ..

(4) لم يخرجه أحد من أهل السنة بسند معتبر، لكن نسبها أبو نعيم إلى عبد الله بن سهل في الحلية: 10/ 202؛ ونبه القاري إلى ذلك في المصنوع: ص 149؛ أما الشيعة الإمامية فينسبونها إلى علي - رضي الله عنه - فأوردها عنه الرضي في نهج البلاغة (بشرح ابن حديد): 7/ 113، ثم نقلها أمثال المازندراني، في مناقب آل أبي طالب: 1/ 318؛ والخوارزمي، المناقب: ص 376. ومن نقلها من متأخري علماء أهل السنة فإنما نقلوها لشهرتها بين الإمامية، كما فعل السندي في حاشيته على سنن النسائي: 8/ 96.

(1/39)

________________________________________

واحدة من مجلسي، وجاء الأنبياء الآخرون أيضا وسلموا علي، حتى جئ بابن عمى علي ابن أبي طالب راكبا على ناقة من نوق الحنة وفي يده لواء الحمد وكان حوله جماعة وجوههم كالبدر مشرقة منورة فسألتي إبراهيم عن هذا الفتى أهو من النبيين؟ قلت: ما هو نبي بل هو ابن عمي علي بن أبي طالب، فسأل إبراهيم: من هؤلاء القوم الحافون من حوله؟ قلت: أولئك شيعته ومحبوه. فدعا إبراهيم حينئذ: رب أجعلني من شيعة علي، يدلك على ذلك قوله تعالى {وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم} فقال الحجاج: صدقت. فبم تفضلينه على سليمان. فقالت حليمة: إن سليمان طلب من ربه الملك والجاه والدنيا حيث قال {رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب} والأمير قد طلق الدنيا حيث قال: إليك عني يا دنيا، طلقتك ثلاثا لا رجعة بعدها، حبلك على غاربك، غري غيري، ولا حاجة لي فيك». (1) قال الحجاج: صدقت، فيم تفضلينه على موسى؟ فقالت: إن موسى قد فر من مصر إلى مدين خوفا من فرعون، قال تعالى {فخرج منها خائفا يترقب} والأمير قد رقد ليلة الهجرة على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقلب مطمئن، ولو كان معه شئ من الخوف لما نام. فقال: صدقت.

ففيم تفضلينه على عيسى؟ فقالت: إن عيسى يحبس يوم الحشر في موقف الحساب فيسأله الله تعالى: هل إنه كان السبب في اتخاذ إله غير الله وعبادة غيره سبحانه ليعتذر حينئذ بما يعتذر؟ يدل على ذلك قوله تعالى {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لى به علم إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم} الآية، والأمير لما قالت السبئية إنه إله غضب عليهم وأجلاهم وهددهم حتى اشتهر في مشارق الأرض ومغاربها وأظهر منهم البراءة فقال الحجاج: صدقت. وأمر لها بألف دينار وقرر لها وظيفة في كل سنة. ثم قالت يا حجاج استمع نكتة ولطيفة أخرى. إن مريم لما أخذها المخاض وقد كانت في بيت المقدس أمرها الله تعالى

_________

(1) أخرج الإمام أحمد عن مسلم بن هرمز قال: «أعطى علي الناس في سنة ثلاث عطيات ثم قدم عليه مال من أصبهان فقال: هلموا إلى عطاء الرابع فخذوا، ثم كنس بيت المال وصلى فيه ركعتين وقال: يا دنيا غري غيري، قال: وقدم عليه حبال من أرض فقال: أيش هذا؟ قال: حبال جيء بها من أرض كذا وكذا، قال: أعطوها الناس، قال فأخذ بعضهم وترك بعضهم فنظروا فإذا هو كتان يعمل فبلغ الحبل آخر النهار دراهم». فضائل الصحابة: 1/ 541؛ وأبو نعيم، حلية الأولياء: 1/ 81.

(1/40)

________________________________________

بخروجها عنه إلى الصحراء ووضع حملها تحت جذع النخلة كي لا يتلوث بيت المقدس بنفاسها. ولما أخذ المخاض أمير المؤمنين فاطمة بنت أسد (1) أوحى إليها الله: ادخلي في الكعبة وشرفي بيتي بولادة هذا المولود الشريف. فأنصف الأن، من الأفضل والأشرف من هذين المولودين؟ فدعا الحجاج لحليمة بالخير، وودعها معززة محترمة. (2) انتهت هذه الحكاية المكذوبة والقصة الأعجوبة.

ولا يخفى ما فيها من بطلان حتى على الصبيان، حيث إن حليمة كما لا يخفى على من تصفح كتب التواريخ والسير لم تدرك زمن الخلفاء الراشدين، بل قد اختلف المؤرخون في كونها أدركت زمن البعثة وآمنت بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأيضا إن الحجاج مشهور بسفك الدماء ظلما ولا سيما أهل البيت ومن له تعلق بهم لأنه كان من النواصب المظهرين لعداوة الأمير كرم الله تعالى وجهه وذريته الطاهرين - رضي الله تعالى عنهم -، ولذا قتل كثيرا من علماء أهل السنة بسبب محبتهم لأولئك الكرام، وقد أهان كثيرا من الصحابة الكرام وأهان أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3) ولا يتمكن أحد من الحضور لديه من غير أن يطلب حضوره، فعلى فرض أن حليمة أدركت زمنه كيف يمكنها الوصول إليه حتى تشد الرحال للحضور بين يديه؟ ومع ذلك لم ينقل عن أحد رجوع ذلك الظالم عن بغض الأمير الذي يرى ذلك سببا لنيله الجاه الخطير. ثم إنا إذا رجعنا إلى ما نسبوه إلى حليمة من الشبهات، وهاتيك الدلائل الواهيات، وجدناها كسراب بقيعة، لا يخفى ما فيها من الأمور الشنيعة، وذلك من وجوه: أما أولا فلأن تفضيل الأمير على الأنبياء، ولا سيما على أولي العزم خلاف ما عليه العقلاء من سائر ملل الأنام فضلا عن ملة الإسلام، فإن المولى لا يصل إلى مرتبة النبي في كل شريعة من الشرائع، ونصوص الكتاب تنادى على تفضيل الأنبياء على جميع خلق الله. (4)

وأما ثانيا: فإن تلك الاحتجاجات مبنية على ملاحظة مناقب الأمير مع زلات الأنبياء، ولو لوحظت مع كمالاتهم ومناقبهم لخفيت على الناظرين، وغابت عن أعين المبصرين. ويلزم عليهم أن الأمير بل وأبا ذر وعمارا وسلمان وغيرهم من الصحابة الكرام أفضل من النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا نظر ما ورد في حقهم من الآيات المشعرة بمدحهم مع ما ورد من معاتباته - عليه

_________

(1) فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية والدة علي وإخوته، أسلمت وهاجرت وتوفيت بالمدينة، قال ابن سعد: «كانت امرأة صالحة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزورها ويقيل في بيتها». طبقات ابن سعد: 8/ 222؛ الإصابة: 8/ 60.

(2) أورد الرواية بطولها ابن شاذان فقال: «مما روي عن جماعة ثقات أنه لما وردت حرة بنت حليمة السعدية .. »، الفضائل: ص 136 - 138؛ البيضاني، الصراط المستقيم: 1/ 230.

(3) روى الأعمش قال: «شكونا الحجاج بن يوسف، فكتب أنس إلى عبد الملك: إني خدمت النبي - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين، والله لو أن اليهود والنصارى أدركوا رجلا خدم نبيهم لأكرموه». تهذيب الكمال: 3/ 373؛ سير أعلام النبلاء: 3/ 402.

(4) أما عند الإمامية فعلي - رضي الله عنه - أفضل من جميع الأنبياء، والروايات في ذلك كثيرة، منها ما رواه القمي عن جابر عن أبي عبد الله: «قال: قلت: لم سميت فاطمة الزهراء، زهراء؟ فقال: لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها، وغشيت أبصار الملائكة، وخرت الملائكة لله ساجدين، وقالوا: إلهنا وسيدنا، ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري، وأسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي أخرجه من صلب نبي من أنبيائي، أفضله على جميع الأنبياء وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري، يهدون إلى حقي، وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي». الإمامة والتبصرة: ص 126.

(1/41)

________________________________________

الصلاة والسلام - في عدة مواضع، ولا يقول ذلك عاقل فضلا عن فاضل. وأما ثالثا فلأن آدم أبو البشر وأصل لنوع الإنسان، فكل ما يحصل لأولاده من الفضائل والأعمال الصالحة فهي عائدة إليه. نعم إن بعض أولي العزم كنبينا ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فضلوا عليه لخصوصيات أكرمهم الله تعالى بها ذكرها سبحانه في كتابه العزيز وخطابه الوجيز. وأما رابعا فلأن الأزواج لا دخل لهن في المفاضلة، لأن الأمور العارضة لا دخل لها في الفضل الذاتي والكمال الحقيقي، وإنما المناط الأمور الذاتية والصفات الحقيقية، فتفضيل زوجة علي كرم الله تعالى وجهه على زوجة نوح - عليه الصلاة والسلام - غير مستلزم لتفضيل علي عليه. ألا ترى أن زوجة فرعون كانت أفضل من زوجة نوح ولوط، وكذا زوجة الأمير أفضل من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا قائل بالتفضيل. وأما خامسا فلأن حديث «لو كشف لي الغطاء ما أزددت يقينا» موضوع لا أصل له في كتب الحديث الصحيحة عند الفريقين. وعلى فرض تسليم صحته فهو غير مفيد للتفضيل أيضا لأن معناه: لو رفعت الأحجبة وسبحات الجلال عن وجه الواجب جل شأنه لا أزداد على اليقين الحاصل لي بوجوده وصفاته الكاملة بملاحظة الآيات على وحدانيته وكمال قدرته وإحاطة علمه. والخليل - عليه السلام - كان أعلى كعبا من الأمير في ذلك. وفي تفسير هذه الآية عدة أجوبة عن ذلك، ولا سيما في تفسير العلامة الجد عليه الرحمة عند الكلام على هذه الآية، فراجعه. (1)

وأما سادسا: فلأن عروج الأمير غير ثابت في كتبهم الصحيحة، بل الثابت خلافه، فقد روى ابن بابويه القمي (2) في كتاب (المعراج) (3) في ضمن حديث طويل عن أبي ذر أن ملائكة السماء قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا رجعت إلى الأرض فأقرأ على علي منا السلام. (4) وقال أيضا في الكتاب المذكور: والصحيح أن أمير المؤمنين ما كان ليلة المعراج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كان في الأرض، ولكن ارتفعت الأحجبة عن بصره فرأى وهو في الأرض ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في السماء. (5)

وأما سابعا: فلأن الأمير كان يعلم أنه صبي، وعداوة الكفار له ليست بالذات فلا طمع لهم في قتله ومع ذلك فقد أخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكفار لن يضروه، (6) فزيادة إيمانه بذلك القول كانت

_________

(1) قال الآلوسي الجد: «إن السؤال لم يكن عن شك في أمر ديني والعياذ بالله، ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها، وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فالخليل - عليه السلام - طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته». روح المعاني: 3/ 26.

(2) محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، أبو جعفر نزيل الري، قال عنه النجاشي: «شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان»، وقال عنه الذهبي: «رأس الإمامية ... صاحب التصانيف السائرة بين الرافضة، يقال له ثلاث مائة مصنف»، مات سنة 381هـ. رجال النجاشي: 2/ 311؛ سير أعلام النبلاء: 16/ 303؛ فهرست الطوسي: ص 93.

(3) ذكره صاحب الذريعة: 21/ 236.

(4) أوردها فرات القمي في تفسيره: ص 372؛ الحسيني، تأويل الآيات الظاهرة: ص 831؛ المجلسي، بحار الأنوار: 17/ 101.

(5) وإن اختلف الإمامية في ذلك، ففي رواية نسبها الطوسي لأبي بريدة الأسلمي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أتاني جبريل فأسري بي إلى السماء، فقال: أين أخوك؟ قلت: ودعته خلفي، قال: ادع الله أن يأتيك به، فدعوت الله فإذا أنت معي، وكشط لي عن السماوات السبع والأرضين السبع حتى رأيت سكانها وعمارها وموضع كل ملك منها، فلم أر ما هنالك». الأمالي: ص 641. وأخرجها القطب الراوندي في الخرائج والجرائح: 2/ 866.

(6) روى ابن إسحاق في سيرته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي بن أبي طالب عندما أوصاه بالنوم في فراشه: «نمْ على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم». السيرة النبوية: 3/ 8.

(1/42)

________________________________________

سببا لأطمئنانه، بخلاف موسى فإنه ما كان له شئ من ذلك، بل كان الغالب على ظنه حسب العادة أن فرعون يقتله بدل القبطي إذا رآه، وأنه أحس بمشاورة رؤساء القبط على قتله بإخبار العدول ولم يوح إليه ما يزيل خوفه، ولما تكفل له جل شأنه من مكر فرعون ذهب إليه وقال ما قال مما تعجز عنه الأبطال، وأقام مع ذلك الكافر أربعين عاما في بلدة واحدة. أما ثامنا: فلأن سليمان - عليه السلام - كما صرح به المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء والأئمة) (1) إنما طلب ذلك الملك ليكون معجزة على نبوته، وشرط المعجزة أن لا يكون للغير قدرة عليها، ولأنه يمكن أن يكون الله تعالى قد أخبره بأن حصول ذلك الملك له يكون أصلح في الدين بكثرة الطاعات والمبرات وفعل الخيرات، وإذا كان الأمر كذلك فلا منقصة ولا محذور على سليمان - عليه السلام -، ولا مزية عليه للأمير في تطليقه الدنيا. على أن طلب على أن طلب الملك لا ينافي التطليق ألا ترى إلى الأمير كرم الله وجهه أنه طلب الخلافة بعد ذلك وسعى لها سعيها حتى وقعت حروب كثيرة بسبب ذلك لأن مثل هؤلاء الرجال إنما يطلبون المال والملك للجهاد في الدين وقتال أعدائه سبحانه وقصد استئصالهم وترويج أحكام الشريعة، فإن ترك الدنيا مطلقا ليس بمحمود في الدين المحمدي ولو كان على إطلاقه موجبا للتفضيل يلزم أن يكون الرهبان وأمثالهم أفضل من سليمان ويوسف عليهما السلام معاذ الله تعالى من ذلك.

وأما تاسعا فلأن تعزير الأمير للغالين في محبته لا يوجب تفضيله على عيسى - عليه السلام - لأن المغالين في محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه قد أظهروا الكفر والفسوق بمرأى منه ومسمع فتمكن من الانتقام منهم فعمل ما عمل به، وغلاة عيسى - عليه السلام - الذين كانوا قائلين بالتثليث ظهروا بعد أن رفع إلى السماء ولا إشكال في قوله تعالى {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} لأنه - عليه السلام - قد رد عليهم ما زعموه ووبخهم غاية التوبيخ على ما اعتقدوه، ومن أين لهم أن عيسى - عليه السلام - يُسأل والأمير كرم الله تعالى وجهه لا يسأل وقد قال تعالى {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول

_________

(1) قال فيه: «وهو أن يكون - عليه السلام - إنما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته ليتبين بها عن غيره ممن ليس نبيا». تنزيه الأنبياء: ص 140.

(1/43)

________________________________________

أأنتم أضللتم عبادي أم هم ضلوا السبيل} فيجيبون الله تعالى على ما يدل عليه قوله سبحانه: {قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء} ولا يلحقهم نقص من ذلك السؤال إذ القصد تبكيت الكفرة وإلزام أهل الضلال. وقد سأل سبحانه الملائكة مثل ذلك مع أنهم معصومون ليسوا بمحل للعتاب، قال تعالى {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون}. وأما عاشرا فلأن ما ذكر في ولادة عيسى غلط محض وكذب صريح لأن الأصح أن مولده بيت لحم وفلسطين وقيل مصر وقيل دمشق ولم يقل أحد المؤرخين إن مريم قد جاءها المخاض في المسجد الأقصى ولئن سلم ذلك فمن أين علم أنها أخرجت بالوحي؟ بل إنها لما حملت بعيسى - عليه السلام - من غير أب كرهت إظهار الولادة منفردة ولذا تمنت الموت كما قال تعالى: {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} وأما القول بأنه قد أوحي إلى فاطمة بنت أسد بأن تضع في الكعبة فقول يضحك الثكلى وتضع منه الحبلى، والصحيح في ذلك أن عادة الجاهلية أن يفتح باب الكعبة في البوم الخامس عشر من رجب ويدخلون جميعهم للزيارة وكانت العادة أن النساء يدخلن قبل الرجال بيوم أو يومين وقد كانت فاطمة قريبة الوضع فاتفق أن ولدت هناك لما أصابها من شدة المزاحمة والمجاذبة وقد ورد في كتب الشيعة أن أبا طالب لما يئس من ولادتها لما زادت المدة المعلومة لما عراها من المرض أدخلها الكعبة للاستشفاء فرحمها الله تعالى بالولادة فيها ورووا عن زين العابدين أنه قال: أخبرتني زيدة بنت عجلان الساعدية عن أم عمارة بنت عباد الساعدية أنها قالت: كنت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيبا فقلت له: ما شأنك؟ قال إن فاطمة بنت أسد في شدة من الطلق وإنها لا تضع ثم إنه أخذ بيدها وجاء بها إلى الكعبة فدخل بها وقال: اجلسي على اسم الله فجلست وطلقت طلقة فولدت غلاما نظيفا فسماه أبو طالب عليا. (1) انتهى.

على أن ولادة الأمير في الكعبة لو أوجبت تفضيله على عيسى - عليه السلام - لأوجبت تفضيله على النبي - صلى الله عليه وسلم -

_________

(1) أخرجها عن العمدة، المجلسي، بحار الأنوار: 35/ 30.

(1/44)

________________________________________

ولا قائل بذلك من الفريقين ولأوجبت تفضيل حكيم بن حزام بن خويلد (1) ابن أخي أم المؤمنين خديجة - رضي الله تعالى عنها - على سائر الأنبياء إذ قد ولد في الكعبة أيضا. (2) وبطلان ذلك غير خفي على أحد والله يبدي الحق ويهدي إلى سواء السبيل.

ومن مكائدهم أنهم يقولون: أهل السنة رووا في كتبهم الصحيحة ما يزري بشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الغيرة حيث يروون عن عائشة أنها قالت «رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون بالدرق والحراب يوم العيد». (3) فإن في هذه الرواية إراءة اللعب وتقرير الحبشة عليها في المسجد ونظر زوجة الرسول إلى غير المحارم وأن أهل السنة يروون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أتعجبون من غيرة سعد وأنا أغير منه والله أغير مني» (4) وأدنى الناس لا يرضى برؤية زوجته إلى الأجانب ونظرها إلى لعبهم ولهوهم فضلا عن سيد الكونين - صلى الله عليه وسلم -.

والجواب أن هذه القصة وقعت قبل نزول آية الحجاب، وكان النساء من أمهات المؤمنين وغيرهن يخرجن إذ ذاك بلا حجاب ويخدمن الأزواج ولو بحضور الأجانب باتفاق الفريقين حتى روي أن فاطمة - رضي الله تعالى عنها - كانت تغسل الجراح التي أصابته - عليه الصلاة والسلام - في غزوة أحد بمحضر سهل وجماعة من الصحابة والشيء قبل تحريمه لا يكون فعله موجبا للطعن فقد صح عند الفريقين أن سيد الشهداء حمزة وأبا طلحة الأنصاري وجماعة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - شربوا الخمر قبل تحريمها وسكروا ووقع بينهم ما وقع ورآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تلك الحالة وسكت ولم ينكر عليهم. وأيضا أن عائشة - رضي الله تعالى عنها - إذ ذاك صبية غير مكلفة فلو نظر مثلها إلى لهو فأي محذور؟ ولا سيما إذا كانت متسترة وأيضا أن لهو الحبشة ولعبهم كان لتعلم الحرب والقتال حتى روي أن الملائكة يحضرون مثل هذا اللعب فالنظر إليه ليس بحرام. وأما ما نقل من زجر عمر بن الخطاب الحبشة عن ذلك لما ظن أن فعل ذلك بحضور النبي - عليه الصلاة والسلام - من سوء الأدب ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - له «دعهم يا عمر» امتنع عن الإنكار. والعجب من الشيعة أنهم يعدون أمثال ذلك من قلة الغيرة والعياذ بالله تعالى

_________

(1) حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى الأسدي، تأخر إسلامه حتى الفتح، شهد حنينا وأعطي من غنائمها، وكان من العلماء بأنساب قريش وأخبارها، مات سنة 50هـ. الاستيعاب: 1/ 362؛ الإصابة: 2/ 112.

(2) عن الزبير بن بكار كما في الإصابة: 2/ 112.

(3) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «إن أبا بكر - رضي الله عنه - دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي - صلى الله عليه وسلم - متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهه، فقال: يا أبا بكر فإنها أيام عيد وتلك الأيام أيام منى وقالت عائشة: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني، وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فزجرهم عمر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعهم أمنا بني أرفدة يعني من الأمن». متفق عليه.

(4) قال سعد بن عبادة: «لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته مصفح فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أتعجبون من ... ». الحديث فذكره، متفق عليه.

(1/45)

________________________________________

وهم يرون عن الأئمة المعصومين وأهل البيت الطاهرين حكايات تقشعر منها جلود المؤمنين وتمجها أسماع المسلمين فقد ثبت في كتبهم الصحيحة أن أبا عبد الله - عليه السلام - قال لأصحابه وشيعته: «إن خدمة جوارينا لنا، وفروجهن لكم حلال» وذكر مقداد (1) صاحب كنز العرفان (2) الذي هو أجل المفسرين عندهم في تفسير قوله تعالى {هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين} أن لوطا النبي - عليه السلام - أراد بذلك الإتيان من غير الطريق المعهود بين الناس. (3) فيا ويلهم من هذا الافتراء وسحقا لهم بسبب هذه المقالة الشنعاء.

ومن مكائدهم أنهم يقولون: إن أهل السنة يجوزون اللعب بالشطرنج مع أن كل لعب ولهو مذموم في الشرع. (4)

الجواب أن الأئمة الثلاثة أعني أبا حنيفة (5) ومالكا (6) وأحمد (7) كلهم قائلون بحرمته مطلقا ويروون آثارا على حرمته. وللإمام الشافعي فيه قولان: قول أنه مكروه بشرط أن لا يؤخر الصلاة عن الوقت المستحب ولا تترك السنن والآداب لأجله وأن لا يكون اللعب على شيء وأن لا يفوت ما يجب من خدمة الوالدين وتفقد أحوال العيال وعيادة المرضى واتباع الجنائز وأن لا يقع في اللعب نزاع وجدال وأيمان كاذبة وأن لا يكون ما يلعب به مصورا بصور الحيوانات فإن فقد شيء من هذه الشروط فهو حرام قطعا فمن أصر على فعله مع حرمته فقد ارتكب الكبيرة. (8) والقول الثاني أنه حرام كما عليه الجمهور وقد صح عن الشافعي أن رجع كما نص عليه الغزالي (9) ولكن في شروح المنهاج (10) وفتح الوهاب (11) والأنوار (12) وفتح المعين (13) وغيرهما الفتوى على القول الأولى من كونه مكروها بالشروط وحراما بفقد شرط منها. على أن لو سلمنا أن أهل السنة يجوزون اللعب به فهو من القسم المباح، إذ فيه تشحيذ الذهن، وتعليم بمخادعات الحرب وطرق الاحتراز عن مكائد الأعداء، فحكمه حكم الملاعب المباحة كالمسابقة بالخيل ورمي السهام، ونحو ذلك. والله أعلم.

ومن مكائدهم أنهم يقولون إن أهل السنة يجوزون التغني، مع أنه قد ورد النهي عنه في أحاديث كثيرة.

والجواب أن هذا محض أفتراء، وكلام أشبه شئ بالهراء. فإن الغناء عند جميع أهل السنة حرام، قال سيد الطائفة جنيد البغدادي قدس سره: إنه بطالة.

_________

(1) هو المقداد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن محمد السيوري، أبو عبد الله الحلي، من تلامذة المقتول الأول محمد بن مكي، مات سنة 826هـ. روضات الجنات: ص 127؛ تنقيح المقال: 3/ 345؛ معجم المؤلفين: 12/ 418.

(2) سماها صاحب الذريعة (كنز العرفان في فقه القرآن). الذريعة: 18/ 158.

(3) وعمدة المقداد ما نسب الإمامية إلى الأئمة، فقد روى الطوسي والعياشي عن الرضا - عليه السلام -: «أنه سئل عن إتيان الرجل المرأة في خلفها؟ قال: أحلته آية من كتاب الله قول لوط هؤلاء بناتي هن أطهر لكم، وقد علم أنهم لا يريدون الفرج». تفسير العياشي: 2/ 157؛ تهذيب الأحكام: 7/ 414.

(4) من اختراعات ابن المطهر الحلي في كتابه نهج الحق: ص 568 - 569.

(5) نقل ذلك ابن نجيم في البحر الرائق: 8/ 215؛ الدر المختار: 6/ 394.

(6) ينظر الثمر الداني: ص 715؛ التاج والإكليل: 6/ 152.

(7) ينظر المغني: 10/ 171؛ المبدع: 10/ 231.

(8) ينظر روضة الطالبين: 3/ 352؛ مغني المحتاج: 4/ 428.

(9) إحياء علوم الدين: 3/ 274.

(10) المنهاج هو (منهاج الطالبين) للنووي

(11) كتاب (فتح المعين بشرح قرة العين) في فقه الشافعية، من تصنيف زين الدين بن عبد العزيز المليباري

(12) كتاب (الأنوار لعمل الأبرار) في فقه الشافعية، تصنيف جمال الدين يوسف بن إبراهيم الأردبيلي الشافعي (ت 799هـ). كشف الظنون: 1/ 195.

(13) كتاب فتح الوهاب بشرح منهاج الطلاب، في فقه الشافعية، تصنيف زكريا بن محمد الأنصاري (ت 926هـ)،

(1/46)

________________________________________

وقال الشيخ المرزوقي الفاسي: السماع حرام كالميتة، اللهم إلا إذا كان فيه تشويق إلى العبادة وترغيب إلى الطاعة وترهيب عن النيران وعذاب الله تعالى فهو جائز عند البعض. وإن أردت تحقيق الحق في هذا المقام فارجع إلى (روح المعاني) تفسير جدنا روّح الله تعالى روحه عند الكلام على قوله تعالى {وإذا رأوا تجارة أو لهوا أنفضوا إليها} الآية. فإنك ترى فيه ما يروى الغليل ويشفي العليل. (1) على أن الشيخ المقتول من الشيعة ذكر في كتاب (الدروس) أنه يجوز الغناء بشروطه في العرس، وتلك الشروط هي أن يكون المسمع أمرأة، وأن يكون شعرا في الهجاء. كذا في شرح القواعد). وهذا مما يقضى منه العجب ويزيد الطرب، وقد طعنوا أنفسهم وأصابهم سهمهم، وكفى الله المؤمنين والحمد لله سبحانه في كل حين.

ومكائدهم لا تحصى ولا تعد، ولا ترسم ولا تحد. والذى ذكرناه عشر من معشار وقطرة من بحار. وقد تركت كثيرا مما ذكر في أصل الكتاب، استغناء بذكر ذلك في بقية الأبواب.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

الباب الثاني في بيان أقسام أخبار الشيعة وأحوال رجال أسانيدهم وطبقات أسلافهم وما يتبع ذلك في بيان أقسام أخبار الشيعة وأحوال رجال أسانيدهم وطبقات أسلافهم وما يتبع ذلك

في ذكر أقسام أخبارهم

أما أقسام (أخبارهم) فاعلم أن أصولها عندهم أربعة: صحيح وحسن وموثق وضعيف.

أما (الصحيح) فكل ما اتصل رواته بالمعصوم بواسطة عدل إمامي، (2) وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلا في الصحيح لعدم اتصالهما وهو ظاهر، مع إنهم يطلقون عليها لفظ الصحيح، كما قالوا: روى ابن عمير (3) في الصحيح كذا وكذا. ولا يعتبرون «العدالة» في إطلاق الصحيح، فإنهم يقولون: رواية مجهول الحال (4) صحيحة كالحسين بن الحسن بن أبان (5) فإنه مجهول الحال نص عليه الحلي في (المنتهى) (6) مع أنها مأخوذة في تعريفه. وكذا

_________

(1) ينظر إغاثة اللهفان لابن القيم: ص 227.

(2) هذا تعريف الإمامية. قال العاملي: «الحديث الصحيح: هو ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الضابط عن مثله في جميع الطبقات». الدراية: ص 19.

(3) هو محمد بن أبي عمير زياد بن عيسى، أبو أحمد الأزدي قال عنه النجاشي: «لقي أبا الحسن موسى - عليه السلام -، وسمع منه أحاديث كناه فقال: يا أبا أحمد، وروى عن الرضا - عليه السلام -، جليل القدر عظيم المنزلة فينا، وعند المخالفين» يعني أهل السنة. ذكره ابن حجر وقال عنه: مجهول، وقد حبسه الرشيد ثم المأمون فادعى الإمامية: «أن أخته دفنت كتبه في حالة استتارها، وكونه في الحبس أربع سنين فهلكت الكتب، وقيل بل تركتها في غرفةٍ فسال عليها المطر فهلكت فحدث من حفظه، ومما كان سلف له في أيدي الناس، فلهذا أصحابنا يسكنون إلى مراسيله»، مات ابن أبي عمير سنة 217هـ. رجال النجاشي: 2/ 204؛ تنقيح المقال: 4/ 113؛ الذريعة: 1/ 283؛ لسان الميزان: 5/ 331.

(4) مجهول الحال أو المستور عند أهل المصطلح: من روى عنه اثنان فأكثر، ولكنه لم يوثق. المنهل الروي: ص 66؛ تدريب الراوي: 1/ 316.

(5) ذكره الطوسي في رجاله: (ص 430)، ولم تثبت روايته عن أي من الأئمة في كتب الإمامية، وصنفه ابن داود ضمن قسم الموثقين من كتابه (ص 17)، واعترض عليه بأنه غير مذكور بمدح ولا قدح، لكن البهائي برر وجوده وغيره من المجهولين في كتب الإمامية فقال: «قد يدخل في أسانيد بعض الأحاديث من ليس له ذكر في كتب الجرح والتعديل بمدح ولا قدح، غير أن أعاظم علمائنا المتقدمين قد اعتنوا بشأنه وأكثروا الرواية عنه، وأعيان مشائخنا المتأخرين قد حكموا بصحة روايات هو في سندها والظاهر أن هذا القدر كافٍ في حصول الظن بعدالته»، وهكذا خرّج الإمامية لكثير من المجاهيل، لأن روايتهم في كتبهم كثيرة! رغم اعتراف المتقدمين أن الحسين بن الحسن بن أبان لم يلقَ أحدا من الأئمة المعصومين عندهم. أعيان الشيعة: 5/ 469.

(6) كتاب (منتهى المطلب في تحقيق المذهب) لابن المطهر الحلي (ت 726هـ)، قال الطهراني: ذكر فيه مذاهب جميع المسلمين في الأحكام وحججهم عليها والرد على غير ما يختاره، وهو مطبوع في مجلدين. الذريعة: 23/ 11.

(1/47)

________________________________________

لا يعتبر عندهم كون الراوي إماميا في إطلاق الصحيح فقد أهملوا قيود التعريف كلها.

وأيضا قد حكموا بصحة حديث من دعا عليه المعصوم بقول أخزاه الله وقاتله الله، (1) أو لعنه (2) أو حكم بفساد عقيدته أو أظهر البراءة منه. (3) وحكموا أيضا بصحة روايات المشبهة والمجسمة ومن جوز البداء عليه تعالى، (4) مع أن هذه الأمور كلها مكفرة، ورواية الكافر غير مقبولة فضلا عن صحتها، فالعدالة غير معتبرة عندهم وإن ذكروها في تعريف الصحيح، لأن الكافر لا يكون عدلا البتة.

وحكموا أيضا بصحة الحديث الذي وجدوه في الرقاع (5) التى أظهرها ابن بابويه (6) مدعيا أنها من الأئمة. ورووا عن الخطوط التي يزعمون أنها خطوط الأئمة ويرجحون هذا النوع على الروايات الصحيحة الإسناد عندهم. هذا حال حديثهم الصحيح الذي هو أقوى الأقسام الأخرى وأعلاها. (7)

وأما (الحسن) فهو عندهم «ما اتصل رواته بواسطة إمامي ممدوح من غير نص

_________

(1) من هؤلاء هشام بن الحكم، وهو من مشاهير رواتهم. روى الطبرسي عن الحسن بن عبد الرحمن الحماني قال: «قلت لأبي إبراهيم - عليه السلام -: إن هشام بن الحكم زعم أن الله تعالى جسم ليس كمثله شئ، عالم سميع بصير قادر متكلم ناطق والكلام والقدرة والعلم يجري مجرى واحد، ليس شئ منها مخلوقا. فقال: قاتله الله أما علم أن الجسم محدود؟ والكلام غير المتكلم؟ معاذ الله وأبرء إلى الله من هذا القول. لا جسم، ولا صورة، ولا تحديد، وكل شئ سواه مخلوق ... » الاحتجاج: ص 385.

(2) كحال زرارة بن أعين الذي كذبه ولعنه الصادق وفق الروايات في كتب الشيعة الإمامية. روى الكشي عن زياد بن أبي الحلال قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - إن زرارة روى عنك في الاستطاعة شيئا فقبلناه منه وصدقناه وقد أحببت أن أعرضه عليك، فقال: هاته، فقلت: زعم أنه سألك عن قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} فقلت: من ملك زادا وراحلة، فقال: كل من ملك زادا وراحلة فهو مستطيع، وإن لم يحج، فقلت: نعم، فقال: ليس هكذا سألني ولا هكذا قلت، كذب والله كذب علي، لعن الله زرارة لعن الله زرارة، إنما قال لي من كان له زاد وراحلة فهو مستطيع قلت: وقد وجب عليه فهو مستطيع ... » رجال الكشي: ص 133؛ المجلسي، بحار الأنوار: 45/ 71. فهؤلاء ثقات الرواة الذين أخذ عنهم الإمامية دينهم، كانوا يكذبون على الأئمة في حياتهم ويقولون عنهم ما لم يقولوا

(3) مثال ذلك براءة موسى الكاظم من محمد بن بشير الكوفي، فقد روى الكشي عن علي بن أبي حمزة قال سمعت أبا الحسن موسى - عليه السلام - يقول: «لعن الله محمد بن بشير وأذاقه حر الحديد، إنه يكذب علي، برأ الله منه وبرئت إلى الله منه، اللهم إني أبرأ إليك مما يدعي فيّ ابن بشير ... ». رجال الكشي: ص 482. لكن محمد بن بشير هذا ذكره النجاشي وقال عنه ثقة في رجال النجاشي: 2/ 236.

(4) لأنهم أخذوا رواياتهم عن عدد من أصحاب تلك المقالات، فقد رووا عن شيطان الطاق وهشام بن سالم الجواليقي ومن تقدم ذكرهم.

(5) ويسمونها (التوقيعات المقدسة) وهي كتب ادعوا أنها بخط الإمام المنتظر، وأول من أظهرها في مصنف مستقل عبد الله بن جعفر بن مالك القمي وهو من شيوخهم الوجهاء، مات بعد 300هـ. رجال النجاشي: 2/ 18؛ الذريعة: 4/ 501.

(6) كذا. والظاهر أنه يعني علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، أبا الحسن، قال عنه النجاشي: «شيخ القميين في عصره ومتقدمهم وفقيههم وثقتهم»، ويعد من أصحاب التوقيعات الواردة من قبل (صاحب الزمان) إلى الشيعة، وهو آخرهم، مات في سنة 328 أو 329هـ. رجال النجاشي: 2/ 89. فوفاته هي نفسها التي ذكرها الآلوسي، وهو آخر أصحاب (التوقيعات) عندهم.

(7) يشير الآلوسي إلى ترجيحات ابن بابويه القمي لهذه الرقع على أصح كتاب عنهم وهو الكافي للكليني، حيث قال ابن بابويه بعد أن أورد رواية من كتاب الكافي عن الصادق في باب (الرجل يوصي إلى رجلين) [الكافي: 7/ 47]: «لست أفتي بهذا الحديث، بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن علي [الغائب المنتظر]، فلو صح الخبران لكان الواجب الأخذ بقول الأخير». من لا يحضره الفقيه: 4/ 203 وهو قول علمائهم، فوافقوا ابن بابويه في مذهبه بترك روايات الكليني إذا تعارضت مع الرقع، قال الخراساني: «إن ابن بابويه كثيرا ما يطرح الروايات المذكورة في الكافي اعتمادا على التوقيعات المقدسة ... وطرح الشيخ الطوسي لأحاديث الفقيه والكافي، وكذا السيد المرتضى وغيرهما أكثر من أن يحصى». الوافية في أصول الفقه: ص 268.

(1/48)

________________________________________

على عدالته» (1) وعلى هذا فلا يكون المرسل والمنقطع داخلين في تعريف الحسن أيضا، مع أن إطلاقه عليهما شائع عندهم حيث صرح فقهاؤهم بأن رواية زرارة (2) في مفسد الحج إذا قضاه في عام آخر حسن، مع أنها منقطعة. ويطلقون لفظ الحسن على غير الممدوح (3) حيث قال ابن المطهر الحلي: «طريق الفقيه إلى منذر بن جيفر حسن» (4) مع أنه لم يمدحه أحد من هذه الفرقة.

وأما (الموثق) ويقال له «القوي» أيضا فكل ما دخل في طريقة من نص الأصحاب على توثيقه، مع فساد عقيدته وسلامة باقي الطريق عن الضعف. (5) مع أنهم أطلقوا الموثق أيضا على طريق الضعيف، كالخبر الذي رواه السكوني (6) عن أبي عبد الله عن أمير المؤمنين. (7) وكذا أطلقوا القوي على رواية نوح بن دراج (8) وناجية بن أبي عمارة الصيداوي (9) وأحمد بن عبد الله جعفر الحميري (10)

مع أنهم إمامية ولكنهم ليسوا بممدوحين ولا مذمومين.

أما (الضعيف) فكل ما اشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه أو مجهول الحال. (11)

واعلم أن العمل بالصحيح واجب عندهم اتفاقا، مع أنهم يروون بعض الأخبار الصحيحة ولا يعملون بموجبها، كما روى زرارة عن أبي جعفر قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أطعموا الجدة السدس ولم يفرض الله لها شيئا» (12) وهذا خبر موثق. وروى سعد بن أبي خلف (13) عن أبي الحسن الكاظم - عليه السلام - قال: سألته عن بنات الابن والجدة فقال «للجدة السدس، والباقي لبنات الابن» (14) وهذا خبر صحيح عندهم، فهم يقولون ما لا يفعلون.

ثم اعلم أن أكثر علماء الشيعة كانوا يعملون سابقا بروايات أصحابهم بدون تحقيق وتفتيش، ولم يكن فيهم من يميز رجال الإسناد ولا من ألف كتابا في الحرج والتعديل، حتى صنف الكشي سنة أربعمائة تقريبا كتابا في أسماء الرجال وأحوال الرواة، وكان مختصرا جدا لم يزد الناظر فيه إلا تحيرا، لأنه أورد فيه أخبارا متعارضة في الحرج والتعديل ولم يمكنه ترجيح أحدها على الآخر. ثم تكلم الغضائري (15) في الضعفاء والنجاشي (16) وأبو جعفر الطوسي في الحرج وصنفوا فيه كتبا طويلة، ولكن أهملوا فيها توجيه التعارض بالمدح والقدح ولم يتيسر لهم ترجيح أحد الطرفين، ولهذا منع صاحب (الدراية) (17) تقليدهم في

_________

(1) ابن بابويه، معالم الدين: ص 215؛ الحر العاملي، الدراية: ص 21.

(2) زرارة بن أعين الكوفي، كان يقول بإمامة عبد الله بن جعفر، مات سنة 148هـ. الفرق بين الفرق: ص 52؛ منهاج السنة النبوية: 2/ 235؛ لسان الميزان: 2/ 473. وعده الكشي من أصحاب الإجماع الذين اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم وشهدوا لهم بالعلم وبأنه أفقههم. رجال الكشي: ص 151؛ أعيان الشيعة: 7/ 47.

(3) الحسن عندهم كما عرفه الداماد: «هو ما اتصل سنده إلى المعصوم - عليه السلام - بإمامي ممدوح بلا معارضة ذمّ مقبول، من غير نصّ على عدالته في جميع مراتبه أو بعضها مع كون الباقي بصفة رجال الصحيح ... يطلق الحسن أيضا على ما لو كانت رواته متّصفين بوصف الحسن إلى واحد معيّن ثمّ يصير بعد ذلك ضعيفا أو مقطوعا أو مرسلا». الرواشح السماوية: ص 41؛ الوجيزة: ص 5. والتعريف واضح التناقض ..

(4) هو منذر بن جيفر العبدي، قال الخوئي: «إن المنذر بن جيفر لم يرد فيه توثيق ولا مدح ... »، ثم نقل عن الوحيد قوله «روى عنه الأجلة كصفوان وابن مغيرة، وأحمد بن عيسى». ورواية هؤلاء عنه لا يدل على عدالة ابن جيفر، وهذا ما أقر به الخوئي. معجم رجال الحديث: 19/ 361. ورغم ذلك فقد تلقى الإمامية رواية ابن جيفر بالقبول فذكره ابن داود في قسم الموثقين من كتابه: ص 320.

(5) عرفه الإمامية بقول العاملي: «الموثق: هو ما دخل في طريقه من ليس بإمامي، ولكنه منصوص على توثيقه بين الأصحاب». معالم الدين: ص 216.

(6) هو إسماعيل بن أبي زياد الشهيري (السكوني)، قال النجاشي له كتاب، وروايته عند الإمامية عن الصادق، وقد جرحه ابن المطهر الحلي في خلاصته وقال: «كان عاميا»: ص 199؛ وينظر رجال النجاشي: 1/ 109؛ تنقيح المقال: 1/ 127. وترجم له أهل السنة قال ابن حجر: «سكن خراسان، قال يحيى بن معين: كذاب، وقال أبو حاتم: مجهول ... وقال الأزدي: كذاب خبيث». لسان الميزان: 1/ 407؛ وينظر ميزان الاعتدال: 1/ 387. وليس من الشيعة، بل تركوا حديثه لكذبه، وأقر الحلي بأنه كان عاميا أي من أهل السنة. لكن لأنه مجروح من قبل أهل السنة فهذا الأمر يكفي لتوثيقه عند الإمامية، قال محمد جواد النائيني في تعليقه على ترجمة هذا الرجل في رجال النجاشي: «ذكره الذهبي وغيره من العامة [أهل السنة] وطعنوا فيه مما يكشف عن كونه من أصحابنا الإمامية!!». رجال النجاشي: 1/ 109. فهنيئا لهم به!.

(7) روى السكوني عن أبي عبد الله قال: «قال أمير المؤمنين بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه، وايم الله لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ذلك ولاءه يا علي». أخرجها الكليني، الكافي: 5/ 28؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 6/ 141. فهذه الرواية تنطبق عليها شروط الموثق، لكن لم يعملوا بها، وعملوا بمن هو دونها.

(8) هو نوح بن دراج النخعي مولاهم أبو محمد الكوفي القاضي، قال العجلي ضعيف الحديث، وقال الجوزفاني زائغ، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال النسائي: ضعيف متروك الحديث، وقال ابن حبان يروي الموضوعات عن الأثبات. ميزان الاعتدال: 7/ 52؛ تهذيب التهذيب: 10/ 430. وعند الإمامية هو من أصحاب الصادق، وقال عنه النجاشي: «كان صحيح الاعتقاد» (رجال النجاشي: 1/ 255)، واختلف الشيعة في كونه منهم أو من غيرهم، فوثقه ابن داود فذكره في القسم الأول، لكن قال عندي فيه توقف (رقم 5451)، وعده الطوسي من العامة [أهل السنة] (عدة الأصول: ص 379) في حين قال الخوئي: «إن الرجل شيعي صحيح الاعتقاد». معجم رجال الحديث: 20/ 198.

(9) ويسمى نجية، وهو عندهم من أصحاب الباقر أو الصادق، ذكره ابن داود في القسم الأول من خلاصته (رقم 1595) وقال عنه ليس بمعروف الحال، وتبعه ابن المطهر في خلاصته: (ص 176). لذا أقر الخوئي بأن عمارة هذا مجهول الحال. معجم رجال الحديث: 20/ 129.

(10) هو أحمد بن عبد الله بن جعفر بن الحسين بن جامع بن مالك الحميري، روى عن أبيه .. رجال النجاشي: 2/ 253، وذكره ابن داود في القسم الأول من كتابه (رقم 87) وتبعه ابن المطهر الحلي في خلاصته (رقم 38)، ولم يصرحا في كتابيهما بأي توثيق، ولذا قال الخوئي: «إن التصحيح الصادر من العلماء لا يثبت به الحسن فضلا عن الوثاقة»!. معجم رجال الحديث: 2/ 147.

(11) تعريفه عندهم: «هو ما لا يستجمع شروط الصحيح والحسن والموثّق والقوي بجرح جميع سلسلة سنده بالجوارح أو بالعقيدة مع عدم مدحه بالجوارح أو بهما معا أو جرح البعض بأحدهما أو بهما أو جرح البعض بأحد الأمرين وجرح البعض الآخر بالأمر الآخر أو بهما أو مع جرح بعض بالأمر الآخر وبعض آخر بهما معا». الداماد، الرواشح السماوية: ص 43؛ بهاء الدين العاملي، الوجيزة: ص 5.

(12) أخرجه الكليني، الكافي: 7/ 114؛ ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 4/ 282؛ الطوسي، تهذيب الحكام: 9/ 311.

(13) الكوفي، مولى بني زهرة بن كلاب يعرف ب (الزام) قال النجاشي: كوفي ثقة روى عن الصادق والكاظم. رجال النجاشي: 1/ 405؛ تنقيح المقال: 2/ 11.

(14) الطوسي، تهذيب الأحكام: 9/ 316؛ الاستبصار: 4/ 166.

(15) هو أحمد بن الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري، اشتهر كتابه في الرجال. كان معاصرا للطوسي. أمل الآمال: 2/ 12؛ أعيان الشيعة: 2/ 565.

(16) هو أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد النجاشي الكوفي مصنف الإمامية المشهور، صاحب كتاب الرجال والموثق عندهم، مات سنة 450هـ. روضات الجنات: ص 147؛ الذريعة: 5/ 140.

(17) كتاب (الدراية في الحديث) لزين الدين العاملي. الذريعة: 8/ 56.

(1/49)

________________________________________

باب الحرج والتعديل. وفي هذا المقام فوائد تتعلق بالرواة تركناها لطولها، فراجع الأصل. (1)

 

(الأدلة عند الشيعة)

(تتمة): اعلم أن الأدلة عندهم أربعة: كتاب، وخبر، وإجماع، وعقل.

أما (الكتاب) فهو القرآن المنزل الذي لم يبق حقيقا بأن يستدل به بزعمهمم الفاسد، لأنه لا اعتماد على كونه قرآنا إلا إذا أخذ بواسطة الإمام المعصوم، وليس القرآن المأخوذ من الأئمة موجودا في أيديهم، والقرآن المعروف غير معتد به عند أئمتهم بزعمهم، (2) وأنه لا يليق بالاستدلال به لوجهين:

الأول لما روى جماعة من الإمامية عن أئمتهم أن القرآن المنزل وقع فيه تحريف في كلماته عن مواضعها، بل قد أسقط منه بعض السور وترتيبه هذا أيضا غير معتد به لكونه متغيرا عن أصله، (3) وما هو موجود الآن في أيدي المؤمنين هو مصحف عثمان الذي كتبه وأرسل منه سبع نسخ إلى أطراف العالم وألجأ الناس على قبوله وقراءته على ما رتبه وآذى من خالف ذلك، فلا يصح التمسك به ولا يعتمد على نظمه من العام والخاص والنص ونحوها، لأنه يجوز أن يكون هذا القرآن الذي بين أيدينا كله أو أكثره منسوخا بالآيات أو السور التي أسقطت منه أو مخصوصا بها.

الثاني أن نقله هذا القرآن مثل ناقلي التوراة والأنجيل، لأن بعضهم كانوا منافقين كالصحابة العظام والعياذ بالله تعالى، وبعضهم كانوا مداهنين في الدين كعوام الصحابة فإنهم تبعوا رؤساءهم أي بزعمهم طمعا في زخارف الدنيا، فارتدوا عن الدين كلهم إلا أربعة أو ستة، فغيروا خطاب الله تعالى، (4) فجعلوا مثلا مكان «من المرافق»: {إلى المرافق} (5) ومكان «أئمة هي أزكى»: {أمة هي أربى من أمة} (6) فكما أن التوراة والإنجيل لا يعمل بهما أصلا فكذلك هذا القرآن، وكما أن التوراة والإنجيل نسخا بالقرآن المجيد فكذلك القرآن نسخت أشياء كثيرة منه ولا يعلم نواسخها إلا الأئمة الثلاثة. (7)

وأما (الخبر) فقد مر بيانه مفصلا فتذكر. ثم إن ناقل الخبر إما من الشيعة أو غيرهم، ولا اعتبار لغيرهم أصلا لأن الصدر الأول من غيرهم الذي هو منتهى الأسانيد كانوا

_________

(1) ينظر السيوف المشرقة: لوحة 51/أ.

(2) فهناك قرآنا آخر عند القائم والمنتظر الغائب منذ أكثر من ألف ومائتين وخمسين سنة ولما يظهر لا هو ولا قرآنه، فقد أخرج الكليني عن سالم بن سلمة قال: «قرأ رجل على أبي عبد الله - عليه السلام - وأنا أسمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: كف عن هذه القراءة اقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم، فإذا قام القائم - عليه السلام - قرأ كتاب الله عز وجل على حده، وأخرج (المصحف) الذي كتبه علي - عليه السلام - وقال: أخرجه علي - عليه السلام - إلى الناس حين فرغ منه وكتبه فقال لهم: هذا كتاب الله عز وجل كما أنزله على محمد - عليه السلام - قد جمعته من اللوحين، فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن لا حاجة لنا فيه، فقال: أما والله ما ترونه بعد يومكم أبدا، إنما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرؤوه». الكافي: 2/ 633.

(3) مثاله قول الفيض الكاشاني: «إن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة، وإن النور نيف ومائة آية والحجر تسعون ومائة آية ... ». تفسير الصافي: 1/ 37 - 38؛ وينظر الطبرسي، الاحتجاج: ص 53

(4) هناك روايات كثيرة عندهم منها ما روى الطبرسي عن أبي ذر قال: «لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع علي - عليه السلام - القرآن وجاء به إلى المهاجرين والأنصار وعرضه عليهم لما قد أوصاه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما فتحه أبو بكر خرج أول صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر وقال: يا علي اردده فلا حاجة لنا فيه، فأخذه - عليه السلام - وانصرف ثم أحضروا زيد بن ثابت - وكان قارئا للقرآن - فقال عمر: إن عليا جاء بالقرآن وفيه فضائح المهاجرين والأنصار، وقد رأينا أن نؤلف كتابا ونسقط منه ما كان فيه فضيحة وهتكا للمهاجرين والأنصار، فأجابه زيد إلى ذلك ... ». الاحتجاج: ص 155 - 156.

(5) روى الطوسي وغيره عن الهيثم بن عروة التميمي قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن قوله تعالى: {واغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} قال: ليس هكذا تنزيلها إنما تنزيلها: (اغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق) ... ». تهذيب الأحكام: 1/ 57؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة: 1/ 406.

(6) الكافي: 1/ 292؛ تفسير القمي: 1/ 389.

(7) أخرج البخاري بإسناده عن عبد العزيز بن رفيع قال: «دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال له شداد بن معقل: أترك النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء؟ قال: ما ترك إلا ما بين الدفتين، قال ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه فقال: ما ترك إلا ما بين الدفتين». صحيح البخاري، في كتاب فضائل القرآن، باب من قال لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما بين الدفتين: 4/ 1917. قال ابن حجر معلقا على الحديث: «هذه الترجمة للرد على من زعم أن كثيرا من القرآن ذهب لذهاب حملته، وهو شيء اختلقه الروافض لتصحيح دعواهم أن التنصيص على إمامة علي واستحقاقه الخلافة عند موت النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ثابتا في القرآن، وأن الصحابة كتموه، وهي دعوى باطلة، لأنهم لم يكتموا: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى .. » وغيره من الظواهر التي قد يتمسك بها من يدعي إمامته، كما لم يكتموا ما يعارض ذلك أو يخصص عمومه أو يقيد مطلقه. وقد تلطف المصنف في الاستدلال على الرافضة بما أخرجه عن أحد أئمتهم، الذي يدعون إمامته، وهو محمد بن الحنفية، وهو ابن علي بن أبي طالب، فلو كان هناك شيء ما يتعلق بابيه، لكان أحق الناس بالاطلاع عليه، وكذلك ابن عباس فإنه ابن عم علي - رضي الله تعالى عنهما -، وأشد الناس له لزوما واطلاعا على حاله». فتح الباري: 9/ 65.

(1/50)

________________________________________

مرتدين ومحرفين كتاب الله تعالى ومعادين أهل بيت النبوة. (1) فلا بد أن يكون من الشيعة وبين الشيعة اختلاف كثير في أصل الإمامية وتعيين الأئمة وعددهم، ولا يمكن إثبات قول من أقوالهم إلا بالخبر، لأن كتاب الله تعالى لا اعتماد عليه، ومع ذلك فهو ساكت عن هذه الأمور، فلو توقف ثبوت الخبر وحجته على ثبوت ذلك القول لزم الدور الصريح وهو محال.

وأما (الإجماع) فباطل أيضا، لأن كونه حجة ليس بالأصالة بل لكون قول المعصوم في ضمنه، فمدار حجيته على قول المعصوم لا على نفس الإجماع، وثبوت عصمة المعصوم وتعيينه إما بخبره أو بخبر معصوم آخر، فقد جاء الدور الصريح أيضا. (2)

وأيضا إجماع الصدر الأول والثاني - يعني قبل حدوث الاختلاف في الأمة - غير معتبر، لأنهم أجمعوا على: خلافة أبي بكر وعمر، وحرمة المتعة، وتحريف الكتاب، ومنع ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغضب فدك من البتول. (3) وبعد حدوث الاختلاف في الأمة وتفرقهم بفرق مختلفة كيف يتصور الإجماع، ولا سيما في المسائل الخلافية المحتاجة إلى الاستدلال وإقامة الحجة القاطعة.

وأما (العقل) فهو باطل أيضا لأن التمسك به إما في الشرعيات أو غيرها، فإن كان في الشرعيات فلا يصح التمسك به عند هذه الفرقة أصلا، لأنهم منكرون أصل القياس ولا يقولون بحجيته. وأما غير الشرعيات فيتوقف العقل على تجريجه عن شوائب الوهم والإلف والعادة والاحتراز عن الخطأ في الترتيب والفكر في صورة الأشكال، وهذه الأمور لا تحصل إلا بإرشاد إمام، لأن كل فرقة من طوائف بني أدم يثبتون بعقولهم أشياء وينكرون أشياء اخر، وهم متخالفون فيما بينهم بالأصول والفروع، ولا يمكن الترجيح بالعقل فقط، فالتمسك إذن بقول الإمام، ومع ذلك لا يمكن إثبات الأمور الدينية بالعقل الصرف لأنه عاجز عن معرفتها تفصيلا بالإجماع. نعم يمكنه معرفتها إذا كان مستمدا من الشريعة.

_________

(1) لأن الصحابة ارتدوا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتقاد الشيعة عدا ثلاثة منهم. روى الكليني عن حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: «كان الناس أهل ردة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ قال: المقداد وأبو ذر وسلمان الفارسي». الكافي: 8/ 245؛ المجلسي، بحار الأنوار: 22/ 333.

(2) قال المقتول الأول: «الإجماع: وهو الحجة، والمعتبر فيه قول المعصوم عندنا، وإنما تظهر الفائدة في إجماع الطائفة مع عدم تمييز المعصوم بعينه، فعلى هذا لو قدر خلاف واحد أو ألف معروفو النسب فلا عبرة بهم، ولو كانوا غير معروفين قدح بالإجماع». الفوائد والقواعد: ص 217. ومن هذا يتضح أن الإجماع عند الإمامية هو قول المعصوم، إذن هم في الحقيقة ليس عندهم إجماع؛ لأنهم لا يجمعون على شيء، وإنما الإجماع هو قول رجل واحد لا أكثر! فلو اتفق مائة من علماء الإمامية على مسألة، وعارضهم اثنين من الفقهاء عليها وكان قول المعصوم مع الاثنين، فلا يعتبر برأي المائة. معالم الدين: ص 169.

(3) لو لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة» لكان ميراثه غير منحصر في البتول بل يشاركها فيه عمه - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه ومنهن بنت أبي بكر وبنت عمر

(1/51)

________________________________________

وههنا فائدة جليلة لها مناسبة مع هذا المقام، وهي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إني تارك فيكم الثقلين، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» وهذا الحديث ثابت عند الفريقين أهل السنة (1) والشيعة، وقد علم منه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا في المقدمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسك بهذين العظيمى والقدر والرجوع إليهما في كل أمر، فمن كان مذهبه مخالفا لهما في الأمور الشرعية اعتقادا وعملا فهو ضال، ومذهبه باطل وفاسد لا يعبأ به. ومن جحد بهما فقد غوى، ووقع في مهاوي الردى.

وليس المتمسك بهذين الحبلين المتينين إلا أهل السنة، لأن كتاب الله ساقط عند الشيعة عن درجة الاعتبار كما سبق قريبا بيانه، وقد روى الكليني (2) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله «إن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - سبعة عشر الف آية» (3) وروى عن محمد بن [أبي] نصر (4) عنه أنه قال: «كان في {لم يكن} (5) اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء أبائهم». (6) وروى عن سالم بن سلمة (7) قال: «قرأ رجل على أبي عبد الله وأنا أسمعه حروفا من القرآن ليس مما يقرأه الناس فقال أبو عبد الله: مه، اكفف عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم اقرأ كتاب الله على حده» (8)

وروى الكليني وغيره عن الحكم بن عتيبة (9) قال: قرأ علي بن الحسين (10) «وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي ولا محدَّث» قال: وكان علي بن أبي طالب محدثا. وروى عن [زيد] بن الجهم الهلالي (11) وغيره عن أبي عبد الله أن {أمة هي أربى من أمة} ليس كلام الله، بل محرف عن موضعه، والمنزل «أئمة هي أزكى من أئمتكم»

وقد تقرر عندهم أن «سورة الولاية» سقطت، وكذا أكثر سورة الأحزاب فإنها كانت مثل سورة الأنعام فأسقط منها فضائل أهل البيت وأحكام إمامتهم. (12) وأسقط لفظ «ويلك» قبل قوله تعالى {لا تحزن

_________

(1) بل ضعفه الإمام أحمد وابن تيمية.

(2) الكليني عندهم كالبخاري عند المسلمين. فإذا كانت هذه أكاذيب الكليني ورجاله فكيف برواياتهم الأخرى!

(3) أخرجه الكليني، الكافي: 2/ 631. ومعلوم أن القرآن (6236) آية.

(4) التصحيح من الكافي. قال عنه النجاشي: «وكان عظيم المنزلة عندهما وله كتب»، مات سنة 221هـ. رجال النجاشي: 1/ 202؛ تنقيح المقال: 1/ 77.

(5) سورة البينة

(6) الكافي: 2/ 631؛ تفسير الصافي: 1/ 36.

(7) ذكره أبو داود في قسم الموثقين من كتابه (رقم 658). معجم رجال الحديث: 9/ 22.

(8) الكليني، الكافي: 2/ 633؛ تفسير الصافي: 1/ 36.

(9) هو أبو محمد الحكم بن عتيبة الكوفي الكندي مولاهم الزيدي البتري النحاس، ذكره ابن أبي حاتم وقال عنه: «مجهول»، قال ابن الجوزي: «إنما قال أبو حاتم مجهول؛ لأنه ليس يروي الحديث، وإنما كان قاضيا بالكوفة». لسان الميزان: 2/ 336. وليس هو الحكم بن عتيبة بن سنان الكوفي الذي ذكر في كتب الرجال عند أهل السنة وحديثه مخرج في الكتب الستة كما في تهذيب التهذيب: 2/ 372. وقد خلط الإمامية بين الحكم بن النحاس قاضي الكوفة وبين ابن سنان الفقيه والمحدث، حيث قال الحلي: «مذموم كان من فقهاء العامة وكان بتريا». أعيان الشيعة: 6/ 209. ولم يخرّج أهل السنة حديثا لابن النحاس، بينما خرج له الإمامية في كتبهم الأربعة أكثر من أربعين حديثا منها ما رواه الكليني بسنده عن الحكم بن عتيبة عن الباقر أنه قال: «إن في الجنة نهرا يغتسل فيه جبرائيل - عليه السلام - كل غداة ثم يخرج منه فينتفض فيخلق الله عز وجل من كل قطرة ملكا». الكافي: 8/ 282.

(10) علي بن الحسين بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب زين العابدين أبو الحسين الهاشمي المدني - رضي الله تعالى عنه - كان مريضا يوم كربلاء فقال عمر بن سعد: لا تعرضوا لهذا، روى عن أبيه وعمه الحسن وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وآخرين قال الزهري: «ما رأيت أحدا كان أفقه من علي بن الحسين لكنه قليل الحديث»، وكان من أفضل أهل بيته وأحبهم إلى عبد الملك، وهو الإمام الرابع عند الإمامية، مات في ربيع الأول سنة 94هـ. طبقات ابن سعد: 5/ 211؛ تذكرة الحفاظ: 1/ 74؛ تهذيب التهذيب: 7/ 268.

(11) في الأصل (محمد بن الجهم) والتصحيح من الكافي.

(12) تقدم النقل من كتبهم

(1/52)

________________________________________

إن الله معنا} (1) وكذا أسقط لفظ «بعلي بن أبي طالب» بعد قوله تعالى {وكفى الله المؤمنين القتال} (2) وكذا لفظ «آل محمد» الواقع بعد «ظلموا» من قوله تعالى {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} (3) إلى غير ذلك من الهذيانات والأقوال الترهات.

وأما العترة الشريفة فهي بإجماع أهل اللغة تقال لأقارب الرجل، (4) والشيعة ينكرون نسبة بعض العترة كرقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، (5) ولا يعدون بعضهم داخلا العترة كالعباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولاده وكالزبير بن صفية عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل يبغضون أكثر أولاد فاطمة رضى الله تعالى عنهم ويسبونهم كزيد بن علي بن الحسين الذي كان عالما كبيرا متقيا واستشهد على يد المروانية، وكذا يحيى ابنه وكذا إبراهيم وجعفر ابني موسى الكاظم، (6) ولقبوا الثاني بالكذاب مع أنه كان من كبار أولياء الله تعالى وأخذ منه أبو يزيد البسطامي الطريقة، وأخْذه إياها من جعفر الصادق غلط. (7)

ولقبوا أيضا جعفر بن علي أخا الإمام الحسن العسكري بالكذاب، (8) ويعتقدون أن الحسن بن الحسن المثنى (9) وابنه عبد الله المحض وابنه محمدا الملقب بالنفس الزكية ارتدوا وحاشاهم من كل سوء. وكذلك يعتقدون في إبراهيم بن عبد الله وزكريا بن محمد الباقر ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (10) ومحمد بن القاسم بن الحسن (11) ويحيى بن عمر (12) الذي كان من أحفاد زيد بن علي بن الحسين، وكذلك يعتقدون في جماعة حسنيين وحسينيين كانوا قائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين، إلى غير ذلك من الأمور الشنيعة التي يعتقدونها في حق العترة المطهرة مما هو مذكور في الأصل، نعوذ بالله من جميع ذلك، ونبرأ إليه جل شأنه من سلوك هاتيك المسالك. فقد بان لك أن الدين عند هذه الطائفة الشنيعة قد انهدم بجميع أركانه وانقض ما تشيد من محكم بنيانه، حيث أن كتاب الله تعالى قد سبق لك واعتقادهم فيه وعدم اعتمادهم على ظاهره وخافيه، ولا يمكنهم أيضا التمسك بالعترة المطهرة بناء على زعمهم الفاسد من أن بعضهم كانوا كفرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأبواب الآتية بيان مخالفتهم للثقلين في كل مسألة

_________

(1) بل زعم شيطان الطاق الذي يسمونه «مؤمن آل محمد» أن الآية كلها ليست من القرآن. انظر (الفصل) لابن حزم 4: 181 وتعليقنا على (العواصم من القواصم) ص 69

(2) تفسير القمي: 2/ 189؛ الطبرسي، جوامع الجامع: 3/ 309.

(3) تفسير القمي: 2/ 125؛ الطبرسي، جوامع الجامع: 3/ 175.

(4) قال الآلوسي: «والعترة في تفسيرها أقوال: منها عترة الرجل أقرباؤه من ولد وغيره، ومنهم من قال هم قومه دِنْيا، ومنهم من قال هم رهطه وعشيرته الأدنون من مضى منهم ومن غبر، ومنه قول أبي بكر - رضي الله تعالى عنه -: «نحن عترة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي خرج منها وبيضته التي تفقأت عنه، وإنما جيبت العرب عنا كما جيبت الرحا عن قطبها». سعادة الدارين: ص.

(5) ذكر الإمامية أن رقية وزينب لم تكونا بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - بل بنات لأخت خديجة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج خديجة وهي عذراء، كما ذكر ذلك ابن شهر آشوب المازندراني، وعزاه إلى الطوسي والمرتضى، حيث قال: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج بها [خديجة] وكانت عذراء وإن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة بنت أخت خديجة». مناقب آل أبي طالب: 1/ 137.

(6) هو جعفر بن موسى الكاظم، أبو عبد الله، لقبه الشيعة بالكذاب لادعائه الإمامة بعد أخيه الحسن، (ت 271هـ). عمدة الطالب في أنساب أبي طالب: ص199. والإمامية يروون الروايات في تكذيبه ولعنه وينسبونها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رغم أنه من سادات أهل البيت، فقد أخرج الطوسي عن أبي خالد الكابلي قال دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين فقلت له: «يا سيدي كيف صار اسمه الصادق وكلكم صادقون؟ فقال حدثني أبي عن أبيه: أن رسول الله قال: إذا ولد أبني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فسموه الصادق، فإن الخامس من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراءً على الله وكذبا عليه، فهو عند الله جعفر الكذاب المفتري على الله، المدعي لما ليس له بأهل، المخالف على أبيه والحاسد لأخيه، ذلك الذي يكشف سر الله عند غيبة ولي الله». الاحتجاج: ص 318؛ وأخرجه أيضا القطب الراوندي، الخرائج: 1/ 268؛ المجلسي، بحار الأنوار: 50/ 277.

(7) توفي جعفر الصادق سنة 147هـ أي قبل ولادة البسطامي

(8) هو أبو عبد الله جعفر بن علي بن محمد الهادي العسكري، اتهمه الإمامية بالفسق وشرب الخمر، لأنه أخذ تركة أخيه بعد موته وأنكر أن يكون له ولد، مات سنة 271هـ. دائرة المعارف الشيعية العامة: 7/ 196. ويدعي الإمامية أنه طمع بميراث أخيه، ولذلك أخفى الحسن العسكري خبر مولد ابنه عن الناس، قال الطوسي: «لأن الحسن - عليه السلام - كان كالمحجور عليه وكان الوالد يخاف عليه لما علم وانتشر من مذهبهم أن الثاني عشر هو القائم بالأمر، لإزالة الدول فهو المطلوب لا محالة، وخاف عليه أيضا من أهله كجعفر أخيه الذي طمع في الميراث والأموال، فلذلك أخفاه ووقعت الشبهة في ولادته». الغيبة: ص 76.

(9) هو الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني، أبو محمد، حدث عن أبيه وعبد الله بن جعفر، قليل الرواية مع صدقه وجلالته، كان على الصدقة في خلافة علي - رضي الله عنه -، توفي سنة 99هـ. سير أعلام النبلاء: 4/ 483؛ البداية والنهاية: 9/ 170.

(10) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، يروي عن جماعة من التابعين، قتل بالمدينة سنة 145هـ. الثقات: 7/ 363؛ الجرح والتعديل: 7/ 295.

(11) محمد بن القاسم بن الحسن بن محمد بن الحسن الزكي الثالث. عمدة الطالب. ص 157.

(12) يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، خرج سنة 250هـ بالكوفة، فتغلب على الكوفة، ودعا إلى الرضا من آل محمد وقوي أمره، وفي رجب من تلك السنة اقتتل مع الحسين بن إسماعيل، وقتل وبعث برأسه إلى الخليفة العباسي في سامراء، فقالت الجارودية، إنه لم يمت، وسيعود ليملأها عدلا كما ملئت جورا. الفصل: 4/ 137؛ الملل والنحل: 1/ 159؛ البداية والنهاية: 11/ 5.

(1/53)

________________________________________

من العقائد والفروع بحيث لا يبقى لهم مجال للإنكار، ولا يجدون سبيلا للفرار. والله يحق الحق وهو يهدي السبيل.

 

(في ذكر أحوال رجالهم وطبقاتهم)

وأما أحوال رجال أسانيدهم وطبقات أسلافهم، فاعلم أن أسلاف الشيعة وأصول الضلالات كانوا عدة طبقات:

 

الطبقة الأولى

هم الذين استفادوا هذا المذهب بلا واسطة، من رئيس المضلين إبليس اللعين وهؤلاء كانوا منافقين، جهروا بكلمة الإسلام وأضمروا في بطونهم عداوة أهله، وتوصلوا بذلك النفاق إلى الدخول في زمرة المسلمين والتمكن من إغوائهم وإيقاع المخالفة والبغض والعناد فيما بينهم، ومقتداهم على الإطلاق (عبد الله بن سبأ اليهودي الصنعاني) الذي كان شرا من أبليس وأعرف منه في الإضلال والتضليل، وأقدم منه في المخادعة والغرور بل شيخه في المكر والشرور، وقد مارس زمانا في اليهودية فنون الإغواء والإضلال وسعى مجتهدا في طرق الزور والاحتيال فأضل كثيرا من الناس واستزل جما غفيرا فأطفأ منهم النبراس، وطفق يغير عقائد العوام ويموه عليهم الضلالات والأوهام، فأظهر أولا محبة كاملة لأهل البيت النبوي، وحرض الناس على ذلك الأمر العلي، ثم بين وجوب لزوم جانب الخليفة الحق وأن يؤثر على غيره، وأن ما عداه من البغاة، فاستحسنه جم من العوام غفير، وقبله ناس من الجهلة كثيرون، فأيقنوا بصلاحه واعتقدوا بإرشاده ونصحه. (1)

ثم فرع على ذلك فروعا فاسدة وجزيئات كاسدة فقال: إن الأمير كرم الله وجهه هو وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفضل الناس بعده وأقربهم إليه، واحتج على ذلك بالآيات الواردة في فضائله والآثار المروية في مناقبه، وضم إليها من موضوعاته وزاد عليها من كلماته وعباراته. فلما رأى أن ذلك الأمر قد استقر في أذهان أتباعه واستحكمت هذه العقيدة في نفوس أشياعه ألقى إلى بعض هؤلاء ممن يعتمد عليه أن الأمير وصي رسول الله - صلى اللهعليه وسلم  -، وأن النبي - عليه الصلاة والسلام - استخلفه بنص صريح، وهو قوله تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين أمنوا} الآية، ولكن الصحابة قد ضيعوا وصيته - صلى الله عليه وسلم - وغلبوا

_________

(1) يعترف الإمامية بأن ابن سبأ أول من أظهر الطعن بالصحابة، قال الكشي: «وذكر أهل العلم أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا، وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون [وصي موسى]، فقال في إسلامه في علي مثل ذلك، وكان [ابن سبأ] أول من أشهر القول بإمامة علي، وأظهر البراءة من أعدائه [أي الصحابة]، وكاشف مخالفيه وكفرهم، فمن هنا قال من خالف الشيعة عن أصل التشيع والرفض مأخوذ من اليهود». تنقيح المقال: 2/ 184؛ بحار الأنوار: 25/ 287.

(1/54)

________________________________________

الأمير بالمكر والزور وظلموه فعصوا الله ورسوله في ذلك وارتدوا عن الدين - إلا القليل منهم - محبة في الدنيا وطمعا في زخرفها. (1)

واستدل على ذلك بما وقع بين فاطمة - رضي الله تعالى عنها - وبين أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - في مسألة فدك (2) إلى أن انتهى الأمر إلى الصلح ثم أوصى أتباعه بكتمان هذا الأمر وعدم نسبته إليه وقال: لا تظهروا للناس أنكم أتباعي لأن غرضي إظهار الحق والهداية إلى الطريق المستقيم دون الجاه والشهرة عند الناس. فمن تلك الوسوسة ظهر القيل والقال ووقع بين المسلمين التفرق والجدال، وانتشر سب الصحابة الكرام وذاع الطعن فيهم من أولئك الطغام، حتى إن الأمير كرم الله تعالى وجهه قد خطب فوق المنبر خطبا في ذم هؤلاء القوم وأظهر البراءة منهم وأوعد بعضهم بالضرب والجلد. فلما رأى ابن سبأ أن سهمه هذا أيضا قد أصاب هدفا واختلت بذلك عقائد أكثر المسلمين اختار أخص الخواص من أتباعه وألقى إليهم أمرا أدهى من الأول وأمر، وذلك بعد أن أخذ عليهم ميثاقا غليظا أن الأمير كرم الله تعالى وجهه يصدر منه ما لا يقدر عليه البشر من قلب العيان، والأخبار المغيبات، وإحياء الموتى، وبيان الحقائق الإلهية والكونية، وفصاحة الكلام، والتقوى، والشجاعة، والكرم، إلى غير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، فهل تعلمون منشأ هذه الأمور؟ فلما أظهروا العجز عن ذلك قال لهم: إن هذه كلها من خواص الألوهية التي تظهر في بعض المظاهر ويتجلى اللاهوت في كسوة مثل أنا حي لا يموت أنا باعث من في القبور أنا مقيم الساعة ونحوها مما صدر عنه - رضي الله تعالى عنه - في غلبة الحال كما هو شأن أولياء الله (3) فلما وصلت هذه المقالة إلى

_________

(1) ويعترفون بدخوله على الأمير، حيث روى ابن بابويه القمي والطوسي عن أبي بصير ومحمد بن مسلم: «إن عبد الله بن سبأ قال يا أمير المؤمنين أليس الله في كل مكان؟ قال - عليه السلام -: بلى، قال: فلم يرفع العبد يديه إلى السماء قال: أما تقرأ: {وفي السماء رزقكم وما توعدون} ... ». من لا يحضره الفقيه: 1/ 325؛ تهذيب الأحكام: 2/ 322. وفي هذه الرواية يتضح أن هؤلاء القوم لم يكونوا زاهدين بروايات ابن سبأ إلا عندما يتعلق الأمر بنفي تهمة الرفض عنهم وبأن صاحبها هو عبد الله بن سبأ اليهودي.

(2) قال ياقوت الحموي: «فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنة سبع صلحا، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلث، واشتد بهم الحصار راسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة». معجم البلدان: 4/ 238.

(3) لم يثبت بالطرق العلمية والتاريخية صدور هذه الكلمات عن أمير المؤمنين كرم وجهه. ولم ينقلها عنه راو واحد تقبل روايته. وأولياء الله هم القائمون بنصر الله لأن الولاية هي النصرة. والذي يدعي صفات الله يعد من أعداء الله لا من أوليائه، وسخافات الشطح لم تكن معروفة في عصر الصحابة ولا صدرت عن أحد منهم

(1/55)

________________________________________

حضرة الأمير كرم الله تعالى وجهه أهدر دماء تلك الطائفة وتوعدهم بالإحراق في النار واستتابهم فأجلاهم إلى المدائن، فلما وصلوا إليها أشاعوا تلك المقالة الشنيعة.

وأرسل ابن سبأ بعض أتباعه إلى العراق وأذربيجان، ولما لم يستأصلهم الأمير كرم الله تعالى وجهه بسبب اشتغاله بما هو أهم من ذلك من محاربة البغاة ومهمات الخلافة راج مذهبه واشتهر وذاع وانتشر، فقد بدأ أولا بتفضيل الأمير، وثانيا بتكفير الصحابة، وثالثا بألوهية الأمير ودعا الناس على حسب استعدادهم، وربط رقاب كل من كان أتباعه من حبال الغواية، فهو قدوة لجميع الفرق الرافضة، وإن كان أكثر أتباعه وأشياعه من تلك الفرق يذكرونه بالسوء لكونه قائلا بألوهية الأمير ويعتقدون أنه مقتدى الغلاة فقط، ولذا ترى أخلاق اليهود وطبائعهم موجودة في جميع فرق الشيعة، وذلك مثل الكذب، والبهتان، وسب أصحاب الرسول وكبار أئمة الدين وحملة كلام الله وكلام الرسول، (1) وحمل كلام الله والأحاديث على غير ظاهرها، وكتم عداوة أهل الحق في القلب، وإظهار التملق خوفا وطمعا، واتخاذ النفاق شعارا ودثارا، وعد التقية من أركان الدين، ووضع الرقاع ونسبتها إلى النبي والأئمة وإبطال الحق وإحقاق الباطل لأغراض دنيوية. وهذا الذي ذكر قطرة من بحر وذرة من جبل. وإذا تفكرت في سورة البقرة وحفظت ما ذكر الله تعالى فيها من صفات اليهود الذميمة ترى جميعها مطابقة لصفات هذه الفرقة مطابقة النعل بالنعل.

 

الطبقة الثانية

جماعة ممن ضعف إيمانهم من أهل النفاق، وهم قتلة عثمان وأتباع عبد الله بن سبأ الذين كانوا يسبون الصحابة الكرام، وهم الذين انخرطوا في عسكر الأمير وعدوا أنفسهم من شيعته خوفا من عاقبة ما صدر منهم من تلك الجناية العظمى، وبعض منهم تشبثوا بأذيال الأمير طمعا في المناصب العالية ورفعة المراتب فحصل لهم بذلك مزيد

_________

(1) ولا زال لعن الصحابة عندهم إلى اليوم. روى الطوسي بإسناده عن الحسين بن ثوير وابي سلمه السراج قالا سمعنا: «أبا عبد الله وهو يلعن في دبر كل مكتوبة: أربعة من الرجال وأربعا من النساء التيمي والعدوي وعثمان ومعاوية وعايشة وحفصة وهند وأم الحكم أخت معاوية». تهذيب الأحكام: 2/ 321؛ وسائل الشيعة: 6/ 462.

(1/56)

________________________________________

الأمنية وكمال الطمأنينة، ومع ذلك فقد أظهروا للأمير كرم الله تعالى وجهه ما انطووا عليه من اللؤم والخبائث فلم يجيبوا لدعوته وأصروا على مخالفته، وظهرت منهم الخيانة على ما نصبوا عليه، واستطالت أيديهم على عباد الله وأكل أموالهم، وأطالوا ألسنتهم في الطعن على الصحابة. (1)

وهذه الفرقة هم رؤساء الروافض وأسلافهم ومسلَّمو الثبوت عندهم. فإنهم وضعوا بناء دينهم وإيمانهم في تلك الطبقة على رواية هؤلاء الفساق المنافقين ومنقولاتهم، فلذا كثرت روايات هذه الفرقة عن الأمير كرم الله تعالى وجهه بواسطة هؤلاء الرجال. وقد ذكر المؤرخون سبب دخول أولئك المنافقين في هذا الباب، وقالوا إنهم قبل وقوع التحكيم كانوا مغلوبين لكثرة الشيعة الأولى في عسكر الأمير وتغلبهم (2) ولما وقع التحكيم وحصل اليأس من انتظام أمور الخلافة وكادت المدة المعينة للخلافة تتم وتنقرض وتخلفها نوبة العضوض رجع الشيعة الأولى من دومة الجندل التي كانت محل التحكيم إلى أوطانهم لحصول اليأس من نصرة الدين وشرعوا بتأييده بترويج أحكام الشرعية والإرشاد ورواية الأحاديث وتفسير القرآن المجيد، كما أن الأمير كرم الله تعالى وجهه دخل الكوفة واشتغل بمثل هذه الأمور، ولم يبق في ركاب الأمير إذ ذاك من الشيعة الأولى إلا القليل ممن كانت له في دار الكوفة. فلما رأت هاتيك الفرقة الضالة المجال في إظهار ضلالتهم أظهروا ما كانوا يخفونه من إساءة الأدب في حق الأمير وسب أصحابه وأتباعه الأحياء منهم والأموات. ومع هذا كان لهم طمع في المناصب أيضا لأن العراق وخراسان وفارس والبلاد الأخرى الواقعة في تلك الأطراف كانت باقية بعد في تصرف الأمير وحكومته، والأمير كرم الله تعالى وجهه عاملهم، كما عاملوه، كما وقع ذلك لموسى - عليه السلام -، ولنبينا - عليه الصلاة والسلام -،

_________

(1) ذكر الطبري في حوادث سنة 36هـ قال: كان علي - رضي الله عنه - قد خرج إلى البصرة، فوردت إليه أنباء بأن أبا موسى الأشعري عامله عليها لا يوافقه الرأي في القتال، فألح مالك الأشتر على الأمير في الذهاب إلى الكوفة، فأذن له وهناك استغل الفرصة لإثارة أهل الكوفة على أبي موسى الأشعري، قال الطبري: «فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة، وقد اجتمع الناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمر بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلا دعاهم، ويقول: اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فاقتحم القصر فدخله وأبو موسى قائم في المسجد يخطب الناس ... فخرج عليه غلمان لأبي موسى يشتدون ينادون: يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر، فضربنا وأخرجنا، فنزل أبو موسى فدخل القصر فصاح به الأشتر: اخرج من قصرنا لا أم لك، أخرج الله نفسك فوالله إنك لمن المنافقين قديما، قال: أجلني هذه العشية فقال: هي لك ولا تبيتن في القصر الليلة ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر، وأخرجهم من القصر وقال إني قد أخرجته فكف الناس عنه ... ». تاريخ الطبري: 3/ 25

(2) تقدم وصف الشيعة الأولى في أول الكتاب ص 3

(1/57)

________________________________________

مع المنافقين. ولما كانت الروايات من أهل السنة في هذا الباب غير معتد بها مزيد عداوتهم لفرق الشيعة على زعمهم، وجب النقل من كتب الشيعة المعتبرة مما صنفه الإمامية والزيدية. وقد سبق في أول الكتاب عند ذكر الفرقة السبيئة خطبة منقولة عن الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الزيدي المذكورة في آخر كتابه المسمى (طوق الحمامة في مباحث الإمامة) فلا حاجة بنا إلى إعادتها. ولما نعي الأمير بخبر قتل محمد بن أبي بكر (1) في مصر كتب كتابا إلى عبد الله بن عباس، فإنه كان حينئذ عامل البصرة، وهو كما هو مذكور في كتاب (نهج البلاغة) الذي هو عند الشيعة أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى: (2)

«أما بعد فإن مصر قد افتتحت، ومحمد ابن أبي بكر قد استشهد، فعند الله نحتسبه ولدا ناصحا وعاملا كادحا وسيفا قاطعا وركنا دافعا. وكنت قد حثثت الناس على لحاقه، وأمرتهم بغياثه قبل الوقعة، ودعوتهم سرا وجهرا وعودا وبدءا، فمنهم الآتي كارها ومنهم المتعلل كاذبا، ومنهم القاعد خاذلا. أسأل الله تعالى أن يجعل لي منهم فرجا عاجلا. فوالله لولا طمعي عند لقاء العدو في الشهادة، وتوطيني نفسي على المنية، لأحببت أن لا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا ولا ألتقي بهم أبدا». (3)

وكذا لما أُخبر بقدوم سفيان بن عوف الذي كان من بني غامد وأمير أمراء معاوية (4) وركبانه ببلد الأنبار وقتلهم أهله، خطب خطبة مندرجة فيها هذه العبارة المشيرة للإرشاد وهي: «واللهِ يميت القلب ويجلب الهم ما نرى من اجتماع

_________

(1) هو محمد بن أبي بكر الصديق، أمه أسماء بنت عميس تزوجها علي بعد وفاة الصديق فنشأ محمد في حجر علي - رضي الله عنه -، وشهد معه الجمل وصفين ثم ولاه على مصر لكن هزمه جيش عمرو بن العاص، ثم قتل في سنة 83هـ. تهذيب الكمال: 24/ 541؛ الإصابة: 6/ 245.

(2) بل إن النصوص المأثورة عن علمائهم ودعاتهم، والروايات التي اخترعوها وأثبتوها في كتبهم، تدل على أنهم ينفون صحة كتاب الله تعالى، فلم يبق لهم إلا نهج البلاغة الذي ألفه لهم الشريف الرضي وأعانه عليه أخوه المرتضى، وطريقتهما في تأليفه أن يعمدا إلى الخطبة القصيرة المأثورة عن أمير المؤمنين فيزيدان عليها من هوى الشيعة ما تواتيهما عليه القريحة من ذم إخوانه الصحابة أو غير ذلك من أهوائهم. وإن الصحيح من كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة قد يبلغ عشره أو نصف عشره، والباقي من كلام الرضي والمرتضى

(3) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 16/ 145.

(4) معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية، من مسلمة الفتح، وأحد من كتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي، ولاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على الشام سنة 19هـ، وأقره عثمان - رضي الله عنه - عليه، بويع له بالخلافة سنة 41هـ في عام الجماعة، توفي سنة 60هـ. الاستيعاب: 3/ 1418؛ الإصابة: 6/ 151.

(1/58)

________________________________________

هؤلاء على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا (1) حين صرتم غرضا يرمى: يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون. فإذا أمرتكم بالمسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة (2) القيظ أمهلنا حتى ينسلخ عنا الحر. وإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام البرد فلتم هذه صبارة (3) القر أمهلنا حتى ينسلخ عنا البرد. كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر، يا أشباه الرجال ولا رجال، لكم حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، (4) لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرت ندما، وأعقبت سدما (5)». (6)

وأيضا يقول في هذه الخطبة: «قاتلكم الله، لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب (7) التهمام (8) أنفاسا. فأفسدتم على رأيي بالخذلان والعصيان، حتى قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم، وهل أحد أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني، حتى لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أنا ذا ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع». (9)

ويقول في خطبة أخرى: «أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء. تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا حضر القتال قلتم حيدي حياد. ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم. أعاليل بأضاليل» إلخ. (10)

ويقول: «المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب. (11) ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. أصبحت والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدو بكم». (12)

وأيضا يقول في خطبة أخرى إذ استنفر الناس إلى أهل الشام: «أف لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا، وبالذل من العز خلفا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد أعدائكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة،

_________

(1) حزنا

(2) شدة الحر

(3) شدة البرد

(4) بيوت النساء

(5) السدم: الحزن والغيظ

(6) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 2/ 74.

(7) النغب: جمع نغبة وهي الجرعة

(8) التهمام الهمّ

(9) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 2/ 75.

(10) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 2/ 111.

(11) في بعض النسخ: الأخبث

(12) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 2/ 111.

(1/59)

________________________________________

يرتج (1) عليكم حواري فتعمون، وكأن قلوبكم مألوسة (2) فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سَجيس (3) الليالي، وما أنتم بركن يُمال بكم، ولا زوافر عز يفتقر إليكم، وما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من جانب آخر، وبئس لعمرُ الله سَعرُ نار الحرب أنتم، تكادون ولا تكيدون، وتنقص أطرافكم ولا تمتعضون، ولا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون». (4)

وأيضا يقول في خطبة أخرى «منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت. لا أبا لكم، ما تنظرون بنصركم ربَّكم؟ لا دين يجمعكم ولا حمية تُحمِشُكم. أقوم فيكم مستصرخا، وأناديكم متغوثا، فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم (5) مرام. دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة (6) الجمل الأسر، (7) وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر. (8) ثم خرج إلى منكم جنيد متدائب (9) ضعيف {كأنما يساقون إلى الموت وهو ينظرون}. (10)

وأيضا يقول في ذم هؤلاء الفرقة: كم أدار يكم كما تدارى البكار العمدة (11) والثياب المتداعية إن حيضت من جانب تهتكت من جانب آخر، وكلما أطل عليكم منسر من ناسر الشام (12) أغلق كل رجل منكم بابه وانحجر انحجار الضبة في جحرها والضبع في وجارها (13)

وأيضا يقول في خطبة أخرى: من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناص، إنكم والله لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات. (14)

وهذه الخطب كلها ذكرها الرضي في نهج البلاغة، وغيره من الإمامية أيضا رووها في كتبهم.

_________

(1) يغلق

(2) أي مصابة بالألس، وهو الذهول واختلاط العقل

(3) أي للأبد

(4) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 2/ 189.

(5) في الأصل: منكم

(6) صوت يردده البعير في حنجرته وأكثر ما يكون ذلك عند الإعياء والتعب. شرح نهج البلاغة: 2/ 191

(7) الاسر الذي بكركرته دبره. شرح نهج البلاغة: 2/ 191.

(8) النضو: البعير المهزول، والأدبر الذي له دبر وهو المعقور. شرح نهج البلاغة: 2/ 300.

(9) مضطرب

(10) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 2/ 300.

(11) البكار جمع بكر: الفتيّ من الأبل. والعمِدة بكسر الميم: التي ورم داخل سنامها من الركوب وظاهره سليم

(12) أي جيش من جيوشهم

(13) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 6/ 102.

(14) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 6/ 102.

(1/60)

________________________________________

وقال علي بن موسى بن طاوس (1) سبط محمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة: إن امير المؤمنين كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلا رجلان، فيتنفس الصعداء وقال: أين يقعان! ثم قال ابن طاوس: إن هؤلاء خذلوه مع اعتقادهم فرض طاعته وأنه صاحب الحق، وأن الذين ينازعونه على الباطل. وكان - عليه السلام - يداريهم ولكن لا تجديه المداراة نفعا. وقد سمع قوما من هؤلاء ينالون منه في مسجد الكوفة ويستخفون به فأخذ بعضادتي الباب وأنشد متمثلا: (2)

هنيئا مريئا غيرَ داء مخامِر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت

فيئس منهم كلهم، ودعا على هؤلاء الذين يدعون أنهم شيعة بقوله «قاتلكم الله وقبحا لكم وترحا» ونحوها. وكذا حلف على أن لا يصدق قولهم أبدا. ووصفهم في مواضيع كثيرة بالعصيان لأوامره وعدم استماعهم وقبولهم لكلامه، وأظهر البراءة من رؤيتهم. وهؤلاء لم يكن لهم وظيفة سوى الحط على حضرة الأمير كرم الله تعالى وجهه وذمهم له وحاشاه. وقد علم أيضا أن شيعة ذلك الوقت كانوا كلهم مشتركين في هذه الأحوال، وداخلين في هذه المساوئ إلا رجلين منهم، فإذا كان حال الصدر الأول والقرن الأفضل الذين هم قدوة لمن خلفهم من بعدهم وأسوة لأتباعهم ما سمعت ذكره، فكيف بأتباعهم! فويل لهم ما يكسبون

 

الطبقة الثالثة

هم الذي تبعوا السيد المجتبى السبط الأكبر وقرة عين التبول الإمام الحسن - رضي الله تعالى عنه -، بعد شهادة الأمير كرم الله تعالى وجهه، وبايعه منهم قدر أربعين ألفا على الموت، ورغبوه في قتال معاوية وخرجوا إلى خارج الكوفة، وكان قصدهم إيقاعه في ورطة الهلاك، وقد أزعجوه في اثناء الطريق بطلب وظائفهم منه، وظهر منهم في حقه من سوء الأدب ما ظهر، كما فعل المختار الثقفى من جر مصلاه من تحت قدمه المباركة، وهو الذي كان يعد نفسه من اخص شيعته، وكطعن آخر بالسنان فخذ الإمام - رضي الله تعالى عنه - حتى تألم منه ألما شديدا. فلما قامت الحرب على ساق وتحققت المقاتلة،

_________

(1) هو علي بن موسى بن جعفر بن محمد المعروف بابن طاووس، من مشاهير علماء الإمامية ومؤلفيهم، ولي نقابة الطالبيين بعد استحلال هولاكو لبغداد بتوصية نصير الدين الطوسي، رغم أنه امتنع عنها في عهد المستنصر العباسي، مات سنة 644هـ. طبقات أعلام الشيعة: ص 116؛ الذريعة: 2/ 343؛ الأعلام: 5/ 26.

(2) روى ابن أبي الحديد أن الشعبي مر بقوم يغتابونه في المسجد فأخذ بعضاتي الباب ... الخ، والرواية ليست للأمير لأن البيت من قول كثير عزة الذي عاش في زمن بني أمية بعد وفاة الأمير.

(1/61)

________________________________________

رغبوا إلى معاوية لدنياه، وتركوا نصرة الإمام، مع أنهم كانوا يدعون أنهم من شيعته المخصوصين، وشيعة أبيه، وأنهم احدثوا مذهب التشيع وأسسوه. ذكر ذلك السيد المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء والأئمة) عند ذكر عذر الإمام الحسن عن صلح معاوية وخلع نفسه من الخلافة وتفويضها إليه. (1)

وذكر أيضا نقلا عن كتاب (الفصول) (2) للإمامية أن رؤساء هذه الجماعة كانوا يكاتبون معاوية خفيا على الخروج للمحاربة مع الإمام، بل بعضهم أراد الفتك به - رضي الله تعالى عنه -. فلما تحققت هذه الأمور عنده رضي بالصلح مع معاوية وخلع الخلافة عن نفسه. (3)

 

الطبقة الرابعة

هم أكثر أهل الكوفة الذين طلبوا حضرة السبط الأصغر وريحانة سيد البشر الإمام الحسين - رضي الله تعالى عنه -، وكتبوا إليه كتبا عديدة في توجيه إلى طرفهم، فلما قرب من ديارهم مع الأهل والأقارب والأصحاب وأخذت الأعداء تؤجج نيران الحرب في مقابلته، تركه أولئك الكذابون وتقاعدوا عن نصرته وإعانته، مع كثرة عدد الأعداء وقوة شوكتهم. بل رجع اكثرهم مع الأعداء خوفا وطمعا، وصاروا سببا لشهادته وشهادة كثير ممن معه وآذوه أكثر مما آذى المشركون الأنبياء، حتى مات الأطفال والصبيان الرضع من شدة العطش، وأعروا ذوات الخدر والمستورات بالحجب من بيت النبوة وأطافوهم في البلاد والقرى والبوادى، وقد نشا ذلك من غدرهم وعدم وفائهم ومخادعتهم {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}.

 

الطبقة الخامسة

هو الذين كانوا في زمن استيلاء المختار (4) على العراق والبلاد الأخر من تلك الأقطار، وكانوا معرضين عن الإمام السجاد لمافقته المختار، وينطقون بكلمة محمد بن الحنفية ويعتقدون إمامته، مع أنه لم يكن من أولاد الرسول ولم يقم دليل على إمامته. وهذه الفرقة قد خرجت في آخر الأمر على الدين وحادت عن جادة المسلمين بما قالوا من نبوة المختار ونزول الوحي إليه. (5)

 

الطبقة السادسة

هم الذين حملوا زيدا الشهيد على الخروج، وتعهدوا بنصرته

_________

(1) فقد قال المرتضى: «فأظهروا له (- عليه السلام -) النصرة وحملوه على المحاربة والاستعداد لها طمعا في أن يورطوه ويسلموه ... ». تنزيه الأنبياء: ص 221.

(2) كتاب (الفصول المهمة في إثبات الأئمة) لمحمد بن الحسن المعروف بالحر العاملي (ت 1104هـ)، طبع بطهران سنة 1304هـ. الذريعة: 16/ 246.

(3) تنزيه الأنبياء: ص 222.

(4) المختار بن أبي عبيد الثقفي، قال الذهبي: «الكذاب لا ينبغي أن يروى عنه شيئا لأنه ضال مضل كان يزعم أن جبرائيل - عليه السلام - ينزل عليه، وكان ممن خرج على الحسن بن علي بن أبي طالب في المداين ثم صار مع ابن الزبير بمكة فولاه الكوفة فغلب عليها ثم خلع ابن الزبير ودعا على الطلب بدم الحسين فالتفت عليه الشيعة وكان يظهر لهم الأعاجيب ثم جهز عسكرا مع إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد وقتله سنة خمسوستين ثم توجه بعد ذلك مصعب بن الزبير إلى الكوفة فقاتله فقتل المختار سنة سبع وستين»، وقال ابن حجر: «ويقال إنه الكذاب الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله يخرج من ثقيف كذاب ومبير والحديث في صحيح مسلم». ميزان الاعتدال: 6/ 386؛ لسان الميزان: 6/ 6.

(5) ويعد الإمامية الآن المختار من المناضلين ضد الباطل. أخرج الكشي عن أبي جعفر [محمد الباقر] قال: «لا تسبوا المختار فإنه قتل قتلتنا، وطلب بثأرنا، وزوج أراملنا، وقسم فينا المال على العسرة». رجال الكشي: ص 125؛ رجال ابن داود: ص 513. قال الأعلمي: «وما ورد في ذمه إنما أعداؤه عملوا له المثالب ليباعدوه من قلوب الشيعة». دائرة المعارف الشيعية العامة: 17/ 24.

(1/62)

________________________________________

وإعانته، فلما جد الآمر وحان القتال أنكروا إمامته بسبب أنه لم يتبرأ من الخلفاء الثلاثة، فتركوه في أيدي العداء ودخلوا به الكوفة فاستشهد وعاد رزء الحسين، وكنا بواحد فصرنا باثنين، ولبئس ما صنعوا معه. (1) ولو فرضنا أنه لم يكن إماما أفلم يكن من أولاد الإمام، مع أن من علم صحة نسبه وإن كان من العصاة يجب على الأمة إعانته ونصرته ولا سيما إذا كان على الحق، ولم يلزمه من عدم التبرى ذنب ولم تلحقه منه نقيصة. وقد نقل الكشي (2) روايات صحيحة عن الأئمة الأطهار تدل على أن سب الخلفاء الثلاثة لا يحتاج إليه في النجاة ودخول الجنة، وقد كان مظلوما وإعانة المظلوم واجبة وفرض عين مع القدرة عليها.

 

الطبقة السابعة

هم الذين كانوا يدعون صحبة الأئمة والأخذ عنهم، مع أن الأئمة كانوا يكفرونهم ويكذبونهم. ولنذكر لك نبذة يسيرة من عقائد أسلافهم حيث أن هذا الكتاب لا يسع على سبيل الاستقصاء، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. فنقول: إن منهم من كان يعتقد أن الله تعالى جسم دو أبعاد ثلاثة، كالهشامين (3) وشيطان الطاق. (4) ومنهم من اعتقد أن الله تعالى مجوف من الرأس إلى السرة، ومنها إلى القدم مصمت، كهشام بن سالم والمثيمي. (5) ومنهم من اعتقد أنه عز اسمه لم يكن عالما في الأزل كزرارة بن أعين وبكير أعين (6) وسليمان الجعفري ومحمد بن مسلم الطلحان وغيرهم. ومنهم من أثبت له تعالى مكانا وحيزا وجهه وهو الأكثرون منهم. ومنهم من

_________

(1) أخرج ذلك الطبري حيث قال في حوادث سنة 122هـ: «اجتمعت إليه (زيد بن علي) جماعة من رؤوسائهم [أي الشيعة] فقالوا: رحمك الله ما قولك في أبي بكر وعمر؟، قال زيد: رحمهما الله وغفر لهما ما سمعت أحدا من أهل بيتي يتبرأ منهما ولا يقول فيهما إلا خيرا ... ففارقوه ونكثوا بيعته وكانوا يزعمون أن أبا جعفر محمد بن علي [الباقر] أخا زيد بن علي هو الإمام، وكان قد هلك يومئذ، وكان ابنه جعفر بن محمد حيا فقالوا جعفر إمامنا اليوم بعد أبيه وهو أحق بالأمر بعد أبيه ولا نتبع زيد بن علي فليس بإمام فسماهم زيد الرافضة». تاريخ الطبري: 4/ 204؛ المنتظم: 7/ 211.

(2) هو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، صاحب كتاب الرجال، قال النجاشي: «كان ثقة عينا وروى عن الضعفاء كثيرا»، مات سنة 340هـ. رجال النجاشي: 2/ 282؛ تنقيح المقال: 2/ 92.

(3) هما هشام بن الحكم مولى كندة اتفق الشيعة الاثنا عشرية على وثاقته مع ما ترى من كفر وإلحاد، وهشام بن يالم الجواليقي مولى بشر بن مروان يقول عنه علماء الحرج والتعديل من الشيعة: إنه ثقة ثقة.

(4) ينظر اعتقادات فرق المسلمين: ص 65؛ الملل والنحل: 1/ 187.

(5) هو على بن مثيم أحد علمائهم في الكلام ويزعمون أنه اعرفهم باخبار الأئمة كان معاصرا للمأمون والمعتصم وسيأتي بعض كفره وإلحاده

(6) كانا حفيدين لقسيس نصراني اسمه سنسن في بلد الروم.

(1/63)

________________________________________

كفر بالله تعالى فلم يعتقد بالصانع القديم ولا بالأنبياء. ولا بالبعث والمعاد كديك الجن الشاعر وغيره. ومنهم من كان من النصارى ويعلن بذلك جهارا ويتربي بزيهم، ومع ذلك لم يترك صحبة قومة كزكريا بن إبراهيم النصراني (1) الذي روى عنه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في كتابه (التهذيب) ومنهم من قال في حقهم الإمام جعفر الصادق - رضي الله تعالى عنه -: يروون عنا الأكاديب ويفترون علينا أهل البيت كالتبّان (2) المكنى بأبي أحمد.

ومنهم من حذر الأئمة الناس منهم وهم نقلة الأخبار ورواة الآثار عن الأئمة العظام، روى الكليني عن إبراهيم بن محمد الخراز (3) ومحمد بن الحسين (4) قالا دخلنا على أبي الحسن الرضا فقلنا: إن هشام بن سالم والمثيمي وصاحب الطاق يقولون إن الله تعالى أجوف من الرأس إلى السرة والباقي مصمت! فخر لله ساجدا ثم قال «سبحانك، ما عرفوك ولا وحدوك، فمن أجل ذلك وصفوك» (5) وقد دعا الإمام الصداق على هؤلاء المذكورين وعلى زرارة بن أعين فقال: أخزاهم الله. وروى الكليني أيضا عن علي بن حمزة (6) قال قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: سمعت هشام بن الحكم يروي عنكم أن الله جسم صمدي نوري معرفته ضرورية يمن بها على من يشاء من عباده. فقال: سبحان من لا يعلم أحد كيف هو، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، ولا يحد ولا يحسن ولا يحيط به شئ ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد. (7)

ومنهم من كان منكرا لموت الإمام الصادق معتقدين بانه هو المهدى الموعود به وينكرون إمامة الأئمة الباقين. وأكثر رواة الإمامية كانوا واقفيه كما لا يخفى على من راجع أسماء رجالهم حيث يقولون في مواضع شتى: إن فلانا كان من الواقفية. فهاتان الفرقتان منكرتان لعدد الأئمة وتعيين أشخاصهم، ومنكر الإمامة عند الشيعة كمنكر النبوة كافر، ومع هذا يروى علماء الشيعة عنهم في صحاحهم. (8)

ومنهم من لم يعلم إمام وقته وقضى عمره في التردد والتحير، فدخل في هذا الوعيد «من مات ولم يعرف إمام زمنه مات

_________

(1) هو زكريا بن إبراهيم الحيري الكوفي

(2) هو بنان التبان .. كان يقول في تفسير آية {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} إن إله الأرض غير إله السماء

(3) إبراهيم بن محمد الخزاز، روايته عندهم عن الرضا، لا ذكر له في كتب الرجال عند الإمامية إلا في معجم رجال الحديث للخوئي: 1/ 264.

(4) محمد بن الحسين بن سفرجلة أبو الحسن الخزار الكوفي، قال النجاشي: «ثقة من أصحابنا، عين، واضح الرواية، له كتاب فضائل الشيعة وكتاب فضائل القرآن». رجال النجاشي: 2/ 311؛ معجم رجال الحديث: 17/ 12.

(5) الكافي: 1/ 101.

(6) هو علي بن أبي حمزة البطائني أبو الحسن الكوفي، قال النجاشي: «روى عن أبي الحسن موسى، وروى عن أبي عبد الله عليهما السلام، ثم وقف، وهو أحد أعمدة الواقفة»، أي ممن توقفوا بالإمامة عند موسى الكاظم ولم يقر بإمامة الرضا ومن بعده، ومع ذلك فهم يروون عنه ويعتبرونه من خيرة رجالهم. رجال النجاشي: 2/ 69؛ تنقيح المقال: 2/ 262. وينظر لسان الميزان: 2/ 234

(7) الكافي: 1/ 101.

(8) وروايات الإمامية عن الواقفية كثيرة جدا، منهم للمثال فقط: إبراهيم بن أبي بكر بن أبي سمال، وأخوه إسماعيل كانا من الواقفية، روى الكشي عن أحمد بن محمد البزاز، قال: «لقيني مرة إبراهيم بن أبي سمال، قال: فقلت يا أبا حفص ما قولك؟ قال: قلت قول الذي تعرف، قال: فقال يا أبا جعفر إنه ليأتي علي تارة ما أشك في حياة أبي الحسن - عليه السلام -، وتارة يأتي علي وقت ما أشك في مضيه، ولكن إن كان قد مضى فما لهذا الأمر أحد إلا صاحبكم، قال الحسن: فمات على شكه» معجم رجال الحديث: 1/ 168. ومن الواقفية الذين أخذوا عنهم: الحسين بن قياما (رجال الكشي: رقم 427)، والحسين بن كيسان (معجم رجال الحديث: 7/ 72)، والحسين بن مخاريق (معجم رجال الحديث: 7/ 92)، والحسين بن موسى (معجم رجال الحديث: 7/ 105).

(1/64)

________________________________________

ميتة جاهلية» (1) كالحسن بن سماعة (2) وابن فضال (3) وعمرو بن سعيد (4) وغيرهم من رواة الأخبار.

ومنهم من اخترع الكذب وأصر على ذلك كأبي عمرو بن خرقة البصري. (5) ومنهم من طرده الإمام جعفر الصادق عن مجلسه ثم لم يجوز له مجيئه إليه كابن مسكان (6)

ومنهم من أقر بكذبه كأبي بصير. (7)

ومنهم من كان من البَدائية الغالية كدرام بن الحكم وزياد ابن الصلت وابن هلال الجهمي وزرارة بن سالم. ومنهم من كان يكذب بعضهم بعضا في الرواية كالهاشمين وصاحب الطاق والمثيمي.

 

(ادعاء كل فرق الشيعة أنهم على مذهب أهل البيت)

واعلم أن جميع فرق الشيعة يدّعون أخذ علومهم من أهل البيت، وتنسب كل فرقة منهم إلى إمام أو ابن إمام، ويروون عنهم أصول مذاهبهم وفروعه، ومع ذلك يكذب بعضهم بعضا ويضل أحدهم الآخر مع ما بينهم من التناقض في الاعتقادات ولا سيما في الإمامة، فذلك أوضح دليل واقوى برهان على كذب تلك الفرق كلها. وذلك لأن هذه الروايات المختلفة والأخبار المتناقضة لا يمكن ورودها من بيت واحد وإلا يلزم كذب بعضهم، وقد قال تعالى {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} وقد علم أيضا من التواريخ وغيرها أن أهل البيت ولا سيما الأطهار من خيار خلق الله تعالى بعد

_________

(1) رواية شيعية أوردها المجلسي في بحار الأنوار: 46/ 186.

(2) الحسن بن سماعة بن مهران، ذكره الكشي في رجاله (رقم 339) وقال: واقفي، وهو غير الحسن بن محمد بن سماعة. وحاول الخوئي في معجم رجال الحديث إثبات أنهما رجل واحد في كتابه معجم رجال الحديث: 5/ 344؛ لكن التصريح وقع في أصول الشيعة كما في روايات ابن مهران الجزء 5، باب نزول المزدلفة من كتاب الحج، الحديث 627، والاستبصار: الجزء 2، باب وقت الخروج إلى منى، الحديث 896. وينظر ما كتبه العاملي في أعيان الشيعة: 5/ 107.

(3) علي بن فضال بن عمر بن أيمن، مولى عكرمة بن ربعي الفياض، كان فطحيا على قولهم، قال الكشي قال من الفطحية جماعة من فقهاء أصحابنا منهم ابن فضال. رجال النجاشي: 1/ 212؛ تنقيح المقال: 1/ 193.

(4) عمرو بن سعيد المدائني، روايته عندهم عن الرضا، رغم أنه فطحي لكنهم قبلوا روايته، فوثقه النجاشي (في رجاله: 2/ 133) والطوسي (في رجاله: رقم 488)، الذي صرح بأنه فطحي حيث قال: «ذكر عمرو بن سعيد المدائني - وكان فطحيا - قال: كنت عند أبي الحسن العسكري - عليه السلام -». الغيبة: ص 349. وأقر الكشي في رجاله بأنه كان فطحيا. رجال الكشي: ص 612.

(5) هو محمد بن محمد بن النضر السكوني البصري عدة نحريرهم عبد النبي في كتابه «حاوي الأقوال» مرة في الضعفاء. ومرة في الثقات. ولما كان رجال الجرح والتعديل منهم لا يبالون بكذب رواتهم فإنهم يسكتون عن إعلان ضعف الضعيف بسبب كذبه لأن الكذب ليس عندهم من أسباب الحرج.

(6) هو عبد الله بن مسكان الكوفي مولى عنزة. زعموا أنه كان لا يدخل على الإمام جعفر الصادق شفقة أن لا يوافيه حق إجلاله

(7) في رجالهم أكثر من واحد كنيتهم «أبو بصير» منهم عبد الله بن محمد الأسدي وليث ابن البختري المرادي. وقد قال علماؤهم في الجرح والتعديل: كان الإمام جعفر الصادق يتضجر من أبي بصير ليث بن البختري ويتبرم، وأصحابه مختلفون في شأنه. قال ابن الغضائري الشيعي: وعندي أن الطعن وقع على دين ليث لا على حديثه، وهو عندي ثقة. قالوا: إن الطعن في دينه لا يوجب الطعن!

(1/65)

________________________________________

النبيين وأفضل سائر عبداه المخلصين والمقتفين لآثار جدهم سيد المرسلين، فلا يمكن صدور الكذب عنهم، فعلم أنهم بريئون مما ترويه عنهم تلك الفرق المضلة بعضهم بعضا، بل قد وضعها كل فرقة من هذه الفرق ترويحا لمذهبهم. ولذا وقع فيها التخالف. قال تعالى {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.

 

(اختلاف أهل السنة)

وأما الاختلاف الواقع عند أهل السنة فليس كذلك لوجهين:

الأول: أنه اختلاف اجتهادي، فإنهم يعلمون من زمن الصحابة إلى زمن الفقهاء الأربعة أن كل عالم مجتهد ويجوز للمجتهد العمل برأيه المستنبط من دلائل الشرع فيما ليس فيه نص. واختلاف الآراء طبيعي لنوع الإنسان، وليس ذلك اختلاف الرواية حتى يدل على الكذب والآفتراء.

الثاني: أن اختلافهم كان في فروع الفقه لا في أصول الدين، واختلاف الفروع للأجتهاد جائز فلا يكون دليلا لبطلان المذهب، وذلك كاختلاف المجتهدين من الإمامية في المسائل الفقهية كطهارة الخمر ونجاسته وتجويز الوضوء بماء الورد وعدمه.

ولننبهك على كيفية أخذ الشيعة من أهل البيت، فاعلم أن الغلاة - وهم أقدم من جميع الفرق الشيعية وأضلهم - قد أخذوا مذهبهم عن عبد الله بن سبأ حيث موه عليهم قصدا لإضلالهم أنه أخذ ذلك عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، وزعمت المختارية والكيسانية أنهم قد أخذوه عن الأمير والمحسنين وعن محمد بن علي وعن أبي هاشم ابنه، والزيدية عن الأمير والحسنين، وزين العابدين وزيد بن على ويحيى بن زيد، والباقرية عن خمسة أعني الأمير إلى الباقر، والناووسية عن هؤلاء الخمسة والإمام الصادق، والمباركة عن هؤلاء الستة وإسماعيل بن جعفر، والقرامطة عن هؤلاء السبعة ومحمد بن إسماعيل، والشميطية عن هؤلاء الثمانية ومحمد بن جعفر وموسى وعبد الله وإسحاق أبناء جعفر، والمهدية عن اثنين وعشرين وهم كانوا يعتقدون أن جميع سلاطين مصر والمغرب الذين خلوا من نسل محمد الملقب بالمهدي

(1/66)

________________________________________

أئمة معصومون، ويزعمون ان العلم المحيط بجميع الأشياء كان حاصلا لهم، وهؤلاء السلاطين أيضا كانوا يدعون ذلك كما تشهد لذلك تواريخ مصر والمغرب. والنزارية عن ثمانية عشر أولهم أمير المؤمنين وآخرهم المستنصر بالله.

والإمامية الاثنا عشرية عن اثني عشر أولهم الأمير وآخرهم الإمام محمد المهدي. ولا حد لعلمائهم في الكثرة، وقدمائهم المشاهير سليم بن قيس الهلالي، (1) وأبان (2) وهشام بن سالم، وصاحب الطاق، وأبو الأحوص (3) وعلي بن منصور، (4) وعلي بن جعفر، (5) وبيان بن سمعان المكنى بأبي أحمد المشهور بالجزري، وابن أبي عمير وعبد [الله] بن المغيرة (6) والنصري (7)

وأبو البصير، (8) ومحمد بن حكيم، (9) ومحمد بن فرج الرخجي، (10) وإبراهيم الخزاز، (11) ومحمد بن الحسين، (12) وسليمان الجعفري، (13) ومحمد بن مسلم وبكير بن أعين وزرارة بن أعين وأبنائهما، (14) وسماعة بن مهران وعلي بن أبي حمزة وعيسى وعثمان وعلي، وهؤلاء الثلاثة بنو فضال، (15) وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، (16) ويونس بن عبد الرحمن القمي، وأيوب بن نوح، (17) وحسن بن العباس بن الحريش، (18)

وأحمد بن إسحاق، (19) وجابر الجعفي، (20) ومحمد بن جمهور العمي، (21) والحسين بن سعيد، (22) وعبد الله (23) وعبيد الله (24) ومحمد (25)

وعمران (26) وعبد الأعلى (27) كلهم بنو علي بن أبي شعبة وأولادهم وجدهم.

وأما المصنفون من الاثني عشرية فصاحب (معالم الأصول) (28) فخر المحققين، (29) ومحمد بن على الطرازي، (30) ومحمد بن عمر الجعابي، (31) وأبو الفتح محمد بن على الكراجكي (32) والكفعمي، (33) وجلال الدين حسن بن أحمد (34) شيخ الشيخ المقتول، ومحمد بن الحسن الصفار، وأمان بن بشر البغال وعبد الكريم الخشعي، (35)

_________

(1) عدوه من أصحاب علي - رضي الله عنه - إلى الباقر، وادعوا أن الحجاج طلبه ليقتله فهرب وأوى إلى أبان بن أبي عياش، فلما حضرته الوفاة قال لأبان: «إن لك علي حقا وقد حضرني الموت يا ابن أخي أنه كان من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيت وكيت وأعطاه كتابا»، فلم يرو عن سليم بن قيس أحد من الناس سوى أبان، وذكر أبان حال شيخه فقال: «كان شيخا متعبدا له نور يعلوه»، ولذا شكك بعض علماء الإمامية بمصداقية الكتاب، فقال المفيد: «غير أن هذا الكتاب غير موثوق به ولا يجوز العمل على أكثره، وقد حصل فيه تخليد وتدليس فينبغي للمتدين أن يتجنب العمل بكل ما فيه ولا يعوّل على جملته والتقليد لروايته»، مات قيس سنة 90هـ. رجال النجاشي: 1/ 68؛ تنقيح المقال: 2/ 52؛ أعيان الشيعة: 7/ 293.

(2) أبان بن تغلب بن رياح، أبو سعيد البكري مولاهم الجريري، قال عنه النجاشي: «عظيم المنزلة في أصحابنا لقي علي بن الحسين، وأبا جعفر وأبا عبد الله عليهم السلام، وروى عنهم، وكانت له عندهم منزلة عظيمة»، وهو غير أبان بن تغلب الربعي أبي سعد الكوفي، فهذا من رجال مسلم، وأخرج له الأربعة (ترجمته في تهذيب التهذيب: 1/ 81)، فهما يختلفان في الكنية والنسب، ولم يثبت له أهل السنة رواية عن علي بن الحسين أو عن جعفر الصادق، في حين أثبتها الشيعة الإمامية، وقد حاول الإمامية ابتداءً بالنجاشي وانتهاءً بالخوئي جعلهما رجلا واحدا.

(3) أبو الأحوص داود بن أسد بن غفير البصري، قال عنه النجاشي: «شيخ جليل فقيه متكلم من أصحاب الحديث، ثقة ثقة»،. رجال النجاشي: 1/ 364؛ تنقيح المقال: 1/ 407.

(4) أبو الحسن علي بن منصور الكوفي، كان من تلاميذ هشام بن الحكم، لم يذكره الشيعة الإمامية بجرح ولا تعديل. رجال النجاشي: 2/ 71؛ معجم رجال الحديث: 13/ 201.

(5) علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، أبو الحسن سكن المدينة ونسب إليها، ذكره الإمامية من الرواة عن أهل البيت وقالوا يروي عن الصادق والكاظم والرضا، ورغم شرفه لكنهم لم يوثقوه. رجال النجاشي: 2/ 72؛ عمدة الطالب: ص 241. وذكره من أهل السنة ابن حجر وغيره، وله حديث واحد في الترمذي ذكره الترمذي واستغربه، قال الذهبي: «وحديثه هذا منكر جدا»، مات سنة 210هـ. تهذيب التهذيب: 7/ 258؛ ميزان الاعتدال: 5/ 144.

(6) في المطبوع عبد المغيرة، والتصحيح من كتب الإمامية، قال عنه النجاشي: «ثقة ثقة، لا يعدل به أحد من جلالته ودينه وورعه، روى عن موسى الكاظم»، قيل إنه صنف ثلاثين كتابا. رجال النجاشي: 2/ 11.

(7) الحارث بن المغيرة النضري أو النصري، نسبه النجاشي إلى نصر بن معاوية، وقال: «بصري روى عن الباقر والصادق وزيد بن علي، ثقة ثقة، له كتاب يرويه عدة من أصحابنا». رجال النجاشي: 1/ 333. ذكره الحافظ ابن حجر، لسان الميزان: 2/ 160 ..

(8) محمد بن حكيم الخثعمي، قال النجاشي: «يروي عن الصادق والكاظم، وله كتاب يرويه عنه ابنه جعفر»، ولم يذكروا له جرحا ولا تعديلا. رجال النجاشي: 2/ 257؛ تنقيح المقال: 3/ 109.

(9) محمد بن حكيم الخثعمي، قال النجاشي: «يروي عن الصادق والكاظم، وله كتاب يرويه عنه ابنه جعفر»، ولم يذكروا له جرحا ولا تعديلا. رجال النجاشي: 2/ 257؛ تنقيح المقال: 3/ 109.

(10) في الأصل (الرجعي). والتصحيح من كتبهم. الرخجي (نسبة إلى قرية أسفل بغداد)، ذكره النجاشي وقال: «يروي عن الكاظم له كتاب مسائل»، ولم يذكروا له جرحا ولا تعديلا. رجال النجاشي: 2/ 279؛ تنقيح المقال: 3/ 171.

(11) تقدمت ترجمته

(12) محمد بن الحسين بن أبي الخطاب (زيد)، أبو جعفر الزيات الهمداني، قال النجاشي: «جليل من أصحابنا عظيم القدر كثير الرواية، ثقة عين حسن التصانيف مسكون إلى روايته»، قالوا بأنه عاش أكثر من 105 سنوات حيث مات سنة 262هـ. رجال النجاشي: 2/ 220؛ تنقيح المقال: 3/ 106.

(13) سليمان بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر الطيار، أبو محمد الجعفري، روى عن الرضا والعسكري، قال النجاشي: «كان ثقة وله كتاب فضل الدعاء». رجال النجاشي: 1/ 412؛ عمدة الطالب: ص 44.

(14) قال الخوئي: «وزرارة يكنى أبا علي أيضا وله عدة أولاد منهم: الحسن والحسين ورومي وعبيد وكان أحول وعبد الله ويحيى، بنو زرارة: ولزرارة إخوة جماعة منهم حمران وكان نحويا وله ابنان حمزة بن حمران ومحمد بن حمران، وبكير بن أعين يكنى أبا الجهم وابنه عبد الله بن بكير وعبد الرحمن بن أعين، وعبد الملك بن أعين وابنه ضريس بن عبد الملك، ولهم روايات كثيرة وأصول وتصانيف». معجم رجال الحديث: 8/ 225.

(15) وثقوا هؤلاء الثلاثة رغم أنهم من الأفطحية حيث روى الطوسي عن: «الحسن بن علي وقد سئل عن كتب بني فضال فقالوا: كيف نعمل بكتبهم؟ وبيوتنا منها ملئ فقال: خذوا بما رووا وذروا ما رأوا». الغيبة: ص 389 - 390.

(16) هو أحمد بن عمرو بن أبي نصر (زيد)، أبو جعفر البزنطي الكوفي السكوني مولاهم. قال النجاشي: «لقي الرضا والكاظم وكان عظيم المنزلة عندهما وله كتب»، مات سنة 220هـ. رجال النجاشي: 1/ 202؛ تنقيح المقال: 1/ 77.

(17) أيوب بن نوح بن درّاج النخعي، أبو الحسين، قال النجاشي: «كان وكيلا لأبي الحسن وأبي محمد عليهما السلام، عظيم المنزلة عندهما، مأمونا وكان شديد الورع كثير العبادة ثقة في رواياته». رجال النجاشي: 1/ 255.

(18) قال النجاشي: «يروي عن أبي جعفر، ضعيف جدا له كتاب رديء الحديث مضطرب الألفاظ»، وقال ابن حجر بعد نقل كلام النجاشي، وقيل: «إنه كان يضع الحديث» .. رجال النجاشي: 1/ 176؛ لسان الميزان: 2/ 216

(19) أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعري، أبو علي القمي، كان رسول القميين إلى الأئمة، ذكره الكليني فيمن رأى إمامهم الغائب في كتاب الحجة من الكافي، وذكره الطوسي وعده من السفراء الذين وردتهم كتابات صاحب الزمان، قال: «وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة أصلا ومنهم أحمد بن إسحاق»!، وهو عندهم من أوثق رواتهم. رجال النجاشي: 1/ 234. الطوسي، الغيبة: ص 414.

(20) جابر بن يزيد بن الحرث الجعفي الكوفي، اختلف علماء الحديث السنة فيه، فوثقه البعض، وضعفه معظمهم وتركوه، فقد تركه النسائي، وقال يحيى: «لا يكتب حديثه ولا كرامة»، ونقل عباس الدوري عن زائدة قوله عن الجعفي: «كان كذابا»، مات سنة 128هـ. ميزان الاعتدال: 2/ 103. أما عند الإمامية فهو من خيرة رواتهم عن الباقر والصادق وقيل إنه روى عنهما سبعين ألف حديث، قال المامقاني: «إن الرجل في غاية الجلالة ونهاية النبالة، وله المنزلة العظيمة عليهما السلام بل، من أهل أسرارهما وبطانتهما ومورد ألطافهما الخاصة وعنايتهما المخصوصة وأمينهما على ما لا يؤتمن عليه إلا أوحدي العدول من الأسرار ومناقب أهل البيت عليهم السلام». تنقيح المقال: 1/ 203؛ رجال النجاشي: 1/ 313.

(21) قال النجاشي عنه: «ضعيف في الحديث فاسد المذهب، وقيل فيه أشياء الله أعلم بها من عظمها، روى عن الرضا - عليه السلام -». قال النائيني محقق رجال النجاشي: «مر في ترجمة ابنه محمد أنه كان أوثق من أبيه، فيستفاد منه وثاقة أبيه محمد وكونه صالحا فتدبر»!، رغم تضعيف المتقدمين له. رجال النجاشي: 2/ 225.

(22) الحسين بن سعيد بن حماد بن مهران أبو محمد الأهوازي، يروي عندهم عن الرضا، قال الكشي: «إمامي ثقة أبوه يلقب دندان». رجال النجاشي: 1/ 207. وذكره ابن حجر في لسان الميزان: 1/ 405

(23) ورد في بعض كتبهم روايات عبد الله بن علي بن أبي شعبة، لكن قرر الخوئي أنه هو نفسه عبيد الله كما في معجم رجال الحديث: 12/ 87. ويدل على ذلك قول النجاشي حين ذكر أولاد علي بن أبي شعبة أنهم: «عبيد الله وعبد الأعلى وعمران ومحمد». رجال النجاشي: 2/ 38.

(24) ذكره النجاشي وقال: «ضعيف في الحديث فاسد المذهب، وقيل فيه أشياء الله أعلم بها من عظمها، روى عن الرضا - عليه السلام - وله كتاب الملاحم الكبير وكتاب نوادر الحج، كتاب أدب العلم». قال النائيني محقق رجال النجاشي: «مر في ترجمة ابنه محمد أنه كان أوثق من أبيه، فيستفاد منه وثاقة أبيه محمد وكونه صالحا فتدبر»!، رغم ما قاله المتقدمون فيه! رجال النجاشي: 2/ 225.

(25) هو محمد بن علي بن أبي شعبة، أبو جعفر الحلبي، قال النجاشي: «وجه أصحابنا وفقيههم، والثقة الذي لا يطعن عليه هو وأخوته، له كتاب في التفسير»، روايته عندهم عن الباقر والصادق. رجال النجاشي: 2/ 202؛ معجم رجال الحديث: 17/ 325 ..

(26) هو عمران بن علي بن أبي شعبة، أبو الفضل الحلبي، روايته عند الإمامية عن الصادق، وثقوه حيث ذكره ابن أبي داود وابن المطهر الحلي في القسم الأول من رجالهم. خلاصة الأقوال: ص 83؛ معجم رجال الحديث: 14/ 159.

(27) عبد الأعلى بن علي بن أبي شعبة، وثقه النجاشي في ترجمة أخيه محمد بن علي. رجال النجاشي: 2/ 202؛ معجم رجال الحديث: 10/ 377.

(28) من تصنيف حسن نجل الشهيد الثاني المتوفى سنة 1011هـ. الذريعة: 14/ 70.

(29) هو أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، وهو الولد الأشهر لابن المطهر الحلي، مات سنة 771هـ. روضات الجنات: 6/ 330؛ جامع الرواة: 2/ 96؛ أمل الآمال: 2/ 260.

(30) ذكروا له كتابا واحدا هو (كتاب الدعاء والزيارة) وبه اشتهر، والكتاب في عداد المفقود، وكان الطرازي معاصرا للنجاشي المتوفى سنة 450هـ. الذريعة: 8/ 195.

(31) محمد بن عمر بن محمد التميمي البغدادي الجعابي، محدث وأخباري، قال الذهبي: «له مصنفات كثيرة وله غرائب وهو شيعي»، تولى القضاء بالموصل وتوفي ببغداد سنة 355هـ. ميزان الاعتدال: 6/ 281؛ معجم المؤلفين: 11/ 92. وذكره من الشيعة النجاشي فقال: «كان شيخ شيخنا (المفيد)». رجال النجاشي: 2/ 319؛ تنقيح المقال: 3/ 165.

(32) هو أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي، قال عنه الذهبي: «شيخ الرافضة وعالمهم صاحب التصانيف»، من تلاميذه الشيخ المفيد والشريف المرتضى والطوسي، مات سنة 449هـ. سير أعلام النبلاء: 18/ 121؛ أعيان الشيعة: 9/ 401.

(33) إبراهيم بن علي بن الحسن بن محمد بن صالح بن إسماعيل الحارثي الكفعمي العاملي، قال المجلسي: «من مشاهير الفضلاء والمحدثين والصلحاء المتورعين»، مات سنة 905هـ. أمل الآمال: 1/ 27؛ أعيان الشيعة: 2/ 184؛ تنقيح المقال: 1/ 27؛ الذريعة: 1/ 355، 1/ 356، 3/ 11.

(34) جلال الدين أبو محمد الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن جعفر بن هبة الله الربعي الحلي، قال الحر العاملي: كان فاضلا عالما، وكان على قول تلميذه المقتول: «شيخ الشيعة ورئيسهم في زمانه»، من مؤلفاته (أخذ الثأر في أحوال المختار بن أبي عبيدة) مات في حدود 766هـ. أعيان الشيعة: 5/ 16؛ الذريعة: 1/ 369.

(35) ذكره الآلوسي بعبد الرحمن، والراجح أنه عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعمي مولاهم الكوفي، روايته عند الشيعة الإمامية عن الصادق والكاظم، قال الطوسي: «واقفي خبيث»، وقال الكشي: «واقفي»، ومع ذلك وثقه النجاشي فقال: «كان ثقة ثقة عينا له كتاب يرويه عدة من أصحابنا»، وسماه صاحب الذريعة (كتاب الحديث)، أما المامقاني فزكاه ونفى تهمة الوقف! رجال النجاشي: 2/ 62؛ تنقيح المقال: 2/ 37؛ الذريعة: 6/ 343.

(1/67)

________________________________________

وفضل بن شاذان القمي، (1) ومحمد بن يعقوب الكليني الرازي، وعلي [بن الحسين] بن بابويه القمي، والحسين ابنه أيضا.

وهذا القمي غير القمي (2) الذي استشهد به الإمام البخاري في رواية حديث «الشفاء في ثلاث: شرطه محجم، وشربة عسل، وكية بنار» (3) وذلك في كتاب الطب من صحيحه وقال: رواه القمي عن ليث (4) عن مجاهد (5) في سند الحديث. لأن بابويه القمي الرافضي من أهل القرن الرابع وليث من أهل القرن الثاني فلا يمكن أن يرى ليثا ويروي عنه، ولو حملنا كلمة «رواه عن ليث» على الإرسال بالواسطة دون الاتصال مع خلاف دأب البخاري ومتعارفه فكيف نستشهد به مع أنه متأخر عن البخاري بزمن طويل. ولنعم ما قيل في تاريخ ولادة البخاري - رضي الله تعالى عنه - ومدة عمره:

كان البخاري حافظا ومحدثا ... جمع الصحيح مكمل التحرير

ميلاده «صدق» (6) ومدة عمره ... فيها «حميد» (7) وانقضى في «نور» (8)

وهذه جملة وقعت في البين لا تخلو عن فائدة:

ولنرجع إلى عد بقية مصنفيهم فمنهم: عبيد الله بن علي الحلبي، (9) وعلي بن مهزيار الأهوازي، (10) وسلار (11) وعلي بن إبراهيم القمي، (12) وابن براج، (13) وابن زهرة، (14) وابن إدريس (15) المفتري على الشافعي المشهور، والذى جرأه على ذلك مشاركته له في الكنية، ومعين الدين المصري، (16)

وابن جنيد، (17) وحمزة (18) وأبو الصلاح، (19) وابن المشرعة الواسطي (20) وابن عقيل (21) والغضائري والكشي والنجاشي والملا حيدر العاملي (22) والبرقي ومحمد بن جرير الطبري الآملي (23) وابن هشام الديلمي، ورجب بن محمد بن رجب البرسي، (24) إلى غير ذلك مما هو مذكور في (الترجمة العبقرية) وكذا إن أردت أسماء كتبهم فراجعها.

_________

(1) الفضل بن شاذان بن الخليل، أبو محمد الأزدي النيسابوري، قال النجاشي عنه: «روى عن الرضا والهادي، وكان ثقة أحد أصحابنا الفقهاء المتكلمين، وله جلالة في هذه الطائفة، وهو في قدره أشهر من أن نصفه»، ثم قال: «قيل إنه صنف مائة وثمانين كتابا». رجال النجاشي: 2/ 168؛ وذكره ابن النديم، الفهرست: ص 323.

(2) هو يعقوب بن عبد الله بن سعد بن مالك الأشعري، أبو الحسن القمي، قال الطبراني: «كان ثقة»، وقال الدارقطني: «ليس بالقوي»، وذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة 174هـ. التجريح والتعديل: 3/ 1240؛ تهذيب التهذيب: 11/ 342. وذكره الإمامية وقالوا: لا بأس به. دائرة المعارف الشيعية: 18/ 603.

(3) أخرجه البخاري عن ابن عباس

(4) هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهري، أبو الحارث النضري، روى عن الزهري وعطاء ونافع وخلق كثير، قال يحيى بن بكير: «ما رأيت أحدا أكمل من الليث بن سعد كان فقيه البدن عربي اللسان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الحديث والشعر حسن المذاكرة لم أر مثله»، توفي سنة 175هـ. تذكرة الحفاظ: 1/ 224؛ طبقات الحفاظ: 1/ 102.

(5) هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر الإمام المخزومي مولاهم الكوفي، من كبار التابعبن،، قال الذهبي: «كان أحد أوعية العلم»، توفي سنة 103هـ. طبقات ابن سعد: 5/ 466؛ تذكرة الحفاظ: 1/ 83؛ تهذيب التهذيب: 10/ 38.

(6) بحساب الجمل 194

(7) 62

(8) 256

(9) هو عبيد الله بن علي بن أبي شعبة الحلبي التيمي مولاهم الكوفي، قال النجاشي: «كان يتجر هو وأبوه وإخوته إلى حلب، غلب عليهم النسب إليها ... وكانوا جميعهم ثقات، مرجوعا إلى ما يقولون، وكان عبيد الله كبيرهم ووجههم، وصنف الكتاب المنسوب إليهم وهو كتاب (أبو شعبة)»، وتدعي الشيعة أنه أول مؤلفاتهم، وأنه عرض على الصادق وصححه، وسماه صاحب الذريعة ب (كتاب الفقه). رجال النجاشي: 2/ 38؛ تنقيح المقال: 2/ 240؛ الذريعة: 16/ 281.

(10) هو أبو الحسن الدروقي، قال النجاشي: «روى عن الرضا وأبي جعفر، واختص بأبي جعفر الثاني (الهادي) وتوكل له وعظم محله منه، فكانت التوقيعات تخرج باسمه من الغائب»، وأضاف: «وكان ثقة في روايته لا يطعن عليه، وصنف الكتب المشهورة»، مات بعد 230هـ. رجال النجاشي: 2/ 74؛ تنقيح المقال: 2/ 310؛ معجم المؤلفين: 7/ 247.

(11) قيل اسمه حمزة أو سالار بن عبد العزيز الديلمي، مات سنة 463هـ، من تصانيفه (المقنع في الفقه)، (الأبواب والفصول في الفقه)، (التقريب في أصول الفقه). تنقيح المقال: 2/ 42؛ أعيان الشيعة: 7/ 170؛ معجم المؤلفين: 4/ 235.

(12) هو علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، قال عنه النجاشي: «ثقة في الحديث ثبت معتمد صحيح المذهب، سمع فأكثر وصنف كتبا، وعمى في وسط عمره»، أخذ عنه الكليني، مات القمي سنة 329هـ. وترجم له الحافظ ابن حجر وقال: «رافضي جلد له تفسير فيه مصائب». رجال النجاشي: 2/ 86؛ معجم الأدباء: 12/ 215؛ لسان الميزان: 4/ 191؛ معجم المؤلفين: 7/ 9.

(13) هو عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز البراج الشامي، قال العاملي: «القاضي سعد الدين وجه الأصحاب وفقيهم»، وله مصنفات منها (المهذب)، (المعتمد) (الجواهر) (الكامل في الفقه)، مات سنة 481هـ. أعيان الشيعة: 8/ 18؛ روضات الجنات: 4/ 202؛ معجم المؤلفين: 5/ 262

(14) هو حمزة بن علي بن زهرة بن الحسن بن زهرة الحسيني الحلبي، قال عنه الحر العاملي: «فاضل عالم ثقة جليل القدر عظيم المنزلة، وله تصانيف تبلغ نحو العشرين»، مات سنة 585هـ. أمل الآمل: 2/ 105؛ أعيان الشيعة: 6/ 249؛ معجم المؤلفين: 4/ 80.

(15) هو أبو جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن الحسين العجلي الحلي، قال عنه العاملي: «فقيه الشيعة كان من فضلاء فقهاء الشيعة والعارفين بأصول الشريعة»، وطعن به سديد الدين الحمصي الشيعي فقال: «هو مختلط لا يعتمد على تصنيفه»، من مؤلفاته (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي)، مات سنة 598هـ. أعيان الشيعة: 9/ 12؛ أمل الآمال؛ الذريعة: 12/ 155.

(16) هو سالم بن بدران بن علي الحلي المازندي، ومن تلامذته نصير الدين الطوسي، قال عنه الحر العاملي: «كان عالما فاضلا»، له مؤلفات منها (التحرير في الفقه)، (الأنوار المضيئة)، مات نحو 670هـ .. أمل الآمال: 2/ 324؛ أعيان الشيعة: 7/ 172؛ الذريعة: 2/ 230، 2/ 441، 3/ 377، 20/ 383، 21/ 277؛ معجم المؤلفين: 4/ 202.

(17) هو محمد بن أحمد بن الجنيد، أبو علي الكاتب الأسكافي، قال النجاشي: «وجه من أصحابنا ثقة جليل القدر، صنف فأكثر، وكان يقول بالقياس»، مات في سنة 381هـ. رجال النجاشي: 2/ 306؛ تنقيح المقال: 2/ 58؛ فهرست الطوسي: ص 134.

(18) في الأصل (حمزة أبو الصلاح) والتصحيح من السيوف المشرقة (53/ أ) فهما اثنان، الأول منهما هو حمزة بن القاسم بن علي بن حمزة بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، قال النجاشي: «ثقة جليل القدر من أصحابنا كثير الرواية»، رجال النجاشي: 2/ 334.

(19) هو تقي الدين علي بن منصور بن نجم الحلبي، أبو الصلاح، قال الطوسي: «ثقة قرأ علينا وعلى المرتضى»، من مؤلفاته: (البداءة)، (غاية الإنصاف في مسائل الخلاف)، (الكافي في الفقه). أمل الآمال: 2/ 46؛ معالم العلماء: ص 29؛ الذريعة: 3/ 57، 16/ 9، 17/ 247.

(20) كذا ذكره الطهراني، وسماه العاملي بابن الشريفة، وذكرا له كتاب (اللباب) فقط. الذريعة: 18/ 273؛ أعيان الشيعة: 2/ 266.

(21) هو أبو محمد الحسن بن علي بن عيسى بن أبي عقيل العماني الحذاء، قال النجاشي: «فقيه متكلم ثقة، له كتب في الفقه والكلام»، وقال عنه العاملي: «هو من قدماء الأصحاب، ويعبر عنه وعن ابن الجنيد بالقديمين، وهما من أهل المائة الرابعة». رجال النجاشي: 1/ 153؛ أعيان الشيعة: 5/ 158.

(22) حيدر بن علي بن حيدر بن علي الحسيني المازندراني، ركن الدين الآملي، قال عنه العاملي: «فاضل عالم جليل مفسر فقيه محدث، كان من عظماء الإمامية»، ذكروا له: (المحيط الأعظم في التفسير)، (التأويلات)، (جامع الأسرار)، وكان حيا سنة 787هـ. أعيان الشيعة: 6/ 271؛ إيضاح المكنون: 2/ 192، 493؛ معجم المؤلفين: 4/ 91.

(23) قال عنه ابن حجر: «رافضي له تصانيف منها كتاب الرواة عن أهل البيت»، ورماه بالرفض الكتاني أيضا، قال ابن بابويه: «هو الآملي قدم الري وكان من جلة المتكلمين على مذهب المعتزلة، وله مصنفات»، ونقل النجاشي أن وفاته كانت سنة 310هـ، وهي سنة وفاة الطبري الإمام المشهور صاحب التفسير! وقال عنه النجاشي: جليل من أصحابنا كثير العلم حسن الكلام ثقة في الحديث له كتاب (المسترشد في الإمامة). رجال النجاشي: 2/ 289؛ لسان الميزان: 5/ 103.

(24) المعروف برضي الدين البرسي الحلي، قال العاملي: «كان فاضلا شاعرا منشئا أديبا له كتاب وفي كتابه إفراط، وربما نسب إلى الغلو»، مات نحو 813هـ. أمل الآمال: 2/ 117؛ أعيان الشيعة: 6/ 465.

(1/68)

________________________________________

واعلم أن جميع فنونهم في الكلام والعقائد والتفسير ونحوها مستمدة من كتب غيرهم. والمعتمد من كتب أخبارهم الأصول الأربعة: أحدها (الكافي) المشهور بالكليني، وثانيها (من لا يحضره الفقيه) وثالثها (التهذيب) ورابعها (الاستبصار). وصرح علماؤهم بأن العمل بكل ما في هذه الأربعة واجب، وكذلك صرحوا بأن العمل برواية الإمامي الذي يكون دونه أصحاب الأخبار أيضا واجب بهذا الشرط كما نص على ذلك أبو جعفر الطوسي والشريف المرتضى وفخر الدين الملقب بالمحقق الحلي، (1) مع أنه يوجد في تلك الكتب الأربعة من رواية المجسمة كالهشامين وصاحب الطاق، ورواية من اعتقد أن الله تعالى لم يكن عالما في الأزل كزرارة وأمثاله كالأحولين (2) وسليمان الجعفري، ورواية من كان فاسد المذهب ولم يكن معتقدا بإمام أصلا كبني فضّال وابن مهران وغيرهم، ورواية بعض الوضاعين الذين لم يخف حالهم على الشيعة كجعفر الأودي (3) وابن عياش (4) وكتاب (الكافي) مملوء من رواية ابن عياش وهو بإجماع هذه الفرقة كان وضاعا كذابا.

والعجيب من الشريف مع علمه بهذه الأمور كان يقول: إن أخبار فرقتنا وصلت إلى حد التواتر، (5) وأعجب من ذلك أن جمعا من ثقاتهم رووا خبرا وحكموا عليه بالصحة، وآخرين كذلك حكموا عليه بأنه موضوع مفترى، وهذه الأخبار كلها في صحاحهم كما أن ابن بابويه حكم بوضع ما روي في تحريف القرآن وآياته، ومع ذلك فتلك الروايات ثابتة في (الكافي) بأسانيد صحيحة بزعمهم، إلى غير ذلك من المفاسد، والله سبحانه يحق الحق وهو يهدي السبيل.

_________

(1) يدل على ذلك كتاب الحلي (مختلف الشيعة في أحكام الشريعة)، فرغم ادعائهم أن ما في الكتب الأربعة في حكم المتواتر عندهم عن (المعصوم)، لكن منها ما رواه عمار بن موسى قال: «سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول لو أن رجلا نسي أن يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة». وأخرج الرواية الكليني، الكافي: 1/ 49؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 2/ 201، قال الحلي: «وفي سنده عمار وهو ضعيف، لذا حمل الطوسي الخبر على من نسي الاستنجاء بالماء واستنجى بالحجر». مختلف الشيعة: 1/ 272، وكلام الطوسي في تهذيب الأحكام: 2/ 201. بل ضعف الحلي الأحاديث التي يطلق عليها أيضا لفظ (الصحيح) عندهم، مثال ذلك: «روى محمد بن مسلم في الصحيح عن الصادق - عليه السلام - عن الرجل إذا أجنب ولم يجد الماء فتيمم وصلى هل يعيد ... الرواية؟» أخرجها الكليني، الكافي: 3/ 65؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 1/ 149؛ ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 1/ 105. قال الحلي: «سنده ضعيف». مختلف الشيعة: 1/ 440. وضعف الحلي أيضا أحاديث كثيرة من كتبهم الأربعة في كتابه (مختلف الشيعة)، ينظر مثلا: 1/ 448، 2/ 27، 2/ 66، 2/ 174، 2/ 293، 2/ 373، 3/ 55، 3/ 229.

(2) المعروفون بالأحول من رجال الشيعة كثيرون منهم أبو سعيد الأحول، وبكر ابن عيسى أبو زيد الأحول، وجعفر بن محمد بن يونس الأحول الصيرفي مولى بجيلة، وجعفر ابن يحيى بن سعيد الأحول، وحبيب الأحول الخثعمي، والحسين بن عبد الملك الأحول. بل إن الخبيث عدو الله شيطان الطاق كان يلقب بالأحول أيضا.

(3) لم يذكر له الشيعة جرحا ولا تعديلا. رجال النجاشي: 1/ 307؛ معجم رجال الحديث: 5/ 11.

(4) هو أحمد بن عبيد الله بن الحسن بن عياش بن إبراهيم الجوهري، قال النجاشي: «كان قد سمع الحديث فأكثر واضطرب في آخر عمره ... ورأيت شيوخنا يضعفونه، فلم أروِ عنه شيئا وتجنبته»، مات سنة 410هـ. رجال النجاشي: 1/ 225؛ تنقيح المقال: 1/ 88.

(5) كذا صرح المقتول الثاني في معالم الدين: ص 212.

(1/69)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

الباب الثالث في الإلهيات

وفيها مطالب

الأول (1) أن النظر في معرفة الله تعالى واجب بالاتفاق، ولكنه قد وقع الاختلاف في أن هذا الوجوب الوجوب هل هو عقلي أو شرعي، فذهب الإمامية إلى الأول قائلين ما معناه: إنه فرض على كل مكلف بحكم العقل مع قطع النظر عن حكم الله تعالى، وذلك بأن يحكم العقل على كل مكلف أن يتفكر في صفات الله تعالى ويعرفه بتلك الصفات وجوبا. وذهب إلى الثاني أهل السنة قائلين: إن الوجوب شرعي، بمعنى أن النظر في المقدمة غير واجب بدون حكم الله تعالى، وليس للعقل حكم في امر من أمور الدين. (2)

ومذهب الإمامية مخالف أيضا للكتاب والعترة: أما مخالفته للكتاب فلأنه قال: سبحانه {إن الحكم إلا لله} وقال {ألا له الحكم} وقال {لا معقب لحكمه} وقال تعالى {يفعل ما يشاء} و {يحكم ما يريد} وقال تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}. إذ لو كان أمرا واجبا بحكم العقل لوقع العذاب بترك ذلك الواجب قبل بعثة الرسل، واللازم باطل فكذا الملزوم. وأما مخالفته للعترة فلأنه قد روى الكليني في الكافي عن الإمام أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: «ليس لله على خلقه أن يعرفوه، ولا للخلق على الله تعالى أن يعرفهم». (3) فلو كانت المعرفة واجبة بحكم العقل لكانت معرفته تعالى واجبة على الخلق قبل تعريفه جل شأنه وهو خلاف قول الصادق.

واعلم أن تحقيق هذه المسالة وبيان الاختلاف الواقع فيها يتوقف على تحقيق مسألة الحسن والقبح والاختلاف الواقع فيها، فلا بد حينئذ من بيان ذلك.

فكل من الحسن والقبح يطلقان على ثلاثة معان: أحدهما كمال الشيء كالعلم ونقصانه الجهل.

وثانيهما ملائمة الطبع كالعدل والعطاء ومنافرته كالظلم والمنع ويقال لهما

_________

(1) قال ابن تيمية عن الإمامية: «وأما عمدتهم في النظر والعقليات فقد اعتمد متأخروهم على كتب المعتزلة، ووافقوهم في مسائل الصفات والقدر، والمعتزلة في الجملة أعقل وأصدق وليس في المعتزلة من يطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، بل هم متفقون على تثبيت خلافة الثلاثة» منهاج السنة النبوية.

(2) قال ابن أبي العز في بيان عقيدة أهل السنة: «ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين». شرح العقيدة الطحاوية

(3) الكافي: 1/ 164.

(1/70)

________________________________________

بهذا المعنى مصلحة ومفسدة.

وثالثهما استحقاق المدح والثواب والذم والعقاب عاجلا وأجلا. ولا نزاع لأحد في كونهما عقليين بالمعنيين الأولين، وإنما النزاع في كونهما عقليين أو شرعيين بالمعنى الثالث فقط، فقالت الأشاعرة إن الحسن والقبح بهذا المعنى لا غير، بمعنى أن الشرع ما لم يرد بأن هذا الفعل حسن أي مستحق فاعله للمدح والثواب، وذلك الفعل قبيح مستبدا فاعله للذم والعقاب عاجلا أو أجلا، لا يوصفان بالحسن والقبح، إذ يحكم العقل مستبدا على الأفعال بهما بهذا المعنى في خطاب الله، لعدم كون الجهة المحسنة والمقبحة في أفعال العباد عندهم مطلقا، لا لذاتها ولا لصفاتها ولا لاعتبارات فيها، بل كل ما أمر به الشارع فهو حسن وكل ما نهى عنه فهو قبيح، حتى لو انعكس الحكم لانعكس الحال كما في النسخ من الوجوب إلى الحرمة، فليس للعقل حكم في حسن الفعال وقبحها، وفي كون الفعل سببا للثواب والعقاب، بل إنما الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع، فالأمر والنهي أمارة موجبة للحُسن والقبح لا غير، وتمسكوا على ذلك بوجوه:

الأول أن الأفعال كلها سواء ليس شيء منها في نفسه يقتضي مدح فاعله وثوابه ولا ذم فاعله وعقابه، لأن اقتضاءها لما ذكر إما أن يكون لذواتها، أو لصفاتها، أو لاعتبارات فيها انفرادا واجتماعا، تعينا أو إطلاقا. فهذه ثمانية احتمالات حاضرة كلها باطلة: أما بطلان الأول فلأن فعلا واحدا قد يتصف بالحسن والقبح معا باعتبارين كلطم اليتيم ظلما أو تأديبا والقتل حدا أو سفكا. فلو كان هذا الاتصاف لذات الفعل فقط - كما هو المفروض في هذا الاحتمال - فإن كانت الذات مقتضية لهما معا لزم صدور الأثرين المتضادين من مؤثر واحد واجتماع النقيضين، أو لأحدهما مطلقا لزم تخلف المعلول عن العلة الموجبة في الآخر، وبالاطلاق تخلفهما جميعا ورجحان بلا مرجح في الاقتضاء، واللوازم كلها باطلة. وأما بطلان الثاني فلأنه إن كانت تلك الصفات لازمة للذات لزم اجتماع النقيضين مطلقا، والصدور والتخلف إن كانت العلة الموجبة لهما صفة واحدة فهو ظاهر، وإن كانت من العرض المفارق فلأن عروضها إما لذات الفعل أو لصفة أخرى لها، ولا سبيل إلى الثاني لبطلان الشبه، وكذا إلى الأول لبطلان قيام العرض بالعرض، أو لمجموعهما فينقل الكلام إلى عروض تلك الصفة

(1/71)

________________________________________

الآخرى، فحينئذ يلزم هاهنا ما يلزم ثمة. (1)

وأما بطلان الثالث فلأن الاعتبارات أمر عدمي ولا يكفي في العلّية وجود المنشأ، والحسن والقبح بالمعنى فيه من الوجوديات، ولا يكون علة الوجودي اللاوجودي، مع أن تضاف إليه تلك الإعتبارات أفعال أيضا فحسنها وقبحها إن كان بالمعنى المتنازع فيه لزم الدور والتسلسل، (2) أو بمعنى غيره فلا يلزم سراية الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه باعتباره في المضاف للتباين. وأما بطلان الاحتمالات الباقية فظاهر، إذ فساد أجزاء المجموع كلها يستلزم فساده وفساد المعينات طرأ فساد المطلق ولا محالة بالضرورة. فقد تبين من هذا البيان أن الأفعال في نفسها لا اقتضاء لها ما ذكر مطلقا (3) وإنما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها، (4) كما أن الأعيان كانت في العدم فاختصاصها وتشخصاتها في الوجود بانحاء الحقائق والعوارض لا لذواتها ولا لعوارضها ولا لاعتبارات فيها بل لجاعلها وإرادته الأزلية المرجحة فقط، على أن تعلق الثواب والعقاب بالأفعال أمر مجهول غير معقول المعنى.

الثاني: أن الثواب والعقاب ليسا بواجبين على الله تعالى، بل هما تفضل ورحمة وعدل وحكمة، فلو كانت الأفعال تقتضي الحسن والقبح لذاتها أو لجهة واتعبار فيها لكانا واجبين وقد بين بطلان اللازم.

الثالث: أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله، بل أفعاله مخلوقة لله تعالى كما بينت، فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليها.

الرابع: أنه لو كان حسن الفعل وقبحه عقليين للزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد به الشرع أم لا، واللازم باطل لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (5) ولقوله تعالى {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا} وكذا عدم الحجة للناس على الله تعالى، وكذا لزم عدم بقاء

_________

(1) قال ابن تيمية: «إن الأفعال لم تشتمل على صفات هي أحكام ولا على صفات هي علل للأحكام، بل القادر أمر بأحد المتماثلين دون الآخر لمحض الإرادة لا لحكمة ولا لرعاية مصلحة في الخلق والأمر، ويقولون إنه يجوز أن يأمر الله بالشرك بالله وينهى عن عبادته وحده ويجوز أن يأمر بالظلم والفواحش وينهى عن البر والتقوى، والأحكام التي توصف بها الأحكام مجرد نسبة وإضافة فقط، وليس المعروف في نفسه معروفا عندهم ولا المنكر في نفسه منكرا عندهم بل إذا قال يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فحقيقة ذلك عندهم أنه يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم بل الأمر والنهي والتحليل والتحريم ليس في نفس الأمر عندهم لا معروف ولا منكر ولا طيب ولا خبيث إلا أن يعبر عن ذلك بما يلائم الطباع وذلك لا يقتضي عندهم كون الرب يحب المعروف ويبغض المنكر، فهذا القول ولوازمه هو أيضا قول ضعيف مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف والفقهاء مع مخالفته أيضا للمعقول الصريح فإن الله نزه نفسه عن الفحشاء». مجموع الفتاوى: 8/ 433 ..

(2) قال الجرجاني: «التسلسل: هو ترتيب أمور غير متناهية، وأقسامه أربعة: لأنه لا يخفي إما أن يكون في الآحاد المجتمعة في الوجود، أو لم يكن فيها كالتسلسل في الحوادث، والأول إما أن يكون فيها ترتيب أو لا والثاني كالتسلسل في النفوس الناطقة، والأول إما أن يكون ذلك الترتيب طبيعيا كالتسلسل في العلل والمعلولات والصفات والموصوفات أو وضعيا كالتسلسل في الأجسام والمستحيل عند الحكم الأخير دون الأولين». التعريفات: ص 80.

(3) أي لا تقتضي مدح فاعلها أو ذمه مطلقا.

(4) قال ابن تيمية: «إن الشارع إذا أمر بشيء صار حسنا وإذا نهى عن شيء صار قبيحا واكتسب الفعل صفة الحسن والقبح بخطاب الشارع». مجموع الفتاوى: 8/ 436.

(5) قال القرطبي: «أي لم نترك الخلق سدى بل أرسلنا الرسل، وفي هذا دليل على أن الأحكام لا تثبت إلا بالشرع خلافا للمعتزلة القائلين بأن العقل يقبح ويحسن ويبيح ويحظر». الجامع لأحكام القرآن: 10/ 231.

(1/72)

________________________________________

العذر قبل بعث الأنبياء، ولزم اللغو أيضا في سؤال الرب والملائكة عبادة الكفار في الآخرة تبكيتا وإفحاما عن مجئ الرسل. واللوازم كلها باطلة بقوله تعالى {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، (1) {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى} {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين}، {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا} الآية، {كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم ياتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير} الآية، {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى} الآية. على أن قوله تعالى {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} بعد قوله {يا معشر الجن والإنس} الآية يدل بالصراحة على أن أهل القرى قبل إرسال الرسل يكونون غافلين وإهلاكهم تعذيبا يكون ظلما، فلو كان حسن الأفعال وقبحها عقليين وكان النظر في معرفته واجبا عقلا لما صح ذلك القول أصلا كما لا يخفى. ولا يمكن تعميم الرسل في هذه الآية حتى يشمل العقل أيضا بالضرورة. ألا ترى أن التلاوة والقصة لآيات الله لا يصح إسنادها إلى العقل أصلا ومع هذا فإن «الرسول» في اللغة هو المبلغ لكلام أو كتاب من أحد إلى آخر، وفي الشرع هو إنسان بعثه الله تعالى إلى الخلق ليدعوهم إليه بشريعة مجددة، وهما معناه الحقيقي - اللغوي والمفهوم الشرعي - ولم يثبت أصلا استعماله في العقل لا لغة ولا شرعا حتى يقال بعموم المجاز، وإنما هو اختراع بعض المتكلمين من المعتزلة لتأييد مذهبهم. وأيضا كان العقل للكفار حاصلا في الدنيا، فكيف يصح اعتذارهم بعدم إرسال الرسل في الآخرة.

فثبت بهذه الوجوه أن الحسن والقبح ليسا إلا شرعيين، ولا يستقبل العقل في إدراكهما بدون الشرع قطعا. قالت المعتزلة ومن تبعهم: إن الحسن والقبح عقليان بمعنى أن الأفعال

_________

(1) قال البغوي: «وفي هذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسول ... ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين». تفسير البغوي: 1/ 500 - 501.

(1/73)

________________________________________

في نفسها - مع قطع النظر عن الشرع - فيها جهة حسن أو قبح تقتضي مدح فاعله وثوابه أو ذمه وعقابه، لكن تلك الجهة قد تدرك بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، وقد تدرك بالنظر كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع مثلا، وقد لا يدركها العقل بنفسه - لا بالضرورة - بالنظر إلا إذا ورد الشرع به، فإذن يعلم أن فيها جهة محسنة أو مقبحة كما في صوم اليوم الآخر من رمضان وصوم يوم العيد، فإدراك الحسن والقبح في هذا القسم موقوف على كشف الشرع عنهما بالأمر والنهي، وأما انكشافهما بالقسمين الأولين فهو محض حكم العقل بدون توقفه على الشرع. ثم اختلفوا بينهم فقال المتقدمون منهم: إن حسن الأفعال وقبحها لذواتها فقط، وقال بعض المتأخرين منهم: إنما لصفة زائدة على الذات دونها، وبعضهم قالوا: إن جهة القبح في القبيح مقتضية لقبحه دون الحسن، إذ لا حاجة إلى صفة توجب الحسن بل يكفيه انتفاء صفة موجبة للقبح، وقال الجبائي وأتباعه: ليس حسن الأفعال وقبحها لذواتها ولا لصفات حقيقية بل لاعتبارات وأوصاف إضافية تختلف بحسب الاعتبار كما في لطم اليتيم للتأديب أو الظلم. وقال بعض أتباع المعتزلة إنهما للمطلق الأعم، واستدلوا على ذلك بوجوه:

(الأول) أن حسن مثل العدل والإحسان وقبح مثل الظلم والكفران مما اتفق عليه العقلاء حتى الكفار كالبراهمة والدهرية وغيرهما حتى أنهم يستقبحون ذبح الحيوانات بأنه إيلام، فلولا أنه ذاتي للفعل بحيث يعلم بالعقل لما كان كذلك. (1) وأجيب عنه بأن هذا غير متنازع فيه، لأنه من قسم الحسن والقبح اللذين هما بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته وهو ليس بمتنازع فيه، والمتنازع فيه هو بمعنى تعلق الثواب والمدح والعقاب والذم وهو غير لازم من الدليل، فالتقريب غير تام.

(الثاني) أن من تساوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب بحيث لا مرجح بينهما ولا علم باستقرار الشرع على تحسين الصدق وتقبيح الكذب فإنه يؤثر الصدق قطعا بلا تردد وتوقف، فلولا أن حسنه مركوز في عقله لما اختاره كذلك. وكذا إنقاذ من أشرف على الهلاك حيث لا يتصور للمنقذ نفع ولا غرض ولو مدحا وثناء كالمجنون والصبي وليس ثمة من يراه.

_________

(1) قال ابن حزم: «القول الصحيح هو أن العقل الصحيح يعرف بصحته ضرورة أن الله تعالى حاكم على كل ما دونه وأنه تعالى غير محكوم عليه وأن كل ما سواه تعالى فمخلوق له عز وجل». الفصل: 3/ 60.

(1/74)

________________________________________

والجواب عنه بأن إيثار الصدق فيه لتقرر كونه ملائما في النفوس لغرضه العامة ومصلحة العالم وكون الكذب عكس ذلك، ولا يلزم من فرض التساوي تحققه، فإيثاره الصدق لملائمته تلك المصلحة لا لكونه حسنا في نفسه، فلو فرضنا الاستواء من كل وجه فإيثار الصدق قطعا ممنوع، وإنما القطع بذلك عند الفرض والتقدير بتوهم أنه قطع عند وقوع المقدر المفروض، والفرق بينهما بين. وأما إنقاذ الهالك فلرقة الجنسية المجبولة في الطبيعة، فكأنه يتصور تلك الحالة لنفسه فيجره استحسان ذلك الفعل من غيره في حق نفسه إلى استحسانه من نفسه في حق غيره، وبالجملة لا نسلم أن إيثار الصدق عند من لم يعلم استقرار الشرائع على حسنها إنما هو لحسنهما عند الله تعالى على ما هو المتنازع فيه بل لأمر آخر.

(الثالث) أنه لو كانا شرعيين لكانت الصلاة والزنا متساويين في نفس الأمر قبل بعثة الرسول فجعل أحدهما واجبا والآخر حراما ليس أولى من العكس، بل ترجيح من غير مرجح ومناف لحكمه الآمر وهو حكيم قطعا. والجواب عنه بأن الأفعال قد بين سابقا تساويها في نفس الأمر بعدم الاقتضاء قبل ورود الشرع بدليل واضح، فبطلان اللازم ممنوع، ثم جعل بعضها واجب وبعضها حرام لحكم ومصالح من الآمر الحكيم، فالأولوية ترجع إلى تلك الحكم والمصالح بعد ورود الشرع بالوجوب، لا للأفعال مطلقا من عدم اقتضائها تلك الأولوية، والإرادة الأزلية مرجحة بعض الأفعال ببعض الصفات وبعضها ببعض، كما أنها مرجحة لتخصيص الأعيان بالحقائق والعوارض المخصوصة من غير اقتضاء ذواتها لها، وإنما يلزم المنافاة لحكمة الآمر الحكيم إذا لم يكن في ذلك التخصيص مراعاة للمصلحة والحكمة وهو باطل بالاتفاق، فالترجيح بعير مرجح، والمنافاة للحكمة ممنوع أيضا لما ذكرنا.

(الرابع) أنه لو كانا شرعيين لكان إرسال الرسل بلاء وفتنة لا رحمة، لأنهم كانوا قبل ذلك في رفاهية لعدم صحة المؤاخذة بشئ مما يستلذه الإنسان، ثم بعد مجئ الرسل صاروا ببعض تلك الأفاعيل في عذاب أبدي، فأية فائدة في إرسال الرسل إلا التضييق وعذاب عبادة فصار بلاء، هذا خُلف، لأنه رحمة يمن الله به على عباده في كثير من مواضع تنزيله.

(1/75)

________________________________________

والجواب عنه أولا بالنقض بأنه لو تم دليلكم فكانا عقليين لكان العقل أيضا بلاء وقتنة لا نعمة ورحمة ولو باعتبار بعض الأفعال كالشرك وكفران النعمة، لأن المجنون والصبي في رفاهية لعدم صحة مؤاخذتهم بشئ مما يفعلونه، ثم بعد حصول العقل لهم يصيرون في عذاب أبدي ببعض تلك الأفاعيل، فأية فائدة في إعطائهم إلا الإهلاك والتعذيب، فصار العقل بلاء على الإنسان، هذا خلف، لأن الله تعالى يمن بإعطائه على عباده في تنزيله حيث قال {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} و {قل هو الذي أنشاكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون} و {علم الإنسان ما لم يعلم} (1) وغيرها من الآيات، فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا عن ذلك. ثانيا بالمعارضة بأنه لو لم يكونا شرعيين لكان إرسال الرسل عبثا باعتبار بعض الأفعال الذي هو أعظم قدرا وأشد خطرا، وكان الأنبياء يدعون الناس أولا إلى فعله وتركه لأن العقل يكون مستبدا في إدراك حسن بعض الأفعال كالإيمان وقبح بعضها كالكفر بالضرورة أو بالنظر على هذا التقدير لا محالة، والعاقل يمكنه العمل بما يقتضيه عقله بل يجب فلا فائدة معتدا بها في إرسال الرسل إلا في بعض الأفعال التعبدية. وثالثا بمنع بطلان اللازم كون إرسال الرسل بلاء وفتنة وهو باعتبار مشاق التكاليف لا ينافي كونه رحمة من وجه آخر باعتبار تهذيب النفس وإصلاح المعاد والمعاش بما قال الله تعالى {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} لأن تلك الكلمات وهي الخصال الثلاثون المحمودة المذكورة في سورة براءة والمؤمنين والأحزاب مع كونها رحمة وقع البلاء بها وبما قال الله تعالى {وبلوناهم بالحسنات والسيئات} أي بالنعم والنقم {لعلهم يرجعون} إذ لو كان المنافاة بين البلاء والحسن لما صح ابتلاؤهم بالحسنات.

ورابعا بمنع الملازمة لأن ما ذكر من صيرورة بعض العباد بعذاب أبدي بعد مجئ الرسل إنما هو لتركهم اتباعهم دون الإرسال وهو شرط لتحقيق نفس الترك لا موجب له،

_________

(1) قال ابن كثير في تفسيرها: «أول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في اللسان وتارة يكون في الكتابة بالبنان ... ». تفسير ابن كثير: 4/ 529.

(1/76)

________________________________________

وإذا وجد الترك صار نقمة وبلاء عليهم لا الإرسال، إذ لا يلزم أن يتصف الإرسال بصفة مشروطة بل هو باق على صفة الرحمة التي هي محط امتنانه تعالى به على عباده، ومع هذا يرد عليهم قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {وكذلك أوحينا إليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} يعني قبل الوحي، ولو كان الأفعال وقبحها بالمعنى المتنازع فيه مدركا بالعقل قبل ورود الشرع لكان الرسول أحق وأولى بإدراكه، وما كان يصح نفي درايته عنه بالعقل قبل الوحي لأنه أعقل الناس، إذ الإيمان بمعنى الشرائع وهي مستلزمة للحسن والقبح المتنازع فيه بحيث لا يوجدان بذلك إلا معها بالضرورة، ونفي دراية الملزوم مستلزمة لنفي دراية اللازم المساوي، فقد تبين للمنصف مما ذكرنا فساد شبهاتهم التي اتخذوها دلائل، وأن الحسن والقبح بذلك المعنى ليسا إلا شرعيين وهو المطلوب.

ولما ثبت كون الأفعال وقبحها شرعيا وكان شكر المنعم من جملة تلك الأفعال ولا يمكن شكره إلا بمعرفته ولا تحصل المعرفة إلا بالنظر صار في معرفة المنعم واجبا شرعيا عند من قال بشرعية الحسن والقبح وهو الحق أو عقليا عند من قال بعقلية الحسن والقبح.

واعلم أن علماء الأصول اختلفوا في أول ما يجب على المكلف. فقال الإمام الأشعري: هي معرفة الله تعالى إذ يتفرع وجوب الواجبات وحرمة المنهيات. وقال المعتزلة والأستاذ منا: هو النظر فيها إذ هي موقوفة عليه، ومقدمة الواجب المطلق أيضا واجبة، وقيل هي الجزء الأول من النظر أي الحركة من المطالب إلى المبادئ. وقال إمام الحرمين والقاضي أبو بكر وابن فورك: هو المقصد إلى النظر لتوقف الأفعال الاختيارية وأجزائها على القصد، والنظر فعل اختياري.

ثم اعلم أن النظر في معرفة الله تعالى واجب شرعا عند الأشاعرة لقوله تعالى {فانظروا إلى آثار رحمة الله} و {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «تفكروا في آلاء الله» (1) والأمر هاهنا للوجوب لقوله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلت آية {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} الآية: «ويل لمن لاكها بين لحييه

_________

(1) المعجم الأوسط وحسنه في صحيح الجامع: 2975.

(1/77)

________________________________________

ولم يتفكر فيها» فإنه - صلى الله عليه وسلم - أوعد بترك الفكر في دلائل معرفة الله تعالى، ولا وعيد على ترك غير الواجب. وأيضا أن معرفة الله تعالى واجبة إجماعا، وهي لا تتم إلا بالنظر وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب أيضا كوجوبه. وعند المعتزلة واجب عقلا لأن شكر المنعم واجب عقلا عندهم وهو موقوف على معرفة الله المنعم، ومقدمة الواجب المطلق واجبة أيضا هذا بناء على قولهم بكون الحسن والقبح عقليين كما عرفت آنفا.

واحتجت المعتزلة على كونه واجبا عقلا بأنه لو لم يجب النظر إلا بالشرع يلزم منه إفحام الأنبياء وعجزهم عن إثبات نبوتهم في مقام المناظرة، إذ يجوز للمكلف حينئذ أن يقول إذا أمره النبي بالنظر في معجزة وغيرها مما تتوقف عليه نبوته ليظهر له صدق دعواه: لا أنظر ما لم يجب النظر علي، ولا يجب النظر على ما لم يثبت الشرع عندي، إذ المفروض عدم الوجوب إلا به، ولا يثبت الشرع على الآخر وهو دور محال، ويكون كلامه هذا حقا لا قدرة للنبي على دفعه، وهو معنى إفحامه. وأجيب عنه أولا بالنقض بأن ما ذكرتم مشترك بين الوجوب الشرعي والعقلي معا، فما هو جوابكم فهو جوابنا. (1) وبيان الاشتراك أن النظر لو وجب بالعقل لوجب بالنظر لأن وجوبه ليس معلوما بالضرورة بل بالنظر فيه والاستدلال عليه بمقدمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من أن المعرفة واجبة وأنها لا تتم إلا بالنظر وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيصح للمكلف أن يقول حيئذ أيضا: لا أنظر أصلا ما لم يجب على النظر، ولا يجب ما لم أنظر فيلزم الدور المحذور. لا يقال قد يكون وجوب النظر فطري القياس بأن يضع النبي للمكلف مقدمات ينساق ذهنه إليها بلا تكليف وتفيده العلم بذلك ضرورة، لأنا نقول: كونه فطري القياس مع توقفه على ما ذكرتموه من المقدمات الدقيقة الأنظار باطل قطعا، ولو سلمناه بأن يكون هناك دليل آخر ولكن لا يجوز للمكلف أن لا يصغي إلى كلام النبي الذي أراد به التنبيه ولا يستمع به ولا يأثم بترك النظر والاستماع، إذ لم يثبت بعد وجوب شيء أصلا فلا يمكن الدعوة وإثبات النبوة وهو المراد بالإفحام. وثانيا

_________

(1) قال ابن تيمية: «وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسنة، مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه، فكان فيما جاء به الرسول من الأدلة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين». منهاج السنة النبوية: 2/ 110.

(1/78)

________________________________________

بالحل بأن قوله «لا يجب النظر على ما لم يثبت الشرع عندى» إنما يصح إذا كان الوجوب المستفاد من العلم بثبوت الشرع ولكنه لا يتوقف، كذلك العلم بالوجوب متوقف على نفس الوجوب، لأن العلم بثبوت شيء فرع لثبوته في نفسه فإنه إذا لم يثبت في نفسه كان اعتقاد ثبوته جهلا مركبا لا علما، فلو توقف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور، وأن لا يجب شيء على الكافر أيضا، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفا على العلم بالوجوب بل تقول: الوجوب في نفس الأمر يتوقف على ثبوت الشرع في نفس الآمر، والشرع ثابت في نفس الأمر علم مكلف ثبوته ونظر فيه أولا، وكذلك الوجوب، ولا يلزم من هذا تكليف الغافل لأن الغافل إنما هو من لم يتصور التكليف لا من لم يصدق به، فإن قال المكلف: وما أعرف الوجوب في نفس الأمر، وما لم أعرفه لم أنظر، قلنا: ماذا تريد بالوجوب؟ فإن قال: أريد به ما يكون ترك ما اتصف به إثما وفعله ثوابا، قلنا له: فقد ثبت الشرع حيث قلت بالثواب والإثم فبطل قولك ما أعرف الوجوب بقولك، فاندفع الإفحام.

وإن قال: أردت به ما يكون ترك ما أتصف به قبيحا لا يستحسنه العقلاء، ويترتب عليه المفسدة، قلنا له: فأنت تعرف الوجوب إذا رجعت إلى عقلك وتأملت فيه به، إذ يعرف كل عاقل قبح ترك ما اتصف به ومفسدته، فبطل قولك «لم أنظر ما لم أعرف الوجوب» واندفع الإفحام. وليس فيه لزوم القول بالحسن والقبح العقليين لأنهما ليسا هاهنا بالمعنى المتنازع فيه بل بالمعنى المتفق عليه كما لا يخفى، وإذا عرفت ما حققنا عرفت أن ما قال الأشاعرة هو الحق. (1)

ثم اعلم أن الماتريدية من أهل السنة وافقوا أهل الأعتزال في هاتين المسألتين، وكذا الروافض مقتفون على آثارهم في ذلك، ولكن الفرق بين الماتريدية وبين هاتين الفرقتين الضالتين أن الماتريدية لا يستلزم عندهم كون الحسن والقبح عقليا حكما من الله تعالى في العبد، بل يصير موجبا لاستحقاق الحكم من الحكيم الذي لا يرجح المرجوح، فالحاكم هو الله تعالى فقط، والكاشف هو الشرع، فما لم يحكم الله تعالى بإرسال الرسل، وإنزال

_________

(1) قال ابن تيمية: «فإن المعارف التي تحصل في النفس بالأسباب الاضطرارية أثبت وأرسخ من المعارف التي ينتجها مجرد النظر القياسي الذي ينزاح عن النفوس في مثل هذه الحال». مجموع الفتاوى: 8/ 194.

(1/79)

________________________________________

الكتب ليس هناك حكم أصلا فلا يعاقب أهل زمان الفترة لترك الأحكام، بخلاف المعتزلة والإمامية خذلهم الله تعالى، فإن كلا من الحسن والقبح يوجب الحكم عندهم من الله تعالى، فلولا الشرع وكانت الأفعال بإيجاد الله تعالى لوجبت كما فصلت في الشريعة.

الثاني منها (1) أن الله تعالى حي بالحياة وعالم بالعلم وقادر بالقدرة، وعلى هذا القياس صفته ثابتة له كما تطلق الأسماء على الذات. وقال الإمامية كلهم: ليس لله تعالى صفات أصلا، ولكن تطلق على ذاته تعالى الأسماء المشتقة من تلك الصفات فيجوز أن يقال إن الله تعالى حي وسميع وبصير وقدير وقوي ونحو ذلك، ويمتنع أن يقال أن له حياة وعلما وقدرة وسمعا وبصرا ونحوها، وأنت خبير أن عقيدتهم هذه مع كونها خلاف المعقول لأن إطلاق المشتق على ذات لا يصح بدون قيام مبدئه بها، إذ الضارب إنما يطلق على ذات قام الضرب بها، وبدون قيامه لا يحمل المشتق ولا يطلق مخالفة للثقلين أيضا (2) أما الكتاب فيثبت في آياته الكثيرة هذه الصفات له تعالى كقوله تعالى {ولا يحيطون بشئ من علمه} وقوله تعالى {أنزله بعلمه} وقوله تعالى {وسعت كل شيء رحمة وعلما} وقوله تعالى {يريدن أن يبدلوا كلام الله} - وأما العترة فلما ذكر في نهج البلاغة في خطب الأمير في أكثر المواضع من هذه الصفات مثل «عزت قدرته، ووسع سمعه الأصوات» (3) وعن الأئمة الآخرين مروي بالتواتر إثبات هذه الصفات له تعالى.

الثالث منها صفاته تعالى الذاتية قديمة لم يزل موصوفا بها، قال زرارة بن أعين وبكير ابن أعين وسليمان ومحمد بن مسلم الذين هم كانوا قدوة الإمامية ورواة أخبارهم: إن الله تعالى لم يكن عالما في الأزل ولا سميعا ولا بصيرا حتى خلق لنفسه علما وسمعا وبصرا كما خلقها لبعض المخلوقات فصار عالما وسميعا وبصيرا. ومخالفة هذه العقيدة لكتاب الله أظهر من الشمس، فإنه وقع في كثير من مواضعه {وكان الله عليما حكيما} و {عزيزا حكيما}

_________

(1) أي من مطالب الإلهيات.

(2) أي كتاب الله وما عليه أهل بيت رسوله.

(3) نهج البلاغة

(1/80)

________________________________________

و {سميعا بصيرا} ونحوها.

وأما مخالفتها للعترة الطاهرة فلما رواه الكليني عن أبي جعفر - عليه السلام - أنه قال: كان الله ولم يكن شيء غيره ولم يزل عالما. (1)

وروى الكليني وجمع آخرون من الإمامية عليهم السلام أنهم كانوا يقولون: إن الله سبحانه لم يزل عالما سميعا بصيرا. (2)

ومع هذا يرد عليهم أن يكون الله محلا للحوادث وهو باطل بالضرورة.

الرابع منها أن الله تعالى قادر على كل شيء، خالف الشيخ أبو جعفر الطوسي والشريف المرتضى وجمع كثير من الإمامية في ذلك، فإنهم قالوا إن الله لا يقدر على عين مقدور العبد. (3) ويكذبهم قوله تعالى {والله على كل شيء قدير} وهو كاف لتكذيبهم.

الخامس منها أن الله تعالى عالم بكل شيء قبل وجوده، وهذا هو معنى التقدير، يعنى أن كل شيء في علمه مقدر وكل شيء عنده بمقدار، بأن يكون كذا وكذا ويوجد في وقته على وقفه. قالت الشيطانية - وهم أتباع شيطان الطاق -: إنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل كونها، وجماعة من الاثني عشرية من متقدميهم ومتأخريهم منهم المقداد (4) صاحب (كنز العرفان) قالوا: إن الله لا يعرف الجزئيات قبل وقوعها. وهذه العقيدة مخالفة للقرآن، قال تعالى {لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} وقال {والله بكل شيء عليم} وقال {قد أحاط بكل شيء علما} وقال {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} وقال {إنا كل شيء خلقناه} وقال {جعل الله الكعبة البيت الحرام - إلى قوله - ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض} يعني أن الله جعل الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد شعائره ليجلب إليكم مصالحكم ويدفع عنكم مضاركم، وتلك المصالح معلومة له قبل وقوعها. وقال {ولا رطبٍ ولا يابسٍ

_________

(1) الكافي: 1/ 107.

(2) عن الباقر كما في الكافي: 1/ 86؛ وروي عن الرضا كما في عيون أخباره: 2/ 121.

(3) لأن أفعال العباد عند الإمامية هي من خلق الإنسان، كما ذكر ذلك شيخهم المفيد بقوله: أفعال العباد غير مخلوقة لله. شرح عقائد الصدوق: ص 27.

(4) ابن عبد الله السيوري من القرن التاسع مترجم في روضات الجنات.

(1/81)

________________________________________

إلا في كتاب مبين} وأخبر بوقعة الروم وفارس قبل وقوعها بقوله: {الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} وقد أخبر الله رسوله بالوقائع الجزئية الماضية والآتية والحاضرة في زمن الوحي وأخبارا كثيرة في التنزيل، ومن يطلع عليها لا يشك فيها أصلا، وفيه كثير من الإخبار بأحوال الجنة والنار ومكالمتهم كقوله تعالى {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار - إلى قوله - ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} وقد وصل بالتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل البيت أنهم أخبروا بالوقائع والفتن الأتية، وظاهر أن علمهم كان مأخوذا من وحي الله وإلهامه.

وما يتمسك هؤلاء القائلون من القرآن المجيد بالآيات الدالة على حدوث علم الله عند حدوث الأشياء كقوله {ويعلم الصابرين} وأمثال ذلك، أو الدالة على الأختيار كقوله {وليبلوكم فيما آتكم} {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} ففاسد، إذ المراد من هذا العلم كشف حالهم وتمييزها في الخارج لا المعنى الحقيقى.

وأما المخالفة للعترة فلما روى أهل السنة والشيعة عن أمير المؤمنين أنه قال «والله لم يجهل ولم يتعلم، أحاط بالأشياء علما فلم يزدد بكونها علما، علمه بها قبل أن يكونها كعلمه بها بعد تكوينها» (1) وروى على ابن إبراهيم (2) القمي من الاثني عشرية عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: سألته هل يكون شيء اليوم لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: لا، من قال هذا فأخزاه الله. قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله بالأمس؟ قال: بلى، قبل أن يخلق الخلق. (3) إلى غير ذلك من صحاح الأخبار.

السادس منها أن القرآن المجيد هو كلام الله ولم يتطرق إليه تحريف ولا تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان قط ولم يكن لهذه الأمور إليه من سبيل أبدا. وقالت الاثنا عشرية ما هو موجود اليوم في أيدي المسلمين محرف ومبدل ومزاد فيه ومحذوف منه، وقد تقدم في ذلك وقد خالفوا في عقيدتهم هذه قول الله تعالى {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} وقال تعالى {إنا نحن نزلنا

_________

(1) الكافي: 1/ 135؛ ابن بابويه، التوحيد: ص 41؛ المجلسي، بحار الأنوار: 57/ 164.

(2) ابن هاشم. له ترجمة في تنقيح المقال.

(3) الكافي: 1/ 148؛ المجلسي، بحار الأنوار: 4/ 89.

(1/82)

________________________________________

الذكر وإنا له لحافظون} وكل ما يكون الله حافظا له كيف يمكن تبديله وتغييره؟ أيضا تبليغ القرآن كما كان ينزل كان واجبا على النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} ومعلوم باليقين أن من كان أسلم في عهده - عليه السلام - اشتغل أولا بتعلم القرآن ثم بتعليمه حتى حفظه في عهده ألوف من الرجال، ثم من بعد ذلك المسلمون في جميع البلاد والقرى مشغولون بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار في الصلاة وخارجها لعلمهم بأنها أعظم القربات، ويعلمونه للأطفال قبل تعليم كل شيء، فإذا كان كذلك فكيف يتصور في القرآن تغيير وتبديل لا يشعر به المشتغلون فيه! أما مخالفة هذه العقيدة للعترة ففي كل روايات الإمامية مذكور أن أئمة أهل البيت كلهم يقرأون هذا القرآن ويتمسكون بعامه وخاصه ويوردونه استشهادا ويفسرونه، والتفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري إنما هو لهذا القرآن، (1) ويعلمونه أولادهم وخدامهم وأهلهم ويأمرونهم بتلاوته في الصلاة، ومن ثمة قد أنكر شيخهم ابن بابويه في كتاب اعتقاداته هذه العقيدة وتبرأ منها. (2)

السابع: منها أن الله تعالى مريد وإرادته أزلية، وما أراد وجوده في الأزل وجعله معينا في وقته فيما لا يزال لا يمكن التقدم والتأخر فيه أبدا، فكل شيء يوجد البتة في وقته بوفق تلك الإرادة، ويعتقد الإمامية أن إرادته تعالى حادثة. وأيضا يقولون إن إرادته ليست عامة لجميع الكائنات، فإن كثيرا من الموجودات يوجد بلا إرادته كالشرور والمعاصي والفسوق والكفر ونحوها، (3) وهذه العقيدة يردها آيات كثيرة من الكتاب، منها قوله تعالى {ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم} أي فلو أراد إيمانهم لزم التناقض، وقوله {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا} الآية. وقوله {إن كان الله يريد أن يغويكم} وقوله {إنما يريد الله أن يعذبهم في الدنيا} وقوله {وإذا أردنا أن نهلك قرية} الآية وقوله {من يشإ الله يضلله} وقوله {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} (4) وغيرها

_________

(1) تفسير العسكري الذي ألفه ابن بابويه

(2) الاعتقادات: ص 58.

(3) ابن بابويه في الاعتقادادت: ص 9؛ الكراكجي: كنز الفوائد: 1/ 112.

(4) «الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية، فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات». شرح العقيدة الطحاوية: ص 56.

(1/83)

________________________________________

من الآيات. وكذلك يكذب هذه العقيدة أقوال العترة أيضا: روى الكليني عن محمد بن أبي نصر (1) قال: قلت لأبي الحسن الرضا إن بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة، فقال لي: اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم. قال علي بن الحسين قال الله تعالى بمشيئتي كنت أنت» (2) إلى آخر الحديث. وروى الكليني عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله - عليه السلام -: إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور وفتح مسامع قلبه ووكل به ملكا يسدده، وإذا أراد الله بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه ووكل به شيطانا يضله، ثم تلا قوله تعالى {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} (3) وروى الكليني وصاحب المحاسن (4) عن علي إبراهيم الهاشمي قال: سمعت أبا الحسن موسى - عليه السلام - يقول: لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد العبد. (5) وروى الكليني عن الفتح بن يزيد الجرجاني (6) عن أبي الحسن ما ينص على أن إرادة العبد لا تغلب إرادة الله سواء كانت إرادة عزم أو إرادة حتم.

وأيضا روى الكليني عن ثابت بن عبد الله عن أبي عبد الله - عليه السلام - ما ينص على أن الله تعالى يريد ضلالة بعض عباده إرداة حتم، وروى عن ثابت عن سعيد مثل ذلك. ولهذا الأصل فروع كثيرة: منها ما يقول الإمامية قاطبة أن الباري لا يأمر إلا بما يريده (7) ولا ينهى إلا عما لا يريده.

وهذا أيضا مخالف للثقلين: أما الكتاب فقوله تعالى {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين} فعلم أن إرادة خروج هذه الجماعة لم تكن له تعالى لأن الكراهة ضد الإرادة وهم كانوا مأمورين بالخروج بلا شبهة وإلا فلا وجه للملامة والعتاب عليهم، (8) وقوله تعالى {يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة} وقد كانوا مأمورين بالإيمان. (9) ويوجد في القرآن ما يدل على عدم مشيئته تعالى بإيمان الكفار من الآيات قدر مائة أو أزيد، ومع ذلك كانوا مأمورين بالإيمان. وأما العترة فقد تواتر عنهم بروايات الشيعة ما يضاد ذلك بحيث لا مجال فيه للتأويل

_________

(1) في المطبوع (بصير)

(2) الكافي: 1/ 159؛ عيون أخبار الرضا: 1/ 144.

(3) الكافي: 1/ 166؛ تفسير العياشي: 1/ 376.

(4) هو البرقي

(5) الكافي: 1/ 150؛ المحاسن: 1/ 244.

(6) له ترجمة في تنقيح المقال وكتبهم الأخرى في الرجال.

(7) المفيد، شرح عقائد الصدوق: ص 37.

(8) قال القرطبي: «إن الله تعالى قد أمر جميعهم بالجهاد ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير فقعدوا». بعبارة أخرى أن الله تعالى أمرهم شرعا بالخروج ولكنه منعهم قدرا وهو خالق لكل ذلك. الجامع لأحكام القرآن: 4/ 219.

(9) قال الطحاوي في بيان عقيدة أهل السنة: «وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن». شرح العقيدة الطحاوية: ص 86.

(1/84)

________________________________________

ولا للإنكار، فمن ذلك ما روى البرقي في المحاسن والكليني في الكافي عن على بن إبراهيم وقد سبق نقله قريبا.

ومنها ما رواه الكليني عن الحسن بن عبد الرحمن الحماني عن أبي الحسن موسى بن جعفر أنه قال: إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته. (1)

ومنها ما رواه الكليني وغيره عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله أنه قال: أمر الله ولم يشأ وشاء ولم يأمر، أمر إبليس بالسجود لآدم وشاء أن لا يسجد ولو شاء لسجد، ونهى آدم عن أكل الشجرة وشاء أن يأكل ولو لم يشأ لم يأكل. (2)

ومن تلك الفروع قول الإمامية، إنه لا يقع بعض مراد الله تعالى ويقع مرادات الشيطان وغيره من الكفار، وأهل السنة يقولون: لا تتحرك ذرة إلا بإذن الله ولا تتقدم إرادة أحد مخالفة لإرادة الله تعالى، ولا يقع مراد غيره بدون إرادته أصلا بل ما يشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن {وما تشائون إلا أن يشاء الله}. ومذهب الإمامية مأخوذ من زندقة المجوس، فإنهم قائلون بالاثنين أحدهما خالق الشرور ويسمونه أهرمن والآخر خالق الخيرات ويسمونه يزدان، ويسندون إليهما توزيعًا وقائع العالم، وقد يعتقدون أن أحدهما غالب على الآخر مغلوب، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ومنها ما يقول هؤلاء المذكورون أن الله تعالى يريد شيئا يعلم أنه لا يقع. وهذا الاعتقاد الشنيع مستلزم للسفه في حضرته تعالى عما يقول الظالمون. ومنها ما يقولون: إن الله تعالى يريد أن يهدي بعض عباده ويضله الشيطان وأعوانه من أشرار بنى آدم، ولا تتقدم إرادة الله بإزاء أولئك الملاعين! ويكذبهم في هذا نص القرآن {من يهد الله فما له من مضل}. ومن أقوال العترة رواية الكليني عن ثابت بن سعيد عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: يا ثابت ما لكم والناس، كفوا عن الناس ولا تدعوا أحدا إلى أمركم، والله لو أن أهل السماوات وأهل الأرض اجتمعوا على أن يهدوا عبدا يريد الله ضلاله ما استطاعوا أن يهدوه، ولو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا على أن يضلوا عبدا يريد الله هدايته ما استطاعوا أن يضلوه. (3)

_________

(1) الكافي: 1/ 106؛ ابن بابويه، التوحيد: ص 100.

(2) الكافي: 1/ 150.

(3) الكافي: 1/ 165.

(1/85)

________________________________________

الثامن: منها ان الله تعالى لن يرضى بكفر أحد من عباده وضلالته، لقوله تعالى {ولا يرضى لعباده الكفر} قال الاثنا عشرية: يرضى الله عن ضلالة غير الشيعة، وكان الأئمة راضين بضلالة غيرهم أيضا. وروى صاحب (المحاسن) عن الإمام موسى الكاظم أنه قال لأصحابه: لا تعلموا هذا الخلق أصول دينهم وارضوا لهم بما رضي الله لهم من الضلال! (1) ولو صحت هذه الرواية لكانت لأهل السنة بشارة عظيمة حاصلة في أيديهم، فإنهم يعيشون بحسب ما رضي الله والحمد لله على ذلك وثبت لهم رضوان الله تعالى الذي هو غاية المنى لأهل الدين بشهادة الأئمة. أما علماء الشيعة، فلا بد لهم أن يكذبوا هذه الرواية لأنها مخالفة لأدلتهم القطعية وأصولهم الشرعية، إذ هي مناقضة لغرض الإمامة لوجوب الأصلح واللطف وهادمة لأساس بنيان قاعدتهم المقررة أن الله تعالى لا يريد الشرور والقبائح والكفر والمعاصي إذ الرضا فرع الإرادة وأخص منها، فنفيها نفيه.

التاسع: منها أن الله تعالى لا يجب عليه شيء كما هو مذهب أهل السنة، خلافا للشيعة فإنهم قاطبة متفقة كلمتهم بوجوب كثير من الأشياء عليه تعالى بحكم عقولهم، (2) وليس هذا بملائم لمرتبة الربوبية والألوهية أصلا، وأية قدرة للعبد أن يوجب على مالكه الحقيقي شيئا، فكل ما أعطى فهو من فضله ورحمته وكل ما منع فهو من عدله وحكمته وهو المحمود في كل أفعاله، قال في نهج البلاغة: ومن خطبة له خطبها بصفين «أما بعد فقد جعل الله لي عليكم حقا بولاية أمركم، وجعل لكم على من الحق مثل الذي عليكم، والحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه خالصا على أحد إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصا لله تعالى سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه. ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا وتوسعا بما هو على المزيد أهله» انتهى بلفظه. قال جميع الإمامية بوجوب التكليف عليه تعالى، (3) يعني يجب عليه تعالى أن يكلف المكلفين بأن يأمرهم وينهاهم وأن يقرر لهم

_________

(1) المحاسن: 2/ 308.

(2) قال ابن المطهر الحلي: «الحق أن وجوب معرفة الله تعالى مستفاد من العقل وإن كان السمع قد دل عليه»، نهج الحق: ص 51.

(3) ابن المطهر الحلي في نهج الحق: ص 381.

(1/86)

________________________________________

واجبات ومحرمات وأن يخبرهم بذلك بواسطة الرسل. ولا يقتضي العقل أصلا أن يكلف الكافر بالإيمان والفاجر بالطاعة وترك العصيان، لأنه تعالى لا فائدة له في هذا التكليف أصلا، بل هو منزه عن الفوائد والأغراض وغني عن العالمين، وهو في حق العبد محض الخسران والضرر وموجب لهلاكه الأبدي، والله سبحانه يعلم عاقبة الأمر لكل أحد هل يقبل أولا وهل يمتثل أم لا، فإلقاء العبد في معرض التلف والهلاك عامدا من غير أن يعود إليه نفع ليس مقتضى العقل أصلا، نعم لا يفعل عاقل أمرا يضر غيره وهو لا ينفع به خصوصا في حق الدين. (1)

وأيضا لو وجب التكليف لكان لابد أن برسل في كل قرية وبلدة الرسل متواليا، ولم يقع زمن الفترة، ولم يخل قطر وناحية عن رسول، لأن العقل لا يكفي في معرفة التكاليف بالإجماع، والحاجة للرسول ماسة بالضرورة. (2)

وأيضا كان على الله تعالى أن ينصب بعد موت النبي إماما غالبا غير خائف، ويؤيده بالآيات والمعجزات حتى يبلغ الأحكام بلا خوف وهيبة، ولم يدع المكلفين غافلين عن أحكام الشرع ويدعون سكان شواهق الجبال، ولم يفوض إمامه بأيدي جماعة لم يكن لهم قدرة على إظهار الأحكام الشرعية! بل هم أيضا كانوا يمضون بالتقية في لباس غيرهم من الكفرة والظلمة!

وأيضا يعتقدون أن (اللطف واجب على الله تعالى) ويبينون معنى اللطف أنه هو ما يقرب العبد إلى الطاعة ويبعده عن المعصية بحيث لا يؤدي إلى الإلجاء. وهذا أيضا باطل لأن اللطف لو كان واجبا لم يكن لعاص أن تتيسر أسباب عصيانه، واجتمع لكل موجبات طاعاته، وشاهده محسوس في العالم أن أكثر الأغنياء والموسرين يظلمون ويعصون ويبغون في الأرض بكثرة أموالهم وقوة عساكرهم، وأكثر الفقراء يبغون بسبب أفلاسهم ويحرمون من العبادات. وكثير من أصحاب العلم لا يحصل لهم معلم يعلمهم ولا تتأبى لهم الفراغة ولا تتيسر لهم القوة، وكثير من أصحاب الشهوات والمفسدين يصل إليهم من كل جانب أسباب فسقهم بلا كلفة وقصور، فلو كان اللطف واجبا لكان الأمر منعكسا. ومخالفة هذه العقيدة للكتاب والعترة والعقل السليم أجلى من النهار: أما الكتاب فقوله تعالى

_________

(1) قال ابن القيم: «وإذا كان معقولا من الإنسان أنه يوجب على نفسه ويحرم ويأمرها وينهاها مع كونه تحت أمر غيره ونهيه، فالآمر الناهي الذي ليس فوقه آمر ولا ناهٍ، كيف يمتنع في حقه أن يحرم على نفسه ويكتب على نفسه، وكتابته على نفسه سبحانه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به، وتحريمه على نفسه يستلزم بغضه لما حرّمه وكراهته له وإرادة أن لا يفعله، فإن محبته لفعله تقتضي وقوعه منه وكراهته لأن يفعله تمنع وقوعه منه، وهذا غير ما يحبه سبحانه من أفعال عباده ويكرهه، فإن محبة ذلك منهم لا تستلزم وقوعه وكراهته منهم لا تمنع وقوعه، ففرق بين فعله سبحانه وبين فعل عباده الذي هو مفعوله، فإن فعل عباده يقع مع كراهته وبغضه له ويختلف مع محبته له ورضاه به بخلاف فعله سبحانه فهذا نوع وذاك نوع، فتدبر هذا الموضع الذي هو مزلة أقدام الأولين والآخرين إلا من عصمه الله تعالى بعصمته وهداه إلى صراطه المستقيم». بدائع الفوائد: ص 391.

(2) قال الآلوسي: «ولأنه لو وجب عقلا بالنسبة إلى من يعلم الله بأنه مؤمن دون الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن، فإن التكليف قبيح لأنه إضرار له، لأنه إلزام أفعال شاقة لا يترتب عليه نفع في الدنيا ويستحق عليه عذاب شديد في الآخرة لا انقطاع له». السيوف المشرقة

(1/87)

________________________________________

{ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملان جهنم من الجنة والناس أجمعين}، و {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون}، {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} والآيات الدالة على الاستدراج ومكر الله تعالى والإبعاد عن الإيمان والطاعة مثل {فكره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}، {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}، {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} وأمثال ذلك أزيد من أن يحصى. وأما العترة فقد سبق ما في الكليني عن الصادق قال: إذا أراد الله بعبد سوءا نكت في قلبه نكتى سوداء، الحديث المتقدم.

وأيضا يعتقدون (وجوب الأصلح عليه تعالى)، وهذا باطل بمثل ما مضى. (1) وأيضا لو كان الأصلح واجبا لم يسلط الشيطان على بني آدم الذي هو عدو قوي من غير جنسهم وهم لا يرونه حتى يحترزوا منه ويدفعوه عن أنفسهم وهو يراهم ويتمكن من وسوستهم وقادر على إضلالهم بالإغواء ويصيبهم تصرفه في قلوبهم فضلا عن الأعضاء الأخر، فإنه يجري منهم مجرى الدم. نعم خلق الشيطان ثم إلقاء العداوة بينه وبين الإنسان ثم إبقاؤه وإنظاره القدرة على إغواء بني آدم بالتصرف كل منهم يقلع أصل الأصلح ومارنه. وأيضا كان الأصلح في حق بني إسرائيل أن السامري لم يكن يرى جبريل ولم يعلم أصلا خاصة ما مس حافر فرسه، وإذ رآه وعلم خاصته فهو لم يكن يقدر على قبضه من ذلك التراب، وإذ أخذه فقد كان ضاع منه. ولما وقع هذا كله خلافا لذلك فأين بقي الأصلح؟ وأيضا كان الأصلح في حق الكافر المسكين المبتلى بالفقر والأحزان والآلام والأمراض أن لا يخلق أصلا، وإن خلق مات صغيرا ليخلص من العذاب

_________

(1) قال المجلسي مقررا عقيدة الإمامية: «إن العقل يحكم بأن اللطف على الله واجب ... ». بحار الأنوار: 51/ 215.

(1/88)

________________________________________

الأبدي الأخروي. وكان الأصلح في حق أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمته أن ينص على خلافة أبي بكر صريحا لا على خلافة الأمير حتى يعملوا بوفقه ولا يذهبوا إلى خلافه. وأيضا يقول الله تعالى في كتابه {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} فلو كانت الهداية إلى الإيمان واجبة عليه تعالى لم يمن بها على عباده، إذ لا منة في أداء الواجب.

ويعتقدون أيضا أن (الأعواض واجبة عليه تعالى) يعني إذا أصاب الله عبدا بألم أو نقصان في ماله وبدنه وجب عليه تعالى أن يعطيه نفعا يستحقه ذلك العبد. (1) وعقيدتهم هذه بعد دراية ما بين العبد والرب من علاقة المالكية والمملوكية باطلة. إذ العوض يجب إذا تصرف في ملك المالك، ولا ملك في العالم لغيره تعالى. ونعيم الجنة في الحقيقة محض تفضل منه، لأن العبد لو صرف جميع عمره في الطاعة والعبادة لا يمكن أن يؤدي شكر نعمة واحدة من نعمة الخفية الدقيقة فضلا عن أن يستحق عليه عوضا به. فإن كل ما يفعله الإنسان لا يكافئ نعمة الوجود وحدها، فكيف يكون حال ما يقتضي غيره من النعم الكثيرة: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما أحد يدخل الجنة بعمله إلا برحمة الله، قيل: ولا أنت؟ قال: ولا أنا». (2) وقد صح عند الشيعة ثبوت هذا المعنى بالتواتر من أحاديث الأئمة. روى ابن بابويه القمي في (الأمالي) من طريق صحيح عن علي بن الحسين أنه كان يدعو بهذا الدعاء «إلهي وعزتك وجلالك لو أني منذ أبدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك لكل شعرة في طرفة عين سرمد الأبد بتحميد الخلائق وشكرهم أجمعين لكنت مقصرا في بلوغ شكر أخفى نعمة من نعمك. ولو أني كربت معاول حديد الدنيا بأنيابي وحرثت أرضها بأشفار عيني وبكيت من خشيتك مثل بحور السماوات والأرض دما وصديدا لكان ذلك قليلا من كثير من وفاء حقك علي، ولو أنك إلهي عذبنتي بعد ذلك بعذاب الخلائق أجمعين وعظمت للنار خلقي وجسمي وملأت جهنم مني حتى لا يكون في النار معذب غيري ولا يكون لجهنم حطب سواي لكان هذا لك علي قليلا من كثير ما استوجبت من عقوبتك». (3) وفي (نهج

_________

(1) قال ابن المطهر الحلي: «ذهبت الإمامية أن الألم الذي يفعله الله تعالى بالعبد أما يكون على وجه الانتقام والعقوبة ولا عوض فيه، فإما أن يكون على وجه الابتداء، وإنما يحسن من الله تعالى بشرطين: أحدهما أن يشتمل على مصلحة ما للمتألم أو لغيره وهو نوع من اللطف ... والثاني أن يكون في مقابلته عوض للمتألم يزيد على الألم، وإلا لزم الظلم والجور من الله سبحانه على عبيده، لأن إيلام الحيوان وتعذيبه على غير ذنب ولا لفائدة تصل إليه ظلم وجور وهو على الله محال». نهج الحق: ص 137.

(2) متفق عليه

(3) ابن بابويه، الأمالي: ص 299؛ المجلسي، بحار الأنوار: 94/ 90.

(1/89)

________________________________________

البلاغة) عن أمير المؤمنين قال «لا يأمن خير هذه الأمة من عذاب الله». (1)

العاشر منها: كل ما يصدر من الإنسان أو الجنة أو الشياطين أو غيرهم من المخلوقات من خير وشر وكفر وإيمان وطاعة ومعصية وحسن وقبح كلها من خلق الله تعالى بإيجاده وليس للعبد قدرة على خلقه. نعم له كسبه والعمل به، وبهذا الكسب والعمل سيجزى إن شرا فشر وإن خيرا فخير. هذا هو مذهب أهل السنة.

وقال الإمامية: إن العبد يخلق أفعاله ولا دخل لله تعالى في أقوالهم وأفعالهم الإرادية، بل في جميع أفعال الطيور والبهائم والوحوش وسائر الحيوانات التي تفعل بالإرادة. (2) وعقيدتهم هذه مخالفة للكتاب والعترة.

أما الكتاب فقوله تعالى {والله يخلقكم وما تعلمون} وقوله {خالق كل شيء لا إله إلا هو} وقوله {ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله} وقوله {ألم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن} وغيرها من الآيات.

وأما العترة فقد روت الإمامية بأجمعهم عن الأئمة أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ ذكر تلك الروايات شارح العدة وغيره. (3) ومع هذا يعتقدون أن هذه المسألة كذلك بزعمهم مخالفين للأئمة صريحا، ولا تمسك لهم في ذلك إلا بعده شبهات اتخذوها ملجأ باتباع المعتزلة، قالوا لو كان الله تعالى خالقا لأفعال عباده يلزم بطلان أمر الثواب والعقاب والجزاء كلها، لأنهم لا يكون لهم دخل في أفعالهم، وتعذيب من لا دخل له في فعله ظلم صريح.

وأجاب أهل السنة بمنع الملائمة، وذلك أنهم قالوا إنا نثبت أمر الثواب والعقاب والجزاء على أصول الشيعة وعلى وفق رواياتهم عن الأئمة، مع كونه تعالى خالقا لأفعال عبداه بطريقين: (الأول) أن جزاء أفعال كل واحد مطابق لعلمه وتقديره تعالى في حق كل واحد، مثلا ثبت في علم الله أن أفعالهم وأعمالهم لو أحالها وفوض عملها إليهم يطيع فلان ويعصي فلان، يعني يخلق في المطيع طاعته والعاصي معصيته والكافر كفره والمؤمن إيمانه، وقد قام شاهد هذا التقرير والعلم في العباد أيضا وذلك ميلهم وهوى أنفسهم، فميل المؤمنين

_________

(1) في النهج: «لا تأمنن على خير هذه الأمة عذاب الله ... ». نهج البلاغة (بشرح ابن أبي حديد): 19/ 314.

(2) قال ابن المطهر الحلي: «اتفقت الإمامية والمعتزلة: إنا فاعلون، وادعوا الضرورة في ذلك» وقوله إنا فاعلون أي خالقون لأفعالنا. نهج الحق: ص 101.

(3) العدة: 2/ 499.

(1/90)

________________________________________

إلى الإيمان وميل الكافرين إلى الكفر وميل أهل الطاعة إليها وميل أهل الفسق إليه؛ كل يرجح في قلبه ما له ميل إليه ويخلقه الله تعالى على يده. فجزاء الخير والشر بناء على علمه تعالى في إيجادهم لو فرض إليهم، فهم وإن لم يكونوا خالقين لأفعالهم حقيقة ولكن لا شبه في خلقهم تقديرا، فلو جعل الكافر قادرا على خلق أفعاله لخلق الكفر. وكذا لو كان المؤمن يعطى القدرة على هذا الأمر لخلق الإيمان. وعلى هذا القياس في جميع الأفعال والأقوال. (1) والجزاء المبني على علمه في حق كل ليس ظلما عند الشيعة لأن جزاء أطفال المشركين بهذه الوتيرة عندهم بلا تفاوت. روى ابن بابويه عن عبد الملك بن سنان قال: سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن أطفال المشركين يموتون قبل أن يبلغوا الحنث، قال: الله أعلم بما كانوا عاملين يدخلون مداخل آبائهم. (2) وروى عن وهب بن وهب (3) عن [جعفر بن محمد (4)] عن أبيه عن أبي عبد الله أيضا أنه قال: أولاد الكفار في النار. (5) فإذا لم يكن عذاب الصبي غير المكلف لكونه كافرا وعاصيا في علم الله تعالى من غير أن يوجد فيه شاهد هذا العلم من ميل النفس وهواها ظلما، لم يكن ظلما تعذيب المكلف على فعله الذي يوجده ويخلقه بوفق إرادته وهوى نفسه لأجل أنه يفعل هذا الفعل ويخلقه لو قدر عليه. (6)

وهذا الوجه مصرح به ومبين في روايات الأئمة في كتب الشيعة: روى الكليني وابن بابويه وآخرون منهم عن الأئمة أن الله خلق بعض عباده سعيدا وبعض عباده شقيا لعلمه بما كانوا يعملون. (7) ليتأمل في لفظ «كانوا» فإنه يفيد صريحا معنى الفرض والتقدير. وروى الكليني وغيره من الإمامية عن أبي بصير أنه قال: كنت بين يدي أبي عبد الله - عليه السلام - جالسا فسأله سائل فقال: جعلت فداك با ابن رسول الله، من أين لحق الشقاء بأهل المعصية حتى حكم لهم بالعذاب على عملهم في علمه؟ فقال أبو عبد الله: أيها السائل، علم الله عز وجل لا يقوم له أحد من خلقه بحقه، فلما حكم بذلك وهب لأهل المحبة القوة على طاعته ووضع عنهم ثقل العمل بحقيقة ما هم أهله ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم بسبق علمه فيهم ومنعهم إطاقة القبول منه فوافقوا ما سبق لهم من علمه تعالى ولم يقدروا أن يأتوا حالا

_________

(1) قال ابن تيمية: «قال أكثر المثبتين للقدر إن أفعال العباد مخلوقة لله وهي فعل العبد، وإذا قيل هي فعل الله فالمراد أنها مفعولة له لا أنها هي الفعل الذي هو مسمى المصدر، وهؤلاء هم الذين يفرقون بين الخلق والمخلوق وهم أكثر الأئمة ... ». منهاج السنة النبوية: 3/ 149.

(2) من لا يحضره الفقيه: 3/ 491.

(3) وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى، أبو البختري، ربيب الصادق، وروايته عنه قال النجاشي: «كان كذابا وله أحاديث مع الرشيد في الكذب»، قال الحافظ ابن حجر: «سكن بغداد وولي قضاء عسكر المهدي ثم قضاء المدينة ثم ولي حرسها وصلاتها وكان جوادا ممدحا لكنه متهم في الحديث، قال يحيى بن معين: كان يكذب عدو الله». رجال النجاشي: 2/ 391؛ لسان الميزان: 6/ 231.

(4) سقطت من الأصل

(5) من لا يحضره الفقيه: 3/ 491.

(6) قال ابن تيمية: «وأما أولاد المشركين فأصح الأجوبة فيهم: جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: ما من مولود إلا يولد على الفطرة الحديث قيل: يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين .. فلا يحكم على معين منهم لا بجنة ولا بنار ويروى أنهم يوم القيامة يمتحنون في عرصات القيامة، فمن أطاع الله حينئذ دخل الجنة ومن عصى دخل النار، ودلت الأحاديث الصحيحة أن بعضهم في الجنة وبعضهم في النار ... ». مجموع الفتاوى: 4/ 312.

(7) الكافي: 6/ 13؛ ابن بابويه، التوحيد: ص 358.

(1/91)

________________________________________

تنجيهم من عذابه لأن علمه أولى بحقيقة التصديق وهو معنى شاء ما شاء وهو سره. (1) وروى الكليني عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله - عليه السلام - أن قال: إن الله خلق السعادة والشقاوة قبل أن يخلق خلقه فمن خلقه سعيدا لم يبغضه أبدا وإن عمل سوءا أبغض عمله وإن خلقه شقيا لم يحبه أبدا وإن عمل صالحا أحب عمله. (2) ولو كان الجزاء على خلق عمله من عنده الواقع موافقا لهوى العبد ظلما يلزم أن يكون خلق نفسه وقواه مع تسليط الشيطان عليه ومنع الألطاف وإطاقة القبول في حقه ظلما أيضا. وقد وقع صريحا في الروايات المذكورة هذه الجمل: ووهب له قوة المعصية ومنع عنه إطاقة القبول ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم. وقد ورد أيضا في الروايات السابقة عن أبي عبد الله أنه قال: إذا أراد الله بعبد سوءا نكت في قلبه نكنة سوداء الحديث المتقدم. وظاهر أن العبد يكون على هذا مضطرا وملجئا بفعل المعصية لعدم قدرته على الطاعة والعبادة بهذه المعاملة التي عامل الله بها في حق عبده.

(الطريق الثاني) أن الجزاء ليس على العمل حتى يكون دخل العبد ضرورة، بل على ميل قلبه وهو نفسه الذي يقارن كل عمل من الخير والشر، ولهذا رفع عن العباد السهو والنسيان والخطأ والإلزام، مع أن صدور سوء الفعل يكون من العبد في هذه الحالات أيضا، ولكن لما لم يكن قلبه وهوى نفسه بذلك الفعل يعفى عنه ذلك الصدور ولهذا يجزي على نية الخير والشر وإن لم يعمل ففي الكافي للكليبي عن السكوني عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نية المؤمن خير من عمله ونية الكافر شر من عمله». (3) ووجه كونها خيرا وشرا إنما هو مدار الجزاء عليها. وفيه أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: إن العبد المؤمن الفقير ليقول يا رب ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير فإذا علم الله عز وجل ذلك منه بصدق نيته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب لو عمله، ولهذا جعل الرياء والسمعة محبطين لثواب العمل كما ذكره مفصلا في باب الرياء في الكافي. (4) من ذلك ما روى عن يزيد بن خليفة

_________

(1) الكافي: 1/ 153؛ ابن بابويه، التوحيد: 354؛ المجلسي، بحار الأنوار: 5/ 156.

(2) الكافي: 1/ 152؛ ابن بابويه، التوحيد: 357؛ البرقي، المحاسن: ص 280.

(3) الكافي: 2/ 84؛ ابن بابويه، علل الشرائع: 2/ 524.

(4) الكافي: 2/ 293

(1/92)

________________________________________

قال: قال أبو عبد الله: كل رياء شرك، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ومن عمل لله كان ثوابه على الله. (1) وأيضا قد ورد في الحديث المتفق عليه (2) أن الندامة هي التوبة. (3) فقد علم أن مدار تأثير العمل على ميل القلب وهوى النفس ولما ذهبت شهوة العمل في حالة الندامة ذهب أثرها أيضا ولو بعد مدة وزمان طويل. وفي الكافي عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: كفى بالندم توبة. (4) وأيضا عن أبي عبد الله قال: إن الرجل ليذنب فيدخله الله به الجنة. قلت: يدخله الله بالذنب الجنة؟ قال: إنه يذنب فلا يزال منه خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه الله ويدخله الجنة. (5) وإذا كان مدار الجزاء على النية وميل النفس واستحسان القلب فإن خلق الله أفعالا على وفق إرادة العبد وميله وهوى نفسه وجازى العبد على ذلك فلم يكن ظلما. نعم يتصور الظلم لو كان خلق أفعال العبد ابتداء من دون تخلل إرادته وميله كأفعال الجمادات من نحو إحراق النار وقتل السم وقطع السيف وكسر الحجر، وإذا كانت أفعال العباد تابعة لإرادتهم وأهواء أنفسهم كان لهم دخل في تلك الأعمال فوجدوا منها حظا فذاقوا جزاءها بحسب ذلك، وهذا هو معنى الكسب والاختيار عند التحقيق. (6)

هذا وإذا قيل إن ذلك الميل وهوى النفس من خلقه وإيجاده إذ ظاهر أن العبد لا قدرة له على إيجاده والله سبحانه إذا خلق الميل والهوى فلم يؤاخذ العبد على ذلك ويجازيه؟ فجوابه أن هذه الشبهة مع اعتقاد أن العباد خالقون لأفعالهم أيضا واردة على الشيعة، لأن الدواعي الواردة على جميع الأسباب والمبادئ لصدور الفعل من القدرة والقوة والحواس والجوارح بل وجود العبد الذي هو أصل الأصول للأفعال كلها مخلوقة لله تعالى بالبداهة والإجماع ولا دخل فيها للعبد أصلا. وتحقيق المقام أن الاختيار لما قارن الفعل وتوسط معه صار ذلك الفعل اختياريا وخارجا من حريم الاضطرار وموردا للمدح والذم ومحلا للثواب والعقاب وكون الاختيار باختياره ليس ضروريا بل هو محال للزوم التسلل إذ ليس لأحد في المشاهدة قدرة على خلق الاختيار أصلا في غيره وصعب على العقل فهم هذا المعنى بالقياس لفقدان النظر الجزئي، ولكنه إذا خلى نفسه حتى يبعد عن شوائب الأوهام

_________

(1) الكافي: 2/ 293؛ البرقي، المحاسن: ص 121.

(2) يعني ما بين أهل السنة والإمامية

(3) أخرج الإمام أحمد: كفارة الذنب الندامة». المسند: 1/ 289؛ وأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط: 5/ 199. قال الهيثمي: «وفيه يحيى بن عمرو بن مالك النكري وهو ضعيف وقد وثق وبقية رجاله ثقات». مجمع الزوائد: 10/ 215.

(4) في المطبوع (الندم) والتصحيح من الكافي: 2/ 426؛ ابن بابويه، الخصال: 1/ 16.

(5) الكافي: 2/ 426؛ الديلمي، إرشاد القلوب: 1/ 180.

(6) قال ابن تيمية: «والفعل هو الكسب لا يعقل شيئان في المحل أحدهما فعل والآخر كسب». منهاج السنة النبوية: 3/ 210 ..

(1/93)

________________________________________

ومأخوذية المألوفات ويحصل له الصفوة بعد ذلك يجزم بأن مدار كون العقل اختياريا على وجود الاختيار لا على إيجاد الفعل ولا على إيجاد الاختيار. مثلا لو أراد عبدُ أحدٍ أن يأبق، وأبلغه الآخر إلى مقصده بعد ما أطلع على إرادة قلبه وميله بإظهاره أو بوجه آخر، يكون هذا الإباق منسوبا إلى ذلك العبد عند العقل البتة، وإن كانت مباشرة الفعل حاصلة من الغير ومبنى قلب العبد حاضر له من نفسه.

فإذن ظهر لك أن ليس الفرق في اعتقاد أهل السنة والشيعة بذلك إلا هذا القدر: إن أهل السنة يعتقدون أن اختيار العبد محفوف من كلا الجانبين بفعل الله تعالى: من الجانب الفوقاني بخلق الاختيار والإرادة والهوى وميل النفس، ومن الجانب التحتاني بخلق الفعل. والشيعة يعتقدون أن اختياره من الجانب الفوقاني بفعل الله تعالى لا من الجانب التحتاني وهو خلق الفعل فإنهم يقولون إن خلق الفعل وظيفة العبد. وعلى العاقل هنا أن يتأمل، فإن الجانب الفوقاني للاختيار إذا كان في يد الغير لزم الجبر ونشأ الإشكال في أمر الجزاء والثواب والعقاب، فترك البديهة العقلية التي هي قاضية باستحالة صدور الإيجاد من الممكن عن اليد مجانا ثم الانغماس في الدجل الشيطاني أي لطف يكون له؟ (1) وقد نقل سابقا برواية صاحب المحاسن وهو البرقي (2) وبرواية الكليني عن أبي الحسن الكاظم أنه قال لا يكون شيء إلا ما شاء الله وأراد. وقد روي عن رئيس فقهاء أهل السنة أبي حنيفة الكوفي أنه قال: قلت لأبي جعفر بن محمد الصادق: يا ابن رسول الله هل فوض الله الأمر إلى العباد؟ فقال: الله أجل من أن يفوض الربوبية إلى العباد. فقلت: هل أجبرهم على ذلك؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على ذلك. فقلت: وكيف ذلك؟ فقال: الله أعدل من أن يجبرهم على ذلك. فقلت: كيف ذلك؟ فقال: بين بين، لا جبر ولا تفويض ولا إكراه ولا تسليط. (3) وضع أهل السنة بناء مذهبهم على هذه الرواية في مسألة خلق الأفعال، حيث يعتقدون نفي الخلق عن العباد ولا خلق إلا لله، ويثبتون الكسب لهم مطابقا لإرشاد الإمام الصادق. وهذه

_________

(1) في العبارة غموض، ولعل فيها تحريفا عن الطبعة الهندية.

(2) هو أحمد بن محمد بن خالد المتوفى سنة 274. له ترجمة في روضات الجنات ص 13 - 14 من الطبعة الثانية، وفي هدية الأحباب ص 105.

(3) الكافي: 1/ 160 ولم يصرح فيها أن السائل أبو حنيفة.

(1/94)

________________________________________

الرواية بعينها في كتب الإمامية، فقد روى محمد بن يعقوب الكليني عن أبي عبد الله أنه قال: لا جبر ولا تفويض ولكن بين أمرين. (1) وروى الكليني أيضا عن إبراهيم عن أبي عبد الله مثل ذلك. (2) أيضا عن أبي الحسن محمد بن الرضا نحوه. (3) وأولَ علماء الشيعة هذه الروايات المذكورة الموافقة لأهل السنة صريخا فقالوا المراد من أمر بين أمرين خلق القوة والقدرة والتمكين على الفعل لا الدخل في إيجاد الفعل. ولا يفهمون أن سؤال السائل عما إذا كان، وأين يذهبون بجواب الإمام مجردا وأي عاقل سأل عن تفويض خلق القوة والقدرة على العمل فإنه بديهي البطلان، وإنما البحث والنزاع إن كان ففي خلق الفعل فجواب الإمام يجعلونه لغوا مهملا بتوجيههم هذا معاذ الله من ذلك. ومع هذا لا يجدي هذا التوجيه نفعا لأن هذا التفويض يوجد في نفيه أيضا علة البحث والاعتراض، ومع قطع النظر عن ذلك فإن أهل السنة في أيديهم روايات صريحة مستخرجة من كتب الشيعة تحسم مادة التأويل. منها الرواية التي أوردها صاحب (الفصول) من الإمامية فيه وصححها عن إبراهيم بن عياش أنه قال: سأل رجل الرضا أيكلف الله العباد ما لا يطيقون؟ فقال: هو أعدل من ذلك.

قال: فيقدرون على الفعل كما يريدون؟ قال: هم أعجز من ذلك. (4) فقد نفى الإمام القدرة صريحا في هذا الحديث الصحيح. ومنها ما في (نثر الدرر): سأل الفضل بن سهل بن موسى الرضا في مجلس المأمون فقال: يا أبا الحسن، الخلق يجبرون؟ قال: الله أعدل أن يجبر ثم يعذب. قال فمطلقون؟ قال: الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه. (5) وإذ اتضح مخالفة علمائهم في عقيدتهم للأئمة فاستمع ما لقبهم به الأئمة من الألقاب السيئة، فقد روى محمد بن بابويه في كتاب التوحيد عن أبي عبد الله أنه قال: القدرية مجوس هذه الأمة أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه عن سلطانه. وفيهم نزلت هذه الآية {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر}. (6) وروى الكليني عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله: شاء وأراد وقدر وقضى؟ قال: نعم. قلت: وأحب؟ قال: لا. (7)

الحادي عشر منها: أن العبد ليس له اتصال مكاني وقرب جسماني بالله تعالى ممكنا

_________

(1) الكافي: 1/ 160.

(2) الكافي: 1/ 159؛ الاحتجاج: 2/ 198.

(3) الكافي: 1/ 159؛ عيون أخبار الرضا: 1/ 144.

(4) عيون أخبار الرضا: 1/ 142.

(5) ابن طاوس، الطرائف: 2/ 331؛ الأربلي، كشف الغمة: 2/ 307؛ المجلسي، بحار الأنوار: 5/ 59.

(6) التوحيد: ص 382؛ البحراني، تفسير البرهان: 5/ 261.

(7) الكافي: 1/ 150.

(1/95)

________________________________________

وما يتصور في حقه من القرب فإنما هو بالدرجة والمنزلة عنده تعالى ورضوانه عنه فقط. وهذا هو مذهب أهل السنة. وقد ثبت في الأخبار الصحيحة المروية عن العترة الطاهرة بروايات الشيعة أن الأئمة قد نفوا عن الله تعالى المكان والاتصال والأين وغيرها. وقال أكثر فرق الإمامية بالقرب المكاني والصوري، ويحملون المعراج على الملاقاة المتعارفة الجسمانية. روى ابن بابويه في كتاب (المعراج) عن حمران بن أعين عن أبي جعفر - عليه السلام - أنه قال في تفسير قوله تعالى {ثم دنى فتدلى} أدنى الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن بينه وبينه إلا قفص من لؤلؤ فيه فراش يتلألأ من ذهب فأراه صورة فقيل: يا محمد أتعرف هذه الصورة؟ قال: نعم هذه صورة علي بن أبي طالب. (1)

الثاني عشر منها: أن رؤية الله تعالى ممكنة عقلا وسيراه المؤمنون بعيون رءوسهم جزما ويتشرفون في الجنة بهذه النعمة بحسب مراتبهم، (2) والكافرون والمنافقون محرومون منها. وهذا هو مذهب أهل السنة. وتمسكهم على هذا المطلب بالنقل والعقل: أما النقل فقوله تعالى حكاية عن موسى {رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني} ووجه الاستدلال به أمران: الأول أن سؤال موسى الرؤية يدل على إمكانها لأن العاقل - فضلا عن النبي - لا يطلب المحال ولو بتكليف الغير، ولا مجال للقول بجهل موسى - عليه السلام - بالاستحالة، فإن الجاهل بما لا يجوز على الله تعالى لا يصلح من النبوة هداية الخلق إلى العقائد الحقة والأعمال الصالحة. ولا ريب في نبوة موسى وأنه كبار الأنبياء وأولي العزم. وأيضا أن يقال إنما سأل موسى الرؤية بتكليف القوم حيث قالوا {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} وقالوا {أرنا الله جهرة} ولتبكيتهم إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب عليه أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم لما قالوا {اجعل لنا إلها} الآية. وأيضا لو كان سألها بتكليفهم لقال «رب أرهم ينظروا إليك». والثاني أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل، وهو أمر ممكن في نفسه والمعلق على الممكن ممكن لأن معنى التعليق الإخبار بوقوع المعلق عند

_________

(1) الحسيني، تأويل الآيات الظاهرة: ص 605؛ المجلسي، بحار الأنوار: 18/ 302.

(2) قال ابن تيمية: «أما إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة، فهو قول سلف الأمة وأئمتها وجماهير المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرها، وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند علماء الحديث وجمهور القائلين بالرؤية يقولون يرى عيانا مواجهة، كما هو المعروف بالعقل». منهاج السنة النبوية: 3/ 341.

(1/96)

________________________________________

وقوع المعلق به، والمحال لا يثبت على شيء من التقادير الممكنة. وأيضا ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنكم سترون ربكم عيانا يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون» (1) وهذه الرؤية متعدية إلى مفعول واحد فهي من رأي العين لا من رأي القلب. ووجه الاستدلال به أن الرؤية لو كانت محالا لما بشر النبي بها المؤمنين لأن بشارته متحتمة الوقوع والمحال لا يمكن وقوعه، والتشبيه المذكور في الحديث تشبيه الرأي بالرأي (2) في الحالتين دون المرئي بالمرئي. وقوله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}. والنظر المتعدي بإلى هو بمعنى الرؤية و «إلى» ههنا حرف جر لا اسم مفرد، وليس النظر متعديا إليه بنفسه فإن النظر يكون حينئذ بمعنى الانتظار وهو غم ونقمة كما قيل «الانتظار موت أحمر» (3) لا نغمة ومسرة، وقد سبقت الآية في بشارة المؤمنين بنعيم الجنة وسرورها، والانتظار يوجب الغم ولا يناسب سياق الآية.

وأما العقل فهو أنا نرى الأعراض - كالألوان والأضواء وغيرهما - والجواهر - كالطول والعرض - في الجسم فلا بد له من علة مشتركة بينهما بل من شيء مشترك بينهما يكون المتعلق الأول للرؤية وذلك الأمر إما الوجود أو الحدوث أو الإمكان، والأخيران عدميان لا يصلحان لتعلق الرؤية بهما فلم يبق إلا الوجود وهو مشترك بين الواجب والممكنات فيجوز رؤيته عقلا، والمراد بالوجود مفهوم مطلق الوجود الحقيقي وما به الموجودية. وبالجملة إن المعتمد في مسألة الرؤية إجماع الأمة - قبل حدوث المبتدعين - على وقوعها، وهو مستلزم لجوازها، وعلى كون الآية الكريمة محمولة على الظاهر المتبادر منها.

وقد أنكر الرؤية جميع فرق الشيعة - إلا المجسمة منهم - وقالوا يستحيل رؤيته تعالى. وعقيدتهم هذه مخالفة للكتاب والعترة. (4) أما الكتاب فقوله تعالى {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} وقوله تعالى في الكفار {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} فعلم أن المؤمنين لا يكون لهم حجاب عن ربهم، وقوله تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة

_________

(1) متفق عليه

(2) أي الرؤية

(3) قال الميداني: «قولهم موت أحمر: أي شديد». مجمع الأمثال: 1/ 199.

(4) قالوا: «نعتقد نحن الشيعة بأن الله تعالى لا يمكن أن يرى بالعين لا في الدنيا ولا في الآخرة». العقائد الإسلامية: 2/ 133.

(1/97)

________________________________________

ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} فقد علم أن المؤمنين والصلحاء هؤلاء سيكون لهم نظر وكلام من الله تعالى، إلى غير ذلك من الآيات. الثاني أن متمسك هؤلاء المنكرين في نفي الرؤية ليس إلا الاستبعاد وقياس الغائب على الشاهد واشتباه العاديات بالبديهيات، وغاية سوء الأدب ممن يؤول آيات الكتاب بمجرد استبعاد عقله الناقص، ويصرفها عن الظاهر ولا يتفكر ولا يتأمل في معانيها. وفي آية {لاتدركه الأبصار} (1) نفي للإدراك الذي هو بمعنى الإحاطة لا نفي الرؤية. ولا يستلزم نفيه نفيها، لأن الإدراك والرؤية متباينان في الحقيقة. وبملاحظة إسناده إلى الأبصار بوجه أخص منها فإنه إبصار وانكشاف المرئي التام بالبصر. والإدراك في اللغة الإحاطة بدليل قوله تعالى {حتى إذا أدركه الغرق} وقوله {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} ونفي أحد المتباينين لا يستلزم نفي الآخر، وكذا نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم. وأما ما يرادف العلم فهو المصطلح لا غير، لأن الإدراك بمعنى العلم والإحساس ليس في اللغة أصلا، ولا شك أن الإحاطة نقص له تعالى فنفيها مدح، والرؤية ليست كذلك. فعلى هذا معنى الآية: إن الله تعالى لا تحاط ذاته المقدسة بحاسة البصر. ولو فرضنا كون الإدراك بمعنى الرؤية لكان نفيها في الآية بناء على العادة. وظاهر أن رؤيته تعالى بحيث كل ما أراد فيراه، ولا يمكن لأحد أن يراه ما لم يره الله ذاته تعالى، وقد وقع في كلامه تعالى نفي العادة بالإطلاق كقوله تعالى {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} وبالإجماع يجوز رؤية الجن والشياطين بطريق خرق العادة، ولهذا استعظم واستبعد سؤال الكفار رؤية الملائكة مع أنهم يراهم الأنبياء والصلحاء والمؤمنون. وأيضا ليس النفي في الآية عاما في الأوقات، فلعله مخصوص ببعض الحالات، ولا في الأشخاص، فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه، مع أن النفي لا يوجب الامتناع.

أما العترة فقد روى ابن بابويه عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله فقلت: أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم. (2) إلى غير ذلك من الأخبار.

_________

(1) قال ابن تيمية: «ولفظ الإدراك له عموم وخصوص أو اشتراك لفظي فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية، فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه فأدركه ولم يره». دقائق التفسير: 2/ 126. ولينظر زاد المسير: 3/ 98؛ وروح المعاني: 7/ 245.

(2) ابن بابويه، التوحيد: ص 117؛ المجلسي، بحار الأنوار: 4/ 44.

(1/98)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

الباب الرابع في النبوة

العقيدة الأولى: اعلم أن الشيعة يعتقدون أن بعث الأنبياء واجب على الله تعالى. (1) ولا يليق ذلك بمرتبة الربوبية والألوهية، فإن الله هو الحاكم الموجب على عباده، فمن يحكم عليه بوجوب شيء؟ نعم تكليف العباد وبعثة الأنبياء واقع حتما ولكن بمحض فضله وكرمه، بحيث لو لم يفعل ذلك لم يكن لهم مجال شكاية، فإذا فعل فهو عين فضله ومحض رحمته، وهذا هو مذهب أهل السنة. ولو كان بعث الأنبياء واجبا عليه تعالى لم يمتن ببعثهم في كثير من الآيات، قال تعالى: {بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} وقال تعالى {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم} الآية وغيرها من الأيات. وظاهر أنه ليس في أداء الواجب منه. وأيضا لو كان واجبا لما سأله إبراهيم وطلب منه البعث في ذريته وبناء على كونهم مكلفين ووجوب تكليفهم قال: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم} الآية لأن الدعاء بما هو واجب الوقوع لغو لا معنى له، والأنبياء منزهون عن اللغو.

واعلم أن الإمامية لا بد عندهم أن لا يخلو زمان من نبي أو وصي قائم مقامه، وهو يعلمون أن بعث النبي أو نصب الوصي واجب عليه تعالى. (2) ولا يعتقد أهل السنة وجوب شيء على البارى تعالى.

وعقيدة الشيعة هذه مخالفة للكتاب والعترة. أما الكتاب فلأن كثيرا من آياته تدل على وجود زمن الفترة وخلوه عن النبوة وآثارها، كما قال الله تعالى: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترةٍ من الرسل} وغيرها من الآيات. وأيضا تدل آيات كثيرة بالصراحة على ختم النبوة كقوله تعالى {ولكن رسول الله وخاتم النبيين}.

_________

(1) قال محمد حين كاشف الغطاء «وبعث الأنبياء واجب على الله». أصل الشيعة وأصولها: ص 86؛ وقال محمد رضا المظفر: «قاعدة اللطف توجب أن يبعث الخالق رسله لهداية البشر». عقائد الإمامية: ص 55.

(2) قال الطوسي: «والدليل على أن الخليفة الإمام القائم - عليه السلام - حي موجود في كل آنٍ وزمان لا بد فيه من إمام معصوم، فثبت أنه حيَّ موجود في كل زمان، ويدل على بقائه إلى فناء هذه الأمة: لأنه لطف للناس، واللطف واجب على الله تعالى في كل زمان، فيكون الإمام حيا، وإلا لزم أن يكون الله تعالى مخلا بالواجب». رسائل الطوسي: ص 107.

(1/99)

________________________________________

وفي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر) قال عيسى للحواريين «وأنا أطلب لكم من أبي أن يمنحكم ويعطيكم فارقليط ليكون معكم دائما إلى الأبد» وفارقليط في اللغة العبرية بمعنى روح الحق واليقين، وهو لقب نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وأما أخبار الأئمة في هذا الباب فأزيد من الحد والإحصاء، وقد تواتر عن الأمير في صفة الصلاة على النبي في كتب الإمامية هذه العبارة «اللهم داحي المدحوات وفاعم المسموكات، اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق»، (1) وأيضا ورد في بعض خطب الأمير المتواترة عند الشيعة هذه العبارة «أرسله على فترة من الرسل، وطول هجعه بين الأمم» (2) إلى أن قال «وأمين وحيه وخاتم وبشير رحمته ونذير نقمته». (3) وهذه الخطبة كما تدل على ختم النبوة كذلك تدل على وقوع الفترة أيضا، ومعنى الفترة إنما هي ان لا يكون نبي ولا قائم مقامه في الزمان، ولو أريد في معنى الفترة عدم نبي في الزمان فقط يلزم أن يكون زمن الأمير بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا زمان الفترة، وأنت تعلم أن حكم زمان الفترة بنبي آخر الزمان لدوام شريعته إلى يوم القيامة فلا يصح أن يقال بالفترة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -.

العقيدة الثانية: أن الأنبياء أفضل من جميع خلق الله حتى الملائكة المقربين، (4) ولا يمكن أن يستوي غير النبي في الثواب والقرب والمنزلة عند الله تعالى، فضلا عن أن يكون أفضل منه. وهذا هو مذهب أهل الحق وجميع فرق الإسلام إلا المعتزلة في الملائكة المقربين، والإمامية في الأئمة الأطهار. ولهم في هذه المسالة تنازع وتخالف كثير فيما بينهم، ولكنهم أجمعوا على أن الأمير أفضل من غير أولي العزم من الرسل والأنبياء، وليس بأفضل من خاتم النبيين عليه وعليهم السلام. (5) وأما غيره من سائر أولي العزم فقد توقف فيه بعضهم كابن المطهر الحلي وغيره، ويعتقد بعضهم أنه مساو لهم وهذا مخالف لما ورد عن الأئمة، وأن من قال غير ذلك فهو ضال. (6) وروى ابن بابويه عن الصادق ما ينص على أن الأنبياء أحب

_________

(1) نهج البلاغة

(2) الكافي: 1/ 60؛ نهج البلاغة

(3) نهج البلاغة

(4) ينظر مجموع الفتاوى: 4/ 350.

(5) قال الكراكجي عن عقيدتهم في الأئمة: «وإنهم في كمال العلم والعصمة من الآثام نظير الأنبياء (عليهم السلام) وأنهم أفضل الخلق بعد رسول الله (- عليه السلام -) ... ». كنز الفوائد: 1/ 245. وقال الخميني: «من ضروريات مذهبنا أنه لا يصل أحد إلى مراتب الأئمة - عليهم السلام - المعنوية، حتى الملك المقرب والنبي المرسل». ص 85.

(6) الكافي: 1/ 174؛ الطبرسي، الاحتجاج: ص 376.

(1/100)

________________________________________

إلى الله تعالى من علي. (1) ولكتاب الله لأنه يدل في جميع آياته على اصطفاه الأنبياء وأختيارهم على جميع العالم، والعقل يدل صريحا على أن جعل النبي واجب الإطاعة وجعله أمرا وناهيا وحاكما على الإطلاق والإمام نائبا وتابعا له لا يعقل بدون فضيلة النبي عليه، ولما كان هذا المعنى موجودا في حق كل نبي ومفقودا في حق كل إمام أفضل من نبي أصلا بل يستحيل، لأن النبي متوسط بين العبد والرب في إيصال الفيضان إليهم فالذي يستفيض منه لو كان أفضل منه أو مساويا له لزم أن يكون أرفع منه في إيصال الفيض، ومفيضا له أو مشتركا معه في الإيصال، وهذا خلف.

وهم يقولون إن الإمامية نيابة النبوة، (2) ومعلوم أن مرتبة النيابة لن تبلغ مرتبة الأصالة أبدا فضلا عن أن تفوقها، ومتمسكهم في هذا الباب عدة شبهات واهية ناشئة من عدة أخبار أثبتها متقدموهم في كتبهم فحكموا بموجبها. وقد تبين حال رواتهم ورجالهم وكيفية الحكم بصحة الخبار الصادرة من علمائهم التي لا يستقيم الاحتجاج بها على وفق القواعد الأصولية لأنها معارضة للإجماع القطعي قبل ظهور المخالف، فلا يجوز القول بظاهر تلك الروايات بل يجب أن تؤول. وأيضا هي معارضة للروايات الآخر كرواية الكليني عن زيد بن علي وابن بابويه عن الصادق المذكورة آنفا، وخبر الواحد - وإن كان بلا معارض أيضا - ظني لا يتمسك به في أصول العقائد بل هو عند محققي الشيعة الإمامية كابن زهرة (3) وابن أدريس (4) وابن البراج (5) والشريف المرتضى (6) وأكثر قدمائهم غير صالح للاحتجاج به، (7) وقد اختار متأخروهم هذا المذهب، ولهذا لم يعدوا أخبار الآحاد في الدلائل بل أوجبوا ردها خصوصا في الاعتقادات. قال ابن المطهر الحلي في (مبادئ الوصول إلى علم الأصول): إن خبر الواحد إذا اقتضى علما ولم يوجد في الأدلة القاطعة ما يدل عليه وجب رده. (8) وظاهر أن مدلول هذه الروايات ليس موجودا في الدلائل

_________

(1) روى ابن بابويه عن عمرو بن هارون عن الصادق عن آبائه عن علي بن أبي طالب - عليه السلام - قال: «إن الله تعالى قال لسكان الجنة من الملائكة وأرواح الرسل ومن فيها: ألا إني زوجت أحب النساء إلي إلى أحب الرجال إلي بعد النبيين». الأمالي: ص 559؛ تفسير فرات: ص 413.

(2) قال الشوشتري: «إن الإمامة نيابة عن النبي في أمور الدين والدنيا، فيعتبر فيها ما اعتبر في النبوة، بل الإمام أحوج إلى ذلك؛ لأن النبي مؤيد بالوحي بخلاف الإمام ... ». الصوارم المهرقة: ص 203.

(3) حمزة بن علي بن زهرة الحلبي المتوفى سنة 585، وللشيعة علماء آخرون من بني زهرة.

(4) محمد بن إبراهيم الحلي، توفي في شوال 598.

(5) القاضي عبد العزيز بن نحرير، توفي في شعبان سنة 481.

(6) علي بن الحسين الموسوي (355 - 436) وهو أخو الرضي الشاعر.

(7) كما قرره الطوسي في عدة الأصول: ص 10؛ المرتضى في الذريعة إلى أصول الشيعة: 2/ 38؛ الأنصاري، فرائد الأصول: ص 39.

(8) مبادئ الأصول: ص 137.

(1/101)

________________________________________

القطعية، بل خلافه يوجد، ومع قطع النظر عن هذه الأمور كلها لا دلالة أيضا لتلك الروايات على المدعَى.

ولنذكر عدة من شبهاتهم ونبين عدم دلالتها على مدعاهم فنقول:

(الشبهة الأولى) أن الأئمة كانوا أزيد من الأنبياء علما فيكونون أفضل منهم رتبة أيضا، لأة الله تعالى يقول: {قل هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون} وقد روى الراوندي عن أبي عبد الله قال: إن الله فضل أولي العزم من الرسل على الأنبياء بالعلم، وورثنا علمهم وفضلنا عليهم، وعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا يعلمون، وعلمنا علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتلا الآية المذكورة. (1)

(الجواب) عن هذه الشبهة بأن هذا الخبر بعد تسليم صحته يدل على زيادة الأئمة في العلم واستيعابهم علوم المرسلين لأن المتأخر يكون مطلعا على علم المتقدم وناظرا فيه فيحيط بعلمه، بخلاف المعاصر والمتقدم فإنه لا يمكن له ذلك، مثاله أن النحوى في هذا العصر يكون مطلعا على مسائل (اللباب) (2) و (الوافي) (3) وتصانيف ابن مالك (4) وابن هشام (5) والأزهري (6) وغيرهم ممن سبقوا من النحاة، ويكون بلا شبهة علمه بمسائل النحو أزيد من علم كل هؤلاء المذكورين، لأن كل واحد منهم لم يكن مطلعا على المسائل المستخرجة لغيره والأفكار الناشئة من طبعه البتة، وقد تقرر أن الصناعات إنما تتكامل بتلاحق الأفكار، وهذا النحوي المتأخر حصل له الوقوف على كل منها، ومع هذا لا تكون رتبته في النحو مساوية لرتبة أحد من أولئك العلماء فضلا عن أن يتقدم عليهم، لأن الرسوخ في العلم وتعمق النظر والغوص والفكر ومعرفة المسائل بدلائلها ودراية المآخذ لكل دقيقة واستخراج المسائل النادرة بقوة الفحص والتتبع في كلام العرب بالأصالة فضيلة لا يبلغها أصلا الاستيعاب والغوص بتلك المسائل. وكذا المنطقي في هذا الزمان لا يكون مساويا في المرتبة للمعلم الأول والمعلم الثاني والشيخ الرئيس فضلا عن أن يقال إنه أفضل منهم وسابقهم في الدرجة، مع أنه يعلم مستخرجات كل منهم بحيث لم يكن لكل منهم الاضطلاع بها أصلا. والذي قرأ العروض لا يفوق الخليل بن أحمد. سلمنا لا يلزم من كثرة العلم كثرة الثواب، ومدار الفضل عند الله على كثرة

_________

(1) الخرائج والجرائح: 2/ 796؛ ورواها أيضا الصفار، بصائر الدرجات: ص 229.

(2) كتاب (اللباب في علل البناء والإعراب) لأبي البقاء محب الدين عبد الله بن الحسين العكبري (ت 616هـ)،

(3) (الوافي في النحو) تصنيف محمد بن عثمان بن عمر البلخي

(4) أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني، ولد بالأندلس، وانتقل إلى دمشق وفيها توفي سنة 672هـ. بغية الوعاة: 1/ 130؛ نفح الطيب: 2/ 222.

(5) جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام، النحوي، قال عنه ابن حجر: «انفرد بالفوائد الغربية والمباحث الدقيقة والاستدراكات العجيبة والتحقيق البالغ والإطلاع المفرط والاقتدار على التصرف في الكلام»، توفي سنة 762هـ. الدرر الكامنة: 3/ 93؛ شذرات الذهب: 3/ 191.

(6) أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، من أئمة الأدب واللغة، توفي سنة 370هـ. معجم الأدباء: 6/ 297؛ البلغة: ص 186.

(1/102)

________________________________________

الثواب لا على كثرة العلم، وإلا فيلزم تفضيل الخضر على موسى وهو خلاف الإجماع. سلمنا ولكن كثرة العلم الموجبة لكثرة الثواب هو العلم الذي يكون مدار الاعتقاد والعمل عليه لا العلوم الزائدة، وذلك العلم هو المراد في الآية المذكورة، وكل نبي كان ذلك العلم حاصلا له بوجه أتم. ولو كان للأئمة أو لغيرهم من العلماء فضل وزيادة في العلم يكون ذلك في العلوم الاخر. والدليل على هذا المدعى أن كل نبي لو لم يكن العلم الذي عليه مدار الاعتقاد والعمل حاصلا له بوجه أتم يخرج عن عهدة التبليغ وبيان الأحكام، وكيف يتم غرض البعثة.

ومع قطع النظر عن هذه الأمور كلها لا يذهب عليك ما في هذه الرواية من الخلل والفساد، فإن توريث الأئمة علم الأنبياء وتفضيلهم عليهم بذلك التوريث كما ذكر فيها يلزم منه أن يكون الأئمة أفضل من نبينا - صلى الله عليه وسلم - أيضا، إذ وجه التفضيل وهو توريث العلم ههنا أيضا، وهو فاسد البتة بالإجماع. (1)

وثانيا علم الأئمة لتعلمهم علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تابع وفرع لعلمه، وعلم الأنبياء أصل وأول وبالذات، وما بالتبع لا يبلغ درجة ما بالذات، وحيث قال تعالى {وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسوله} وقال أيضا {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول} الآية. يتبين منه أن غير الأنبياء ليس لهم علم مثل علم الأنبياء، فبطل عنه التساوي والزيادة بالطريق الأولى. ومع هذا فالاستشهاد بالآية المذكورة أغرب لأن معناها عدم الاستواء بين العالم والجاهل كما هو الظاهر، والأنبياء ما كانوا جاهلين بالإجماع، وغاية ما في الباب تسليما أن الأئمة كان علمهم زائدا على علم الأنبياء، لا أن الأئمة علماء والأنبياء جهال، معاذ الله من ذلك.

(الشبهة الثانية) أنهم تمسكوا برواية الحسن بن كبش عن أبي ذر قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي بن أبي طالب وقال: هذا خير الأولين والآخرين من أهل السماوات والأرضين. (2) وأيضا برواية عن أبي وائل عن عبد الله بن عباس قال حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال لي جبريل: علي خير البشر، من أبى فقد كفر». (3)

الجواب عنها بأن هذه الروايات قد تفرد

_________

(1) أخرج الكليني عن ضريس الكناسي قال: «كنت عند أبي عبد الله - عليه السلام - وعنده أبو بصير فقال أبو عبد الله: إن داود ورث علم الأنبياء وإن سليمان ورث داود وإن محمدا eورث سليمان وإنا ورثنا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى ... ». الكافي، باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم: 1/ 225.

(2) ابن طاوس، التحصين: ص 605؛ ابن شاذان، مائة منقبة: ص 88.

(3) لا يوجد هذا الحديث في كتاب معتبر من كتب أهل السنة،، وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات: 1/ 347؛ وقال عنه الذهبي: «بعض الكذابين يرويه مرفوعا»: ميزان الاعتدال: 3/ 374؛ وقال في مكان آخر: «حديث علي خير البشر وهذا كذب»، المغني في الضعفاء: ص 155؛ وقال الحافظ ابن حجر عنه: «وهذا باطل جلي». لسان الميزان: 2/ 252. وقد أورده من الإمامية: ابن بابويه، الأمالي: ص 76؛ عماد الدين الطبري، بشارة المصطفى: ص 246.

(1/103)

________________________________________

الإمامية بها، وحال رواتهم قد اتضح سابقا، (1) ومع هذا هاتان الروايتان ساقطتان من الاعتبار عند الإمامية أيضا وليس لهما سند صحيح، لأن الحسن بن كبش ومن بعده من الرواة كلهم مجاهيل وضعفاء كما نص عليه علماء رجالهم، (2) ومع هذه كلها لا تنطبق على المدعى لأن التخصيص بغير الأنبياء في مثل هذه العمومات شائع في كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلو لم يذكر في موضع واحد اعتمادا على غيره مما ذكر فيه فيكون ذلك التقيد ملحوظا فيه أيضا قياسا على ذلك الغير، والعام المخصوص لا يكون حجة في القطعيات لكونه ظنيا فلا يعبأ به في الاعتقادات. سلمنا العموم في الأشخاص، ولكن لا نسلم العموم في الأوقات، لأن الأمير لم تكن هذه الخيريات العامة حاصلة له في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا نزاع، لكون النبي أفضل منه البتة، ولكونه داخلا في البشر الأولين والآخرين، فالمراد غير ذلك الوقت، والمراد من الأولين والآخرين والبشر من كانوا في وقته، وهو صحيح عند أهل السنة لأنه أفضل البشر في زمن خلافته ولا نزاع لا حد فيه ولا محذور.

(الشبهة الثانية) أنهم تمسكوا برواية لسعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي في كتاب (القصاص) عن أبي جعفر - عليه السلام -، وبرواية الكليني في (الكافي) عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنهما قالا في تفسير قوله تعالى {قل الروح من أمر ربي} هو خلق أعظم من جبريل وميكائيل لم يكن مع أحد ممن مضى غير محمد، وهو مع الأئمة يوفقهم ويسددهم. (3)

الجواب عنها بأن الحديث الأول قد وقع في سنده هشام بن سالم ومعلوم أنه كان مجسما وملعونا من حضرات الأئمة. وفي سند الحديث الثاني أبو بصير وهو قد اعترف بكذبه على الأئمة وإفشاء أسرارهم. سلمنا الصحة ولكن فحوى هذا الحديث منافية لعصمة النبي والأئمة، لأن المحتاج إلى المؤدب والناصح إنما هو من لا يكون معصوما، ولهذا ليست الملائكة محتاجة إلى المؤدب فلزم من تلك الرواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة كان لهم نقصان

_________

(1) الباب الثاني

(2) لا توجد له ترجمة في كتبهم، ولا جرح أو تعديل

(3) الكافي: 1/ 273؛ رجال الكشي: ص 604 الصفار، بصائر الدرجات: ص 460؛ العياشي، التفسير: 2/ 317. وروها الكشي عن الرضا: رجال الكشي: ص 604

(1/104)

________________________________________

ظاهر في العصمة بالنسبة إلى الأنبياء السابقين حاصلا فإنهم كانوا كاملين في العصمة موفقين مسددين من أنفسهم غير محتاجين في ذلك إلى من سواهم من المخلوقات، وما كان للنبي والأئمة افتقار إلى من يؤدبهم في كل وقت وينبههم ويسدد بالصواب، معاذ الله من هذا الاحتمال الفاسد في جنابه.

وأيضا نقول كون الروح مع النبي هل هو شرط لعصمته أو لا؟ فعلى الأول يلزم أن لا يكون الأنبياء السابقون الذين لم يكن الروح معهم معصومين، وهو باطل بالإجماع. وعلى الثاني يلزم أن لا يكون النبي والأئمة معصومين في حد أنفسهم فإنهم كانوا محتاجين إلى تأديب الروح إياهم ولزم تفضيل الأنبياء على النبي والأئمة إذ كانوا معصومين بلا مصاحبة الروح وهؤلاء بمعيته. ولقد تناقض شيخهم ابن بابويه فقال في كتاب (الاعتقاد): إن الله لم يخلق افضل من محمد والأئمة، وهؤلاء أحب أحباء الله، وإن الله يحبهم أكثر من غيرهم من جميع خلقه وبريته. (1) ثم هو قد روى في كتاب (الأمالي) برواية صحيحة في ضمن خبر طويل في قصة تزويج سيدتنا فاطمة بالأمير - رضي الله عنهم - اعن الصادق عن آبائه أن الله تعالى قال لسكان الجنة من الملائكة وأرواح الرسل ومن فيها: ألا إني زوجت أحب النساء إلى من أحب الرجال إلي بعد النبيين. (2) وهذه الرواية تنادى بأعلى صوت: إن الأنبياء أحب إلى الله من الأمير لكونه أحب إليه بعدهم. ولا عذر لابن بابويه في هذا التناقض الصريح والتهافت القبيح إلا أن يقول «ليس للكذاب حفظ» (3) لا غير.

العقيدة الثالثة: أن الأنبياء معصومون من التقول وقول الكذب والبهتان مطلقا عمدا كان أو سهوا، قبل النبوة أو بعدها. وقال الإمامية: يجوز لهم ذلك من البهتان وقول الكذب، بل يجب عليهم تقية، (4) مع أن الكذب لو جاز على الأنبياء ولو تقية لم يبق الوثوق والاعتماد على قولهم وانتفض غرض البعثة. ولو كانت التقية جائزة للأنبياء لما أمكن تبليغ أحكام الله تعالى للناس بالضرورة، لأن الاحتياج إلى التقية في أول الأمر الذي لا يكون لهم فيه ممد وناصر أكثر وأمس، ولو أظهروا في ذلك الوقت خلاف حكم الله تعالى

_________

(1) الاعتقادات له: ص 66.

(2) تقدمت

(3) من أقوال علماء الحديث

(4) رووا: «قال رجل للرضا - عليه السلام -: يا ابن رسول الله إنه يروى عن عروة بن الزبير أنه قال توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في تقية؟ فقال: أما بعد نزول قوله عز وجل: {والله يعصمك من الناس} فإنه أزال كل تقية بضمان من الله عز وجل ... ». عيون أخبار الرضا: 2/ 130؛ المجلسي، بحار الأنوار: 16/ 221.

(1/105)

________________________________________

مخافة إيذاء القوم متى يعلم حكم الله بعد ذلك؟ وكيف يتصور علمه؟ فيجب عليهم أن يبلغوا كل ما أمرهم بتبيلغه لقوله تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك} الآية ولو لحقهم مخافة، كما قال تعالى {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا} ولو كان الأنبياء فعلوا بالتقية لما عاداهم الكفار وكذبوهم وآذوهم وجادلوا قومهم ليلا ونهارا وصبروا على ما أصابهم من القتل والضرب والشتم وغير ذلك، فثبت أن التقية ليست جائزة لهم أصلا.

العقيدة الرابعة: أن الأنبياء لابد لهم من معرفة الواجبات الإيمانية قبل البعثة وبعدها بالضرورة، لأن الجهل بالعقائد موجب للكفر، ومعاذ الله أن يكون هذا الجهل لجنابهم الأقدس. نعم إنهم لا يحصل لهم علم بوجود الحكام الشرعية بدون ورود الوحي إليهم، وقد ورد باعتبار عدم هذا العلم قوله تعالى {وعلمك ما لم تكن تعلم}، وقد أجمع على هذه العقيدة جماهير المسلمين واليهود والنصارى، إلا الإمامية فإنهم قالوا لا تكون معرفة أصول العقائد حاصلة للأنبياء حين البعثة بل وقت المناجاة والمكالمة، (1) معاذ الله من هذا الاعتقاد الباطل الذي بطلانه بديهي لا يحتاج إلى دليل.

العقيدة الخامسة: أن الأنبياء معصومون من صدور ذنب يكون الموت عليه هلاكا خلافا للإمامية فإنهم رووا في حق بعض الأنبياء صدور هذا الذنب منه. روى الكليني عن أبن أبي يعفور أنه قال سمعت أبا عبد الله يقول وهو رافع يده إلى السماء: رب لا تكلني إلى نفسى طرفة عين ولا أقل من ذلك، فما كان بأسرع من أن تحدر الدمع من جوانب لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا ابن أبي يعفور إن يونس بن متى وكله الله إلى نفسه أقل من طرفة عين فأحدث ذلك، قلت: فبلغ به كفرا أصلحك الله؟ فقال: ولكن الموت على تلك الحال كان هلاكا. (2)

واعلم أن ما يظهر من نص الكتاب في أمر يونس أنه ذهب عن قومه بلا إذن ربه فعوتب على هذا الامر، وأيضا تعجل في الدعاء على قومه ولم يتحمل شدائد إيذائهم وتكذيبهم كما ينبغي لأولي العزم. وظاهر أن هذين الأمرين ليسا بذنب فضلا

_________

(1) روى الكليني عن أبي عبد الله أن يونس أنه كان يقول في سجوده: «أتراك معذبي فقد عفرت لك بالتراب وجهي، أتراك معذبي وقد أظمات لك هواجري، أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي، أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي، قال فأوحى الله عز وجل إليه أن أرفع رأسك فإني غير معذبك، فقال: إن قلت لا أعذبك ثم عذبتني، قال: فإني غير معذبك إني إذا وعدت وعدا وفيت». الكافي، باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب المنزلة: 1/ 227.

(2) الكافي، باب الدعوات الموجزة: 2/ 581.

(1/106)

________________________________________

عن أن يكونا كبيرة فلأن يونس قد قامت عنده قرائن قوية على أن قومه لن يؤمنوا به فدعا عليهم، وأيضا خاف بعد انكشاف العذاب عنهم أن يؤذوه إيذاء شديدا ويكذبوه تكذيبا صريحا حيث لم يلحق العذاب على وفق وعده فلهذا هرب وفر منهم ولم ينتظر حكم الله فيه. ولما كان منصب الأنبياء أعلى وأرفع عوتب على هذا القدر عتابا شديدا وأدب ونبه، وما ورد في القرآن المجيد في حقه {فظن أن لن نقدر عليه} فهو مشتق من القدر بمعنى التضييق والأخذ الشديد من قبيل قوله تعالى {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} لا من القدرة حيث يثبت فساد عقيدته. (1) والدليل الصريح على هذا ما وقع بعده {فنادى في الظلمات} إذ لن يصح تخريج الدعاء والنداء على معنى القدرة، بخلاف ذلك المعنى المذكور فإنه ألصق به. فحاصل المعنى على ما قلنا أنه ظن أنا لن نضيق عليهم ولن نأخذهم أخذا شديدا في العقاب فتاب واستغفر لما فعله رجاء للقبول، واعتراف يونس بالظلم على نفسه حيث قال {إني كنت من الظالمين} إنما هو لهضم النفس والتضرع في جنابه تعالى والعلم القليل كثير كما هو دأب الصالحين أو لأجل ترك الأولى فانه في حق الأنبياء في حكم المعصية والظلم في حق عوام الناس.

العقيدة السادسة: أن آدم ابو البشر كان صفي الله بريئا من الحسد والبغض معصوما من الإصرار على معصية الله تعالى. وهذا مذهب أهل السنة لقوله تعالى {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى} وقوله تعالى {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} وقوله تعالى {إن الله اصطفى أدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين}. وقد وصفه الشيعة بالحسد والبغض وسائر الخصال الذميمة وأنه مصر على عصيان الله تعالى، وما ثبت لإبليس من القبائح كالحسد وترك امتثال الأمر بالسجود وغير ذلك مما حصل له بسبب آدم يثبته الشيعة لآدم بسبب الأئمة، فإنه حسدهم ولم يقر بولايتهم.

روى ابن بابويه في عيون أخبار الرضا عن الإمام الرضا أنه قال إن آدم لما أكرمه الله بسجود الملائكة له وإدخال الجنة قال في نفسه أنا أكرم الخلق، فنادى عز وجل: ارفع رأسك يا آدم فانظر

_________

(1) في التفسير: بعث الله يونس - عليه السلام - إلى أهل نينوى فدعاهم إلى الله عز وجل، فكذبوه وتمردوا وعاندوا، فلما طال ذلك خرج بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث، قال ابن مسعود ومجاهد وغيرهما: «فلما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان من نبيهم فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب، ولهذا قال تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}.» ابن كثير، قصص الأنبياء: ص 295 وما بعدها

(1/107)

________________________________________

إلى ساق عرشي، فرفع رأسه فوجد فيه مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز وجل: هؤلاء من ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقتك وما خلقت الجنة والنار ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد فسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى الله تعالى عنها.

وروى ابن بابويه أيضا في عيون الأخبار عن المفصل بن عمر أبي عبد الله قال: لما أسكن الله عز وجل آدم وزوجته الجنة قال لهما {وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين} فنظرا إلى منزلة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم فوجداها أشرف المنازل التي في الجنة فقالا: ربنا لمن هذه المنزلة؟ فقال الله عز وجل: ارفعوا رءوسكم إلى ساق عرشي، فرفعا رأسهما فوجدا أسماء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة مكتوبة على ساق العرش بنور من نور الجبار جل جلاله، فقالا: يا ربنا ما أكرم هذه المنزلة عليك، وما أحبهم إليك، وما أشرفهم لديك. فقال الله تعالى: لولاهم ما خلقتكما، هؤلاء خزنة علمي وأمنائي على سرى إياكم أن تنظرا إليهم بعين الحسد وتتمنيا منزلتهم عندي ومحلهم من كرامتي فتدخلا من ذلك في نهيى وعصياني فتكونا من الظالمين. فوسوس إليهما الشيطان فدلاهما بغرور وحملهما على تمني منزلتهم، فنظرا إليهم بعين الحسد فخذلا.

لذلك ينبغي للعاقل أن يتامل في مدلول هذين الخبرين فإنهما - كما ذكر - فيهما ما فيهما من إهانة آدم وتحقيره، إذ الحسد مطلقا من المذمومات والقبائح وأمراض القلب وأسقام الروح بإجماع جميع أهل الملل والنحل، خصوصا حسد الأكابر والأخيار من عباد الله فإنه كبيرة من عمدة الكبائر، وهم ينسبونه إلى آدم خاصة بعد تقييد الله وتأكيده التام له في منعه. ففي مذهبهم لم يبق فرق بين آدم وإبليس، فإن ما فعله إبليس في حقه فعله آدم في حق أولاده، بل إن فعل آدم صار أقبح من فعل أبليس، فإن إبليس لم يكن له علاقة بآدم من وجه بل كانت المباينة

(1/108)

________________________________________

بينهما بالكلية بخلاف آدم فإنه كان بينه وبين هؤلاء الكبار علاقة الأبوة والنبوة، فلزم أن قطيعة رحم القريب وحسد الأولاد الذي هو من المحالات العادية في سلامة الفطرة قد نسب إلى نبي هو أول الأنبياء وكان قبلة الملائكة وساكن الجنة، معاذ الله من ذلك. فهذا هو حال آدم وفعله في حق العباد عند الإمامية، وأما معاملته في حق الله تعالى فنشرحها على طبق ما عندهم من الرواية الأخرى: روى محمد بن الحسن الصفار عن أبي جعفر: قال الله تعالى لآدم وذريته التي أخرجها من صلبه: ألست بربكم وهذا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة امري، وأن المهدي أنتقم به من أعدائي وأُعبد به طوعا وكرها؟ قالوا اأقررنا وشهدنا، وآدم لم يقر ولم يكن له عزم على الإقرار به. ولا يخفى أن هذا الخبر قد ذكر فيه كفر آدم صريحا، إذ لزمه كفر الجحود، وهو نوع أشد من أنواع الكفر الأربعة. وتكفير نبي قد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وقال في حقه {إن الله اصطفى آدم} وأمر الملائكة بالسجود له، كم له بعدٌ عن الدين والإيمان؟ وقد أنكر الشريف المرتضى خير الميثاق في كتابه بالدرر والغرر حمية للإسلام في الجملة، وحكم بوضع ذلك الخبر واختراعه، وأخرج ابن الصفار وشيوخه عن دائرة الإيمان، ولله الحمد.

والعجب من علماء هذه الفرقة أنهم لا يتأملون في نظم الكتاب ولا يجدون أن محل العتاب على آدم ليس إلا أكل الشجرة المنهي عنه فقط، وما هو كبيرة بالإجماع، ولو أن هذه الأمور وقعت منه لكان على الله أن يجعل تلك الأمور محل العتاب لا أكل الشجرة المنهي عنه، وكان يخبر بها دونه، ليكون لأبي بكر وعمر وعثمان عبرة في ذلك فيجتنبوا أمثال هذه القبائح. (1)

وقد لوحظ في كتبهم رواية أخرى أيضا عن الإمامية في ترك العهد الذي كان على آدم. وروى ابن الصفار المذكور في قوله تعالى {ولقد عهدنا إلى آدم} قال عهد الله إلى آدم في محمد والأئمة من بعده، فترك ولم يكن له عزم أنهم كذا.

_________

(1) لعل القارئ قد لاحظ من أول الكتاب إلى الآن أن المؤلف يخاطب الشيعة بعقليتهم ويحتج عليهم برواياتهم وأساليبهم، مبالغة منه في سد أبواب المراء في وجوههم، وليقنع أتباعهم بأن ما هم عليه يناقض دعاويهم وينقضها من أصولها.

(1/109)

________________________________________

وأصل الحقيقة أن ابن الصفار هذا كان رجلا علجا من علوج المجوس، وكان اسم جده فرخ، وهو كان يعد من موالي موسى بن عيسى الأشعري، وقد بقى في طينته الخبيبثة المجوسية، غاية الأمر أنهم كانوا يتسترون بالتشيع. والدليل الصريح على هذا أن ابن الصفار يروي عن الأئمة روايات تقدح بالحقيقة في الأئمة أيضا كالأخبار المذكورة، لأن كل طائفة من طوائف المليين من اليهود والنصارى والمسلمين قد أجمعوا على فضيلة أبي البشر آدم وكرامته على الله تعالى واصطفائه على العالمين. وإذا انتشر مثل هذه الروايات عنه في العالم يعتقد الناس قاطبة في حق الأئمة بطلان إمامتهم وعدم حقيتها، بل عدم ديانتهم، وينفرون عنهم بهذه الكلمات، ويحدث في الإسلام ابتلاء عظيم، ويحصل للمجوس مدعاهم وأماني قلوبهم من زوال نور الإسلام. وبحمد الله قد أطلع أهل السنة على خباثة هؤلاء القوم وطرحوا رواياتهم، ولكن الشيعة لما اضلهم الشيطان عن طريق الصواب وتركهم تبعا لهؤلاء الشيوخ المضلين، جعلوا دينهم وإيمانهم على رواية هؤلاء الكفرة، وبدلوا إيمانهم في سبيل متابعة أولئك الأبالسة، ومن يضلل فما له من هاد.

العقيدة السابعة: أن أحدا من الانبياء لم يستعف عن الرسالة قط ولم يعتذر في أداء أحكام الله تعالى أصلا، وهذا هو مذهب أهل السنة. وقال الإمامية إن بعض أولي العزم من الرسل استعفوا عن الرسالة وأظهروا الاعتلال وعدم الموافقة وبينوا العذر، منهم موسى - على نبينا وعليه السلام - فإنه لما قال له تعالى وناداه بلا واسطة أحد يا موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون، قال موسى في جوابه: أعفني من هذا الأمر إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري من المباحثة ولا ينطلق لساني أيضا لكونه العقدة فيه فيقصر في تقرير المطلب، ولهم علي ذنب بما قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلوني بدله، فأرسل هرون أخي هو أفصح مني لسانا واجعله رسولا إلى فرعون. والإمامية يخرجون هذه المعاني من آيات الكتاب ويفهمونها من كلام الله تعالى، مع أن الاستعفاء عن الرسالة متضمن لرد الوحي ومستلزم لعدم الانقياد وترك الامتثال لأمر الله تعالى، والأنبياء معصومون عن مثل هذه الأمور. وأنت تعلم أنهم لا محل لهم بالتمسك في آيات الكتاب الوادرة في أحوال

(1/110)

________________________________________

موسى، بل تلك الآيات عند التأمل معَجزة لهم ومكذبة لدعواهم هذه، لأن موسى لم يقل عنه فيما حكي عنه في القرآن المجيد هذا القول ولو بمعناه «اعفني من هذا الأمر» أصلا، ولم يذكر من قبله فيه قط، وكذا هذا القول «أرسل هرون بالرسالة إليهم بدلا مني». وهذه كلها ناشئة من سوء فهم علماء هذه الفرقة وشدة وقاحتهم. نعم قد بين سخافة تكذيب قوم فرعون وخوف قتلهم إياه قبل أداء الرسالة وضيق صدره وقصور لسانه ولكن لا من جهة الاستعفاء والاعتلال بل لطلب العون على امتثال الأمر وتمهيد العذر في طلب المعين، وهذا عين الحجة لقبوله لا على رده ودفعه. وفي آية {واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري} ورد تفسير هذا بأن غرض موسى كان اشتراك أخيه بنفسه في أمر الرسالة لا المدافعة عن نفسه ولا جعل هرون في مكانه. وكذا قوله أخاف أن يكذبون وأخاف أن يقتلون إنما كان لمحض استدفاعه البلاء عن نفسه واستجلابه الحفظ من رب الأرض والسماء لا دفع هذا المنصب العالي عن نفسه. نعوذ بالله تعالى من سوء الفهم والظن لا سيما في حق الأنبياء وخصوصا أولي العزم.

العقيدة الثامنة: أن المبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق كافة هو محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب بن هاشم - صلى الله عليه وسلم - لا على بن أبي طالب بن عبد المطلب وأن جبريل أمين الله على وحيه الذي جاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه لا من نفسه ولم يخن في أداء الرسالة قط. وخالفت الغرابية إحدى فرق الشيعة في ذلك، ولا يمكن الاحتجاج عليهم بالكتاب لأنه وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبرائيل وهو غير مقبول عندهم، ولا بقول الأئمة لأن شهادتهم لجدهم وشرفه يعود إليهم، بل لا بد من أن يحتج عليهم بالتوراة لأنها نزلت دفعة واحدة في الطور بلا واسطة أحد مكتوب على الألواح ولم يكن فيها دخل لجبريل. قال الله تعالى في سفر التكوين من التوراة لإبراهيم: إن هاجر تلد، ويكون

(1/111)

________________________________________

من ولدها من يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع (1) ولم يكن ذلك الولد إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده لأن عليا كرم الله وجهه كان في زمن الخلفاء الثلاثة مغلوبا خائفا مظلوما. (2) وفي سفر التثنية منها: يا موسى إني مقيم لبني إسماعيل نبيا وأجرى قولي في فيه ويقول لهم ما آمره به. (3) وهذا النبي لا بد أن يبعث في بني إسماعيل، وعلي بن أبي طالب لم يبلغ قط ما أمر الله تعالى بل هو من أتباع نبي وقته فليس ذلك النبي إلا محمد بن عبد الله. وفي الزبور: يا أحمد فاضت الرجمة على شفتيك من أجل ذلك أبارك عليك فتقلد السيف فإنه بهاؤك وحمدك الغائب وبوركت كلمة الحق فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك سهامك مسنونة والأمم يجرون تحتك كتاب حق الله من اليمن والتقديس من جبل فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه وملك الأرض ورقاب الأمم. (4) وفي موضع آخر منه لقد انكسفت السماء من بهاء أحمد وامتلأت الأرض من حمده. (5) إلى غير ذلك من نصوص الإنجيل مما هو مذكور في الترجمة. وعندي أن هذا مما لا حاجة إلى إقامة الحجة على بطلانه ومن أنكر شمس الضحى فليترك مع شيطانه. (6)

_________

(1) في سفر التكوين المتداول 16: 10 - 12 «وقال لها ملاك الرب: ها أنت حبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل ... يده على كل واحد ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوته يسكن ... . إلخ» وفي الاصحاح 17 منه 20 «وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا، اثني عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة».

(2) أي حسب مزاعم الإمامية.

(3) في سفر التثنية من التوراة (18: 15): يقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي، له تسمعون» (18: 18): «أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به».

(4) ينظر المزموز 45

(5) ينظر حبقوق 3: 3

(6) وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل

(1/112)

________________________________________

العقيدة التاسعة: أن معراج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات بشخصه حق، وليس لأحد من أهل عصره مشاركة له في ذلك لقوله تعالى {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} وقوله تعالى {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى - إلى قوله تعالى - لقد رأى من آيات ربه الكبرى}. وكتب الامامية مشحونة من كلام الأئمة في ذلك. وخالفت أكثر فرق الشيعة في هذه المسألة فبعضهم أنكر - وهم الإسماعيلية والمعمرية والذمية - أصلَ المعراج مستدلين بشبهات الفلاسفة من استبعاد الحركة السريعة وخرق السماوات وقد برهن عليها في كتاب الكلام. وبعضهم، وهم المنصورية، أنكر الاختصاص وقالوا إن أبا منصور العجلي قد صعد أيضا بجسده في اليقظة إلى السماوات وشافه الله تعالى وكالمه ومسح الله تعالى بيده فوق رأسه، والعجلي هذا هو الذي أخرجه الإمام الصادق من بيته وطرده ثم ادعى الإمامة لنفسه. ومن الإمامية من يقول بمشاركة الأمير في المعراج ومنهم من قال لا لكن رأى وهو في الأرض ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرش - سبحانك هذا بهتان عظيم! إذ لو كانت تلك الرؤية ممكنة من الأرض لم كلف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصعود؟ فيلزم على هذا تفصيل الأمير على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تبين بطلانه.

العقيدة العاشرة: نصوص الكتاب وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها محمولة على معانيها الظاهرة وأن التكاليف لم ترتفع. وذهب فرق كثيرة من الشيعة كالسبعية والخطابية والمنصورية والمعمرية والباطنية والقرامطة والرزامية إلى أن كل ما ورد في الكتاب والسنة من الوضوء والتيمم والصلاة والصوم والزكاة والحج والجنة والنار والقيامة والحشر ونحوها غير محمولة على ظاهرها بل هي إشارات إلى أشياء أخر لا يعلمها إلا الإمام المعصوم، كقول السبعية

(1/113)

________________________________________

إن الوضوء موالاة الإمام، والتيمم الأخذ من المأذون في غيبة الإمام، والصلاة عبارة عن الرسول الناطق بالحق بدليل أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والغسل عبارة عن تجديد العهد للإمام، والجنة هي سقوط التكاليف الشرعية، والنار مشقة حمل التكاليف والعمل بالظواهر. وأما القائلون بارتفاع التكاليف الشرعية بالكلية فهم المنصورية القائلون من لقي إمام الوقت سقط عنه جميع التكاليف بنفسها فيفعل حينئذ ما يشاء، لأن الجنة عبارة عن الإمام، وبعد الوصول لا يبقى تكليف. والحميرية (1) القائلون إن أمر الشيعة مفوض إلى حجة الوقت، فإن شاء أو زاد أو نقص.

العقيدة الحادية عشرة: أن الله تعالى لم يرسل ملكا إلى أحد في الأرض من البشر بعد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -. وقالت الإمامية كان الأمير يوحى إليه، والفرق بين وحي الرسل وبين وحي الأمير أن الرسول كان يشاهد الملك والأمير يسمع صوته فقط. روى الكليني في الكافي عن السجاد أن علي بن أبي طالب كان محدثا وهو الذي يرسل الله إليه الملك فيكلمه ويسمع الصوت ولا يرى الصورة. (2) وهذه الرواية كذب مع أنه يناقضها الروايات الأخر الثابتة عندهم عن الأئمة. منها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: أيها الناس لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات. ومنها ما كان الباري تعالى أنزله من الكتاب المختوم بخواتم الذهب إلى نبي الزمان وهو أوصله إلى الأمير والأمير أوصله إلى الإمام الحسن وهكذا إلى المهدي وكان السابق يوصى اللاحق أن يفك خاتما واحدا من ذلك الكتاب ويعمل بما فيه، فإذا كان الأمر كذلك لم يكن حاجة إلى إرسال الملك والإيحاء. وذهبت طائفة من الإمامية إلى

_________

(1) نسبة إلى الحسن بن صباح الحميري، وهم النزارية من الإسماعيليين

(2) وانظر ص 41 من الكافي للكليني طبعة سنة 1278. وضلالة سماع الصوت ادعاها غاندي لنفسه ووافقه عليها قاديانية لاهور في مجلة light الجزء 19 بتاريخ 16 يوليو 1933 ورد عليهم الدكتور تقي الدين الهلالي في مجلة (الفتح) ثم نشر في رسالة مستقلة بعنوان «سب القاديانيين للإسلام». فالإمامية سبقوا القاديانيين وعباد البقر إلى هذه الخرافة.

(1/114)

________________________________________

أن سيدة النساء فاطمة غلبها السلام كان يوحى إليها بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد جمع ذلك الوحي وسماه (مصحف فاطمة) (1) وأكثر الوقائع الآتية وفتن هذه الأمة مذكورة فيه والأئمة إنما يخبرون الناس بأخبار الغيب من ذلك المصحف، سبحانك هذا بهتان عظيم وقول وخيم.

العقيدة الثانية عشرة: أن الإمام لا يجوز له أن ينسخ حكما من الأحكام الشرعية ولا يبدله. وذهبت الإمامية إلى جواز ذلك مستدلين بروايات مفتراة على الأئمة، منها مارواه ابن بابويه القمي عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله تعالى آخى بين الأرواح في الأزل قبل أن يخلق الاجسام بألفي عام، فلو قد قام قائم أهل البيت وَرَّثَ الأخَ من اللذين آخى بينهما في الأزل ولم يورّث الأخ من الولادة. ومما يدل على كذب هذه الرواية أن التكاليف الشرعية لما كانت لازمة لعامة الناس لا بد أن تكون منوطة بالعلاقة الظاهرة والأمور الجلية كالتوالد والقرابة ونحوهما مما يدركه البشر، والمؤاخاة الأزلية لا يدركها العقل، ونص الإمام لا يمكن في كل فرد فرد. والحاصل أن هذه العقيدة مخالفة لظاهر العقل لأن الإمام خليفة النبي في ترويج الشريعة وتعليمها، فإن كان له دخل في تبديل الأحكام وتغييرها فقد خالفه، مع أنه ليس بشارع. وكذا النبي لقوله تعالى {شرع لكم من الدين} وقوله تعالى {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}. نسأله تعالى أن يعصمنا من مثل هذا الزلل ويوفقنا إلى ما يحب من القول والعمل.

_________

(1) في كتاب (الكافي) للكليني ص 57 - وهو عندهم مثل صحيح البخاري عند المسلمين - أن أبا بصير سمع من جعفر الصادق قوله «وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة عليها السلام ... . مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم هذا حرف واحد،» وأبو بصير مخترع هذه الأكذوبة هو ليث بن البختري وتقدم التعريف به في هامش ص 65، وقد اعترف علماء الإمامية بأنه مطعون في دينه لكنهم قالوا إنه ثقة والطعن في دينه لا يوجب الطعن! وهكذا قالوا والله حسيبهم ... .

(1/115)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

الباب الخامس في الإمامة

وفيه ست تنبيهات

التنبيه الأول: اعلم أن أول ما اختلف فيه من مسائل هذا الباب كون نصب الإمام واجبا على العباد أو على الله تعالى. فأهل السنة على الأول، والشيعة على الثاني. (1) والفطرة شاهدة للأول إذ كل فرقة تقرر لأنفسهم رئيسا من بينهم، وكذا الشرع أيضا إذ الشارع قد أوضح شرائط الإمام وأوصافه ولوازمه بوجه كلي كما هو شأنه في الأمور الجبلية كالنكاح ولوازمه مثلا. وأيضا لا معنى للوجوب عليه تعالى بل هو مناف للألوهية والربوبية كما هو مقرر في محله. (2) وأيضا كل ما يتعلق بوجود الرئيس من أمور المكلفين - من إقامة الحدود والجهاد وتجهيز الجيوش إلى غير ذلك - واجب عليهم، فلا بد وأن يكون نصب الرئيس واجبا عليهم، لأن مقدمة ما يجب على أحد واجبة عليه. ألا ترى أن الوضوء وتطهير الثوب وستر العورة واجب على المصلي كالصلاة، لا عليه تعالى، وهذا ظاهر. (3) وأيضا إن تأملنا علمنا أن نصب الإمام من قبل الباري يتضمن مفاسد كثيرة، لأن آراء العالم مختلفة وأهواء نفوسهم متفاوتة، ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إلى منتهى بقاء الدنيا إيجاب لتهييج الفتن، وجر لأمر الإمامة على التعطيل ودوام الخوف والتزام الاختفاء كما وقع للجماعة الذين يعتقد الشيعة إمامتهم، فمع هذا قولهم «نصب الإمامة لطف» في غاية السفاهة يضحك عليه، إذ لو كان لطفا لكان بالتأييد والإظهار لا بغلبة المخالفين والانتصار، فإذا لم يكن التأييد في البين، لم يكن النصب لطفا كما يظهر لذي عينين.

وما أجاب عنه بعض الإمامية - بأن وجود الإمام لطف، وتصرفه وتمكينه لطف آخر، (4) وعدم تصرف الأئمة إنما هو من فساد العباد وكثرة الفساد، فإنهم خوفوهم ومنعوهم بحيث تركوا من خوفهم على أنفسهم إظهار الأمامة، وإذا ترك الناس نصرتهم لسوء اختيارهم فلا يلزم قباحة

_________

(1) قال الطوسي: «الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلا للغرض». كشف المراد في شرح صحيح الاعتقاد: ص 367. وقال المجلسي: «إن وجود الإمام لطف باتفاق جميع العقلاء، وأنه لا بد أن يكون معصوما ... ». بحار الأنوار: 51/ 213.

(2) قال الآلوسي الجد في نهج السلامة إلى مباحث الإمامة: «إن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - تسارعوا إلى نصب الإمام حتى قدموه على تجهيزه ودفنه - عليه الصلاة والسلام -، وتبعهم عليه سائر الأمة في كل زمان، عقيب موت السلطان ... » وقال «إن نصب الإمام دفع ضرر عام مظنون، وكل ضرر عام مظنون يجب على العباد دفعه إن قدروا عليه إجماعا، ولا يخفى أن بعض هذه الأوجه لا يثبت أكثر من الوجوب».

(3) روى ابن بابويه القمي في باب أن الإمامة عهد من الله تعالى عن علي بن فضال قال: «سأل إسماعيل بن عمار أبا الحسن الأول - عليه السلام - فقال له: فرض الله على الإمام أن يوصي قبل أن يخرج من الدنيا ويعهد؟، فقال: نعم، قال فريضة من الله؟ فقال نعم». الإمامة والتبصرة: ص 37.

(4) وإليه ذهب ابن المطهر الحلي في كتابه الألفين: ص 21.

(1/116)

________________________________________

في كونه واجبا عليه تعالى، والاستتار والخوف من سنن الأنبياء فقد اختفى - صلى الله عليه وسلم - في الغار خوفا من الكفار (1) - ففيه غفلة عن المقدمات المأخوذة في الاعتراض، إذ المعترض يقول: الوجود بشرط التصرف والنصرة لطف، وبدونه متضمن لمفاسد. فالواجب في الجواب التعرض لدفع لزوم المفاسد، ولم يتعرض له كما لا يخفى. وأيضا يرد على القائل بكونه لطفا آخر ترك الواجب عليه تعالى، وهذا أقبح من ترك النصب. وأيضا يقال عليه: هذا اللطف الآخر إما من لوازم النصب أو لا، فعلى الأول لزم من تركه ترك النصب لن ترك اللازم يستلزم ترك الملزوم.

وأيضا ما ذكره من تخويف الناس للأئمة غير مسلم، وهذه كتب التواريخ المعتبرة في البين. وأيضا التخويف الموجب للاستتار إنما هو إذا كان بالقتل، وهذا لا يتصور في حق الأئمة لأنهم يموتون باختيارهم كما أثبت ذلك الكليني في الكافي وبوب له. (2) وأيضا لا يفعل الأئمة أمرا إلا بإذنه تعالى، فلو كان الاختفاء بأمره تعالى وقد مضت مدة والخفاء هو الخفاء، فلا لطف بلا امتراء. (3)

وأيضا إن كان واجبا للتخويف لزم ترك الواجب في حق الذين لم يكونوا كذلك كزكريا (4) ويحيى (5) والحسين، (6) وإن لم يكن واجبا بأن كان مندوبا لزم على من اختفى ترك الواجب الذي هو التبليغ لأجل مندوب، وهو فحش. وإن كان أمر الله تعالى مختلفا بأن كان في حق التاركين بالندب مثلا وفي حق المستترين بالفرض لزم ترك الأصلح الواجب بزعم الشيعة في أحد الفريقين، وهو باطل. (7) ولا يمكن أن يقال الأصلح في حق كل ما فعل، لأنا نقول إن الإمام بوصف الأمامة لا يصح اختلاف وصفه كالعصمة، لأن اختلاف اللوازم يستلزم اختلاف الملزومات، فيلزم أن

_________

(1) وهذا ما قاله الطوسي: «أليس النبي صلى الله عليه وآله اختفى في الشعب ثلاث سنين لم يصل إليه أحد، واختفى في الغار ثلاثة أيام ولم يجز قياسا على ذلك أن يعدمه الله تعالى تلك المدة مع بقاء التكليف على الخلق الذين بعثه لطفا لهم. ومتى قالوا: إنما اختفى بعدما دعا إلى نفسه وأظهر نبوته فلما أخافوه استتر. قلنا: وكذلك الإمام لم يستتر إلا وقد أظهر آباؤه موضعه وصفته، ودلو عليه، ثم لما خاف عليه أبوه الحسن بن علي ... ». كتاب الغيبة: ص 14.

(2) في ص 62 من طبعة إيران سنة 1287 وعنوان الباب «باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم» وكتاب الكافي للكليني عند هذه الطائفة بمنزلة صحيح البخاري عند المسلمين.

(3) وفي بخاريهم الذى يسمونه الكافي للكليني (1/ 279) ص 68 باب مستقل عنوانه «باب أن الأئمة عليهم السلام لم يفعلوا شيئا ولا يفعلونه إلا بعهد من الله وأمر لا يتجاوزونه».

(4) قال ابن كثير عن زكريا: اختلفت الرواية عن وهب بن منبه هل مات زكريا - عليه السلام - موتا أو قتلا؟ على روايتين ... منها قول وهب بن منبه إنه هرب من قومه فدخل شجرة فجاؤوا فوضعوا المنشار عليهما، فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أنَّ فأوحى الله إليه: لئن لم يسكن أنينك لأقلبن الأرض ومن عليها فسكن أنينه حتى قطع باثنين، وروي عنه ابن منبه أيضا أنه قال: إن الذي انصدعت له الأرض هو أشعيا، فأما زكريا فمات موتا. قصص الأنبياء: ص 549.

(5) قال ابن كثير: ذكروا في مقتل يحيى - عليه السلام - أسبابا أشهرها: «أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق، كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له تزويجها، فنهاه يحيى - عليه السلام - عن ذلك فبقي في نفسه منه، فلما كان بينها وبين الملك ما يحب استوهبت منه دم يحيى فوهبه لها، فبعث إليه من قتله وجاء برأسه ودمه في طست إلى عندها فيقال: إنها هلكت من فورها وساعتها». قصص الأنبياء: ص 551.

(6) وفي الحديث: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام». المسند: 2/ 148؛ الطبراني، المعجم الكبير: 3/ 36؛ وصححه في صحيح الجامع 3181.

(7) روى ابن بابويه عن عيسى الخشاب قال: «قلت للحسين بن علي - عليه السلام -: أنت صاحب هذا الأمر؟ قال: لا ولكن صاحب هذا الأمر الطريد الشريد الموتور بأبيه المكنى بعمه يضع السيف على عاتقه ثمانية أشهر». كمال الدين: ص 318؛ المجلسي بحار الأنوار: 51/ 133.

(1/117)

________________________________________

لا يكون أحد الفريقين إماما فلا يكون الأصلح في حقهم إلا أحد الحالين وإلا لزم اجتماع النقيضين كما أن الموضوع إذا كان مأخوذا بالوصف العنواني فثبوت المحمول له بالضرورة بشرط الوصف يكون لازما ويمتنع حمل نقيضه عليه كما لا يخفى. وأيضا نقول: الاختفاء من القتل نفسه محال لأن موتهم باختيارهم! وإن كان من خوف إيذاء البدن يلزم أن الأئمة فروا من عبادة المجاهدة وتحمل المشاق في سبيل الله تعالى وهذا بعيد عنهم ومع هذا لا معنى لاختفاء صاحب الزمان بخصوصه (1)

فإنه يعلم باليقين أنه يعيش إلى نزول عيسى ولا يقدر أحد على قتله وأنه سيملك الأرض بحذافيرها، (2) فبأي شيء يتخوف ويختفي؟ ولماذا لم يظهر الدعوة ويتحمل المشقة كما فعله سيد الشهداء؟ وما قاله المرتضي في كتابه (تنزيه الأنبياء والأئمة) من أنه فرق بين آبائه الكرام فإنه مشار إليه بأنه مهدي قائم صاحب السيف قاهر للأعداء منتقم منهم مزيل للدولة والملك عنهم فله مخافة لا تكون لغيره (3) فكلام لا لب فيه لأن خوف القتل نفسه قد غلب عليه ومع هذا معلوم له باليقين أن أحدا لن يقتله أبدا. وأيضا ألا يعلم أن المخالفين لا يقبلون من أحد دعوى المهدوية

_________

(1) صاحب الزمان وقد يسمونه صاحب الدار هو الصبي الذي زعموا أنه إمامهم الثاني عشر ودخل السرداب صبيا في مدينة سر من رأى ومنذ أكثر من ألف سنة يدعون بأن يعجل الله فرجه ويرمزون لهذا الدعاء بهذين الحرفين (ع .. ج) أو (عج)، منتظرين خروجه من السرداب وبيده السيف فيذبح البشر جميعا وفي مقدمتهم المسلمين أهل السنة والجماعة ويمحقهم محقا وليس في الشيعة شاعر إلا له قصيدة في صاحب الزمان ساكن السرداب والدعاء بأن يعجل الله فرجه وحتى البهاء العاملي صاحب الكشكول وخلاصة الحساب له قصيدة يغني فيها على ألحان هذه الموسيقى ولهم في بلدة قم رئيس يزعمون أنه آية الله وهو يمثل خدمة صاحب الزمان ويجمع الصدقات باسمه لا لأن الإمام يحتاج إلى ما في أيدى الناس بل لأن الناس يحتاجون أن تقبل صدقاتهم منه! وقد أراد مندوب جريدة الأخبار المصرية أن يجتمع به فسافر إليه ولقي في ذلك أعظم المشقات، ومع ذلك لم يتوصل إلى رؤية صاحب هذا المقام الرفيع لأن خادم صاحب السرداب يجب أن يكون هو الآخر في سرداب!.

(2) أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما يملك سبع سنين». سنن أبي داود، كتاب المهدي: 4/ 107، رقم 4285؛ وحسنه في صحيح الجامع 6736.

(3) تنزيه الأنبياء: ص 181.

(1/118)

________________________________________

قبل ألف سنة وأن المهدي يظله السحاب لا سقف السرداب، (1) وأنه يظهر في مكة لا في سر من رأى، (2) ويدعو الناس بعد الأربعين من عمره لا في زمن الطفولة ولا في الشيخوخة. (3)

على أن السيد محمد الجنفوري (4) في الهند ولم يقتل ولم يخوف وأيضا قد كثر محبوه وناصروه في زمن الدولة الصفوية (5) أكثر من رمل الصحارى والحصى، فالاختفاء مناف لمنصب الإمامة الذي مبناه على الشجاعة والجرأة فهلا خرج وصبر واستقام إلى أن ظفر وهلا كان القوم الذين قال الله تعالى فيهم {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}

ثم ما حكى أولا من قصة الغار واستتار سيد الأبرار من خوف الكفار (6) فكلام واقع في غير موقعه لأن استتاره - عليه الصلاة والسلام - لم يكن لإخفاء دعوى النبوة بل كان من جنس التورية في الحرب لأجل أن الكفار لا يطلعون على مقصده ولا يسدون الطريق عليه وهذا أيضا كان ثلاثة أيام (7) فقياس ما نحن فيه عليه غاية الحماقة والوقاحة ففرق واضح لا يخفى على من له أدنى عقل بين الاختفاء الذي كان مقدمة لظهور الدين والغلبة على الكافرين وبين الاختفاء الذي لازمه الخذلان وترك الدعوة وانتشار الطغيان. فالأول تلوح مياه الهمة من أسرته (8) وتتبلج أقمار النصرة من تحت طرته (9) بخلاف الثاني فغبار الجبن يلوح على خده والفرار عن الدعوة موسوم على حده فأي فرقة سخرها الإمام لنفسه في هذه الغيبة وأي ملك ملكه؟ ولو ابتغى صاحب الزمان فرصة ثلاثمائة سنة مكان ثلاث ليالي وعوض الغار سرداب سر من رأى وبدل المدينة المنورة دار المؤمنين قم ودار الإيمان كاشان (10) وبدل الأنصار شيعة فارس والعراق قائلا بأني في هذه الصورة أجمع الأسباب وأتخذ الأصحاب ثم خرج لكشف الغمة وإصلاح حال الأمة لتحمل أهل السنة وغيرهم هذه الشرائط. وأنى ذلك فليست هذه إمامة بل هي لعمرك قيامة.

وقد ترك الشيخ مقداد صاحب (كنز العرفان) من المتأخرين طريق القدماء وقال: كان

_________

(1) يعتقد الإمامية أن إمامهم الثاني عشر ما زال منذ اختفاءه منذ أكثر من مائتي وألف عام حيا يرزق، قال الكفعمي: «يستحب زيارة المهدي في كل زمان ومكان والدعاء بتعجيل فرجه (صلوات الله عليه) عند زيارته، وتتأكد زيارته في السرداب بسر من رأى ... ». البلد الأمين: ص 309.

(2) في رواية نعيم بن حماد عن الزهري أنه قال: «يخرج المهدي من مكة». الفتن: 1/ 351. وعند الإمامية أكثر من رواية في ذلك منها ما رواه محمد بن جمهور عن أبي جعفر أنه قال: «يخرج القائم بمكة» ..

(3) ينظر السنن الواردة في الفتن: 5/ 1092؛ وما أورده نعيم بن حماد، الفتن: 1/ 365.

(4) ذكره القنوجي في أبجد العلوم: 3/ 221.

(5) أسسها إسماعيل الصفوي في إيران (1600 - 1620م)، الذي أظهر عقيدة الإمامية في إيران، وقتل كل من يعارضها من العلماء والعامة، قال الشوكاني: «كاد أن يدعي الربوبية وكان يسجد له عسكره ويأتمرون بأمره»، وقال قطب الدين الحنفي الشوكاني: «قتل ألف ألف نفس بحيث لا يعهد في الجاهلية ولا في الإسلام ولا في الأمم السابقة من قتل من النفوس ما قتل الشاه إسماعيل، وقتل من أعاظم العلماء بحيث لم يبق من أهل العلم أحد في بلاد العجم وأحرق جميع كتبهم ومصاحفهم وكان شديد الرفض»، مات سنة 931هـ/ 1620م. البدر الطالع: 1/ 271؛ أعيان الشيعة: 3/ 321.

(6) إشارة إلى ما قاله المرتضى لتبرير اختفاء الإمام الغائب المزعوم في السرداب تأسيا باختفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار. تنزيه الأنبياء: ص 184

(7) قال الطوسي: «أليس النبي صلى الله عليه وآله اختفى في الشعب ثلاث سنين لم يصل إليه أحد، واختفى في الغار ثلاثة أيام ولم يجز قياسا على ذلك أن يعدمه الله تعالى تلك المدة مع بقاء التكليف على الخلق الذين بعثه لطفا لهم. ومتى قالوا: إنما اختفى بعدما دعا إلى نفسه وأظهر نبوته فلما أخافوه استتر. قلنا: وكذلك الإمام لم يستتر إلا وقد أظهر آباؤه موضعه وصفته، ودلوا عليه، ثم لما خاف عليه أبوه الحسن بن علي ... ». كتاب الغيبة: ص 15.

(8) «أسرة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون لأنه يتقوى بهم». لسان العرب: مادة أسر: 4/ 19.

(9) حاشية الشيء. اللسان: مادة طرر: 4/ 50.

(10) قاشان، تبعد عن قم اثنا عشر فرسخا

(1/119)

________________________________________

الاختفاء لحكمة استأثر بها الله تعالى في علم الغيب عنده. ويرد عليه أن هذا الدعاء مجرد يمكن أن يقال مثله في كل أمر يكون مناقضا للطف، فلا يثبت اللطف في شيء! وبه يفسد كلام الشيعة كله، لأن مبنى أدلتهم عليه، يقولون إن أمر كذا لطف واللطف واجب عليه تعالى! فليتأمل. والله سبحانه يحق الحق وهو يهدي السبيل.

التنبيه الثاني: اعلم أن قول الله تعالى {ابعث لما ملكا نقاتل في سبيل الله} وقوله تعالى {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} وقوله تعالى {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} إلى غير ذلك من الآيات يدل على أن هداية الناس والصبر على مشقة مخالطتهم من لوازم الإمامة، وكذا الجهاد في سبيل الله، والعقل يحكم بذلك. وقد قال أمير المؤمنين «لابد للناس من أمير برٍ أو فاجر. يعمل في إمرته المؤمن ويستمع فيها الكافر، ويبلغ فيها الأجل وتأمن فيها السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر» كذا في نهج البلاغة. ولا يمكن حمله على التقية، لما ذكره في نهج البلاغة من أنه - رضي الله تعالى عنه - قاله لما سمع قول الخوارج «لا إمارة» فلا محل للتقية في مقابلتهم، فتأمل في هذا الكلام، وتفكر في هذا المقام تر الفلاح أوضح من الصباح، وأن الحق عند أصحاب الجنة وأهل السنة. والله تعالى أعلم.

التنبيه الثالث: العدالة شرط الإمامة، لا العصمة بمعنى امتناع صدور الذنب كما في الأنبياء، خلافا للشيعة ولا سيما الإمامية والإسماعيلية قالوا: لا بد منها علما وعملا، وهو مخالف للكتاب والعترة.

أما الكتاب فقوله تعالى {إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا} فكان واجب الطاعة بالوحي، ولم يكن معصوما بالإجماع. (1) وقوله تعالى {إني جاعل في الأرض خليفة} فكان قبل النبوة إماما وخليفة، (2) وصدر منه ما صدر، ويدل على ذلك قوله تعالى {فعصى آدم ربه فغوى} وقوله {ثم اجتباه ربه} والاجتباء في قوله تعالى في حق يونس {فاجتباه ربه فجعله من الصالحين} الاصطفاء للدعاء وعذره

_________

(1) قال ابن المطهر الحلي: «ذهبت الإمامية إلى أن الأئمة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت عمدا وسهوا، لأنهم حفظة الشرع والقوامون به حالهم كحال النبي ... ». نهج الحق: ص 164. وقال الميلاني: «إن كل الأدلة تدل على أنهم [أي الأئمة] معصومون من الخطأ والنسيان». العصمة: ص 38.

(2) في رواية طويلة عن الرضا أنه قال: «إن الله عز وجل قال في كتابه: {إني جاعل في الأرض خليفة} والخليفة المجعول فيها آدم - عليه السلام -». عيون أخبار الرضا: 2/ 10. وقال ابن أبي الحديد: «إن الإنسان يستحق أن يسمى خليفة الله في أرضه وهو المعنى من قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة}». شرح نهج البلاغة: 18/ 352.

(1/120)

________________________________________

ورده إليه لا الاستنباء، إذ قد ثبت قبل بقوله تعالى {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبقى إلى الفلك المشحون} بخلاف ما نحن فيه، كذا قيل، فليتأمل. وأما أقوال العترة فقد أسلفنا قول الأمير «لابد للناس» الخ وأيضا روى في الكافي ما قال الأمير لأصحابه «لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست آمن أن أخطئ» (1) والحمل على المشورة الدنيوية يأباه الصدر كما لا يخفى. وأيضا روى صاحب الفصول عن أبي مخنف (2) أنه قال: كان الحسين يبدي الكراهة من صلح أخيه الحسن مع معاوية ويقول: لو جز (3) أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي. (4) وإذا خطأ أحد المعصومين الآخر ثبت خطأ أحدهما بالضرورة لامتناع اجتماع النقيضين.

وأيضا في الصحيفة الكاملة (5) للسجاد «وقد ملك الشيطان عناني في سوء الظن وضعف اليقين، وإني أشكو سوء محاورته لي وطاعة نفسي له» فظاهر أنه - على الصدق والكذب - مناف للعصمة. (6)

ومن أدلتهم على العصمة أن الإمام لو لم يكن معصوما لزم التسلسل. بيان الملازمة أن المحوج للنصب هو جواز الخطأ للأمة، فلو جاز الخطأ عليه أيضا لافتقر إلى آخر وهكذا، فيتسلسل. (7)

ويجاب بمنع أن المحوج ما ذكر، بل المحوج تنفيذ الأحكام ودرء المفاسد وحفظ بيضة الأسلام مثلا، ولا حاجة في ذلك إلى العصمة، بل الاجتهاد والعدالة كافيان. ولما لم يكن إثم على التابع إذ ذاك استوى جواز الخطأ وعدمه. سلمنا لكن التسوية ممتنعة بل تنتهى السلسلة إلى النبي. سلمنا لكنه منقوض بالمجتهد النائب عن الإمام في الغيبة عند الإمامية، (8) وليس بمعصوم إجماعا فيلزم ما لزم، والجواب هو الجواب.

ومن الأدلة أيضا أنه حافظ للشريعة (9) فكيف الخطأ؟ ويجاب بالمنع، بل هو مروج، والحفظ بالعلماء لقوله تعالى {الربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء} (10) وقوله تعالى {كونوا ربانيين بما كنتم تدرسون}. وأيضا إذا كان الحفظ بالعلماء زمن الفترة وفي الغيبة على ما في كشكول الكرامة للحلي (11) ففي الحضور كذلك. سلمنا، لكن الحفظ بالكتاب والسنة والإجماع، لا بنفسه، ويمتنع الخطأ في هذه الثلاثة،

_________

(1) الكافي: 8/ 358؛ نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 11/ 101.

(2) أبو مخنف لوط بن يحيى بن سعيد الأزدي الكوفي الأخباري، عده الطوسي من رجال علي ومن أصحاب الحسن والحسين - رضي الله عنهم - ا (فهرست الطوسي: ص 381)، ولكن الحلي ومحققي الإمامية قالوا إن الراجح أن الطوسي يعني أباه يحيى (الخلاصة: ص 136).

(3) في كتب الإمامية (حزَّ).

(4) الأربلي، كشف الغمة عن معرفة الأئمة: 2/ 35.

(5) قال عنها الطهراني: «الصحيفة السجادية الأولى المنتهى سندها إلى الإمام زين العابدين المعبر عنها (أخت القرآن) و (إنجيل أهل البيت) و (زبور آل محمد) ... وهي من المتواترات عند الأصحاب ... ». الذريعة: 15/ 18.

(6) السجاد هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.

(7) قال نصير الدين الطوسي: «وامتناع التسلسل يوجب عصمته، ولأنّه حافظ للشرع، لوجوب الإنكار عليه لو أقدم على المعصية فيضاد أمر الطاعة، ويفوت الغرض من نصبه، ولانحطاط درجته عن أقل العوام». كشف المراد في شرح صحيح الاعتقاد: ص 264.

(8) ويسمى عند الإمامية المرجع الديني أو آية الله أو الحجة، وهو بمثابة الحكومة أو الحاكم، فقد جاء: «اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين أو للنبي أو وصي نبي». الكافي: 7/ 406؛ من لا يحضره الفقيه: 3/ 5. قال الشوشتري: «فإن المأذون من قبلهما [النبي أو الوصي] ينطبق عليه عنوان الوصي ولو عناية كوكيل الوصي، فيكون المجتهد ممن عهد إليه هذا المنصب، وظاهر الرواية المتقدمة نفي الولاية العرضية عن غير النبي والإمام عليهما السلام لا نفي الولاية الطولية الحاصلة بالأذن». منتهى الدراية: 8/ 409.

(9) قال المجلسي: «فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول، فسدوا على نحو ما بينّا، وغُيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان، وكان ذلك فساد الخلق أجمعين». بحار الأنوار: 23/ 19.

(10) قال القرطبي: «الربانيون وأحدهم رباني منسوب إلى الرب والرباني الذي يربى الناس بصغار العلم قبل كباره وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور». الجامع لأحكام القرآن: 4/ 122. وقال المجلسي: «الربانيون الذين علت درجتهم في العلم والأحبار العلماء الكبار {بما استحفظوا} أي بما استودعوا من كتاب الله وبما أمروا بحفظ ذلك والقيام به وترك تضييه». بحار الأنوار: 13/ 202.

(11) جمال الدين أبي منصور الحسن بن يوسف بن علي الحلي (ت 726). الذريعة: 18/ 73.

(1/121)

________________________________________

والآراء لا دخل لها في صلب الشريعة، فلا ضرورة في حفظها. سلمنا، ولكن ذلك منقوض بالنائب. (1) وقد يقال بأن وجود المعصوم لو كان ضروريا للأمن من الخطأ لوجب أن يكون في كل قطر بل في كل بلدة، إذ الواحد لا يكفي للجميع بل هو مستحيل بداهة لانتشار المكلفين في الأقطار، والحضور مستحيل عادة، ونصب نائب لا يفيد لجواز الخطأ وعدم إمكان التدارك لا سيما في الغيبة والوقائع اليومية إذ الإطلاق ممنوع، وعلى تسليمه الإعلام إما برسول (2) ولا عصمة، أو بكتاب والتلبيس جائز. على أن الفهم إنما هو استعمال قواعد الرأي وضوابط القياس، والكل مظنة الخطأ، فلا يحصل المقصود إلا بنصب معصوم في كل قطر وهو محال.

التنبيه الرابع: الإمام لا يلزم أن يكون منصوصا من الباري تعالى، لأن نصبه واجب على العباد كما تقدم، فتعيين الرئيس مفوض إليهم، وهو الأصلح لهم. وقالت الإمامية لا بد أن يكون منصوصا من قبله تعالى، كما أن نصبه واجب عليه تعالى. (3) وهذا مخالف للعقل والنقل. أما الأول فقد مر، وأما الثاني فلقوله تعالى {وجعلناهم أئمة}، {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة}، {وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض} إلى غير ذلك، ولم يكن في احد من تلك الفرق نص بل كان برأي أهل الحد والعقد، فمعنى الجعل إلقاء اختياره في قلوب مسموعي القول فينصبوه، فإن عدل فعادل وإلا فجائز. وقد قيس طالوت بعصا الملوك فساواها فملك (4) كما لا يخفى على المتتبع فافهم، والله تعالى اعلم.

التنبيه الخامس: لا يلزم أن يكون الإمام أفضل أهل العصر عنده تعالى، إذ قد خلف طالوت وداود وشمويل موجودان. نعم لا بد لأهل الحد والعقد من نصب الأفضل رياسة وسياسة لا عبادة ودراسة. والشيعة على خلاف هذا. وقد علمت ردهم إجمالا. واشترطوا ما اشترطوا لنفي الخلافة عن الثلاثة لعدم العصمة والنص، وفي الأفضلية مجال بحث. وهذه نبذة يسيرة في الرد، وسيأتي التفصيل في إثبات الخلافة إن شاء الله تعالى.

_________

(1) المرجع الديني

(2) أي رسول الإمام

(3) قال ابن المطهر الحلي: «يجب أن يكون الإمام منصوصا عليه من قبل الله تعالى ليعلم استحالة ذلك منه، وذلك هو المعصوم ولا يحسن من الحكيم توليته غير المعصوم». الألفين: ص 83، وقال الطبرسي: «إن الإمام لا بد أن يكون معصوما منصوصا عليه». أعلام الورى: ص 206.

(4) قال ابن كثير: «قيل: كان الله قد أوحى إلى شمويل أن أي بني إسرائيل كان طوله طول هذه العصا، وإذا حضر عندك يفور هذا القرن الذي فيه من دهن القدس فهو ملكهم، فجعلوا يدخلون ويقيسون أنفسهم بتلك العصا فلم يكن أحد منهم على طولها سوى طالوت، ولما حضر عند شمويل فار ذلك القرن فدهنه منه وعيَّنه للملك عليهم». قصص الأنبياء: ص 482.

(1/122)

________________________________________

التنبيه السادس: وهذا أهم التنبيهات: اعلم أن الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا فصل أبو بكر الصديق بإجماع أهل الإسلام، وقد تفردت الشيعة بإنكار ذلك، (1) وقالوا الإمامة كذلك لعلي - رضي الله تعالى عنه -، وعند أهل الحق له بعد الثلاثة، ثم لابنه الحسن - رضي الله تعالى عنه -، والصلح لمصالح رآها وهو اللائق بذاته الكريمة لا لخوف من جند كما افترى المفترون. إذ قد ورد في كتب الشيعة خطبة يقول فيها «إنما فعلت ما فعلت إشفاقا عليكم» (2) وقد ثبت في أخرى أوردها المرتضى وصاحب الفصول أنه قال لما انبرم الصلح بينه وبين معاوية «إن معاوية قد نازعني حقا لي دونه، فنظرت الصلح للأمة وقطع الفتنة. وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني، ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم» (3) فهاتان الخطبتان تدلان على أن الصلح للمصلحة لا للعجز وعدم الناصر، والثانية أيضا تدل بالصراحة على إسلام الفريق الثاني، لأن المصالحة لأهل الكفر والردة لمخافة الفتنة لا تجوز، بل ترك قتالهم وغلبتهم هو الفتنة لقوله تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين له} وأيضا قد سبق ما كان يقوله الحسين في صلح الحسن، أفنسي أن الضرورات تبيح المحظورات. ثم إظهار الكراهة لخلاف المصلحة المعقولة للكارة لا تكون قبيحة، وأيضا الاختلاف بين أكابر الدين في المصالح المنجر إلى عدم الرضا لا يقدح في أحد الجانبين، فليحفظ. ثم لا يغتر بما يقوله أهل الزور على أهل السنة من أنهم يقولونه بخلافة معاوية بعد الشهيد، وحاشا وكلا بل هم يقولون

_________

(1) قال ابن المطهر الحلي: «ذهبت الإمامية كافة إلى أن الإمام بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو علي بن أبي طالب - عليه السلام -، وقالت السنة إنه أبو بكر بن أبي قحافة ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب، وخالفوا المعقول والنقول ... »!!. نهج الحق: ص 171 وانظر منهاج السنة النبوية.

(2) ابن شهر آشوب المازندراني، مناقب آل أبي طالب: 4/ 35.

(3) الإربلي، كشف الغمة: 1/ 571؛ وعنه المجلسي، بحار الأنوار: 44/ 64. وأخرج المرتضى رواية قريبة في تنزيه الأنبياء: ص 171.

(1/123)

________________________________________

بصحة خلافته بعد صلح الحسن إلا أنه غير راشد (1)

والراشدون هم الخمسة، (2) بل قالوا إنه باغ. (3)

فإن قلت إذا ثبت بغيه لم لا يجوز لعنه؟ جوابه: إن أهل السنة لا يجوزون لعن مرتكب الكبيرة مطلقا، فعلى هذا لا تخصيص بالباغي لأنه مرتكب كبيرة أيضا، على أنه إذا كان باغيا بلا دليل، وأما كان بغيه بالاجتهاد ولو فاسد فلا إثم عليه فضلا عن الكبيرة ويشهد لهم قوله تعالى {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}. والأمر بالشيء نهى عن ضده عند الإمامية، فالنهي عن اللعن واضح. نعم ورد اللعن في الوصف في حق أهل الكبائر مثل قوله تعالى {ألا لعنة الله على الظالمين} وقوله تعالى {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} لكن هذا اللعن بالحقيقة على الوصف لا على صاحبه، ولو فرض عليه يكون وجود الإيمان مانعا والمانع مقدم كما هو عند الشيعة، (4) وأيضا وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضيا، فاللعن لا يكون مترتبا على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع، وقوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا إنك رءوف رحيم} نص في طلب المغفرة وترك العداوة بحيث جعل على الإيمان من غير تقييد، ويشهد لهم ما تواتر عن الأمير من نهي لعن أهل الشام، قالت

_________

(1) ومعاوية نفسه - رضي الله عنه - يرى بدء خلافته من يوم مبايعة الحسن - رضي الله عنه - له بالخلافة، ومع ذلك فإنه في عشرين سنة تقدمت على ذلك مدة الخلافة الصديق والفاروق وذي النورين إلى عام الجماعة كان الحاكم المثالي في العدل والحكمة والسيرة الصالحة، ثم كان كذلك في عشرين سنة أخرى تولى فيها جميع أمور المسلمين عادلا مجاهدا فاتحا صالحا. روى الإمام الحافظ الثقة أبو بكر أحمد بن محمد بن هاني الأثرم المتوفى بعد سنة 270 وكان من أعلام المسلمين قال: حدثنا محمد بن حواش عن أبي هريرة المكتب قال: كنا عند سليمان بن مهران الأعمش (المتوفى سنة 148 في خلافة أبي جعفر المنصور) فذكر عمر ابن عبد العزيز وعدله، فقال الأعمش: فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه؟ قال: لا والله، بل في عدله. وذكر أبو إسحاق السبيعي معاوية فقال: «لو أدركتموه أو أدركتم أيامه لقلتم كان المهدي» ..

(2) قال ابن تيمية: «ومنهم من يقول: بل معاوية مجتهد مخطئ، وخطأ المجتهد مغفور، ومنهم من يقول بل المصيب أحدهما لا بعينه، ومن الفقهاء من يقول كلاهما كان مجتهدا، لكن علي كان مجتهدا مصيبا، ومعاوية كان مجتهدا مخطئا، والمصيب له أجران والمخطئ له أجر، ومنهم من يقول: بل كلاهما مجتهد مصيب، بناء على قولهم كل مجتهد مصيب، وهو قول الأشعري، وكثير من أصحابه وطائفة من أصحاب أحمد وغيره». منهاج السنة النبوية: 4/ 392.

(3) بل قال الشيعة أكثر من ذلك، والمؤلف يخاطب الشيعة بعقليتهم ليعود بعد ذلك فينقض كل ما تظاهر به لهم. أما المنصفون من أعلام أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقولون كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 185): «لم يكن من ملوك الإسلام ملك خيرا من معاوية، ولا كان الناس في زمان ملك من الملوك خيرا منهم في زمن معاوية، إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده. وإذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل. وقد روى أبو بكر الأثرم - ورواه ابن بطة من طريقه - عن محمد بن عمر بن جبلة عن محمد بن مروان عن يونس بن عبيد البصري عن قتادة بن دعامة السدوسي أحد أعلام الإسلام في البصرة أنه قال: «لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدي».

(4) ينظر: محسن الطباطبائي، حقائق الأصول: 1/ 191؛ والخميني في تهذيب الأصول: 1/ 227.

(1/124)

________________________________________

الشيعة والنهي لتهذيب الأخلاق وتحسين الكلام كما يدل قوله في هذا المقام «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين»، (1) وأهل السنة يقولون هو مكروه للإمام فينبغي كراهته لنا وعدم محبوبيته وجعله قربة وإن لم نعلم وجه الكراهة. وأيضا روي في نهج البلاغة عنه - رضي الله تعالى عنه - ما يدل صراحة على المقصود، وهو أنه لما سمع لعن أهل الشام خطب وقال «إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والإعوجاج والشبهة والتأويل». (2) فإذا صحت الروايتان في كتب الإمامية حملنا الأولى على من كان يلعنهم بالوصف وهو جائز، لا مطلقا بل لمن يبلغ الشريعة كالأنبياء، إذ قد يستعمل لبيان قباحة تلك الصفات، وأما الغير في حقه مكروه، لأنه لو اعتاده لخشي في حق من ليس أهلا له، وحملت الثانية على من يلعن أهل الشام بتعيين الأشخاص غافلا عن منع الإيمان، فأعملنا الروايتين لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال.

وقال بعض علماء الشيعة: البغي غير موجب للعن على قاعدتنا، لأن الباغي آثم، لكن هذا الحكم مخصوص بغير المحارب للأمير، وأما هو فكافر عندنا بدليل حديث متفق عليه عند الفريقين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للأمير: «حربك حربي» (3) وأنه قال لأهل العبا: «أنا سلم لمن سالمتم حرب لمن حاربتم» (4) وحرب الرسول كفر بلا شبهة فكذا حرب الأئمة.

قال أهل السنة هذا مجاز للتهديد والتغليط، بدليل ما حكم الأمير من بقاء إيمان أهل الشام وإخوتهم في الإسلام، على أن قوله «حرب الرسول كفر» ممنوع، إذ قد حكم على آكل الربا بحرب الله ورسوله معا قال تعالى {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} وعلى قطاع الطريق كذلك قال تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} الآية فلم لم تحكم الشيعة بكفر هؤلاء؟ (5)

هذا ولنرجع إلى ما كنا فيه، ولنورد عدة آيات قرآنية وأخبار عن العترة تدل على المرام، وتوضح المقام. وتفسد أصل الشيعة، وتبطل هذه القاعدة الشنيعة. وبالله تعالى الاستعانة والتوفيق، ومنه يرجى الوصول إلى سواء الطريق.

_________

(1) نهج البلاغة

(2) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 7/ 297.

(3) ابن بابويه، الأمالي: ص 97؛ الطوسي، الأمالي: ص 364. قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: «وما ذكره في الحديث من قوله حربك حربي لم يذكر له إسنادا فلا يقوم به حجة فكيف وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث» ..

(4) أخرجه الترمذي في كتاب الفضائل، باب فضل فاطمة - رضي الله عنها -: 5/ 699، رقم 3870 وقال عنه: «حديث غريب وإنما نعرفه من هذا الوجه، وصبيح مولى أم سلمة غير معروف»؛ وأخرجه أحمد في المسند: 2/ 442، رقم 9696؛ والطبراني في المعجم الكبير: 3/ 40، رقم 2620؛ قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم، مجمع الزوائد: 9/ 169؛ والحديث قال عنه ابن الجوزي: وهذا حديث لا يصح، العلل المتناهية: 1/ 268؛ وهو في ضعيف الترمذي: ص 813. وأخرجه من الإمامية: عماد الدين الطبري، بشارة المصطفى: ص 61؛ ابن طاوس، الطرائف: 1/ 132؛ المجلسي، بحار الأنوار: 24/ 261؛ العاملي، الوسائل: 24/ 261؛

(5) بل حكم الشيعة بأنهم عصاة لم يخرجوا عن الإسلام. ينظر الراوندي، فقه القرآن: 1/ 367؛ الكراكجي، كنز الفوائد: 1/ 158.

(1/125)

________________________________________

فمن الآيات قوله تعالى {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا بعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون}. (1) الحاصل أن الله تعالى وعد المؤمنين الصالحين - الحاضرين وقت النزول - بالاستخلاف والتصرف، كما جعل داود - عليه السلام - الوارد في حقه {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} وغيره من الأنبياء، وبإزالة الخوف من الأعداء الكفار والمشركين، وبأن يجعلهم في غاية الأمن حتى يخشاهم الكفار ولا يخشون أحدا إلا الله تعالى، وبتقوية الدين المرتضى بأن يروجه ويشيعه (2) كما ينبغي. ولم يقع هذا المجموع إلا زمن الخلفاء الثلاثة لأن المهدي ما كان موجودا وقت النزول، والأمير وإن كان حاضرا لكن لم يحصل له رواج كما هو حقه بزعم الشيعة، بل صار أسوأ وأقبح من عهد الكفار كما صرح به المرتضى في (تنزيه الأنبياء والأئمة) (3) مع أن الأمير وشيعته كانوا يخفون دينهم خائفين هائبين من أفواج أهل البغي دائما (4). وأيضا الأمير فرد من الجماعة، ولفظ الجمع حقيقة في ثلاثة أفراد ففوق، والأئمة الاخرون لم يوجد فيهم مع عدم قصورهم تلك الأمور كما لا يخفى، وخلف الوعد ممتنع اتفاقا، فلزم أن الخلفاء الثلاثة كانوا هم الموعودين من قبله تعالى بالاستخلاف وأخويه (5) وهو معنى الخلافة الراشدة المرادفة للإمامة.

وقال الملا عبد الله المشهدي في (إظهار الحق) بعد الفحص الشديد يحتمل أن يكون «الخليفة» بالمعنى اللغوي و «الاستخلاف» الإتيان بأحد بعد آخر كما ورد في حق بنى إسرائيل {عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض} والمعنى الخاص مستحدث بعد الرحلة. جوابه: أن الاستخلاف غير مستعمل في الكلام بالمعنى اللغوي،

_________

(1) ذهب الإمامية إلى أنها نزلت بشأن الأئمة، فعن عبد الله بن سنان قال: «سألت أبا عبد الله (- عليه السلام -) عن قوله عز وجل ... الآية، قال نزلت في علي بن أبي طالب والأئمة من ولده عليهم السلام و (ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي) قال: عني به ظهور القائم». كنز الدقائق: 9/ 335؛ تفسير الصافي: 3/ 443؛ البحراني، البرهان: 4/ 145؛ وروى الكليني عن الصادق - عليه السلام - أنه سئل عن هذه الآية، فقال: «إنهم الأئمة عليهم السلام». الكافي: 1/ 193.

(2) من الشيوع والعموم

(3) تنزيه الأنبياء: ص 135.

(4) المؤلف يتكلم بلغة الدين يخاطبهم من الشيعة كما تقدم التنبيه على ذلك ليتمكن من نقض مزاعمهم وإبطالها.

(5) وهما أن يمكن الله لهم دينهم الذى ارتضى لهم، أن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا.

(1/126)

________________________________________

والقاعدة الأصولية للشيعة أن الألفاظ القرآنية ينبغي أن تحمل على المعاني الاصطلاحية الشرعية حتى الإمكان، لا على المعاني اللغوية. وإلا فالشرعية كلها تفسد ولا يثبت حكم كما لا يخفى. وأيضا كيف يصح تمسكهم بحديث «أنت مني» الخ المنضم إليه {اخلفني في قومي} وكيف التمسك بحديثهم «يا علي أنت خليفتي من بعدي» (1)؟ ولقد سعى المدققون من الشيعة في الجواب عن هذه الآية وتوجيهها، وأحسن الأجوبة عندهم اثنان: الأول أن «من» للبيان لا للتعبيض، و «الاستخلاف» الاستيطان. قلنا: حمل «من» الداخلة على الضمير على البيان مخالف للاستعمال وبعيد عن المعنى في الآية الكريمة وإن قال به البعض، سلمنا لكن لا يضرنا لأن المخاطبين هم الموعودون بتلك المواعيد وقد حصلت لهم، إلا أن الاستخلاف غير معقول للكل حقيقة، فالحصول للبعض حصول للكل باعتبار المنافع. وأيضا قيد «اعملوا الصالحات» وكذا «الإيمان» يكون عبثا إذ الاستيطان يحصل للفاسق وكذا الكافر. وأيضا حاشا القرآن من العبث. الثاني أن المراد الأمير فقط وصيغه الجمع للتعظيم أو مع أولاده خوف. قلنا يلزم تخلف الوعد كما لا يخفى، إذ لم يحصل لأحد منهم تمكين دين وزوال خوف، والناس شاهدة على ذلك. (2)

وانظر أيها المنصف الحصيف واللوذعي الشريف إلى ما قاله الإمام مما ينحسم فيه الإشكال في هذا المقام؛ ذكر في (نهج البلاغة) للمرتضى الذي هو أصح الكتب عندهم أن عمر بن الخطاب لما استشار الأمير عند انطلاقه لقتال فارس وقد جمعوا للقتال، أجابه «إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله تعالى الذي أظهره، وجنده الذي أعده وأمده،

_________

(1) ليست في كتب أهل السنة، بل من روايات الإمامية: ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 4/ 179؛ المجلسي، بحار الأنوار: 18/ 178.

(2) قال الآلوسي الجد: «أقامها بعض أهل السنة دليلا على الشيعة في اعتقادهم عدم صحة خلافة الخلفاء الثلاثة، ولم يستدل بها على صحة خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه ... إن الله تعالى وعد فيها جمعا من المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت نزولها بما وعد من الاستخلاف، وما معه ووعده سبحانه الحق، ولم يقع إلا في عهد الثلاثة، والإمام المهدي لم يكن موجودا حين النزول قطعا بالإجماع، فلا يمكن حمل الآية على وعده بذلك، والأمير كرم الله تعالى وجهه وإن كان موجودا إذ ذاك لكن لم يرج الدين المرضي، كما هو حقه في زمانه - رضي الله تعالى عنه - بزعم الشيعة، بل صار أسوأ حالا بزعمهم مما كان في عهد الكفار، كما صرح بذلك المرتضى في (تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام)، بل كل كتب الشيعة تصرح بأن الأمير وشيعته كانوا يخفون دينهم ويظهرون دين المخالفين تقية، ولم يكن الأمن الكامل حاصلا في زمانه - رضي الله تعالى عنه -، فقد كان أهل الشام ومصر والمغرب ينكرون أصل إمامته ولا يقبلون أحكامه، وهم كفرة بزعم الشيعة .... فإن حمل لفظ الجمع على واحد خلاف أصولهم، إذ أقل الجمع عندهم ثلاثة أفرد، وأما الأئمة الآخرون الذين ولدوا بعد، فلا احتمال لإرادتهم من الآية إذ ليسوا بموجودين حال نزولها، ولم يحصل لهم التسلط في الأرض، ولم يقع رواج دينهم المرتضى لهم، وما كانوا آمنين بل كانوا خائفين من أعداء الدين متقين منهم، كما أجمع الشيعة، فلزم أن الخلفاء الثلاثة هم مصداق الآية فتكون خلافتهم حقة، وهو المطلوب». روح المعاني: 18/ 205.

(1/127)

________________________________________

حتى بلغ ما بلغ وطلع، ونحن على وعد من الله تعالى حيث قال عز اسمه {وعد الله الذين أمنوا} وتلا الآية، والله تعالى منجز وعده وناصر جنده. ومكان القيم بالأمر في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق الخرز، ورب متفرق لم يجتمع، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك. إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا: هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى هو أكرم لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكرهه. وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصر والمعونة» (1) انتهى بلفظه. فتدبر فقد ارتفع الإشكال واتضح الحال والحمد لله رب العالمين.

ومنها قوله تعالى {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما} المخاطب بهذه الآية بعض القبائل ممن تخلف عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الحديبية لعذر بارد وشغل كاسد، (2) وقد أجمع الفريقان أنه لم يقع بعد نزول هذه الآية إلا غزوة تبوك، ولم يقع فيها لا القتال ولا الإسلام، فتعين الغير. والداعي ليس جناب الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا محالة، فلا بد أن يكون خليفة من الخلفاء الثلاثة الذين وقعت الدعوة في عهدهم كما في عهد الخليفة الأول لمانعي الزكاة أولا وأهل الروم آخرا، وفي عهد الخليفة الثاني والثالث كما لا يخفى على المتتبع. فقد صحت خلافة الصديق لأن الله تعالى وعد وأوعد، ورتب كلا على الإطاعة والمعصية. فهلا يكون ذلك المطاع المنقاد له بالوجود إماما؟ المنصف يعرف ذلك.

وقد تخبط ابن المطهر الحلي وقال: «يجوز أن يكون الداعي

_________

(1) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 9/ 99.

(2) ردا على الإمامية الذين قالوا: «والصحيح أن المراد بالداعي هو النبي صلى الله عليه وآله، لأنه دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة، وقتال أقوام ذوي نجدة وشدة، مثل أهل خيبر والطائف ومؤتة ... ». مجمع البيان: 5/ 115؛ كنز الدقائق: 12/ 286.

(1/128)

________________________________________

الرسول - عليه الصلاة والسلام - في تلك الغزوات التي وقع فيها القتال، ولم ينقل لنا». وإذ فتح هذا الباب يقال كذلك: يجوز عزل الأمير بعد الغدير ونصب أبي بكر وتحريض الناس على اتباعه، ولم ينقل لنا. فانظر وتعجب. وقال بعضهم: الداعي هو الأمير، فقد دعا إلى قتال الناكثين والقاسطين والمارقين. (1) ويقال فيه: إن قتل الأمير إياهم لم يكن لطلب الإسلام بل لانتظام أحوال الإمام، ولم ينقل في العرف القديم والجديد أن يقال لإطاعة الإمام (إسلام) ولمخالفته (كفر). ومع هذا نقل الشيعة روايات صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق الأمير أنه قال: إنك يا علي تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله. وظاهر أن المقاتلة على تأويل القرآن لا تكون إلا بعد قبول تنزيله، وذلك لا يعقل بدون الإسلام، بل هو عينه، فلا يمكن المقاتلة على التأويل على الإسلام بالضرورة وهو ظاهر.

ومنها قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}. مدح الله تعالى في هذه الآية الكريمة الذين قاتلوا المرتدين بأكمل الصفات وأعلى المبرات، وقد وقع ذلك من الصديق وأنصاره بالإجماع، لأن ثلاث فرق قد ارتدوا في آخر عهده - عليه السلام -. (2) الأولى بنو مدلج قوم أسود العنسي ذى الخمار الذي ادعى النبوة في اليمن وقتل على يد فيروز الديلمي، الثانية بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب المقتول في أيام خلافة الصديق على يد وحشي، الثالثة بنو أسد قوم طليحة بنى خويلد المتنبئ، ولكنه آمن بعد أن أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - خالدا وهرب منه إلى الشام. وقد ارتد في خلافة الصديق سبع فرق: بنو فرازة قوم عيينة بن حصن، وبنو غطفان قوم قرة بن سلمة، وبنو سليم قوم ابن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر، وبنو كندة قوم أشعث بن قيس الكندي، وبنو بكر في البحرين. وارتدت فرقة في زمن عمر - رضي الله تعالى عنه - والتحقت بالنصارى إلى الروم. وقد استأصل الصديق كل فرقة وأزعجهم واستردهم

_________

(1) يعني من قاتل علي بن أبي طالب في خلافته، وخاصة أهل صفين كما نقل عن الإمامية، وبذلك صرح المازندراني في المناقب: 3/ 164؛ وقال أيضا: «المعني به أمير المؤمنين - عليه السلام - في قتال الخوارج». متشابه القرآن: 2/ 68.

(2) لذا قال القمي في تفسير هذه الآية: «هو مخاطبة لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، الذين غصبوا آل محمد صلوات الله عليهم حقهم، وارتدوا عن دين الله، فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ... ». تفسير القمي: 1/ 170؛ وأخرجها أيضا الصافي في تفسيره: 2/ 42.

(1/129)

________________________________________

إلى الإسلام كما أجمع عليه المؤرخون كافة. ولم يقع للأمير ذلك، بل كان متحسرا على ما هنالك، وكم قال «ابتليت بقتال أهل القبلة» كما رواه الإمامية، وتسمية منكري الإمامة مرتدين مخالفة للعرف القديم والحديث. على أن المنكر للنص غير كافر (1) كما قال الكاشي وصاحب الكافي. (2) وانظر إلى ما قال الملا عبد الله صاحب (إظهار الحق) ما نصه: «فإن قيل فإن لم يكن النص الصريح ثابتا كما في باب خلافة الأمير فالإمامية كاذبون، وإن كان لزم أن يكون جماعة الصحابة مرتدين والعياذ بالله تعالى، أجيب أن إنكار النص الذي هو موجب للكفر إنما هو اعتقاد أن الأمر المنصوص باطل وإن كذبوا في ذلك التنصيص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حاشا. أما لو تركوا الحق مع علمهم بوجوبه للأغراض الدنيوية وحب الجاه فيكون ذلك من الفسوق والعصيان لا غير» ثم قال «فالذين اتفقوا على خلافة الخليفة الأول لم يقولوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص عليها لأحد أو قال بما لا يطابق الواقع فيها، معاذ الله، بل منهم من أنكر بعض الأحيان تحقق النص، وأول بعضهم كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - تأويلا بعيدا» انتهى كلامه.

وأيضا قال الأمير في بعض خطبه المروية عنه عندهم «أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل» (3) وأيضا قد منع السب كما تقدم، وسب المرتد غير منهي عنه. قطعنا النظر وسلمنا أن الأمير قاتل المرتدين، فالمقاتل لهم زمن الخليفة الأول شريك في المدح أيضا، وإلا لزم الخلف لعموم من في الشرط والجزاء كما تقرر في الأصول. والمقاتل هو (4) وأنصاره لا الأمير، إذ لم يدافع أحدا منهم ولا عساكره، إذ هم (5) غير موصوفين بما ذكر، فلكم «أنبئتُ بُسرا قد اطلع اليمن، وإني والله لا أظن هؤلاء القوم سيدالون منكم (6) باجتماعهم

_________

(1) أي عند الشيعة. والمؤلف يخاطبهم في هذا الكتاب باسلوبهم وعقليتهم وأدلتهم وبالمسلمات عندهم.

(2) إشارة إلى رواية الكليني عن زرارة عن أبي عبد الله أنه قال: «لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا». الكافي: 2/ 388. وينظر ما قاله أغا العراقي في نهاية الأفكار: 3/ 190.

(3) نهج البلاغة

(4) أي الخليفة الأول

(5) أي عساكر الأمير

(6) أي سيعطيهم الله الغلبة عليكم

(1/130)

________________________________________

على باطلهم وتفرقكم عن حقكم. وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل. وبأدائهم الأمانة إلى أصحابهم. وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب (1) لخشيت أن يذهب بعلاقته. اللهم قد مللنهم وملوني وسئمتهم وسئموني، فأبدلني خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني. اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح بالماء. لوددت والله لو أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم (2)

هنالك لو دعوت أتاك منهم ... فروارس مثل أرمية (3) الحميم (4)

ويقول في خطبة أخرى: أحمد الله على ما قضى من أمر، وقدر من فعل، وعلى ابتلائي بكم أيتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع، وإذا دعوت لم تجب. ثم قال بعد كلام: وإنى لصحبتكم قالٍ وبكم غير كثير ... » (5) الخ. والنهج مملوء من أمثال هذه الكلمات، ومحشو من مثل هذه الشكايات. فانظر هل يمكن تطبيق الأوصاف القرآنية على هؤلاء الأقوام (6) وهل يجتمع النقيضان! (7) وكلام الله كاذب، أم كلام الإمام؟ (8)

وأيضا يستفاد من سياق الآية وسباقها أن فتنة المرتدين تدفع بسعي القوم الموصوفين ويتحقق صلاح الدين، إذ الآية سيقت لتسلية قلوب المؤمنين وتقويهم، ولإزالة خوفهم من المرتدين وفتنتهم، ولم تنته مقاتلات الأمير إلا إلى الضد كما لا يخفى.

هذا وبقيت آيات كثيرة وأدلة غزيرة تركناها اكتفاء بما ذكرناه، واعتمادا على أن المنصف يكفيه ما سطرناه.

وأما أقوال العترة فمنها ما أورده المرتضى في (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين من كتابه الذي كتبه إلى معاوية وهو:

«أما بعد فإن بيعتي يا معاوية لزمتك وأنت بالشام، فإنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وعلى ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا

_________

(1) «القعب: قدح من خشب مقعر». لسان العرب: مادة قعب، 1/ 683.

(2) «حي مشهور بالشجاعة». شرح نهج البلاغة: 1/ 341.

(3) لأرمية: «جمع رمي وهو السحاب، والحميم ها هنا وقتا الصيف، وإنما خص الشاعر هنا سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفوا». شرح نهج البلاغة: 1/ 342

(4) تاريخ دمشق: 10/ 361؛ نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 3/ 75؛ البداية والنهاية: 8/ 12.

(5) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 10/ 67.

(6) فمن هذه صفاته لا يدخل تحت قوله تعالى: {يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله حق جهاده ولا يخافون لومة لائم} فأين هم من الجهار؟ وهذه المعاناة ليست خاصة بعلي، ففي رواية أخرجها الطوسي عن أبي حمزة الثمالي قال: «قال أبو عبد الله - عليه السلام - لطائفة من شيعته: وأيم الله لو دعيتم لتنصرونا لقلتم لا نفعل إنما نتقي! ولكانت التقية أحب إليكم من آبائكم وأمهاتكم ولو قام القائم ما احتاج إلى مسائلتكم عن ذلك ولأقام في كثير منكم حد النفاق». تهذيب الأحكام: 6/ 172.

(7) يعني الأوصاف الواردة في الأية {فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه. أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ... }

(8) أي ذم أمير المؤمنين شيعته وجنده، والوصف القرآني الوارد في الآية.

(1/131)

________________________________________

للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضا، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن آبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى.» (1)

ومنتهى ما أجاب الشيعة عن أمثال هذه أنه من مجاراة الخصم ودليل الزامي، وهو تحريف لا ينبغي لعاقل ولا يليق بفاضل، إذ فيه غفلة وإغماض عن أطراف الكلام الزائدة على قدر الإلزام، إذ يكفى فيه بيعة أهل الحل والعقد كما لا يخفى. وأيضا الدليل الإلزامي مسلم عند الخصم، ومعاوية لا يسلم ما ذكر، ويرشدك إلى ذلك كتبه إلى الأمير كما هو مذكور عند الإمامية وغيرهم، (2) فمذهبه كما يظهر منها أن كل مسلم قرشي مطلقا إذا كان قادرا على تنفيذ الأحكام وإمضاء الجهاد وحماية حوزة الإسلام وحفظ الثغور ودفع الشرور وبايعه جماعة من المسلمين من أهل العراق أو من أهل الشام أو من المدينة المنورة فهو الإمام. وإنما لم يتبع الأمير لاتهامه له بقتله عثمان (3) وحفظ أهل الجور والعصيان، وكان يعتقده قادرا على تنفيذ الأحكام وأخذ القصاص الذي هو من عمدة أمور شريعة سيد الأنام وذلك بزعمه ومقتضى فهمه. ومن أجلى البديهات أن بيعة المهاجرين والأنصار التي لم تكن خافية على معاوية قط لو حسبها معتدا بها لم يذكر في مجالسه ومكاتيبه قوادح الأمير، بل خطأ تلك البيعة أيضا بالصراحة كما هو معروف من مذهبه على ما لا يخفى على الخبير. فما ذكر في مقابلته من بيعة المهاجرين والأنصار دليل تحقيقي مركب من المقدمات الحقة فيثبت المطلوب.

ومنها ما في (النهج) أيضا عن الأمير «لله بلاد أبي بكر لقد قوم الأود، (4) وداوَى العلل، وأقام السنة، وخلّف البدعة، وذهب نقي الثوب قليل العيب، أصاب خيرها واتقى شرها، أدى لله طاعة واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طريق متشعبة لا يهتدي فيها الضال، ولا يستيقن المهتدي». (5)

وقد حذف الشريف صاحب النهج حفظا لمذهبه لفظ

_________

(1) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 12/ 3؛ تاريخ دمشق: 59/ 128.

(2) من ذلك ما نقله المجلسي من كتاب معاوية إلى علي - رضي الله عنهم - اأنه قال: «فقد آن لك أن تجيب ما فيه صلاحنا وألفة بيننا ... ». بحار الأنوار: 32/ 538.

(3) أي وجودهم في نطاق حكمه دون أن يقام عليهم الحد الشرعي.

(4) الأوَد: هو العوج. شرح نهج البلاغة: 6/ 102.

(5) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 12/ 223. وقال ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة: «وفلان المكنى عمر بن الخطاب، وفي النسخة التي بخط الرضي أبي الحسن جامع (نهج البلاغة) وتحت فلان عمر»

(1/132)

________________________________________

(أبي بكر) وأثبت بدله (فلان) وتأبى الأوصاف إلا أبا بكر، ولهذا الإبهام اختلف الشراح فقال البعض هو أبو بكر وبعض هو عمر، ورجح الأكثر الأول وهو الأظهر فقد وصفه من الصفات بأعلى مراتبها، فناهيك به وناهيك بها. وغاية ما أجابوا أن مثل هذا المدح كان من الإمام لاستجلاب قلوب الناس لاعتقادهم بالشيخين أشد الاعتقاد، ولا يخفى على المنصف أن فيه (1) نسبة الكذب [إلى المعصوم] (2) لغرض دنيوي مظنون الحصول، بل كان اليأس منه (3) وفي الحديث الصحيح «إذا مدح الفاسق غضب الرب»، (4) وأيضا أية ضرورة تلجئه إلى هذه التأكيدات والمبالغات؟ وكان يكفيه أن يقول: لله بلاد فلان قد جاهد الكفر والمرتدين، وشاع بسعيه الإسلام، وقام عماد المسلمين، ووضع الجزية، وبنى المساجد، ولم تقع في خلافته فتنة ولا بقي فيها معاند. ونحو ذلك. وفرق بين هذا والسلوك في هاتيك المسالك. وأيضا في هذا المدح العظيم الكامل تضليل الأمة وترويج للباطل، وذلك محال من المعصوم، (5) بل كان الواجب عليه بيان الحال لمن بين يديه بموجب الحديث الصحيح «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» (6) فانظر وأنصف. وأجاب بعض الإمامية أن المراد من (فلان) رجل من الصحابة مات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - واختار هذا القول الراوندي، (7) وانظر هل يمكن لغيره

_________

(1) أي في هذا التعليل البارج من الشيعة.

(2) زيادة من نهج السلام

(3) أي إلا عن اعتقاد بصدق ما يقوله.

(4) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس: 3/ 230؛ وهو في السلسلة الضعيفة: 3/ 1399.

(5) نذكر القارئ بان المؤلف يجاري القوم بما فيه إلزام لهم مما يعتقدونه ويسلمون بصحته.

(6) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 10/ 210؛ والطبراني، المعجم الكبير: 19/ 418؛ وهو في ضعيف الجامع: 1/ 104.

(7) قال عنه الذهبي: «الملحد عدو الله ... كان يلازم الرافضة والملاحدة»، مات سنة 245هـ. وفيات الأعيان: 1/ 94؛ سير أعلام النبلاء: 14/ 59.

(1/133)

________________________________________

- صلى الله عليه وسلم - في زمنه الشريف تقويم الأود، ومداواة العلل وإقامة السنة وغيرها؟ وهل يعقل أن رجلا مات وترك الناس فيما ترك والنبي - صلى الله عليه وسلم - موجود بنفسه وذاته الأنيسة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم وزور جسيم. (1)

وقال البعض: غرض الإمام من هذه العبارة توبيخ عثمان والتعريض به، فإنه لم يذهب على سيرة الشيخين. وفيه: أما أولا فالتوبيخ يحصل بدون هذه الكذبات فما الحاجة إليها؟ وأما ثانيا فسيرة الشيخين إن كانت محمودة فقد ثبتت إمامتها وإلا فالتوبيخ على عثمان بتركها لا ينبغي، وأما ثالثا فهذه من خطبات الكوفة، (2) فما الموجب لعدم الصراحة بالتوبيخ: «أنا الغريق فلا أخشى من البلل». (3)

ومنها ما نقله علي بن عيسى الإربلي الاثنا عشري (4) في كتابه (كشف الغمة في معرفة الأئمة) أنه «سُئل الإمام أبو جعفر عن حلية السيف هل تجوز؟ فقال: نعم، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة. فقال الراوي: أتقول هذا؟ فوثب الإمام عن مكانه فقال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل له الصديق فلا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة» (5) ومن الثابت أن مرتبة الصديقية بعد النبوة، ويشهد لها القرآن، والآيات كثيرة، منها قوله تعالى {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} ولا أقل من كونها صفة مدح فوق الصالح، وإذا قال المعصوم (6) في رجل إنه صالح ارتفع عنه احتمال الجور والفسق والظلم والغضب، وإلا لزم الكذب وهو محال، فكيف يعتقد فيه غضب الإمامة وتضييع حق الأمة؟ ولعمرك المعتقد داخل في عموم هذا الدعاء، ويكفيه جزاء. وغاية ما أجابوا أنه تقية (7) وأنت تعلم أن وضع السؤال يعلم منه أن السائل شيعي، فلم التقية منه وهذا التأكيد؟ وبعضهم أنكر هذا الكلام، والنسخ شاهدة لنا وإن لم يوجد في البعض فالبعض الآخر كاف، والنسخ كثيرة والروايات في هذا الباب أكثر والله أعلم.

_________

(1) أي لا يمكن أن يصح هذا لأحد والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي.

(2) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 12/ 5.

(3) بيت للمتنبي: وَالهَجْرُ أقْتَلُ لي مِمّا أُراقِبُهُ ... أنَا الغَريقُ فَما خَوْفي منَ البَلَلِ

(4) من صناديد متعصبي الشيعة في القرن السابع الهجري، له ترجمة في روضات الجنات ص 386 الطبعة الثانية.

(5) كشف الغمة عن معرفة الأئمة: 2/ 148. وأخرجه من أهل السنة أبو نعيم، حلية الأولياء: 3/ 185؛ وعزاه ابن حجر الهيثمي إلى الدارقطني كما في الصواعق المحرقة: ص 79.

(6) أي في اعتقاد الخصم.

(7) قال ذلك نور الله الشوشتري في الصوارم المهرقة: ص 236.

(1/134)

________________________________________

ولنذكر بعض الأدلة المأخوذة من الكتاب وأقوال العترة الأنجاب مما يوصل إلى المطلوب بأدنى تأمل:

الأول أن الله تعالى ذكر جماعة الصحابة الذين كانوا حاضرين حين انعقاد خلافة أبي بكر الصديق وممدين له وناصرين له في أمور الخلافة ملقبا لهم في مواضع من تنزيله قال تعالى {أولئك هم الفائزون} وقال تعالى {رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} (1) وقال تعالى {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} (2) فإجماع مثل هؤلاء الأقوام على منشأ الجور والآثام محال وإلا لزم الكذب وهو كما ترى.

الثاني أن الله تعالى وصف الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بقوله عز اسمه {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} فكيف يرتكبون ذلك فيلزم الخلف وهو محال.

الثالث أن الله تعالى قال في المهاجرين {أولئك هم الصادقون} بعد قوله سبحانه {للفقراء المهاجرين} الآية (3) وجميعهم قائلون بخلافة الصديق، ولو لم تكن حقة لزم الخلف في الآية وهو محال.

الرابع أن جماعة كثيرين من الصحابة قد وقع اتفاقهم على خلافة أبي بكر - رضي الله تعالى عنه - وكل ما يكون متفقا عليه لجماعة الأمة فهو حق وخلافه باطل بما ذكره الرضى في (نهج البلاغة) مرويا عن الأمير في كلام له «الزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة وإياكم والفرقة فإن الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب». (4)

الخامس أن قوما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقتلوا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وأقاربهم ولم يراعوا حقهم نصرة لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد حضروا هذه البيعة ولم يخالفوا فلا بليق بهم ما نسب. وكيف يرضى بذلك العاقل.

السادس أن أمير المؤمنين لما سئل عن أحوال الصحابة الماضين وصفهم بلوازم الولاية وقال كما في نهج البلاغة: «كانوا إذا ذكروا الله هملت (5) أعينهم حتى تبل جباههم ومادوا

_________

(1) روى الكليني عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله قال في تفسير هذه الآية: «فبدأ بالمهاجرين الأولين على درجة سبقهم ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين فوضع كل قوم على قدر درجتهم ومنازلهم». الكافي، باب السبق إلى الإيمان: 2/ 41؛ تفسير العياشي: 2/ 105.

(2) وفي الكافي عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله في قوله تعالى: {حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} يعني الأمير، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان: الأول والثاني والثالث». الكافي: 1/ 426. ويعني بهم الخلفاء الثلاثة، وأخرج الرواية أيضا الحويزي في تفسيره: نور الثقلين: 5/ 22.

(3) من سورة الحشر: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}

(4) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 8/ 112.

(5) في المطبوع ونهج السلامة (همت)، والتصحيح من نهج البلاغة.

(1/135)

________________________________________

كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب ورجاء للثواب» وقال أيضا «كان أحب اللقاء إليهم لقاء الله وإنهم يتقلبون على مثل الجمر من ذكر معادهم» فالانكار من هؤلاء والإصرار على مخالفة الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - من المحالات.

السابع ما ذكر في الصحيفة الكاملة للسجاد من الدعاء لهم ومدح متابعيهم ولا احتمال للتقية في الخلوات وبين يدي رب البريات ونصه «اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} خير جزائك الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم ومضوا في قفو أثرهم والائتمام بهداية منارهم يدينون بدينهم على شاكلتهم (1) لم يثنهم ريب في بصيرتهم (2) ولم يختلج شك في صدورهم» إلى آخر ما قال. (3)

فالإصرار من هؤلاء الأخيار على كتمان الحق وتجويز الظلم والجور على عترة سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - لا يقول به عاقل ولا يفوه به كامل.

الثامن ما أورده الكليني في الكافي في باب السبق إلى الإيمان (4) بروايات أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال «قلت له إن الإيمان درجات ومنازل يتفاضل المؤمنون فيها عند الله. قال نعم. قلت صفه لي رحمك الله حتى أفهمه، قال: إن الله سبق بين المؤمنين كما يستبق بالخيل يوم الرهان ثم فضلهم على درجاتهم في السبق إليه فجعل كل امرئ منهم على درجة سبقه ولا ينقصه فيها من حقه ولا يتقدم مسبوق سابقا ولا مفضول فاضلا تفاضل بذلك أوائل الأمة وأواخرها. ولو لم يكن للسابق إلى الإيمان فضل على المسبوق إذا للحق آخر هذه الأمة أولها، نعم ولتقدموهم إذ لم يكن لمن سبق إلى الإيمان فضل على من أبطأ عنه ولكن بدرجات الإيمان قدم الله السابقين وبالإبطاء عن الإيمان أخر الله المؤخرين، لأنا نجد من المؤمنين من الآخرين من هو أكثر علما من الأولين وأكثرهم صلاة وصوما وحجا وزكاة وجهادا وإنفاقا ولو لم تكن سوابق يفضل الله بها المؤمنين لكان الآخرون بكثرة العمل متقدمين على الأولين ولكن أبى الله

_________

(1) في الصحيفة السجادية: (ومضوا على شاكلتهم).

(2) في المطبوع: (يتهم ريب في قصدهم).

(3) الصحيفة السجادية: ص 40.

(4) ص 164 طبعة إيران سنة 1278.

(1/136)

________________________________________

عز وجل أن يدرك آخر درجات الإيمان أولها ويقدم فيها من أخّر الله أو يؤخر فيها من قدم الله. قلت: أخبرني عما ندب الله عز وجل المؤمنين إليه من الاستباق إلى الإيمان. فقال: قول الله عز وجل {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} وقوله تعالى {السابقون السابقون أولئك المقربون} وقوله تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} (1) فبدأ بالمهاجرين على درجة سبقهم ثم ثنى بالأنصار ثم ثلث بالتابعين لهم بإحسان، فوضع كل قوم على قدر درجاتهم ومنازلهم عنده ثم ذكر ما فضل الله به أولياءه بعضهم على بعض فقال عز من قائل {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم فوق بعض درجات} الآية وقال تعالى {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} وقال تعالى {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} وقال تعالى {وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} إلى آخر الحديث وقال في آخره «فهذا ذكر درجات الإيمان ومنازله عند الله عز وجل». (2) فقد علم من هذا الحديث أن المهاجرين والأنصار كانوا في أعلى الدرجات من الإيمان ولم يصل غيرهم إلى ما وصلوا لقوله تعالى {أولئك المؤمنون حقا} وقوله تعالى {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} الآية. فكيف يصدر ممن كانوا كذلك الإصرار على ما لا يرضاه الله تعالى من المسالك؟

التاسع أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قد مدح الشيخين ودعا لهما حسبما ثبت عند الفريقين وقد نقل شراح نهج البلاغة كتاب الأمير إلى معاوية وقد قال فيه بعد ما ذكر أبا بكر وعمر «لعمري إن مكانيهما لعظيم وإن المصاب بهما لجرح في الإسلام شديد رحمها الله تعالى وجزاهما بأحسن ما عملا» (3) فكيف يتصور صدور مثل ذلك عن المعصوم لو كانا غاصبين ظالمين؟ معاذ الله من ذلك، ونسأله سبحانه العصمة عما يعتقده أولئك.

هذا والكتب ملأى من أمثال هذه العبارات والأدلة القطعيات. وفيما ذكر كفاية لمن حلت بقلبه الهداية. والسلام على من اتبع الهدى، وخشي عواقب الردى.

_________

(1) ومن رضي الله عنه لا يسخط عليه إلا عدو لله.

(2) الكافي: 2/ 33 - 34؛ تفسير العياشي: 2/ 105.

(3) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 15/ 76.

(1/137)

________________________________________

(في إبطال ما استدل به الرافضة على مذهبهم) (الآيات القرآنية)

وههنا كلام مفيد شريف، وبحيث رائق لطيف: اعلم أن الشيعة استدلوا على إثبات إمامة الأمير بلا فصل بدلائل كثيرة وتحقق بعد الفحص والتفتيش في كتبهم أن أكثرها قائمة في غير محل النزاع، وأنها مسروقة من أهل السنة. وتحقيق ذلك أن دلائلهم في هذا المطلب ثلاثة أقسام:

الأول الآيات والأحاديث الدالة على فضائل الأمير وأهل البيت، وقد استخرجها أهل السنة في مقابلة الخوارج والنواصب الذين تجاسروا على الأمير - رضي الله تعالى عنه - ونسبوا إليه ما هو بريء منه، وذكروها في معرض الرد عليهم. والشيعة قد أوردوا تلك الدلائل في إثبات إمامة الأمير - رضي الله تعالى عنه - بلا فصل، وقصدوا بذلك الرد على أهل السنة. ولما جاء المتأخرون وقد أخذوا من أهل السنة والمعتزلة شيئا من علم الأصول والكلام وحصل لهم نوع ما من الملكة والقدرة على الخصام، غيروا الأدلة التي كانت هدفا للاعتراضات والأسئلة وأصلحوها بزعمهم بعض المقدمات وزيادة ما اشتهوه من موضوع الروايات، وما دروا أن ذلك زاد في الفساد، وأبطل لهم المقصود والمراد، ورجعوا إلى ما فروا منه، ووقعوا فيما انهزموا عنه، وأكثر دلائلهم من هذا القبيل.

الثاني الدلائل الدالة على إمامة الأمير بكونه خليفة بالحق وإماما بالإطلاق في حين من الأحيان، وقد أقامها أيضا أهل السنة في مقابلة المذكورين المنكرين لإمامته، وما يستفاد منها إلا كون الأمير مستحقا للخلافة الراشدة بلا تعيين وقت ولا تنصيص باتصال زمانها بزمان النبوة أو انفصاله عنه. ولا ينبغي لأهل السنة أن يتصدوا لرد هذه الدلائل وجوابها فإنها عين مذهبهم.

الثالث الدلائل الدالة على إمامته بلا فصل مع سلب استحقاق الإمامة عن غيره من الخلفاء الراشدين، وهذه الحقيقة مختصة بمذهب الشيعة، وهم منفردون باستخراجها، وهي مخدوشة المقدمات كلها، بحيث يكذب مقدماتها الثقلان: الكتاب والعترة. فنحن نذكر في هذه الرسالة بعضها من القسمين الأولين، ونبين القسم الأخير بالاستيعاب والاستيفتاء، وننبه فيها على منشأ الغلط وموقعه لتعلم حقيقة دلائلهم.

(1/138)

________________________________________

ولا يخفى أن مقدمات تلك الدلائل ومبادئها لا بد أن تكون مسلمة الثبوت عند أهل السنة، إذ الغرض من إقامتها إلزامهم، فعلى هذا إما أن تكون تلك الدلائل من آيات الكتاب والأحاديث المتفق عليها أو الدلائل العقلية المأخوذة من المقدمات المسلمة عند الفريقين، أو من مطاعن الخلفاء الثلاثة التي يوردونها.

وأما المطاعن فسيأتي الكلام عليها في باب مفرد.

أما الأيات فمنها قوله تعالى {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون} تقرير استدلالهم بهذه الأية ما يقولون من أن أهل التفسير أجمعوا على نزولها في حق الأمير (1) إذ أعطى السائل خاتمه في حالة الركوع (2) وكلمة (إنما) مفيدة للحصر، ولفظ (الولي) بمعنى المتصرف في الأمور. وظاهر أن المراد

_________

(1) دعوى الإجماع باطلة. وقد روى ابن جرير الطبري (6: 186) عن ابن أسحاق عن والده اسحاق بن يسار أنها نزلت في عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لبراءته من حلف بنى قينقاع لما حاربوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فمشى عبادة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلع بنى قينقاع وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وولايتهم، ففيه نزلت الآية لأنه قال: أتولى الله ورسوله والذين أمنوا.

(2) قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وأما قوله {وهم راكعون} فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله {ويؤتون الزكاة} أى في حال ركوعهم، ولو كان كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أهل الفتوى. وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرا عن علي بن أبي طالب أن هذه الأية نزلت فيه، وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه (وبعد أن أستعرض روايات من يروى ذلك قال:) وليس يصح شئ منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. ثم نقل عن الطبري أن عبد الملك سأل أبا جعفر - عليه السلام - عن هذه الأية: من الذين آمنوا؟ قال أبو جعفر: الذين آمنوا. قلنا: بلغتا أنها نزلت في علي بن أبي طالب، قال: علي من الذين آمنوا. فإذا كان محمد الباقر وهو حفيد علي بن أبي طالب يقول هذا، فمن الفضول التزيد عليه لشهوة تحميل الآية ما لا تحتمله من تجريح خلافة المسلمين، وإيذاء علي بن أبي طالب في إخوانه الذين عاش ومات على محبتهم وولايتهم.

(1/139)

________________________________________

ههنا التصرف العام في جميع المسلمين المساوي للإمام بقرينة ضم ولايته إلى ولاية الله ورسوله فثبتت امامته وانتفت إمامة غيره للحصر المستفاد وهو المدعى. (1)

أجاب عنه أهل السنة بوجوه: الأول النقض بأن هذا الدليل كما يدل على نفي إمامة الأئمة المتقدمين كما قرر يدل كذلك على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين بذلك التقرير بعينه، فلزم أن السبطين ومن بعدهما من الأئمة الأطهار لم يكونوا أئمة. فلو كان استدلال الشيعة هذا يصح لفسد تمسكهم بهذا الدليل، إذ لا يخفى أن حاصل هذا الاستدلال بما يفيد في مقابلة أهل السنة مبني على كلمة الحصر، والحصر كما يضر أهل السنة يكون مضرا للشيعة أيضا، لأن إمامة الأئمة المتقدمين والمتأخرين كلهم تبطل به البتة. ومذهب أهل السنة وإن بطل بذلك لكن مذهب أهل الشيعة ازداد في البطلان أكثر منه، فإن لأهل السنة نقصان الأئمة الثلاثة، وللشيعة نقصان أحد عشر إماما، ولم يبق إماما سوى الأمير. ولا يمكن أن يقال الحصر إضافي بالنسبة إلى من تقدمه، لأنا نقول: إن حصر ولاية من استجمع هذه الصفات لا يفيد إلا إذا كان حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر عنه كما لا يخفى.

وإن أجابوا عن هذا النقص بأن المراد حصر الولاية في جنابه في بعض الأوقات - يعني في وقت إمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهما - قلنا فمذهبنا أيضا هذا أن الولاية العامة محصورة فيه وقت إمامته لا قبله وهو زمن خلافة الخلفاء الثلاثة. فإن قالوا إن الأمير لو لم يكن في عهد الخلفاء الثلاثة صاحب ولاية عامة يلزمه نقص بخلاف وقت إمامة السبطين فإنه لم يكن حيا لم تصر إمامة غيره موجبة للنقص في حقه، لأن الموت دافع لجميع الأحكام الدنيوية. قلنا: هذا استدلال آخر غير ما هو بالآية، لأن مبناه على مقدمتين: الأولى أن كون صاحب الولاية العامة في ولاية الآخر ولو في وقت من الأوقات نقص له، الثانية أن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص بأى وجه وأي وقت كان. وهاتان المقدمتان أنى تفهمان من الآية؟ وتسمى هذه الصنعة في عرف المناظرة فرارا، بأن ينتقل من دليل إلى دليل آخر من غير انفصال المناقشة في مقدمات الدليل الأول فرارا أو إثباتا.

_________

(1) هذا مع اختلاف قليل كلام ابن المطهر الحلي في نهج الحق: ص 172. وهو يلخص احتجاج الإمامية بهذه الآية، ينظر تفسير الطبرسي المسمى مجمع البيان: 2/ 209؛ والبرهان للبحراني: 2/ 315.

(1/140)

________________________________________

سلمنا وأغمضنا عن هذا الفرار أيضا، ولكن نقول: إن هذا الاستدلال أيضا منقوض بالسبطين، فإنهما في زمن ولاية الأمير لم يكونا مستقلين بالولاية بل كانا في ولاية الآخر وأيضا منقوض بالأمير فإنه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كذلك، فلا نقض لصاحب الولاية العامة بكونه في بعض الأوقات في ولاية الآخر، ولو كان نقصا بالغرض للحق صاحب الولاية العامة أيضا فبطل الاستدلال الذي فروا إليه بجميع المقدمات.

الجواب الثاني ذكره الشيخ إبراهيم الكردي (1) وغيره من أهل السنة أن ولاية الذين آمنوا غير مرادة في زمان الخطاب البتة بالإجماع، لأن زمن الخطاب عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والإمامة نيابة للنبوة بعد موت النبي، فلما لم يكن زمن الخطاب مرادا لا بد أن يكون ما أريد به زمانا متأخرا عن موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا حد للتأخير سواء كان أربع سنين أو بعد أربع وعشرين، فقام هذا الدليل في غير محل النزاع ولم يحصل منه مدعى الشيعة وهو كون إمامة الأمير بلا فصل. وهذا بالنظر الإجمالي، وإن نظرنا في مقدمات هذا الدليل بالتفصيل منعنا أولا إجماع المفسرين على نزولها فيما قالوا، بل اختلف علماء التفسير في سبب نزول هذه الآية فروى أبو بكر النقاش (2) صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر - عليه السلام - أنها نزلت في المهاجرين والأنصار. وقال قائل نحن سمعنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب قال الإمام: هو منهم. (3) يعني أن أمير المؤمنين داخل أيضا في المهاجرين والأنصار ومن جملتهم. وهذه الرواية أوفق بلفظ «الذين» وصيغ الجمع في صلات الموصول وهي: {يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}. وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي بكر، ويؤيد هذا القول الآية السابقة الواردة في قتال المرتدين. وأما القول بنزولها في حق علي بن أبي طالب ورواية قصة السائل وتصدقه

_________

(1) إبراهيم بن حيدر بن أحمد الكردي الشافعي، له مؤلفات عديدة، توفي سنة 1151هـ. معجم المؤلفين: 1/ 27

(2) اشتهر بالقراءة والتفسير رغم ضعفه في الحديث. ميزان الاعتدال: 6/ 115؛ طبقات المفسرين: ص 94.

(3) السيوطي، الدر المنثور: 3/ 106. وأخرج الطبري وأبو نعيم عن عبد الملك بن أبي سليمان قال سألت أبا جعفر محمد بن علي عن قوله: «{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} قال: أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، قلت يقولون: علي؟ قال: علي منهم». تفسير الطبري: 6/ 288؛ حلية الأولياء: 3/ 185.

(1/141)

________________________________________

بالخاتم في حالة الركوع فإنما هو الثعلبي فقط وهو متفرد به (1) ولا يعد المحدثون أهل السنة روايات الثعلبي قدر شعيرة، ولقبوه بحاطب ليل، فإنه لا يميز بين الرطب واليابس، وأكثر رواياته في التفسير عن الكلبي (2) عن أبي صالح، (3) وهي ما يروى في التفسير عندهم. (4)

وقال القاضي شمس الدين ابن خلكان (5) في حال الكلبي: إنه كان من أتباع عبد الله بن سبأ الذي كان يقول إن علي بن أبي طالب لم يمت وإنه يرجع إلى الدنيا. وينتهي بعض روايات الثعلبي إلى محمد بن مروان السدى الصغير وهو كان رافضيا غاليا يعلمونه من سلسلة الكذب والوضع. وأورد صاحب (لباب التفسير) أنها نزلت في شأن عبادة بن الصامت إذ تبرأ من حلفائه الذين كانوا هودا على رغم عبد الله بن أبي وخلافه (6) فإنه لم يتبرأ منهم ولم يترك حمايتهم وطلب الخير لهم. وهذا القول أنسب بسياق الآية فإن سياقها {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء} لأن هذه الأية بعد تلك الآية. وقال جماعة من المفسرين إنها نزلت في حق عبد الله بن سلام. (7)

ونقول ثانيا: إن لفظ «الولي» (8) تشترك فيه المعاني الكثيرة: المحب، والناصر، والصديق، والمتصرف في الأمر. ولا يمكن أن يراد من اللفظ المشترك معنى معين إلا بقرينة خارجة، والقرينة ههنا من السباق يعني ما سبق هذه الآية (9) فهو مؤيد لمعنى الناصر، لأن الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليتها وإزالة الخوف عنها من المرتدين، والقرينة من السياق - يعني ما بعد هذه الآية - معينة لمعنى المحب والصديق وهو قوله تعالى

_________

(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة (مقدمة أصول التفسير) ص 39 طبع المطبعة السلفية عند تنبيه على تفسير الرافضة هذه الآية بأن المراد بها علي بن أبي طالب: «ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة». فالقصة إذن مكذوبة على كتاب الله من أصلها بإجماع أهل العلم، وليست هذه بأول دسائسهم ولا بأخرها.

(2) في المطبوع (الكليني)، والصحيح أنه أبو النضر محمد بن السائب الكلبي، تركه معظم المحدثين، مات سنة 147هـ. ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال: 6/ 114؛ ابن حجر، تهذيب التهذيب: 9/ 157.

(3) وكلاهما من صناديد التشيع. قال النسائي عن أبي صالح: ليس بثقة، وقال عنه ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه تفسير. ميزان الاعتدال: 2/ 3؛ تهذيب التهذيب: 1/ 364

(4) تفسير الثعالبي: 1/ 471، وقد نقل مفسرو الإمامية هذه الرواية عن الثعالبي: مجمع البيان: 2/ 209؛ جوامع الجامع: 1/ 337 ..

(5) وفيات الأعيان: 4/ 310.

(6) تفسير الطبري: 6/ 287؛ السيوطي، الدر المنثور: 3/ 98.

(7) الدر المنثور: 3/ 105.

(8) قال ابن منظور: «الولي هو الناصر، وقيل هو المتولي لأمور العالم المتصرف فيها ... ». لسان العرب: مادة ولي، 16/ 406.

(9) أي قوله تعالى: {من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}.

(1/142)

________________________________________

{يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا} الآية المذكورة، لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه، وهم ما اتخذ بعضهم بعضا إماما، وكلمة «إنما» المفيدة للحصر تقتضي هذا المعنى أيضا لأن الحصر إنما يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع من المظان، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف، بل كان في النصرة والمحبة. وثالثا إن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وهي قاعدة أصولية متفق عليها بين الفريقين، (1) فمفاد الآية حصر الولاية العامة لرجال معدودين داخل فيهم الأمير أيضا لأن صيغ الجمع وكلمة «الذين» من ألفاظ العموم أو مساوية لها باتفاق الإمامية كما ذكره المرتضى في (الذريعة) (2) وابن المطهر الحلي في (النهاية)، فحمل الجمع على الواحد متعذر، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل ولا يصح ارتكابه بلا ضرورة.

فإن قالت الشيعة إن الضرورة متحققة ههنا إذ التصدق على السائل في حالة الركوع لم يقع من أحد غيره (3) قلنا أين ذكرت في هذه الآية هذه القصة بحيث يكون مانعا من حمل الموصول وصلاته على العموم؟ بل جملة {وهم راكعون} معطوفة على الجمل السابقة، وصلة للموصول، أي الذين هم راكعون، أو حال من ضمير يقيمون الصلاة. (4) وأيا ما كان معنى الركوع فهو الخشوع لا الركوع الاصطلاحي. فإن قالت الشيعة حمل الركوع على الخشوع حمل لفظ على غير المعنى الشرعي في كلام الشارع وهو خلاف الأصل، قلنا: لا نسلم، كيف والركوع بمعنى الخشوع مستعمل في القرآن أيضا كقوله تعالى {واركعي مع الراكعين} مع أن الركوع الاصطلاحي لم يكن بالإجماع في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع، وقوله تعالى {وخر راكعا} وظاهر أن الركوع المصطلح ليس فيه خرور وسقوط بل هو انحناء مجرد ولا يمكن الخرور مع تلك الحالة بخلاف الخشوع. (5) وقوله تعالى {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون}، ولا يخفى أن المقصود من الآمر ليس مجرد الانحناء الذي هو ركوع اصطلاحي. ولما كان الخشوع معنى مجازيا متعارفا لهذا اللفظ جاز حمله عليه بلا ضرورة أيضا كما هو

_________

(1) أوردها صاحب المحصول: 1/ 448 من أهل السنة وأوردها من الإمامية المرتضى في الذريعة في أصول الشيعة: 1/ 307؛ والمقتول الثاني في تمهيد القواعد: ص 216.

(2) الذريعة في أصول الشيعة: 1/ 305.

(3) بل ولم يقع منه أيضا بإجماع أهل العلم.

(4) قال الآلوسي الجد: «{الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة} بدل من الموصل الأول [أي الذين آمنوا] أو صفة له باعتبار مجرى الأسماء؛ لأن الموصول إلى وصف المعارف بالجمل والوصف لا يوصف إلا بتأويل». روح المعاني: 6/ 167.

(5) قال النووي: الركوع في اللغة الانحناء، وقال الماوردي هو الخشوع. المجموع: 3/ 396.

(1/143)

________________________________________

مقرر في محله. (1) وأيضا نقول حمل {يؤتون الزكاة} علي تصدق بالخاتم على السائل كحمل لفظ الركوع على غير معناه الشرعي، فما هو جوابكم فيه فهو جوابنا في الركوع، بل ذكر الركوع بعد إقامة الصلاة مؤيد لنا ومرجح لتوجيهنا حتى لا يلزم التكرار، وذكر الزكاة بعد إقامة الصلاة مضر لكم إذ في عرف القرآن حيثما وقعت الزكاة مقرونة بالصلاة يكون المراد منها زكاة مفروضة لا التصدق مطلقا. (2) ولو حملنا الركوع على معناه الحقيقي لكان مع ذلك حالا من ضمير «يقيمون» الصلاة أيضا وعاما لجميع المؤمنين لأنه احتراز عن صلاة اليهود الخالية عن الركوع، (3) وفي هذا التوجيه غاية اللصوق بالنهي عن موالاة اليهود الوارد بعد هذه الآية.

وأيضا لو كان حالا من {يؤتون الزكاة} لما بقي صفة مدح، بل يوجب في مفهوم {يقيمون الصلاة} قصورا بينا، إذ المدح والفضيلة في صلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات، لأن مبناه على السكون والوقار سواء كانت تلك الحركات قليلة أو كثيرة، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن تورث قصورا في معنى إقامة الصلاة البتة، ولا يجوز حمل كلام الله تعالى على التناقض والتخالف، ومع هذا لا دخل لهذا القيد بالإجماع لا طردا ولا عكسا في صحة الإمامة، فيتعلق حكم الإمامة بهذا القيد يلزم منه اللغو في كلام الباري تعالى كما يقال مثلا إنما يليق بالسلطنة من بينكم من له ثوب أحمر. ولو تنزلنا عن هذه كلها لقلنا: إن هذه الآية إن كانت دليلا لحصر الإمامة في الأمير تعارضها الآيات الأخر في ذلك، فيجب الاعتداد بها، كما يجب على الشيعة أيضا اعتبار تلك المعارضات في إثبات الأئمة الأطهار الآخرين، والدليل إنما يتمسك به غذ سلم عن المعارض، وتلك الآيات المعارضات هي الآيات الناصة على خلافة الخلفاء الثلاثة المحررة فيما سبق. ومن العجائب أن صاحب (إظهار الحق) قد أبلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح هذا الاستدلال بزعمه، وليست كلماته في هذا المقام إلا قشورا بلا لب بالمرة، فمن جملة ما قال: إن الأمر بمحبة الله ورسوله يكون بطريق الوجوب والحتم

_________

(1) قال ابن العربي: «لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع ههنا السجود، فإن السجود هو الميل والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدخل على الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد بهيئته، ثم جاء هذا على تسمية أحدهما بالآخر فسمى السجود ركوعا». الجامع لأحكام القرآن: 15/ 182.

(2) قرر ذلك الطبرسي بقوله: «وهذا حكم جميع ما ورد في القرآن مجملا». مجمع البيان: 1/ 190 ..

(3) قال الطبرسي: «إن الخطاب لليهود، ولم يكن في صلاتهم ركوع». مجمع البيان: 1/ 190.

(1/144)

________________________________________

لا محالة، فالأمر بمحبة المؤمنين وولايتهم المتصفين بتلك الصفات المذكورة أيضا بطريق الوجوب، إذ الحكم في كلام واحد موضوعه متحدا ومحموله متحدا أو متعددا ومتعاطفا فيما بينهما، لا يمكن أن يكون بعضه واجبا وبعضه مندوبا، إذ لا يجوز أخذ اللفظ في استعمال واحد بالمعنيين، فبهذا المقتضى تصير مودة المؤمنين وولايتهم المتصفين بتلك الصفات واجبة أيضا، وتكون مودتهم ثالثة لمودة الله ورسوله الواجبة على الإطلاق بدون قيد وجهة، فلو أخذ أن المراد بالمؤمنين المذكورين كافة المسلمين وكل الأمة باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لا يصح، لأن معرفة كل منهم يكون متعذرا لكل واحد من المكلفين فضلا عن مودتهم، وأيضا قد تكون المعاداة لمؤمن بسبب من الأسباب مباحة بل واجبة. فالمراد به يكون المرتضى، انتهى كلامه.

وهو كما ترى يدل على مقدار فهم مدعيه، إذ مع تسليم مقدماته أين اللزوم بين الدليل والمدعى؟ وأي استلزام له بالمطلوب؟ لأن الحاصل على تقدير تعذر مودة الكل ثبوت مودة البعض مطلقا لا معينا، فكيف يتعين أن يكون الأمير مرادا بذلك البعض؟ لأن هذا التعيين وهو المتنازع فيه لم يثبت بعد بدليل، ولا يثبت بهذه المقدمات المذكورة بالضرورة، وثبوت ذلك لا يستلزم ثبوت المتعين، فاستنتاج المتعين بدليل منتج للمطلق لا يكون إلا جهلا وحماقة ظاهرة. نعم يريدون بهذه الترهات ترويج دعاويهم عند الجهلة السفهاء، ولنناقش تلك المقدمات فنقول: لا يخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة جميع المؤمنين من جهة الإيمان عامة بلا قيد ولا جهة، وإنها في الحقيقة موالاة لإيمانهم دون ذواتهم، ولو أنه يباح أو يجب عداوة بعض لبعض بسبب من الأسباب لم يكن للموالاة الإيمانية مضرة أصلا لاختلاف الجهة. ونحن نحكّم الشيعة في هذه المسألة: إن أهل مذهبهم يتحابون فيما بينهم بجهة التشيع، وتلك المحبة عامة بدون

(1/145)

________________________________________

قيد وجهة، ومع هذا قد يتباغضون ويعادي بعضهم بعضا للمعاملات الدنيوية، فهل تبقى موالاة التشيع بحالها أو لا؟ ولو فهموا من هذه الآية كون هذا المعنى محذورا ومحالا لأمكن لهم أن يغمضوا أعينهم عن القرآن كله، وما يقولون في هذه الآية {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله} وأمثالها؟ ولو كانت الموالاة الإيمانية لجميع المؤمنين العامة للمطيع والعاصي ثالثة لمحبة الله ولرسوله فأية استحالة عقلية تلزمها؟ نعم إنما المحذور كون أنواع الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة في الاصالة، وليس الأمر كذلك، إذ محبة الله تعالى هي أصل، ومحبة رسوله بالتبع والمحبة العامة للمؤمنين بتبع التبع، لم يبق بينها مساواة أصلا، واتحاد القضية في الموضوع والمحمول ههنا ليس متحققا، أما عدم الاتحاد في المحمول فظاهر، وأما في الموضوع فلأن ما يصدق عليه وصفه بالأصالة غير ما يصدق عليه وصفه بالتبعية بناء على أن الولاية من الأمور العامة، كما بين آنفا، بل غرضه منه ترهيب عوام أهل السنة بمحض التكلم باصطلاح أهل الميزان (1) لئلا يقدحوا في كلامه وليتحترزوا عن القدح بظن أنه منطقي، ولهذا قال هو متنبها على قبحه «أو متعددا ومتعاطفا» ولكن لم يفهم من هذا القدر أن هذه المقدمة القائلة بوجوب المولاة في صورة التعدد والعطف تكون ممنوعة، لأن العطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهة الحكم. مثاله من العقليات: إنما الموجود في الخارج الواجب والجوهر والعرض. ومن الشرعيات قوله تعالى {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} مع أن الدعوى على الرسول واجبة وعلى غيره مندوبة ولهذا قال الأصوليون: القرآن في النظم لا يوجب القرآن في الحكم، وعدوا هذا النوع من الاستدلال في المسالك المردودة.

وإن تنزلنا عن هذا أيضا فالأظهر أن اتحاد نفس وجوب المحبة ليس محذورا وإنما المحذور الاتحاد في الرتبة والدرجة في الأصالة والتبعية وهو غير لازم. وأيضا قد جعل محبة المؤمنين من حيث الإيمان موقوفة على معرفة كل

_________

(1) أي علم المنطق

(1/146)

________________________________________

فرد منهم بخصوصه وليست كل كثرة تمنع أن تلاحظ بعنوان الوحدة ولو كانت غير متناهية فضلا عن غيرها. مثلا إذا قلنا: كل عدد هو نصف مجموع حاشيتيه إما فرد وإما زوج ففي هذا الحكم وقع التوجه إلى جميع مراتب الأعداد إجمالا ولا شبهة أن مراتبها غير متناهية. وفي قولنا: كل حيوان حساس وقع الحكم على جميع أفراد الحيوان مع أن أنواعه بأسرها غير معلومة لنا فضلا عن الأوصاف والأشخاص. فلا شعور لهذا القائل بالملاحظة الإجمالية التي تكون حاصلة للصبيان والعوام ولا يفرق بين العنوان والمعنون. ولو لم يقبل هذه التقريرات ولم يضع إليها لكونها من العلم المعقول فنسأل عن المسلمات الدينية ونقول: إن ترك الموالاة من الكفار بل عداوتهم كلهم أجمعين من حيث الكفر واجبة أم لا؟ فإن اختار الشق الأول يلزمه ذلك المحذور بعينه إذ معرفة كل منهم غير حاصلة فضلا عن عداوتهم وإن آثر الشق الثاني فكيف يثبت عداوة يزيد وابن زياد وأمثالهما؟ وبماذا يجيب عن الآيات القرآنية مع أن فرقة المؤمنين يكون معرفتهم وامتيازهم من جهة الإيمان حاصلة وأنواع الكفر ليست معلومة أصلا حتى يمكن لنا أن نميز أنواع الكفار فضلا عن أشخاصهم؟ وأيضا منقوض بوجوب موالاة العلوية الداخلة في اعتقادهم ومعرفة أشخاصهم وأعدادهم مع انتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها التي ليس تعذرها أقل من تعذر موالاة المؤمنين عموما.

ومن جملة ما قال إنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة التمسوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاستخلاف كما ذكر في مشكاة المصابيح عن حذيفة قال: «قالوا يا رسول الله لو استخلفت؟ قال: لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأ كم عبد الله فاقرأوه» (1) رواه الترمذي. وهكذا استفسروا منه - عليه السلام - عن الحري بالإمامة عن علي قال: «قيل يا رسول الله من يؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا في الدنيا راغبا في الآخرة وإن تؤمروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم وإن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم» (2) رواه أحمد، وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضرته - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الآية فلم يبطل مدلول «إنما» انتهى كلامه.

ولا يخفى على

_________

(1) ضعيف الترمذي: 1/ 798.

(2) الحديث موضوع حسب ابن الجوزي في العلل المتناهية: 1/ 253.

(1/147)

________________________________________

العاقل ما فيه من الضعف والخروج عن الجادة إذ محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد. نعم لو وقع النزاع فيما بينهم بعد المشاورة في تعيين ولي الأمر وبيانه - صلى الله عليه وسلم - لهم لتحقق مدلول «إنما» بأن ما وفرق ما بينهما. وعلى تقدير تسليم التردد من أين لنا العلم بكونه قبل نزول الآية أو بعده، ولو كان قبل النزول فهل هو متصل أو منفصل؟ ولو كان متصلا فهل اتصاله اتفاقي أو سببي للنزول؟ وليس للاحتمالات دخل في أسباب النزول لأنه ليس بأمر عقلي فلا يمكن إثباته إلا بخبر صحيح. على أنه لم يذكر أحد من مفسري الفريقين كون التردد سببا للنزول فقد علم أنه لم يكن متصلا وهكذا الحال لو كان بعد نزول الآية. والظاهر أن الحديث الوارد ينافي كلمة «إنما» لأن جوابه - صلى الله عليه وسلم - حين الاستفسار عمن يليق للخلافة فكأنه قال إن استحقاق الخلافة ثابت لكل من هؤلاء الثلاثة البررة الكرام ولكن أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى تقديم الشيخين بتقديمهما في الذكر فالسؤال والجواب منه - صلى الله عليه وسلم - ينافيان كون «إنما» في الآية مفيدة حصر الخلافة في المرتضى كرم الله تعالى وجهه. وإلا فإن كانت الآية متقدمة يلزم الرسول للقرآن وإن كانت مؤخرة كون القرآن مكذوبا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يمكن أن يدعى ههنا أن أحدهما ناسخ للآخر لأن كلا من الحديث والآية من باب الإخبار الذي لا يحتمل النسخ. وأيضا لا يعلم المتقدم منهما والعلم بتأخر الناسخ شرط في النسخ. فحينئذ إذا لم يمكن الجمع بينهما لا يعمل بهما معا. فإن قالوا إن الحديث من أخبار الآحاد فلا يصح التمسك به في مسألة الإمامة نقول وكذلك لا يجوز التمسك به في إثبات التردد والنزاع أيضا ومع هذا فإن التمسك بالآية موقوف على ثبوت التردد والنزاع فتمسك الشيعة بهذه الآية كان باطلا أيضا لأن التمسك بالآية التي تتوقف دلالتها على خبر الواحد لا يجوز في مسألة الإمامة أيضا. وأيضا قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول إن الاستخلاف ترك الأصلح في حق الأمة فلو كانت آية {إنما وليكم الله} دالة على الاستخلاف الذي هو ترك الأصلح لزم صدور ترك الأصلح من الله تعالى وهو محال. فالحديث الأول أيضا لتمسكهم بهذه الآية في هذا الباب.

(1/148)

________________________________________

ومنها (1) قوله تعالى {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا} قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بهذه الآية: إن المفسرين أجمعوا على نزول هذه الآية في حق علي وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله تعالى عنهم - وهي تدل عل عصمتهم دلالة مؤكدة، وغير المعصوم لا يكون إماما. (2)

ولا يخفى أن المقدمات المذكورة ههنا مخدوشة كلها:

أما الأولى: - فكون (إجماع المفسرين) على ذلك ممنوعا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنها نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق: إن قوله تعالى {إنما يريد الله ليذهب} الآية نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3) والظاهر من ملاحظة سياق الآية وسباقها إنما هو هذا لأن أولها {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} إلى قوله {والحكمة} (4) خطاب للأزواج المطهرات وأمر ونهي لهن، فذكر حال الآخرين بجملة معترضة بلا قرينة ولا رعاية نكتة ومن غير تنبيه على انقطاع كلام سابق وافتتاح كلام جديد مخالف لوظيفة البلاغة التي هي أقصى الغاية في كلام الله تعالى فينبغي أن يعتقد تنزهه عن تلك المخالفة. وإضافة البيوت إلى الأزواج في قوله {بيوتكن} تدل على أن المراد من {أهل البيت} في هذه الآية إنما هو الأزواج المطهرات، إذ بيته - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يكون غير ما يسكن فيه أزواجه من البيوت. وقال عبد الله المشهدي الشيعي: إن كون البيوت جمعا في بيوتكن وإفراد أهل البيت يدل على أن بيوتهن غير بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كن أهل البيت لوقع الكلام: اذكرن ما يتلى في بيتكن. انتهى كلامه. ولا يخفى ركاكة هذا الكلام وفساده لأن إفراد البيت في أهل البيت الذي هو اسم جنس ويجوز إطلاقه على كثير وقليل إنما هو باعتبار إضافته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن بيوت الأزواج المطهرات كلهن باعتبار

_________

(1) أي من الاستدلالات القرآنية في مغالطات الشيعة.

(2) كذا ادعى ابن المطهر الحلي في نهج الحق: ص 173.

(3) ابن عساكر، تاريخ دمشق: 69/ 150؛ السيوطي، الدر المنثور: 6/ 602.

(4) من سورة الأحزاب: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا * وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا * واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا}

(1/149)

________________________________________

هذه الإضافة بيت واحد وكون البيوت جمعا في {بيوتكن} باعتبار إضافتها إلى الأزواج المطهرات اللائي كن متعددات. وما قال هذا القائل بعد ذلك لا يبعد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال كما وقع قوله تعالى {قال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل} ثم قال بعد تمام هذه الآية {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} قال المفسرون {وأقيموا الصلاة} عطف على {أطيعوا} انتهى كلامه. فهو أرك وأسخف من كلامه السابق فإن وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي من حيث الإعراب الذي يتعلق بوظيفة النحاة يجوز بلا شبهة ولكن لا يضرنا لأن المغايرة ووقوع الأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة والسابقة تلزم فيما نحن فيه وهذا هو المنافي للبلاغة لا ذلك وما نقل عن بعض المفسرين من أن أقيموا الصلاة معطوف على أطيعوا الرسول فهو صريح الفساد إذ وقع لفظ وأطيعوا الرسول بعد أقيموا الصلاة أيضا بالعطف فلزم عطف الشيء على نفسه، إذ لا احتمال للتأكيد أصلا لوجود حرف العطف.

ثم قال كلاما أشد ركاكة من الأول وذلك قوله «إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية، لأن آية التطهير جملة ندائية وخبرية وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية وعطف الإنشائية على الخبرية لا يجئ فإنه ممنوع» ألا ترى أن آية التطهير ليست جملة ندائية بل النداء وقع بينهما وهو قوله سبحانه {أهل البيت} وعلى تقدير كونها ندائية كيف تكون خبرية لأن النداء من أقسام الإنشاء دون الخبر كما لا يخفى، ومع هذا أين حرف العطف في آية التطهير؟ كيف وهي تعليل للأمر بالإطاعة في قوله تعالى {وأطعن الله ورسوله} ووقوع تعليل الإنشائية بالخبرية في كل القرآن والأحاديث الشريفة وكلام البلغاء مشهور، مثل: اضرب زيدا إنه فاسق، أطعني يا غلام إنما أريد أكرمك. وإن أراد عطف {واذكرن} فما عطف عليه وهو {أطعن} و {قرن}. والأوامر الأخر السابقة كلها جمل إنشائية فلا يلزم عطف الخبر على الإنشائية. ومن هنا قلة ممارسة علمائهم لعلم العربية. وأما إيراد ضمير جمع المذكر في {عنكم} فبملاحظة لفظ الأهل، فإن العرب تستعمل صيغ التذكير في المؤنث التي يلاحظونها بلفظ التذكير إذا أرادوا التعبير عنها بتلك

(1/150)

________________________________________

الملاحظة وهذه قاعدة لهم في محاوراتهم وقد جاء هذا الاستعمال في التنزيل أيضا كقوله تعالى خطابا لسارة امرأة الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد} وقوله {قال لأهله امكثوا} حكاية لخطاب موسى - صلى الله عليه وسلم - لامرأته. وما روي في سنن الترمذي والصحاح الأخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا هؤلاء الأربعة وأدخلهم في عباءة ودعا لهم بقوله «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» وقالت أم سلمة: أشركني فيهم أيضا، قال «أنت على خير وأنت على مكانك». (1) فهو دليل صريح على أن نزولها كان في حق الأزواج فقط وقد أدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الأربعة - رضي الله تعالى عنهم - بدعائه المبارك في تلك الكرامة ولو كان نزولها في حقهم لما كانت الحاجة إلى الدعاء، ولم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل تحصيل الحاصل؟ ومن ثمة يجعل أم سلمة شريكة في هذا الدعاء وعلم في حقها هذا الدعاء تحصيل الحاصل؟ ولكن ذهب محققو أهل السنة إلى أن هذه الآية وإن كانت واقعة في حق الأزواج المطهرات فإنه بحكم «العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب» (2)

داخل في بشارتها هذه جميع أهل البيت وكان دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - في حق هؤلاء الأربعة نظرا إلى خصوص السبب، (3) ويؤيده ما ورد في الرواية الصحيحة للإمام البيهقي من مثل هذه المعاملة بالعباس وأبنائه أيضا، ويفهم منه أنما كان غرضه - صلى الله عليه وسلم - بذلك أن يدخل جميع أقاربه في لفظة «أهل البيت» الواردة في خطاب الله تعالى: أخرج البيهقي عن أبي أسيد الساعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس بن عبد المطلب «يا أبا الفضل لا ترم منزلك أنت وبنوك غدا حتى آتيك فإن لي بكم حاجة» فانتظروه حتى جاء بعد ما أضحى فدخل عليهم فقال: السلام عليكم فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. قال: كيف أصبحتم؟ قالوا: بخير نحمد الله. فقال لهم: تقاربوا. فزحف بعضهم إلى بعض حتى إذا أمكنوا اشتمل عليهم بملاءة ثم قال «يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي استرهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه» قال فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت وقالت: آمين آمين آمين. (4) وروى ابن ماجه أيضا هذا الحديث مختصرا. (5) والمحدثون الآخرون أيضا

_________

(1) والحديث موضوع حسب ابن الجوزي في العلل المتناهية: 1/ 253.

(2) وهو مذهب جمهور المفسرين، ينظر البرهان في علوم القرآن: 1/ 32؛ السيوطي، الإتقان: 1/ 89 ..

(3) قال ابن تيمية: «وهذا السياق يدل على أن ذلك أمر ونهى، ويدل على أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته، فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن، ويدل على أن قوله: {ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} عمّ غير أزواجه كعلي وفاطمة وحسن وحسين - رضي الله عنهم -، لأنه ذكره بصيغة التذكير لما اجتمع المذكر والمؤنث، وهؤلاء خصوا بكونهم من أهل البيت من أزواجه، فلهذا خصهم بالدعاء لما أدخلهم في الكساء، كما أن مسجد قباء أسس على التقوى ومسجده - صلى الله عليه وسلم - أيضا أسس على التقى وهو أكمل في ذلك ... ». منهاج السنة النبوية: 4/ 23 - 24.

(4) أخرجه الطبراني، المعجم الكبير: 19/ 263. قال عنه الهيثمي: «وإسناده حسن».

(5) سنن ابن ماجه: 2/ 1222.

(1/151)

________________________________________

رووا هذه القصة بطرق متعددة في اعلام النبوة. وما قال عبد الله المشهدي المذكور «إن البيت بيت النبوة، ولا شك في أن أهل البيت لغة شامل الأزواج بل للخدام من الإماء اللاتي يسكن في البيت أيضا، وليس المراد هذا المعنى اللغوي الوسعة بالاتفاق، فالمراد من أهل البيت خمسة آل العبا الذين خصصهم حديث الكساء» انتهى كلامه. وفيه أن المعنى اللغوي لو كان مرادا بهذه الوسعة لا يلزم محذورا إلا ذلك العموم في العصمة الثابتة عند الشيعة بهذه الآية، ولما لم يتفق أهل السنة مع الشيعة في فهم العصمة من هذه الآية لم يتفقوا معهم في نفي هذا العموم، ولتخصيص أهل السنة العصمة بالرسول أبدلت الخمسة بالأربعة فتدبر. وأيضا عدم كون المعنى اللغوي مرادا بهذه الوسعة من أجل أن القرائن الدالة من الآيات السابقة واللاحقة معينة للمراد، وأيضا يخصص العقل هذا اللفظ باعتبار العرف والعادة بمن يسكنون في البيت لا بقصد الانتقال، ولم يكن التحول والتبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك في الهبة والبيع والإجازة والإعتاق، وإنما يدل التخصيص فائدة أخرى ظاهرة وهي ههنا دفع مظنة عدم كون هؤلاء الأشخاص في أهل البيت نظرا إلى أن المخاطبات فيها هن الأزواج فقط.

وأما الثانية فلأن دلالة هذه الآية على العصمة مبنية على عدة أبحاث: أحدها كون كلمة {ليذهب عنكم الرجس} أي محل لها من الأعراب: مفعول له ليريد أو مفعول به؟ (1) الثاني معنى «أهل البيت» ما هو؟ (2) الثالث أي مراد من «الرجس» (3). وفي هذه المباحث كلام كثير محله في كتب التفاسير.

وبعد اللتيا (4) والتي إن كان ليذهب مفعول به وأهل البيت منحصرين في هؤلاء الأربعة والمراد من الرجس مطلق الذنوب فدلالة الآية على العصمة غير مسلمة بل هي تدل على عدمها إذ لا يقال في حق من هو طاهر إني أريد أن أطهره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل. وغاية ما في الباب أنهم محفوظون من الذنوب بعد تعليق الإرادة بإذهابها، قد ثبت ذلك بالآية على أصول أهل السنة لا على أصول مذهب الشيعة، لأن وقوع مراد الله لزم إرادته تعالى عندهم: فرب أشياء يريد الله

_________

(1) قال الآلوسي الجد: «واختلف في لام ليذهب فقيل زائدة وما بعدها في موضع المفعول به ليريد فكأنه قيل يريد الله إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وقيل للتعليل ثم اختلف هؤلاء فقيل المفعول محذوف أي إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب أو إنما يريد منكم ما يريد ليذهب أو نحو ذلك». روح المعاني: 13/ 21 - 22.

(2) قال الآلوسي الجد: «وأل في البيت للعهد، وقيل عوض عن المضاف إليه أي بيت النبي، والظاهر أن المراد به بيت الطين والخشب لا بيت القرابة والنسب وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل، وحينئذ فالمراد بأهله نساؤه المطهرات للقرائن الدالة على ذلك من الآيات السابقة واللاحقة مع أنه - عليه الصلاة والسلام - ليس له بيت يسكنه سوى سكناهن». روح المعاني: 12/ 19.

(3) قال ابن حيان: «الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، فاذهب الله جميع ذلك على أهل البيت». البحر المحيط: 8/ 478.

(4) قال ابن منظور: «وبعد اللتيا: هذا مما يعبر به عن الدواهي». لسان العرب: مادة نقر، 5/ 228.

(1/152)

________________________________________

وقوعها ويمنعه الشيطان من أن يوقع ذلك! ولو كانت إفادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا: إن الله أذهب عنكم الرجس أهل البيت، الآية. وأيضا لو كانت هذه الكلمة مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لأن الله تعالى قال في حقهم في مواضع من التنزيل {ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وقال {ليطهركم به وليذهب عنكم رجس الشيطان} وظاهر أن إتمام النعمة في الصحابة كرامة زائدة بالنسبة إلى ذينك اللفظين، ووقوع هذا الاتمام أدل على عصمتهم، لأن إتمام النعمة لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان. فليتأمل فيه تأملا صادقا لتظهر فيه حقيقة الملازمة وبيان وجهها وبطلان اللازم مع فرض صدق المقدم، فالتخصيصات المحتملة في لفظ التطهير وإذهاب الرجس صارت هباءً منثورا.

أما الثانية فلأن «غير المعصوم لا يكون إماما» مقدمة باطلة يكذبها الكتاب وأقوال العترة. سلمنا، ولكن ثبت من هذا الدليل صحة إمامة الأمير، أما كونه إماما بلا فصل (1) فمن أين؟ إذ يجوز أن أحدا من السبطين يكون إماما قبله ولا محذور فيه، والتمسك بالقاعدة التي لم يقل بها أحد دليل العجز، إذ المعترض لا مذهب له.

ومنها (2) قوله تعالى {قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى} فإنها لما نزلت قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجب علينا مؤدتهم؟ قال: علي وفاطمة وأبناؤها. (3) فذكر الشيعة في تقديرها مقدمات فاسدة مؤيدة لمطلبهم وهي «أهل البيت واجبة المحبة، وكل من كان كذلك فهو واجب الإطاعة، فعلي واجب الإطاعة وهو معنى الإمام. وغير علي لا تجب فلا تجب إطاعته». (4)

وأجيب عن هذا القياس الفاسد بأن المفسرين اختلفوا في المراد من هذه الآية اختلافا فاحشا، فالطبراني والإمام أحمد رويا عن ابن عباس هكذا، ولكن ردهما المحدثون بأن سورة الشورى بتمامها مكية، (5) ولم يكن هنالك الإمامان الحسن والحسين، وما كانت فاطمة - رضي الله تعالى عنها - متزوجة بعلي - رضي الله تعالى عنه -. وقد وقع في سند هذه الرواية بعض الغلاة من الشيعة ولعله حرف ذلك. والذي رواه البخاري عن ابن عباس أن

_________

(1) بأن يكون فاصل قبل ولايته

(2) أى من الاستدلالات القرآنية في مغالطات الشيعة.

(3) قال مجيد الخليفة: وهذا الحديث لا يصح من حيث السند لوجود ثلاثة من الضعفاء فيه، فحرب بن الحسن الأزدي، ضعفه الأزدي كما في لسان الميزان: 2/ 184، وقيس بن الربيع قال عنه النسائي: «متروك الحديث» كما في الضعفاء والمتروكين: ص 88؛ ونقل ابن الجوزي عن يحيى قوله: «ليس بشيء، فقد كان يتشيع وكان كثير الخطأ في الحديث»، الضعفاء والمتروكين: 3/ 19؛ أما حسن بن حسين الأشقر، فإنه أسوؤهم حالا، فقد اتهمه ابن عدي، وقال الذهبي: «هو رافضي» كما في المغني في الضعفاء: 1/ 170. ولذلك قال ابن تيمية: «إن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وهم المرجوع إليهم في هذا .. ». منهاج السنة النبوية: 7/ 99، وحكم عليه بالضعف والوهن في سنده أيضا الحافظ ابن حجر عندما قال: «وإسناده ضعيف وهو ساقط لمخالفته الحديث الصحيح ... »، ويعني حديث ابن عباس - رضي الله عنهم - االذي سيورده الآلوسي بعد قليل. فتح الباري: 8/ 564.

(4) كذا قال ابن المطهر الحلي في مناج الكرامة

(5) تفسير ابن كثير: 4/ 106.

(1/153)

________________________________________

القربى من بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - قرابة، وجزم قتادة (1) والسدي الكبير وسعيد بن جبير بأن معنى الآية: لا أسألكم على الدعوة والتبليغ من أجر إلا المودة لأجل قرابتي بكم. (2) وهذه الرواية أيضا في صحيح البخاري عن ابن عباس، (3) ومذكورة بالتفصيل أن قريشا لم يكن بطن من بطونهم إلا وقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قرابة بهم، فيذكرهم تلك القرابة وأداء حقوقها بطلبه منهم لا أقل من ترك إيذائه وهو أدنى مراتب صلة الرحم، فالاستثناء منقطع. وقد ارتضى جمع من المفسرين المتأخرين كالإمام الرازي وغيره بهذا المعنى. (4) لأن المعنى الأول ليس مناسبا لشأن النبوة بل هو من شيمة طالب الدنيا بأن يفعل شيئا ويسأل على ذلك ثمرة لأولاده وأقاربه، ولو كان للأنبياء مثل هذه الأغراض لم يبق فرق بينهم وبين أهل الدنيا ويكون ذلك موجبا لتهمتهم فيلزم نقص الغرض من بعثتهم.

وأيضا المعنى الأول مناف لقوله تعالى {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله} وقوله تعالى {أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون} وقوله تعالى {وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين} وغير ذلك من الآيات. (5) وأيضا حكى الله في سورة الشعراء عن أنبيائه المذكورين فيها نفي سؤال الأجر، فلو سأل خاتم الأنبياء أجرا من الأمة تكون مرتبته دون مرتبة أولئك الأنبياء، (6) وهو خلاف الإجماع.

وثانيا لا نسلم الكبرى وهي «كل واجب المحبة فهو واجب الإطاعة» وكذا لا نسلم هذه المقدمة «كل واجب الإطاعة صاحب الإمامة التي هي بمعنى الرئاسة العامة». فأما الأول فلأنه لو كان وجوب المحبة مستلزما لوجوب الإطاعة يلزم أن يكون جميع العلويين واجبي الإطاعة، لأن شيخهم ابن بابويه ذكر في كتاب (الاعتقادات) أن الإمامية «أجمعوا» على وجوب محبة العلوية. وأيضا يلزم أن تكون سيدتنا فاطمة - رضي الله عنها - إمامة بهذا الدليل، وهو خلاف الإجماع. وأيضا يلزم كون من هؤلاء الأربعة إماما في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والسبطين إمامين في زمن خلافة الأمير، وهو باطل بالاتفاق. وأما الثاني فلأن كل واجب الإطاعة لو كان صاحب الخلافة الكبرى يلزم أن يكون كل نبي في زمنه صاحب الخلافة الكبرى، وهذا أيضا باطل، لأن شموئيل - عليه السلام - كان نبيا واجب الإطاعة وكان طالوت صاحب الزعامة الكبرى بنص الكتاب.

وثالثا لا نسلم انحصار وجوب المحبة في الأشخاص

_________

(1) تفسير ابن كثير: 4/ 79؛ الدر المنثور: 7/ 248.

(2) تفسير ابن كثير: 4/ 79؛ الدر المنثور: 7/ 248.

(3) صحيح البخاري، كتاب المناقب، باب قوله تعالى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى): 4/ 1819.

(4) قال الرازي: «معنى الآية أني لا أسألكم على الدعوة والتبليغ إلا المودة والمحبة لأجل قربتي بكم». التفسير الكبير: 14/ 167.

(5) فالأنبياء لا يرجون الأجز من الخلق بل من الخالق.

(6) قال ابن بابويه: «إن الله تعالى جعل أجر نبيه - صلى الله عليه وسلم - على أداء الرسالة وإرشاد البرية مودة أهل البيت عليهم السلام ... ». ثم أورد قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى). شرح اعتقادات الصدوق: ص 118.

(1/154)

________________________________________

الأربعة المذكورين، بل يجب في غيرهم أيضا. روى الحافظ أبو طاهر السلفي (1) في مشيخته عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «حب أبي بكر وشكره على كل أمتي». وروى ابن عساكر عنه نحوه. (2) ومن طريق آخر عن سهل بن سعد الساعدي نحوه. (3) وأخرج الحافظ عن عمر بن محمد بن خضر الملا في سيرته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى فرض عليكم حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، كما فرض عليكم الصلاة والزكاة والصوم والحج» (4) وروى ابن عدي عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما كفر» (5) وروى الترمذي أنه أتي بجنازة رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يصل عليه وقال «إنه كان يبغض عثمان، فأبغضه الله». (6) وهذه الروايات لم يسلمها الشيعة لكونها في كتب أهل السنة فيثبت وجوب محبة الخلفاء الثلاثة بقوله تعالى {يحبهم ويحبونه} فإنه نزل في حق المقاتلين لأهل الردة بالإجماع، والخلفاء الثلاثة كانوا سادة أولئك المجاهدين وقادتهم، ومن كان الله يحبه فهو واجب المحبة. على أن قياسهم بعد تسليم صحة مقدماته لا يستلزم النتيجة المذكورة جزما، لأن صغراه «أهل البيت واجبو المحبة» وكبراه «وكل واجب المحبة واجب الإطاعة» وبعد ترتيبها على الشكل الأول حصلت النتيجة هذه «أهل البيت واجبو الإطاعة» لا تلك النتيجة. وهذه النتيجة عامة، وثبوت العام لا يستلزم ثبوت الخاص بخصوصه، والنتيجة العامة المذكورة ليست مطلوبة للمستدل ولا مدعاة بل محتملة له، والمطلوبة غير حاصلة من الدليل فالتقريب غير تام. ولو فرضنا الاستلزام لا يحصل مدعاه أيضا لأن كون الأمير إماما بلا فصل غير حاصل من الدليل، والحاصل كونه إماما مطلقا وهو غير مدعاه فلا يتم تقريبه أيضا.

ومنها آية المباهلة، وطريق تمسكهم بها أن قوله تعالى {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} الخ، لما نزل خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من منزله محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلي خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا. (7) فقد علم بذلك أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين وبأنفسنا الأمير، وإذا صار الأمير نفس الرسول. وظاهر أن المعنى الحقيقي مستحيل، فالمراد كونه مساويا له، فمن كان مساويا لنبي الزمان فهو أفضل وأولى بالتصرف بالضرورة من غيره، لأن المساوي للأفضل

_________

(1) توفي سنة 576. تذكرة الحفاظ: 4/ 1298؛ طبقات الحفاظ: ص 469.

(2) الحديث فيه عمر بن إبراهيم بن خالد الكردي الهاشمي مولاهم، قال عنه الدارقطني: «كذاب خبيث»، وقال الذهبي عن هذا الحديث: «منكر جدا». ميزان الاعتدال: 5/ 217؛ انظر تاريخ بغداد: 11/ 202؛ لسان الميزان: 4/ 280.

(3) في سنده عمر بن إبراهيم السابق ذكره

(4) ضعيف الجامع 2679

(5) ضعيف الجامع: رقم 2680.

(6) سنن الترمذي: 5/ 360، رقم 3709، وقال عنه: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ومحمد بن زياد صاحب ميمون بن مهران ضعيف في الحديث جدا». ووضعه في ضعيف الجامع: رقم 2073.

(7) بهذا اللفظ أورده ابن المطهر الحلي في نهج الحق: ص 215. لكن المشهور ما أخرجه مسلم عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: «خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا». صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل أهل البيت: 3/ 1649، رقم 2081 .. والخروج كان لللمباهلة كما صرحت رواية الترمذي. ينظر عارضة الأحوذي على صحيح الترمذي 8/ 279.

(1/155)

________________________________________

الأولى بالتصرف يكون مثله، فيكون إماما، إذ لا معنى للإمام إلا الأفضل الأولى بالتصرف. (1)

وفي هذا التمسك خلل بوجوه: الأول - أنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير، بل المراد نفسه - صلى الله عليه وسلم -، وما قاله علماؤهم في إبطاله «إن الشخص لا يدعو نفسه» فكلام مستهجن، إذ شاع وذاع في العرف القديم والجديد أن يقال دعته نفسه إلى كذا، ودعوت نفسي إلى كذا، {فطوعت له نفسه قتل أخيه}، وأمرت نفسي، وشاورت نفسي، إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء، فكان معنى {ندع أنفسنا} نحضر أنفسنا. وأيضا لو قررنا الأمير من قبل النبي لمصداق {أنفسنا} فمن نقرره من قبل الكفار لمصداق {أنفسكم} في أنفس الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة «ندعو» ولا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله {تعالوا}. فعلم أن الأمير داخل في الأبناء حكما، كما أن الحسنين داخلان في الأبناء كذلك لأنهما ليسا بابنين حقيقة، ولأن العرف يعد الختن [ابنا] (2) من غير ريبة في ذلك. (3)

وأيضا قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في النسب والدين، كقوله تعالى {يخرجون أنفسهم من ديارهم} أي أهل دينهم، {ولا تلمزوا أنفسكم}، {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا} فلما كان للأمير اتصال بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم في النسب والقرابة والمصاهرة واتحاد في الدين والملة وكثرة المعاشرة والألفة بحيث قال في حقه «علي مني وأنا من علي» وهذا غير بعيد، فلا يلزم المساواة كما لا يلزم في الآيات المذكورة.

الثاني - أنه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم اشتراكه في خصائص النبوة وغيرها من الأحكام الخاصة به، وهو باطل بالإجماع لأن التابع دون المتبوع. وأيضا لو كانت الآية دليلا لإمامته لزم كون الأمير إماما في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وهو باطل بالاتفاق، وإن قيدوا بوقت دون وقت فالتقييد لا دليل عليه في اللفظ فلا يكون مفيدا للمدعى، إذ هو غير متنازع فيه، لأن أهل السنة يثبتون أيضا إمامة الأمير في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائما في محل النزاع أيضا.

_________

(1) ابن المطهر الحلي في نهج الحق: ص 215.

(2) زيادة من السيوف المشرقة

(3) قال ابن تيمية في تفسير قوله تعالى: «{وأنفسنا وأنفسكم} أي رجالنا ورجالكم، أي الرجال الذين هم من جنسنا في الدين والنسب، والرجال الذين هم من جنسكم، أو المراد التجانس في القرابة فقط، لأنه قال: أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم، فذكر الأولاد وذكر النساء والرجال، فعلم انه أراد الأقربين إلينا من الذكور والإناث من الأولاد والعصبة، ولهذا دعا الحسن والحسين من الأبناء، ودعا فاطمة من النساء، ودعا عليا من رجاله، ولم يكن عنده أحد أقرب إليه نسبا من هؤلاء، وهم الذين أدار عليهم الكساء، والمباهلة إنما تحصل بالأقربين إليه ... ». منهاج السنة النبوية: 7/ 125.

(1/156)

________________________________________

ومنها قوله تعالى {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد} قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بها: ورد في الخبر المتفق عليه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «أنا المنذر وعلي الهادى» (1) ولا يخفى ضعفه لأن هذه رواية الثعلبي، ولا اعتبار لمراوياته في التفسير (2) فكيف يستدل بها على الإمامة؟ وعلى تقدير الصحة فلا دلالة لهذه الآية على إمامة الأمير ونفيها عن غيره أصلا، لأن كون رجل «هاديا» لا يستلزم أن يكون «إماما» ولا نفي الهداية عن الغير، وإن دل بمجرد الهداية على الإمامة تكون الإمامة المصطلحة لأهل السنة وهي بمعنى القدوة في الدين مرادة، وهو غير محل النزاع، قال الله تعالى {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا} (3) وقال {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} إلى غير ذلك.

ومنها قوله تعالى {وقفوهم إنهم مسئولون} قالت الشيعة (4) في الاستدلال بها: روى عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أنه قال: وقفوهم إنهم مسئولون عن ولاية علي بن أبي طالب. (5) ولا يخفى أن نحو هذا التمسك في الحقيقة بالروايات لا بالآيات، وهذه الرواية واقعة في فردوس الديلمي (6) الجامع للأحاديث الضعيفة الواهية، ومع هذا قد وقع سندها الضعفاء والمجاهيل الكثيرون بحيث سقطت عن قابلية الاحتجاج بها، لا سيما في هذه المطالب الأصولية. ومع هذا فإن نظم الكتاب مكذب لها، لإن هذا الحكم في حق المشتركين بدليل {وما كانوا يعبدون من دون الله} والكفار والمشركون يكون السؤال لهم أولا عن الشرك وعبادة غير الله تعالى لا عن ولاية علي! وأيضا نظم الكتاب يدل على أن السؤال يكون لهم بمضمون

_________

(1) الحديث من رواية الحسن بن الحسين العرني الكوفي، وهو من رؤساء الشيعة، قال الدارقطني: «منكر الحديث» كما في ميزان الاعتدال: 2/ 231؛ لسان الميزان: 2/ 199. وقال ابن الجوزي عن الحديث: «هو من موضوعات الرافضة». زاد المسير: 4/ 307.

(2) تقدم أن الثعلبي حاطب ليل. وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية في ص 15 من رده على البكري على طائفة من المفسرين الذين لا يميزون بين الصحيح والضعيف والغث والسمين وذكر أسماءهم وأولهم الثعلبي ثم قال: «فهؤلاء لا يعرفون الصحيح من السقيم. ولا لهم خبرة بالمروي المنقول، ولا لهم خبرة بالرواة النقلة، بل يجمعون فيما يروون بين الصحيح والضعيف، ولا يميزون بينهما، لكن منهم من يروي الجميع ويجعل العهدة عل الناقل كالثعلبي الخ»

(3) قال القرطبي: «أي رؤساء يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات ومعنى بأمرنا أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي فكأنه قال يهتدون بكتابنا». الجامع لأحكام القرآن: 11/ 305

(4) ابن المطهر الحلي، نهج الحق: ص 181.

(5) ليس في كتب الحديث المعتبرة

(6) ليس فيه بل ربما ادعى ذلك الشيعة.

(1/157)

________________________________________

هذه الجملة الاستفهامية {ما لكم لا تناصرون} توبيخا وزجرا لا عن شيء آخر. ولهذا أجمع القراء على ترك الوقف على {مسئولون}. ولئن سلمنا صحة الرواية وفك النظم القرآني يكون المراد بالولاية المحبة، وهي لا تدل على الزعامة الكبرى التي هي محل النزاع. ولو كانت الزعامة الكبرى مرادة أيضا لم تكن هذه الرواية مفيدة للمدعى، لأن مفاد الآية وجوب اعتقاد إمامة الأمير في وقت من الأوقات وهو عين مذهب أهل السنة، وقد أورد الواحدي في تفسيره هذه الرواية وفيها المتن هكذا عن ولاية علي وأهل البيت، وظاهر أن جميع أهل البيت لم يكونوا أئمة عند الشيعة،، فتعين حمل الولاية على المحبة إذ الولاية لفظ مشترك ويتعين أحد المعنيين أو المعاني للمشترك بالقرائن الخارجية، وبالجملة إن السؤال عن محبة الأمير وإمامته قائل به أهل السنة ولا نزاع فيه بين الفريقين، وإنما النزاع في أن الأمير كان إماما بلا فصل ولم يكن أحد من الصحابة مستحقا للإمامة، ولا مساس لهذه الآية بهذا المطلب، فالتقريب غير تام.

ومنها {السابقون السابقون أولئك المقربون} قالت الشيعة: روى عن ابن عباس مرفوعا أنه قال: السابقون ثلاثة، فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين، والسابق إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه -. (1) ولا يخفى أن هذا أيضا تمسك بالرواية، ومدار إسناد هذه الرواية على أبي الحسن الأشقر وهو ضعيف بالإجماع، قال العقيلي: وهو شيعي متروك الحديث، (2) ولا يبعد أن يكون هذا الحديث موضوعا إذ فيه من إمارات الوضع أن صاحب ياسين لم يكن أول من آمن بعيسى بل برسله كما يدل عليه نص الكتاب، وكل حديث يناقض مدلول الكتاب في الأخبار والقصص فهو موضوع كما هو المقرر عند المحدثين. (3) وأيضا انحصار السباق في ثلاثة رجال غير معقول فإن لكل نبي سابقا بالإيمان به لا محالة. وبعد اللتيا والتى أية ضرورة أن يكون كل سابق صاحب الزعامة الكبرى وكل مقرب إماما؟ وأيضا لو كانت هذه الرواية صحيحة لكانت مناقضة للأية صراحة، لأن الله تعالى قال في حق السابقين {ثلة من الأولين وقليل من الآخرين} والثلة هو الجمع الكثير (4) ولا يمكن أن يطلق على الاثنين جمع

_________

(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير: 11/ 93، رقم 11152، وأخرجه العقيلي في كتابه الضعفاء في ترجمة حسين بن حسن الأشقر: 1/ 249. وقال عنه: «وهذا لا أصل له». والحديث فيه الأشقر الذي ضعفه الجمهور، نقل ابن عدي عن السعدي أنه قال: «غالٍ من الشاتمين» أي للصحابة: الكامل في ضعفاء الرجال: 2/ 361؛ وقال ابن الجوزي: «كذاب»، ديوان الضعفاء والمتروكين: 1/ 221؛ وقال الذهبي: «رافضي»، المغني في الضعفاء: 1/ 170.

(2) الضعفاء الكبير: 1/ 249.

(3) السيوطي، تدريب الراوي: 1/ 277.

(4) قال الآلوسي الجد: «والثلة في المشهور الجماعة كثرت أو قلت». روح المعاني: 27/ 134. وفسر الطوسي الثلة بالجماعة في التبيان: 9/ 490.

(1/158)

________________________________________

ولا على الواحد قليل أيضا، فعلم أن المراد بالسبق من الآية عرفى أو إضافى شامل للجماعة الكثيرة لا حقيقي بدليل أن الآية الأخرى {السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} والقرآن يفسر بعضه بعضا. وأيضا ثبت بإجماع أهل السنة والشيعة أن أول من آمن حقيقة خديجة - رضي الله تعالى عنه -، (1) فلو كان مجرد السبق بالإيمان موجبا لصحة الإمامة لزم أن تكون سيدتنا المذكورة حرية بالإمامة، وهو باطل بالإجماع.

وإن قيل إن المانع كان متحققا في خديجة وهو الأنوثة قلنا كذلك في الأمير فقد كان المانع متحققا قبل وصول وقت إمامته، ولما ارتفع المانع صار إماما بالفعل، وذلك المانع هو إما وجود الخلفاء الثلاثة الذين كانوا أصلح في حق الرياسة بالنسبة إلى جنابه عند جمهور أهل السنة، أو إبقاؤه بعد الخلفاء الثلاثة وموتهم قبله عند التفضيلية فإنهم قالوا: لو كان إماما عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينل أحد من الخلفاء الإمامة وماتوا في عهده وقد سبق في علم الله تعالى أن الخلفاء أربعة فلزم الترتيب على الموت. وبالجملة تمسكات الشيعة بالآيات من هذا القبيل.

 

(الأدلة الحديثية)

وأما الأحاديث التي تمسك بها الشيعة على هذا المدعى فهي اثنا عشر حديثا:

الأول: حديث غدير خم المذكور عندهم بشأن عظيم ويحسبونه نصا قطعيا في هذا المدعى، حاصله أن بريدة بن الحصيب الأسلمي روى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزل بغديرخم حين المراجعة عن حجة الوداع - وهو موضوع بين مكة والمدينة - أخذ بيد علي وخاطب جماعة المسلمين الحاضرين فقال: يا معشر المسلمين ألست أولى من انفسكم؟ قالوا بلى. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. (2) قالت الشيعة في تقرير الاستدلال بهذا الحديث: إن المولى بمعنى الأولى بالتصرف، وكونه أولى بالتصرف عين الإمامة. (3)

ولا يخفى أن أول الغلط في الاستدلال هو إنكار أهل العربية قاطبة ثبوت ورود المولى بمعنى الأولى. بل قالوا لم يجئ قط المفعل بمعنى أفعل في موضع ومادة أصلا فضلا عن هذه المادة بالخصوص، إلا أن أبا زيد اللغوي جوز هذا متمسكا فيه بقول أبي عبيدة (4) في تفسير {هي مولاكم} أولى بكم. (5) لكن جمهور أهل العربية خطاؤه في هذا التجويز

_________

(1) كما قال ابن إسحاق وغيره. ابن هشام، السيرة النبوية: 2/ 77؛ ابن حجر، الإصابة: 7/ 600. وعند الإمامية أيضا فقال ابن طاوس: «كان أول من آمنت خديجة بنت خويلد فواسته بمالها ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ابن سبع سنين ... ». الطرائف: 1/ 275، وقال الأربلي: «وكان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة ... ». كشف الغمة: 1/ 177.

(2) والحديث بهذا اللفظ ضعيف جدا كما حقق ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد: 7/ 17؛ والعجلوني في كشف الخفاء: 2/ 361؛ والكناني في مصباح الزجاجة: 1/ 19. وقال ابن تيمية: «حديث الموالاة قد رواه الترمذي وأحمد في مسنده عن النبي - صلىالله عليه وسلم  - انه قال من كنت مولاه فعلى مولاه، وأما الزيادة وهي قوله: اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه ... الخ، فلا ريب انه كذب». منهاج السنة النبوية: 7/ 319 ..

(3) ابن المطهر الحلي، نهج الحق: ص 173.

(4) معمر بن المثنى التميمي، توفي سنة 211هـ. تاريخ بغداد: 13/ 252؛ تذكرة الحفاظ: 1/ 371؛ تهذيب التهذيب: 10/ 221.

(5) ابن الجوزي، زاد المسير: 8/ 167.

(1/159)

________________________________________

والتمسك قائلين بأن هذا القول لو صح لزم أن يقال مكان فلان أولى منك مولى منك، وهو باطل منكر بالإجماع. وأيضا قالوا: إن تفسير أبي عبيدة بيان الحاصل لمعنى يعني النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم، لا أن اللفظ المولى ثمة بمعنى الأولى. (1) الثاني أن المولى لو كان بمعنى الأولى أيضا لا يلزم أن تكون صلته بالتصرف، كيف تقرر الصلة ومن أية لغة؟ إذ يحتمل أن يكون المراد: أولى بالتصرف، كما في قوله تعالى {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} وظاهر أن أتباع إبراهيم لم يكونوا أولى بالتصرف في جنابه المعظم. الثالث أن القرينة البعدية تدل صراحة على أن المراد من الولاية المفهومة من لفظ «المولى» أو «الأولى» المحبة، وهي قوله «اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه»، ولو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى بالتصرف فقال: اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك، وذكر المحبة والعداوة دليل صريح على أن المقصود إيجاب محبته والتحذير عن عداوته، لا التصرف وعدمه. وظاهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم الناس ولقنهم أدنى الواجبات بل السنن والآداب بحيث يفهم المعاني المقصودة من ألفاظها الواردة في قوله الشريف كل من كان حاضرا أو غائبا بعد معرفته بلغة العرب من غير تكلف، وهذا في الحقيقة هو كمال البلاغة، وهو المقتضى لمنصب الإرشاد والهداية أيضا. ولو اكتفى في مثل هذه المقدمة العمدة بنحو هذا الكلام الذي لا يحصل المعنى المقصود أصلا بطبق القاعدة اللغوية ووفقها لثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - قصور البلاغة في الكلام بل المساهمة في التبليغ والهداية وهو محال والعياذ بالله تعالى، فعلم أن مقصوده - صلى الله عليهوسلم  - بهذا يعني محبة علي فرض كمحبته - عليه السلام -، وعداوته حرام كعداوته - عليه السلام -، وهذا هو مذهب أهل السنة ومطابق لفهم أهل البيت في ذلك، كما أورد أبو نعيم عن الحسن

_________

(1) قال القرطبي: «أي النار تملك أمرهم». الجامع لأحكام القرآن: 17/ 248.

(1/160)

________________________________________

المثنى ابن الحسن السبط الأكبر سألوه عن حديث «من كنت مولاه» هل هو نص على خلافة علي؟ قال لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد خلافته بذلك الحديث لقال هكذا: يا أيها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم من بعدي فاسمعوا وأطيعوا. ثم قال الحسن: أقسم بالله أن الله تعالى ورسوله لو آثرا عليا لأجل هذا الأمر ولم يمتثل علي لأمر الله ورسوله به ولم يقدم على هذا الأمر لكان أعظم الناس خطأ بترك امتثال ما أمر الله ورسوله به.

قال رجل: أما قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من كنت مولاه فعلي مولاه؟» قال الحسن: لا والله، إن رسول الله لو أراد الخلافة لقال واضحا وصرح بها كما صرح بالصلاة والزكاة وقال: يا أيها الناس إن عليا ولي أمركم من بعدي والقائم في الناس بأمري. (1)

وأيضا في هذا الحديث دليل صريح على اجتماع الولايتين في زمان واحد، إذ لم يقع التقييد بلفظ «بعدي» بل سوق الكلام لتسوية الولايتين في جميع الأوقات من جميع الوجوه كما هو الأظهر، وشركة الأمير للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التصرف ممتنعة فهذا أدل على أن المراد وجوب محبته، إذ لا محذور في اجتماع محبتين، بل إحداهما مستلزمة للأخرى، وفي اجتماع التصرفين محذورات كثيرة كما لا يخفى. (2) وإن قيدتموه بما يدل على إمامته في المآل دون الحال فمرحبا بالوفاق، لأن أهل السنة أيضا قائلون بذلك في حين إمامته. وأما وجه تخصيص الأمير بالذكر دون غيره فلما علمه النبي - عليه السلام - بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته وإنكار بعض الناس لإمامته. وكذلك فسر بعض الشيعة «الأولى» الواقع في صدر الحديث بالأولى بالتصرف، وهو باطل، والمراد الأولى في المحبة، يعني ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم في المحبة؟ لتتلائم أجزاء الكلام، ولفظ الأولى قد ورد في غير موضع بحيث لا يناسب أن يكون معناه الأولى بالتصرف أصلا كقوله تعالى {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}، {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} فإن سوق هذا الكلام لنفي نسب الأدعياء عمن يثبتونه، وبيانه أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال في حقه زيد بن محمد لأن نسبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع المسلمين كالأب الشفيق بل أزيد، وأزواجه أمهات أهل الإسلام، (3) والأقرباء

_________

(1) أخرجه البيهقي بسنده عن فضيل بن مرزوق ... الاعتقاد: ص 355؛ وأخرجه من الطريق نفسه ابن عساكر، تاريخ دمشق: 13/ 69

(2) أي لا إمام آخر في حياة النبي غيره - صلى الله عليه وسلم -.

(3) سورة الأحزاب: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم}

(1/161)

________________________________________

في النسب أحق وأولى من غيرهم، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد، (1) ولكن مدار النسب على القرابة في الأدعياء، وهي مفقودة في الأدعياء، وحكم ذلك في كتاب الله، ولا دخل ههنا لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود أصلا. (2)

وقد أورد بعض المدققين منهم دليلا على نفي المحبة، وهو أن محبة الأمير أمر مفاد حيث كان ثابتا في ضمن آية {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا، ولا يخفى فسداه، أولم يفهموا أن بيان محبة أحد في ضمن عموم شيء وإيجاب محبته بخصوص أمر آخر فرق بينهما لا يخفى على العقلاء. مثلا لو آمن أحد بجميع أنبياء الله ورسله، ولم يتعرض لاسم محمد - صلى الله عليه وسلم - بخصوصه في الذكر، لم يكن إسلامه معتبرا. وفي هذا تكون محبة الأمير بشخصية مقصودة بالوجوب، وفي الآية يكون وجوبها مفادا بوصف الإيمان الذي هو عام. ولو فرضنا اتحاد مضمون الآية والحديث لا يلزم اللغو أصلا لأن وظيفة النبي أن يؤكد مضامين القرآن لإلزام الحجة وإتمام النعمة. (3) ومن تدبر الكتاب والسنة لا يتكلم بمثل هذا الكلام. وإلا فتأكيدات النبي وتقريراته في أبواب الصلاة والزكاة وتلاوة القرآن ونحو ذلك كلها تصير لغوا والعياذ بالله. وعند الشيعة أيضا دعوى التنصيص على إمامة الأمير وتأكيده ثابتة، (4) فيلزم على تقدير صحة هذا القول أن يكون ذلك كله حشوا.

وسبب هذه الخطبة الذي ذكره المؤرخون وأهل السير يدل على أن المقصود منها كان إلزام المحبة للأمير، ولأن جماعة الصحابة الذين كانوا متغيبين مع الأمير في سفر اليمن كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما من المشاهير بعد ما رجعوا من سفرهم من الأمير، فتكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه هكذا، وقد أورد هذه القصة محمد بن إسحق وغيره من أهل السير مفصلة.

الحديث الثاني: روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه - صلى الله عليه وسلم - لما استخلف الأمير في غزوة تبوك على أهل بيته من النساء وتركه فيهن وقد توجه هو إلى تلك الغزوة، قال الأمير: يا رسول الله أتخلِفني في النساء والصبيان؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - له: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي». (5) قالت الشيعة: إن

_________

(1) قال ابن الجوزي في تقرير هذا: «قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم}: أي أحق فله أن يحكم فيهم بما يشاء، قال ابن عباس: إذا دعاهم إلى شئ ودعتهم أنفسهم إلى شئ كانت طاعته أولى من طاعة أنفسهم، وهذا صحيح فإن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم والرسول يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم». زاد المسير: 6/ 352.

(2) في الحديث المتفق عليه: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعليَّ قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته»

(3) ينظر منهاج السنة النبوية: 7/ 52 وما بعدها.

(4) روى ابن بابويه عن موسى الكاظم أنه سأله سائل في مجلس المأمون فقال: «أليست إمامة علي - عليه السلام - من قبل الله عز وجل نقل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نقل الفرض مثل الظهر أربع ركعات وفي مائتي درهم خمسة دراهم والحج إلى مكة فقال موسى الكاظم: بلى ... ». عيون أخبار الرضا: 2/ 194.

(5) متفق عليه

(1/162)

________________________________________

المنزلة اسم جنس مضاف إلى العلم فيعم جميع المنازل لصحة الاستثناء، وإذا استثني مرتبة النبوة فثبت للأمير جميع المنازل الثابتة لهارون، ومن جملتها صحة الإمامة، وافتراض الطاعة أيضا لو عاش هارون بعد موسى، لأن هارون كانت له هذه المرتبة في عهد موسى، فلو زالت عنه بعد وفاته لزم العزل، وعزل النبي - صلى الله عليه وسلم - ممتنع للزومه الإهانة المستحيلة في حقه فثبتت هذه المرتبة للأمير أيضا وهي الإمامة. (1)

والجواب عن ذلك بوجوه: الأول - أن اسم الجنس المضاف إلى العلم ليس من ألفاظ العموم عند جميع الأصوليين، (2) بل هم صرحوا بأنه للعهد في غلام زيد وأمثاله، (3) لأن تعريف الإضافة المعنوية باعتبار العهد أصل، وفيما نحن فيه قرينة موجودة وهي قوله «أتخلفني في النساء والصبيان» يعني أن هارون كما كان خليفة لموسى حين توجه هو إلى الطور كذلك صار الأمير خليفة للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ توجه إلى غزوة تبوك، والاستخلاف المقيد بهذه الغيبة لا يكون باقيا بعد انقضائها كما لم يبق في حق هارون أيضا. ولا يمكن أن يقال انقطاع هذا الاستخلاف عزل موجب للإهانة في حق الخليفة لأن انقطاع العمل ليس بعزل، والقول بأنه عزل خلاف العرف واللغة، ولا تكون صحة الاستثناء دليلا للعموم إلا إذا كان متصلا، وههنا منقطع بالضرورة، لأن قوله «إنه لا نبي بعدي» جملة خبرية، وقد صارت تلك الجملة بتأويلها بالمفرد بدخول إن في حكم (إلا عدم النبوة) وظاهر أن عدم النبوة ليس من منازل هارون حتى يصح استثناؤه لأن المتصل يكون من جنس المستثنى منه وداخلا فيه والنقيض لا يكون من جنس النقيض وداخلا فيه، فثبت أن هذا المستثنى منقطع جدا، ولأن من جملة منازل هرون كونه أسن من موسى وأفصح منه لسانا وكونه شريكا معه في النبوة وكونه شقيقا له في النسب، وهذه المنازل غير ثابتة في حق الأمير بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إجماعا بالضرورة، فإن جعلنا الاستثناء متصلا وحملنا المنزلة على العموم لزم الكذب في كلام المعصوم.

الثاني - أنا لا نسلم أن الخلافة بعد موت موسى كانت من جملة منازل هرون، لان هرون كان نبيا مستقلا في التبليغ، ولو عاش بعد موسى أيضا لكان ولم تزل عنه

_________

(1) الميلاني، نفحات الأزهار: 17/ 263 وما بعدها.

(2) كذا قرر الطوسي في عدة الأصول: ص 51

(3) شرح ابن عقيل: 1/ 178.

(1/163)

________________________________________

هذه المرتبة قط، وهي تنافي الخلافة لأنها نيابة للنبي ولا مناسبة بين الأصالة والنيابة في القدر والشرف، فقد علم أن الاستدلال على خلافة الأمير من هذا الطريق لا يصح أبدا. وأيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما شبه الأمير بهارون - ومعلوم أن هارون كان خليفة في حياة موسى بعد غيبته، وصار يوشع بن نون وكالب بن يوقنا (1) خليفة له بعد موت موسى - لزم أن يكون الأمير أيضا خليفة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد غيبته لا بعد وفاته، بل يصير غيره خليفة بعد وفاته حتى يكون التشبيه على وجه الكمال، إذ حمل التشبيه في كلام الرسول على النقصان غاية عدم الديانة والعياذ بالله. ولو تنزلنا قلنا ليس في هذا الحديث دلالة على نفي إمامة الخلفاء الثلاثة، غاية ما في الباب أن استحقاق الإمامة يثبت به للأمير ولو في وقت من الأوقات، وهو عين مذهب أهل السنة، فالتقريب به أيضا غير تام. (2)

الحديث الثالث: رواه مرفوعا أنه قال «إن عليا مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي» وهذا الحديث باطل، لأن في إسناده أجلح (3) وهو شيعي متهم في روايته. وأيضا غير مقيد بالوقت المتصل بزمان وفاته - صلى الله عليه وسلم -، ولفظ «بعدي» يحتمل الاتصال والانفصال (4) وهو مذهب أهل السنة القائلين بأن الأمير كان إماما مفترض الطاعة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت من الأوقات.

الحديث الرابع: رواه أنس بن مالك أنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - طائر قد طبخ له وأهدي إليه فقال «اللهم ائتني بأحب الناس إليك يأكل معي هذا الطير» فجاءه علي. (5) وهذا الحديث قد حكم أكثر المحدثين بأنه موضوع، وممن صرح بوضعه الحافظ شمس الدين الجزري، (6) وكذلك الذهبي في تلخيصه. (7) ومع هذا فهو غير مفيد للمدعى أيضا، لأن القرينة تدل على أن المراد بأحب الناس إلى الله في الأكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا شك أن الأمير كان أحبهم إلى الله في هذا الوصف، لأن أكل الولد ومن حكمه مع الأب يكون موجبا لتضاعف اللذة بالطعام. وإن سلمنا أن يكون المراد بأحب الناس مطلقا فإنه لا يفيد المدعى أيضا، إذ لا يلزم أن يكون أحب الخلق إلى الله صاحب الرئاسة العامة، فكأين من أولياء

_________

(1) خليفة يوشع بن نون. تفسير الطبري: 2/ 596.

(2) ممن رد على الإمامية في احتجاجهم بهذا الحديث ابن حزم في الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 78 وما بعدها. وابن تيمية في منهاج السنة النبوية: 5/ 34 وما بعدها.

(3) قال السعدي: «مفترٍ»، وقال أحمد: «منكر الحديث»، الكامل في ضعفاء الرجال: 1/ 427؛ الضعفاء والمتروكين: 1/ 64؛ تهذيب التهذيب: 5/ 122.

(4) قال المباركفوري: «واستدلالهم به عن هذا باطل، فإن مداره عن صحة زيادة لفظ بعدي، وكونها صحيحة محفوظة قابلة للاحتجاج، والأمر ليس كذلك، فإنها قد تفرد بها جعفر بن سليمان، وهو شيعي، بل هو غال في التشيع، قال في تهذيب التهذيب قال الدوري: كان جعفر إذا ذكر معاوية شتمه وإذا ذكر عليا قعد يبكي .. ». تحفة الأحوذي: 10/ 146

(5) أخرجه الطبراني في الأوسط والكبير وأبو يعلى في مسنده: 7/ 105، رقم 4052؛ وأخرجه ابن عدي في ترجمة حماد بن يحيى بن المختار الكوفي، الكامل في ضعفاء الرجال: 2/ 251، وقال عنه: «هو ليس بمعروف». والحديث موضوع كما حكم عليه ابن الجوزي في العلل المتناهية: 1/ 229، ونقل ابن كثير عن الذهبي: «لا والله ما صح شيء من ذلك وأنه جمع طرق الحديث في جزء أورد فيه بضعا وتسعين نفسا من اللذين أوردوه، وقال: جميعها باطلة ومظلمة». البداية والنهاية: 11/ 355؛ وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: ص 1134.

(6) شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد بن علي الدمشقي الشافعي، كان إماما في القراءات، وصفه ابن حجر بالحفظ والإتقان، توفي سنة 833هـ. ذيل تذكرة الحفاظ: ص 376؛ طبقات الحفاظ: ص 549.

(7) التلخيص: 4/ 102.

(1/164)

________________________________________

وأنبياء كانوا أحب الخلق إلى الله ولم يكونوا ذوي رئاسة عامة، كزكريا ويحيى وشمويل الذي كان طالوت في زمنه صاحب رئاسة عامة بنص إلهي، وأيضا يحتمل أن أبا بكر لعله لم يكن في ذلك الحين حاضرا في المدينة المنورة والدعاء كان خالصا بالحاضرين دون الغائبين بدليل قوله «اللهم ائتني» لأن إحضار الغائب من مسافة بعيدة في آن قصير لا يعقل إلا طريق خرق العادة، والأنبياء لا يسألون الله خرق العادة إلا في وقت التحدي، وإلا لما احتاجوا في الحرب والقتال إلى تهيئة الأسباب الظاهرة. ويحتمل أن يراد التبعيض بذلك كما في قولهم فلان أعقل الناس وأعلمهم وأفضلهم. وعلى تقدير دلالته على المدعى لا يقاوم الأخبار الصحاح الدالة على خلافة أبي بكر وعمر، مثل «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر» (1) وغير ذلك.

الحديث الخامس: رواية جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (2) وهذا الخبر أيضا مطعون فيه، قال يحيى بن معين: لا أصل له، (3) وقال البخاري إنه منكر، وليس له وجه صحيح. (4) وقال الترمذي إنه منكر غريب. (5) وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. (6) وقال ابن دقيق العيد: لم يثبتوه. (7) وقال النووي والذهبي والجزري إنه موضوع. (8) فالتمسك بالأحاديث الموضوعة مما لا وجه له، إذ شرط الدليل اتفاق الخصمين عليه. ومع هذا ليس مفيدا لمدعاهم إذ لا يلزم أن من كان باب مدينة العلم فهو صاحب رئاسة عامة بلا فصل بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، غايته أن شرطا من شروط الإمامة قد تحقق فيه بوجه أتم، ولا يلزم من تحقيق شرط واحد وجود المشروط بالشروط الكثيرة، مع أن ذلك الشرط كان ثابتا في غيره أيضا أزيد منه برواية أهل السنة مثل «ما صب الله شيئا في صدرى إلا وقد صببته في صدر أبي بكر» (9) ونحو «لو كان بعدي نبي لكان عمر» (10) فإذا اعتبرت روايات أهل السنة فليتعبر كلها، وإلا فلا ينبغي أن يقصد إلزامهم برواية واحدة من رواياتهم.

الحديث السادس: وهو ما رواه الإمامية مرفوعا أنه - صلى الله عليه وسلم - قال «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في بطشه، وإلى

_________

(1) أخرجه الترمذي من حديث حذيفة، السنن، كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر وعمر: 5/ 609، رقم 3662؛ وابن ماجة، السنن، كتاب المقدمة، باب فضل أبي بكر: 1/ 37، رقم 98؛ أحمد، المسند: 5/ 382؛ الحاكم، المستدرك: 3/ 80؛ وصححه في صحيح الجامع: رقم 1142.

(2) قال العجلوني في هذا الحديث: «قال الترمذي: منكر، وقال البخاري: إنه كذب لا أصل له، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات»، وقال أبو زرعة: «كم من خلق افتضحوا فيه»، وقال أبو حاتم ويحيى بن سعد: «لا أصل له ... »، وقال ابن دقيق العيد: «لم يثبتوه، وقيل إنه باطل ... ». كشف الخفاء: 1/ 236. ووضعه السيوطي في اللآلئ المصنوعة: 1/ 329؛ الزركشي، التذكرة: ص 163؛ والألبانى؛ ضعيف الجامع: 1/ 1322.

(3) كشف الخفاء: 1/ 236.

(4) كشف الخفاء: 1/ 236.

(5) سنن الترمذي: 5/ 637.

(6) قال: «والحديث لا أصل له». الموضوعات: 1/ 355.

(7) كشف الخفاء: 1/ 236.

(8) ترتيب الموضوعات: ص 286.

(9) ليس في كتب الحديث المعتمدة، وأورده ابن القيم في المنار المنيف تحت عنوان: «ومما وضعه جهلة المنتسبين إلى أهل السنة في فضائل الصديق - رضي الله عنه

(10) أخرجه الترمذي عن عقبة بن عامر في كتاب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب: 5/ 619، رقم 3686؛ وأحمد في المسند: 4/ 154؛ الطبراني في الكبير: 17/ 298؛ الحاكم في المستدرك: 3/ 92، رقم 4495؛ وحسنه في صحيح الجامع، رقم 5284.

(1/165)

________________________________________

عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب». (1) وجه التمسك بهذا الحديث أن مساواة الأمير للأنبياء في صفات قد علمت به، والأنبياء أفضل من غيرهم، والمساوي للأفضل أفضل فكان علي أفضل من غيره، والأفضل متعين للإمامة دون غيره.

ولا يخفى فساد هذه المقدمات والمبادئ الواقعة في الاستدلال من وجوه:

الأول - أن هذا الحديث أورده الحلي في كتبه وقد نسبه إلى البيهقي مرة إلى البغوي أخرى وليس في تصانيفهما أثر منه. ولا يتأتى إلزام أهل السنة بالافتراء. مع أن عند أهل السنة أن الأحاديث التي تذكر في كتبهم إذا لم يصرح بصحتها لا يحتج بها.

الثاني - أن ما ذكر محض تشبيه لبعض صفات الأمير ببعض صفات أولئك الأنبياء، والتشبيه كما يكون بأدواته المتعارفة كالكاف وكأن ومثل ونحوها، وكذلك يكون بهذا الأسلوب كما تقرر في علم البيان أن من أراد أن ينظر القمر ليلة البدر فلينظر إلى وجه فلان. فهذا القسم داخل أيضا في التشبيه ولو تجاوزنا عن ذلك لكان استعارة مبناها على التشبيه، وفهم المساواة بين المشبه والمشبه به من كمال السفاهة. وقد روي في الأحاديث الصحيحة لأهل السنة تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى وتشبيه عمر بنوح وتشبيه أبي ذر بعيسى ولكن لما كان لأهل السنة حظ عظيم من العقل لم يحملوا ذلك التشبيه على المساواة أصلا بل أعطوا كلا مرتبته.

الثالث - أن المساواة بالأفضل في صفة لا تكون موجبة لأفضلية المساوي لأن ذلك الأفضل له صفات أخر قد صار بسببها أفضل. وأيضا ليست الأفضلية موجبة للزعامة الكبرى كما مر.

الرابع - إن تفضيل الأمير على الخلفاء الثلاثة من هذا الحديث يثبت إذا لم يكن أولئك الخلفاء مساوين للأنبياء المذكورين في الصفات المذكورة أو في مثلها ودون هذا خرط القتاد. ولو تتبعنا الأحاديث الدالة على تشبيه الشيخين بالأنبياء لبلغت مبلغا لم يثبت مثله لمعاصريهما. ولهذا ذكر المحققون من أهل التصوف أن الشيخين كانا حاملين لكمالات

_________

(1) ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 2/ 429؛ ابن المطهر الحلي في نهج الحق: 237. وعزاه الأول إلى مسند أحمد، والثاني إلى وسنن البيهقي، وليس فيهما.

(1/166)

________________________________________

النبوة وكان الأمير حاملا لكمالات الولاية ومن ثمة صدر من الشيخين الأمور التي تصدر من الأنبياء من الجهاد بالكفار وترويج أحكام الشريعة وإصلاح أمور الدين بأحسن أسلوب وتدبير، وظهر من الأمير ما يتعلق بالأولياء من تعليم الطريقة والإرشاد لأحوال السالكين ومقاماتهم والتنبيه على غوائل النفس والترغيب بالزهد في الدنيا ونحوها أكثر من غيره. وقد دل على هذه التفرقة حديث رواه الشيعة في كتبهم وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - «إنك يا علي تقاتل الناس على تأويل القرآن كما قاتلتهم على تنزيله» لأن مقاتلات الشيخين كلها كانت على تنزيل القرآن فكان عهدهما من بقية زمان النبوة وزمن خلافة الأمير كان مبدأ لدورة الولاية وإليه تنتهي سلاسل جميع الفرق من أولياء الله تعالى كما تصل سلاسل الفقهاء والمجتهدين في الشريعة بالشيخين ونوابهما كعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وأمثالهم - رضي الله تعالى عنهم - ويكون فقه أولئك الفقهاء رشحة من بحار علومهم. وكان معنى الإمامة التي بقيت في أولاد الإمام وجعل بعضهم بعضا وصيا له فيها هي قطبية الإرشاد ولهذا لم يرو إلزام هذا الأمر من الأئمة الأطهار على كافة الخلائق بل جعلوا بعض أصحابهم الممتازين المنتخبين مشرفين بذلك الفيض الخاص ووهبوا لكل واحد منهم هذه الكرامة العظيمة بقدر استعداده. وهذه الفرقة السفيهة قد أنزلوا تلك الإشارات كلها على الرئاسة العامة واستحقاق التصرف في أمور الملك والمال فوقعوا في ورطة الضلال، ومن أجل ما قلنا يعتقد كل الأمة الأمير وذريته الطاهرة كالشيوخ والمرشدين.

الحديث السابع: روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال «من ناصب عليا في الخلافة فهو كافر» (1)

وهذا الحديث لا أثر له بوجه في كتب أهل السنة أصلا بل نسب ابن المطهر الحلي روايته إلى الأخطب الخوارزمي. والحلي خوان في النقل، والأخطب كان من الغلاة الزيدية. ومع هذا لم يرو هذا الحديث في كتابه المؤلف في مناقب أمير المؤمنين. (2) ولو فرضنا كونه في كتابه فلا اعتبار له لكونه مخالفا للأحاديث الصحاح الموجودة في كتب الإمامية. منها قوله - عليه السلام - في نهج البلاغة «أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من

_________

(1) ليس في كتب أهل السنة، ورواه من الإمامية: ابن بابويه، الأمالي: 673؛ ابن طاوس، الطرائف: 1/ 23؛ ابن البطريق، العمدة: ص 91؛ ابن المطهر الحلي، كشف اليقين: ص 293.

(2) ليس في كتاب المناقب للخوارزمي كما ادعى الحلي.

(1/167)

________________________________________

الزيغ والاعوجاج». (1) ولئن اعتبرنا هذا الحديث لا يتحقق مضمونه أيضا إلا إذا طلب الأمير الخلافة وانتزعها الآخر من يده. وهذا المعنى لم يقع في عهد قط، لأن الأمير لم يطلب الخلافة في زمن الخلفاء الثلاثة، كما ذكر في كتب الإمامية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان وصى الأمير بالسكوت ما لم يجد أعوانا فسكت الأمير في عهد الخلفاء الثلاثة لأجل هذه الوصية! وحين صار طالبا لها لم يقصد أحد - من أم المؤمنين والزبير وطلحة - نزع الخلافة من يده أصلا، بل إنما سأل هؤلاء الأمير تنفيذ حكم القصاص على قتلة عثمان - رضي الله تعالى عنه - ثم انجر الأمر إلى القتال كما تشهد بذلك كتب السير (2) وخطب الأمير - رضي الله تعالى عنه -. سلمنا، ولكن المراد من " الكافر " كفران النعمة، إذ خلافة أمير المؤمنين كانت نعمة في زمنها يدل عليه لفظ «الخلافة» إذ هي بالإجماع مشروطة بالتصرف في الأرض، وذلك لم يكن للأمير في زمن الخلفاء الثلاثة ولهذا لم يقع في الحديث لفظ الإمامة. سلمنا، ولكن الله تعالى قال في كتابه لمنكر خلافة الخلفاء الثلاثة في آية الاستخلاف كافر أيضا كقوله تعالى {ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} والمعنى أن من أنكر خلافة أولئك المستخلفين بعد استماع هذه الآية الكريمة والعلم باستخلافهم الصادر من الله تعالى فأولئك هم الكاملون في الفسق، والكامل فيه هو الكافر كما لا يخفى. مع أن روايات الأخطب الزيدي عند أهل السنة كلها ضعيفة وكثير منها موضوعة فكيف يحتج بها؟ (3)

الحديث الثامن: رواه الشيعة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «كنت أنا وعلي بن أبي طالب نورا بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين: فجزء أنا، وجزء علي بن أبي طالب». (4)

وهذا الحديث موضوع قطعا بإجماع أهل السنة، وفي إسناده محمد بن خلف المروزي (5) قال يحيى بن معين: هو كذاب. وقال الدارقطني: متروك ولم يختلف أحد في كذبه. ويروي من طريق آخر وفيه جعفر بن أحمد (6) وكان رافضيا غاليا كذابا وضاعا، وكان أكثر ما يضع في مدح الصحابة وسبهم.

وعلى

_________

(1) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 7/ 121.

(2) انظر (العواصم من القواصم)

(3) لو كانت فيه كما ادعى الحلي.

(4) أورده ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 2/ 430؛ الحلي، نهج الحق: ص 212؛ المجلسي، بحار الأنوار: 35/ 24. وعزاه الحلي إلى مسند الإمام أحمد وليس فيه أو في كتب الحديث المعتبرة عند أهل السنة، لكن رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق: 42/ 62، من رواية الحسن بن علي بن صالح أبو سعيد العدوي البصري الملقب بالذئب (ت 319هـ). قال الدارقطني عنه: «متروك»، وقال ابن عدي: «يضع الحديث». انظر ميزان الاعتدال: 2/ 258؛ لسان الميزان: 2/ 229. وحكم عليه بالوضع ابن الجوزي في الموضوعات: 1/ 340؛ والسيوطي في اللآلئ المصنوعة: 1/ 320؛ والشوكاني في الفوائد المجموعة: ص 1078.

(5) كذبه يحيى بن معين والدارقطني، وذكر ابن الجوزي حديثا يرويه في فضائل علي: «أنا وهارون ويحيى وعلي من طينة واحدة». ميزان الاعتدال: 6/ 154؛ لسان الميزان: 5/ 157؛ الكشف الحثيث: 225.

(6) جعفر بن أحمد بن علي بيان بن زيد، أبو الفضل الغافقي الماسح المصري المعروف بابن أبي العلاء (ت 299هـ)، قال ابن يونس: «كان رافضيا كذابا يضع الحديث في سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»، وقال ابن عدي: «كان يحدث بأحاديث موضوعة نتهمه بوضعها». الكامل في ضعفاء الرجال: 3/ 156؛ ابن الجوزي، الضعفاء والمتروكين: 1/ 170؛ ميزان الاعتدال: 2/ 126؛ لسان الميزان: 2/ 108.

(1/168)

________________________________________

تقدير صحته معارض بالأخبار الأخر نحو قوله «أول من خلق الله نوري» (1) وقوله «أنا من نور الله وكل شيء من نوري» (2) فإنه إن كان الأمير من نوره فلا وجه للتخصيص وإن كان مستقلا مثله فيلزم التكذيب. ومع هذا فقد ثبت اشتراك الخلفاء الثلاثة معه - صلى الله عليه وسلم - في عالم الأرواح بالرواية الأخرى التي هي أحسن من تلك الرواية إذ ليس في إسنادها متهمون بالكذب والوضع. وهي ما روى الشافعي بإسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بين يدي الله قبل أن يخلق آدم بألف عام فلما خلق أسكننا ظهره ولم نزل ننتقل في الأصلاب الطاهرة حتى نقلني إلى صلب عبد الله ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة ونقل عمر إلى صلب الخطاب ونقل عثمان إلى صلب عفان ونقل عليا إلى صلب أبي طالب» (3) ويؤيد هذه الرواية حديث «الأرواح جنود مجندة: ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (4)

وبعد اللتيا والتي لا يدل حديثهم على المدعي أصلا لأن اشتراك الأمير في نور النبي لا يكون مستلزما لوجوب إمامته بلا فصل وأية ملازمة بينهما فليبينوها بحيث لا يتوجه إليه المنع ودونه خرط القتاد. ولا بحث لنا في قرب النسب وإلا لكان العباس أولى بالإمامة لكونه عم النبي والعم أقرب من ابن العم عرفا وشرعا. فإن قالوا إن العباس لحرمانه من اتحاد النور لم يحصل له لياقة للإمامة لأن نور عبد المطلب انقسم في عبد الله وأبي طالب ولم يصب أبناؤه الآخرون، قلنا: إن كان مدار التقدم في الإمامة على قوة النور وكثرته فالحسنان أحق بالإمامة من الأمير للقوة والكثرة معا. أما القوة فلأن النور لما انقسم وصلت حصة الرسول إلى جنابه فانشعب من تلك الحصة السبطان الكريمان بخلاف الأمير فإنه كان شريكا في أصل النور لا في حصة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحصة النبي - صلى الله عليه وسلم - من النور كانت أقوى من حصة غيره. وأما الكثرة فلأن الحسنين كانا جامعين لنوري النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمير معا والاثنان أكثر من الواحد قطعا.

الحديث التاسع: رواه عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه» (5)

وهذا

_________

(1) هو في كتب الإمامية، ابن أبي جمهور، عوالي اللآلئ: 4/ 99؛ وعنه المجلسي، بحار الأنوار: 1/ 97.

(2) ليس والذي سبقه في كتب الحديث المعتبرة عند أهل السنة.

(3) رواه أحمد بن عبد الله الطبري (ت 694هـ) في كتابه الرياض النضرة: 1/ 248 نقلا عن الشافعي.

(4) متفق عليه.

(5) متفق على صحته

(1/169)

________________________________________

الحديث أصح وأقوى من غيره، ولكن مدعى الشيعة غير حاصل منه إذ لا ملازمة بين كونه محبا لله ورسوله ومحبوبا لهما وبين كونه إماما بلا فصل أصلا، على أنه لايلزم من إثباتهما له نفيا عن غيره، كيف وقد قال الله تعالى في حق أبي بكر ورفقائه {يحبهم ويحبونه} وقال في حق أهل بدر {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص} ولا شك أن من يحبه الله يحبه رسوله ومن يحب الله من المؤمنين يحب رسوله، وقال في شأن أهل مسجد قبا {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ «يا معاذ إني أحبك». (1) ولما سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: «عائشة» قيل: ومن الرجال؟ قال: «أبوها». (2) وإنما نص على المحبية والمحبوبية في حق الأمير مع وجودهما في غيره لنكتة دقيقة تحصل من ضمن قوله «يفتح الله على يديه» وهي أنه لو ذكر مجرد الفتح لربما توهم أن ذلك غير موجب لفضيلته لما ورد «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» (3) فأزال ذلك التوهم بإثبات هاتين الصفتين له فصار المقصود منه تخصيص مضمون «يفتح الله على يديه» وما ذكر من الصفات لإزالة ذلك التوهم.

الحديث العاشر: «رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار» (4)

وهذا الحديث يقبله أيضا أهل السنة، ولكن لا مساس له بمدعى الشيعة وهو الإمامة بلا فصل، وقد جاء في حق عمار بن ياسر «الحق مع عمار حيث دار» (5) وفي حق عمر أيضا «الحق بعدي مع عمر حيث كان» (6) بل في هذين الحديثين إخبار بملازمة الحق لعمر ولعمار، بخلاف الحديث عن الأمير فإنه دعاء في حقه، والفرق بين الإخبار والدعاء غير خاف، خصوصا على ما قرره الشيعة من أن استجابة دعاء النبي لازمة عندهم، فقد روى ابن بابويه القمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا ربه أن يجمع أصحابه على محبة علي فلم يكن ذلك. وزاد في حق عمر لفظ «بعدي» ليكون دليلا على صحة إمامته وإمامة من رآه عمر إماما. وعلى مذاق الشيعة يكون هذا الحديث دليلا على عصمته، لكن مذهب أهل السنة لا يكون غير النبي معصوما. وقد تمسك بعض ظرفاء أهل السنة بحديث علي المذكور على صحة أبي بكر وعمر

_________

(1) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.

(2) متفق عليه

(3) متفق عليه.

(4) أخرجه الترمذي من حديث علي في المناقب، باب مناقب علي - رضي الله عنه -: 5/ 633، رقم 3714 وقال عنه: «غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه»؛ والحاكم في المستدرك: 3/ 134، رقم 4629. وحكم عليه ابن الجوزي بالوضع في العلل المتناهية: 1/ 410؛ والألبانى في ضعيف الترمذي: 1/ 767.

(5) أخرجه أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان: 2/ 419؛ والعقيلي، الضعفاء الكبير: 4/ 236؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق: 43/ 476. من طريق مبشر بن الفضيل، قال العقيلي عنه: «مجهول».

(6) أخرجه العقيلي عن ابن عباس في الضعفاء الكبير 3/ 482؛ والحكيم الترمذي، نوادر الأصول: 2/ 21؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق: 44/ 126؛ قال الذهبي: «الحديث من رواية القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبيه، وحديثه منكر». ميزان الاعتدال: 5/ 463. قال ابن حجر: «وأخرجه الحميدي من طريق أخرى وفي إسناده عطاء عن ابن عباس، قال علي بن المديني: هو عندي عطاء بن يسار، وليس له أصل من حديث عطاء بن أبي رباح ولا عطاء بن يسار، وأخاف أن يكون عطاء الخرساني لأنه يرسل كثيرا عن ابن عباس. قال ابن حجر: أخاف أن يكون كذبا مختلقا». لسان الميزان: 4/ 467. ولذا حكم عليه العجلوني بالوضع في كشف الخفاء: 1/ 436؛ والألبانى في ضعيف الجامع: رقم 2785.

(1/170)

________________________________________

وعثمان، لأن عليا كان معهم وبايعهم وتابعهم وصلى معهم في الجمع والجماعات ونصحهم في أمور تتعلق برئاستهم، فيصح قياس المساواة ههنا: الحق مع علي، وعلي مع أبي بكر وعمر، فالحق معهما، لأن مقارن المقارن مقارن. وهذه المقدمة الأجنبية التي هي مدار صحة النتيجة في هذا القياس صادقة لا محالة، وهذا القياس لروايات الشيعة، فإنه ثبت في (نهج البلاغة) أن عمر بن الخطاب لما أراد أن يخرج إلى دفع فتنة نهاوند استشار علي ابن أبي طالب فقال له الأمير: «إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أوعده وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث ما طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده. قال الله تعالى {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا}. ومكان القيم من الإسلام مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه، فإن انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع أبدا. والعرب وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطبا، واستدر الرحى بالعرب» إلى آخر خطبته المذكورة في نهج البلاغة. (1)

فعلم بالصراحة أن الأمير كان معينا وناصرا وناصحا أمينا لعمر بن الخطاب، ولو كان بينهما نفاق والعياذ بالله لأشار عليه بالذهاب إلى العجم، وإذا اشتغل عمر وأهل عسكره بالقتال تصرف الأمير بالحجاز التي كانت دار الإسلام واتبعه الناس طوعا أو كرها. وأيضا قد علم أن الأمير عد نفسه في زمرة أبي بكر وعمر حيث أدخل نفسه فيهم وقال «نحن على موعد من الله».

وأيضا قد ذكر في (نهج البلاغة) أن الأمير قال لعمر بن الخطاب حين استشاره في غزوة الروم «إنك متى تسير إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم (2) وتنكب لا تكن للمسلمين كأنفة (3) دون أقصى بلادهم، وليس بعدك مرجع يرجعون إليه. فأرسل إليهم رجلا مجربا (4) واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهره الله فذلك ما تحمد، وإن تكن الآخرى كنت ردءا (5) للناس ومثابا للمسلمين» (6)

والعجب من الشيعة كيف يتركون مثل هذه الروايات الثابتة في أصح الكتب عندهم كأنهم لو يروها ولم يسمعوها، ويذعنون بالمخالفة فيما بينهم بما شاع عندهم من الروايات

_________

(1) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 9/ 95.

(2) في المطبوع فتكسر والتصحيح من النهج

(3) في النهج: (كهف). قال ابن أبي الحديد: «ويروى كأنفة: أي جهة عاصمة». شرح نهج البلاغة: 8/ 297.

(4) في النهج: رجلا محربا، قال ابن أبي الحديد: أي صاحب حروب.

(5) عونا. شرح نهج البلاغة: 8/ 297.

(6) نهج البلاغة (بشرحه): 8/ 296. وذكر ابن أبي الحديد أن هذه غزاة فلسطين التي فتح فيها بيت المقدس، وأن عمر بن الخطاب كان قد استخلف عليا عند سفره لاستلام مفاتيح بيت المقدس. شرح نهج البلاغة: 8/ 298. وينظر تاريخ الطبري: 2/ 449

(1/171)

________________________________________

الموضوعة والمفتريات، ثم يتخبطون إذ يرون هذه الروايات الصحيحة، فقد يقولون إن هذه كلها - من متابعة الأمير ومبايعته للشيخين - كانت لمحض قلة الأعوان والأنصار، ثم يفحمون فيما قالوا بروايات ثقاتهم الدالة صراحة على قوة الأمير وغلبة أعوانه وكثرة انصاره، كما روى أبان بن عياش (1) عن سليم (2) بن قيس الهلالي وغيره أن عمر قال لعلي: والله لئن لم تبايع أبا بكر لنقتلنك. قال له علي: لولا عهد عهده إلى خليلي لست أخونه لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا. (3)

فهذه الرواية تدل بالصراحة على أن سكوت الأمير كان بسبب أمر سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أن الخلافة حق أبي بكر بلا فصل ثم حق عمر، وههنا البرهان العقلي الموافق لأصول الشيعة قائم على أن العهد المذكور كان هذا، لأن الإمامة لو كانت حق الأمير وكان النبي أوصاه بترك المنازعة للشيخين مع كثرة الأعوان والأنصار المستفادة من هذه الرواية صراحة للزم أن النبي أوصاه بتعطيل أمر الله ونحوها، معاذ الله من ذلك. كيف وقد قال الله تعالى {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال} في زمان كان الواجب أن يقاتل مسلم واحد عشرة كفار، فجاهد النبي وكلف الناس بالجهاد بهذه التأكيدات مع كثرة المشقة والصعوبة، وفي زمان تم فيه الدين وكملت النعمة يأمر (4) مثل هذا الذي هو أسد الله بالجبن والخوف وترك التبليغ لأحكام الله ويجوز الفتن والفساد وتحريف كتاب الله وتبديل دينه {أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون} حاشاه ثم حاشاه، أولئك مبرأون مما يقولون، وشأن النبوة والرسالة مناف لهذه الوصية أشد منافاة.

وقد يقول الشيعة إن ترك الأمير للمنازعة وإظهاره الموافقة والمناصحة مع الخلفاء الثلاثة كان لمحض الاقتداء بأفعال الله تعالى وهي إمهال الجاني والتأني في المؤاخذة، وقد استخرج هذا التوجيه ابن طاوس سبط أبي جعفر الطوسي، وقد ارتضى به الآخرون من إخوانه غاية ارتضاء، مع أنه تأويل باطل، لأن الاقتداء بأفعال الله تعالى فيما يخالف الشرع غير جائز للناس فضلا عن أن يكون واجبا، إذ الباري تعالى قد ينصر الكفرة في بعض الأحيان ويخذل المسلمين ويميت الصالحين ويحيى الفساق ويرزقهم بغير حساب ويقدر الرزق على الصلحاء وغير ذلك على

_________

(1) أبان بن أبي عياش فيروز وقيل دينار البصري، مولى أنس بن مالك، قال أحمد بن حنبل: لا يكتب عنه كان منكر الحديث ترك الناس حديثه، وقال يحيى بن معين: هو متروك ليس حديثه بشيء، وقال النسائي والرازي والدارقطني هو متروك. ابن الجوزي، الضعفاء والمتروكين: 1/ 19؛ الكامل في ضعفاء الرجال: 1/ 381؛ ميزان الاعتدال: 1/ 124. وهو الراوي الوحيد لكتاب سليم بن قيس الهلالي عند الإمامية. رجال الغضائري: 1/ 16؛ الحلي، الخلاصة: ص 207.

(2) في المطبوع سليمان

(3) كتاب سليم بن قيس: ص 937. وفي رواية أخرجها الكليني عن الهيثم بن التيهان: «أن أمير المؤمنين خطب الناس بالمدينة فقال: ... ولولا عهد عهده إلي النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - لأوردت المخالفين خليج المنية ولأرسلت عليهم شابيب صواعق الموت ... ». الكافي: 8/ 31؛ المجلسي، بحار الأنوار: 28/ 242.

(4) أي كيف يأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليا - رضي الله عنه -.

(1/172)

________________________________________

ما علِمه من المصالح والحكم، ولا يجوز لأحد من العباد نصرة الكافر وقتل المسلم بغير حق وإعانة الفاسق على فسقه وخذلان الصالح، بل لابد للعباد من الامتثال لأوامر الله تعالى ونواهيه، وهذا هو شأن العبودية أن يتلقى بالقبول حكم الله، ويعمل بالجد على وفقه، لا أنه يقتدى بأفعال المالك. وأما ما قيل «تخلقوا بأخلاق الله» (1) فبابه المكارم دون الأحكام، وإلا فمن لم يصل ولم يؤت الزكاة ولم يحج البيت مع الاستطاعة اقتداء بالله تعالى فهل يعذر في الدنيا والآخرة؟ ومن قال إن التأني وترك العجلة محمود فليس مطلقا، بل التأخير والتأني في الأمور الحسنة غير محمود البتة، لأن المالك إذا أمر رسله وعباده بتعجيل أمر فإن لم يسارعوا إلى أمره يكونوا عصاة لا محالة كما قال الله تعالى {وإن منكم لمن ليبطئن} وقال تعالى في مدح عباده المتعجلين في امتثال أوامره {أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} ولهذا صار المثل المشهور «لا حاجة إلى الاستخارة في أمر الخير» و «خير الخير ما كان عاجله». والإمام الذي له منصب هداية الخلق وإرشاد الضالين كيف يجوز له التاني إذ يفوت منه فيه واجبات كثيرة، وأيضا يكون للتأني حد، وهل يمضى أحد في التأني خمسة وعشرين عاما؟ ولو قال: إن تأني الأمير كان بأمر الله تعالى قلا يلزم ترك الواجبات، قلنا: فقد علم أن إمامة الأمير لم تكن متحققة في ذا الزمن، وإلا فنصبه للإمامة ثم أمره بالتأني وترك لوازم الإمامة متناقضان فيما بينهما، ويشبه ذلك أن السلطان قلد أحدا القضاء وأمره بالاختفاء مدة ذلك قائلا له: لا تظهر قضاءك في تلك المدة، وامتنع أن تقام قضية بحضورك، ولا تتكلم بين المتخاصمين. فهذا يدل صريحا على أن السلطان يعده القضاء، لا أنه نصبه بالفعل للقضاء. ولو حملنا على الظاهر يلزمه التناقض الصريح وتفويت الغرض من نصب القاضي، بل هو محض السفاهة. ولا يخفى قبحه، والله تعالى منزه عن ذلك. وأيضا إذا كان الأمير مأمورا من الله بالتأني وإخفاء الإمامة وترك دعواها يكون المكلفون في ترك متابعته وإطاعة الأمر معذورين، فلو خالفوا ونصبوا غيره لحفظ دينهم ودنياهم وتمشية مهماتهم في هذه المدة؛ لا يكون للعقاب والعتاب عليهم محل أصلا إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

_________

(1) بحار الأنوار: 58/ 130.

(1/173)

________________________________________

الحديث الحادي عشر: رواه أبو سعيد الخدري أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي «إنك تقاتل علي تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله». (1)

ولا يخفى أن هذا الحديث لا مساس له بمدعاهم، إذ مفاده: إنك تقاتل في حين من الأحيان على تأويل القرآن. وهذا هو مذهب أهل السنة أن الأمير في مقاتلاته حين قاتل كان على الحق ومصيبا لا ريب فيه، ومخالفوه كانوا على الخطأ ولو بالاجتهاد. ولا دلالة في هذا الحديث على أن الأمير إمام بلا فصل، إذ لا ملازمة بين المقاتلة على تأويل القرآن والإمامة بلا فصل بوجه من الوجوه، فإيراد هذا الحديث في مقابلة أهل السنة غاية الجهل، بل لو استدل به على مذهب أهل السنة لأمكن، لأنه يفهم منه بالصراحة أن الأمير قد يكون إماما في عصر يقاتل فيه على تأويل القرآن ووقت قتاله معلوم متى كان، وهو من دلائل أهل السنة على أن الحق كان في جانب الأمير وكان مقاتلوه على الخطأ حيث لم يفهموا معنى القرآن وأخطأوا في اجتهادهم. وإنكار تاويل القرآن ليس بكفر إجماعا، (2) وإن أنكر أحد معنى القرآن الظاهر بسوء فهمه ففي كفره تأمل، فضلا عن أن ينكر المعنى الخفي الذي هو التأويل. (3) وعقيدة الشيعة أن محاربيه كفرة (4) كما ذكر في (تجريد العقائد) للطوسي. ولا وجه لكفرهم على أصول الشيعة أيضا.

الحديث الثاني عشر: رواه زيد بن أرقم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إني تارك فيكم الثقلين، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله وعترتي» (5)

وهذا الحديث أيضا كالأحاديث السابقة لا مساس له بمدعاهم، وإذ لا يلزم أن يكون المتمسك صاحب الزعامة الكبرى. سلمنا، ولكن قد صح الحديث أيضا «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنوجذ». (6) سلمنا، ولكن العترة في لغة العرب هم الأقارب، فلو دل الحديث على الإمامة لزم أن يكون جميع أقاربه - صلى الله عليه وسلم - أئمة واجبي الإطاعة وهو باطل. وأيضا قال - صلى الله عليه وسلم - «واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد»، (7) «وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» (8) خصوصا قوله «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» البالغ درجة الشهرة والتواتر المعنوي، فلزم من هذه الأحاديث أن يكون أولئك الأشخاص أئمة وأن يدل هذا الحديث على إمامة

_________

(1) تقدم تخريجه

(2) قال الآلوسي الجد في التكفير: «وألفاظ الأحاديث الظاهرة في تكفير بعض أهل البدع والأهواء من لم يكفرهم الجمهور كالقدرية والخوارج والرافضة عرضة للتأويل، فلا تعارض الأدلة القاطعة بخلافها، وقد ورد مثلها في غير الكفرة من عصاة المسلمين كالمرائين، مع القطع بعدم كفرهم إجماعا على طريق التغليظ، وكفر دون كفر وإشراك دون إشراك». نهج السلامة: 11/أ. وقال الآشتياني من الإمامية: «إنه لا يحكم بكفر غير المستلزم بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو في الضروريات ... وإن كان ظاهر بعض الأخبار الجحود للكفر مطلقا لكنه محمول على الإهمال بقرينة الأخبار سيما في الكتاب». بحر الفوائد: 1/ 284.

(3) قال ابن تيمية: «التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام وإن وافقت ظاهره، فتأويل ما أخبر الله تعالى به من الجنة من الأكل والشرب ... ». مجموع الفتاوى: 5/ 36.

(4) قال الطوسي: «إن من حارب أمير المؤمنين عندنا كافر». بحار الأنوار: 8/ 368.

(5) أخرجه مسلم

(6) أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

(7) الترمذي وصحيح الجامع: رقم 1144

(8) أحمد والترمذي وابن ماجة. صحيح الجامع: رقم 895.

(1/174)

________________________________________

العترة، فكيف يصح الحديث المروي عن الأمير بالتواتر عند الشيعة «إنما الشورى للمهاجرين والأنصار» (1) وكذلك لا يدل حديث «مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق» (2) إلا على أن الفلاح والهداية منوطان بمحبتهم ومربوطان باتباعهم والتخلف عن محبتهم وأتباعهم موجب الهلاك. وهذا المعنى بفضل الله تعالى مختص بأهل السنة، لأنهم هم المتمسكون بحبل وداد جميع أهل البيت، كالإيمان بكتاب الله كله لا يتركون حرفا منه، وبالأنبياء أجمعين بحيث لا يفرقون بين أحد من رسله وأنبيائه، ولا يخصمون بعضهم بالمحبة دون بعض، لأن الإيمان ببعض الكتاب بحكم {تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} وببعض الأنبياء بدليل {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} الآية كفر غليظ، بخلاف الشيعة لأنهم ما من فرقة منهم إلا وهي لا تحب جميع أهل البيت، بل يحبون طائفة ويبغضون أخرى.

ولبعض الشيعة ههنا تقرير عجيب حيث قال: تشبيه أهل البيت في هذا الحديث يقتضى أن محبة أهل البيت واتباعهم كلهم غير ضروري في النجاة، لأن أحدا لو تمكن من زاوية من السفينة تحصل له النجاة من الغرق بلا شبهة، بل كذلك الدوران في السفينة بأن لا يجلس في مكان واحد، فالشيعة إذا كانوا متمسكين ببعض أهل البيت ومتبعين لهم يكونون ناجين بلا شبهة فقد اندفع طعن أهل السنة عليهم بإنكارهم لبعض أهل البيت.

وأجاب عنه أهل السنة بوجهين: الأول بطريق النقض بأن الإمامية لابد لهم أن لا يعتقدوا على هذا التقرير أن الزيدية والكيسانية والناوسية والأفطحية وأمثالهم من فرق الشيعة ضالون هالكون في الآخرة، بل ينبغي أن يعتقدوا فلاحهم ونجاتهم، لأن كلا من هذه الفرق وأمثالهم آخذون زاوية من هذه السفينة الوسيعة ومتخذون فيها مكانهم، والزاوية الواحدة من تلك السفينة كافية للنجاة عن الغرق، بل التعيين بالأئمة الاثني عشر صار مخدوشا على هذا التقرير، إذ الكفاية بزاوية واحدة من السفينة في النجاة من الغرق

_________

(1) تقدم

(2) ضعفه ابن كثير في تفسيره وابن حجر في ذخيرة الحفاظ، ووضعه الألبانى في ضعيف الجامع: 1/ 1974.

(1/175)

________________________________________

مفروضة، ومعنى الإمام هو هذا أن اتباعه يكون موجبا للنجاة في الآخرة، ففسد مذهب الاثني عشرية بل الإمامية كلهم فلا يصح لكل فرقة من فرق الشيعة ذلك بل لا بد لهم أن يعلموا جميع المذاهب حقا وصوابا، مع أن بين مذاهبهم كثير من التناقض والتضاد الواقع، والحكم في كلا الجانبين المتناقضين بكونهما حقا في غير الاجتهادات قول باجتماع النقيضين وهو بديهي الاستحالة.

الثاني بطريق الحل: بأن التمكن في زاوية من زوايا السفينة إنما ينجي من الغرق لو لم يخرق في زاوية أخرى منها، وإلا فيحصل الغرق قطعا. وما من فرقة من فرق الشيعة متمكنين في زاوية من هذه السفينة إلا وهم يخرقون في زاوية أخرى منها. نعم أهل السنة وإن كانوا يدورون في كل الزوايا المختلفة ويسيرون فيها، لكنهم لم يخرقوها في زاوية منها ليدخلوا من ذلك الطرف موج البحر فيغرقها. والحمد لله.

 

(الدلائل العقلية)

وأما الدلائل العقلية للشيعة فهي كثيرة جدا ولنذكر قاعدة يمكن الحل بها لكل دلائلهم فنقول: إن الدليل على هذا المدعى لا يخلو عن ثلاثة أقسام: لأنه إما جميع مقدماته عقلية، أو جميعها نقلية، أو بعضها عقلية وبعضها نقلية، وهذا الاصطلاح غير الاصطلاح المشهور في الكلام، فإن الدليل العقلي يطلق فيه على ما كان مركبا من العقليات الصرفة، والدليل النقلي يطلق على ما كانت إحدى مقدماته موقوفة على النقل. وهذه الأقسام الثلاثة من الدليل لابد أن تكون مأخوذة من شرائط الإمامة أو من توابعها أو من طريق تعينها. وأصل هذه الدلائل كلها هي مباحث الإمامة، ومباحثها فرع لمباحث النبوة، لأن الإمامة نيابة للنبوة، ومباحث النبوة فرع الإلهيات، لأن النبوة والرسالة من الله تعالى. فإذا فسدت أصول الشيعة ومقرراتهم في هذه المباحث الثلاثة بمخالفة الكتاب والعترة والعقل السليم صارت دلائلهم كأنها أخذت تحت المنع في ثلاث مراتب.

ولنبين هذا الاجمال بمثال واضح: مثلا مقدماتهم المأخوذة في الدلائل الكثيرة عندهم «الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه» أصله «أن نصب الإمام واجب على الله تعالى» وأصل

(1/176)

________________________________________

هذا الأصل إن بعث النبي واجب على الله» ولما أبطلنا مذهبهم في هذه المباحث بشهادة العدول - الكتاب، والعترة، والعقل السليم - لم يبق شبهة ولا شك في بطلانه. (1)

ولنذكر بعضا من دلائلهم العقلية، وإن كان يستغنى عن ذكرها بما ذكرنا. فنقول:

الأول من دلائلهم أنهم قالوا: «إن الأمام يجب أن يكون معصوما، وغير الأمير من الصحابة لم يكن معصوما، فكان هو إماما لا غيره»، (2) وهو المدعى.

ولا يخفى أن تقرير الاستدلال ناقص لا يفيد المدعى، لأن الدعوى مركبة من ثبوت الإمامة للأمير وسلبها عن غيره. والدليل المذكور لا يلزم منه إلا سلب مفهوم كل أحد غير الأمير من الصحابة عن ذات متصفة بالإمامة فقط، وهو غير مطلوب، فالاستدلال الصحيح بعكس ترتيب هذا القياس المذكور، وضم قياس آخر إليه من الشكل الأول فيفيد مجموعهما المدعى، وهو هكذا: «لم يكن أحد غير الأمير من الصحابة معصوما، وكل إمام يجب أن يكون معصوما» على الضرب الثاني من الشكل الثاني، ونتيجة هذا القياس سالبة كلية وهي «لم يكن أحد غير الأمير منهم إماما» فيحصل منه سلب الإمامة عن غير الأمير من الصحابة. والقياس الآخر «إن الأمير كان معصوما، وكل معصوم يكون إماما، فالأمير يكون إماما» فيلزم منه ثبوت إمامته، فمجموع هذين القياسين تثبت به الدعوى وهو المطلوب. (3)

ويجاب عن الأول بمنع الكبرى أعني «كل إمام يجب أن يكون معصوما» وبمنع استثناء الأمير منهم في الصغرى، وإسنادهما أقوال الأمير الآتية، وبهذا المعنى يرد المنع على الصغرى التي جعلها المستدل كبرى قياسه، وإلا فهي مسلمة بالضرورة فلا يصح منعها، ويجاب عن الثاني بمنع الصغرى وسنده سند منع الاستثناء، وبفوات بعض الشروط من كلية كبراه لأن المعصوم عام فإن الأنبياء والملائكة وفاطمة معصومون وليسوا بأئمة بالمعنى المتنازع فيه، فحمل «الإمام» على جميع أفراده لا يمكن، وعلى بعض أفراده يجعل القضية جزئية وهي لا تصلح لكبروية الشكل الأول لاشتراط كليتها، فافهم.

_________

(1) قال الآلوسي الجد: «واختلف في أن مباحثها هل هي من الفقه، أو من الكلام؟ فذهبت الشيعة والخوارج إلى الثاني وذهب أهل السنة والجماعة إلى الأول، لما انهم يقولون أن النصب إنما يجب على العباد، أي عند عدم النص من الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على التولية لمعين، وعند عدم العهد والوصية من السابق لغيره المعين، وإنما ذكروها في الكلام مع أنها ليست من مباحثه عندهم لما تعلق بالإمامة من التعصبات وفاسد الاعتقادات». نهج السلامة: 13/أ.

(2) قال الطوسي: «ويدل على إمامته أيضا أنه معصوم وغيره غير معصوم بإجماع المسلمين». رسائل الطوسي: ص 106.

(3) على قول الإمامية، المفيد، النكت الاعتقادية: ص 39؛ ابن المطهر الحلي، نهج الحق: ص 171.

(1/177)

________________________________________

وقال المؤلف: (1) وفي هذا الدليل تكون الصغرى والكبرى ممنوعتين، أما الصغرى فلأن الأمير نص بقوله «إنما الشورى للمهاجرين والأنصار» إلخ على أن الشورى لهم فقط، وبديهي أن الجماعة الذين جعلهم المهاجرون والأنصار خلفاء لم يكونوا معصومين، فعلم قطعا أن العصمة ليست بشرط في الإمامة أصلا. وأيضا لما سمع الأمير ما قال الخوارج «لا إمرة» قال «لابد للناس من أمير بر أو فاجر» كذا في (نهج اليلاغة).

سلمنا.، ولكن العلم بأنه معصوم لا يمكن حصوله لغير النبي، لأن أسباب العلم كلها ثلاثة أشياء: الحواس السليمة، والعقل، وخبر الصادق. ولا سبيل لأحد منها إلى تحصيله. أما الأول فظاهر إذ العصمة هي الملكة النفسانية المانعة من صدور الذنوب والقبائح غير المحسوسة، وأما الثاني فلأن العقل أيضا لا يدرك تلك الملكة إلا بطريق الاستدلال بالأفعال أحد بخصوصه وآثاره خصوصا نيات القلب ومكنونات الضمائر - من العقائد الفاسدة والحسد والبغض والعجب والرياء وغيرها من ذمائم الأخلاق - لا يمكن أولا حصوله، ولو سلمنا أنه حاصل ولكن يجوز حصول ما هو حاضر من جميع الأفعال والآثار الحسنة الباقية فإنها يمكن العلم بها، وأما ما مضى وما سيأتي من تلك الأفعال والآثار فلا سبيل لأحد إلا الله إلى العلم بها، لأن أحوال بنى آدم كثيرا ما تتغير آنًا فآنا بمكر الشيطان وإغواء النفس وقرناء السوء فيصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا. أما سمعت قصة برصيصاء الراهب (2) وبلعم بن باعورا (3) وهي كافية للعبرة في هذا الباب، والدعاء المأثور «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك وطاعتك» (4) دواء شاف لداء الشبهة والشك في هذا الامر. ولو فرضنا أنها علمت، ولكن كيف تدرك حقيقة العصمة التي هي امتناع صدور الذنب؟ غاية الأمر فيه أنا نعلم عدم الصدور منه وهي مرتبة المحفوظية، ولا يجزئ هذا القدر من العلم في إدراك العصمة ما لم يوجد العلم بالامتناع. واما الثالث فلأن خبر الصادق قسمان: إما متواتر،

_________

(1) عبد العزيز الدهلوي مؤلف الأصل.

(2) تفسير ابن كثير: 4/ 342.

(3) تفسير الطبري: 9/ 120؛ تفسير ابن كثير: 2/ 266.

(4) الترمذي وأحمد، صحيح الجامع: رقم 4801.

(1/178)

________________________________________

وإما خبر الله ورسوله. وظاهر أن المتواتر لا دخل له ههنا لأن المتواتر يشترط انتهاؤه إلى المحسوس في إفادة العلم الضروري، (1) فلا يكون في غير المحسوسات - مثل ما نحن فيه - مفيدا وإلا يكن خبر الفلاسفة بقدم العالم مفيدا للعلم الضروري وهو باطل بالإجماع، وخبر الله ورسوله لا يكون موجبا للعلم في هذا الباب على أصول الشيعة: أما أولا فلأن البداء في الإخبار جائز عندهم، فيجوز أن يخبر في وقت بعصمة رجل ثم بفسقه في وقت آخر، وأحد الخبرين وصل إلينا دون الآخر، وبجوز البداء في الإرادة أيضا بإجماع الشيعة (2) فيحتمل أن تتعلق الإرادة في وقت بعصمة رجل وفي وقت آخر بفسقه، فارتفع الاطمئنان بأن هذا الرجل يبقى على عصمته إلى آخر العمر. وأما ثانيا: فلأن وصول خبر الله ورسوله إلى المكلفين إما بواسطة معصوم أو بواسطة تواتر، ففي الشق الأول يلزم الدور الصريح، وفي الشق الثاني يلزم خلاف الواقع، لأن كل تواتر ليس مفيدا للعلم القطعي عند الشيعة، (3) كتواتر المسح على الخف، وغسل الرجلين في الوضوء، وإلى المرافق، وأمة هي أربى من أمة في كلمات القرآن، (4)

وصيغة التحيات في قعدة الصلاة، (5) وأمثال ذلك. فلا بد من أن يعين تواتر خاص. وذلك أيضا غير مفيد، إذ حصول العلم القطعي من التواتر يكون بناء على كثرة الناقلين وبلوغهم إلى ذلك المبلغ فقط، ولما كذب الناقلون في مادة أو مادتين ارتفع الاعتماد عن اقسامه كلها.

ولا يمكن أن تجزي هذه الوجوه في عصمة الأنبياء لأن ثبوتها بأخبارهم الصادقة، وقد ثبت صدقهم في كل ما ادعوا بظهور المعجزات الباهرة، فلا يقاس عليهم من عداهم من العباد ولو إماما فإنه أيضا تابع والتابع دون المتبوع لا محالة، فلا يستقيم بها النقض على ما قاله السائل لاختلاف المادة، مع أنه سند منع بصورة الاستدلال للاهتمام لا غير فافهم.

وأما كون الكبرى ممنوعة؛ فلأن الأمير قال لأصحابه: «لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإنني لست بفوق أن اخطئ، ولا آمن من ذلك في فِعلي» كذا في (نهج البلاغة) وظاهر أن هذا القول لا يصدر من المعصوم، خصوصا إذا كانت

_________

(1) الجويني، البرهان: 1/ 159؛ الشوكاني، إرشاد الفحول: 1/ 88.

(2) روى الكليني عن الفضيل عن أبي عبد الله أنه قال: «لله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء». الكافي 1/ 149.

(3) كذا قرر السلطان في حاشيته: ص 322.

(4) تقدم الكلام على هذه المسائل ..

(5) إشارة إلى نفي الشيعة لصيغة التحيات رغم تواترها عند أهل السنة، فروى ابن بابويه عن الصادق أنه قال: «أفسد ابن مسعود على الناس صلاتهم بشيئين، بقوله (تبارك اسمك وتعالى جدك) وهذا شيء قالته الجن بجهالة، فحكاه الله عنها، وبقوله (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) يعني في التشهد الأول، وأما الثاني بعد الشهادتين فلا بأس به ... ». من لا يحضره الفقيه: 1/ 401.

(1/179)

________________________________________

واقعة في آخر الكلام «إلا أن يلقي الله في نفسي (1) ما هو أملك به مني» (2) فإنه دليل صريح على عدم العصمة. لأن المعصوم يملكه الله نفسه كما ورد في الحديث «إنه كان أملكهم لأربه». (3) وأيضا مروي في دعاء الأمير «اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي» كذا أورده الرضى في (نهج البلاغة). (4)

الدليل الثاني: (5) أن الإمام لا بد من أن لا يرتكب الكفر قط، لقوله تعالى {لا ينال عهدي الظالمين} والكافر ظالم لقوله تعالى {والكافرون هو الظالمون} ولقوله تعالى {إن الشرك لظلم عظيم} وغير الأمير من الصحابة كلهم كانوا عبدوا الأصنام في الجاهلية فيكون هو إماما دون غيره. (6)

ولا يذهب على العارف أن هذا الدليل - مع كونه ناقصا مثل ما مر - فاسدة بالمرة، فلا بد أن يغير بوجه آخر صحيح. وذلك أن يقال: لم يكن أحد من الصحابة غير الأمير مؤمنا من بدء التكليف، وكل إمام يجب أن يكون مؤمنا كذلك. والقياس الآخر: إن الأمير كان مؤمنا كذلك، وكل من يكون مؤمنا كذلك فهو إمام، ويجاب عن الأول بمنع الكبرى، وسنده الإجماع على عدم الاشتراط في الإمامة بهذا الشرط، وعن الثاني بالنقض لأنه يلزم منه أن يكون كل من هو كذلك من آحاد الأمة إماما، ولا أقل من لزوم إمامة نحو عبد الله بن عباس - رضي الله عنهم - ا، لا يقال اشتراط العصمة يدفعه لأنا نقول إن ذلك الاشتراط بعد تسليمه لا يعتبر في هذا الدليل فالتعدد باطل، بل الثاني يصير حشوا محضا أولا فالانتقاض ضروري لا مرد له.

وقال المؤلف: وأجيب بأن هذا الشرط لم يذكره في بحث الإمامة أحد من أهل السنة والشيعة، ولكن خرط الشيعة هذا الشرط حين عمدوا إلى نفي الخلافة عن الخلفاء الثلاثة، ولهذا لم يذكر في آية ولا حديث، بل من أسلم بعد كفره مائة سنة ومن كان مسلما من سبعين بطنا متساويان في الدين والإسلام، ولم يعتبر هذا الشرط فإنه لغو وحشو، والتمسك بآية

_________

(1) في النهج: (إلا أن يكفي الله من نفسي).

(2) نهج البلاغة: (بشرح ابن أبي الحديد): 11/ 101.

(3) متفق عليه.

(4) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 6/ 176.

(5) من أدلتهم العقلية.

(6) هذا ادعاء الإمامية، قال الحسن الديلمي: «ومن فضائله - عليه السلام - أنه نشأ وربي في الإيمان ولم يدنس بدنس الجاهلية بخلاف غيره من سائر الصحابة». إرشاد القلوب: 2/ 229.

(1/180)

________________________________________

{لا ينال عهدي الظالمين} ههنا ليس إلا من المغالطة، إذ مفاد الاية أن الرياسة الشرعية لا تنال الظالم، (1) لأن العدالة في جميع المناصب الشرعية - من الإمامة الكبرى والقضاء والاحتساب والإمارة وغيرها - شرط لتحقيق فائدة ذلك المنصب، ونصب الظالم في أي رياسة موجب لفسادها، فبين الكفر والظلم والإمامة منافاة، ولا يجتمع التنافيان في وقت واحد في ذات أصلا، وهذا هو مذهب جميع أهل السنة أن الإمام لا بد أن يكون وقت الإمامة مسلما عادلا، لا أنه لم يكن قبل الإمامة كافرا وظالما، ومن كفر أو ظلم ثم تاب عنه من بعد ذلك وأصلح فلا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم أصلا في لغة وعرف وشرع، إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفي غيره مجاز، ولا تكون المجاز أيضا مطرودا بل حيث يكون متعارفا ينبغي أن يطلق هنالك، كما تقرر في محله أن المجاز لا يطرد وإلا لجاز «نخلة» لطويل غير الإنسان، و «صبي» لشيخ، وهي سفسطة قبيحة، (2) كذا النائم للمستيقظ والفقير للغني والجائع للشبعان والحي للميت وبالعكس. وقد روى الزاهدي في حديث طويل أن أبا بكر قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمحضر من المهاجرين والأنصار «وعيشك يا رسول الله، إني لم أسجد للصنم قط، فنزل جبريل وقال: صدق أبو بكر» وكذلك ذكر أهل السير والتواريخ في أحوال أبي بكر أنه لم يسجد لصنم قط، فصحت إمامته بملاحظة هذا الشرط أيضا وصارت إجماعا والحمد لله.

الدليل الثالث: أن الإمام لابد أن يكون منصوصا عليه، ولا يوجد نص في غير الأمير، فغيره لا يكون إماما بل هو الإمام. (3)

والجواب بعد أن نذكر ما اسلفنا في تصحيح الدليل الأول من عكس الترتيب وضم قياس آخر معه أن المقدمتين ممنوعتان: أما منع الصغرى فلما مر من قول الأمير: إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اختاروا رجلا وسموه إماما كان لله رضًا. وأما منع الكبرى فلأنه لو وجد النص في علي، فإما في القرآن أو الحديث فقد مر الأمران جميعا.

_________

(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/ 108.

(2) السفسطة: «تمويه بحجة باطل بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل». الإحكام لابن حزم: 1/ 37.

(3) الحلي في نهج الحق: ص 171.

(1/181)

________________________________________

ولأنه لو وجد النص لكان متواترا إذ لا عبرة للآحاد في الأصول، ولا أقل من أن يعرفه أهل بيته، وهم قد أنكروه، (1) ولأنه لو وجد النص في الإمام لوجد في كل الأئمة، وقد اختلف أولاد كل إمام بعد موته في دعوى الإمامة، (2) ولأنه لو وجد النص لما وقع الاختلاف بينهم، ولأنه لو وجد النص فإما أن يبلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عدد التواتر أو لا، وعلى الأول إما أن يكتموه عند الحاجة إلى إظهاره أو يظهروه، ولا سبيل إلى الثاني بالإجماع، والأول يرفع الأمان عن التواتر ويستلزم كذب المتواترات، وإن لم يبلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عدد التواتر لم تلزم الحجة فيه على المكلفين فتنتفي فائدة النص، بل يلزم ترك التبليغ في حق النبي وهو محال.

الدليل الرابع: أن الأمير كان متظلما ومتشكيا من الخلفاء الثلاثة دائما في حياته، وبين أنه مظلوم ومقهور، وما ذاك إلا لغصب الإمامة منه فتكون الإمامة حقه دون غيره، إذ الأمير صادق بالإجماع. (3)

وأنت تعلم أن هذا الدليل غير مذكور بتمامه، فإن كبراه مطوية وهي «وكل من كان كذلك فهو إمام» فيلوم من بعد تسليمه أن يكون كل من أوذوا وظلموا حقيقة أئمة، وهذا خلف، واعتبار القيود الأخر يبطل التعدد ويجعله حشوا.

وأجيب عن هذا الدليل بمنع صحة تلك الروايات، لأن أهل السنة لم يثبت عندهم إلا روايات الموافقة والمناصحة والثناء بالجميل ودعاء الخير فيما بينهم والمعاونة والإمداد ونحوها. وأكثر روايات الإمامية في هذا الباب موافقة لروايات كما تقدم نقله عن الأمير في نهج البلاغة في قصة عمر، ومن ثنائه عليهم بالخير في حياتهم وبعد موتهم، وارتضائه بأعمالهم وشهادته لهم بالنجاة والفوز. وروايات أهل السنة في هذا الباب أكثر من أن تحصى. ولنذكر منها هنا رواية واحدة رواها الحافظ أبو سعيد ابن السمعان (4) في (كتاب الموافقة)

_________

(1) تقدم هذا عن الحسن المثنى

(2) وفرق الشيعة قد اختلفت كثيرا في أئمتها، فكل فرقة تدعي أن إمامها الحق وغيره باطل.

(3) بحار الأنوار: 28/ 372.

(4) أعلام النبلاء: 18/ 55؛ طبقات الحفاظ: ص 430؛ شذرات الذهب: 3/ 273.

(1/182)

________________________________________

وغيره من المحدثين عن محمد بن عقيل بن أبي طالب أنه لما قبض أبو بكر الصديق وسجي عليه ارتجت المدينة بالبكاء كيوم قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء علي باكيا مسترجعا وهو يقول «اليوم انقطعت خلافة النبوة» فوقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر مسجى فقال «رحمك الله أبا بكر، كنت إلف رسول الله وأنيسه ومستروحه وثقته وموضع سره ومشاورته، كنت أول قومه إسلاما وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل، وأحوطهم لرسول الله وأشفقهم عليه، وأحدبهم الإسلام، وأمنهم على أصحابه، وأحبهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديا وسمتا ورحمة وفضلا وخلقا، وأشرفهم عنده منزلة وأكرمهم عليه، وأوثقهم عنده. جزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا. كنت عنده بمنزلة السمع والبصر، صدّقت رسول الله حين كذبه الناس فسماك الله في تنزيله صديقا فقال عز وجل {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} فالذي جاء بالصدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، وصدق أبو بكر. وأسيته حين بخلوا، وقمت معه عند المكاره حين عنه قعدوا وصحبته في الشدة أحسن الصحبة ثاني الاثنين وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة وخليفته في دين الله عز وجل. أحسنت الخلافة حين ارتد الناس وقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي. نهضت حين وهن أصحابك وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا ولزمت منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه إذ كنت خليفته حقا ولم تنازع ولم تقذع برغم المنافقين وكيد الكافرين وكره الحاسدين وضغن الفاسقين وزيغ الباغين قمت بالأمر حين فشلوا ونظفت حين تعتعوا ومضيت نفوذا إذ وقفوا فاتبعوك فهدوا وكنت أخفضهم صوتا وأعلاهم قوة وأقلهم كلاما وأصوبهم منطقا وأطولهم صمتا وأبلغهم قولا وأكبرهم رأيا وأشجعهم وأعرفهم بالأمور وأشرفهم عملا. كنت والله للدين يعسوبا حين نفر الناس عنه وآخرا حين فشلوا. كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا تحملت أثقال ما ضعفوا عنه ورعيت ما أهملوه وحفظت ما أضاعوا وعلوت إذ هلعوا وصبرت إذ جزعوا وأدركت أوطار

(1/183)

________________________________________

ما طلبوا ورجوا. أرشدتهم برأيك فظفروا ونالوا بك ما لم يحتسبوا وجليت عنهم فأبصروا.

كنت على الكافرين عذابا واصبا وللمؤمنين رحمة وأنسا وخصبا، فطرت والله بعبابها وفزت بجنابها وذهت بفضائلها وأدركت سوابقها لم تفلل حجتك ولم نضعف بصيرتك ولم تجبن نفسك ولم يزغ قلبك كنت كالجبل لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمن الناس عليه في صحبتك وذات بلدك. وكما قال ضعيفا في بدنك قويا في أمر الله متواضعا في نفسك عظيما عند الله جليلا في أعين المؤمنين كبيرا في أنفسهم لم يكن لأحد فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز ولا لأحد فيك مطمع. الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه والقوي العزيز عندك ضعيف حتى تأخذ منه الحق. والقريب والبعيد عندك سواء. أقرب الناس إليك أطوعهم لله وأتقاهم له شأنك الحق والصدق والرفق وقولك حكم وجزم وأمرك حلم وحزم ورأيك علم وعزم حتى بلغت والله بهم السبيل وسهلت العسير وأطفأت النيران واعتدل بك الدين وقوي الإيمان وثبت الإسلام والمسلمون وظهر أمر الله ووكره الكافرون، فسبقت والله سبقا بعيدا وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا وفزت بالخير فوزا مبينا فجللت عن البكاء وعظمت رزيتك وهدت مصيبتك الأنام فإنا لله وإنا إليه راجعون». (1)

وهذه خطبة واحدة من الأمير في مدح أبي بكر، ولو أحصينا جميع خطب الأمير وكلماته في فضائل أبي بكر وعمر ومدحهما المروية في كتب أهل السنة بالطرق الصحيحة لبلغت مفردا كنهج البلاغة بل أطول منه.

فإن قلت إن روايات الشيعة في باب تظلم الأمير وشكايته إن كانت كلها موضوعة من رؤسائهم فإن مما يستبعده العقل أن جمعا كثيرا اجتمعوا على الافتراء على الأمير فلا بد من منشأ للغلط فذلك المنشأ ما هو؟ قلت: إن رواتهم كما كذبوا على الأئمة كانوا يكذبونهم كما ورد ذلك عنهم فيما تقدم، وكذبوا عليهم أيضا في المطاعن على الصحابة. وغاية ما في الباب أن مكذبات تلك الروايات وصلت إلى الشيعة أيضا بطرقهم الأخر ومكذبات روايات المطاعن على الصحابة ما وصلت من

_________

(1) ابن عساكر، تاريخ دمشق: 30/ 438 - 440.

(1/184)

________________________________________

طرق الشيعة إليهم أو وصلت ولم يفهموا منها التكذيب الصريح لتلك الروايات كما نقل من الصحيفة الكاملة ونهج البلاغة. ولما اجتمعت فرق الشيعة على بغض الصحابة واعتقاد السوء في حقهم لم يرووا ما يكذب تلك الروايات ولم يظهروه بل قصدوا تأييد كذب أوائلهم حيث صار هذا التأييد أهم المطلوب عندهم فمن ثمة صار هذا الكذب إجماعيا لهؤلاء الفرق وأما الأكاذيب الأخر التي في العقائد الإلهية فرواها بعضهم وكذبها بعضهم.

الدليل الخامس: أن الأمير ادعى الإمامة وأظهر المعجزة على وفق دعواه كقلع باب خيبر (1) وحمل الصخرة العظيمة ومحاربة الجن ورد الشمس بعد غروبها (2) فكان في دعواه صادقا فكان إماما. (3)

وهذا الطريق في تقرير الكلام مأخوذ من استدلال أهل السنة في إثبات نبوته - صلى الله عليه وسلم - ولكن بينهما مشابهة في صورة الكلام دون صحة المقدمات فإنها ممنوعة منعا ظاهرا. أما أولا فلأن ذكر المعجزة في إثبات الإمامة إنما هو خطأ محض فكيف يسلم؟ إذ المعجزة لإثبات النبوة دون الإمامة وغيرها من المناصب الشرعية كالقضاء والإفتاء والاجتهاد وسلطنة الناحية وإمارة العسكر والوزارة وأمثالها. ووجهه أن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كانت من قبل الله تعالى بلا واسطة لم يمكن إثبات نبوته بدون تصديق الله تعالى بخلق المعجزة على يده حين التحدي بخلاف هذه المناصب فإنها تثبت بقول النبي أو بتفويضها إلى الأمة. وأيضا دلالة المعجزة منحصرة في حق الأنبياء عليهم السلام فلو استدل أحد من غيرهم بها لم يكن استدلاله معتبرا في الشرع. ولما كانت الإمامة متعينة بتعيين النبي أو باختيار أهل الحل والعقد لم يجز أن تكون المعجزة دليلا عليها. على أن روايات الإمامية

_________

(1) تاريخ الطبري: 2/ 137؛ ورواها الخطيب البغدادي عن جابر بن عبد الله: «أن عليا حمل باب خيبر يوم افتتحها، وأنهم جربوه بعد ذلك فلم يحمله إلا أربعون رجلا». تاريخ بغداد: 11/ 327؛ قال الذهبي: «هذا حديث منكر». ميزان الاعتدال: 5/ 139؛ قال السخاوي: «وطرقه كلها واهية، ولذا أنكره بعض العلماء». كشف الخفاء: 1/ 438.

(2) في الكشف الحثيث لإبراهيم بن محمد الطرابلسي: 1/ 44 قال: «أحمد بن داود روى حديثا في رد الشمس لعلي - رضي الله عنه - من حديث أسماء بنت عميس قال ابن الجوزي: أحمد بن داود ليس بشيء قال الدارقطني: متروك الحديث كذاب وقال ابن حبان كان يضع الحديث». وقال العجلوني في كشف الخفاء: 1/ 516 «حديث رد الشمس لعلي - رضي الله عنه - قال الإمام أحمد لا أصل له أما ابن الجوزي فأورده في الموضوعات» وأوردها من الإمامية المازندراني، مناقب آل أبي طالب: 2/ 143؛ القطب الراوندي، الخرائج والجرائح: 1/ 224؛ النوري، مستدرك الوسائل: 3/ 350؛ المجلسي، بحار الأنوار: 83/ 317.

(3) هذه الخوارق المنسوبة إلى أمير المؤمنين قد نبه حفاظ الحديث على ضعفها ووضعها منهم السخاوي في المقاصد وملا علي القاري في موضوعاته لذلك لا يصح الاستدلال بها. وأمير المؤمنين أهل لكل كرامة ولكن صحة الروايات ضرورية لقبول الأخبار.

(1/185)

________________________________________

مكذوبة لقول من يقول بادعاء الأمير للإمامة في خلافة الخلفاء الثلاثة وكذلك ما يقولون من وجوب التقية ومن أن الرسول أوصى الأمير بالسكوت كما تقدم. وظهور خوارق العادات والكرامات من الأمير مسلم الثبوت ولكن ليس ذلك مخصوصا فيه لصدور مثل ذلك من الخلفاء الثلاثة والصحابة الآخرين وصلحاء الأمة أيضا. (1) على أن قلعة لباب خيبر وقع في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإظهار المعجزة قبل الدعوى غير محتاج إليه ولا تثبت به الدعوى. ومحاربة الجن لا أثر لها في كتب أهل السنة بل هي مروية بمحض رواية الشيعة هكذا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى غزوة بني المصطلق أخبره جبريل في أثناء الطريق بأن الجن اجتمعت في البئر الفلانية وتريد أن تكيد لعسكركم فأرسل النبي الأمير عليهم فقتلهم! (2) فلو صحت هذه الرواية يكون ذلك من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكذا رفع الصخرة العظيمة ليس موجودا في كتب أهل السنة، بل ذكر في كتب الشيعة أن الأمير لما توجه إلى صفين عطش يوما أصحابه في أثناء المرور بفقد الماء فأمر الأمير بأن يحفروا موضعا قرب صومعة راهب فظهرت في أثناء الحفر صخرة عظيمة عجزوا عن نقلها فأخبروا بها الأمير فنزل فرفعها من هنالك ورماها إلى مسافة بعيدة وظهرت تلك الصخرة عين الماء فشرب أهل العسكر فلما شاهد راهب تلك الصومعة هذا الأمر أسلم وقال: نحن وجدنا في الكتب القديمة أن رجلا كذا وكذا ينزل قرب هذا الدير ويرفع هذه الصخرة ويكون على الدين الحق. (3) وبالجملة إن ثبتت هذه الكرامة تكون كسائر كراماته - رضي الله تعالى عنه -، وليست دعوى الإمامة مذكورة هنا، ولم تقع هذه القصة في مقابلة أهل الشام أيضا. وأما رد الشمس فأكثر محدثي أهل السنة كالطحاوي وغيره صححوه وعدوه من معجزات النبي بلا شبهة إذ أرجع الشمس بعد غروبها ليحصل وقت صلاة العصر للأمير بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولتكون صلاته أداء. (4) وأين كانت في ذلك دعوى الإمامة؟ ومن كان حينئذ منكرا ومقابلا له!

_________

(1) قال الطحاوي: (ونؤمن بما جاء من كرامتهم وصح عن الثقات من رواياتهم) وقال ابن أبي العز شارحا: «فالمعجزة في اللغة تعم كل خارق للعادة، وكذلك الكرمة في عرف أئمة أهل العلم المتقدمين، ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما فيجعلون المعجزة للنبي والكرامة للولي، وجماعها الأمر الخارق للعادة». شرح العقيدة الطحاوية: ص 424.

(2) من رواية طويلة أوردها المفيد ونسبها لابن عباس في الإرشاد: 1/ 339؛ ونقلها عنه المازندراني في مناقب آل أبي طالب: 2/ 87؛ والمجلسي في بحار الأنوار: 63/ 86.

(3) أوردها الإمامية: ابن رستم الطبري، المسترشد: ص 201؛ المازندراني، مناقب آل أبي طالب: 2/ 291؛ القطب الراوندي، الخرائج والجرائح: 1/ 220 البحراني، مدينة المعاجز: 1/ 485.

(4) إشارة إلى ما أخرجه الطبراني من حديث أسماء بن عميس قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم يصلِ العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله e: اللهم إن عليا كان في طاعتك وطاعة رسولك فأردد عليه الشمس، فقالت أسماء فرأيتها طلعت بعدما غربت». المعجم الكبير 24/ 151؛ وقد ضعفه العلماء وحكم عليه ابن الجوزي والقاري بالوضع (المصنوع: ص 265) فقال ابن الجوزي: «هذا حديث موضوع بلا شك ... ثم قال ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنه نظر إلى صورة فضيلة ولم يتلمح الفائدة فإن صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاء فرجوع الشمس لا يعيدها أداء». الموضوعات: 1/ 356 - 357. يؤكد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع ليالي سار إلى بيت المقدس». المسند: 2/ 325. وصححه ابن حجر في فتح الباري: 6/ 221. وينظر منهاج السنة النبوية: 8/ 165

(1/186)

________________________________________

(1)

الدليل السادس أن الشيعة قالوا: ما روى أحد من الموافق والمخالف ما يوجب الطعن والقدح في الأمير، بخلاف الخلفاء الثلاثة فإن الموافق والمخالف رويا القوادح الكثيرة في حقهم بحيث يسلب استحقاق الإمامة عنهم، فالأمير الذي هو سالم عن قوادح الإمامة يكون متعينا لها.

ولا يخفى أن هذا الدليل - على ما بيناه في تصحيح دلائلهم سابقا - ليس على ما ينبغي من طريق القياس الذي يستدل به على المطلوب، فإن ما ذكره المدعي ههنا إنما هو بيان لإثبات الصغرى في كلا القياسين اللذين يستدل بمجموعهما على المطلوب، وهما هذا: أن كلا من الخلفاء الثلاثة دون الأمير مقدوح فيه ومطعون عليه بما يسلب عنهم استحقاق الإمامة، وكل من كان كذلك فليس إماما، والأمير سالم من ذلك، وكل من كان كذلك فهو إمام، لأن كلا من الموافق والمخالف روى في حقهم ولم يروا في حقه القوادح الموجبة لسلب استحقاق الإمامة.

ويجاب بأنا لا نسلم السلامة من القوادح ولا الطعن بها في حقه وحقهم مطلقا، ولا رواية الموافق تلك القوادح أيضا، ولا سلب ما روى المخالف الاستحقاق عنهم، ولا كونها حقه، وكل ذلك ممنوع منعا ظاهرا، لأن الخلفاء الثلاثة كما روى المخالفون (2) (وهم الشيعة وإخوانهم، لا الموافقون الذين هم أهل السنة وأمثالهم) القوادح الباطلة في حقهم، كذلك رواها في حق الأمير مخالفوه من الخوارج وغيرهم، دون من يوافقونه من أهل السنة والشيعة، فلا سلامة ولا قدح من كل وجه، ولا ضير بالقوادح الباطلة من المخالف في الجانبين، فقد تبين أن حالة كحالهم مطلقا. وأما كبرى القياسين

_________

(1) الظاهر في مسألة رد الشمس أن الشيعة سمعوا من علماء أهل السنة احتجاجهم بأن ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعد من المعجزات المحمدية، فتمادوا بعد ذلك في اختراع أن الشمس ردت لعلي مرتين. ولما كان الإمام ابن حزم يناظر الرهبان الاسبانيين في صحة الأناجيل احتجوا عليه بأن الشيعة يطعنون في صحة القرآن، فروى في كتابه (الفصل في الملل والنحل) ج 2 ص 78 طبعة 1321 أنه قال لهم: «إن الروافض ليسوا من المسلمين، وأقلهم غلوا يقولون إن الشمس ردت على علي بن أبي طالب مرتين، فقوم هذا أقل مراتبهم في الكذب، أيستشفع منهم كذب يأتون به؟

(2) المخالفون عند الإمامية كل من خالف عقيدتهم في الاعتقاد بالأئمة الاثني عشر وبالأخص أهل السنة. قال ابن بابويه: «لا يصح إيمان المخالفين بالبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب ... ولا يكون الإيمان صحيحا من مؤمن إلا من آمن بالمهدي القائم - عليه السلام - والأئمة عليهم السلام»، وقال الطوسي: «إن المخالف لأهل الحق كافر فيجب أن يكون حكمه حكم الكفار». تهذيب الأحكام: 1/ 335.

(1/187)

________________________________________

فالأولى منقوضة بالأنبياء عليهم السلام لأنهم قد قدح فيهم وطعن عليهم المبطلون، وكل ما يمنع تحقق العالم يمنع تحصل الخاص بالضرورة. والأخرى بمن سلم منها باتفاق الفريقين كابن عباس وأبي ذر وعمار وأمثالهم، وإذا دريت هذا فانظر أن الذين قالوا بإمامة الخلفاء الثلاثة وهم أهل السنة والمعتزلة لم يرووا من قوادحهم قط، بل قرر الشيعة بسبب بغضهم وعنادهم للخلفاء الثلاثة بعض الأشياء بطريق المطاعن والقوادح، ليست تلك الأشياء في الحقيقة محلا لطعن وقدح أصلا كما سيأتي في المطاعن، ولو كانت محلا لها لكانت على الأنبياء والأئمة أيضا مطاعن، بل من يطالع كتب الشيعة بالتأمل يجدها مملوءة بالمطاعن في الأنبياء والأئمة، وما قالوا من أن أحدا من الموافق والمخالف لم يرو ما يقدح في حق الأمير فخبط آخر، لأنهم إن أرادوا بالمخالف أهل السنة فلا يجدي لهم نفعا، فإن أهل السنة لما كانوا معتقدين بصحة إمامته لم يرووا قوادحه، وإن أرادوا به الخوارج وأمثالهم فكذب صريح فإنهم قد سودوا الدفاتر الطويلة والزبر الكثيرة في هذا الباب. (1) ومن جملة من ذكر المطاعن الأمير عبد الحميد المغربي الناصبي في كتابه، وقد دفع كثيرا منها ابن حزم من علماء أهل السنة في كتابه (الفصل) (2) والشريف من علماء الشيعة في (تنزيه الأنبياء والأئمة) وأعرضنا عن ذكر تلك المطاعن والجواب عنها، لأن ذكرها مما لا يليق بنا في هذا الكتاب.

 

تتمة لبحث الإمامة

اعلم أن القدر المشترك في جميع فرق الشيعة المجمع عليه بينهم إنما هو كون الأمير - رضي الله تعالى عنه - إماما بلا فصل، وإمامة الخلفاء الثلاثة باطلة ولا أصل لها. وقد تبين بأوضح البيان إبطال أهل السنة عليهم هذا القدر المشترك، واتضح حق الاتضاح مخالفة هؤلاء الفرق كلهم في ذلك القدر بجميع وجوهه لنصوص الكتاب المجيد وأقوال العترة الطاهرة. وأما بعد هذا القدر المشترك فلهم اختلاف كثير فيما بينهم

_________

(1) ولا سيما في مراثيهم لقتلى النهروان. والخوارج كانوا أصحاب علي وجنده في صفين والجمل.

(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل: 4/ 2 وبعدها.

(1/188)

________________________________________

بحيث أن بعضهم يضللون ويكفرون ويبطلون بعضا آخرين ويشنعون عليهم، وكفى الله المؤمنين القتال، فقد سقط عن أهل السنة عبء تلك المجادلة الباطلة فلا حاجة بذكر الاختلافات في هذا الكتاب الذي ألف لما بين أهل السنة والشيعة خاصة. (1)

 

(كثرة اختلاف الشيعة)

ولنذكر قليلا من أقوالهم في شروط الإمامة ومعناها وتعيين الأئمة وعددهم تنبيها على أن كثرة الاختلاف في شيء دليل على كذبه، لينقلب عليهم طعنهم الوارد منهم على أهل السنة باختلاف الفروع، لأن اختلافهم في الأصول، وظاهر أن أديان الأنبياء السابقين كانت مختلفة في الفروع فقط ومتفقة في الأصول كما قال الله تعالى {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا} الآية. فالدين الذي تكون أصوله مختلفا فيها هو أعجب الأديان بل هو باطل كملة الكفر، إذ هو حينئذ لا يشبه بدين من أديان الأنبياء الماضيين فضلا عن دين الإسلام.

ثم لا يخفى ان معنى الإمامة عند الغلاة (2) محض الحكومة وإجراء الأحكام والأوامر والنواهي وشأن من شؤون الألوهية، وعند غيرهم معناها نيابة عن النبي في أمور الدين والدنيا. والزيدية قاطبة لا يشترطون العصمة في الإمامة، ولا يحسبون النص في حقه ضروريا أيضا، بل الأفضلية عندهم لازمة أيضا، وإنما معنى الإمامة عندهم الخروج بالسيف، ويعتقدون الإظهار من عمدة شرائط الإمامة. والإسماعيلية - إلا النزارية - يشترطون العصمة، (3) وأما النزارية فهم لا يثبتونها بل يقولون إن الإمام غير مكلف بالفروع، ويجوز له كل ما أراد من السوء والفحشاء كاللواطة والزنا وشرب الخمر ونحوها.

_________

(1) منها اختلافهم في عدد الأئمة أو تحديد المهدي. السيوف المشرقة

(2) نبه المامقاني في غير موضع من كتابه (تنقيح المقال في أحوال الرجال) وهو أعظم كتب الشيعة في الحرج والتعديل على أن الذين كان قدماء الشيعة بأنهم من غلاة الشيعة ويجرحون رواياتهم بسبب ذلك صاروا يعدون الآن عند الشيعة المتأخرين بأنهم غير غلاة، لأن ما كان يسميه قدماء الشيعة غلوا في التشيع هو الآن من أصول العقيدة الإمامية، والشيعة في العصور المتأخرة كلهم على عقيدة الغلو، وليس لهم عقيدة غيرها: لذلك ذهب المامقاني إلى ضرورة العدول عن جرح روايات الذين كانوا يعدون غلاة، وأفتى بوجوب تعديلهم، لأن التشيع نفسه تطور وصار أهله الآن كلهم على مذهب الغلاة القدماء.

(3) مقالات الإسلاميين: ص27؛ الفرق بين الفرق: ص47؛ الملل والنحل: 1/ 168

(1/189)

________________________________________

(1) ونقل شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في التهذيب (2) عن شيخه الملقب بالمفيد أنه قال: إن أبا الحسين الهاروني كان أولا شيعيا قائلا بالإمامة ثم لما التبس عليه أمر التشيع بسبب كثرة اختلاف الإمامية ووجد أخبارهم متناقضة متعارضة بغاية الكثرة والشدة رجع عنه وصار شافعيا، ومن كانوا استفادوا وتلمذوا منه في مدة عمره هذه اتبعوه في الرجوع وتبرأوا من المذهب. (3) والحق أن من تأمل في هذا المذهب تأملا صادقا وعثر على أخبار أصحابه واختلاف أقوالهم كا ينبغي فقد علم باليقين أن سبيل النجاة في هذا المذهب مسدود وطريق الخلاص من مضيق التعارض فيه مفقود، فبالضرورة يتركه ويرجع إلى المذاهب الأخرى إن كان من أهل الحق. وتفصيل ذلك أن الشيعة لهم روايات كثيرة متعارضة عن أئمتهم، بحيث يررون عن كل إمام كلاما مخالفا للإمام الآخر ومخالفا لكتاب الله وسنة رسوله، واحتمال النسخ هنا منتف البتة، إذ ناسخ كلام النبي لا يكون إلا نبيا آخر، ولا يجوز للإمام أن ينسخ أحكاما إلهية أو سنن النبي، وإلا فالإمام لا يكون إماما، إذ الظاهر أن الإمام نائب لا مخالف له ولا نبي مستقل.

وأيضا لو قلنا بالنسخ لقلنا بالضرورة إن الإمام المتأخر ناسخ لكلام الإمام المتقدم، فصار مدار العمل على روايات الإمام المتأخر مع أن هؤلاء الفرقة قد أجمعوا في كثير من المواضع على العمل بروايات المتقدم. (4) وأيضا يمتنع النسخ في الأحكام المؤبدة أيضا وإلا يلزم تكذيب المعصوم، مع أن اختلاف رواياتهم قد وقع في الأحكام المؤبدة أيضا، فزال احتمال النسخ بالكلية، ووجوه ترجيح أحد الخبرين على الأخر لتوثيق رواتهم مطلقا مسدودة، لأن عدة كتب في مذهبهم قرروها كالوحي المنزل من السماء (5) وما أتى به أحد يحسبه الآخر من تراب الأرض، فلو وثقناها كلها بزعم علمائهم لا يمكن ترجيح بعضها على بعض، وإذا قلنا ما قال بعض الإخباريين

_________

(1) الفرق بين الفرق: ص265؛ الملل والنحل: 1/ 167؛ فضائح الباطنية: ص16.

(2) كتاب (التهذيب) أحد الكتب الأربعة التى عليها مدار مذهب الشيعة. وهذه العبارة بشأن أبي الحسين الهاروني في خطبة كتاب التهذيب مع الإسهاب في الاعتراف بأن الشيعة أشد الفرق اختلافا في مسالئلهم وأحكامهم وأن ذلك دليل على فساد الأصل.

(3) تهذيب الأحكام: 1/ 2.

(4) أمثلة في الباب السادس.

(5) روى الصفار عن حمران بن أعين قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: جعلت فداك بلغني أن الله تبارك وتعالى قد ناجى عليا - عليه السلام - قال: أجل قد كان بينهما بالطائف نزل بينهما جبريل». بصائر الدرجات: ص 291؛ المفيد، الاختصاص: ص 278. وينظر ص 160 من هذا الكتاب.

(1/190)

________________________________________

في حق بعضهم وشرعنا في الطعن والجرح عليهم بناء على قولهم يصيرون كلهم مطعونين ومجروحين فلم يظهر سبيل للترجيح أصلا، فبالضرورة لزم تساقط رواياتهم، وانجر الأمر إلى تعطيل الاحكام.

وهذه كلها في روايات فرقة واحدة منهم كالاثني عشرية مثلا، إذ كل عالم منهم يروي مخالفا لرواية الآخر. مثلا جمع منهم رووا بأسانيد صحيحة أن المذي لا ينقض الوضوء، (1) وجمع أخرون رووا كذلك أنه ينقض الوضوء. (2) وجماعة روت أن سجدة السهو لا تجب في الصلاة، وجماعة روت أنها تجب فيها، (3) والأئمة أيضا سجدوا للسهو. (4) وبعضهم يروون أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء، (5) وبعضهم يروون أنه لا ينقضه (6) وجمع يروون أن المصلي إن لعب عبث بلحيته أو بأعضائه الأخر لا تفسد صلاته، (7) وجمع يرون أن المصلي أن يلعب بخصيتيه وذكره تجز صلاته. (8) وهذه الأحوال توجد في جميع أخبارهم كما يشهد بذلك كتاب الفقيه.

ومن تصدى من علمائهم للجمع بين الروايات فقد أتى بأعمال عجيبة، وقد قدموا في هذا الأمر شيخ طائفتهم صاحب التهذيب (9) وغاية سعيه هو الحمل على التقية، (10) وقد حمل في بعض المواضع على التقية شيئا ليس ذلك مذهب أحد من المخالفين أو كان مذهبا ضعيفا بأن المخالفين لم يذهبوا إليه إلا أحد أو اثنان اختاروه، وظاهر أن الأئمة العظام لم يكونوا جبانين خائفين بهذا القدر حتى يبطلوا عباداتهم بتوهم أنه لعل أحدا اختار هذا المذهب ويكون حاضرا في هذا الوقت، معاذ الله من سوء الاعتقاد في جناب الأئمة! وفي بعض المواضع حمل جملة من الخبر على التقية وترك مدلول الجملة الثانية منه الذي هو مخالف لمذهب أهل السنة على حاله. ولو كانت التقية فلا معنى في اختيار التقية في جملة غير مخالفة والإظهار في جملة أخرى هي مخالفة لمذهب أهل السنة. فهل هم يعتقدون أن الأئمة كانوا - معاذ الله - براء من العقل والفهم؟ مثاله خبر علي - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بغسل الوجه مرتين وبتخليل

_________

(1) روى الإمامية عن بريد بن معاوية أنه قال: «سألت أحدهما [الباقر أو الصادق]- عليه السلام - عن المذي فقال: لا ينقض الوضوء ولا يغسل منه ثوب ولا جسد إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق». الكافي: 3/ 39؛ الاستبصار: 1/ 91

(2) روي عن محمد بن إسماعيل قال: «سألت أبا الحسن [الرضا]- عليه السلام - عن المذي؟ فأمرني بالوضوء منه، ثم أعدت عليه سنة أخرى فأمرني بالوضوء منه». ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 1/ 65؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 1/ 18.

(3) رووا عن أبي بصير عن أبي عبد الله [الصادق]- عليه السلام -: «قال إذا لم تدر خمسا صليت أم أربعا فاسجد سجدتي السهو بعد تسليمك وأنت جالس ثم سلم بعدها». الكليني، الكافي: 3/ 355؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 2/ 195.

(4) عن محمد بن علي الحلبي قال: «سمعت أبا عبد الله [الصادق] يقول في سجدتي السهو: بسم الله وبالله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته». الكليني، الكافي: 3/ 356؛ ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 1/ 342؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 2/ 196.

(5) أخرج الطوسي عن زرعة بن سماعة قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن نشد الشعر هل ينقض الوضوء أو ظلم الرجل صاحبه أو الكذب؟ فقال: نعم إلا أن يكون شعرا يصدق فيه أو يكون يسيرا من الشعر، الأبيات الثلاثة والأربعة، فأما أن يكثر من الشعر الباطل فهو ينقض الوضوء». الاستبصار: 1/ 87؛ وسائل الشيعة: 1/ 269.

(6) روى ابن بابويه وغيره عن معاوية بن ميسرة قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن إنشاد الشعر هل ينقض الوضوء؟ قال: لا». من لا يحضره الفقيه: 1/ 63؛ وأخرجه الكليني، الكافي: 1/ 16؛ الطوسي الاستبصار: 1/ 86.

(7) روى الطوسي عن مسلمة بن عطا قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: أي شيء يقطع الصلاة؟ قال: عبث المصلي بلحيته». تهذيب الأحكام: 2/ 378؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة: 7/ 262.

(8) تقدمت

(9) هو محمد بن حسن الطوسي المتوفي سنة 381، وتقدم أن (التهذيب) أحد الكتب الأربعة التى عليها مدار مذهبهم، وهو نفسه مؤلف كتاب (من لا يحضره الفقيه) أراد أن يكون في الفقه للشيعة ككتاب (من لا يحضره الطبيب) في الطب لمحمد بن زكريا الرازي.

(10) في كتابه ما يقارب الخمسمائة رواية عن أئمة أهل البيت فسرها بالتقية، أي نحو خمس روايات الكتاب،

(1/191)

________________________________________

أصابع الرجلين حين غسلهما، (1) مع أن غسل الوجه مرتين مذهب الشيعة لا مذهب أهل السنة (2) فإنهم قد أجمعوا على كون التثليث مسنونا فلزم الجمع بين الإظهار والتقية! (3) وقد ارتكب في بعض المحال تأويلات ركيكة بحيث أسقط كلام الإمام عن علو مرتبة البلاغة.

فمن تأويلهم لكلام السجاد الوارد عنه في دعائه أنه قال «إلهي عصيت وظلمت وتوانيت» وهذا الدعاء عن الأئمة الآخرين أيضا في كتبهم الصحيحة، وعلى كل من تقديري الصدق والكذب هو مناف للعصمة، وليس المحل محل التقية إذ حالة المناجاة لا تسعها وهم يقولون إن مراد الأئمة أن شيعتنا عصوا وظلموا وتوانوا ولكن رضينا بهم شيعة ورضوا بنا أئمة فحالنا حالهم وحالهم حالنا! سبحان الله، لو ثبت هذا الاتحاد في الأحوال بين الشيعة والأئمة كيف سرى عصيان الشيعة وظلمهم وتوانيهم في نفوس الأئمة ولم تسر طاعة الأئمة وعدلهم وعباداتهم في ذوات الشيعة؟ فحينئذ يلزم أن تغلب أحوال الشيعة على أحوال الأئمة وهي صارت مغلوبة، بل يلزم في ذوات الأئمة على هذا التقدير اجتماع أمور متناقضة كالفسق والصلاح والعصمة والمعصية والظلم والعدل، ولا يمكن أن تحمل أحوال الشيعة في حق الأئمة بالمجاز فإنه يمتنع في مثل هذه الأدعية التي يكون الحقيقة فيا من الكلام مقصودة كما هو الأظهر معاذ الله من سوء الاعتقاد! ولم يوجد قط في محاورة العرب والعجم نظير لنحو هذه التأويلات أصلا. وما يلزم - باعتبار علم الإعراب - من ركاكة الألفاظ ههنا غير خاف كحمل ضمير المتكلم الواحد على جمع الغائب وصيغة المتكلم على الغيبة. وباعتبار فن البلاغة من قباحة المعاني كإضافة المتكلم فعل الغير إلى نفسه من غير علاقة صارفة إلى المجاز من السببية والأمرية والمحلية والحالية وغير ذلك مما ذكر في موضعه، ومع ذلك ينسبون مثل هذا الكلام الفاسد إلى من بلغ الدرجة العليا من البلاغة. وما الذي يحمل الأئمة على أن ينسبوا ظلم شيعتهم وعصيانهم إلى أنفسهم فيلوثوا أذيالهم الطاهرة بتلك النسبة حتى جعلوا لمنكري عصمتهم سندا قويا وأضلوا جمعا كثيرا من الأمة بتلك الكلمات التي لم تكن ضرورية لهم حاشاهم ثم حاشاهم. وأيضا الأظهر والأجلى أن المسائل الفروعية قد وقعت فيها اختلافات القرون الأولى ولأهل السنة أيضا

_________

(1) أخرج الطوسي عن علي - رضي الله عنه - قال: «جلست أتوضأ فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ابتدأت بالوضوء فقال لي: تمضمض واستنشق واستن ثم غسلت ثلاثا، فقال: قد يجزيك من ذلك المرتان فغسلت ذراعي ومسحت برأسي مرتين، فقال: قد يجزيك من ذلك المرة، وغسلت قدمي، فقال لي: يا علي خلل بين الأصابع لا تخلل بالنار». الاستبصار: 1/ 65؛ العاملي، وسائل الشيعة: 1/ 421.

(2) ثبت الوضوء بمرة ومرتين وثلاث في كتب الحديث.

(3) الكيدري، إصباح الشيعة: ص 30؛ العاملي، الدورس الشرعية: 1/ 90.

(1/192)

________________________________________

اختلافات فيما بينهم ولا يحسبونها في الفروع نقصانا للمختلفين فيها ولا يطاعنون ولا يعاتب فيها بعضهم بعضا. وكان كل واحد منهم في الزمن الأول يناظر ويحاجج في الفروع ويظهر مذهبه فيها ويقيم الدلائل عليه ويستنبط ويجتهد بلا مخافة ويضعف دلائل مخالفه جهرا. فأي شيء كان حاملا للأئمة على التقية في مسائل الفروع؟ ولقد ناظر الأمير في زمن الخليفة الثاني والثالث مناظرات كثيرة في بيع أمهات الأولاد وتمتع الحج ومسائل أخر حتى انجر الأمر من الجانبين إلى العنف ولم يتنفس أحد منهم ولا سيما الخليفة الثاني فإنه كان بزعم الشيعة في هذا الباب أكثر انقيادا (1) بحيث إذا ذكر أحد دليلا من الكتاب أو السنة بين يديه اعترف حتى ألزمته امرأة من نساء العوام في المغالاة بالمهر وهو صار معترفا وقائلا «كل الناس أفقه من عمر حتى المخدَّرات (2) في الحجال» (3)

وعد الشيعة هذه القصة في مطاعنه فالأمير لم يكن ليستعمل التقية في المسائل الفروعية ويترك إظهار الحكم المنزل من الله الذي كان واجبا عليه إظهاره في ذلك الحين. وأيضا إن الأئمة المتأخرين كالسجاد والباقر والصادق والكاظم والرضا - رضي الله تعالى عنهم - كانوا قدوة أهل السنة وأسوة لهم، وعلماؤهم كالزهري وأبي حنيفة ومالك أخذوا العلم منهم. وقد روى محدثو أهل السنة عنهم في كل فن لا سيما في التفسير أحاديث كثيرة فأي حاجة لهؤلاء الكرام أن يرتكبوا التقية مخافة هؤلاء الناس؟ وهذا الكلام وقع في البين ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول:

 

(اختلاف الإمامية في أئمتهم)

اعلم أن الإمامية قائلون بانحصار الأئمة ولكنهم مختلفون في مقدارهم فقال بعضهم خمسة (4) وبعضهم سبعة (5) وبعضهم ثمانية وبعضهم اثنا عشر (6) وبعضهم ثلاثة عشر (7) وقالت الغلاة الأئمة آلهة أولهم محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحسين ثم من صلح من أولاد الحسين إلى جعفر بن محمد وهو الإله الأصغر وخاتم الآلهة ثم من بعده نوابه وهم من صلح من أولاد جعفر. (8) وذهبت فرقة منهم إلى أن الإمام في هذه الأمة اثنان: محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلي بن أبي طالب، وغيرهما ممن كان لائقا لهذا الأمر من أولاد علي فهم نوابهما. (9) وقالت الحلولية: إن الإمام من يحل فيه الإله وجرى بينهم اختلاف فقال الكيسانية: إن الإمام بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - علي ثم محمد بن الحنفية. (10) وقالت المختارية منهم: إن الإمام بعد علي

_________

(1) كما أورد ابن المطهر الحلي في نهج الحق: ص 277 ويأتي الرد.

(2) قال ابن الأثير: «الخدر: ناحية في البيت يترك عليها ستر فتكون فيه الجارية خدرت فيه مخدرة». النهاية: 2/ 13.

(3) من روايات الإمامية كما في نهج الحق. ضعفها الهيثمي في مجمع الزوائد: 4/ 284؛ وقال عنها البيهقي هي رواية منقطعة: 7/ 244 ..

(4) وهم الذمية. الفرق بين الفرق: ص238؛ التبصير في الدين: ص 129؛ الملل والنحل: 1/ 176؛ المواقف: ص 673.

(5) هم فرقة السبعية من الإسماعيلية. اعتقادات فرق المسلمين: ص80؛ تلبيس إبليس: ص125؛ منهاج السنة النبوية: 3/ 481.

(6) غالبية الشيعة اليوم.

(7) ويسمون الجعفرية، فهم يجعلون بعد الحسن العسكري أخاه جعفرا.

(8) مقالات الإسلاميين: ص 14؛ الفرق بين الفرق: ص 242.

(9) يشبه قول الزيدية. الملل والنحل: 1/ 29.

(10) مقلات الإسلاميين: ص 19؛ اعتقادات فرق المسلمين: ص 62؛ الفرق بين الفرق: ص

(1/193)

________________________________________

الحسن ثم الحسين ثم محمد بن الحنفية. (1) وكل فرقة من فرق الشيعة ينقلون عن إمامهم المزعوم أخبارا وروايات في أحكام الشريعة ويدعون تواترها: فالفرقة الأولى من الكيسانية تقول: إن محمد بن الحنيفة ادعى الإمامة بعد موت أبيه وقد نص أبوه على إمامته. والفرقة الثانية أعني المختارية يقولون: إن ادعاء محمد بن علي (2) للإمامة قد وقع بعد شهادة الإمام الحسين، ولكن رجع في الآخر عن تلك الدعوى وأقر بإمامة ابن أخيه علي بن الحسين - رضي الله تعالى عنهم - أجمعين. وروى الراوندي في (معجزات السجاد) (3) عن الحسين بن أبي العلاء وأبي المعزي حميد بن المثنى جميعا عن أبي بصير عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: جاء محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين فقال: يا علي ألست تقر أني إمام عليك؟ فقال: يا عم لو علمت ذلك ما خالفتك وإن طاعتي عليك وعلى الخلق مفروضة، يا عم أما علمت أن أبي وصى؟ وتشاجرا ساعة فقال علي بن الحسين: بمن ترضى حتى يكون حكما بيننا؟ فقال محمد: بمن شئت. فقال: ترضى أن يكون بيننا الحجر الأسود؟ فقال: سبحان الله! أدعوك إلى الناس وتدعوني إلى حجر لا يتكلم؟ فقال علي: بلى يتكلم، أما علمت أنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان يشهد على من أتاه بالموافاة، فندنو أنا وأنت فندعو الله عز وجل أن ينطقه سبحانه لنا أينا حجة الله على خلقه فانطلقا ووقفا عند مقام إبراهيم ودنيا من الحجر الأسود وقد كان محمد بن الحنفية قال: لئن لم يجبك إلى ما دعوتني إليه إنك إذن لمن الظالمين فقال علي لمحمد: تقدم يا عم إليه فإنك أسن مني.

فقال محمد للحجر: أسألك بحرمة الله وحرمة رسوله

_________

(1) اعتقادات فرق المسلمين: ص 62؛ الملل والنحل: 1/ 147.

(2) هو ابن الحنفية إمام الكيسانية.

(3) فصل من كتابه الخرائج والجرائح: 1/ 255.

(1/194)

________________________________________

وحرمة كل مؤمن إن كنت تعلم أني حجة الله على علي بن الحسين إلا ما نطقت بالحق فلم يجبه ثم قال محمد لعلي: تقدم فاسأله فتقدم علي فتكلم بكلام خفي ثم قال: أسألك بحرمة الله وحرمة رسوله وحرمة أمير المؤمنين علي وبحرمة الحسن والحسين وفاطمة بنت محمد إن كنت تعلم أني حجة الله على عمي إلا ما نطقت بذلك وتثبت له حتى يرجع عن رأيه. فقال الحجر بلسان عربي مبين: يا محمد بن علي اسمع وأطع لعلي بن الحسين لأنه حجة الله عليك وعلى جميع خلقه، فقال ابن الحنفية عند ذلك: سمعت وأطعت وسلمت. (1)

_________

(1) هذه الخرافة من مخترعات الخفاف الزندجي الأعور وزميله أبي المعزي وقد أرادا باختراعها أن يكذبا على التاريخ وعلى آل بيت الرسول صلى الله عليهم بأن هناك وصية بإمامة قبل زمن شيطان الطاق، والحقيقة هي أن آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يدعوا ذلك ولم يعرفوه، ولكن شيطان الطاق اخترعه لهم. فقد نقل المامقاني في تنقيح المقال (ج 1 ص 470) أن إمامهم الكشي نقل في ترجمة شيطان الطاق محمد بن علي أن هذا الشيطان قال: «كنت عند أبي عبد الله (يعني جعفرا الصادق) فدخل زيد بن علي (الإمام الذى يرجع إليه مذهب الزيدية في اليمن وهو عم جعفر الصادق) فقال الإمام زيد لشيطان الطاق: يا محمد بن علي إماما مفترض الطاعة معروفا بعينه؟ قال شيطان الطاق قلت: نعم، أبوك أحدهم. قال له زيد: ويحك، وما منعه أن يقول لي؟ فوالله لقد كان يؤتي بالطعام الحار فيقعدني على فخده ويتناول البضعة فيبردها ثم يلقمنيها، أفتراه كان يشفق علي من حر الطعام ولا يشفق على من حر النار؟ قال شيطان الطاق: قلت كره أن يقول لك فتكفر فيجب عليك من الله الوعيد ولا يكون له فيك شفاعة، فتركك مرجئا لله فيه المسالة، وله فيك الشفاعة» وهكذا اخترع شيطان الطاق أكذوبة الإمامة التى صارت من أصول الديانة عند الشيعة، واتهم الإمام عليا زين العابدين بن الحسين بأنه كتم أساس الدين حتى عن ابنه الذي هو صفوة آل محمد، كما اتهم ابنه الإمام زيدا بأنه لم يبلغ درجة أخس الروافض في قابليته للإيمان بإمامة أبيه. ولو أن غير الكشي من صناديد الشيعة روى هذا الخبر لشككنا في صحته، ولكن الشيعة هم الذين يروونه، ويعلنون فيه أن شيطان الطاق يزعم بوقاحته أنه يعرف عن والد الإمام زيد ما لا يعرفه الإمام زيد من والده مما يتعلق بأصل من أصول الدين عندهم. وليس هذا بكثير على شيطان الطاق الذى روى عنه الحافظ أنه قال في كتابه عن الإمامة إن الله لم يقل {ثاني اثنين إذ هما في الغار} انظر (الفصل) لابن حزم 4: 181.

(1/195)

________________________________________

والكيسانية يصدقون هذه الدعوى ولكنهم ينكرون شهادة الحجر بل يقولون بوقوع الشهادة على العكس. فإن الحجر شهد بدعاء محمد بن الحنفية واعترف علي بن الحسين بإمامته ويؤيدون ذلك بسكوت علي بن الحسين عن الإمامة بعد هذه الواقعة وشروع محمد ابن الحنفية بإرسال رسائله وكتبه إلى المختار وشيعة الكوفة الذين كانوا مشتغلين بقتال المروانية وكانوا يرسلون الهدايا والتحف والخمس إلى محمد بن علي لا إلى علي بن الحسين وما دعاهم علي بن الحسين إلى نفسه (1) وذكر القاضي نور الله التستري في (مجالس المؤمنين) أن محمد بن الحنفية لما مات اعتقد شيعته بإمامة ابنه أبي هاشم، وكان عظيم القدر، والشيعة متبعين له وأوصى محمد بن الحنفية بإمامته، فقد علم صريحا أن محمد بن الحنفية لم يرجع عن اعتقاده حتى فوض الإمامة إلى أولاده (2) وأيضا نقل القاضي كتاب محمد بن الحنفية الذي كان أرسله إلى المختار وشيعته الكوفة بهذه العبارة: أيها المختار اذهب أنت من مكة إلى الكوفة وقل لشيعتنا اخرجوا واطلبوا ثأر الإمام الحسين، وخذ البيعة من أهل الكوفة. قالوا إن أكثر أهل الكوفة قد تولوا عن سليمان بعد إظهار المختار كتاب محمد ابن الحنفية، فقال سليمان لشيعته: إن خرجتم من قبل محمد بن الحنفية فلا بأس به، ولكن إمامي علي بن الحسين. (3) انتهى كلامه. ويدل بالصراحة ما نقله القاضي من الكتاب وقوله «تولوا عن سليمان» على أن محمد بن الحنفية لم يكن رجع عن اعتقاده. وأيضا نقل القاضي (4) عن أبي المؤيد الخوارزمي الزيدي أن المختار أرسل إلى محمد بن الحنفية رءوس أمراء الشام

_________

(1) وبهذا الخبر الثاني تعارض ما تقوله الكيسانية مع الذى تقوله الاثنا عشرية فسقطا جميعا. والخبران مخترعان من رواة كذبة لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا.

(2) محمد بن الحنفية كان أعقل وأتقى لله من أن يدخل نفسه في هذه الفتن التى صرح هو بانها تخالف الشرع عند ما دعاه ابن مطيع في المدينة إلى أقل من ذلك (انظر البداية والنهاية للحافظ ابن كثير) ج 8 ص 233.

(3) ينظر المجلسي في بحار الأنوار: 45/ 359.

(4) نور الله التستري.

(1/196)

________________________________________

مع كتاب الفتح وثلاثين ألف دينار إلى الإمام علي بن الحسين، وقد صلى هو ركعتين شكرا على هذه الموهبة، وأمر أن يعلقوا رءوس أهل الشام، وقد منعه ابن الزبير من التعليق وأمر بدفنها فدفنوها. (1) انتهى كلامه.

فقد تبين أن المختار كان معتقدا بإمامة محمد بن علي، ولا يحمل اعتقاده على التقية إذ لا ضرورة له عليها. وينبغي أن يستمع الآن كلام القاضي نور الله الآخر، ويفهم منه المدعى، فإنه نقل في أحوال المختار عن العلامة الحلي انه قال لا كلام للشيعة في حسن عقيدته، (2) غاية الأمر أنهم كانوا يعترضون على بعض أعماله ويذكرونه بالسوء فاطلع الإمام الباقر على ذلك فمنع الشيعة من التعرض للمختار وقال: «إنه قتل قتلتنا، وأرسل نقودا كثيرة» (3) فلا بد للعاقل أن يتأمل ههنا إذ يعلم من هذا الكلام أن إنكار إمامة إمام الوقت (4) لا يكون سببا للسب والشتم في حق ذلك المنكر.

_________

(1) ينظر بحار الأنوار: 45/ 386.

(2) الخلاصة: ص 169.

(3) عن أبي عبد الله أنه قال: «لا تسبوا المختار فإنه قتل قتلتنا، وطلب بثأرنا، وزوج أراملنا، وقسم فينا المال على العسرة». رجال الكشي: ص 125؛ رجال ابن أبي داود: ص 513.

(4) هو عند الإمامية الإمام المعصوم حاضرا كان أم غائبا.

(1/197)

________________________________________

(1) بل يلاحظ محبته لأهل بيت الرسول، وجهاده أعداء الله، وإذلال الكفرة والانتقام منهم (2) وإعلاء كلمة الله تنجيه وتوجب فلاحه، وما يصدر منه من الشنائع يجب علينا أن نستره ونستغفر الله له. وهذا هو مذهب أهل السنة في حق من ينكر إمامة إمام وقته ولكنه متصف بهذه الصفات المذكورة.

وقالت (الزيدية): إن الإمام بعد الإمام الحسين زيد بن علي، ولا يقولون بإمامة علي بن الحسين لأن الخروج بالسيف شرط للإمامة عندهم، والسكوت والتقية منافيان لها ويررون أن زيد بن علي نقل عن أبيه عن جده عن أمير المؤمنين نصوصا وبشارات في حق إمامته، وكان زيد بن علي منكرا لجميع معتقدات الإمامية كما روى الزيدية والإمامية معا إنكاره. (3)

و (الباقرية) يعتقدون أن الإمام الباقر مهدي موعود، وحي لا يموت.

وكذلك (الناووسية) في حق الإمام الصادق، ويروون نصا صريحا بزعمهم عن الصادق وهو قوله «لو رأيتم رأسي تدهده - أي تدحرج - عليكم من هذا الجبل فلا تصدقوا، فإن صاحبكم صاحب السنين».

وروى (المهدوية) من الإسماعيلية في حق إسماعيل بن جعفر نصه بالتواتر أن هذا الأمر في الأكبر، ما لم تكن به عاهة. ويكذبون الإمام الكاظم في دعوى الإمامة ويذكرونه بالسوء فإنه أنكر النص المتواتر بزعمهم كأبي بكر في حق علي.

وقالت (القرامطة) صار محمد إماما بعد أبيه إسماعيل.

_________

(1) والواقع أن إمامة الوقت لم تكن اخترعت بعد، والإمام الباقر وأبوه علي زين العابدين عاشا وماتا وهما لا يعرفان أنفسهما أنهما إماما الوقت، وكل ما يعرفانه أنهما من بيت النبوة وأن الإمامة تستمد من بيعة المسلمين لمن بايعونه، بل إن جدهما أمير المؤمنين عليا نفسه لما بويع يوم الخميس 24 ذي الحجة سنة 35 (كما ورد في تاريخ الطبري ج 6 ص 157) ارتقى في يوم الجمعة 25 منه أعواد منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «أيها الناس عن ملأ وأذن. إن هذا أمركم، ليس لأحد حق إلا أن أمرتم. وقد افترقنا في الأمس على أمر (أي على البيعة له) فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد.» فهو يعلن على رءوس الأشهاد في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى منبره وبعد البيعة له أنه لا يستمد الخلافة من حق يدعيه ولا من شئ سبق، بل يستمدها من البيعة إذا أرتضها الأمة، وإلا فإنه - كإخوانه الثلاثة الذين سبقوه - أرفع من أن يجعلها أكبر همه وغرض نفسه. هذا هو الذي وقع، وهذه الحقائق صدرت من فم علي بن أبي طالب نفسه، ومن سنة 35 إلى اليوم الذى تحاور فيه الإمام زيد بن علي بن الحسين مع شيطان الطاق لم يخطر على بال أحد من آل البيت - رضي الله عنهم - لا علي، ولا الحسن، ولا الحسين، ولا علي بن الحسين، ولا محمد بن الباقر، ولا غيرهم - أن هناك إمامة لآل البيت كما اخترعها شيطان الطاق فأساء بذلك إلى الإسلام وإلى آل البيت، وإلى أمة محمد جميعا، فالله حسبه.

(2) المؤلف يستعمل أسلوب الشيعة ويتكلم بلغتهم لإلزامهم وإقامة الحجة عليهم.

(3) رووا أن شيطان الطاق قال: «إن زيد بن علي بن الحسين بعث إليه وهو مختفٍ قال فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منا أتخرج معه؟ قال فقلت له: إن كان أبوك أو أخوك خرجت معه، قال فقال لي: فإني أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي، قال قلت: لا أفعل جعلت فداك قال فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قال فقلت له: إنما هي نفس واحدة، فإن كان لله عز وجل في الأرض معك حجة فالمتخلف عنك ناج والخارج معك هالك، وإن لم يكن لله معك حجة فالمتخلف عنك والخارج معك سواء، قال: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي علي فيلقمني اللقمة ويبرد لي اللقمة الحرة حتى تبرد من شفقته عليّ، ولم يشفق عليّ من حر النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني ... ». الكافي: 1/ 174؛ الاحتجاج: ص 376. وهذا يعارض رواية الحجر الأسود لأنه ينفي الإمامة عن علي بن الحسين أيضا وبعد خروجه

(1/198)

________________________________________

و (الأفطحية) يعتقدون أن عبد الله بن جعفر إمام بلا فصل بعد أبيه لكونه شقيقا لإسماعيل، ولما مات إسماعيل بحضور أبيه وكان النص في حقه بعد موت أبيه أصاب ذلك الشقيق مضمون ذلك النص ميراثا لا غيره من بني العلات، (1) وكانت أم إسماعيل وعبد الله فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فهذان الأخوان كانا سيدين حسينين من الطرفين.

وقالت (الموسوية) إن الإمام بعد الصادق موسى الكاظم.

وقالت (الممطورية) هو حي لا يموت وهو القائم المنتظر، ويروون عن الأمير نصا متواترا في هذا المدعى أنه قال «سابعهم قائمهم!». و (الاثنا عشرية) معتقدون الإمامية إلى الإمام العسكري بالاتفاق. ثم اختلفوا فقالت (الجعفرية) بإمامة جغفر بن علي، ويقولون: إن الإمام العسكري لم يخلف أبنا، بدليل أن تركته قد ورثها أخوه جعفر كما ثبت بالإجماع، ولو كان له ولد لم يصب جعفر ميراثه. وقيل كان للإمام العسكري ولد صغير مات في زمن أبيه. وروى الكليني عن زرارة أبن أعين عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال لا بد للغلام من غيبة. قلت: ولم؟ قال: يخاف! قلت: وما يخاف؟ فأومأ بيده إلى بطنه. (2) وفهم بعض الاثني عشرية معنى الإشارة «أن الناس كانوا يشكون في ولادته: سيقول بعض منهم سقط حمله، وبعض يقولون لم يكن حمل أيضا» (3) ولكن لا يخفى على العاقل أن إشارة الإمام إلى بطنه في جواب «ما يخاف؟» تأبى هذا المعنى صريحا، لأن الجنين لا يكون له خوف، ولو وجد الخوف لا يندفع باختلاف الناس. (4)

هذا بالجملة، إنما المقصود من بيان اختلاف فرقتهم وادعاء كل منهم التواتر على

_________

(1) «بنو العلات: بنو رجل واحد من أمهات شتى». لسان العرب: مادة علل، 11/ 470.

(2) الكافي: 1/ 342.

(3) ينظر كلام ابن طاوس في جمال الأسبوع: ص 520.

(4) أخرج ابن بابويه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا بد للغلام من غيبة، فقيل له: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل». علل الشرائع: 1/ 243.

(1/199)

________________________________________

مزعوماتهم هو أن يستدل بذلك على كذبهم وافترائهم؛ إذ لو تواتر خبر إحدى فرقهم أيضا لم يقع الاختلاف قط بينهم، ولم ينازع محمد بن الحنفية السجاد ولم يحكما الحجر الأسود! ولم يقع تنازع بين زيد بن علي والإمام الباقر، وبين جعفر بن علي وبين محمد المهدي، فإن أهل البيت أدرى بما فيه. ومن هذا ينبغي للعاقل أن يتفطن لكذب جميع فرقهم، فإن هذه كلها افتراءات لهم قرروا - على وفق مصلحة الوقت - إماما بزعمهم وأخذوا يدعون إليه ليأخذوا بهذه الذريعة الخمس والنذور والتحف والهدايا من أتباعهم باسم إمامهم المزعوم ويتعيشوا بها، ومتأخروهم قد قلدوا أوائلهم بلا دليل وسقطوا في ورطة الضلال {إنهم ألفوا آباءهم ضالين، فهم على آثارهم يهرعون}.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

الباب السادس في بعض عقائد الإمامية المخالفة لعقائد أهل السنة

العقيدة الأولى

مذهب أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه بعث العباد بحيث يكون تركه قبيحا عقليا. نعم ولكن البعث والحشر والنشر متحتم الوقوع ألبتة لوعده تعالى بذلك حتى لا يلزم خلف الوعد. وقالت الإمامية بوجوب البعث عليه تعالى وجوبا عقليا، والآيات الكثيرة التي هي دالة على أن البعث المعاد متعلقان بوعده تعالى، وما وقع في آخر تلك الآيات من نحو قوله تعالى {إن الله لا يخلف الميعاد} مكذبة تكذيبا صريحا لعقيدتهم هذه، وقد سبق أن الوجوب على الله تعالى لا معنى له أصلا.

 

العقيدة الثانية

مذهب أهل السنة أن الأموات لا رجعة لهم في الدنيا قبل يوم القيامة. وقالت الإمامية قاطبة وبعض الفرق الأخرى من الروافض أيضا برجعة بعض الأموات، (1) فإنهم يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والوصي والسبطين وأعداءهم - يعني الخلفاء الثلاثة

_________

(1) قال ابن بابويه: «إن الذي تذهب إليه الشيعة الإمامية انّ الله تعالي يعيد عند ظهور لمهدي قوما ممن كان تقدم موته من شيعته وقوما من أعدائه». وقال المفيد: «اتفقت الامامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة». نجم الدين الطبرسي، الرجعة: ص 4.

(1/200)

________________________________________

ومعاوية ويزيد ومروان وابن زياد وأمثالهم - وكذا الأئمة الآخرين وقاتليهم يحيون بعد ظهور المهدي، ويعذب قبل حادثة الدجال كل من ظلم الأئمة ويقتص منهم، ثم يموتون ثم يحيون يوم القيامة.

وهذه العقيدة مخالفة صريحا للكتاب، فإن الرجعة قد أبطلت في أيات كثيرة منها قوله تعالى {قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} ولا يخفى أن مناط التمسك ومحطه إنما هو قوله {من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} (1) فلا يمكن للشيعة أن يقولوا إن الرجعة تستحيل للعمل الصالح لا للقصاص وإقامة الحد والتعزير لما وقع المنع من الرجعة آخر الآية مطلقا. وقال الشريف المرتضى في (المسائل الناصرية): (2) إن أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي، قيل: إن تلك الشجرة تكون رطبة قبل الصلب فتصير يابسة بعده، فهذا الأمر سيضل به جمع، وهم يقولون: إن هذين البريئين قد ظلما، ولذا صارت الشجرة الخضراء يابسة. وقيل تكون تلك الشجرة يابسة قبل الصلب ثم تصير رطبة خضراء بعد الصلب، وبهذا السبب يهتدي خلق كثير. (3)

والعجب ان هؤلاء الكذابين مختلفون بينهم في هذا الكذب أيضا، فقال جابر الجعفي (4) هو من قدماء هذه الفرقة: إن أمير المؤمنين يرجع إلى الدنيا ودابة الأرض المذكورة في القرآن عبارة عنه. (5) معاذ الله من سوء الأدب.

والزيدية

_________

(1) ينظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 12/ 149.

(2) تصنيف علي بن الحسين بن موسى الموسوي (ت 436هـ)،

(3) من حديث طويل عند ابن رستم الطبري يقول فيه المهدي: «وأجيء إلى يثرب فأهدم الحجرة [أي التي دفن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه] وأخرج من بها وهما طريان [يعني أبا بكر وعمر - رضي الله عنهم - ا] فأمر بهما تجاه البقيع، وآمر بخشبتين يصلبان عليها، فتورقان من تحتهما فيفتتن الناس بهما أشد من الأولى ... ». الطبري، دلائل الإمامة: 297؛ المجلسي، بحار الأنوار: 53/ 104.

(4) جابر بن يزيد بن الحرث الجعفي الكوفي، تركه النسائي، وقال يحيى: «لا يكتب حديثه ولا كرامة»، ونقل عباس الدوري عن زائدة: «بأنه كان كذابا»، مات سنة 128هـ. ميزان الاعتدال: 2/ 103.

(5) أخرج القمي عن أبي عبد الله قال: «انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - وهو نائم في المسجد، قد جمع رملا ووضع رأسه عليه، فحركه برجله ثم قال: قم يا دابة الله، فقال رجل من أصحابه يا رسول الله: أيسمي بعضنا بعضا بهذا الاسم؟ فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة، وهو دابة الأرض الذي ذكر الله تعالى في كتابه {وإذا وقع عليهم القول أخرجنا لهم دابة من الأرض} فذكر الآية». تفسير القمي: 2/ 130؛ وأخرجه الصافي في تفسيره: 4/ 74؛ والمجلسي في بحار الأنوار: 39/ 59.

(1/201)

________________________________________

كافة منكرون للرجعة إنكارا شديدا، وقد ذكر في كتبهم رد هذه العقيدة بروايات الأئمة وكفى الله المؤمنين القتال. وقد قال الله تعالى {وهو الذي أحياكم} أي أنشأكم من العدم الفطري {ثم يميتكم} عند انقضاء آجالكم {ثم يحييكم} أي يوم القيامة للجزاء. (1) وقال {وكنتم أمواتا فأحياكم} في الدنيا {ثم يميتكم} بعد انقراض آجالكم {ثم إليه ترجعون}. (2)

والدليل العقلي الموافق لأصول الإمامية على بطلان هذه العقيدة أنهم لو عذبوا بسوء أعمالهم بعد ما رجعوا في الحياة الدنيا ثم يعاد عليهم العذاب في الأخرة لزم الظلم الصريح، فلا بد أن يكونوا في الآخرة معذبين، فحصل لهم تخفيف عظيم عن العذاب المستمر الدائم وراحة أبدية، وذلك مناف لغلط الجناية وعظم الجرم، قال الله تعالى {ولعذاب الآخرة أشد وأبقى}. والدليل الآخر على بطلانها أن الخلفاء الثلاثة لم يرتكبوا ما يوجب تعذيبهم إلا غصب الخلافة وبعض حقوق أهل البيت على زعم الشيعة، وذلك الغصب بعد تسليمه غايته أن يكون فسقا كما عليه متأخروهم أو كفرا كما زعم متقدموهم، ولا شيء من الكفر والفسق يوجب الرجعة في الدنيا بعد الموت قبل البعث، وإلا يلزمهم أن يعتقدوا رجعة الكفرة والفسقة من أهل الأديان كلهم أجمعين، ولا اختصاص لهذا الكفر والفسق بالرجعة، وإلا يلزمهم أن يقولوا بكونها أكبر من الشرك بالله تعالى والكفر به - نعوذ بالله من ذلك - ومن تكذيب الأنبياء وقتلهم بغير حق وإيذائهم ونحوها - معاذ الله من كلها. وهذه اللوازم باطلة محضا عندهم، فقد تبين للعارف المنصف أن هذه العقيدة الخبيثة باطلة على أصولهم والقول بها ضلالة. وأيضا لو كان المقصود من تعذيبهم في الدنيا إيلامهم وإيذائهم يكون ذلك حاصلا لهم في عالم القبر أيضا، فالإحياء عبث والبعث قبيح يجب تنزيه الله تعالى عنه. وإن كان المقصود إظهار جنايتهم عند الناس فقد كان الأولى بذلك الإظهار لمن كانوا معتقدين بحقية خلافتهم وناصرين لهم في زمنهم، فكان لا بد حينئذ أن يؤتى السبطان القدرة على الانتقام منهم حتى لا تضل بقية الأمة ويتبرأوا من أفعالهم. وهذا القدر في تأخير الانتقام بعد ما يمضي أكثر

_________

(1) ابن كثير، التفسير: 3/ 234.

(2) ينظر روح المعاني للآلوسي: 1/ 214.

(1/202)

________________________________________

الأمة ويأتي آخرون لم يطلعوا على فساد أعمالهم وبطلان أحوالهم أصلا خلاف الحكمة والصلاح، فقد لزم منه ترك الأصلح. وليت هذه الأمور تقع في اليوم الآخر (1) حتى يطلع كل من الأولين والآخرين على هذا الجزاء والقصاص فيكون لها وجه في الجملة، بخلاف وقوعها قبله إذا مضى أكثر عمر الأمة وبقيت الدنيا قليلا فإن بعض الناس الذين يحضرون ذلك الوقت إن أطلعوا على جنايتهم وذنوبهم فلا فائدة فيه، لأنه لم يكن في ذلك الوقت من يعرف أبا بكر وعمر ومعاوية فيميز أحدهم عن الآخر، بل ينشأ الاحتمال عند كلهم أن عدة ناس سموهم بأساميهم كيزيد وشمر (2) المجعولين في الأيام العشرة من المحرم للقتل توطئة لتشفية قلوبهم.

ولو كان يكفي قول المهدي والأئمة الآخرين إن فلانا أبو بكر وفلانا عمر فلماذا لا يقبل قولهم في بطلان أمر خلافتهم وغضبهم وظلمهم وتعذيبهم في البرزخ - معاذ الله - حتى يحتاج إلى أحيائهم؟ وأيضا يلزم على هذا التقدير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والوصي والأئمة لابد لهم أن يذوقوا موتا آخر زائدا على سائر الناس للزوم تعاقبه للحياة الدنيا، وظاهر أن الموت أشد آلام الدنيا، فلم يجوز الله سبحانه إيلام أحبائه عبثا؟ وأيضا إذا أحيي هؤلاء الظلمة سيعلمون بالقرائن أنهم أحيوا للتعذيب والقصاص، وأنهم كانوا على الباطل والأئمة على الحق فيتوبون بالضرورة توبة نصوحا إذ التوبة مقبولة في الدنيا ولو بعد الرجعة فكيف يمكن حينئذ تعذيبهم؟ وأيضا يلزم على هذا التقدير إهانة الأمير والسبطين، فإنهم كانوا عند الله أذل من كل ذليل حتى أن الله تعالى لم ينتقم من أعدائهم ولم يجعلهم قادرين عليهم إلا بعد مضي ألف وعدة مئات من السنين إذ يظهر المهدي لإغاثتهم بواسطته وينتقم من أعدائهم ويجعلهم قادرين عليهم! وبالجملة فإن مفاسد هذه العقيدة أزيد من أن تحيط بها الكتابة والعبارة.

_________

(1) والذين يكذبون على الله، ويخترعون هذه السخافات مستبعد عليهم أن يكونوا مؤمنين باليوم الآخر، وكيف يؤمن باليوم الآخر من ينتسب إلى الإسلام ويكون في قلبه كل هذا الحقد الفاجر على مثل أبي بكر وعمر اللذين لم تنجب الإنسانية بعد أنبياء الله من بلغ شانهما؟

(2) شمر بن ذي الجوشن (شراحبيل) بن قرط الضبابي الكلابي، شهد صفين مع علي ثم شارك في قتل الحسين وبعدها قام بالكوفة، وقتله أعوان المختار سنة 66هـ. الكامل في التاريخ: 4/ 92؛ ميزان الاعتدال: 1/ 449.

(1/203)

________________________________________

العقيدة الثالثة

مذهب أهل السنة أن الله يعذب من يشاء ويرحم من يشاء من العصاة. ويعتقد الإمامية أن أحدا منهم لا يُعذب بأي ذنب من صغيرة أو كبيرة لا يوم القيامة ولا في القبر. (1) وهذه العقيدة إجماعية لهم ومسلمة الثبوت عندهم، ويستدلون عليها بأن «حب علي كاف في الخلاص والنجاة» (2) كما تقدم في المقدمة. ولا يفهمون أن حب الله تعالى وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما لم يكن كافيا في النجاة والخلاص من العذاب - بلا إيمان وعمل صالح - كيف يكون حب علي كافيا؟ إن هذه العقيدة خلاف أصولهم ورواياتهم أيضا، ولكن لما كان غرضهم الإباحة والعذر لترك الطاعة وإسقاط التكاليف تلقوها بالقبول، وغلبت أنفسهم الأمارة بالسوء على العلم والعقل وقهرتها. أما المخالفة للأصول فلأنه إذا ارتكب إمامي الكبائر ولم يعاقبه الله على ذلك يلزم ترك الواجب على الله لأن عقاب العصاة واجب على الله عندهم، وأما المخالفة للروايات فلأن الأمير والسجاد والأئمة الآخرين قد روي عنهم في أدعيتهم الصحيحة البكاء والاستعاذة من عذاب الله تعالى، وإذا كان مثل هؤلاء الكرام خاشين هائبين، فكيف يصح لغيرهم أن يغتر بمحبتهم ويتكئ عليها في ترك العمل؟

وفي الأصل هذه العقيدة مأخوذة من اليهود، حيث قالوا {لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون * فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} (3) وعمدة ما يتمسكون به في هذا الباب روايات وضعها رؤسائهم الضالون المضلون. منها ما روى ابن بابويه القمي عن المفصل بن عمر (4) قال: قلت لأبي عبد الله لم صار علي قسيم الجنة والنار؟ قال: لأن حبه إيمان وبغضه كفر، وإنما خلقت الجنة لأهل الإيمان والنار لأهل الكفر فهو قسيم الجنة والنار، لا يدخل الجنة إلا محبوه ولا يدخل النار إلا مبغضوه.» (5)

والدليل على كذب هذه الرواية أن الأئمة ما كانوا ليقولوا بما يخالف القرآن والشريعة أصلا، وإلا فقد كذّبوا أنفسهم وآباءهم.

_________

(1) من مروياتهم فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: «إنك قسيم الجنة والنار». عيون أخبار الرضا: 2/ 27؛ العمدة: ص 265.

(2) يشبه مذهب النصارى الذين رد عليهم القرآن {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا}

(3) ينظر تفسير ابن كثير: 1/ 356.

(4) في الأصل عمرو، وهو المفضل بن عمر بن محمد الجعفي، روايته عند الإمامية عن الصادق، جرحه علماؤهم إلا المفيد، وأجمعوا أنه كان خطابيا، ورغم ذلك قال المامقاني: «إن الرجل صحيح الاعتقاد ثقة جليل لتوثيق المفيد إياه ... ». رجال النجاشي: 2/ 259؛ تنقيح المقال: 3/ 238.

(5) علل الشرائع: 1/ 161؛ معاني الأخبار: ص 206.

(1/204)

________________________________________

وفي هذه الرواية مخالفة للقواعد المقررة في الشريعة بعدة وجوه:

(الأول) أن حب شخص أو بغضه لو كان إيمانا أو كفرا لا يلزم أن يكون ذلك الشخص قسيما للجنة والنار، لأن سائر الأنبياء والمرسلين والأئمة والسبطين لهم هذه الرتبة وليس أحد منهم قسيما لهما.

(الثاني) أن حب الأمير ليس كل الإيمان، وإلا يبطل التوحيد والنبوة والإيمان بالمعاد، والعقائد الضرورية الآخر للشيعة كلها، ولا تمام المشترك بينهما، لأن التوحيد والنبوة أصل أقوى وأهم، وعليه مناط تحصيل الإيمان. وأيضا يلزم على ذلك التقدير أن يجوز سب الأئمة الآخرين وإيذائهم - معاذ الله من ذلك - فلما لم يكن كل الإيمان ولا تمام المشترك بينهما، بل يثبت أنه جزء من أجزاء الإيمان لم يكن ليكفي وحده في دخول الجنة، وهذا هو الأظهر.

(الثالث) أن قولهم «لا يدخل النار إلا مبغضوه» يدل صراحة على أنه لا يدخل النار أحد من الكافرين الذين لم يبغضوه كفرعون وهامان وشداد ونمرود وعاد وثمود وأضرابهم، لوجود الحصر في العبارة، لأن أولئك المذكورين لم يبغضوا عليا بل لم يعرفوه، وهو باطل بالإجماع.

(الرابع) أنا لو أسلمنا ذلك كله فليس لتلك العبارة مساس بمدعاهم، لأن حاصلها أنه لا يدخل الجنة من لا يجب عليا، لا أن كل من يحبه يدخلها. والفرق بينهما واضح، لأن الأول يكون دخول الجنة مقصورا على المحبين بخلاف الثاني فإن فيه كون المحب مقصورا على الدخول فلا يوجد بما سواه ومدعاهم هذا دون الأول.

(الخامس) لو تجاوزنا عن هذه كلها يلزم أن يكون جميع فرق الروافض ناجين، وهو خلاف مذهب الإمامية. ولما لم تنطبق هذه الرواية على غرضهم روى ابن بابويه رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «جاءني جبريل وهو مستبشر فقال: يا محمد، إن الله الأعلى يقرئك السلام وقال: محمد نبيي ورحمتي، وعلي حجتي، لا أعذب من والاه وإن عصاني، ولا أرحم من عاداه وإن أطاعني» (1) والدليل على كذب هذه الرواية أن معنى النبوة ههنا قد ثبت في الحقيقة لعلي لأن حبوط الطاعات إنما هو في حق منكر الأنبياء خاصة، ولزم تفضيل علي على النبي لأنه لم يثبت له رتبة الحجية، إذ منكره يكون من جملة العصاة والمقر به من جملة المطيعين، ومع هذا لا خوف على العاصي ولو كان منكرا للرسول إذا كان

_________

(1) الأمالي: ص 658؛ الطوسي، الأمالي: 118؛ المفيد، الأمالي: ص 76.

(1/205)

________________________________________

محبا لعلي، ولا منفعة ولو كان مؤمنا بالنبي إذا كان يبغض عليا. ولا يخفى أن ذلك مخالف لقوله تعالى {ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} وقوله {ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} وقوله {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدا فيها أبدا} وكل الروايات تخالف النصوص فهي موضوعة جزما كما تقرر عند أصحاب الحديث. وأيضا لزم منها نسخ الصلاة والصوم والطاعة والعبادة وحرمة المعاصي، ولم يبق غير حب علي وبغضه مدار الجزاء، ولزم أن نزول القرآن يكون لضلالة الخلق لا لهدايتهم، إذ لم يذكر فيه حب علي وبغضه مع أنه لا بد منه، ولو كان مذكورا يكون بنوع لا بفهمه كل أحد من المكلفين البتة، وتكليف فهم اللغز لا يتحمله كل أحد، فالقرآن كله يدعو إلى أمر لا يحتاج إليه في الآخرة أصلا، وما ينفع في الآخرة لا أثر له فيه، معاذ الله من ذلك.

هذا وقد رويت روايات أخر في كتبهم المعتبرة مناقضة لهذه الروايات، منها ما روى سيدهم وسندهم حسن بن كبش عن أبي ذر قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي ابن أبي طالب فقال «هذا خير الأولين وخير الأخرين من أهل السماوات وأهل الأرض، هذا سيد الصديقين، هذا سيد الوصيين وإمام المتقين قائد الغر المحجلين. إذا كان يوم القيامة كان على ناقة من نوق الجنة قد أضاءت عرصهة القيامة من ضوئها، على رأسه تاج مرصع من الزبرجد والياقوت. فنقول الملائكة: هذا ملك مقرب، ويقول النبيون: هذا نبي مرسل. فينادي المنادي من تحت بطنان العرش: هذا الصديق الأكبر، هذا وصي حبيب الله علي بن أبي طالب، فيقف على متن جهنم فيخرج منها من يحبه ويدخل فيها من يبغضه، ويأتي أبواب الجنة فيدخل فيها من يشاء بغير حساب». (1) ولا يخفى أن هذه الرواية ناصة صريحا على أن بعض العصاة ممن يحب الأمير يدخلون النار ثم يخرجهم الأمير ويدخلهم الجنة بعد ما يعذبون بقدر أعمالهم، وبينها وبين الرواية الأولى تناقض صريح. ومنها ما روى ابن بابويه القمي عن جابر بن عبد الله - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن عبدا مكث في النار سبعين خريفا كل خريف سبعون سنة، ثم إنه سأل الله تعالى بحق محمد وآله أن يرحمه فأخرجه من النار وغفر له» (2) فإن كان الرجل محبا

_________

(1) هذه روايات الإمامية! ابن شاذان، مائة منقبة: ص 89؛ الأربلي، كشف الغمة: 1/ 345.

(2) الأمالي: ص 672؛ المفيد، الأمالي: ص 218؛ الشعيري، جامع الأخبار: ص 143.

(1/206)

________________________________________

للأمير فلم عذب في النار هذه المدة المديدة؟ وإن كان مبغضا له فلم يدخل الجنة مغفورا له؟ والأظهر أن محبة الأمير لن تفيد أبدا من خالف عقيدته وترك طريقته.

وقد يورد على ذلك أن من كان منكرا لولاية السبطين والبتول والأئمة الأخرين ومحبا للأمير أن يكون من أهل الجنة ولا يمسه عذاب النار أصلا، مع أن ابن المعلم الملقب بالمفيد روى في كتاب (المعراج) له أن الله تعالى قال «يا محمد، لو أن عبدا عبدني حتى يصير كالشن البالي [ثم] (1) أتاني جاحدا لولاية محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ما أسكنته جنتي» (2) فالكيسانية مع جحودهم بولاية السبطين والغلاة مع مخالفتهم عقيدة الأمير لا بد أن يكونوا ناجين من أهل الجنة على ما رواه ابن بابويه. فإن قالت الإمامية: إن هذه الرواية ذكر فيها الجحود بولاية كل واحد من الخمسة فولاية الأمير من جملتها فلعل رد عبارات ذلك الرجل لكونه جحد ولاية الأمير بناء على كون النجاة بناء على كون منوطة بالولاية المطلقة فجحود إحدى الولايات مناف لها: قلنا فعلى هذا جحود ولاية محمد - صلى الله عليه وسلم - المستلزم للكفر يكون كافيا بالإجماع في حبوط الأعمال من غير أن يكون لجحود ولاية علي دخل فيه، فعلم أن المقصود ههنا جحود ولاية كل واحد منهم منفردة وبه يثبت المدعى.

ولما انجر الكلام لزم أن نبين أن الاثني عشرية يعتقدون أن جميع فرق الشيعة - سوى فرقتهم - مخلدون في النار وهم ناجون. (3)

قال ابن المطهر الحلي في (شرحه للتجريد): إن علماءنا لهم اختلاف في حق هؤلاء الفرق، قال بعضهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة وقال بعضهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة وقال ابن نوبخت (4) والعلماء الآخرون يخرجون من النار لعدم الكفر ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان الصحيح الذي يوجب استحقاق ثواب الجنة بل يمكثون في الأعراف خلودا. (5)

وقال صاحب (التقويم) (6) الذي هو من أجل علماء الإمامية: إن الشيعة المحضة قد تفرقت على اثنين وسبعين فرقة والناجية منهم الاثنا عشرية والباقون يعذبون في النار مدة ثم يدخلون الجنة. فهم يثبتون جزما في حق من يحب الأمير إما تعذيبا دائما أو منقطعا. وأيضا قال صاحب التقويم: وأما سائر

_________

(1) ليست في الأصل بل من كتب الإمامية

(2) تفسير فرات: ص 73؛ ابن بابويه، عيون أخبار الرضا: 1/ 58؛ ابن طاوس، اليقين: ص 149.

(3) رووا عن حمران أنه: «سأل عن المخالفين هل هم ممن يخرجون من النار؟ فقال أبو عبد الله: أما يقرؤون قول الله تبارك (ومن دونهما جنتان) إنها جنة دون جنة ونار دون نار، إنهم لا يساكنون أولياء الله، وقال: بينهما والله منزلة، ولكن لا أستطيع أن أتكلم، إن أمرهم لأضيق من الحلقة، إن القائم لو قام لبدأ بهم». بحار الأنوار: 8/ 359. ويشرح المجلسي فيقول: «قوله - عليه السلام -: إن أمرهم: أي المخالفين، لأضيق من الحلقة: أي الأمر في الآخرة مضيق عليهم لا يعفى عنهم كما يعفى عن مذنبي الشيعة، ولو قام القائم بدأ بقتل هؤلاء الكفار، فقوله (لا أستطيع التكلم): أي في تكفيرهم تقية»!!. وقال المجلسي أيضا: «والحاصل إن المخالفين ليسوا من أهل الجنان ولا من أهل المنزلة بين الجنة والنار، وهي الأعراف، بل هم مخلدون في النار ... ». بحار الأنوار: 8/ 360 - 361.

(4) كذا، وهو الحسن بن موسى، أبو محمد النوبختي، قال عنه الذهبي: «العلامة ذو الفنون الشيعي المتفلسف»، وقال عنه النجاشي: «شيخنا المتكلم المبرز على نظرائه في زمانه»، مات بعد سنة 300هـ. رجال النجاشي: 1/ 179؛ سير أعلام النبلاء: 15/ 327؛ لسان الميزان: 2/ 258؛ معجم المؤلفين: 3/ 298.

(5) شرح تجريد الاعتقاد: ص 423 - 424.

(6) محمد باقر بن محمد الحسيني الأسترآبادي الأصفهاني الملقب عندهم بالمحقق الداماد (ت 1040هـ)، وكتابه (تقويم الإيمان). الذريعة: 4/ 396.

(1/207)

________________________________________

الفرق الإسلامية فكلهم مخلدون في النار فمن ههنا علم أن أهل السنة أيضا مخلدون في النار عندهم مه أنهم يحبون الأمير ويعتقدون أن حبه جزء الإيمان فانتقضت قاعدة محبة الأمير طردا وعكسا. ويخالف ذلك أيضا ما رواه ابن بابويه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «والذي بعثني لايعذب بالنار موحد أبدا» (1) وروى الطبرسي في (الاحتجاج) عن الحسن بن علي أنه قال: من أخذ بما عليه أهل القبلة الذي ليس فيه اختلاف ورد علم ما اختلف فيه إلى الله سلم ونجا من النار ودخل الجنة. (2) وروى الكليني بإسناده صحيح عن زرارة قال: قالت لأبي عبد الله: أصلحك الله (3) أرأيت من صام وصلى وحج واجتنب المحارم وحسن ورعه ممن لا يعرف ولا ينصب؟ قال: إن الله يدخله الجنة برحمته. (4)

فهذه الأخبار الثلاثة دالة بالصراحة على نجاة أهل السنة. وكذلك تدل على إبطال قول الجمهور من الروافض وقول صاحب التقويم. وكلام ابن نوبخت المنجم الذي كان في الأصل مجوسيا ولم يطلع على قواعد الإسلام بعد أيضا باطل لا أصل له لأن الأعراف ليس دار الخلد بل أهله يمكثون فيه مدة قليلة ثم يدخلون الجنة كما هو الأصح عند المسلمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

الباب السابع في الأحكام الفقهية

اعلم أن المؤلف (5) قدم بعض بدعهم وأحكامهم الشنيعة قبل أن يشرع في أحكامهم الفقهية على قبح حالهم فقال:

أول أحكامهم إحداثهم عيد غدير خم في اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة وتفضيله على عيدي الفطر والأضحى وتسميته بالعيد الأكبر، (6) كل ذلك صريح المخالفة للشريعة. (7)

الثاني إحداثهم عيد أبيهم (8) (بابا شجاع الدين) الذي لقبوا به (أبا لؤلؤة المجوسي) (9)

_________

(1) الأمالي: ص 295؛ التوحيد: ص 29؛ الفتال، روضة الواعظين: 1/ 42.

(2) الاحتجاج: ص 287.

(3) ودعاؤه له بأن يصلحه الله اعتراف منه باحتمال أن يكون منه عكس ذلك وهو ينافي العصمة التي يدعونها لأبي عبد الله وآبائه.

(4) الكافي: 2/ 20.

(5) مؤلف أصل الكتاب عبد العزيز الدهلوي.

(6) أخرج الطوسي عن محمد بن أحمد بن أبي بصير قال: «كنا عند الرضا - عليه السلام - والمجلس غاص بأهله، فتذاكروا يوم الغدير فأنكره بعض الناس فقال الرضا: ... يا ابن بصير أين ما كنت فاحضر يوم الغدير عند أمير المؤمنين - عليه السلام - فإن الله يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة ويعتق من النار ضعف ما أعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر ... ». تهذيب الأحكام: 6/ 24؛ ابن طاوس، الإقبال: ص 468؛ العاملي، وسائل الشيعة: 14/ 388. وينظر: الأميني، الغدير: 1/ 282.

(7) وهو من إحداث البويهيين، قال المقريزي: «عيد الغدير لم يكن عيدا مشروعا ولا عمله أحد من سلف الأمة المقتدى بهم، وأوّل ما عرف في الإسلام بالعراق أيام معز الدولة علي بن بويه، فإنه أحدثه سنة 352هـ فاتخذه الشيعة من حينئذ عيدا». الخطط المقريزية: 2/ 222؛ وانظر البداية والنهاية:11/ 243.

(8) تسمية العامة من الإمامية كما في بحار الأنوار: 95/ 198.

(9) أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة. ينظر تاريخ الطبري: 2/ 559.

(1/208)

________________________________________

القاتل لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في اليوم التاسع من ربيع الأول بزعمهم. (1) روى علي بن مظاهر الواسطي (2) عن أحمد بن إسحاق (3) أنه قال: هذا اليوم يوم العيد الأكبر ويوم المفاخرة، ويوم التبجيل، ويوم الزكاة العظمى، ويوم البركة، ويوم التسلية. (4) وهذا أحمد (5) أول من أحدث في الإسلام هذا العيد وتبعه إخوانه، ثم نسبوا هذا العيد للأئمة كذبا وافتراء كما هو دأبهم في كل المذهب، مع أن هذا العيد في الأصل من اعيد المجوس، وهم فرحوا فيه حين استمعوا خبر شهادة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على يد أخيهم المجوسي المذكور. (6) مع أن شهادته كانت في اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة بلا اختلاف، ودفنه غرة المحرم، (7) فلو كان الأئمة يتعبدون بهذا العيد لم يبدلوا اليوم. والشيعة معترفون بأن هذا العيد لم يكن في زمن الأئمة وإنما أحدثه أحمد المذكور.

الثالث: تعظيمهم (يوم النيروز) الذي هو من أعياد المجوس. (8) قال ابن فهد في (المهذب) إنه أعظم الأيام، وقد صح عن أمير المؤمنين أن أحدا قد جاءه يوم النيروز بالحلوى والفالوذج فسأله: لم أتيت به؟ فقال: اليوم يوم النيروز، قال - رضي الله عنه -: نيروزنا كل يوم ومهرجاتنا كل يوم. (9) وهذه إشارة إلى نكتة لطيفة أن حسن النيروز إنما هو الشمس تتوجه من معدل النهار بحركتها الخاصة على سكان العروض الشمالية وتقربهم، وبهذا تظهر

_________

(1) الصحيح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - طعن: «يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة أربع وعشرين». تاريخ الطبري: 2/ 561. لكن عند الإمامية تأريخ آخر، قال المجلسي: «ما ذكر من أن مقتله كان في ذي الحجة هو المشهور بين فقهائنا الإمامية». بحار الأنوار: 98/ 118.

(2) علي بن حسن بن أحمد بن مظاهر الحلي، زين الدين، من تلامذة فخر الدين بن الحلي، ومن شيوخ الحر العاملي، نسب له صاحب الذريعة (مقتل عمر بن الخطاب)، مات في أواخر القرن الثامن الهجري. مستدرك أعيان الشيعة: 7/ 166؛ أمل الآمال: 2/ 178؛ الذريعة: 1/ 236، 7/ 102، 15/ 289، 22/ 34.

(3) أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعري، أبو علي القمي، كان الرسول بين القميين وأئمتهم فيأتي إليهم ويأخذ المسائل عنهم، ذكره الكليني فيمن رأى إمام الشيعة الغائب في كتاب الحجة من الكافي، وقال شيخ الطائفة: «وقد كان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة أصلا ومنهم أحمد بن إسحاق»!، له: (كتاب علل الصوم) و (مسائل الرجال). رجال النجاشي: 1/ 234. الطوسي، الغيبة: ص 414.

(4) نقل المجلسي عن الواسطي بإسناد متصل عن محمد بن العلاء الهمداني ويحيى بن محمد بن جريج قالا: «تنازعنا في ابن الخطاب فاشتبه علينا أمره فقصدنا أحمد بن إسحاق القمي صاحب أبي الحسن العسكري - عليه السلام - بمدينة قم وقرعنا عليه الباب، فخرجت إلينا صبية عراقية من داره، فسألناها عنه، فقالت: هو مشغول بعيده فإنه يوم عيد ... فلما خرج وسألاه عنه هذا اليوم - وكان التاسع من شهر ربيع الأول - فقال دخلت في مثل هذا اليوم على سيدي أبي الحسن علي بن محمد العسكري، فقال: إني لأعرف لهذا اليوم اثنين وسبعين اسما، وكان يوم التاسع من شهر ربيع الأول قال أمير المؤمنين: هذا يوم الاستراحة ... » الخ. بحار الأنوار: 31/ 125 - 128.

(5) أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد القمي الأحوص شيح الشيعة القميين ووافدهم زعموا أنه لقى من الأئمة أبا جعفر الثاني وأبا الحسن وكان خاصة أبي محمد، وزعموا أنه حصل على الشرف الأعظم برؤية صاحب الزمان الذي يدعون له بان يعجل الله فرجه. فهو موضع الثقة من الشيعة بل فوق ذلك.

(6) هذا العيد من اختراع أحمد الواسطي، فليس في كتب الإمامية المتقدمة رواية منسوبة إلى الأئمة تخص هذا العيد.

(7) {ومن يضلل الله فلن تجد له وليا مرشدا}.

(8) بوب العاملي بابا في كتابه الوسائل (8/ 172) بعنوان: (استحباب صلاة يوم النيروز والغسل فيه والصوم ولبس أنظف الثياب والطيب وتعظيمه وصب الماء فيه) وبوب له المجلسي أيضا في كتابه وأخرج عن المعلى بن خنيس عن الصادق أنه قال: «إذا كان النيروز فاغتسل والبس أنظف ثيابك وتطيب بأطيب طيبك وتكون ذلك اليوم صائما». بحار الأنوار: 59/ 101. ومع ذلك لديهم نهي الرسول عن أعياد المشركين فقد أخرج النوري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تعالى أبدلكم بيومين يوم النيروز والمهرجان الفطر والأضحى». مستدرك الوسائل: 6/ 32.

(9) أخرجها البيهقي في السنن الكبرى: 9/ 235؛ البخاري في التاريخ الكبير: 4/ 200؛ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: 13/ 326. ومن الإمامية ابن حيون في دعائم الإسلام: 2/ 328؛ النوري في مستدرك الوسائل: 6/ 353

(1/209)

________________________________________

الحرارة في الأبدان والأجسام وتثور النامية وتحصل للنفس النباتية نضارة. وهذا المعنى متحقق في طلوعها كل يوم لأن الشمس إذا تمر بالحركة الأولى - التي هي أسرع الحركات وأظهرها - من دائرة الأفق وتنفض على سكان الأرض نورها وتجلي قوة البصر وتجعل الروح منتعشا وتقع الارتفاقات الخاصة بالإنسان من الزراعة والتجارة والصناعة والحرفة بسببها أحسن وأكثر وتبدو الحياة بعد الموت كقوله تعالى {وجعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا} وقوله تعالى {وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا} فهذا الوقت أحق وأولى بالتعبد، بل إن تأمل العاقل يمكن أن يدري أن الفصول الأربعة تتحقق في مدة دورة ليلة ونهار، فمن وقت الصباح إلى نصف النهار فصل الربيع فحينئذ تكون الخضروات في الطراوة والأزهار وتكون الورود والأزهار منكشفة ناضرة ضاحكة ومزاج الحيوانات في النشاط، وإذا بلغت الشمس قريب دائرة نصف النهار فكأنما وصلت بالحركة الخاصة رأس السرطان فيبرز الصيف حيث يظهر اليبس والعطش في الأجسام ويذبلها حرها، وإذا قربت إلى الغروب صار حكمها كحكم الخريف، وإذا مضى نصف الليل وانتقلت الشمس من الانحطاط إلى الارتفاع فكأنما وصلت رأس الجدي فيبدو حكم الشتاء ويتقاطر الطل كالبرد.

الرابع: تجوز علمائهم السجود للسلاطين الظلمة، فإن باقرا المجلسي (1) وعلماءهم الآخرين (2) قرروها لهم، وهو صريح المخالفة للقواعد الشرعية، (3) لأن السجدة لغير الله تعالى على وجه العبادة أو التعظيم كفر وشرك بدليل قوله تعالى {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون} وقوله تعالى {ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} وغيرها من الآيات الدالة على انحصار السجدة في حق الخالق العليم بالغيب والشهادة خصوصا في الشريعة المحمدية. والتمسك بسجدة الملائكة لآدم ههنا في غاية الفساد، إذ لا يمكن أن تقاس أحكام البشر على أحكام الملك، وبسجود إخوة يوسف فإنه لم يكن أولا سجودا مصطلحا، (4) وثانيا إنما يصلح التمسك

_________

(1) محمد باقر بن محمد تقي بن مقصود، من أشهر كتبه (بحار الأنوار) مات سنة 1111هـ. روضات الجنات: ص 114؛ الذريعة: 2/ 237، 12/ 261.

(2) بحار الأنوار: 12/ 339.

(3) بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لو كنت آمرا أحدا بالسجود لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»، وقد أجمع أعلام الملة الإسلامية على أن السجود لغير الله كفر يخرج فاعله من ملة الإسلام مع العلم بتحريمه.

(4) الجامع لأحكام القرآن: 1/ 289.

(1/210)

________________________________________

بشرائع من قبلنا إذا لم يأت في شريعتنا نسخها وهذا الحكم منسوخ في شريعتنا قطعا. وإلا لكان الحق بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ولنشرع الآن في المسائل الفقهية:

منها أنهم يقولون بطهارة الماء الذي استنجي به ولم يطهر المحل واختلطت أجزاء النجاسة بالماء حتى زاد وزن الماء بذلك، قال ابن المطهر الحلي في (المنتهى): إن طهارة ماء الاستنجاء وجواز استعماله مرة أخرى من إجماعيات الفرقة. (1)

وهذا الحكم مخالف لقواعد الشريعة لقوله تعالى {ويحرم عليهم الخبائث} أي أكلها وأخذها واستعمالها. ولا شك في كون هذا الماء نخسا خبيثا؛ ولروايات الأئمة، فقد روى صاحب (قرب الإسناد) (2) وصاحب كتاب (المسائل) (3) عن علي بن جعفر أنه قال سألت أخي موسى بن جعفر عن جرة فيها ألف رطل من ماء وقع فيه أوقية بول هل يصح شربه أو الوضوء منه؟ قال: لا، النجس لا يجوز استعماله. (4)

والعجب أن مذهب الاثني عشرية في الماء إذا كان أقل من كر ينجس بوقوع النجاسة فيه، (5) فتنجيس مثل هذا الماء القليل جدا بطريق الأولى.

ومنها حكمهم بطهارة الخمر (6) كما نص عليه ابن بابويه (7) والجعفي (8) وابن عقيل. (9)

وهذا الحكم مخالف لصريح الآية {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} والرجس في اللغة أشد النجاسة وأغلظها، كما ورد في حق الخنزير فإنه رجس. ولروايات الأئمة الموجودة في كتب الشيعة. فقد روى صاحب (قرب الإسناد) وصاحب كتاب (المسائل) وأبو جعفر الطوسي عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: لا تصل في الثوب قد أصابه الخمر.

_________

(1) هذا في كتبهم مثل شرائع الإسلام: 1/ 22؛ مختلف الشيعة: 1/ 236.

(2) كتاب (قرب الإسناد إلى صاحب الأمر) لعبد الله بن جعفر بن الحسين بن مالك الحميري القمي قال عنه النجاشي: «شيخ القميين ووجههم»، مات نحو سنة 300هـ. رجال النجاشي: 2/ 18.

(3) مسائل علي بن جعفر. تقدم.

(4) مسائل جعفر بن علي: ص 198. وأخرجها الهمداني في مصباح الفقيه: 1/ 30 - 31؛ والعاملي في وسائل الشيعة: 1/ 156

(5) روى الكليني عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الكر من الماء كم يكون مقداره؟ قال: إذا كان الماء ثلاثة أشبار في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض، فذلك الكر من الماء». الكافي: 3/ 3؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 1/ 42.

(6) نبه الشيخ محمد نصيف في هامش نسخته على أن القول بطهارة الخمر ذهب إليه الظاهرية وبعض الشافعية. انظر شرح المهذب.

(7) قال: «لا بأس بالصلاة في ثوب أصابه خمر لان الله تعالى حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب أصابته». من لا يحضره الفقيه: 1/ 73.

(8) الذريعة: 3/ 343.

(9) نقل الحلي اختلافهم في هذه المسألة فقال: «وقال أبو علي بن أبي عقيل: من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما؛ لأن الله تعالى إنما حرمهما تعبدا لا لأنهما نجسان ... » الخ. مختلف الشيعة: 1/ 469.

(1/211)

________________________________________

ومنها الحكم بطهارة المذي. (1) وهو مخالف للحديث الصحيح المتفق عليه. (2) روى الراوندي عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي أنه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي فقال «يغسل طرف ذكره». (3) وفي الصحيحين روى عن علي قال: كنت رجلا مذاء فكنت أستحي أن أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان أبنته، فأمرت المقداد فسأله فقال «يغسل ذكره ويتوضأ» وكذا روى الترمذي عنه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي بواسطة المقداد - عن المذي فقال «من المذي الوضوء، ومن المني الغسل» (4) وقد أورد أبو جعفر الطوسي أيضا روايات صريحة في نجاسة المذي، ولكن ليس له العمل والفتوى على ذلك.

ومنا القول بعدم انتقاض الوضوء بخروج المذي، (5) مع أنهم يروون عن الأئمة خلاف ذلك. روى الطوسي عن [علي] (6) بن يقطين عن أبي الحسن أنه قال: المذي منه الوضوء. (7) روى الراوندي عن علي قال لأبي ذر أسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المذي فسأل فقال: «يتوضأ وضوءه للصلاة» (8)

ومنها قولهم الودي، وهو بول غليظ جزما. والبول نجس بإجماع الشرائع. (9)

ومنها حكمهم بعد انتقاض الوضوء من خروج الودي (10) مع أنه مخالف لرواية الأئمة روى الراوندي عن علي مرفوعا: الودي فيه الوضوء. (11) روى غيره عن أبي عبد الله مثل ذلك. (12)

ومنها حكمهم بأن للذكر الاستبراء بعد ثلاث مرات بالتحريك، فما خرج بعد ذلك فطاهر وغير ناقض للوضوء أيضا. (13) وهذا الحكم مخالف لصريح الشرع إذ الخارج من السبيلين نجس وناقض للوضوء، والاستبراء لا دخل له في الطهارة اللاحقة وعدم انتقاض الوضوء ولا تأثير له في ذلك. وأيضا مخالف لروايات الأئمة. روى ابن عيسى عن أبي جعفر أنه كتب إليه: هل يجب الوضوء إذا خرج من ذكر بعد الاستبراء؟ قال: نعم. (14)

ومنها أن زرق الديك والدجاج طاهر عندهم، (15) مع أن نجاسته ثبتت بنصوص الأئمة في كتبهم المعتبرة. روى محمد بن الحسن الطوسي عن فارس أنه كتب رجل إلى

_________

(1) تقدم. قال الطوسي: «المذي والودي لا ينقضان الوضوء ولا يغسل منهما ثوب». الخلاف: 1/ 37. وقال الحلي: «اتفق أكثر علمائنا على أن المذي لا ينقض الوضوء ولا أعلم فيه مخالفا إلا ابن الجنيد فإنه قال: إن خرج عقيب شهوة ففيه الوضوء». مختلف الشيعة: 1/ 260.

(2) متفق عليه بين أهل السنة والإمامية

(3) الراوندي، النوادر: ص 45؛ النوري، مستدرك الوسائل: 1/ 237.

(4) صحيح الجامع: رقم 5910.

(5) قال الطوسي: «فأما المذي والودي فإنهما لا ينقضان الوضوء، والذي يدل على ذلك ... ». وروى عن زيد الشحام قال: «قلت: لأبي عبد الله المذي ينقض الوضوء؟ قل: لا ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد، إنما هو بمنزلة البزاق والمخاط». تهذيب الأحكام: 1/ 17.

(6) في الأصل يعقوب بن يقطين، والتصحيح من كتاب الطوسي.

(7) أخرجها الطوسي في تهذيب الأحكام: 1/ 19. وعلق في كتابه الآخر: «ويمكن أن نحمله على ضرب من التقية؛ لأن ذلك مذهب أكثر العامة». الاستبصار: 1/ 95. ويعني بالعامة أهل السنة.

(8) النوادر: ص 45؛ النوري، مستدرك الوسائل: 1/ 237. لكن السائل هو المقداد بن الأسود،

(9) كما قال ابن إدريس في السرائر: 1/ 116.

(10) أخرج الطوسي عن الصادق قال: «الودي لا ينقض الوضوء إنما هو بمنزلة المخاط والبزاق». تهذيب الأحكام: 1/ 21

(11) النوادر: ص 45؛ النوري، مستدرك الوسائل: 1/ 327.

(12) أخرج الطوسي عن ابن سنان عن أبي عبد الله قال: «ثلاث يخرجن من الإحليل وهن: المني فمنه الغسل، والودي فمنه الوضوء لأنه يخرج من دريدة البول» تهذيب الأحكام: 1/ 20؛ الاستبصار: 1/ 94. وترك الطوسي هذه الروايات الصحيحة وأخذ برواية حريز المقطوعة التي رويت (عمن أخبره) عن الصادق.

(13) أخرج الكليني عن ابن مسلم قال: «قلت لأبي جعفر - عليه السلام -: رجل بال ولم يكن معه ماء؟ قال: يعصر أصل ذكره إلى طرف ذكره ثلاث مرات وينتر طرفه، فإن خرج منه بعد ذلك شيء فليس من البول ولكنه من الحبائل». الكافي: 3/ 19؛ والطوسي في تهذيب الأحكام: 1/ 356.

(14) تهذيب الأحكام: 1/ 28؛ الاستبصار: 1/ 49. وعلق في الاستبصار قائلا: «يجوز أن يكون محمولا على ضرب من الاستحباب أو على التقية؛ لأن ذلك مذهب كثير من العامة».

(15) السرائر: 1/ 78؛ شرائع الإسلام: 1/ 69.

(1/212)

________________________________________

صاحب العسكر يسأله عن زرق الدجاج يجوز الصلاة فيه؟ فكتب: لا. وأيضا مخالف لقاعدتهم الكلية أن زرق الحلال من الحيوان نجس، نص عليه الحلي في المنتهى. (1)

 

صفة الوضوء والغسل والتيمم

ليس عندهم غسل كل الوجه فرضا، مع أن نص الكتاب يدل على غسله كله، قال تعالى {فاغسلوا وجوهكم} والوجه ما يواجه به، وهو من منبت قصاص الجبهة غالبا إلى آخر الذقن، ومن إحدى شحمتي الأذن إلى الأخرى. وقد قدروا حد الفرض في غسل الوجه ما يدخل بين الإبهام والوسطي إذا انجرت اليد من الجبهة إلى الأسفل، (2) وليس لهذا التقدير أصل في الشرع اصلا، ولم تجئ فيه رواية عن الأئمة. والدليل على بطلانه أن الإبهام والوسطى لو جررناهما ممتدتين من الأعلى إلى الأسفل فإذا اتصلتا إلى الذقن لابد أن تحيطا من الحلق ببعضه من الطرفين، فيلزم أن يكون غسل ذلك القدر من الحلق فرضا أيضا، مع أن الحلق لم يعده أحد داخلا في الوجه، ولو بسطنا الإصبعين المذكورتين بمحاذاة الجبهة وقبضناهما بالتدريج فحد القبض لا يعلم أصلا، والتقديرات الشرعية تكون لإعلام المكلفين لا لتجهيلهم.

وأيضا يقولون: إن الوضوء مع غسل الجنابة حرام! (3) وهذا الحكم مخالف لصريح السنة النبوية فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ في غسل الجنابة ابتداء دائما، ثم كان يصب الماء على البدن كما ثبت. (4) ولروايات الأئمة: روى الكليني عن محمد بن مبشر عن أبي عبد الله - عليه السلام - والحسن بن سعيد (5) عن الخضرمي عن أبي جعفر أنهما قالا: توضأ ثم تغتسل، حين سئلا عن كيفية غسل الجنابة. (6)

وأيضا يقولون غسل النيروز سنة (7) كما قاله ابن فهد. وهذا الحكم محض ابتداع في الدين، إذ لم ينقل في كتبهم أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمير والأئمة أنهم اغتسلوا يوم النيروز، بل لم يكن العرب يعلمون يوم النيروز لأنه من الأعياد الخاصة بالمجوس.

وأيضا يقولون: يجزئ غسل الميت الذي كان واجب القتل حدا أو قصاصا إذا غسل نفسه قبل قتله ولا يعاد عليه الغسل بعد القتل (8) كما نص عليه بهاء الدين العاملي (9) في جامعه. (10) وأنت خبير بأن علة الحكم قبل القتل غير متحققة البتة فكيف يترتب الحكم؟

_________

(1) وأيضا في كتابه مختلف الشيعة: 1/ 455.

(2) الحلبي، الكافي: ص 83؛ الهداية: ص 62؛ مختلف الشيعة: 1/ 287.

(3) قال المفيد: «وليس على المجنب وضوء مع الغسل، ومتى اغتسل على ما وصفناه فقد طهر للصلاة، وإن لم يتوضأ قبل الغسل ولا بعده، وإن ارتمس في الماء للغسل من الجنابة أجزأه عن الوضوء للصلاة». المقنعة: ص 61؛ النراقي، مستند الشيعة: 1/ 128.

(4) في صحيح البخاري أن ميمونة - رضي الله عنها - قالت: «وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءا لجنابة، فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثا، ثم غسل فرجه ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا، ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل جسده، ثم تنحى فغسل رجليه، قالت: فأتيته بخرقة فلم يردها فجعل ينفض بيده». كتاب الغسل، باب من توضأ في الجنابة: 1/ 106، رقم 270.

(5) في الأصل ابن سعد والتصحيح من كتب الإمامية.

(6) أخرجه الطوسي في تهذيب الأحكام: 1/ 140؛ الاستبصار: 1/ 126.

(7) في الوسائل للعاملي (8/ 172) باب: (استحباب صلاة يوم النيروز والغسل فيه والصوم ولبس أنظف الثياب والطيب وتعظيمه وصب الماء فيه) وبوب له أيضا المجلسي وأخرج عن المعلى بن خنيس عن الصادق أنه قال في يوم النيروز: «إذا كان النيروز فاغتسل والبس أنظف ثيابك وتطيب بأطيب طيبك وتكون ذلك اليوم صائما». بحار الأنوار: 59/ 101.

(8) قال ابن إدريس في حد تنفيذ القتل بالقاتل: «يجب أن يغتسل قبل موته ولا يجب غسله بعد موته وقتله، وهو المقتول قودا والمرجوم فإنهما يؤمران بالاغتسال فإذا اغتسلا قتلا ولا يجب غسلهما بعد قتلهما ويجب على من مسهما بعد القتل الغسل ... »، السرائر، باب الحدود: 1/ 471؛ وكذلك الحلي في شرائع الإسلام: 1/ 82.

(9) بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد بن محمد الحارثي الهمذاني العاملي، قال عنه الحر العاملي: «كان ماهرا متبحرا جامعا شاعرا ... »، مات سنة 1030هـ. أمل الآمال: 1/ 155؛ أعيان الشيعة: 9/ 234.

(10) كتاب في الفقه اسمه الجامع العباسي.

(1/213)

________________________________________

وإذا وجدت كيف لا يترتب؟ فحينئذ لزم الانفكاك بينهما. والحال أن العلل الشرعية كالعقلية في ترتب ما يتوقف عليها ويحتاج إليها وجودا وعدما.

وأيضا قرروا للتيمم ضربة واحدة، (1) وروايات الأئمة فيه ناطقة بخلافه. روى العلاء (2) عن محمد بن مسلم عن أحدهما (3) قال سألته عن التيمم فقال: «مرتين: مرة للوجه ومرة لليدين» (4) وروى ليث المرادي عن أبي عبد الله نحوه، (5) وإسماعيل بن همام الكندي عن الرضا نحوه. (6) وزادوا في التيمم مسح الجبهة ولا أصل له في الشرع. (7)

وأيضا يقولون: إن الخف والقلنسوة والجوارب والنطاق والعمامة والتكة (8) وكل ما يكون على بدن المصلي إن تلطخ بالنجاسة - سواء كانت مخففة أو مغلظة كبراز الإنسان - يجوز معها الصلاة ولا فساد لها. (9) وهذا الحكم صريح المخالفة للكتاب: أعني قوله تعالى {وثيابك فطهر} ولا شك أن هذه الأشياء يطلق عليها لفظ الثياب شرعا وعرفا، ولهذا تدخل هي في يمين ينعقد بلفظ الثياب نفيا وإثباتا.

وأيضا يقولون: إن ثياب بدن المصلي كالإزار والقميص والسراويل إن تلطخت بدم الجرح والقروح يجوز بها الصلاة ولا ضير، (10) مع أن الدم والصديد ونحوهما سواء كانت من جرحه أو من جرح غيره نجس بلا شبهة. وأنت تعلم أن هذا في حق غير من أبتلي بهما، وأما في حقه فمعفو. وكل من الدم والصديد والقيح ونحوهما مما يتعسر الاحتراز عنه ويشق عليه معفو لعموم البلوى وعدم الحرج في الشرع.

وأيضاُ يقولون: يجوز في صلاة النافلة قائما كان المصلي أو قاعدا وكذا في سجدة التلاوة استقبال غير جهة القبلة، (11) وهذا إحداث صريح في الدين وأمر لم يؤذن به. وأما حالة الركوب والسفر فمخصوصة (12) البتة من عموم وجوب الاستقبال إلى القبلة بروايات الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأئمة، (13) وبدون هذا العذر لم يثبت ترك الاستقبال قط، قال تعالى: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم

_________

(1) ينظر الناصريات للمرتضى ص 84، والغنية لابن زهرة ص 85، وشرائع الإسلام للحلي 1/ 71.

(2) العلاء بن رزيق القلاء، يروي عند الإمامية عن الصادق، قال عنه النجاشي: «ثقة وجها». رجال النجاشي: 2/ 153.

(3) الأصل (أحدهم) والتصحيح من كتب الإمامية.

(4) الطوسي في تهذيب الأحكام: 1/ 210؛ والاستبصار: 1/ 172.

(5) الطوسي في تهذيب الأحكام: 1/ 209؛ والحر العاملي في وسائل الشيعة: 3/ 361.

(6) الطوسي، تهذيب الأحكام: 1/ 210؛ الاستبصار: 1/ 172.

(7) قال الطوسي: «إن المسح يجب في التيمم ببعض الوجه وهو الجبهة والحاجبان». تهذيب الأحكام: 1/ 61.

(8) التِّكَّة: واحدة التّكك وهي رباط السراويل. لسان العرب: تكك: 10/ 406.

(9) قال المفيد: «وإن أصابت تكته أو جوربه [نجاسة] لم يحرج بالصلاة فيها، وذلك مما لا تتم الصلاة بهما دون ما سواهما من اللباس». المقنعة: ص 36.

(10) عن ليث قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - الرجل تكون فيه الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوه دما وقيحا؟ فقال: يصلي في ثيابه ولا يغسلها ولا شيء عليه». تهذيب التهذيب: 1/ 258.

(11) ابن بابويه، المقنع: ص 53؛ ابن إدريس، السرائر: 1/ 105. وقال العاملي في سجود التلاوة: «ولا يشترط الطهارة ولا استقبال القبلة على الأصح». الدروس: ص 84.

(12) أي مستثناة.

(13) واستقبال القبلة من شروط الصلاة عند الإمامية. وروى الطوسي عن بشر بن جعفر قال: «سمعت جعفر بن محمد يقول: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة للناس جميعا». تهذيب الأحكام: 2/ 44؛ وأخرج رواية شبيهة ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 2/ 195.

(1/214)

________________________________________

شطره} وكل ما خصصه الشارع من هذا العموم فهو على الرأس والعين، وليس لغيره جواز التخصيص بأن يستثنى بعقله ما ورد في الشرع عاما. ولقد أنصف في هذه المسألة شيخهم المقداد في كنز العرفان وحكم بمخالفة هذا الحكم للقرآن واعترف به. (1)

وأيضا يقولون: إن المصلي لو قام في مكان وكانت فيه نجاسة يابسة من براز الإنسان لا تلتصق ليبسها ببدنه وثوبه في السجود والقعود إن لاقته جازت الصلاة، (2) مع أن وجوب طهارة مكان الصلاة ضروري الثبوت في جميع الشرائع.

وأيضا يقولون: لو أن أحدا غمس قدميه إلى الركبة ويديه إلى المرفقين في صهاريج بيت الخلاء الممتلئة بعذرة الإنسان وبوله ثم أزال عين ما التصق عن بدنه المذكور بالفرك والدلك بعد اليبس بلا غسل وصلى تصح صلاته. وكذلك إن غمس جميع بدنه في بالوعة مملوءة بالبول والعذرة وليس على بدنه جرم النجاسة يجوز الصلاة بلا غسل، (3) مع أن التطهير في هذه الحالات من غير غسل وبزوال العين لا يتحقق به زوال الآثر.

وأيضا يقولون: لو وجد المصلي بعد الفراغ من الصلاة في ثوبه براز الإنسان أو الكلب أو الهرة اليابس أو المني أو الدم صحت صلاته ولا يجب عليه إعادتها كما ذكره الطوسي في

التهذيب وغيره، (4) مع أن طهارة الثوب من شرائط الصلاة والجهل والنسيان في الحكم الوضعي ليس بعذر.

وأيضا يقولون: إن كان رجلا عاريا وطين ذكره وخصيتيه بطين قليل من غير ضرورة وصلى صحت صلاته، (5) مع أن ستر العورة واجب على القادر شرعا ولا سيما في حال الصلاة. ولهذا خالف جماعة من الإمامية جمهورهم في هذه المسألة مستدلين بالآثار المروية عن أهل البيت على بطلانه. (6)

وأيضا يقولون: إن لطخ رجل لحيته وشاربه وبدنه وثوبه بذرق الدجاج أو أصاب لحيته وشاربه أو وجهه أو خده قطرات من بوله بعد ما استبرأ ثلاث مرات تصح صلاته بلا غسل. (7)

_________

(1) قال ابن المطهر الحلي: «وأوجب ابن أبي عقيل الاستقبال في النافلة كالفريضة إلا في موضعين: حال الحرب والمسافر يصلي أينما توجهت به راحلته ... » وروى آثارا عن الأئمة تؤيد ذلك، ولم يرد على المرويات وأدلة ابن أبي عقيل إلا بفلسفة حيث قال: «والجواب أن الاشتراك في المقتضي يستلزم الاشتراك في الاقتضاء، وقد بينا اشتراك العلة وهي الضرورة». مختلف الشيعة: 2/ 74.

(2) قال الطوسي: «إذا كان موضع سجوده طاهرا صحت صلاته، وإن كان موضع قدميه وجميع مصلاه نجسا إذا كانت النجاسة يابسة لا تتعدى إلى ثيابه وبدنه». الخلاف: 1/ 176.

(3) قال المرتضى: «ويجوز أن يصلي المصلي وعين النجاسة على بدنه». الانتصار: ص

(4) روى عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة إنسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال: إن كان لم يعلم فلا يعيد». تهذيب الأحكام: 2/ 359، وأخرجها الكليني، الكافي: 3/ 404؛ العاملي، وسائل الشيعة: 3/ 475.

(5) ابن إدريس، السرائر: 1/ 252.

(6) روي عن علي بن جعفر عن موسى الكاظم أنه قال: «سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة فأصاب ثوبا نصفه دم أو كله أيصلي عريانا؟ فقال: إن وجد ماء غسله وإن لم يجد ماء صلى فيه ولم يصلِ عريانا؛ ولأن طهارة الثوب شرط وستر العورة شرط أيضا فيتخير». ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 1/ 248؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 2/ 224.

(7) يروي الإمامية أن الطهارة للصلاة غير مهمة عن أئمة أهل البيت الطاهرين، فقد أخرج الطوسي عن زرارة قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - إن قلنسوتي وقعت في البول فأخذتها فوضعتها على رأسي ثم صليت؟ فقال: لا بأس». تهذيب الأحكام: 2/ 357. وقال ابن بابويه: «ومن أصاب قلنسوته أو عمامته أو تكته أو جوربه أو خفه مني أو بول أو دم أو غائط فلا بأس بالصلاة فيه، وذلك لأن الصلاة لا تتم في شيء من هذا وحده». من لا يحضره الفقيه: 1/ 73.

(1/215)

________________________________________

(مسائل تتعلق بالصلاة)

يقولون يجوز للمصلي المشي في صلاته لوضع عجينه في محل لا يصل إليه كلب أو هرة ولو كان ذلك المحل بعيدا عن مصلاه مسافة عشرة أذرع شرعية، (1) مع ان العمل الكثير ولا سيما إذا لم يكن مما لا يتعلق بالصلاة مبطل لها لقوله تعالى {وقوموا لله قانتين فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون}.

وأيضا يقولون: من قرأ في الصلاة «وتعالى جدك» (2) تفسد صلاته، (3) مع أن قوله تعالى {وأنه تعالى جد ربنا} في سورة الجن تصح قراءتها في الصلاة.

وأيضا يقولون: تفسد الصلاة بقراءة بعض السور من القرآن كسورة حم تنزيل السجدة وثلاث سور أخرى، (4) مع أن قوله تعالى {فاقرأوا ما تيسر من القرآن} يدل بمنطوقه على العموم. وهؤلاء الفرقة هم يرروون عن الأئمة أن الصلاة تصح بقراءة كل سورة من القرآن. والعجب أنهم يحكمون بجواز الصلاة بقراءة ما يعلمه المصلي أنه ليس من القرآن المنزل، بل هو بزعمهم محرف عثمان وأصحابه، مثل {أن تكون أمة هي أربى من أمة}.

وأيضا يجوز بعضهم الأكل والشرب في عين الصلاة كما صرح به فقيههم المعتبر صاحب (شرائع الأحكام) في كتابه هذا، (5) مع أن الأخبار المتفق عليها مروية في المنع من الأكل والشرب في الصلاة، وهذا المقدر هو مجمع عليه بين هذه الفرقة أن شرب الماء في صلاة الوتر جائز لمن يريد أن يصوم غدا وعطش في تلك الصلاة. (6)

وأيضا يقولون: لو باشر المصلي مباشرة فاحشة بامرأة حسناء وضمها إلى نفسه وألصق رأس ذكره بما يحاذى قبلها وسال المذي الكثير ولو إلى الساق جازت صلاته. وكذا ذكره الطوسي أبو جعفر وغيره من مجتهديهم. (7) ولا يخفى أن هذه الحركات صريحة المخالفة لمقاصد الشرع ومنافية لحالة المناجاة بالبداهة.

وأيضا قالوا: إن لعب وعبث المصلي في عين الصلاة بذكره وأنثييه بحيث سال منه المذي فلا ضرر بذلك في الصلاة أصلا. (8)

_________

(1) أخرج العاملي عن الحلبي أنه سأل «أبا عبد الله - عليه السلام - عن الرجل يخطو أمامه في الصلاة خطوة أو خطوتين أو ثلاث، قال: نعم لا بأس». وسائل الشيعة: 5/ 191؛ وفي رواية أخرى أن الحلبي سأل الصادق «عن الرجل يقرب نعله بيده أو رجله في الصلاة؟ قال: نعم». وسائل الشيعة: 7/ 287.

(2) عن أبي سعيد الخدري قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل واستفتح صلاته وكبر قال: سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، ثم يقول لا إله إلا الله ثلاثا، ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان». أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي.

(3) روى ابن بابويه عن الصادق أنه قال: «أفسد ابن مسعود على الناس صلاتهم بشيئين، بقوله (تبارك اسمك وتعالى جدك) وهذا شيء قالته الجن بجهالة، فحكاه الله عنها، وبقوله (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) يعني في التشهد الأول، وأما الثاني بعد الشهادتين فلا بأس به ... ». من لا يحضره الفقيه: 1/ 401. وأخرج الرواية العاملي في وسائل الشيعة: 6/ 406.

(4) سور لقمان وحم السجدة والنجم وسورة العلق، روى ابن بابويه عن الصادق أنه قال: «ولا تقرأ في الفريضة بشيء من العزائم الأربع». من لا يحضره الفقيه: 1/ 306. وفسر الإمامية هذه الرواية بقولهم: «لأن في هذه السور سجودا واجبا إن يفعله تبطل الفريضة بالزيادة فيها». الطوسي، الاقتصاد: ص 180؛ الحلبي، الكافي: ص 18.

(5) للمحقق الحلي ودليله: «لعدم وجود نص في إبطال الأكل والشرب للصلاة». شرائع الإسلام: 1/ 101.

(6) فقد روى ابن بابويه عن سعيد الأعرج أنه قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام - جعلت فداك إني أكون في الوتر وأكون قد نويت الصوم وأكون في الدعاء وأخاف الفجر، وأكره أن أقطع على نفسي الدعاء وأشرب الماء وتكون القلة أمامي، قال: فقال لي: فاخطِ إليها الخطوة والخطوتين والثلاث واشرب وارجع إلى مكانك، ولا تقطع على نفسك الدعاء». من لا يحضره الفقيه: 1/ 494؛ العاملي، الوسائل: 7/ 280.

(7) لأن رواياتهم تقول إن الحركة والمذي لا يبطلان الصلاة أو ينقضان الوضوء، فمثل هذه الحركة أيضا لا تبطلهما، روى الطوسي: «عن ابن أبي عمير عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: ليس في المذي من الشهوة ولا من الانعاظ ولا من القبلة ولا من مس الفرج ولا من المضاجعة وضوء ولا يغسل منه الثوب ولا الجسد». تهذيب الأحكام: 1/ 19؛ الاستبصار: 1/ 174.

(8) روى الكليني عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر - عليه السلام -: عن المذي يسيل حتى يصيب الفخذ؟ فقال: لا يقطع صلاته ولا يغسله من فخذه، إنه لم يخرج مخرج المذي إنما هو بمنزلة المخاط». الكافي: 3/ 40. وروى الطوسي بإسناده عن معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام -: عن الرجل يعبث بذكره في الصلاة؟ فقال: لا بأس به». تهذيب الأحكام: 1/ 346.

(1/216)

________________________________________

وبعضهم جوزوا الصلاة إلى جهة قبور الأئمة بنية مزيد الثواب، (1) مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد». (2)

وأيضا يجوزون الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير عذر وسفر، (3) وذلك مخالف لقوله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وقوله تعالى {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا}.

وأيضا عندهم أداء الصلوات الأربع - يعني الظهر والعصر والمغرب والعشاء - متصلة بينها لانتظار خروج المهدي.

وأيضا يحكمون بعدم جواز قصر الصلاة في سفر التجارة دون إفطار الصوم، مع أنه ليس فرق بين الصلاة والصوم في الشرع، وقد نص على الفرق ابن ادريس (4) وابن المعلم (5) والطوسي (6) وغيرهم. (7) مع أن روايات عدم الفرق بين الأئمة موجودة في كتبهم الصحيحة. روى معاوية بن وهب (8) عن أبي عبد الله أنه قال «وإذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت». (9)

وأيضا يقولون: من كان سفره أكثر من الإقامة كالمكاري والملاح والتاجر الذي يتردد بفحص الأسواق فليقصروا صلاة النهار وليتموا صلاة الليل ولو أقام خمسة ايام في أثناء سفره أيضا، نص عليه القاضي ابن البراج (10) وابن زهرة (11) وأبو جعفر الطوسي في (النهاية)

_________

(1) بوب الطوسي بابا بعنوان: (فضل الكوفة والمواضع التي يستحب فيها الصلاة منها، وموضع قبر أمير المؤمنين - عليه السلام - والصلاة والدعاء عنده). تهذيب الأحكام: 6/ 30، ثم أورد روايات عديدة في فضيلة الدعاء والصلاة عند هذا القبر. وأخرج العاملي عن شعيب العقرقوفي: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: من أتى قبر الحسين - عليه السلام - له من الأجر والثواب؟ قال: يا شعيب ما صلى عنده أحد ودعا إلا استجيب عاجله وآجله، قلت: زدني، قال: أيسر ما يقال لزائر الحسين - عليه السلام -: قد غفر لك فاستأنف اليوم عملا جديدا». وسائل الشيعة: 14/ 538.

(2) متفق عليه. وعند الإمامية أخرج الطوسي عن الصادق أنه قال: «عشرة مواضع لا يصلى فيها: الطين والماء والحمام والقبور ... ». تهذيب الأحكام: 2/ 219؛ وأخرجهً العاملي في وسائل الشيعة: 5/ 142.

(3) وهذا ما عليه معظم الفرقة، رغم وجود بضع روايات تنسب ذلك إلى الأئمة عندهم، منها ما رواه الكليني عن أحمد بن عباس الناقد قال: «تفرق ما في يدي وتفرق حرفائي فشكوت إلى أبي محمد - عليه السلام - فقال لي: اجمع بين الصلاتين الظهر والعصر ترى ما تحب». الكافي: 3/ 287؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 2/ 263.

(4) السرائر: 1/ 234.

(5) المفيد، وينظر كتابه المقنعة: ص 374.

(6) الخلاف: 1/ 201.

(7) الحلي في إرشاد الأذهان: 1/ 303؛ والعاملي في الدروس: 1/ 221.

(8) معاوية بن وهب البجلي أبو الحسن، قال عنه النجاشي: «ثقة حسن الطريقة روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما السلام». رجال النجاشي: 1/ 348؛ فهرست الطوسي: ص 463.

(9) ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 1/ 437؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 3/ 220.

(10) عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز البراج الشامي، قال العاملي: «القاضي سعد الدين وجه الأصحاب وفقيههم»، مات سنة 481هـ. أعيان الشيعة: 8/ 18؛ روضات الجنات: 354؛ معجم المؤلفين: 5/ 262.

(11) حمزة بن علي بن زهرة بن الحسن بن زهرة الحسيني الحلبي، عز الدين أبو المكارم، قال عنه الحر العاملي: «فاضل عالم ثقة جليل القدر عظيم المنزلة، وله تصانيف تبلغ نحو العشرين»، مات سنة 585هـ. أعيان الشيعة: 6/ 249؛ روضات الجنات: 202؛ معجم المؤلفين: 4/ 80.

(1/217)

________________________________________

و (المبسوط) (1) مع أن روايات الأئمة وردت عندهم بخلاف هذا الحكم ولم تفرق بين الليل والنهار. روى محمد بن بابويه في الصحيح عن أحدهما أنه قال «المكاري والملاح إذا جد بهما سفر فليقصرا». (2) وروى محمد بن مسلم (3) عن الصادق نحوه. (4)

وأيضا يخصصون القصر في صلاة السفر بالأسفار الأربعة: السفر إلى المسجد الحرام، وإلى طيبة المنورة، وإلى الكوفة، (5) وإلى كربلاء. (6) وهذا عند الجمهور. وأما المختار لجمع منهم المرتضى فهو أن جميع مشاهد الأئمة لها هذا الحكم، (7) مع أن نص الكتاب {وإذا ضربتم في الأرض} الآية وقع مطلقا، وكان الأمير أيضا يقصر صلاته في جميع أسفاره. والرواية المذكورة عن ابن بابويه دالة أيضا على الإطلاق.

وأيضا يحكمون بترك الجمعة في غيبة الإمام (8) بل بزعمهم أهل أخبارهم أنها حرام (9) وقد قال الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} الآية من غير تقييد فيها بحضور الإمام.

وأيضا يجوزون للمرء أن يشق جيبه وثوبه في عزاء الأب والابن والأخ، (10) وللمرأة مطلقا على كل ميت. (11) مع أن الصبر في جميع الشرائع واجب في المصائب، والجزع حرام. (12) وقد وقع في الأخبار الصحيحة «ليس منا من حلق وسلق وخرق» (13) وأيضا ورد «ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود» (14) وورد «من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا». (15)

_________

(1) ينظر الحلي في شرائع الإسلام: 1/ 101؛ وابن إدريس في السرائر: 1/ 246.

(2) الطوسي، تهذيب الأحكام: 3/ 215؛ العاملي، وسائل الشيعة: 8/ 491.

(3) في المطبوع والسيوف المشرقة (عبد الملك بن مسلم) والتصحيح من كتب الإمامية.

(4) الطوسي، تهذيب الأحكام: 3/ 215؛ العاملي، وسائل الشيعة: 8/ 491.

(5) أي إلى المشهد المنسوب إلى علي. وقد تقدم الكلام عن فضل الكوفة عند الإمامية. وينظر العاملي في وسائل الشيعة: 5/ 248 وما بعدها والنوري في المستدرك: 3/ 396.

(6) ويروون عن الأئمة الكثير في فضل كربلاء وزيارتها، وبوب الطوسي بابا بعنوان: (باب حرم الحسين - عليه السلام - وفضل كربلاء وفضل الصلاة عند قبره وفضل التربة وما يقال عند أخذها وفضل التسبيح منها وما يجب على زائريه أن يفعلوه) ثم ساق روايات كثيرة منها ما رواه عن الباقر أنه قال: «خلق الله كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل أن يخلق الله الخلق مقدسة مباركة ولا تزال كذلك وجعلها الله أفضل الأرض في الجنة». تهذيب الأحكام: 6/ 72؛ وينظر ما كتبه ابن قولويه القمي في كامل الزيارات: ص 256.

(7) قال زين الدين العاملي: «فيتعين القصر إلا في أربعة مواطن: مسجدي مكة والمدينة المعهودين ومسجد الكوفة والحائر الحسين ... ». ويعني بالأخير (كربلاء) ثم قال: «وألحق بعضهم به مشاهد الأئمة». اللمعة الدمشقية: 2/ 333 - 334؛ والرأي نفسه للحلي في قواعد الأحكام: ص 83.

(8) أي في السرداب، فليس عليهم جمعة من ألف سنة وإلى يوم القيامة.

(9) قال الطباطبائي عن صلاة الجمعة: «وفي زمان الغيبة مستحبة جماعة وفرادى، ولا يشترط فيها شرائط الجمعة». العروة الوثقى: 1/ 742؛ وينظر ما قاله زين الدين العاملي، اللمعة الدمشقية: 1/ 301.

(10) أخرج العاملي تحت باب (كراهة الصياح على الميت وشق الجيوب على غير الأب والأخ والقرابة). ثم أورد روايات عن أكثر من إمام أنه قد شق ثوبه. وسائل الشيعة: 3/ 273 وما بعدها.

(11) وهذا من أكثر العادات انتشارا بين نسائهم اليوم، فاللطم وشق الجيوب وسيلة للتقرب إلى الله عندهم خاصة في يوم عاشوراء.

(12) رووا عن الصادق أنه قال: «لا ينبغي الصياح على الميت ولا تشق الثياب». وسائل الشيعة: 3/ 273.

(13) أخرجه مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق». قال النووي: «الصلق والسلق: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة هي التي تحلق شعرها والخرق هو شق الثوب عند المصيبة»

(14) متفق عليه. وأخرجه من الإمامية العاملي، مسكن الفؤاد: ص 180؛ النوري، مستدرك الوسائل: 2/ 452.

(15) أخرجه أحمد وهو في صحيح الجامع برقم 567. قال المناوي: «أي قولوا له: اعضض بهن أبيك أو بذكره، ولا تكنوا عنه بالهنّ تنكيرا وزجرا». فتح القدير: 1/ 357. وأخرجه من الإمامية المجلسي في بحار الأنوار: 32/ 91؛ وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 13/ 150.

(1/218)

________________________________________

مسائل الصوم والاعتكاف

يحكمون بفساد الصوم بانغماس الصائم في الماء، مع أن م (1) فسداته إنما هي الأكل والشرب والجماع بالإجماع. ولهذا قد رجع عن هذه المسألة جمع منهم واختاروا عدم الفساد لصحة الأثار بخلافها. (2)

والعجب أن الصوم لا بفسد عند هم بالإيلاج في دبر الغلام على مذهب اكثرهم، (3) وقد روى عن الأئمة خلافه. (4) أجمع الأمة كلهم على أن كل ما يوجب الإنزال مفسد للصوم سوء كان الوطء في القبل أو الدبر.

وأيضا يجوز عند بعضهم أكل جلد الحيوان للصائم ولا ضرر لصومه، وقال بعضهم أكل أوراق الأشجار لا يفسد الصوم، وقال بعضهم لا يضر الصوم أكل ما لا يعتاد أكله، (5) ومع هذا لو انغمس في الماء يجب عليه القضاء والكفارة معا وإن لم يدخل شيء من الماء في حلقه وأنفه. (6) سبحان الله أى إفراط وتفريط هذا؟

وأيضا يقولون: يستحب صوم عاشوراء من الصبح إلى العصر دون الغروب. (7) مع أن الصوم ليس متجزئا في شريعة أصلا، بل يفسد جزء منه لقوله تعالى {ثم أتموا الصيام إلى الليل}.

وأيضا يقولون: صوم اليوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة مؤكدة، (8) مع أن كلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة لم يصوموا في هذا اليوم بالخصوص ولم يبينوا ثوابه. (9)

وأيضا يقولون: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد أقام الجمعة فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الوصي، (10) وهذا مخالف لقوله تعالى {وأنتم عاكفون في المساجد}. ويحرمون استعمال الطيب للمعتكف، (11) مع أنه مسنون بالإجماع لمن يدخل المسجد.

_________

(1) وعليه إجماع الطائفة كما قرر الطوسي في النهاية: ص 131؛ والطباطبائي في العروة الوثقى: 2/ 200.

(2) قال الطوسي بعد إيراده الأخبار المتناقضة عن الأئمة في كتب الطائفة: «يجوز الحمل على التقية، أو أنه يختص بإسقاط القضاء والكفارة، وإن كان الفعل محظورا ... ولست أعرف حديثا في إيجاب القضاء والكفارة أو إيجاب أحدهما على من ارتمس في الماء». الاستبصار: 2/ 85. قال الحلي: «واختاره ابن إدريس وهو مذهب ابن أبي عقيل ... » ثم قال: «والأقرب عندي أنه حرام غير مفطر ولا يوجب شيئا». مختلف الشيعة: 3/ 401.

(3) لأن الرجل إذا أولج في الدبر ثم أنزل فلا غسل عليه بإجماع الطائفة، وينسبون الروايات في ذلك إلى الأئمة، روى الطوسي بإسناده عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: «في الرجل يأتي المرأة في دبرها وهي صائمة؟ قال: لا ينقض صومها وليس عليها غسل». تهذيب الأحكام: 4/ 319؛ العاملي، وسائل الشيعة: 2/ 200.

(4) روى الكليني عن أبي جعفر أنه قال: «في الرجل يعبث بأهله في نهار رمضان حتى يمني قال: إن عليه الكفارة مثل ما على الذي يجامع». الكافي: 4/ 102؛ تهذيب الأحكام: 4/ 206.

(5) الطباطبائي، العروة الوثقى: 2/ 200؛ فقه الخوئي: 12/ 68.

(6) أخرج الحر العاملي عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - هل يدخل الصائم رأسه في الماء؟ قال: لا ولا المحرم». الوسائل: 12/ 509. وينظر الطوسي، النهاية: ص 132؛ فقه الخوئي: 12/ 157.

(7) عندهم عن عبد الله بن سنان قال: «سألت أبا عبد الله عن صيام عاشوراء، فقلت: ما قولك في صومه؟ فقال لي: صمه من غير تبييت وأفطره من غير تشميت ولا تجعله يوم صوم كاملا، وليكن إفطارك بعد صلاة العصر بساعة على شربة ماء ... ». أخرجه العاملي، وسائل الشيعة: 10/ 459.

(8) يسمونه عيد الغدير، روى العاملي تحت عنوان: (استحباب صوم يوم الغدير وهو الثامن عشر من ذي الحجة)، وينسبون للصادق قوله: «صيام يوم غدير خم يعدل عند الله عز وجل في كل عام مائة حجة ومائة عمرة مبرورات متقبلات وهو عيد الله الأكبر». وسائل الشيعة: 10/ 442. والرواية عند الطوسي في تهذيب الأحكام: 3/ 143.

(9) كيف يكون صومه سنة والسنة لا تكون إلا عن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي لم يفعله ولا أحد من الأئمة الذين يزعم الشيعة أنهم شيعة لهم.

(10) قال ابن بابويه: «اعلم أنه لا يجوز الاعتكاف إلا في خمسة مساجد: في المسجد الحرام ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومسجد الكوفة ومسجد المدائن ومسجد البصرة، والعلة في ذلك أنه لا يعتكف إلا في مسجد جامع جمع فيه إمام عدل». المقنع: ص 71؛ المرتضى، الانتصار: ص 96.

(11) قال الطوسي: «وعلى المعتكف أن يتجنب ما يتجنبه المحرم من النساء والطيب والكلام الفاحش والمماراة والبيع والشراء ولا يفعل شيئا من ذلك». النهاية: ص 167؛ الحلي، مختلف الشيعة: 3/ 589؛ العاملي، اللمعة الدمشقية: 2/ 157.

(1/219)

________________________________________

مسائل الزكاة

يقولون: لا تجب الزكاة في التبر من الذهب والفضة. (1)

وأيضا يقولون: لو كان عند رجل في ملكه نقود كثيرة مسكوكة واتخذ منها الحلي أو آلات اللهو سقط عنه زكاتها، (2) وإن احتال بهذا قبل يوم من حولان الحول. (3)

وكذلك تسقط زكاة تلك النقود إذا كسد رواجها في هذه المدة وراجت نقود أخر مكانها (4). فليتأمل في مخالفة هذه المسائل لقوله تعالى {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} وحيثما ذكر وجوب الزكاة في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة جاء بلفظ الدراهم والدنانير الرائجة في الوقت. (5)

وأيضا يقولون لا تجب الزكاة في أموال التجارة مالم تصر نقدين بعد التبدل والتجول. (6)

وأيضا يحكمون بعدم وجوب الزكاة في مال رجل أو امرأة ملكه وجعله اثاثا لنفسه أو اشترى به متاعا بنية الاكتساب أو الزينة وجعلها أثاثا أو بالعكس، (7) وقد قال الشارع «أدوا زكاة أموالكم» (8) ولا شبهة في كون هذه الأشياء مالا.

وأيضا يحكمون باسترداد المزكي مال الزكاة من المستحق إذا زال فقره بعد ما تملكه وتصرف فيه، (9) مع أن الصدقات لا تسترد ولا يصح الرجوع عنها بعد القبض، وأخذ مال الغير بدون إجازته لا يجوز في الشريعة اصلا، والاستحقاق لأخذ الزكاة شرط في وقت الأخذ لا في تمام عمره.

 

مسائل الحج

يقولون: لو ملك رجل مالا يحصل به الزاد والرحلة ونفقة العيال مدة الذهاب والإياب ولكن يظن أنه إذا رجع من الحج إلى البيت لا يكفيه نفقته أكثر من شهر واحد لا يحب عليه الحج، نص عليه أبو القاسم (10) في (الشرائع) وغيره. وقد أوجب الشارع الحج على من يستطيع إليه سبيلا، وهو الاستطاعة بالزاد والراحلة ونفقة العيال في مدة الذهاب والرجوع وصحة البدن وأمن الطريق فقط، فانصرام النفقة بعد المجيء لا يوجب نقصا في معنى الاستطاعة إذ ظاهر أن كلا من العقلاء المستطيعين يقوم بوجه معاشه ولا يضيع عمره في البطالة، وعلى هذا يمكن أن يكتسب معاشه بعد قدومه إلى بيته ولا يكون

_________

(1) روى الكليني عن الصادق والكاظم أنهما قالا: «ليس على التبر زكاة، إنما هي على الدنانير والدراهم». الكافي: 3/ 518؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 4/ 7.

(2) قال العاملي: «أما النقدان فيشترط فيهما النصاب والسكة، وهي النقش الموضوع للدلالة على المعاملة الخاصة بكتابة وغيرها، وإن هجرت فلا زكاة في السبائك والممسوح، وإن تعومل به ... ولو اتخذ المضروب بالسكة آلة للزينة وغيرها لم يتغير الحكم .. ». اللمعة الدمشقية: 2/ 30؛ وقريب منه ما قاله الطباطبائي، العروة الوثقى: 2/ 373.

(3) في (صحيح) علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى أنه قال: «لا تجب الزكاة فيما سبك فرارا به من الزكاة، ألا ترى أن المنفعة قد ذهبت فلذلك لا تجب الزكاة». وسائل الشيعة: 9/ 160. وأخذ به معظم علمائهم، قال المفيد: «إذا صيغت الدنانير حليا أو سبكت سبيكة لم يجب فيها زكاة، ولو بلغت الوزن مائة وألفا وكذلك زكاة في التبر قبل أن تضرب دنانير». المقنعة: ص 332.

(4) تقدم قول العاملي « ... وإن هجرت فلا زكاة ... » ويعني إن لم تعد تلك الدنانير الذهبية متداولة بين الناس. اللمعة الدمشقية: 2/ 30.

(5) قال الخوئي: «والخالص من تلك المواد [أي الذهب والفضة] لا زكاة فيهما». فقه الخوئي: 28/ 239.

(6) العاملي، اللمعة الدمشقية: 2/ 37؛ الطباطبائي، العروة الوثقى: 2/ 304.

(7) لا يرون الزكاة في عروض التجارة. ينظر ابن المطهر الحلي، قواعد الأحكام: ص 91.

(8) أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم. وهو عند الإمامية حيث أورده العاملي عن أبي إمامة في وسائل الشيعة: 1/ 23.

(9) العروة الوثقى: 2/ 354.

(10) هو أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن علي ابن المطهر المعروف عند الإمامية بالمحقق الحلي. وقد ذكر في كتابه شروط الحج فقال: «أن يكون له ما يمول عياله حتى يرجع، فاضلا عما يحتاج إليه، ولو قصر ماله عن ذلك لم يجب عليه». شرائع الإسلام: 1/ 361. ونقل المرتضى الإجماع عليه، الناصريات: ص 105، ابن زهرة، الغنية: ص 86.

(1/220)

________________________________________

متعطلا، والهدايا والتحف والإنعام والإحسان من الناس في حقه بعنوان كونه حاجا فتوح زائدة عليه. (1)

وأيضا يقول بعضهم: لا يجب ستر العورة في الحج وقد قال الله تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} والروايات الصريحة عن الأئمة ناصة على خلاف ذلك، (2) ويجوزون الطواف عراة كرسم الجاهلية، ولكن يشترطون أن المرء يطين سوأتيه بطين بحيث يغطي لون البشرة ولو كانت تلك الأعضاء محكيه، ولا مناسبة لذلك بالملة الحنيفية أصلا. (3)

والعجب أن الزنا عند طائفة منهم لو وقع بعد الإحرام في الحج لا يفسده. (4) وهذا القبح ثمرة تجويزهم كشف العورة فيه، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} ولا رفث فوق الزنا في العالم.

وأيضا يقولون: لو اصطاد في الإحرام متعمدا مرة يجب عليه الكفارة، ثم إذا فعل مرة أخرى فلا تجب. مع أن الجناية في المرة الأخرى تكون أزيد من المرة الأولى، ونص الكتاب قاض بالكفارة على العامد مطلقا؛ قال تعالى {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم}. (5)

 

مسائل الجهاد

يخصون الجهاد بمن كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في زمن خلافة الأمير أو الإمام الحسن قبل صلحه مع معاوية أو مع الإمام الحسين أو من سيكون مع الإمام المهدي. (6) ولا يجوز الجهاد عندهم في غير هذه الأوقات الخمسة، مع أن الجهاد ماض إلى يوم القيامة، والآيات النازلة في تأكيد الجهاد غير مقيدة بزمان، بل تدل على أن الجهاد في جميع الأوقات عبادة ومستوجب للأجر العظيم، مثل {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن

_________

(1) يظهر أنه كان من عادات ذلك العصر التقدم بالهدايا والتحف إلى من يعود من الحج، لبعد الشقة وصعوبة المواصلات يومئذ، ولا سيما في مثل الأقاليم الهندية التي منها المؤلف عبد العزيز الدهلوي رحمه الله.

(2) أخرج الإمام أحمد عن زيد بن أثيع قال: «سألنا عليا - رضي الله عنه - بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر - رضي الله عنه - في الحجة، قال: بعثت بأربع لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدته ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا». الإمام أحمد، المسند: 1/ 79، رقم 594؛ الترمذي، السنن، كتاب الحج، باب كراهية الطواف عريانا: 3/ 222، رقم 871. وأخرجه الإمامية أيضا بلفظ قريب عن ابن عباس، العاملي، وسائل الشيعة: 13/ 44.

(3) لأنه يمكن ستر العورة عندهم بطين كما سبق

(4) قال ابن زهرة: «ومن وطئ قبل الوقوف بعرفة، وإن وطئ بعد الوقوف بالمشعر الحرام لم يفسد حجه وكان عليه بدنة .. ». الغنية: ص 159. وينظر ما قاله الحر العاملي في اللمعة الدمشقية: 2/ 356.

(5) وكذلك الروايات المنقولة عن الأئمة في كتبهم. منها ما رواه ابن أبي عمير في (الصحيح) قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: محرم أصاب صيدا؟ قال: عليه كفارة، قلت: فإن عاد؟ قال: عليه كلما عاد». الطوسي، تهذيب الأحكام: 5/ 372.

(6) قال المجلسي: «ولا جهاد إلا مع الإمام». بحار الأنوار: 99/ 10.

(1/221)

________________________________________

دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم}، فإنها نزلت في حق رفقاء الخليفة الأول، (1) و {قل للمخلفين من الأعراب ستدعو ن إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} إذ هي نازلة في حق عساكر الخليفة الثاني، (2) وما وقع من الجهاد في غير الأوقات المذكورة فهو فاسد عندهم، وليس تقسيم الغنائم في الجهاد الفاسد بوجه مشروع، فلا بد أن تكون الجواري المأسورة مملوكة لأحد ولا يصح التمتع بهن. (3) وقد استخرجوا فتوى عجيبة لتسهيل هذا العسير، ونسبها صاحب الرقاع المزورة (4) ابن بابويه إلى صاحب الزمان أن تلك الجواري كلها مملوكة للإمام. (5) وقد حلل الأئمة جواريهم لشيعتهم، فبهذه الحيلة يجوز التسرى بالجوارى المأسورة في الجهاد الفاسد للشيعة.

سبحان الله، أية كلمات خبيثة ثقيلة في السوء يكتبونها في كتبهم الفقهية التي هي محل تنقيح الدين، وإذا قال أهل السنة بإزائهم: إن الأمير - رضي الله عنه - تسرى خولة بنت جعفر اليمامية الحنفية (6) التي جاء بها خالد بن الوليد مأسورة في عهد الخليفة الأول وولد للأمير منها محمد بن الحنفية، فلو كان جهاد ذلك الوقت فاسدا ولم يكن تقسيم غنائمه للخليفة صحيحا فلماذا تصرف الأمير بالتسري في الغنائم؟ يجيبون بأنه قد صح عندنا رواية أن الأمير أعتقها

_________

(1) روى الطبري عن الضحاك في تفسير الآية قوله: «هو أبو بكر وأصحابه لما ارتد من ارتد من العرب عن الإسلام جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام». تفسير الطبري: 6/ 283؛ وينظر الدر المنثور للسيوطي: 3/ 102.

(2) وفسر الطبري أولئك القوم بأنهم أهل فارس والروم، ومعلوم أن قتال هؤلاء كان في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. تفسير الطبري: 26/ 82 .. لكن عسكر الخليفة الثاني لهم ذنب عظيم، وهو أنهم اطفأوا نار المجوسية وأدخلوا إيران في ملة الإسلام، وقد استحق الخليفة الثاني القتال على ذلك في حياته، والسب واللعن من ذلك اليوم إلى الآن.

(3) ولكن «الحنفية» التي تسرى بها الإمام علي وولدت له محمد بن الحنفية رضوان الله عليه هي من بني حنيفة في اليمامة أسرت أيام خلافة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر الصديق. انظر المناقشة في هذه المسألة بين السيد عبد الله السويدي وملا باشي كبير مجتهدي الشيعة في زمان نادرة شاه سنة 1156 في رسالة مؤتمر النجف ص 31.

(4) ويسميها الإمامية ب (التوقيعات المقدسة)، وهي كتب ادعوا أنها بخط الإمام المنتظر، وأول من أظهرها في مصنف مستقل عبد الله بن جعفر بن مالك القمي الذي يعده الإمامية من شيوخهم الوجهاء، ومات بعد 300هـ. رجال النجاشي: 2/ 18؛ الذريعة: 4/ 501.

(5) قال المفيد: «الأنفال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وهي للإمام القائم بعده». تهذيب الأحكام: 4/ 132. لأن الدنيا عند الإمامية للإمام يتصرف فيها كيف يشاء. روى ابن بابويه القمي عن أبي بصير عن الصادق أنه قال: «إن الدنيا للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها حيث يشاء ... ». من لا يحضره الفقيه: 2/ 39.

(6) هي خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن ثعلبة بن يربوع، كانت من سبي اليمامة فصارت إلى علي بن أبي طالب، وهبها له أبو بكر الصديق، قالت أسماء بنت أبي بكر: «رأيتها سندية سوداء وكانت أمة لبني حنيفة». طبقات ابن سعد: 5/ 91؛ المنتظم: 6/ 228.

(1/222)

________________________________________

أولا ثم تزوجها. (1) أولا يفقهون أن الإعتاق لا يتصور بدون الملك؟ فلزم أنه ملكها أولا ثم أعتقها، مع أن الإعتاق أيضا نوع من التصرف وبه يثبت المدعى.

 

مسائل النكاح والبيع

لا يجوزون النكاح والبيع إلا بلغة العرب، (2) مع أن اعتبار اللغات في المعاملات الدنيوية لم يأت في شريعة قط، ولا أن الأمير كلف أهل خراسان وفارس في عهد خلافته بأن يعقدوا معاملاتهم بلسان العرب، بل نفذ أنكحتهم وبيوعهم المنعقدة بلغتهم. وأي دخل للسان العرب في صحة العقود والمعاملات كالنكاح والبيع والإجازة والطلاق؟ إذ المقصود فيها إظهار ما في الضمير، وهو معين لكل قوم بلغتهم.

وأيضا يقولون: إن الجد مختار في بيع مال الصغير وله الولاية عليه مع وجود الأب. وقد تقرر في الشرع عدم دخول الولي الأبعد عند وجود الأقرب في كل باب، وسقوط المدلي عن المدلى به في الولاية والميراث.

 

مسائل التجارة

يقولون إن أخذ الربح من المؤمن في التجارة مكروه، (3) وقد قال الله تعالى {وأحل الله البيع} وقال {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} والمؤمن وغيره سيان في هذا الباب، إذ مبنى التجارة والبيع على تحصيل النفع، وما توارث جميع الأمة في كل الأعصار والأمصار على خلاف هذه المسألة، فلو اتجر مؤمن في دار الإسلام تجارة مع المؤمنين لا تجوز له عندهم فتصير ديار كثيرة كإيران وخراسان والعراق واليمن محرومة من هذه الفائدة، وقد أقر الأنبياء والأئمة المؤمنين على تجارتهم فيما بينهم مع أخذ الربح.

 

مسائل الرهن والدين

يقولون بجواز الرهن من غير قبض المرتهن المرهون، وقد جعل القبض في الشرع من لوازم الرهن، قال تعالى {فرهان مقبوضة} ولا تتحقق الفائدة المقصودة من الرهن بدون القبض لأن المرتهن لا حق له في رقبة المرهون ولا يجوز له الانتفاع بمنافعه بلا إذن الراهن وليس له إلا القبض حتى يحصل دينه من المرهون عند الحاجة فإذا لم يكن هذا أيضا فاية فائدة فيه للمرتهن، ومع هذا قد خالفوا في هذه المسألة الروايات الصحيحة عن الأئمة، روى محمد بن قيس عن الباقر والصادق أنهما قالا «لا رهن إلا مقبوض». (4)

_________

(1) ويدعي الإمامية أن سبي خولة كان تعديا من خالد بن الوليد وأن عليا أبقاها عند أسماء بنت عميس إلى أن خطبها فيما بعد من أخيها كما أورد ذلك القطب الراوندي في قصة طويلة. الخرائج والجرائح: 2/ 81 - 82. وكل هذا من أجل حل السراري لهم، والقصة من اختراع القطب الراوندي، لأن عليا - رضي الله عنه - لم يتزوج من إماء السبي خولة فقط بل تزوج سبية أخرى هي أم عمر، قال ابن أبي الحديد في بيان أولاد الأمير - رضي الله عنه -: «أما محمد فأمه خوله بنت أياس بن جعفر من بني حنيفة ... وأما عمر ورقية فأمهما سبية من بني تغلب يقال لها الصهباء سبيت في خلافة أبي بكر، وإمارة خالد بن الوليد بعين التمر». وهناك الصهباء، فقد صرح أحد علمائهم بأنها سبية، ولم يشر إلى أن الأمير أعتقها.

(2) قال العاملي عن عقد الزواج: «ولا يجوز بغير العربية مع القدرة». اللمعة الدمشقية: 5/ 20 ويشمل هذا البيع أيضا.

(3) قال (المحقق) الحلي: «ويكره مدح البائع ... والربح على المؤمن إلا لضرورة ... ». شرائع الإسلام: 2/ 27.

(4) العاملي، وسائل الشيعة: 18/ 383.

(1/223)

________________________________________

وأيضا يقولون: يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون. (1) وهو ربا محض.

وأيضا يقولون: إن ارتهن أحد أمة آخر يجوز له وطؤها، وهو محض الزنا. وأيضا إن رهن أحد أم ولده جاز، ومع هذا إن أجاز للمرتهن الوطء منها قبلا أو دبرا جاز أيضا، (2) ولا تخفى شناعة هذه المسألة ومخالفتها لقواعد الشرع.

وأيضا يقولون: لو أحال دينه على آخر وهو لا يقبل لزمت الحوالة، نص عليه أبو جعفر الطوسي وشيخه ابن النعمان. (3) وفي هذا الحكم غاية الغرابة، ولم يأت في باب من أبواب الشريعة أن يلزم دين أحد أحدا بلا التزامه، ولو جرى العمل على هذه المسألة لترتب عليه فساد عجيب، إذ يمكن لكل فقير أن يحيل دينه على الأغنياء والتجار في كل بلدة ويبرئ ذمته ويكون من ذلك أمر عجاب.

 

مسائل الغصب والوديعة

يقولون: لو غصب رجل مال غيره أو أودعه عند احد يجب على المودع إنكار تلك الوديعة بعد موت المودع. مع أن الله تعالى شدد في إنكار الأمانة، وإن كان ذلك المودع غاصبا فعليه ذنب غصبه، ولكن كيف يجوز لهذا الأمين إنكار أمانته والحلف بالكذب؟

وأيضا يقولون: إن لم يظهر مالك ذلك المغصوب بعد التفحص سنة واحدة يتصدق به على الفقراء، مع أن التصدق من مال الغير بلا إذنه لا يجوز في الشرع. قال تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» (4) وهو خبر صحيح نص عليه ابن المطهر الحلي. (5)

وأيضا يقولون: إن غصب أحد مال غيره وخلطه بماله بحيث لا يمكن التمييز بينهما كاللبن المخلوط باللبن والسمن بالسمن والبر بالبر ونحوها يرد الحاكم ذلك المال كله إلى المغصوب منه، وهذا ظلم صريح، لأن المغصوب منه لا حق له في مال الغاصب، ولا يعالج الظلم بالظلم.

وأيضا إن أودع رجل أمته عند آخر وأجاز له وطئها متى شاء جاز للأمين أن يطأها متى شاء.

_________

(1) قال الطوسي: «وإن أقرض شيئا وارتهن على ذلك وسوغ له صاحب الرهن الانتفاع به جاز له ذلك سواء كان ذلك متاعا أو مملوكا أو جارية أو أي شيء كان ... ». النهاية: ص 116.

(2) توقف الطوسي في هذا لكن غيره من فقهاء الإمامية أباح ذلك، قال ابن إدريس: «والذي عندي أنه إذا أباح المالك له وطأها من غير اشتراط في القرض ذلك، فإنه جائز حلال». السرائر: 2/ 65.

(3) أي المفيد، نص عليه في المقنعة: ص 219؛ الطوسي، النهاية: ص 323.

(4) أحمد وأبو داود والترمذي؛ صحيح الجامع: رقم 240.

(5) رواه الإمامية عن الأئمة في الكافي: 8/ 293؛ وتهذيب الأحكام: 6/ 348.

(1/224)

________________________________________

مسائل العارية

لو قال رجل لآخر حللت لك جميع منافع هذه الأمة يكون وطئها له حلالا طيبا، وإعارة فروج النساء بالخصوص أو عموما في ضمن جميع المنافع جائزة عندهم. (1)

وأيضا يجوز إعارة أم ولده للوطء. وهذه الأحكام كلها مخالفة لقوله تعالى {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}.

 

مسائل اللقيط

يقولون إن وجد رجل طفلا مميزا ضل عن ورثته لا يجوز له التقاطه ولا حفظه في بيته. (2) ولا شبهة في أن ترك التقاطه موجب لهلاكه، لأنه لصغره عاجز عن دفع المؤذين عن نفسه، وغير قادر على كسب نفقته، فالتقاطه أوكد من التقاط الحيوانات.

 

مسائل الإجارة والهبة والصدقة والوقف

يقولون لا تنعقد الإجارة بغير لسان العرب. وأيضاُ يقولون من استؤجر لجهاد الكفار ولحراسة الطريق والشوارع من قطاع الطريق في زمن غيبة الإمام المهدي، لا يكون الأجير مستحقا للأجرة، لأن الجهاد في زمن غيبة الإمام فاسد فلا تصح إجارته.

وأيضا يقولون: إن جعل شيعي أم ولده أجيرا لخدمة رجل ولتدبير البيت وأحل فرجها لآخر، تكون خدمتها للأول ووطؤها للثاني.

وأيضا يقولون: لا تصح الهبة بغير لسان عربي، فلو قال رجل ألف مرة باللسان الفارسي مثلا «بخشيدم، بخشيدم» لا تكون هبة.

ويقولون: إن هبة وطء مملوكته فقط صحيحة ويكون الفرج عارية.

وأيضا يقول أكثرهم: يجوز الرجوع عن الصدقة. (3) وقد قال تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم} وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه». (4)

وقالوا: وقف الهرة يجوز. (5) اللهم أية فائدة في وقفها، وأي انتفاع بها كي يجوز وقفها؟

_________

(1) روى الكليني عن أبي العباس البقباق قال: سأل رجل أبا عبد الله - عليه السلام - ونحن عنده عن عارية الفرج؟ فقال: حرام، ثم مكث قليلا وقال: ولكن لا بأس بأن يحل الرجل جاريته لأخيه. الكافي: 3/ 141.

(2) نقل ذلك الكيدري في إصباح الشيعة: ص 333.

(3) قال المرتضى: «ومما انفردت به الإمامية القول بأن من وهب شيئا غير قاصد به ثواب الله تعالى ووجهه جاز له الرجوع فيه ما لم يتعوض عنه، ولا فرق في ذلك بين الأجنبي وذي الرحم». الانتصار: ص 267.

(4) متفق عليه.

(5) نقل ذلك (المحقق) الحلي، شرائع الإسلام: 2/ 444؛ و (العلامة) الحلي، قواعد الأحكام: ص 215.

(1/225)

________________________________________

وأيضا يقولون إجماعا: إن وقف فرج الأمة صحيح، فتلك الأمة تخرج إلى الناس ليستمتعوا بها، وأجرة هذه المتعة حلال طيب لمن وقفت له. (1) فلم يبق فرق بين الشريعة وبين أسلوب الكفار الذين لا دين لهم.

 

مسائل النكاح

يقولون يستحب ترك النكاح مع التوقان وخوف الفتنة، مع انه خلاف سنة الأنبياء والأوصياء. نعم لم يكن الأنبياء والأوصياء يعلمون أن شبق الجماع يمكن أن يدفع بالمتعة، وبالفروج المعارة. (2)

وأيضا يقولون: النكاح مكروه إذا كان القمر في العقرب (3) أو تحت الشعاع وفي المحلق (4) وهذا مخالف لمقاصد الشرع الذي جاء لإبطال النجوم.

وأيضا يقولون: إن وطء جارية لم يكمل لها تسع سنين حرام، وإن كانت ضخمة تطيق الجماع. (5) ولا أصل لهذا الحكم في الشرع.

وأيضا يقولون: يجوز في النكاح المباح أن يشترط الناكح مرات الجماع في زمان معين ويكون لكل منهما مطالبة الآخر على وفق الشروط، (6) وقد قال تعالى {ولا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا}.

وأيضا يجوزون الوطء في دبر المنكوحة أو المملوكة أو الأمة المعارة أو الموقوفة أو المودعة أو المستمتع منها، (7) وقد قال الله تعالى {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} وإذا حرم الله تعالى الفرج لنجاسة الحيض، فكيف لا يكون الدبر الذي هو معدن النجاسة حراما لتلك العلة؟ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «ملعون من أتى امرأة في دبرها» (8) وقال «اتقوا محاش النساء» (9) أي ادبارهن، وهو خبر صحيح متفق عليه نص عليه المقداد.

وقد تعرض ههنا شبهة لبعض الجهلة بفن التشريح أن الفرج أيضا محل البول والنجاسة فلم أحل دون الدبر؟ وتدفع هذه الشبهة بأن المقرر في فن التشريح أن الفرج مشتمل على

_________

(1) قال (المحقق) الحلي: «يصح وقف المملوكة، ينتفع بها مع بقائها ويصح قبضها». شرائع الإسلام: 2/ 444.

(2) رغم أنهم يروون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحب أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليستعفف بزوجة». أخرجه ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 3/ 385.

(3) نسبوا إلى الصادق أنه قال: «من تزوج والقمر في العقرب لم يرَ الحسنى». أخرجه الكليني، الكافي: 8/ 275؛ الطوسي، تهذيب التهذيب: 7/ 407.

(4) رووا عن سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا أنه قال: «من أتى أهله في محاق الشهر فليسلم لسقط الولد». الكليني، الكافي: 5/ 499؛ ابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 3/ 402؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 7/ 411. وقرر (المحقق) الحلي بأن الجماع مكروه في ثمانية أوقات: «ليلة خسوف القمر وليلة كسوف الشمس وعند الزوال وعند غروب الشمس حتى يذهب الشفق الحمر وفي المحاق وبعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وفي أول ليلة من كل شهر إلا في شهر رمضان، وفي ليلة النصف وفي السفر إذا لم يكن معه ماء يغتسل به وعند هبوب الريح ... ». شرائع الإسلام: 2/ 547؛ وينظر ما قاله العاملي، اللمعة الدمشقية: 5/ 93.

(5) عن الصادق أنه قال: «لا يدخل بالجارية حتى يأتي لها تسع سنين أو عشر سنين». الكافي: 5/ 398؛ الطوسي، تهذيب التهذيب: 7/ 410.

(6) ينظر الينابيع الفقهية: 38/ 486.

(7) أخرج الكليني عن صفوان بن يحيى قال: «قلت للرضا - عليه السلام -: إن رجلا من مواليك أمرني أن أسائلك عن مسألة هابك واستحيى منك أن يسألك، قال: وما هي؟ قلت: الرجل يأتي امرأته في دبرها؟ قال: له ذلك». الكافي: 5/ 54؛ وأخرجها أيضا الطوسي، تهذيب الأحكام: 7/ 415.

(8) أحمد وأبو داود؛ صحيح الجامع: رقم 5889

(9) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: استحيوا فإن الله لا يستحي من الحق، لا يحل إتيان النساء في حشوشهن». سنن الدارقطني: 3/ 288، رقم 160؛ الطحاوي، شرح معاني الآثار: 3/ 45؛ قال المنذري: «ورواته ثقات». الترغيب والترهيب: 3/ 199. وحسنه في صحيح الجامع برقم 934.

(1/226)

________________________________________

ثلاث تجويفات: تجويف فوق الكل يتصل بالمثانة وهو ميزاب البول، وتجويف دونه أضيق متصل بالأمعاء تخرج منه الريح أحيانا، وتجويف تحت الكل يدخل الذكر فيه وقت الجماع وهو متصل بفم الرحم يخرج منه الحيض والنفاس والولد، فلا تكون في هذا التجويف نجاسة أصلا إلا في أيام الحيض والنفاس، وحينئذ يكون الجماع حراما، بخلاف الدبر فإن له تجويفا واحدا متصلا ببعض الأمعاء التي هي معدن البراز والنجاسة الغليظة.

 

مسائل المتعة

إنهم يحسبون متعة النساء خير العبادات وأفضل القربات، (1) ويوردون في فضائلها أخبارا كثيرة موضوعة مفتراة. (2) وعندهم متعة الخلية جائزة بالإجماع، ومتعة المشركة والمجوسية سواء كانت خلية أو محصنة جائزة إذا تحركت ألسنتهن بقول لا إله إلا الله وإن لم يكن في قلوبهن من معناها شيء (3).

وكذلك يجوزون المتعة الدورية، وإن كان الاثنا عشرية ينكرون هذا التجويز، ولكن يقول محققوهم إنها ثابتة في كتبنا لا يجوز إنكارها، وصورتها أن يستمتع جماعة من امرأة واحدة ويقرروا الدور والنوبة لكل منهم، فيجامعها من له النوبة من تلك الجماعة في نوبته، مع أن خلط الماءين في الرحم لا يجوز في شريعة من الشرائع إذ لا يثبت حينئذ نسب العلوق إلى أحد منهم. والحال حفظ النسب مما به الامتياز بين الإنسان والحيوان.

وإذا تأمل العاقل في أصل المتعة يجد فيها مفاسد مكنونة كلها تعارض الشرع، منها تضييع الأولاد، فإن أولاد الرجل إذا كانوا منتشرين في كل بلدة ولا يكونون عنده فلا يمكنه أن يقوم بترتيبهم فينشأون من غير تربية كأولاد الزنا، ولو فرضنا أولئك الأولاد إناثا يكون الخزي أزيد، لأن نكاحهن [أن يكون] (4) لا يمكن بالأكفاء أصلا.

ومنها احتمال وطء موطوءة الأب بالمتعة أو النكاح أو بالعكس بل وطء البنت وبنت البنت وبنت الابن والأخت وبنت الأخت وغيرهن من المحارم في بعض الصور خصوصا في مدة طويلة، وهو أشد المحظورات، لأن العلم بحبل امرأة المتعة في مدة

_________

(1) روى المفيد عن الصادق أنه قال: «ما من رجل تمتع ثم اغتسل إلا خلق الله من كل قطرة تقطر منه سبعين ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة ويلعنون متجنبيها إلى أن تقوم الساعة». المتعة: ص 9؛ خلاصة الإيجاز: ص 43؛ وأخرجها العاملي في (باب استحباب المتعة) وسائل الشيعة: 21/ 61.

(2) بل وينسبون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من الدين المتعة ... ». الكليني، الكافي: 6/ 439.

(3) قال العاملي: «المتعة لا تنحصر في عدد أو نصاب وإنها تصح بالكتابية». اللمعة الدمشقية: 5/ 284 - 285.

(4) زيادة من السيوف المشرقة

(1/227)

________________________________________

شهر واحد أو أزيد لا يكون حاصلا لا سيما إن وقعت المتعة في السفر ويكون السفر أيضا طويلا ويتفق في كل منزل الشغل بالمتعة الجديدة ويتعلق الولد في كل منها وتولد جارية من بعد العلوقات ويرجع هذا الرجل إلى ذلك الطريق بعد خمسة عشر عاما مثلا أو يمر إخوته أو بنوه في تلك المنازل فيفعلون بتلك البنات متعة أو ينكحونهن.

ومنها عدم تقسيم ميراث مرتكب المتعة مرات كثيرة، إذ لا يكون ورثته معلومين ولا عددهم ولا أسماؤهم ولا أمكنتهم فلزم تعطيل أمر الميراث. وكذلك لزم تعطيل ميراث من ولد بالمتعة فإن آباءهم وإخوتهم مجهولون، ولا يمكن تقسيم الميراث ما لم يعلم حصر الورثة في العدد، ويمتنع تعيين سهم من الأسهم ما لم تعلم صفات الورثة من الذكورة والأنوثة والحجب والحرمان.

وبالجملة فالمفاسد المترتبة على المتعة مضرة جدا ولا سيما في الأمور الشرعية كالنكاح والميراث، فلهذا حصر الله سبحانه أسباب حل الوطء في شيئين: النكاح الصحيح وملك اليمين؛ لأن الاختصاص التام الحاصل بين المرء وزوجته بسبب هذين العقدين ليحفظ الولد ويعلم الإرث، قال تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم} وعقب هذا في الموضعين بقوله {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} وظاهر أن امرأة المتعة ليست بزوجة - وإلا تحققت لوازم الزوجية فيها من الإرث والعدة والطلاق والنفقة والكسوة وغيرها - وليست هي أيضا بملك يمين وإلا لجاز بيعها وهبتها وإعناقها. وقد اعترف فقهاء الشيعة بأن الزوجية بين المرء وامرأة المتعة لا تكون متحققة، وقال ابن بابويه في كتاب (الاعتقادات) (1) إن أسباب حل المرأة عندنا أربعة: النكاح وملك اليمين، والمتعة، والتحليل. (2) وقال تعالى {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله} فلو كانت المتعة والتحليل جائزين لم يأمر بالاستعفاف. وقال تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فما ملكت أيمانكم - إلى قوله - ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم} فلو جازت المتعة والتحليل لما كان خوف العنت (3) والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر في ترك نكاحهن متحققا.

وما قالت الشيعة إن قوله تعالى {فما استمعتم به منهن فآتوهن

_________

(1) قال ابن بابويه في مكان آخر: «اعلم أن وجوه النكاح الذي أمر بها الله عز وجل أربعة أوجه: نكاح الميراث ... نكاح المتعة ... ملك اليمين ... نكاح التحليل». فقه الرضا: ص 232 - 233.

(2) نكاح التحليل عند الإمامية: «هو أن يحل الرجل أو المرأة فرج الجارية مدة معلومة، فإن كانت لرجل فعليه قبل تحليلها أن يستبرئها بعد أن تنقضي أيام التحليل، وإن كانت لامرأة استغنى عن ذلك». فقه الرضا: ص 233.

(3) أخرج الكليني عن أبي بصير قال: «سألت أبا جعفر - عليه السلام - عن المتعة فقال: نزلت في القرآن». الكافي: 5/ 448؛ وينظر أبواب المتعة في وسائل الشيعة: 21/ 5 وما بعدها.

(1/228)

________________________________________

أجورهن فريضة} نزل في حل المتعة (1) فغلط محض، ونسبة روايته إلى ابن مسعود وغيره من الصحابة محض افتراء، وإن نقل في تفاسير أهل السنة (2) غير المعتبرة أيضا فإنه خلاف نظم القرآن وكل تفسير كذلك ليس بمسموع ولا مقبول ولو كان من رواية صحابي، لأنه سبحانه بين أولا المحرمات بقوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم - إلى قوله - والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم} ثم قال {وأحل لكم ما وراء ذلكم} أى غير المحرمات المذكورة، ولكن بشرط أن تبتغوا بأموالكم من المهور والنفقات، فبطل بهذا الشرط تحليل الفروج وإعارتها، فإنها منفعة محضة بلا حرج، ثم قال {محصنين غير مسافحين} (3) يعني في حال كونكم مخصصين أزواجكم بأنفسكم ومحافظين لهن لكي لا يرتبطن بالأجانب ولا تقصدوا بهن محض قضاء شهوتكم وصب مائكم واستبراء أوعية المني. فبطلت المتعة بهذا القيد أصلا، لأن امرأة المتعة كل شهر تحت صاحب، بل كل يوم في حجر ملاعب.

ثم فرع على النكاح قوله {فما استمتعتم به منهن} الآية، يعني إذا قررتم الصداق في النكاح فإن تمتعتم به منهن بالدخول والوطء يلزمكم تمام المهر وإلا فنصفه، فقطع هذه الآية عما قبلها وحملها على الاستئناف باطل صريح باعتبار العربية، لأن الفاء تأبى القطع والابتداء، بل تجعل ما بعدها مربوطا بما قبلها. (4)

وما يروون أن عبد الله بن مسعود كان يقرأ هذه الآية مع ضم «إلى أجل» بعد {منهن} فغير صحيح لأن هذه الرواية لم توجد في كتاب من كتب أهل السنة المعتبرة، (5) ولو سلمنا ثبوتها في قراءة منسوخة فهي لا تستعمل في إثبات الأحكام مع كون القراءة المشهورة المتواترة تخالفها. (6) ولو سلمنا ذلك لا نسلم دلالتها على المتعة أيضا لأن لفظ {إلى أجل مسمى} متعلق بالاستمتاع لا بنفس العقد، والمدة المتعينة في المتعة إنما تكون متعلقة بنفس العقد لا بالاستمتاع، فصار معنى الآية هكذا: فإن تمتعتم بالمنكوحات إلى مدة معينة فأدوا مهورهن تماما. وفائدة زيادة هذه العبارة دفع ما عسى أن يتوهم أن وجوب تمام المهر معلق بمضي تمام مدة النكاح كما اشتهر في العرف أن ثلث المهر يعجل والثلثين يجعلان مؤجلين إلى بقاء النكاح، فهذا التأجيل يحصل بتصرف المرأة واختيارها،

_________

(1) روى ذلك الكليني، الكافي: 5/ 448؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 7/ 250؛ تفسير العياشي: 1/ 233.

(2) ينظر ما قاله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 5/ 130؛ وابن كثير في التفسير: 1/ 475.

(3) قال الزجاج: «المسافحة والسافح الزانيان اللذان لا يمتنعان من أحد». روح المعاني: 5/ 4.

(4) روح المعاني: 5/ 5.

(5) قال الطبري: «وأما ما روي عن أُبي بن كعب وابن عباس من قراءتها: (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى)، فقراءة بخلاف ما جاءت به مصاحف المسلمين، وغير جائز لأحد أن يلحق في كتاب الله تعالى شيئا لم يأت الخبر القاطع». تفسير الطبري: 5/ 13.

(6) وهو ما أقر به الخوئي حيث قال: «هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف». البيان: ص 165.

(1/229)

________________________________________

وإلا فلها المطالبة بعد الوطء مرة تمام المهر في الشرع. ولو كان {إلى أجل مسمى} قيد العقد لم تصح المتعة إلى مدة العمر وأبدا، مع أنها صحيحة كذلك بإجماع الشيعة، وسياق قوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا} الآية أيضا في باب النكاح، يعني إن لم يستطع منكم أحد أن يؤدي مهر الحرائر ونفقتهن فلينكح الإماء المسلمات، فحمل العبارة المتوسطة على المتعة بقطع الكلام من السياق والسباق تحريف صريح لكلام الله تعالى. (1)

بل إن تأمل عاقل في سياق هذه الآية يجد حرمة المتعة صريحة، لأن الله أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء في عدم الاستطاعة بطول الحرائر، فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال بعده {ومن لم يستطع منكم طولا} لأن المتعة في صورة عدم الاستطاعة بنكاح الحرة ليست قاصرة على قضاء حاجة الجماع، بل كانت بحكم «لكل جديد لذة أطيب وأحسن». وأية ضرورة كانت داعية إلى تحليل نكاح الإماء بهذا التقييد والتشديد وإلزام الشروط والقيود {انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون}. وبالجملة إن هذه الآيات صريحة الدلالة على تحريم المتعة، وقد تبين عدم دلالة الآية التي استدل بها الشيعة على مدعاهم بل على خلافه.

 

مسائل الرضاع والطلاق

يقولون إن شرب الطفل اللبن خمس عشرة مرة متوالية يشبع الطفل بكل منها يثبت الحرمة، (2) وإن لم تكن متوالية لا يثبت الحرمة، وإن شبع الطفل بكل. (3) مع أن الحكم كان في الابتداء أن عشر رضعات يحرمن، ثم نسخ (4) وثبت ذلك بإجماع الأمة. (5) وأما قيد التوالي وزيادة الخمس على العشر فلم يكن في كلام الله تعالى أصلا، وإنما هذه الزيادة والقيد المذكور من مخترعاتهم، وإبقاء الحكم المنسوخ تشريع من عند أنفسهم ومخالفة لحكم الله تعالى. وهم يروون عن الأئمة أن شرب اللبن مطلقا سواء كان عشر رضعات أو أقل موجب للحرمة، (6) لأن المقام مقام احتياط، فإنه باب حرمة النكاح حتى يثبت براءة الذمة يقينا. وصرح شيخهم المقداد في (كنز العرفان) في بحث كفارة اليمين بوجوب العمل بالأحوط في أمثال هذه المواضع. (7)

ويقولون أيضا: لا يقع الطلاق إلا بلسان عربي. (8) وبطلان هذا القول أظهر من الشمس.

_________

(1) روح المعاني: 5/ 7

(2) روى الطوسي عن عمر بن يزيد قال: «سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: خمسة عشر رضعة لا تحرم». تهذيب الأحكام: 7/ 314.

(3) نقل الطوسي عن المفيد قوله: «الذي يحرم من الرضاع عشر رضعات متواليات لا يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى». ثم روى عن الصادق أنه قال: «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وشد العظم». تهذيب الأحكام: 7/ 312.

(4) نسخ قراءة

(5) روى مسلم: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات» وللتفاصيل الفقهية ينظر ابن حزم، المحلى: 10/ 13؛ ابن قدامة، المغني: 8/ 138؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 4/ 7.

(6) في رواية أخرجها الكليني عن صفوان بن يحيى قال: «سألت أبا الحسن - عليه السلام - عن الرضاع ما يحرم منه فقال: سأل رجل أبي - عليه السلام - عنه فقال: واحدة ليس بها بأس وثنتان حتى بلغ خمس رضعات، قلت: متواليات أو مصة بعد مصة؟ فقال: هكذا قال له». الكافي: 5/ 439؛ وسائل الشيعة: 20/ 381.

(7) وحرموا ما لم يحرمه الله، فعندهم لا يحل للبالغ أن يتزوج من (القابلة) التي أشرفت على ولادته أو الزواج من ابنتها، حالها كحال الأم من الرضاعة، كما في رواية نسبها ابن بابويه إلى الصادق، من لا يحضره الفقيه: 3/ 410.

(8) قرر ذلك ابن إدريس في السرائر: 2/ 278؛ وقال (المحقق) الحلي: «ولا يقع الطلاق بالكناية ولا بغير العربية مع القدرة على التلفظ باللفظة المخصوصة ولا بالإشارة إلا مع العجز عن النطق». شرائع الإسلام: 3/ 17.

(1/230)

________________________________________

وإن الرجل إذا قال لامرأته «أنت طالق» أو «طلاق» ولو ألف مرة لا يقع الطلاق عندهم أبدا ما لم يقل «طلقتك». وقد عد الشارع هاتين الصيغتين من الطلاق الصريح أيضا، وإن كان أصل وضعها للإخبار بالطلاق، كما أن «طلقتك» كذلك. وهذه الألفاظ كلها مستعارة من الإخبار للإنشاء مثل «أنت حر» أو «عتيق» مع أنهم قائلون بوقوع الطلاق فيما إذا سأل رجل آخر: هل طلقت فلانة؟ فقال: نعم. مع أن الصريح فيه كون معنى الإخبار مرادا به الإنشاء، (1) وإلا فكيف يقع في جواب الاستفهام؟

ويقولون أيضا: لا يصح الطلاق إلا بحضور شاهدين كالنكاح، (2) مع ان المعلوم قطعا من الشرع أن الإشهاد في الرجعة والطلاق مستحب لمحض قطع النزاع المتوقع، لا أن حضور الشاهدين شرط في الطلاق أو الرجعة كما في النكاح. وكان توارث جميع الأمة في حضور النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان الأئمة على هذا، وهو أنهم لم يطلبوا حضور الشهود عند الطلاق قط. والفرق بين النكاح والطلاق بيّن، إذ الإعلان في النكاح ضروري حتى يميز عن الزنا ولا يتهم بها، فأقل حد الإعلان يثبت شاهدين كما تقرر في الشرع، بخلاف الطلاق إذ لا حاجة فيه إلى الإعلان لعدم التباسه بشيء حتى يميز، ولعدم التهمة في ترك الصحبة والجماع، فالطلاق كالبيع والإجارة وسائر العقود في إحضار الشهود لمخافة الإنكار.

ويقولون أيضا: لا يقع الطلاق بالكنايات إن كان الزوج حاضرا، مع أنه لا خلاف بين حضوره وغيبته، (3) بل هو خلاف قاعدة الشرع، فإن الشارع لم يعتبر في إيقاع الطلاق حضور الزوج وغيبته قط، بل في كل باب. فالفرق تشريع جديد من قبلهم.

ويقولون أيضا: إذا نكح المجبوب - وهو مقطوع الذكر فقط - امرأة ثم طلقها بعد الخلوة الصحيحة لا تجب العدة عليها، مع أنهم قائلون بثبوت نسب الولد بهذا الرجل إن ولد منها. (4) فاحتمال العلوق من هذا الرجل ثبت أيضا عندهم، فكيف لا تجب عليها العدة؟ فإن وجوبها إنما هو لمعرفة العلوق، ويمكن حصوله من هذا الرجل بناء على القواعد

_________

(1) وهو ما قرره الطوسي في النهاية، ص 512؛ وابن حمزة في الوسيلة، ص 325.

(2) قال ابن بابويه: «باب الطلاق اعلم أن الطلاق لا يقع إلا على طهر من غير جماع بشاهدين عدلين في مجلس واحد بكلمة واحدة، ولا يجوز أن يشهد على الطلاق في مجلس رجل، ويشهد بعد ذلك الثاني». المقنع: ص 113.

(3) قال الطوسي: «إذا كتب بطلاق زوجته ولم يقصد بذلك الطلاق لا يقع بلا خلاف، وإن قصد به الطلاق عندنا أنه لا يقع به شيء». الخلاف: 2/ 449

(4) شرائع الإسلام 3/ 132.

(1/231)

________________________________________

الطبية، لأن محل المني ووعاءه الأنثيان لا الذكر فيحتمل أن يخرج منيه من منفذ الذكر عند المساحقة ويدخل في الفرج فيجذبه الرحم بسرعة فيتعلق الولد منه، لأن الرحم أشد اشتياقا للمني لعدم النضج التام بسبب انتفاء المحل.

ويقولون أيضا: لا يقع الظهار إذا أراد الزوج بإيقاعه إضرار زوجته بترك الوطء، (1) مع أن الشارع قصد سد باب الإضرار بإيجاب الكفارة على المظاهر، فلو لم يقع الظهار ولم يجب شيء في الإضرار لزم المناقضة في مقصود الشارع. ومع ذلك فقولهم مخالف لنص الكتاب والأحاديث وآثار الأئمة، فإنها واقعة بلا تقييد ومروية بروايات مصححة في كتبهم. (2)

ويقولون أيضا: إن عجز المظاهر عن أداء خصال الكفارة - من تحرير رقبة وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينا - فليصم ثمانية عشر يوما، وهذا القدر من الصوم يكفيه. (3) ولا يخفى أن هذا الحكم تشريع جديد من قبلهم بخلاف ما أنزل الله.

ويقولون أيضا: يشترط في اللعان كون المرأة مدخولا بها، (4) مع أن لحوق العار بتهمة الزنا أكثر من غير الدخول بها، وقد تقرر أن اللعان لدفع عار التهمة، وأنه أيضا مخالف لقوله تعالى {والذين يرمون المحصنات ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} الآية فقد ورد بغير تقييد الدخول. (5)

 

مسائل الإعتاق والأيمان

يقولون لا يقع العتق بلفظ العتق. (6) سبحان الله ما أغرب هذا الحكم حتى إنه ليضحك الثكلى ويسخر منه الصبيان.

ويقولون أيضا: لا يقع العتق بلفظ فك الرقبة أيضا، (7) مع أنه قد وقع في عدة مواضع من القرآن التعبير بهذا اللفظ عن العتق وصار حقيقة شرعية فيه كقوله تعالى {فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة} الآية.

_________

(1) قال المرتضى: «ومما انفردت به الإمامية القول: بأن الظهار لا يثبت حكمه إلا مع القصد والبينة». الانتصار: ص 141؛ العاملي، اللمعة الدمشقية: 5/ 299.

(2) روى العاملي عن الصادق أن رجلا سأله عن: «رجل قال لامرأته أنت علي كظهر أمي أو كيدها أو كبطنها أو كفرجها أو كنفسها أو ككعبها أيكون ذلك الظهار وهل يلزمه ما يلزم المظاهر؟ قال: المظاهر إذا ظاهر من امرأته فقال: هي علي كظهر أمه أو كيدها أو كرجلها أو كشعرها أو كشيء منها ينوي بذلك التحريم فقد لزمه في كل قليل منها». وسائل الشيعة: 22/ 316.

(3) وهذا عندهم في كل كفارة فيها صيام شهرين متتالين أو إطعام ستين مسكينا، ككفارة الجماع في نهار رمضان وكفارة القتل الخطأ. أخرج الكليني في الكافي: 4/ 385؛ والطوسي في تهذيب الأحكام: 4/ 205؛ وابن بابويه، من لا يحضره الفقيه: 2/ 332. وقال ابن بابويه: «ومتى عجز عن إطعام ستين مسكينا صام ثمانية عشر يوما». من لا يحضره الفقيه: 3/ 527.

(4) قال الطوسي: «ولا يكون اللعان بين الرجل وامرأته إلا بعد الدخول بها، فإن قذفها قبل الدخول بها كان عليه الحد وهي امرأته لا يفرق بينهما». النهاية: ص 251.

(5) ينظر الجصاص، أحكام القرآن: 3/ 46؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 12/ 172

(6) قال الطوسي: «العتق لا يقع إلا بقوله (أنت حر) مع القصد والنية، ولا يقع العتق بشيء من الكنايات .. ». الخلاف: 3/ 15.

(7) صرح به (العلامة) الحلي في (إرشاد الأذهان)، الينابيع الفقهية: 32/ 388.

(1/232)

________________________________________

ويقولون أيضا: لا يصح عتق عبد أو امة ذاهب بمذهب أهل الحق أو غيرهم مما هو مخالف لمذهب الاثني عشرية، (1) مع أنه لا دليل لهم على هذا لا من الكتاب ولا من السنة، وما ذاك إلا محض عناد وجهل بالمراد. ألا ترى أن عتق العبد الكافر صحيح فضلا عن أن يكون له مذهب، وقد ثبت إيمان أهل السنة في كتبهم. (2)

ويقولون أيضا: لو صار العبد مجذوما أو أعمى أو زمنا يعتق بنفسه من غير إعتاق مالكه. (3) وهذا العتق بخلاف قواعد الشرع، إذ لا يخرج مال أحد عن ملكه بنفسه بمعيوبيته، ولأن سبب تشريع العتق هو نفع العبد وقد صار ههنا لمحض ضرره وهلاكه؛ لأنه حينئذ لا اقتدار له على الكسب ولا نفقة له على سيده. فإن قالوا قد يحصل للعبد نفع بذلك بسبب استراحته عن الخدمة، قلنا لا يجوز على المالك تكليف مثل هؤلاء.

ويقولون أيضا: إن خرجت نطفة السيد من بطن الأمة صارت أم ولد، (4) فعلى هذا يلزم صيرورة كل جارية موطوءة أم ولد لأن عادة النساء ذلك. ومما علم بالتجربة أنه يبقى في الرحم من النطفة قدر الانعلاق ويخرج ما زاد عليه، فحينئذ لو كان خروج النطفة دليلا لكان على عدم الانعلاق، فكيف تصير الأمة أم ولد بخروجها؟

ويقولون أيضا: لو رهن رجل أمته ووطئها المرتهن مطلقا وجاءت بولد من المرتهن صارت أم ولد له. (5) مع أن وطء المرتهن محض الزنا إذ لا ملك له ولا تحليل، مع أن التحليل أيضا لا يوجب كونها أم ولد عند الفرقة أيضا. (6)

ويقولون أيضا: لا ينعقد يمين الولد بغير إذن الوالد في غير فعل الواجب وترك القبيح، وكذلك يمين المرأة بغير إذن الزوج فيهما. (7) مع أن ذلك مخالف لصريح قوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} وقوله سبحانه {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}.

_________

(1) قال (العلامة) الحلي في (إرشاد الأذهان): «ويكره عتق المخالف» أي الذي يخالف مذهب الإمامية. الينابيع الفقهية: 32/ 389.

(2) لكنهم إذا أرادوا أن يماروا في ذلك قالوا أثبتناه تقية.

(3) أخرج الطوسي عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: «العبد الأعمى والأجذم والمعتوه لا يجوز في الكفارات؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعتقهم». تهذيب الأحكام: 8/ 324؛ العاملي، وسائل الشيعة: 22/ 397.

(4) قال الراوندي: «أم الولد: هي التي تلد من مولاها سواء ما وضعته تاما أو غير تام وإن سقطت نطفة». فقه القرآن: 2/ 213.

(5) قرر ذلك الطوسي في (المبسوط). الينابيع الفقهية: 32/ 366.

(6) الينابيع الفقهية: 37/ 61.

(7) قال الحلي: «ولا تنعقد يمين ولد مع والده إلا مع إذنه ولا المرأة مع زوجها إلا بإذنه ولا المملوك مع مولاه إلا بإذنه وذلك فيما عدا الواجب وترك القبيح، أما فيما ..... فينعقد دون إذنهم». الينابيع الفقهية: 16/ 24. وينظر أيضا كلام قريب من هذا عند ابن بابويه، المقنع: ص 137؛ الكيدري، إصباح الشيعة: ص 482.

(1/233)

________________________________________

ويقولون أيضا: إن نذر أحد أن يمشى إلى الكعبة راجلا وحج يسقط عنه هذا النذر، نص عليه أبو جعفر الطوسي. (1) مع أنه مخالف لقوله تعالى {وليوفوا نذورهم} وقوله تعالى {يوفون بالنذر}.

ويقولون أيضا: يلزم النذر بقصد القلب من غير ان يتلفظ بلفظ النذر سرا وجهرا، ويسمونه نذر الضمير. (2) مع أنه لا يلزم في الشرع شيء بقصد القلب من جنس ما لا بد فيه من القول كاليمين والنذر والنكاح والطلاق والعتاق والرجعة والبيع الإجارة والهبة والصداقة وغيرها.

 

مسائل القضاء

يقولون لا ينفذ قضاء القاضي في الحدود، بل لابد فيها من الإمام المعصوم. (3) فيلزم تعطيل الحدود في زمن غيبة الإمام أو عدم تسلط الائمة كما كانت في الأزمنة الماضية كذلك. ولو كان موجودا في محل فمن يقيم الحدود في محل آخر؟ مع أن جميع العبادات والمعاملات والكفارات ليست موقوفة على حضور الإمام، فلتكن إقامة الحدود أيضا من ذلك.

ويقولون أيضا: يشترط في القضاء علم الكتابة. (4) مع أنه لا دليل عليه، بل إن الدليل قائم على خلافه، فإن خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - كان له منصب القضاء بلا ريب لقوله تعالى {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} ولم يتصف بالكتابة لقوله تعالى {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} مع أنه لم يلحقه قصور من ذلك.

 

مسائل الدعوى

يقولون تقبل دعوى امرأة ماتت ابنتها بانها تركت عند ابنتها المتوفاة متاعا أو خادما بالأمانة وذلك من غير بينة ولا شهود؛ نص عليه ابن بابويه. مع أنه مخالف لقوله تعالى {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم ياتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «البينة على المدعي واليمين على من أنكر». (5) وأيضا لو قبلت الدعاوى من غير بينة لفسد الدين واختل نظام المسلمين.

_________

(1) صرح بذلك في كتابه الخلاف: 3/ 303، ونقله عنه منهم الكيدري في إصباح الشيعة: ص 484.

(2) قال الحلي: «ولا ينقد النذر والعهد إلا باللفظ». تبصرة المتعلمين: ص 278؛ وينظر أيضا العاملي، الدروس الشرعية: 2/ 167.

(3) العاملي، اللمعة الدمشقية: 3/ 62.

(4) كما في اللمعة الدمشقية: 2/ 417؛ الدروس الشرعية: 2/ 65.

(5) أخرجه البيهقي عن ابن عباس، سنن البيهقي: 10/ 252؛ وقال ابن حجر: «وأصله في الصحيحين بلفظ: اليمين على المدعى عليه». الدراية: 2/ 175.

(1/234)

________________________________________

ويقولون أيضا: لو ادعى أحد على عدوه بالزنا وليس عنده شهود على إثبات هذه الدعوى يحلف ولا يحد بالقذف؛ نص عليه شيخهم المقتول في (المبسوط). (1) مع أن الحلف لا اعتبار له في الحدود، ويجب حد القذف على مدعيه إذا عجز عن إقامة البينة، وكيف لا ينظر إلى العداوة التي هي سبب ظاهر للاتهام والكذب؟

 

مسائل الشهادة والصيد والطعام

ويقولون: تقبل شهادة الصبي غير البالغ في القصاص. (2) مع أن الطفل ليس له أهلية الشهادة، لقوله تعالى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} ولا سيما باب القصاص الذي فيه إتلاف النفس.

ويقولون أيضا: صيد أهل الكتاب حرام، (3) وذبيحة أهل السنة ميتة، (4) وكذا ذبيحة من لم يستقبل القبلة عند الذبح. (5) وكل ذلك مخالف لقوله تعالى {فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين}.

ويقولون أيضا: لو اصطاد أحد بغير المعتاد من الآلة لا يصير الصيد مملوكا. (6) مع أنه لا فرق بين الآلة المعتادة وغيرها.

ويقولون أيضا: إن لبن الميتة وما لا يؤكل من الحيوان حلال. (7)

ويقولون أيضا: إن الخبز الذي عجن دقيقه بماء نجس طاهر؛ كما ذكر الحلي في (التذكرة). (8)

وأيضا يقولون: إن الطعام الذي وقع فيه زرق الدجاج واضمحل فيه طاهر جائز أكله، (9) وكذا لو طبخ المرق أو نحوه بماء الاستنجاء أو وقع شيء من زرق الدجاج، وكذا ماء الغدير الذي استنجى فيه كثير من الناس ووقع فيه دم حيض أو نفاس أو مذي وودي وبال فيه الكلب فإنه طاهر يجوز استعماله للشرب وطبخ شيء به، (10) وكذا إذا طبخ شيء بماء وكان قدر نصفه دم مسفوح أو بول حمار أو فرس. مع أن كل ذلك مخالف لقوله تعالى {ويحرم عليهم الخبائث}.

ويقولون أيضا: إن من كان جائعا ولو غنيا فنهب طعاما من مالكه الذي يطلب عليه أزيد من الثمن المتعارف فأكله جائز. (11)

_________

(1) هو عند الطوسي في كتابه المبسوط، نقلا عن الينابيع الفقهية: 33/ 212.

(2) حكموا بجواز شهادة الغلام إذا بلغ العشر سنين، ينظر: الكافي: 7/ 377؛ تهذيب الأحكام: 6/ 251.

(3) أخرج الكليني عن إسماعيل بن جابر قال: «قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: ما تقول في طعام أهل الكتاب؟ فقال: لا تأكله». الكافي: 6/ 264.

(4) قال المفيد: «ولا تأكل من ليس على دينك في الإسلام». المقنعة: ص 571. ويعني بالدين من لا يعتقد مذهب الإمامية. وقال ابن حمزة: «وذبيحة الكافر والناصب حرام». الوسيلة: ص 361. ويقصد بالناصب أهل السنة.

(5) أخرج الكليني عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر - عليه السلام - عن رجل ذبح ذبيحته فجهل أن يوجهها إلى القبلة؟ قال: كل منها، فقلت: فإنه لم يوجهها؟ قال: لا تأكل منها ... وقال - عليه السلام -: إذا أردت أن تذبح فاستقبل القبلة». الكافي: 6/ 233؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 9/ 59.

(6) الكيدري، إصباح الشيعة: ص 378.

(7) أخرج ابن بابويه عن زرارة عن أبي عبد الله قال: «سألته عن الأنفحة تخرج من الجدي الميت؟ قال: لا بأس به، قلت: اللبن يكون في ضرع الشاه وقد ماتت، قال: لا بأس به، قلت: والصوف والشعر وعظام الفيل والبيض يخرج من الدجاجة؟ فقال: كل هذا لا بأس به». من لا يحضره الفقيه: 3/ 342؛ الطوسي، تهذيب التهذيب: 9/ 76. مع أن الراويات عندهم عن الأئمة تعارض ذلك، حيث أخرج الطوسي عن علي - رضي الله عنه - أنه: «سئل عن شاة ماتت فحلب منها لبن؟ فقال - عليه السلام -: ذلك حرام». تهذيب الأحكام: 9/ 76؛ الاستبصار: 4/ 89. لكن حملها الطوسي على التقية لأنها توافق مذاهب العامة!

(8) قال الطوسي في النهاية: «فإن استعمل شيء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن به ويخبز لم يكن به بأس بأكل ذلك الخبز لأن النار قد طهرته». الينابيع الفقهية: 1/ 197.

(9) روى الطوسي عن الزبير قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن البئر تقع فيه الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت، فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال: إذا أصابته النار فلا بأس به». تهذيب الأحكام: 1/ 413؛ من لا يحضره الفقيه: 1/ 14.

(10) لأن النار عندهم تطهر هذه النجاسات، قال الطوسي: «والنار تطهر كلما يكون في القدر من اللحم والتوابل والمرق إذا كانت تغلي، ووقع فيها مقدار أوقية دم أو أقل». النهاية: ص 587.

(11) (المحقق) الحلي، شرائع الإسلام: 4/ 45.

(1/235)

________________________________________

مسائل الفرائض والوصايا

يقولون: إن ابن الابن لا يرث مع وجود الأبوين، مع أن هذا مخالف (1) لقوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} وولد الابن داخل في الأولاد بلا شبهة لقوله تعالى {أبناءنا وأبناؤكم} وقوله تعالى {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم} وقوله تعالى {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} الآية، ومخالف أيضا لما ثبت عندهم من الأخبار الصحيحة. (2)

ويقولون أيضا: لا يرث أولاد الأم من دية المقتول، (3) وكذا لا ترث الزوجة من العقار. (4) مع أن النصوص عامة.

ويقولون أيضا: إن أكبر أولاد الميت (5) يخصص من تركة أبيه بالسيف والمصحف والخاتم ولباسه بدون عوض، (6) مع أن ذلك أيضا مخالف لنص الكتاب. وبعضهم يجعل الجدات والأعمام وأبناءهم محرومين من الأرث. (7)

ويقولون في مسائل الوصايا: إن المظروف تابع للظرف، فلو أوصى لآخر بصندوق يدخل في الوصية ما فيه من النقود والمتاع. (8)

ويقولون أيضا: تصح الوصية بتحليل فرج الأمة لرجل إلى سنة أو سنتين. (9)

 

مسائل الحدود والجنابات

ويقولون في مسائل الحدود: يجب الحد على المجنون لو زنى بامرأة غافلة. (10) وهو مخالف لما ثبت عندهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق ... » الحديث. (11)

ويقولون أيضا: يجب الرجم على امرأة جامعها زوجها ثم ساحقت تلك المرأة بكرا وحملت تلك البكر، تحد البكر مائة جلدة، مع أن السحاق لم يقل أحد إنه زنا. (12)

ويقولون أيضا: يجب حد القذف على مسلم قال لآخر با ابن الزانية وكانت أم المقذوف كافرة، (13) مع أن نص القرآن يخصص حد القذف بالمحصنات والكافرة ليست بمحصنة، بل يجب تعزيره لحرمة ولدها المسلم.

ويقولون أيضا: لو قتل الأعمى مسلما معصوما لا يقتص منه، (14) مع أن آية القصاص عامة للأعمى وغيره.

_________

(1) اعترف الطوسي بأن هذا خلاف التنزيل فقال: «وذكر أصحابنا أن ولد الوالد مع الأبوين لا يأخذ شيئا، وذلك خطأ لأنه خلاف لظاهر التنزيل والمتواتر من الأخبار». النهاية: ص 359؛ وينظر ما قاله العاملي في وسائل الشيعة: 26/ 111.

(2) روى ذلك الكليني وغيره بإسناد صحيح عندهم عن الصادق أنه قال: «ابن الابن يقوم مقام أبيه». الكافي: 7/ 88؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 9/ 317؛ العاملي، وسائل الشيعة: 26/ 110.

(3) قال المفيد: «ولا يعطى الإخوة والأخوات من قبل الأم شيئا، وكذلك الأخوال والخالات، ولا يورثون من الدية شيئا». المقنعة: ص 701؛ وينظر العاملي، اللمعة الدمشقية: 8/ 37.

(4) نسب الكليني وغيره إلى الباقر أنه قال: «لا ترث النساء من عقار الأرض شيئا». الكافي: 7/ 128. وأخرج ابن بابويه رواية قريبة عن الصادق، من لا يحضره الفقيه: 4/ 347؛ والطوسي، تهذيب الأحكام: 9/ 299.

(5) للولد البكر ميزات عند اليهود.

(6) أخرج الكليني وغيره عن حريز عن الصادق أنه قال: «إذا هلك الرجل فترك بنين فللأكبر السيف والدرع والخاتم والمصحف، فإن حدث به حدث فللأكبر منهم». الكافي: 7/ 85؛ تهذيب الأحكام: 9/ 275؛ الاستبصار: 4/ 144.

(7) ينظر ابن حمزة، الوسيلة: ص 392.

(8) يشير الألوسي إلى ما نسبه الكليني إلى الرضا أن رجلا سأله: «عن رجل أوصى لرجل بصندوق، وكان فيه مال؟ فقال الورثة: إنما لك الصندوق وليس لك المال، فقال أبو الحسن - عليه السلام -: الصندوق بما فيه». الكافي: 7/ 44؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 9/ 211. قال: «ولو أوصى بصندوق أو سفينة أو جراب دخل في المظروف». الينابيع الفقهية: 34/ 122.

(9) قال الراوندي: «اعلم أن الإماء يستباح وطؤهن بإحدى ثلاثة أشياء: العقد عليهن بإذن أهلهن وبتحليل مالكهن الرجل من وطئهن وإباحة ذلك له، وإن لم يكن هناك عقد وبأن يملكهن فيستبيح وطأهن بملك الأيمان». فقه القرآن: 2/ 126.

(10) روى الكليني عن أبان بن تغلب قال: «قال أبو عبد الله - عليه السلام -: إذا زنى المجنون أو المعتوه جلد، وإن كان محصنا رجم». الكافي: 7/ 192؛ الطوسي، تهذيب الأحكام: 10/ 19.

(11) أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة والحاكم. وهو في صحيح الجامع برقم 3512. وأخرجه الإمامية عن علي - رضي الله عنه - في كتبهم المعتبرة، فأخرجه المفيد في الإرشاد: 1/ 194؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 12/ 205؛ المجلسي، بحار الأنوار: 5/ 303؛ العاملي، وسائل الشيعة: 28/ 23.

(12) روى الطوسي أن الحسن بن علي بن أبي طالب سأل عن: «امرأة جامعها زوجها، فقامت بحرارة جماعه فساحقت جارية بكرا، فألقت عليها النطفة فحملت، فقال - عليه السلام -: في العاجل تؤخذ هذه المرأة بصداق هذه البكر لأن الولد لا يخرج حتى يذهب بعذره، وينتظر حتى تلد ويقام عليها الحد ويلحق الولد بصاحب النطفة، وترجم المرأة صاحبة الزوج». تهذيب الأحكام: 7/ 422. وينظر للتفصيل ابن فهد، المهذب: 5/ 61.

(13) قال الطوسي: «إن قال لمسلم: أمك زانية أو يا ابن الزانية، وكانت أمه كافرة أو أمة كان عليه الحد تاما». النهاية: ص 784؛ العاملي، اللمعة الدمشقية: 9/ 167.

(14) أخرجه الطوسي وغيره عن محمد الحلبي قال: «سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن رجل ضرب رأس رجل بمعول فسالت عيناه على خديه، فوثب المضروب على ضاربه فقتله؟ فقال أبو عبد الله: هذان متعديان جميعا فلا أرى على الذي قتل الرجل قودا لأنه قتله وهو أعمى، والأعمى جنايته خطأ». تهذيب الأحكام: 10/ 233؛ العاملي، وسائل الشيعة: 29/ 399.

(1/236)

________________________________________

ويقولون أيضا: لو جاع شخص وعند آخر طعام لا يعطيه لجائع يجوز للجائع أن يقتله ويأخذ طعامه ولا يجب عليه شيء من القصاص والدية، مع أن عدم الإطعام للجائع ليس مجوزا للقتل في شريعة من الشرائع.

ويقولون أيضا: لو قتل ذمي مسلما يعطى ورثة المقتول مال القاتل كله، والورثة مخيرون في جعل الذمي عبدا لهم وفي قتله. وكذا إن كان للذمي أولاد صغار يجوز لورثة المقتول أن يتخذوهم عبيدا وإماء. (1) مع أن الآية تدل على القصاص فقط، ولا يجوز الجمع بين القصاص والدية فضلا عن أن يصير القاتل عبدا أو ورثته، وقد قال تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.

ولنكتف بهذا المقدار لأن هذياناتهم في مسائل الدين لا تسع أسفار، فنسبتها إلى العترة المطهرة محض بهتان، لا يخفى على ذوي العرفان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

الباب الثامن مطاعنهم في الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة المكرمين وحضرة الصديقة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم أجمعين

أعلم أولا أنه لم يسلم أحد من الكلام عليه وإلقاء التهمة بين يديه. ولله در من قال ممن وقف على حقيقة الحال:

قيل إن الإله ذو ولد ... قيل إن الرسول قد كهنا

ما نجا الله والرسول معا ... من لسان الورى فكيف أنا؟

ومع هذا لا يخفى على ذوي الألباب أن مطاعن هؤلاء لفرقة الضالة أشبه شيء ينبح الكلاب، بل لعمري إنه لصرير أو طنين ذباب.

وإذا أتتك نقيصتي (2) من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل

_________

(1) قال ابن حمزة: «وإن قتل كافر حرا مسلما أو كفارا وأسلموا قبل الاقتصاص كان حكمهم حكم المسلمين، وإن لم يسلموا دفعوا برمتهم مع أولادهم وجميع ما يملكونه إلى ولي الدم إن شاء قتل واسترق الأولاد وتملك الأموال، وإن شاء استرق القاتل أيضا». الوسيلة: ص 345.

(2) في ديوان المتنبي، (مذمتي).

(1/237)

________________________________________

فدونك فانظر فيها، وتأمل بظواهرها وخافيها.

 

المطاعن الأولى في حق الصديق الأجل

فمنها أنه صعد يوما على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له السبطان «انزل منبر جدنا» (1) فعلم أن ليس له لياقة الإمامة.

والجواب - على فرض التسليم - أن السبطين كانا إذ ذاك صغيرين، فإن الحسن ولد في الثالثة من الهجرة في رمضان والحسين في الرابعة منها في شعبان، والخلافة في أول الحادية عشرة، فأفعالهما إن اعتبرت بحيث تترتب عليها الأحكام لزم ترك التقية الواجبة، وإلا فلا نقص ولا عيب. فمن دأب الأطفال أنهم إذا رأوا أحدا في مقام محبوبهم ولو برضائه يزاحمونه ويقولون له قم عن هذا المقام، فلا يعتبر العقلاء هذا الكلام، وهم وإن ميزوا عن غيرهم لكن للصبي أحكاما، ولهذا اشترط في الاقتداء البلوغ إلى حد كمال العقل. ألا ترى أن الأنبياء لم يبعثوا إلا على رأس الأربعين إلا نادرا كعيسى، والنادر كالمعدوم.

ومنها أنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده ولم يقتص منه أيضا، ولهذا أنكر عليه عمر لأنه قتل مالك بن نويرة مع إسلامه ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمض عدة الوفاة.

وجوابه أن في قتله شبهة، إذ قد شهد عنده أن مالكا وأهله أظهروا السرور فضربوا بالدفوف وشتموا أهل الإسلام (2) عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، (3) بل وقد قال في حضور

_________

(1) نسبه المجلسي إلى السمعاني في الأنساب والخطيب البغدادي في تاريخه، بحار الأنوار: 28/ 232. لكنه نقل جزءا وأهمل ما لا يتفق مع مذهبه. والرواية كاملة عند الخطيب البغدادي عن: «الحسين بن علي قال: أتيت على عمر بن الخطاب وهو على المنبر فصعدت إليه، فقلت: انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك. فقال عمر: لم يكن لأبي منبر وأخذني وأجلسني معه، فجعلت أقلب خنصر يدي، فلما نزل انطلق بي إلى منزله فقال لي من علمك فقلت: والله ما علمنيه أحد، قال: يا بني لو جعلت تغشانا؟ قال: فأتيته يوما وهو خال بمعاوية وابن عمر بالباب فرجع ابن عمر ورجعت معه فلقيني بعد فقال بم أرك فقلت: يا أمير المؤمنين إني جئت وأنت خال بمعاوية وابن عمر بالباب، فرجع ابن عمر ورجعت معه، فقال: أنت أحق بالأذن من بن عمر وإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله ثم أنتم». والرواية تذكر عمر وليس أبا بكر. ينظر: تاريخ بغداد: 1/ 141

(2) وزاد مالك بن نويرة على ذلك انه التحق بسجاح المتنبئة. ويقول البلاذري في فتوح البلدان إن مالكا وقومه قاتلوا سرايا خالد في البطاح فنصر الله سرايا خالد عليهم وأسروا مالكا وأصحابه.

(3) ذكر الطبري أن سجاح بنت الحارث المتنبئة كانت قد راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة فأجابها. تاريخ الطبري: 2/ 269؛ ابن الجوزي، المنتظم: 4/ 22.

(1/238)

________________________________________

خالد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «رجلكم أو صاحبكم كذا». (1) وهذا التعبير إذ ذاك من شعار الكفار والمرتدين. وثبت أيضا أنه لما سمع بالوفاة رد صدقات قومه عليهم وقال: قد نجوت من مؤنة هذا الرجل، فلما حكى هذا للصديق لم يوجب على خالد القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما. (2) فتدبر. (3) وعدم الاستبراء بحيضة لا يضر أبا بكر، وخالد غير معصوم، على أنه لم يثبت أنه جامعها في تلك الليلة في كتاب معتبر. (4) وقد أجيب عنه بأن مالكا كان قد طلقها وحبسها عن الزواج على عادة الجاهلية مدة مضي العدة، فالنكاح حلال. ثم إن الصديق قد حكم في درء القصاص حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قد ثبت في التواريخ أن خالدا هذا أغار على قوم مسلمين (5) فجرى على لسانهم «صبأنا صبأنا» أى صرنا بلا دين، وكان مرادهم أنا تبنا عن ديننا القديم ودخلنا الصراط المستقيم فقتلهم خالد، حتى غضب عبد الله بن عمر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فآسف وقال: «اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد»، ولم يقتص منه، (6) [ولم يؤدهم] (7) فالفعل هو الفعل. على أن الصديق أداهم الدية. ويجاب أيضا أنه لو توقف الصديق في القصاص طعنا لكان توقف الأمير في قتلة عثمان أطعن. وليس، فليس. وأيضا استيفاء القصاص إنما يكون واجبا لو طلبه الورثة. وليس،

_________

(1) هذه اللفظة ثابتة حيث أوردها الفسوي في البدء والتاريخ: 5/ 160؛ وابن الجوزي، المنتظم: 4/ 78.

(2) وفي شرح الحماسة للخطيب التبريزي أن أبا بكر هو الذي امر خالدا بقتل مالك ولم يفعل هذا إلا بما عنده من العلم عن ردة مالك وفساد سريرته وما ترتب على ذلك من فساد علانيته.

(3) ينظر ما قاله ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: 5/ 514.

(4) بل المقرر في الروايات المعتبرة عند أبن جرير وفي البداية والنهاية لابن كثير أن خالدا لم يدخل بهذه السبية إلا بعد انقضاء عدتها. وللأستاذ الشيخ أحم شاكر تحقيق نفيس في امر مالك بجزء شعبان سنة 1364 من مجلة الهدي النبوي لسنتها التاسعة فارجع إليه.

(5) هم بنو جذيمة

(6) لأن خالدا كان معذورا فيما فعل بعد أن سمع ردتهم بقولهم «صبأنا صبأنا» أما براءته - صلى الله عليه وسلم - مما فعل خالد فلإعلان أنه لم يأمره بذلك. ولولا أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى خالدا معذورا فيما فعل لعزله واقتص منه.

(7) زيادة من السيوف المشرقة.

(1/239)

________________________________________

فليس. بل ثبت أن أخاه متمم بن نويرة (1)

اعترف بارتداده في حضور عمر مع عشقه له ومحبته فيه محبة تضرب بها الأمثال، وفيه قال:

وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصعدها

فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا (2)

ثم إن عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق. (3) والله ولي التوفيق.

ومنها أنه تخلف عن جيش اسامة المجهز للروم مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أكد غاية التأكيد عليه حتى قال: جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف. (4)

وجوابه: إن كان الطعن (5) من جهة عدم التجهيز فهذا افتراء صريح لأنه جهز وهيأ. وإن كان من جهة التخلف (6) فله عدة أجوبة:

الأول أن الرئيس إذا ندب رجلا مع جيش ثم أمره بخدمة من خدمات حضوره فقد استثناه وعزله. (7) والصديق لأمره بالصلاة كذلك، فالذهاب إما ترك الأمر أو ترك الأهم وهو محافظة المدينة المنورة من الأعراب.

الثاني أن الصديق قد انقلب له المنصب بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان من آحاد المؤمنين فصار خليفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فانقلبت في حقه الأحكام، ألا ترى كيف انقلبت أحكام الصبي إذا بلغ والمجنون إذا افاق والمسافر إذا أقام والمقيم إذا سافر، إلى غير ذلك. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لو عاش لما ذهب في جيش أسامة، فالخليفة لكونه قائما مقامه يكون كذلك.

الثالث أن الأمر عند الشيعة ليس مختصا بالوجوب كما نص عليه المرتضى في (الدرر والغرر) فلا ضرر في المخالفة. (8) وجملة "لعن الله من تخلف" مكذوبة لم تثبت في كتب السنة. (9)

الرابع أن مخالفة آدم ويونس لحكم الله تعالى بلا واسطة قد ثبت عند الشيعة، فالإمام لو خالف أمرا واحدا لاضير، فتدبر.

ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر أبا بكر قط أمرا مما يتعلق بالدين فلم يكن حريا بالإمامة.

الجواب أن هذا كذب محض تشهد على ذلك السير والتورايخ. فقد ثبت تأميره

_________

(1) أسلم هو وأخوه وكان حسن الإسلام وله شعر في مراثي أخيه. الاستيعاب: 4/ 1455؛ الإصابة: 5/ 763 ..

(2) الأغاني: 15/ 299.

(3) لأن عمر تاثر أولا بمبالغات أبي قتادة ثم استوعب الحقيقة فندم على ما كان من تعجله.

(4) ليست العبارة الآخيرة في كتب أهل السنة رغم دعاوى الإمامية، ينظر ابن حيوان، دعائم الإسلام: 1/ 40؛ المجلسي، بحار الأنوار: 27/ 324. والحلي، نهج الحق: ص 263.

(5) يتصور الشيعة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي أمره ربه بقوله تعالى {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} إنما بعث جيش أسامة ليهيء الأجواء لاستخلاف علي.

(6) لو كان اللعن عاما على من تخلف فهو على علي والنساء والأطفال ولا يخفى فساد هذا.

(7) لم يكن أبو بكر من الجيش بل أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة بالمسلمين، ولو فرض جدلا فهذا لن يمنع من الإمامة فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغزو ويترك المدينة وأصحابه.

(8) قال: «إن مجرد أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يقتضي الوجوب». الأمالي: 1/ 55

(9) بل ليس لها أصل حتى في كتب الشيعة.

(1/240)

________________________________________

لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضا في غزوة بني فزارة كما رواه الحاكم عن سلمة بن الأكوع، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضا ويعلمهم الأحكام من الحلال والحرام، (1) وتأميره أيضا بالصلاة قبيل الوفاة، (2) إلى غير ذلك من مما يطول.

ويجاب أيضا - على فرض التسليم - بأن عدم ذلك ليس لعدم اللياقة بل لكونه وزيرا ومشيرا على ما هي العادة. روى الحاكم عن حذيفة بن اليمان أنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إني أريد أن أرسل الناس إلى الأقطار البعيدة لتعليم الدين والفرائض كما كان عيسى أرسل الحواريين. فقال بعض الحضار: يا رسول الله مثل هؤلاء الناس موجودون فينا كأبي بكر وعمر، قال: إنه لا غنى لي عنهما، إنهما من الدين كالسمع والبصر. (3) وأيضا قال - صلى الله عليه وسلم -: أعطاني الله أربعة وزراء وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر. (4)

وأيضا لو كان عدم الإرسال موجبا لسلب اللياقة يلزم عدم لياقة الحسنين - معاذ الله تعالى من ذلك.

ومنها أن أبا بكر ولّى عمر أمور المسلمين، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاه على أخذ الصدقات سنة ثم عزله، فالتولية مخالفة.

ويجاب بأن محض الجهالة أن يقال لانقطاع العمل عزل. وعلى تقدير العزل فأين النهي عن توليته كي تلزم المخالفة بالتولية؟ فافهم.

ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله وعمر وتابعين لعمر بن العاص وأسامة أيضا، ولو كانا لائقين لأمّرهما.

ويجاب بأن ذلك لا يدل على الأفضلية ونفي اللياقة، (5) إذ المصلحة ربما اقتصت ذلك، فإن عَمرا كان ذا خديعة في الحرب ودهاء وحيلة عارفا بمكايد الأعداء، ولم يكن غيره فيها كذلك، كما يولى مثل هذا لقمع السارقين وعسس الليل ونحوهما من لا يولى لذلك من الأكابر. وأسامة استشهد أبوه على أيدي كفار الشام والروم فكان ذلك تسلية له وتشفية. وأيضا مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك إطلاع أبي بكر وعمر على حال التابع والمتبوع كما هو شأن تربية الحكيم خادمه، فلا تغفل.

_________

(1) روى أبو هريرة: «أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعثه في الحجة التي أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها، قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان» متفق عليه.

(2) عن إبراهيم عن الأسود قال: «كنا عند عائشة - رضي الله عنها - فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها قالت: لما مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة، فأذن فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس فقيل له إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة فقال: إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس، فخرج أبو بكر فصلى فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - من نفسه خفة فخرج يهادى بين رجلين كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن مكانك ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه، قيل للأعمش وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر فقال برأسه نعم». متفق عليه

(3) الحاكم في المستدرك والطبراني في الأوسط؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد: «وفيه حماد بن عمر النصيبي وهو متروك»: 9/ 156.

(4) الترمذي والحاكم؛ وضعفه في ضعيف الجامع: رقم 1972.

(5) هذا لو فرض أن أبا بكر من الجيش، وقد تقدم نفيه.

(1/241)

________________________________________

ومنها أن أبا بكر استخلف والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف، (1) فقد خالف. (2)

ويجاب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار بالاستخلاف، والإشارة إذ ذاك كالعبارة. وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب، وهم حديثو عهد بالإسلام وأهله فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارات، حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات. وفي كل زمان رجال، ولكل مقام مقال. وأيضا عدم استخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان لعلمه بالوحي بخلافة الصديق كما ثبت في صحيح مسلم، ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالأصلح للأمة، ونعم ما عمل، فقد فتح الفاروق البلاد، ورفع قدر ذوي الرشاد، وأباد الكفار (3) وأعان الأبرار.

ومنها أن أبا بكر كان يقول «إن لي شيطانا يعتريني، فإن استقمت فأعينوني، وإن زغت فقوموني». (4) ومن هذا حاله لا يليق للإمامة. (5)

ويجاب بأن هذا غير ثابت عندنا، فلا إلزام. بل الثابت أنه أوصى عمر قبل الوفاة فقال: «والله ما نمت فحلمت، وما شبهت فتوهمت، وإني لعلى السبيل ما زغت، ولم آل جهدا. وإني أوصيك بتقوى الله تعالى» (6) الخ. نعم قال في أول خطبة خطبها على ما في مسند الإمام أحمد: «يا أصحاب الرسول أنا خليفة الرسول فلا تطلبوا مني الأمرين الخاصين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: الوحي والعصمة من الشيطان» ... وفي آخرها: «إني لست معصوما فإطاعتي فرض عليكم فيما وافق الرسول وشريعة الله تعالى من أمور الدين، ولو أمرتكم بخلافها فلا تقبلوه مني ونبهوني عليه». وهذا عين الإنصاف. ولما كان الناس معتادين عند المشكلات الرجوع إلى وحي إلهي وإطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لازما على الخليفة التنبيه على الاختصاص بالجناب الكريم. وأيضا روي في الكافي للكليني في رواية صحيحة عن جعفر الصادق أن لكل مؤمن شيطانا يقصد إغواءه. (7) وفي الحديث المشهور ما يؤيد هذا أيضا فقد قال - صلى الله عليه وسلم - «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن» فقالت الصحابة: حتى أنت يا رسول الله؟ قال «نعم، ولكن الله غلبني عليه لأسلم وآمن من شره». (8) فأي طعن فيما ذكروه؟ والمؤمن يعتريه الشيطان بالوسوسة

_________

(1) وهل يعترف الشيعة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف؟

(2) ابن المطهر الحلي، نهج الحق: ص 354.

(3) {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما}

(4) الطبقات الكبرى لابن سعد وتاريخ الطبري. ورواية ابن سعد عن الواقدي وهو ضعيف بإجماع المحدثين، أما الطبري فرواها عن شعيب بن إبراهيم كاتب سيف بن عمر قال الذهبي عنه: (فيه جهالة). ميزان الاعتدال: 3/ 377؛ أما سيف بن عمر فحاله ليس بأحسن من حال الواقدي. فهذه رواية لا تصلح للاحتجاج ضعيفة الإسناد.

(5) الحلي في نهج الحق: ص 264.

(6) ابن عساكر في تاريخ دمشق: 30/ 415.

(7) ولفظه: «ما من مؤمن إلا وقد وكّل به أربعة شيطانا يغويه يريد أن يضله، وكافرا يغتاله، ومؤمنا يحسده وهو أشدهم عليه، ومنافقا يتتبع عثراته». الكافي: 2/ 251.

(8) صحيح مسلم.

(1/242)

________________________________________

فينتبه، قال تعالى {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}. نعم إن النقصان في اتباع الشيطان، وهو بمعزل عنه. (1)

ومنها أنه روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: «ألا إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقي الله المؤمنين شرها، فمن عاد بمثلها فاقتلوه» (2) قالوا: ويؤيد هذه الرواية رواية البخاري في صحيحه فقد دلت صراحة على بيعة أبي بكر قد وقعت بغتة بلا تأمل ولا مشورة، وإنها غير تمسك بدليل، فلم يكن إماما بحق.

والجواب أن هذا الكلام صدر من عمر في زجر رجل كان يقول إن مات عمر أبايع فلانا وحدي أو مع آخر كما كان في مبايعة أبي بكر ثم استقر الأمر عليها، فمعنى كلام الفاروق في رده لهذا القول أن بيعة رجل أو رجلين شخصيا من غير تأمل سابق ومراجعة أهل الحل والعقد ليست بصحيحة، وبيعة أبي بكر وإن كانت فجأة بسبب مناقشة الأنصار وعدم وجود فرصة للمشورة فقد حلت محلها وصادفت أهلها للدلائل على ذلك والقرائن على ما هنالك كإمامة الصلاة ونحوها. وهذا معنى «وقي الله المؤمنين شرها» فلا يقاس غيره به. (3) وفي آخر هذه الرواية التي رواها الشيعة «وأيكم مثل أبي بكر» أي في الأفضلية والخبرية وعدم الاحتياج إلى المشورة. على أنه قد ثبت عند أهل السنة وصح أن سعد بن عبادة وأمير المؤمنين عليا والزبير قد بايعوه بعد تلك المناقشة واعتذروا له عن التخلف أول الأمر.

ومنها أن أبا بكر كان يقول للصحابة: «إني لست بخير منكم وعلي فيكم». (4) فإن كان صادقا في هذا القول لم يكن لائقا للإمامة البتة، إذ المفضول لا يليق مع وجود الفاضل. وإن كان كاذبا فكذلك إذ الكاذب فاسق والفاسق لا يصلح للإمامة.

والجواب على فرض التسليم بما يجاب من قبلهم عما يثبت في الصحيفة الكاملة (5) وهي من الكتب الصحيحة عندهم من قول الإمام السجاد - رضي الله عنه - «أنا الذي أفنت الذنوب عمره» ... الخ. فإن كان صادقا بهذا الكلام لم يكن لائقا للإمامة أن الفاسق المرتكب للذنوب لا يصلح للإمامة، وكذا إن كان كاذبا لما مر. فما هو جوابهم فهو جوابنا.

وزاد بعض الشيعة

_________

(1) قال ابن الجوزي: «إن الطائف ما يطوف حول الشيء والطيف اللمة والوسوسة وروي عن ابن عباس أنه قال الطائف اللمة من الشيطان والطيف الغضب». زاد المسير: 3/ 310.

(2) ليس في الصحيح اقتلوه؛ فالحديث أخرجه البخاري عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قال: « ... ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه تغرة أن يقتلا ... »

(3) قال الحافظ ابن حجر: «وقى الله شرها إيماء إلى التحذير من الوقوع في مثل ذلك، حيث لا يؤمن من وقوع الشر والاختلاف قوله: ولكن الله وقى شرها: أي وقاهم ما في العجلة غالبا من الشر؛ لأن من العادة أن من لم يطلع على الحكمة في الشيء الذي يفعل بغتة لا يرضاه، وقد بين عمر سبب إسراعهم ببيعة أبي بكر لما خشوا أن يبايع الأنصار سعد بن عبادة». فتح الباري: 12/ 150.

(4) ليست في كتب السنة بل من موضوعات الشيعة: أوردها ابن شاذان، الفضائل: ص 132؛ المفيد، الفصول المختارة: 1/ 246؛ ابن طاوس، الطرائف: 2/ 402؛ ابن مطهر الحلي، نهج الحق: ص 264.

(5) الصحيفة السجادية

(1/243)

________________________________________

على قول «إني لست بخير منكم» لفظ «أقيلوني أقيلوني» (1) فاعترض على هذا البهتان بأن أبا بكر قد استعفى عن الإمامة فلا يكون قابلا لها. (2)

والجواب - على فرض تسليمه - بما يجاب عما صح في كتب الشيعة من أن الأمير لم يكن يقبل الخلافة بعد شهادة عثمان إلا بعد أن كثر إلحاح المهاجرين والأنصار، (3) على أنه لو صح ذلك عن أبي بكر لكان دليلا على عدم طمعه وحبه للرياسة والإمامة بل إن الناس قد أجبروه على قبولها. (4)

ومنها أن أبا بكر لم يعط فاطمة رضي الله عنها من تركة أبيها - صلى الله عليه وسلم - حتى قالت: يا ابن قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي؟ (5) واحتج أبو بكر على عدم توريثها بما رواه هو فقط من قوله - صلى الله عليه وسلم - «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» مع أن هذا الخبر مخالف لصريح قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} فإنه عام للنبي وغيره، ومخالف أيضا لقوله تعالى {وورث سليمان داود} وقوله تعالى {فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب} (6)

وجوابه أن أبا بكر لم يمنع فاطمة من الإرث لعداوة وبغض، بدليل عدم توريثه الأزواج المطهرات حتى ابنته الصديقة، بل السبب في ذلك سماعه للحديث بأذنه منه - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى علماء السنة هذا الحديث عن حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبي الدرداء وأبي هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص، فقولهم إن هذا الحديث رواه أبو بكر فقط غير مسلم عند أهل السنة. وروى الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق - عليه السلام - قال «إن العلماء ورثة الأنبياء لم يرثوا ولم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر» (7) وكلمة «إنما» تفيد الحصر لما هو مسلم عندهم، فثبت المدعى برواية المعصوم عندهم.

أما كون هذا الحديث مخالفا للآيات فجهل عظيم، لأن الخطاب في {يوصيكم} لما عدا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الخبر مبين لتعيين الخطاب لا مخصص، بل لو كان مخصصا للآية فأي ضرر فيه، فقد خصص من الآية الولد الكافر والرقيق والقاتل. ومما يدل على صحة هذا الخبر لدى أهل البيت أن تركة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقعت في أيديهم أخرجوا العباس وأولاده

_________

(1) الرواية عن أبي الجحاف داود بن أبي عوف قال: «لما بويع أبو بكر أغلق بابه ثلاثا يقول: أيها الناس أقيلوني بيعتكم، كل ذلك يقول له علي: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: 1/ 151 ووردت في كتاب الإمامة والسياسية المنسوب لابن قتيبة، وهو ليس له كما أثبت المحققون، وفي سندها تليد بن سليمان، قال عنه ابن معين: ليس بشيء كذاب، وقال أبو داود: رافضي خبيث يشتم أبا بكر وعمر (ميزان الاعتدال: 2/ 77). فالرواية من وضعه. أما زيادة: «وعلي فيكم» فليست في شيء من كتب أهل السنة

(2) الحلي، نهج الحق: ص 264.

(3) يدل عليه أن عمرا وأبا عبيدة قالا له: «أنت خيرنا وأفضلنا»، فلم ينكر عليهما أحد من المهاجرين والأنصار. تاريخ الطبري: 2/ 134؛ البداية والنهاية: 5/ 246.

(4) ورووا عن علي - رضي الله عنه - أنه قال للناس بعد أن قتل عثمان - رضي الله عنه -: «دعوني والتمسوا غيري فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا»، ثم قال: «اتركوني فأنا كأحدكم، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم فأبوا عليه وبايعوه». نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 1/ 169 - 170.

(5) الرواية من وضع الإمامية فليست في مصدر تاريخي ولا في أي من كتب أهل السنة. وأخرجها من الإمامية: ابن رستم الطبري، دلائل الإمامة: 34؛ المفيد رسالة حول حديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث: ص 25؛ الطبرسي، الاحتجاج: 1/ 102

(6) ابن المطهر الحلي في نهج الحق: ص 266.

(7) الكافي: 1/ 32؛ المفيد، الاختصاص: ص 5؛ العاملي، وسائل الشيعة: 27/ 78.

(1/244)

________________________________________

ولم يورثوهم مما ترك - صلى الله عليه وسلم -، وكذا لم يورثوا أمهات المؤمنين. (1)

وأما قوله تعالى {ورث سليمان داود} (2) فالمراد النبوة. فقد روى الكليني عن أبي عبد الله «أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان»، (3) فقد علم أن هذه وراثة العلم والنبوة، وإلا فوراثة نبينا مال سليمان لا يتصور لا شرعا ولا عقلا، ولو كان المراد وراثة سليمان مال داود فما وجه تخصيصه بالذكر مع أنه كان لداود - عليه السلام - تسعة عشر ابنا (4) بإجماع المؤرخين، وعلى ما ذكرنا يحمل قوله تعالى {يرثني ويرث من آل يعقوب} إذ لا يتصور أن يكون يحيى وراثا لجميع بني إسرائيل بل هو وارث زكريا فقط فما فائدة ذكر {ويرث} الخ. (5)

هذا وأما إبقاء الحجرات في أيدي الأزواج المطهرات فلأجل كونها مملوكة لهن لا لكونها ميراثا، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى كل حجرة لزوجة من أزواجه ووهبها لهن فتحققت الهبة بالقبض وهي موجبة للملك كحجرة فاطمة وأسامة، ولذا أضاف الله تعالى البيوت لهن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز اسمه {وقرن في بيوتكن}.

ومنها قولهم أن أبا بكر لم يعط فاطمة رضي الله تعالى عنها فدكا (6) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وهبها لها ولم يسمع دعواها الهبة ولم يقبل شهادة علي (7) وأم أيمن (8) لها فغضبت فاطمة - رضي الله عنه - وهجرته، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقها: (9) من أغضبها أغضبني. (10)

الجواب أن ليس له أصل عند أهل السنة، بل ذكر البخاري في رواية عروة بن الزبير (11) عن عائشة رضي الله عنها: طلبت فاطمة رضي الله عنها فدكا من أبي بكر لا بطريق دعوى الهبة بل بطريق الميراث، (12) وعلى تقدير تسليم روايتهم فإن الهبة لا تتحقق إلا بالقبض، ولا يصح الرجوع عنها بعد تصرف المتهب في الموهوب، ولم تكن فدك في عهده - صلى الله عليه وسلم - في تصرف فاطمة رضي الله عنها، بل كانت في يده - صلى الله عليه وسلم - يتصرف فيها تصرف المالك فلم يكذبها أبو بكر في دعوى الهبة ولكن بين لها أن الهبة لا تكون سببا للملك ما لم يتحقق القبض فلا حاجة حينئذ إلى شهود، وما زعموا أنه صدر من علي كرم الله تعالى وجهه وأم أيمن محض إخبار، وأبو بكر لم يقض، لا أنه لم يقبل شهادتهما. على انه لو لم يقبلها وردها لكان له وجه، فإن نصاب الشهادة في غير الحدود والقصاص رجلان

_________

(1) فعندما تولى علي الخلافة ترك فدك على ما تركها عليه الصديق، ولم يقسم تركة النبي - صلى الله عليه وسلم - على العباس وأولاده أو على زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(2) وهل يظن بالله أنه يخبرنا أن سليمان ورث حطام الدنيا عن أبيه! ومعلوم كثرة ولد داود لكن سليمان وحده ورث النبوة.

(3) الكافي: 1/ 224؛ الصفار، بصائر الدرجات: ص 135.

(4) نقله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: 13/ 164. وروى الكليني وغيره عن الصادق أنه قال: « ... وكان لداود أولاد عدة ... ». الكافي: 1/ 278؛ الجزائري، قصص الأنبياء: ص 343.

(5) قال ابن كثير: «يرثني على ميراث النبوة، ولهذا قال: (ويرث من آل يعقوب) كقوله: (وورث سليمان داود) أي في النبوة، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة». التفسير: 3/ 112.

(6) قال ياقوت الحموي: «فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنة سبع صلحا، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلث، واشتد بهم الحصار راسلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة». معجم البلدان: 4/ 238.

(7) ليس في شيء من كتب أهل السنة بل من اختراع الشيعة.

(8) روى ابن سعد عن عمر قال: «لما كان اليوم الذي توفي فيه رسول الله، بويع لأبي بكر في ذلك اليوم، فلما كان من الغد جاءت فاطمة إلى أبي بكر معها علي، فقالت: ميراثي من رسول الله أبي، فقال أبو بكر: أمن الرثة أو من العقد، قالت: فدك وخيبر وصدقاته بالمدينة أرثها كما يرثك بناتك إذا مت، فقال أبو بكر: أبوك والله خير مني وأنت والله خير من بناتي، وقد قال رسول الله: لا نورث ما تركنا صدقة، يعني هذه الأموال القائمة فتعلمين أن أباك اعطاكها، فوالله لئن قلت نعم لأقبلن قولك ولأصدقنك، قالت: جاءتني أم أيمن فأخبرتني أنه أعطاني فدك، قال: فسمعته يقول: هي لك؟ فإذا قلت قد سمعته فهي لك فأنا أصدقك وأقبل قولك، قالت: قد أخبرتك ما عندي». الطبقات: 2/ 315 - 316. فقد أخبرها الصديق حسب هذه الرواية بأنه يقبل شهادتها إن كانت قد سمعت ذلك بنفسها - رضي الله عنها -، رغم أنه لم يقبل شهادة أم أيمن لوحدها.

(9) روى البخاري عن المسور بن مخرمة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو على المنبر إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها

(10) ابن المطهر الحلي في نهج الحق: ص 263.

(11) في المطبوع (عروة عن ابن الزبير) والتصحيح من البخاري.

(12) نقله الآلوسي بالمعنى وهو في صحيح البخاري، كتاب فرض الخمس: 2/ 1126.

(1/245)

________________________________________

أو رجل وامرأتان. وأما إغضابه إياها فلم يتحقق منه، إذ الإغضاب إنما هو جعل أحد غضبانا بالفعل أو القول قصدا، وكيف يقصد الصديق إغضاب تلك البضعة الطاهرة وقد كان يقول لها مرارا «والله با ابنة رسول الله إن قرابة رسول الله أحب إلي أن أصل من قرابتي» وليس الوعيد على غضبها، كيف لا وقد غضبت على الأمير زوجها مرارا كغضبها يوم سمعت بخطبة الأمير بنت أبي جهل لنفسه حتى أتت أباها - صلى الله عليه وسلم - باكية فخطب إذ ذاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال «ألا إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويربيني ما رأبها، فمن أغضبها أغضبني». (1) وكغضبها يوم ذهب الأمير إلى المسجد ونام على التراب ولذلك لقب بأبي تراب، فقد أتاها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لها: أين ابن عمك؟ قالت: غاضبني فخرج ولم يقل عندي. (2)

ومع ذلك فقد ثبت عند الفريقين أن غضب فاطمة قد شق على الصديق حتى رضيت عنه، فقد روى صاحب (محجاج السالكين) وغيره من الإمامية أن أبا بكر لما رأى أن فاطمة انقبضت عنه وهجرته ولم يتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال لها صدقت با ابنة رسول الله فيما ادعيت، ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يؤتي منها قوتكم والصانعين بها. فقالت: افعل فيها كما كان أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل فيها. فقال: ولك الله على أن افعل ما كان يفعل ابوك. فقالت: والله لتفعلن؟ فقال: والله لفعلن ذلك. فقال: اللهم اشهد. فرضيت بذلك وأخذت العهد عليه. وكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي على من ذكر. انتهى والله الهادي للصواب. (3)

ومنها أن أبا بكر ما كان يعلم بعض المسائل الشرعية، فقد أمر بقطع يد السارق اليسرى، وأحرق لوطيا، ولم يعلم مسألة الجدة والكلالة، فلا يكون لائقا للإمامة إذ العلم بالأحكام الشرعية من شروط الإمامة بإجماع الفريقين. (4)

الجواب عن الأمر الأول أن قطع يد السارق اليسرى في السرقة الثالثة موافق للحكم الشرعي. فقد روى الإمام محيي السنة البغوي في (شرح السنة) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حق السارق «إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده،

_________

(1) وهذه المناسبة التي قال بها النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث توضحه، أخرج البخاري عن المسور بن مخرمة قال: «إن عليا خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني، وإن فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عدو الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة».

(2) وهو في صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال: «جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت فاطمة، فلم يجد عليا في البيت فقال: أين بن عمك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع قد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب قم أبا تراب» ..

(3) وذكر ابن المطهر الحلي في كتابه (منهاج الكرامة) أنه لما وعظت فاطمة أبا بكر في فدك ردها عليها، فسقط الطعن كله من كلامهم. منهاج السنة النبوية: 6/ 30

(4) هذه من مطاعن الإمامية في الصديق. ينظر: البياضي، الصراط المستقيم: 2/ 305؛ المجلسي، بحار الأنوار: 30/ 510.

(1/246)

________________________________________

ثم إن سرق فاقطعوا رجله». (1) قال البغوي: اتفق أهل العلم على أن السارق أول مرة تقطع يده اليمنى، ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى، ثم إذا سرق ثالثا تقطع يده اليسرى بناء على قول الأكثر، ثم إذا سرق رابعا تقطع رجله اليمنى ثم إذا سرق بعده يعزر ويحبس. والذى قطع أبو بكر يده اليسرى كان في المرة الثالثة فحكمه موافق لحكمة - صلى الله عليه وسلم -. (2)

والجواب عن الثاني أن الصديق لم يحرق أحدا في حال الحياة، لأن الرواية الصحيحة إنما جاءت عن سويد عن أبي ذر أنه أمر بلوطي فضربت عنقه ثم أمر به فأحرق، (3) وإحراق الميت لعبرة الناس جائز كالصلب، ولذلك فإن الميت لا تعذيب له بمثل هذه الأمور لعدم الحياة. وعلى فرض تسليم روايتهم فالذى يجيبون به عن إحراق علي بعض الزنادقة فهو جوابنا، وقد ثبت ذلك في كتبهم، فقد روى المرتضى الملقب عندهم بعلم الهدى في كتاب (تنزيه الأنبياء والأئمة) أن عليا أحرق رجلا أتى غلاما في دبره. (4)

والجواب عن الثالث أن هذا الطعن لا يوجب إلزام أهل السنة، إذ العلم بجميع الأحكام بالفعل ليس شرطا في الإمامة عندهم، بل الاجتهاد. ولما لم تكن النصوص مدونة في زمنه ولا روايات الأحاديث مشهورة في أيام خلافته استفسر من الصحابة. قال في (شرح التجريد) أما مسألة الجدة والكلالة فليست بدعا من المجتهدين، (5) إذ يبحثون عن مدارك الأحكام ويسألون من أحاط بها علما، ولهذا رجع علي في بيع أمهات الأولاد إلى قول عمر، (6) وذلك لا يدل على عدم علمه، بل هذا التفحص والتحقيق يدل على أن أبا بكر الصديق كان يراعي في أحكام الدين كمال الاحتياط ويعمل في قواعد الشريعة بشرائط الاهتمام التام. ولهذا لما أظهر المغيرة مسألة الجدة سأله: هل معك غيرك؟ (7) وإلا فليس التعدد شرطا في الرواية، فهذا الأمر في الحقيقة منقبه عظمى له. وقد روى عبد الله بن بشر أن عليا سئل عن مسألة فقال «لا علم لي بها». (8) جازى الله تعالى هذه الفرقة الضالة بعدله حيث يجعلون المنقبة منقصة.

فرصاص من أحببته ذهب كما ... ذهب الذي لم ترض عنه رصاص

_________

(1) روي عن الحارث بن حاطب قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بلص، فقال اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: اقتلوه، قالوا: يا رسول الله إنما سرق، قال: اقطعوا يده، قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق أيضا الخامسة فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بهذا حين قال اقتلوه ثم دفعه إلى فتية من قريش ليقتلوه منهم عبد الله بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال: أمروني عليكم فأمروه عليهم فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه». أخرجه النسائي في السنن، كتاب قطع السارق والطبراني في الكبير والحاكم.

(2) والحكم نفسه ثبت عن علي - رضي الله عنه - في كتب الإمامية، فقد روى ابن بابويه وغيره عن الباقر قال: «كان أمير المؤمنين - عليه السلام - إذا سرق الرجل أولا قطع يمينه، فإن سرق ثانيا قطع رجله اليسرى، فإن سرق الثالثة خلده في السجن، فإن سرق في السجن قتله». من لا يحضره الفقيه: 4/ 64؛ ابن حيوان، دعائم الإسلام: 2/ 470؛ النوري، مستدرك وسائل الشيعة: 18/ 126.

(3) واتفقت روايات أهل السنة والشيعة الإمامية بأن من أشار على الصديق - رضي الله عنه - بحرق اللوطي هو علي - رضي الله عنه -، فعن صفوان بن سليم: «أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - في خلافته له أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر - رضي الله عنه - جمع الناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم عن ذلك، فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، قال: إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار فاجتمع رأي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر - رضي الله عنه - إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار». سنن البيهقي: 8/ 232. وأخرج النوري من الإمامية بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده: «أن أبا بكر أوتي برجل ينكح في دبره، فقال: يا علي ما الحكم فيه؟ فقال: أحرقه بالنار، فإن العرب تأنف من المثلة، فأحرقه أبو بكر بقوله - عليه السلام -». مستدرك الوسائل: 18/ 79.

(4) تنزيه الأنبياء: ص 159.

(5) ابن المطهر الحلي، شرح التجريد: ص 402.

(6) روى الشافعي عن عبيدة قال: «قال علي - رضي الله تعالى عنه -: استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد فرأيت أنا وهو أنها عتيقة فقضى به عمر حياته وعثمان بعده فلما وليت رأيت أنها رقيق ولسنا ولا إياهم نقول بهذا نقول بقول عمر لا تباع». الأم: 7/ 175؛ ابن أبي شيبة، المصنف: 4/ 88.

(7) عن قبيصة بن ذؤيب قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها، قال فقال لها: ما لك في كتاب الله شيء وما لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس فقال: المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة فأنفذه لها». أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. قال ابن حجر: (وإسناده صحيح). تلخيص الحبير: 3/ 82

(8) روى عبد الله بن بشر أن علي بن أبي طالب سئل عن مسألة فقال: «لا علم لي بها، ثم قال: وأبردها على كبدي إن سئلت عما لا أعلم فأقول: لا علم لي بها». عزاها المناوي إلى (مسند الدارمي). فيض القدير: 4/ 278

(1/247)

________________________________________

المطاعن الثانية في حق الفاروق رضي الله عنه

فمنها وهو عمدة مطاعنهم ما روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض موته يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام للصحابة الحاضرين في حجرته المباركة: «ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا» فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: ما له أهجر؟ استفهموه. فقال: «ذروني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه» فأمرهم بثلاث قال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم». والثالثة إما أن سكت عنها، وإما أن قالها فنسيتها. (1)

وهذه رواية أهل السنة الصحيحة وزعموا أنه يستفاد منها الطعن على عمر بوجوه:

الأول أنه رد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقواله كلها وحي لقوله تعالى {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} ورد الوحي كفر لقوله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} (2)

والجواب على فرض تسليم أن هذا القول صدر من الفاروق فقط أنه لم يرد قوله - صلى الله عليه وسلم - بل قصد راحته ورفع الحرج عنه - صلى الله عليه وسلم - في حال شدة المرض، إذ كل محب لا يرضى أن يتعب محبوبه ولا سيما في المرض، مع عدم كون ذلك الأمر ضروريا، ولم يخاطب بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل خاطب الحاضرين تأدبا. وأثبت الاستغناء عن ذلك بقوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} وقد نزلت الآية قبل هذه الواقعة بثلاثة أشهر، وقد انسد باب النسخ والتبديل والزيادة والنقصان في الدين، فيتمنع إحداث شيء. وتأكيد المتقدم مستغني عنه لا سيما في تلك الحالة. ولو كان بيان المصلحة رد الوحي وقول الرسول للزم ذلك على الأمير أيضا، فقد روى البخاري الذي

_________

(1) قال سفيان بن عيينة: هذا (أي قوله فنسيتها) من قول سليمان (أي الأحوال، هو راوي الحديث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس).

(2) هذه من أهم المطاعن التي ذكرها الحلي في نهج الحق

(1/248)

________________________________________

هو أصح الكتب عند أهل السنة بعد القرآن بطرق متعددة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بيت الأمير والبتول ليلة وأيقظها من مضجعها وأمرهما بصلاة التهجد مؤكدا، فقال الأمير: والله ما نصلي إلا ما كتب الله علينا أي الصلاة المفروضة، وإنما أنفسنا بيد الله، يعني لو وفقنا الله لصلاة التهجد لصلينا. فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يضرب على فخذيه ويقول {وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} فقد رد الأمير قول الرسول، ولكن لما كانت القرائن الحالية دالة على صدق الأمير واستقامته لم يلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى البخاري أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تصالح مع قريش في الحديبية كتب الأمير كتاب الصلح وزاد لفظ «رسول الله» فامتنع الكفار عن قبوله وقالوا: لو سلمنا بهذا اللقب لما حاربناه وصددناه عن طواف البيت، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا أن يمحو هذا اللفظ وأكد ذلك، فلم يمحه الأمير لكمال الإيمان وخالف الرسول في ذلك حتى محاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة. وقد ثبتت مخالفة الأمير أيضا في كتبهم، فقد روى محمد بن بابويه في (الأمالي) والديلمي (1) في (إرشاد القلوب) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى فاطمة سبعة دراهم وقال: أعطيها عليا ومريه أن يشتري لأهل بيته طعاما فقد غلب عليهم الجوع، فأعطتها عليا وقالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرك أن تبتاع لنا طعاما. فأخذها علي وخرج من بيته ليبتاع طعاما لأهل بيته فسمع رجلا يقول: من يقرض الملي الوفي؟ فأعطاه درهم. (2) فقد خالف قول الرسول، وتصرف في مال الغير.

ومع ذلك فأهل السنة لا يطعنون على الأمير بمثل هذه المخالفات، بل لا يعدون ذلك مخالفة. فكيف يطعنون على عمر بما هو أخف منها. (3)

وأما قولهم إن أقوال الرسول كلها وحي فمردود، لأن أقواله - صلى الله عليه وسلم - لو كانت كلها وحيا فلم قال الله تعالى {عفا الله عنك لم أذنت لهم} وقال تعالى {ولا تكن للخائنين خصيما} وقال تعالى {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} وقال تعالى في المعاتبة عن أخذ الفدية من أسارى بدر (4) {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} وأيضا يلزمهم أن الأمير أيضا قد رد

_________

(1) هو أبو محمد الحسن بن أبي الحسن محمد الديلمي، قال عنه الحر العاملي: «كان فاضلا محدثا صالحا»

(2) الأمالي: ص 470؛ إرشاد القلوب: 2/ 221؛ الفتال، روضة الواعظين: 1/ 126.

(3) وهو التخفيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شدة مرضه

(4) أخرج مسلم في قصة أسارى بدر عن عمر بن الخطاب قال: «رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكني من فلان - نسيبا لعمر - فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله عز وجل {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} إلى قوله: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} فأحل الله الغنيمة لهم». صحيح مسلم: 3/ 1385، رقم 1762.

(1/249)

________________________________________

الوحي حين أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتهجد ومحو اللفظ وابتياع الطعام مع أنهم لا يقولون بذلك.

الثاني من وجوه الطعن أنه قال «أهجر» مع أن الأنبياء معصومون من هذه الأمور فأقوالهم وأفعالهم في جميع الأحوال والأوقات كلها معتبرة وحقيقة بالاتباع.

والجواب عن هذا أنه من أين يثبت أن قائل هذا القول عمر؟ مع أنه قد وقع في أكثر الروايات «قالوا» بصيغة الجمع «استفهموه» على طريق الإنكار، فإن النبي لا يتكلم بالهذيان البتة وكانوا يعلمون أنه - صلى الله عليه وسلم - ما خط قط بل كان يمتنع صدور هذه الصنعة منه - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخط بيمينك} ولذا قالوا فاسئلوه. وتحقيق ذلك أن الهجر في اللغة هو اختلاط الكلام بوجه غير مفهم، وهو على قسمين: قسم لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام وهو عدم تبيين الكلام لبحة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان كما في الحميات الحارة، وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - كانت بحة الصوت عارضة له في مرض موته - صلى الله عليه وسلم -. والقسم الآخر جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميات المحرقة في الأكثر. وهذا القسم وإن كان ناشئا من العوارض البدنية ولكن قد اختلف العلماء في جواز عروضه للأنبياء، فجوزه بعضهم قياسا على النوم، ومنعه آخرون، فلعل القائل بذلك القول أراد القسم الأول؛ يعني أن هذا الكلام خلاف عادته - صلى الله عليه وسلم - فلعلنا لم نفهم كلامه بسبب وجود الضعف في ناطقته، فلا إشكال. (1)

الثالث من وجوه الطعن أنه رفع الصوت وتنازع في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال تعالى {يأيها الذين أمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}. (2)

والجواب أنه من أين يثبت أن عمر أول من رفع الصوت؟ وعلى تقديره فرفع صوته إنما كان على صوت غيره من الحاضرين لا على صوت النبي - صلى الله عليه وسلم - المنهي عنه في الآية، والأول جائز والآية تدل عليه حيث قال {كجهر بعضكم لبعض}، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في إحدى الروايات «قوموا عني» من قبيل قلة الصبر العارضة للمريض، فإنه يضيق صدره إذا وقعت منازعة في حضوره، وما يصدر

_________

(1) قال ابن حجر: «قال ذلك لإرادة سكوت الذين لغطوا ورفعوا أصواتهم عنده , فكأنه قال: إن ذلك يؤذيه ويفضي في العادة إلى ما ذكر , ويحتمل أن يكون قوله أهجر فعلا ماضيا من الهجر بفتح الهاء وسكون الجيم والمفعول محذوف أي الحياة , وذكره بلفظ الماضي مبالغة لما رأى من علامات الموت». فتح الباري: 8/ 133.

(2) نهج الحق: ص 333؛ اليقين: ص 522.

(1/250)

________________________________________

من المريض في حق أحد لا يكون محلا للطعن عليه، مع أن الخطاب كان لجميع الحاضرين المجوزين والمانعين.

الرابع من أوجه الطعن أنه أتلف حق الأمة، إذ لو كتب الكتاب المذكور لحفظت الأمة من الضلالة ولم ترهم في كل واد يهيمون، ووبال جميع ذلك على عمر. (1)

والجواب أنه إنما يتحقق الإتلاف لو حدث حكم من الله تعالى نافع للأمة ومنعه عمر. وقوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} الاية تدل على عدم الحدوث، بل لم يكن الكتاب إلا لمصالح الملك وتأكيد ما بلغه، وإلا فلا يتصور منه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول أو يكتب في هذا الوقت الضيق ما لم يكن قاله قط مع أن زمن نبوته امتد ثلاثا وعشرين سنة. وكيف يمتنع عن ذلك بمجرد منع عمر، ولم يقله لأحد بعد ذلك مع عدم وجود عمر. فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد عاش بعد ذلك خمسة أيام باتفاق الفريقين. (2)

فإن قيل: لو لم يكن ما يكتب أمرا دينيا فلم قال «لن تضلوا بعدي»؟ قلنا: للضلال معان، والمراد ههنا عدم الخطأ في تدبير الملك وهو إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزهم، وتجهيز جيش أسامة منه، لا الضلالة والغواية عن الدين. فقد تبين لك بطلان ما طعنوا به، وأظهر لك فساده وقبيح كذبه. والحمد لله رب العالمين. (3)

_________

(1) نهج الحق: ص 332.

(2) قال الخطابي: «لم يتوهم عمر الغلط فيما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد كتابته، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما هو فيه من الكرب وحضور الموت خشي أن يجد المنافقون سبيلا إلى الطعن فيما يكتبه، وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف الاتفاق، فكان ذلك سبب توقف عمر لا أنه تعمد مخالفة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا جواز وقوع الغلط عليه حاشا وكلا». فتح الباري: 8/ 134

(3) وقد نبه السيد الحاج عمر نائب القضاء للدولة العثمانية في مدينة بغداد عند طبع هذا المختصر في الهند سنة 1315 على أن جميع روايات هذا الحديث مروية عن ابن عباس، وأنه كان عند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - صغير السن، ولذلك نقلت عنه الواقعة بألفاظ مختلفة.

(1/251)

________________________________________

ومنها أن عمر قصد إحراق بيت سيدة النساء، وضربها على جنبها الشريف بقبضة سيفه حتى وضعت حملها بسبب ذلك. (1)

والجواب أن هذه القصة محض هذيان وزور من القول وبهتان. ولذا قد أنكر صحتها أكثر الإمامية وأن روايتها عندهم غير صحيحة ولا مرضية. (2) مع أن فعل عمر هذا لو فرض وقوعه فهو أقل مما فعله الأمير كرم الله تعالى وجهه مع أم المؤمنين عائشة الصديقة، مع أنه لم يلحقه طعن من ذلك عند الفريقين بناء على حفظ الانتظام في أمور الدنيا والدين:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا (3)

ومنها أن عمر أنكر موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحلف أنه لم يمت، حتى قرأ أبو بكر قوله تعالى {إنك ميت وإنهم ميتون}. (4)

والجواب أن ذلك من شدة دهشته بموت الرسول وكمال محبته له - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق له في ذلك الحين شعور بشيء، وكثيرا ما يحصل الذهول بسبب تفاقم المصائب وتراكم الشدائد، لأن النسيان والذهول من اللوازم البشرية. ألا ترى أن يوشع - مع كونه نبيا معصوما - نسي أن يخبر موسى بفقد الحوت مع المكتل. بل إن موسى - عليه السلام - مع كونه من أولي العزم - قد نسي معاهدته مع الخضر على عدم السؤال ثلاث مرات. وقال تعالى في حق آدم {فنسي ولم نجد له عزما}

وقد روى أبو جعفر الطوسي عن عبيد الله الحلبي (5) أن الإمام أبا عبد الله - عليه السلام - كان يسهو في صلاته ويقول في سجدتي السهو «بسم الله وبالله، وصلى الله على محمد وآله وسلم» (6) فأي ذنب لابن الخطاب بدهشته من هذا الأمر العظيم وأي طعن عليه بسبب ما حصل له من فقد محبوبه - صلى الله عليه وسلم -؟ فتبا لكم أيها الفرقة الضالة فقد نال الشيطان من عقولكم حتى صرتم شياطين أمثاله.

ومنها أن عمر كان لا يعلم بعض المسائل الشرعية التي هي شرط في الإمامة والخلافة؛ كأمره برجم الحامل من الزنا، فرده الأمير وقال له: إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها، فندم حينئذ وقال: «لولا علي لهلك عمر.» (7) وكما أراد رجم أمرأة مجنونة

_________

(1) هذه القصة ثابتة عند الإمامية وتقول بأن عمر بن الخطاب أراد أن يحرق بيت فاطمة - رضي الله عنها -، وكان في البيت علي والحسن والحسين - رضي الله عنهم -، ولم يحرك علي - رضي الله عنه - ساكنا بل أخذ مربوطا من رقبته - وفق رواية الإمامية - بحبل أسود كي يبايع أبا بكر الصديق، والذي اشترك في هذه العملية ضده هم خيار الصحابة وكان يترأسهم بزعمهم عمر بن الخطاب، والرواية طويلة ينظر تفاصيها عند المفيد، الاختصاص: ص 185؛ الطبرسي، الاحتجاج: ص 83؛ ابن أبي الحديد في شرحه: 2/ 19؛ العياشي في تفسيره: 2/ 307؛ المجلسي، بحار الأنوار: 53/ 18. وغيرهم.

(2) لأن الرواية تطعن بالأمير بأنه جبان تخاذل في الدفاع عن حرمة أهله - حاشاه من ذلك - فهي لا تطعن بعمر فقط بل بعلي أيضا.

(3) ديوان الشافعي

(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 12/ 197.

(5) في الأصل عبد الله

(6) الطوسي، تهذيب الأحكام: 2/ 196؛ الكليني، الكافي: 3/ 356

(7) لا يصح فليس له سند في كتب أهل السنة: أخرجه ابن قتيبة وابن عبد البر بلا سند، ومع ذلك ذكرها الإمامية كثيرا.

(1/252)

________________________________________

فرده الأمير بقوله - صلى الله عليه وسلم - «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق»، وكإتمامه عدد الضربات في حد ابنه أبي شحمة بعد أن مات في أثناء الحد، مع أن الميت غير معقول، وكعدم علمه بحد شرب الخمر حتى قرره بمشورة الصحابة ورأيهم.

والجواب عن الأول أن عمر - رضي الله عنه - لم يكن على علم بحمل المرأة لأن هذا أمر لا يدرك بالبصر إلا بعد تمام مدة الحمل وما يقاربه، والأمير كان مطلعا على ذلك وأخبر بحملها فنبه عمر إلى ذلك فشكره، والقضاء على ظاهر الحال لا يوجب النقص في الإمامة، بل ولا في النبوة. ألا ترى أن موسى - عليه السلام - أخذ برأس أخيه الكبير ولحيته مع أنه نبي وأهانه حين لم يطلع على حقيقة الآمر، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، وإن بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من نار»، (1) وقد روي عند الفريقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليا بإقامة الحد على امرأة حديثة بنفاس فلم يقم عليها الحد خشية أن تموت، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أحسنت، دعها حتى ينقطع دمها» (2) فقد تبين أن عدم الاطلاع على حقيقة الحال غير الجهل بالمسائل الشرعية. وعن الثاني أن عمر - رضي الله عنه - لم يكن واقفا على جنونها أيضا، فقد روى الإمام أحمد عن عطاء بن السايب عن أبي ظبيان الحصين بن جندب الجنبي أن امرأة أتوا بها مأخوذة إلى عمر بجريمة الزنا فحكم برجمها بعدما ثبت، فقادوها للرجم، فإذا علي لاقاهم في الطريق فسألهم: أين تذهبون بهذه المرأة؟ فقالوا: إن الخليفة أمر برجمها لثبوت الزنا عنده، فأخذها الأمير من أيديهم وجاء بها إلى عمر وقال: هذه المرأة مجنونة من بني فلان أنا أعلمها كما هي، وقال «رفع القلم عن المجنون حتى يفيق» فمنع عمر من رجمها. (3) فقد علم أن عمر كان يعلم أن المجنونة لا ترجم، ولكن لم يكن له علم بجنونها.

وعن الثالث: بأنه كذب وبهتان ولم يصح عند الفريقين، بل الثابت في الروايات الصحية أن المحدود بقى حيا بعد الحد، نعم قد غشي عليه أثناء الحد، ولذا توهم الناس موته. (4)

وعن الرابع أن عدم العلم بشيء لم يحدث من قبل ولم يعين في الشرع حكمه ليس محلا للطعن، لأن العلم تابع المعلوم، وحد شارب الخمر لم يكن في عهده - صلى الله عليه وسلم - معينا ومقررا، بل كانوا يضربون

_________

(1) متفق عليه

(2) أخرج أحمد عن علي - رضي الله عنه -: «إن خادما للنبي - صلى الله عليه وسلم - أحدثت فأمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقيم عليها الحد، فأتيتها فوجدتها لم تجف من دمها فأتيته فأخبرته، فقال: إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» ورواه أبو داود والنسائي؛ ومن الإمامية ابن حيوان، دعائم الإسلام: 2/ 453؛ النوري، مستدرك وسائل الشيعة: 18/ 17.

(3) المسند: 1/ 140، رقم 1183؛ الحاكم، المستدرك: 4/ 430.

(4) فالرواية الصحيحة عن ابن عمر أنه قال: «شرب أخي عبد الرحمن بن عمر وشرب معه أبو سروعة عقبة ابن الحارث وهما بمصر في خلافة عمر، فسكرا فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا: طهرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه، فقال عبد الله فذكر لي أخي أنه سكر فقلت: ادخل الدار أطهرك ولم أشعر أنهما أتيا عمروا فأخبرني أخي أنه قد أخبر الأمير بذلك، فقال عبد الله: لا يحلق القوم على رؤوس الناس ادخل الدار أحلقك، وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحدود فدخل الدار، فقال عبد الله: فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهم عمرو، فسمع بذلك عمر فكتب إلى عمرو: أن أبعث إلي بعبد الرحمن على قتب ففعل ذلك، فلما قدم على عمر جلده وعاقبه لمكانه منه، ثم أرسله فلبث شهرا صحيحا، ثم أصابه قدره فمات فيحسب عامة الناس إنما مات من جلد عمر، ولم يمت من جلد.». أخرجها عبد الرزاق، المصنف: 9/ 232 - 233.

(1/253)

________________________________________

الشارب بالنعال والجرائد والأسواط، وقد خمن الصحابة ذلك من زمن أبي بكر بأربعين ضربة، (1) وقد تعدد شرب الخمر في خلافة عمر فجمع الصحابة كلهم وشاورهم في ذلك فقال الأمير وعبد الرحمن بن عوف ينبغي أن يكون كحد القذف ثمانين جلدة، لأن السكران يزول عقله بالسكر فربما يسب أحدا ويشتمه، فارتضى جميع الصحابة ذلك الاستنباط وأجمعوا عليه، وقد ذكر هذه القصة ابن المطهر الحلي أيضا في (منهاج الكرامة) (2) وبما ذكرنا من أن عمر زاد حد الخمر بقول الأمير اندفع الخامس.

هذا مع أن معرفة جميع الأحكام الشرعية بالفعل ليست شرطا للإمامة، بل ولا النبوة، فقد كانت توحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الأحكام الشرعية على حسب الوقائع، والإمام يعلم بعض الأحكام بالاجتهاد، وربما يخطئ فيه، كما روى الترمذي عن عكرمة أن عليا أحرق قوما ارتدوا عن الإسلام، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: «لو كنت أنا لقتلتهم»، فبلغ ذلك عليا فقال: «صدق ابن عباس»، (3) والله تعالى الهادي.

ومنها أن عمر درأ حد الزنا عن المغيرة بن شعبة مع ثبوته بالبينة وهي أربعة رجال، ولقن الرابع كلمة تدرأ الحد فقد قال له لما جاء للشهادة: أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين. (4)

والجواب أن درء الحد إنما يكون بعد ثبوته، ولم يثبت لعدم شهادة الرابع كما ينبغي، وتلقينه الشاهد كذب وبهتان من أهل العدوان، إذ قد يثبت في التواريخ المعتبرة كتاريخ البخاري وابن الأثير وغيرهما أنه لما جاء الرابع وهو زياد ابن ابيه قالوا له: أتشهد كأصحابك؟ قال: أعلم هذا القدر، إني رأيت مجلسا ونفسا حثيثا وانتهازا ورأيته مستبطنها - أى مخفيها تحت بطنه - ورجلين كأنهما أذنا حمار، فقال عمر: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا. (5) وقد وقع ذلك بمحضر الأمير وغيره من الصحابة. فأين التلقين يا أرباب الزور المفترين؟ ولفظ «أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين» (6) إنما قاله المغيرة في ذلك الحين كما هو حال الخصم مع الشهود، ولا سيما إذا كان يترتب عليه

_________

(1) روى البخاري عن أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين». كتاب الحدود، باب ضرب شارب الخمر

(2) ونقله عنه ابنه المعروف عندهم بفخر المحققين فقال في حد شارب الخمر: «هو ثمانون جلدة، رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا». شرائع الإسلام: 4/ 319.

(3) سنن الترمذي كتاب الحدود، باب المرتد: 4/ 59 رقم 1458.

(4) المجلسي، بحار الأنوار: 30/ 651؛ المشهدي، الصوارم المهرقة: ص 136.

(5) تاريخ الطبري: 2/ 494؛ تاريخ اليعقوبي: 2/ 146؛ ابن الجوزي، المنتظم: 4/ 232؛ البداية والنهاية: 7/ 82.

(6) ليس في كتب أهل السنة بل في كتب الإمامية: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة: 12/ 227؛ المجلسي، بحار الأنوار: 30/ 648.

(1/254)

________________________________________

حكم موجب لهلاكه.

على أن عمر لو درأ الحد لكان فعله لفعل المعصوم، (1) فقد روى ابن بابويه في (الفقيه) أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - وأقر بالسرقة إقرارا موجبا للقطع، فلم يقطع يده، (2) والله تعالى الهادي.

ومنها أن عمر لم يعط أهل البيت سهمهم من الخمس الثابت بقوله تعالى {واعلموا إنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} فقد خالف حكم الله تعالى. (3)

والجواب أن فعل عمر موافق لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتحقيقه أن أبا بكر وعمر كانا يخرجان سهم ذوي القربى من الخمس ويعطيانه لفقرائهم ومساكينهم (4) كما كان ذلك في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعليه الحنفية (5) وجمع كثير من الإمامية. (6) وذهب الشافعية إلى أن لهم خمس الخمس يستوى فيه غنيهم وفقيرهم، ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ويكون بين بني هاشم والمطلب دون غيرهم. (7) والأمير أيضا عمل كعمل عمر فقد روى الطحاوي والدارقطني عن محمد بن إسحق أنه قال: سألت أبا جعفر محمد [بن علي] بن الحسين [بن علي بن أبي طالب] (8): إن أمير المؤمنين على بن أبي طالب لما ولى أمر الناس كيف كان يصنع في سهم ذوي القربى؟ فقال: سلك به والله مسلك أبي بكر وعمر. (9) إلى غير ذلك من رواياتهم، فإذا كان فعل عمر موافقا لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمير كيف يكون محلا للطعن؟ ومن يضلل الله فلا هادي له، نسأله تعالى السلامة من الغباوة والوله.

ومنها أن عمر أحدث في الدين ما لم يكن منه كصلاة التراويح وإقامتها بالجماعة، فإنها بدعة كما اعترف هو بذلك، وكل بدعة ضلالة. وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد عليه». (10)

والجواب أنه قد ثبت عند أهل السنة بأحاديث مشهورة متواترة أنه - صلى الله عليه وسلم - صلة التراويح بالجماعة مع الصحابة ثلاث ليالي من رمضان جماعة ولم يخرج في الليلة الرابعة وقال «إني خشيت أن تفرض عليكم» (11) فلما زال هذا المحذور بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - أحيى عمر هذه السنة السنية. (12) وقد ثبت في أصول الفريقين أن «الحكم إذا

_________

(1) أي في ادعاء الخصوم.

(2) من لا يحضره الفقيه: 4/ 62؛ وأخرجه أيضا الطوسي، تهذيب الأحكام: 10/ 127.

(3) من المطاعن التي ألفها الحلي في نهج الحق: ص 279.

(4) يدل على ذلك ما أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «سمعت عليا يقول: ولاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس الخمس، فوضعته مواضعه حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحياة أبي بكر وحياة عمر، فأتي بمال فدعاني [أي عمر بن الخطاب] فقال: خذه، فقلت لا أريده: قال: خذه فأنتم أحق به، قلت: قد استغنينا عنه، فجعله في بيت المال». السنن، كتاب الخراج والإمارة، باب قسم الخمس، فكان عليا من يوزع الخمس في عهد الشيخين - رضي الله عنهم -.

(5) ينظر السرخسي، المبسوط: 10/ 8؛ شرح فتح القدير: 5/ 504.

(6) الكيدري، إصباح الشيعة: ص 127؛ العاملي، اللمعة الدمشقية: 2/ 79.

(7) النووي، روضة الطالبين: 2/ 322؛ الشربيني، مغني المحتاج: 3/ 94

(8) ما بين المعقوفتين زيادة من السيوف المشرقة

(9) شرح معاني الآثار: 3/ 234؛ البيهقي، السنن الكبرى: 6/ 343.

(10) الحديث متفق عليه

(11) أحمد والترمذي وابن ماجه

(12) فهي ليست بدعة لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلها.

(1/255)

________________________________________

كان معللا بعلة نص الشارع يرتفع ذلك الحكم إذا زالت العلة» (1) وأعترف عمر بكونها بدعة حيث قال «نعمت البدعة هي» فمراده أن المواظبة عليها بالجماعة شيء حديث لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما ثبت في زمن الخلفاء الراشدين والأئمة المطهرين مما لم يكن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لا يسمى بدعة، ولو سميت بدعة فهي حسنة، والحديث مخصوص بإحداث ما لم يكن له أصل في الشرع. (2)

ومعلوم أن الشيعة لم يعتقدوا بدعية صلاة الشكر يوم قتل عمر - رضي الله عنه -، وهو اليوم التاسع من ربيع الأول، وتعظيم النيروز، (3) وتحليل فروج الجواري، وحرمان بعض الأولاد من بعض التركة، (4) إلى غير ذلك من الأمور التي لم تكن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - بناء على زعمهم أن الأئمة أحدثوها. أما أن لا يعتقد أهل السنة بدعية ما أحدثه عمر فلأنه عندهم كالأئمة عند الشيعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - «ومن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليك بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ» والله سبحانه الهادي.

ومنها أن عمر منع من متعة النساء ومتعة الحج، مع أن كلتا المتعتين كانتا في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، فنسخ حكم الله تعالى وحرم ما أحله سبحانه، بدليل ما ثبت عند أهل السنة من قوله «متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانا أنهى عنهما». (5)

والجواب أن أصح الكتب عند أهل السنة الصحاح الست، وأصحها البخاري ومسلم، وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع وسبرة بن معبد الجهني أنه - صلى الله عليه وسلم - قد حرم

_________

(1) الآمدي، الإحكام: 3/ 256؛ الرازي، المحصول: 3/ 538. ومن كتب الإمامية: أوثق المسائل: ص 148؛ مفاتيح الأصول: ص 314.

(2) ينظر ما قاله ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم

(3) عيد مجوسي ليس في شيء من دين الإسلام

(4) تقدم تقرير هذه المسائل

(5) الحديث أخرجه أحمد عن جابر قال: «متعتان ينفذ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهانا عنهما عمر - رضي الله عنه - فانتهينا». المسند: 3/ 325، رقم 14519؛ الطحاوي، شرح معاني الآثار: 2/ 146.

(1/256)

________________________________________

هو المتعة بعد ما كان أحلها ورخصها لهم ثلاثة أيام، (1) وجعل تحريمها إذ حرمها مؤبدا إلى يوم القيامة. ومثل هذه الرواية في الصحاح الأخر، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة رواية الأئمة عن الأمير بتحريمها. (2) فإن ادعت الشيعة أن ذلك كان في غزوة خيبر ثم أحلت في غزوة الأوطاس (3) فمردود، لأن غزوة جيبر كانت مبدأ تحريم لحوم الحمر الأهلية لا متعة النساء، فقد روى جمع من أهل السنة عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي بتحريم المتعة» (4) فقد علم أن تحريم المتعة كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة أو مرتين، فالذى بلغه النهي امتنع عنها ومن لا فلا، ولما شاع في عهد عمر ارتكابها أظهر حرمتها وأشاعها وهدد من كان يرتكبها. وآيات الكتاب شاهدة على حرمتها وقد سبق ذلك في المسائل الفقهية فتذكر فما في العهد من قدم.

والجواب عن متعة الحج - أعنى تأدية أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته - أن عمر لم يمنعها قط، ورواية التحريم عنه افتراء صريح. نعم إنه كان برى إفراد الحج والعمرة أولى من جمعها في إحرام واحد وهو القران، أو في سفر واحد وهو التمتع، وعليه الإمام الشافعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه وغيرهم لقوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله - إلى قوله - فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} الآية، فأوجب سبحانه الهدى على المتمتع لا على المفرد جبرا لما فيه من النقصان، كما أوجبه تعالى في الحج إذا حصل فيه قصور ونقص، لأنه - صلى الله عليه وسلم - حج في حجة الوداع مفردا واعتمر في عمرة

_________

(1) الحديثان عند مسلم، الأول حديث سلمة بن الأكوع: «رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتعة يوم أوطاس ثلاثا ثم نهى عنها به». صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتع؛ والثاني حديث سبرة قال: «أذن لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتعة، فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة عيطاء فعرضنا عليها أنفسنا، فقالت: ما تعطي فقلت: ردائي، وقال: صاحبي ردائي، وكان رداء صاحبي أجود من ردائي، وكنت أشب منه، فإذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها، وإذا نظرت إلي أعجبتها، ثم قالت: أنت ورداؤك يكفيني فمكثت معها ثلاثا، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع فليخل سبيلها». صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح ثم نسخ

(2) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية». متفق عليه.

(3) قال ياقوت الحموي: «أوطاس: وادٍ في ديار هوزان فيه كانت وقعة حنين للنبي - صلى الله عليه وسلم - ببني هوزان». معجم البلدان: 1/ 281؛ والغزوة في السنة الثامنة للهجرة.

(4) متفق عليه، وهو في الموطأ والترمذي.

(1/257)

________________________________________

القضاء (1) وعمرة جعرانة (2) كذلك ولم يحج فيها بل رجع إلى المدينة مع وجود المهلة.

وأما ما رووا من قول عمر «وأنا أنهى عنهما» فمعناه أن الفسقة وعوام الناس لا يبالون بنهي الكتاب وهو قوله تعالى {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} وقوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} إلا أن يحكم عليهم الحاكم والسلطان ويجبرهم على مراعاة ما أمروا به وما نهوا عنه فلذلك أضاف النهي إلى نفسه، فقد تبين لك ولله تعالى الحمد زيف أقوالهم وظهر لك مزيد ضلالهم، والحق يعلو وكلمة الصدق تسمو.

 

المطاعن الثالثة في حق ذى النورين وثالث العمرين - رضي الله عنه -

فمنها أن عثمان ولى وأمر من صدر منه الظلم والخيانة وارتكاب الأمور الشنيعة كالوليد ابن عقبة (3) الذي شرب الخمر وأم الناس في الصلاة وهو سكران وصلى الصبح أربع ركعات

_________

(1) في العام السابع للهجرة بعد عام من الحديبية.

(2) الجعرانة: عين ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، نزلها النبي - صلى الله عليه وسلم - عند عودته من حنين وأحرم منها - صلى الله عليه وسلم - بعمرة. ابن هشام، السيرة النبوية: 5/ 162؛ ياقوت الحموي، معجم البلدان: 2/ 142.

(3) الوليد بن عقبة أخو أمير المؤمنين عثمان لأمه، أمهما أروى بنت كريز، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، عمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوأمة أبيه. أدرك خلافة الصديق الأكبر في أول شبابه وكان محل ثقته، وموضع السر في الرسائل الحربية التي دارت بين الخليفة وقائده خالد بن الوليد في وقعة المذار مع الفرس سنة 12. ثم وجهه مددا إلى قائده عياض بن غنم الفهري (الطبري 4: 22). وفي سنة 13 كان الوليد بلي لأبي بكر صدقات قضاعة، ثم لما عزم الصديق على فتح الشام كان الوليد عنده بمنزلة عمرو بن العاص في الحرمة والثقة والكرامة فكتب إليه وإلى عمرو يدعوهما لقيادة فيالق الجهاد فسار عمرو بلواء الإسلام نحو فلسطين وسار الوليد إلى شرق الأردن (الطبري 4: 29 - 30). ثم رأينا الوليد سنة 15 أميرا لعمر بن الخطاب على بلاد بني تغلب وعرب الجزيرة يحمى ظهور المجاهدين في شمال الشام لئلا يؤتوا من خلفهم. وكان الوليد أول ناشر لدعوة الإسلام بين نصارى تغلب وبقايا إياد بحماسة وغيرة لا مثيل لها. وبهذه الثقة الكبرى التي نالها الوليد من أبي بكر وعمر ولاه عثمان ولاية الكوفة، وكان من خير ولاتها عدلا ورفقا وإحسانا، وكانت جيوشه مدة ولايته على الكوفة تسير في آفاق الشرق فاتحة ظافرة موفقة. وانظر في تاريخ الطبري (5: 60) شهادة الإمام الشعبي له في إمارته وفي جهاده وجزيل إحسانه إلى الناس. وقد عزله عثمان - رضي الله عنه - بعد أن حده في شرب الخمر سنة 29هـ، ويقال إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق، ولما قتل عثمان اعتزل الوليد الفتنة، وكان قد غزا في سنة ثمان وعشرين أذربيجان وهو أمير القوم، مات في خلافة معاوية. الاستيعاب: 4/ 1552؛ الإصابة: 6/ 614.

(1/258)

________________________________________

ثم قال: هل أزيدكم؟ وولى معاوية الشام التي هي عبارة عن أربع ممالك فتقوى حتى أنه نازع الأمير وبغى عليه في أيام خلافته. (1) وولى عبد الله بن سعد مصر فظلم أهلها ظلما شديدا حتى اضطرهم إلى الهجرة إلى المدينة وخرجوا عليه. وجعل مروان وزيره وكاتبه فمكر في حق محمد بن أبي بكر وكتب مكان اقبلوه اقتلوه. (2) ولم يعزلهم بعد الاطلاع على أحوالهم حتى تضجرت الناس منه فآل أمره إلى أن قتل، ومن كان في هذا حاله فهو غير لائق بالإمامة. (3)

والجواب أن الإمام لابد له أن يفوض بعض الأمور إلى من يراه لائقا لما هنالك بحسب الظاهر، إذ ليس له علم الغيب، فإنه ليس بشرط في الإمامة عند أهل الحق. وقد كان عماله ظاهرا مطيعين له منقادين لأوامره. (4) وقد ثبت في التاريخ أنهم خدموا الإسلام وشيدوا الدين، فقد فتحوا بلادا كثيرة حتى وصلوا غربا إلى الأندلس وشرقا إلى بلخ (5) وكابل، (6) وقاتلوا برا وبحرا، واستأصلوا أرباب الفتن والفساد من عراق العجم وخراسان. وقد عزل بعض من تحقق لديه بعد ذلك سوء حاله كما عزل الوليد. (7) ومعاوية

_________

(1) قال ابن تيمية في منهاج السنة (2: 219) لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء.

(2) الخبر ليس في كتب التاريخ المعتبرة، ويظهر أنه من وضع الشيعة.

(3) هذه المطاعن من كتاب الحلي منهاج الكرامة، وانظر رد ابن تيمية في منهاج السنة النبوية

(4) وما يقال عن عمال عثمان - رضي الله عنه - يقال عن عمال علي - رضي الله عنه -، فقد ظهر الخيانة والفساد من بعض من ولاه، مثل قوله لبعض بني عمه: «فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كَلَبَ والعدوَّ قد حَرِبَ، وأمانة الناس قد خُزِيَت، وهذه الأمة قد فَنَكَتْ (أي بعدت) وشغرت (اشتدت) قلبت لابن عمك ظهر المجن، ففارقته مع المفارقين، وخلته مع الخاذلين، وخُنْتَه مع الخائنين فلا ابن عمك آسيت، ولا الأمانة أدِّيْتَ». نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 16/ 167.

(5) بلخ من أشهر مدن خراسان، افتتحها الأحنف بن قيس في أيام عثمان - رضي الله عنه -. معجم البلدان: 1/ 479.

(6) عاصمة أفغانستان اليوم، افتتحت في زمن بني مروان وأهلها مسلمون منذ ذلك الوقت. معجم ما استعجم: 4/ 1108؛ معجم البلدان: 4/ 426.

(7) ذكر الطبري وغيره من المؤرخين بأن عثمان عزل الوليد بن عقبة بعد هذه الحادثة سنة 30هـ وولى مكانه سعيد بن العاص. تاريخ الطبري: 4/ 271. قال الطبري في حق الوليد: «وكان أحب الناس في الناس وأرفقهم بهم، فكان كذلك خمس سنين وليس على داره باب». تاريخ الطبري: 4/ 252. قال ابن تيمية: «وعثمان - رضي الله عنه - لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد، وكان يعزل من يراه مستحقا للعزل». منهاج السنة النبوية: 6/ 241.

(1/259)

________________________________________

لم يبلغ في زمنه حتى يستحق العزل، بل قد أجرى خدمات كثيرة، كما غزا الروم وفتح منها بلادا متعددة. (1)

وأما الشكايات التي وقعت على عبد الله بن سعد فمن تزوير عبد الله ابن سبأ وتسويلاته. وبالجملة لم يكن لعثمان قصور مما هنالك، وحاله مع عماله كحال الأمير مع عمله، إلا أن عمال عثمان كانوا منقادين لأوامره ومطيعين له بخلاف عمال الأمير. ومن راجع ما سلف منا من خطب الأمير في حق أتباعه وجنده وأشياعه تبين له صدق هذا الكلام، وأن لا عتب على ذى النورين في ذلك ولا ملام. وقد كتب الأمير كرم الله تعالى وجهه إلى المنذر بن الجارود العبدي «أما بعد فصلاح أبيك غرني وظننت أنك تتبع هداه وتسلك سبيله، فإذا أنت - فيما نما إلي عنك - لا تدع لهواك انقيادا، ولا تبقى لآخرتك عتادا. تغمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك» إلى آخر ما قال. (2) ومثل هذا كثير في ذلك الكتاب. فكما أن الأمير لا يلحقه طعن بسبب ما وقع

_________

(1) لم يكن هناك من سبب لعزل معاوية، وإنما سار عثمان - رضي الله عنه - على سيرة عمر - رضي الله عنه - في ذلك، وقد قدم معاوية خدمات جليلة للإسلام في عهد عثمان - رضي الله عنه - تمثلت ببناء أول أسطول بحري إسلامي، والمساهمة في كسر الأسطول الرومي في البحر المتوسط. ينظر تاريخ الطبري (حوادث سنة 31هـ).

(2) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 18/ 54.

(1/260)

________________________________________

من عماله، كذلك عثمان. وإلا فما الفرق؟ والله سبحانه الموفق للهداية وبه نستعيذ من الضلالة والغواية.

ومنها أن عثمان أدخل الحكم (أبا مروان) بن العاص (1) المدينة وقد أخرجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

والجواب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما أخرجه لحبه المنافقين وتهيجه الفتن بين المسلمين ومعاونته الكفار، (2) ولما زال الكفر والنفاق بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - وقوي الإسلام في خلافة الشيخين لم يبق محذور من إرجاعه إليها. وقد سبق مما هو مقرر عند الفريقين أن الحكم إذا علل بعلة ثم زالت زال. وعدم إرجاع الشيخين إياه لما حصل عندهما من ظن بقائه

_________

(1) الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، عم عثمان بن عفان، أسلم يوم الفتح، مات سنة 32هـ. الإصابة: 2/ 104. وقال ابن تيمية: «قصة نفي النبي - صلى الله عليهوسلم  - للحكم ليست من الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به أمرها ... ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة، فإن كان - صلى الله عليه وسلم - طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة، وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا: ذهب باختياره، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عزر رجلا بالنفي لم يلزم أن يبقى منفيا طول الزمان، فإن هذا لا يعرف بشيء من الذنوب، ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفيا دائما». منهاج السنة النبوية: 6/ 226.

(2) أي قبل الهجرة والفتح - إن صحت القصة.

(1/261)

________________________________________

على ما كان عليه في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد ارتفع ذلك عن عثمان زمن خلافته لأن الحكم كان ابن أخيه. على أن عثمان قال اعترضوا عليه بذلك: إني كنت أخذت الإذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته على دخول الحكم المدينة وعدم قبول أبي بكر ذلك مني لطلبه شاهدا آخر على إذنه - صلى الله عليه وسلم - له بالدخول المدينة، وكذلك عمر، ولما أدت النوبة إلى عملت بما علمت. (1) وأيضا قد ثبت أن الحكم قد تاب في آخر عمره من النفاق ومما كان يفعله من التزوير والاختلاق، والله تعالى الهادي إلى طريق السداد، ومنه التوفيق والرشاد.

ومنها أن عثمان وهب لأهل بيته وأقاربه كثيرا من المال، وصرف من بيت المال مصارف كثيرة في غير محلها مما يدل على إسرافه، كما اعطى الحكم مائة ألف درهم (2) وأعطى مروان خمس إفريقية (3) [وسعيد بن] العاص (4) ثلاث مائة ألف درهم وذلك لما جاء من مكة، (5) إلى غير ذلك من الإسراف الوافر والبذل المتكاثر، ومن كان بهذه الأحوال كيف يستحق الإمامة من بين الرجال. (6)

والجواب - على فرض التسليم - أن عثمان - رضي الله عنه - بذل ذلك من كيسه لا من بيت المال، فإنه كان من المتمولين قبل أن يكون خليفة، ومن راجع كتب السير أقر بهذا الأمر، فقد كان - رضي الله عنه - يعتق في كل جمعة رقبة، ويضيف المهاجرين والأنصار، ويطعمهم في كل يوم. وقد روي عن الإمام الحسن البصري أنه قال: إنى شهدت منادي عثمان ينادي «يا أيها الناس اغدوا على أعطياتكم، فيغدون فيأخذونها وافرة، يا أيها الناس اغدوا على أرزاقكم، فيغدون فيأخذونها وافية حتى والله لقد سمعته أذناي يقول: اغدوا على كسوتكم، فيأخذون الحلل» (7) ومن راجع كتب التواريخ

_________

(1) لم يعرف مصدر الرواية.

(2) نقله المجلسي عن الواقدي في بحار الأنوار: 31/ 300.

(3) ذكرها الإمامية في كتبهم نقلا عن الواقدي. المجلسي، بحار الأنوار: 31/ 221. ولا تصح تاريخيا لأن الطبري روى في قصة الخمس هذه أن عمرو بن العاص عندما كان واليا على مصر، وكان عبد الله بن سعد على جندها وأراد أن يغزو أفريقية قال له عمرو بن العاص: «إن فتح الله عليك غدا أفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا»، ولم يكن عثمان - رضي الله عنه - يعلم بهذا، فلما علم رد المال وعزل عمرو بن العاص لذلك. تاريخ الطبري: 2/ 597.

(4) في المطبوع خالد بن أسيد بن العاص والصحيح سعيد بن العاص.

(5) رواية شيعية لا أصل تاريخي لها، أخرجها الطوسي في أماليه: ص 711؛ وعنه المجلسي في بحار الأنوار: 31/ 451

(6) الحلي، نهج الحق: ص 293.

(7) تاريخ دمشق لابن عساكر: 39/ 227.

(1/262)

________________________________________

علم درجة سخائه رضي الله تعالى عنه، ولم ينقل عن أحد الإنفاق في سبيل الله تعالى موجب للطعن، (1) والله تعالى الهادي. (2)

ومنها أن عثمان قد عزل في خلافته جمعا من الصحابة عن مناصبهم كما عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة (3) ونصب مكانه عبد الله بن عامر، (4) وعزل عمرو بن العاص (5) عن مصر

_________

(1) قال الطبري في تاريخه (5: 103): كان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبى العاص فاعطي آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وبني العيص وفي بني حرب. وقد أشار عثمان إلى ذلك في خطبته المشهورة على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردا على زعماء الفتنة والبغاة عليه فقال: «وقالوا إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لهم فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم. وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس. وقد كنت اعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتت على اسنان أهل بيتي وفنى عمرى وودعت الذي لى في أهلي قال الملحدون ما قالوا؟». نعم إن عثمان يود ذوي قرابته، ومودته لهم من فضائله، وهم لذلك أهل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أستعان برجال من عشيرة ولا ولى عددا من فريق بقدر ما استعان برجال بني أمية وولى أموره لرجالهم. وحتى بلدة مكة ولاها لفتى من فتيانهم، وكان هو وكان بقية هؤلاء الرجال الأماجد عند حسن ظنه بهم، وكذلك كانوا مدة ابي بكر وعمر وعثمان وفي كل زمان ومكان إلا النادر منهم، وما هم بمعصومين. وهذا الخلق الكريم في مودة عثمان لذوى رحمه أثني عليه به علي فقال «إن عثمان أوصل الصحابة للرحم» وعلي أعرف الناس بابن عمه عثمان وكان عثمان وعلي في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - شديدي الصلة والمحبة فيما بينهما، وكان الناس يحملون ذلك على أنهما من بني عبد مناف.

(2) أخرج الترمذي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: «لما حصر عثمان أشرف عليهم فوق داره ثم قال: أذكركم بالله هل تعلمون أن حراء حين انتفض قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد؟ قالوا: نعم قال: أذكركم بالله هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جيش العسرة: من ينفق نفقة متقبلة والناس مجهدون معسرون فجهزت ذلك الجيش؟ قالوا: نعم، ثم قال: أذكركم بالله هل تعلمون أن بئر رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل؟ قالوا: اللهم نعم وأشياء عددها» كتاب المناقب. وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن سمرة قال: «جاء عثمان بن عفان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي - صلى الله عليه وسلم - جيش العسرة، قال: فصبها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقلبها بيده ويقول: ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم، يرددها مرارا».

(3) والسبب شكاية أهل البصرة من أبي موسى، فذهبوا إلى عثمان - رضي الله عنه - وطلبوا أن يعزله. تاريخ الطبري: 2/ 604.

(4) هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة القرشي، قال ابن حجر: وكان جودا شجاعا ولاه عثمان البصرة بعد أبي موسى الأشعري سنة 9هـ، فافتتح في إمارته خراسان كلها وسجستان وكرمان، وفي إمارته قتل يزدجرد آخر ملوك الفرس، توفي سنة 75هـ. تهذيب التهذيب: 5/ 239.

(5) الآن صار الشيعة ينتصرون لعمر بن العاص ويتوجهون له!

(1/263)

________________________________________

ونصب مكانه عبد الله بن سعد (1) مع أنه قد ارتد في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولحق بمشركي مكة وأباح - صلى الله عليه وسلم - دمه يوم الفتح حتى تكفله عثمان فأسلم. (2) وعزل عمار بن ياسر (3) عن الكوفة وعبد الله بن مسعود عن قضائها. (4)

والجواب أن عزل العمال ونصبهم من وظيفة الخلفاء والأئمة، ولا يلزمهم إبقاء العمال السابقين على حالهم. نعم لا ينبغي العزل من غير سبب وعزل هؤلاء كان لسبب، وقد فصل ذلك في كتب التواريخ فراجعها.

ومنها أن عثمان درأ القصاص (5) عن عبيد الله بن عمر وقد قتل الهرمزان ملك الأهواز الذي أسلم في زمن عمر بعد ان اتهمه في مشاركة من قتل عمر، (6) مع أن القاتل كان أبا لؤلؤة فقط وقد قتل أيضا جنيفة النصراني لاتهامه بذلك. وقد اجتمع الصحابة عليه ليقتص من عبيد فلم يوافقوهم وأدى ديتهم عنه فخالف حكم الله فليس يليق

_________

(1) قال الطبري في حوادث سنة 27هـ: «لما ولي عثمان أقر عمرو بن العاص على عمله وكان لا يعزل أحدا إلا عن شكاة أو استعفاء شكاة»، ثم جاء أهل مصر يشكون عمرو بن العاص لعثمان، فعزله وولى مكانه سعد بن عبد الله. تاريخ الطبري: 2/ 597.

(2) والإسلام يجب ما قبله. وصار مجاهدا فاتحا وله مثل ثواب كل من أسلم على يده من سكان شمال إفريقية.

(3) عزل عمار بن ياسر كان في خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سنة 22هـ كما ذكر الطبري وغيره .. ولما ولي علي - رضي الله عنه - لم يولِ عمارا الكوفة بل أقر أبا موسى عليها، مما يدل على صحة العزل، وقد ذكر أنه غير عالم بالسياسة. تاريخ الطبري 2/ 544.

(4) ذكر ابن حجر عن زيد بن وهب قال: «لما بعث عثمان إلى ابن مسعود يأمره بالقدوم إلى المدينة اجتمع الناس فقالوا أقم ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه، فقال: إن له علي حق الطاعة ولا أحب أن، أكون أول من فتح باب الفتن». الإصابة: 4/ 235.

(5) قال القاضي أبو بكر بن العربي في (العواصم من القواصم) ص 107: كان ذلك والصحابة متوافرون والأمر في أوله وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه. وفي تاريخ الطبري (5: 42) شهادة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق على الهرمزان مروية عن سعيد بن المسيب. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (3: 200): وقد قال عبد الله بن عباس لما طعن عمر - وقال له عمر: كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة - فقال ابن عباس: إن شيء ت نقتلهم. قال ابن تيمية: فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقا الذين كانوا في المدينة. لما اتهموهم بالفساد، اعتقدوا جواز مثل هذا. وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين فيجب أنه يقتل يعمر بن الخطاب، فإنهم يعيدون لمقتل عمر ويسمون قاتله وهو أبو لؤلؤة (بابا شجاع الدين)

(6) وقد غضب عثمان - رضي الله عنه - لتصرف عبيد الله، وعزم على معاقبته إلا إن بعض الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف وعمرو بن العاص رأوا أن مصلحة المسلمين الاكتفاء بالدية لعظم المصاب ولتجنب الفتنة، كما روى ابن عساكر: «عن نافع قال: رأى عبد الرحمن بن عوف السكين التي قتل بها عمر فقال: رأيت هذه أمس مع الهرمزان وجفينه، فقلت: ما تصنعان بهذه السكين؟، فقالا: نقطع بها اللحم فإنا لا نمس اللحم، فقال له عبيد الله بن عمر: أنت رأيتها معهما قال: نعم فأخذ سيفه ثم أتاهما فقتلهما، فأرسل إليه عثمان فأتاه فقال: ما حملك على قتل هذين الرجلين وهما في ذمتنا، فأخذ عبيد الله عثمان فصرعه حتى قام الناس إليه فحجزوه عنه قال وقد كان حين بعث إليه عثمان تقلد السيف فعزم عليه عبد الرحمن أن يضعه فوضعه». تاريخ دمشق: 38/ 61.

(1/264)

________________________________________

للإمامة.

والجواب أن القصاص لم يثبت في تلك الصور، لأن ورثة الهرمزان لم يكونوا في المدينة بل كانوا في فارس، ولما أرسل عليهم عثمان لم يحضروا المدينة خوفا كما ذكر المرتضى في بعض كتبه. (1) وشرط حضور جميع ورثة المقتول كما ذهبت إليه الحنفية، فلم يبق إلا الدية، وقد أعطاها من بيت المال لا من القاتل، ولأن بنت أبي لؤلؤة كانت مجوسية وجفنة كان نصرانيا وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «لا يقتل مسلم بكافر» (2) وهذا ثابت عندهم. (3) على أنه لو اقتص عثمان من عبيد الله لوقعت فتنة عظيمة لأن بني تيم وبني عدي كانوا مانعين من القتل، وكانوا يقولون لو اقتص عثمان من عبيد الله لحاربناه، ونادى عمرو بن العاص وهو رئيس بني سهم فقال: أيقتل أمير المؤمنين أمس ويقتل ابنه اليوم؟ لا والله لا يكون هذا أبدا. (4) وهذا كما ثبت عندهم من أن الأمير لم يقتص من قتله عثمان خوفا من الفتنة. (5)

ومنها أن عثمان غير سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه صلى اربع ركعات في منى مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر الصلاة الرباعية في سفره دائما. وقد أنكر عليه الجماعة من الصحابة ذلك الفعل. (6)

والجواب أن عثمان ما كان إذ ذك مسافرا لأنه تزوج في مكة وتبوأ منزلا فيها وأقام في تلك البقعة المباركة، ولما طلع الأصحاب على حقيقة الحال زال عنهم الإنكار والإشكال. (7)

ومنها أن عثمان قد وهب لصحابه ورفقائه كثيرا من أراضى بين المال وأتلف حقوق المسلمين.

والجواب أنه كان يأذن لهم بإحياء أراضي الموات، ومن يحيى الموات فهي له لقوله عليه الصلاة والسلام: «موتان الأرض لله ولرسوله فمن أحيا منها شيئا فهو له» (8) ولم يهب لأحد أرضا معمورة مزروعة كا يعلم ذلك من التاريخ. (9)

_________

(1) ذكره صاحب نهج الحق: 298. لكن في رواية للطبري في تاريخه (5: 43 - 44) عن سيف بن عمر عن أشياخه أن القماذ بن الهرمزان دعاه عثمان وامكنه من عبيد الله فقال القماذ باذ «تركته لله ولكم». وانظر تفاصيل ذلك في التعليقات على (العواصم من القواصم) ص 106 - 108.

(2) البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه.

(3) رواه الطوسي في الاستبصار: 4/ 170؛ ابن البطريق، العمدة: ص 314.

(4) وردت في تاريخ الطبري دون التصريح باسم عمرو بن العاص.

(5) قاله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: 9/ 293.

(6) قال الحلي في نهج الحق: ص 301.

(7) أخرج أحمد في مسنده من رواية عبد الرحمن بن أبي ذباب أن عثمان قال: «يا أيها الناس إني تأهلت بمكة منذ قدمت، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من تأهل ببلد فليصلِّ صلاة المقيم».

(8) البيهقي في السنن الكبرى: 6/ 143، رقم 11564.

(9) قال الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة في متاب (الخراج) ص 61 صبع المطبعة السلفية: وقد اقطع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتألف على الإسلام أقواما وأقطع الخلفاء من بعده من رأوا أن في إقطاعه صلاحا (وضرب أبو يوسف الأمثلة على ذلك). وانظر باب القطائع ص 77 - 78 من كتاب (الخراج) ليحيى بن آدم القرشي طبع السلفية أيضا. وذكر الإمام الشعبي بعض الذين اقطعهم عثمان فقال: «واقطع الزبير، وخبابا، وعبد الله اب نمسعود، وعمار بن ياسر، ابن هبار. فإن يكن عثمان أخطأ، فالذين قبلوا منه الخطأ أخطأوا، وهم الذين أخذنا عنهم ديننا» (انظر الطبري 4: 148). وأقطع علي بن ابي طالب كردوس بن هاني (الكردوسية)، وأقطع سويدا بن غفلة أرضا لدا ذويه. فكيف ينكرون على عثمان ويسكتون عن عمر وعلي؟ وللقاضي أبي يوسف كلام سديد في هذا الموضوع في كتاب (الخراج) ص 60 - 62.

(1/265)

________________________________________

ومنها أن الصحابة كلهم كانوا راضين بقتله ويتبرأون منه حتى تركوه بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن. (1)

والجواب أن هذا كله كذب صريح وبهتان فضيح على الصبيان فضلا عن ذوي العرفان، (2) ألا ترى أن طلحة والزبير وعائشة الصديقة ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم قد قاتلوا لأجل طلب القصاص لعثمان، وقد ثبت في التواريخ عند الفريقين أن الصحابة كلهم لم يألوا جهدا في دفع البلوى عنه حتى استأذنوا منه في قتال المحاصرين فلم يجوز لهم، (3) وكانوا مهما تمكنوا يوصلون إليه الماء ويفرجون عنه.

_________

(1) الحلي في نهج الحق: ص 299.

(2) ذكر قصة التأخر القرطبي في التذكرة: ص 617. لكن الثابت أنه دفن في الليلة نفسها التي قتل فيها كما نقل الطبري في التاريخ: 2/ 689.

(3) نقل البلاذري في أنساب الأشراف (5: 73) من حديث الإمام محمد بن سيرين أن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - دخل على عثمان وقال له: إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون «إن شيء ت كنا أنصار الله مرتين» فقال عثمان «لا حاجة لي بذلك كفوا». قال القاضي أبو بكر بن العربي في (العواصم من القواصم) ص 136: «إن أحدا من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه. ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفا بلديين أو أكثر من ذلك، ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة».

(1/266)

________________________________________

وجاء زيد بن ثابت الأنصار وقال شبابهم له: إن شيء ت كنا أنصار الله مرتين. (1) وجاء عبد الله بن عمر مع المهاجرين وقال: إن الذين خرجوا عليك قد أمنوا سيوفنا، واستأذنه لقتالهم فلم يؤذن له. (2) وكان السبطان (3) وعبد الله بن عمر (4) وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر بن ربيعة (5) وأبو هريرة (6) وغيرهم من الصحابة معه في دار وكانوا يدافعون عنه كلما هجم عليه أهل البغي والعدوان ولم يأذن لهم ولا لأحد بقتالهم.

وقد ثبت في نهج البلاغة من كلام الأمير أنه قال «والله قد دفعت عنه» (7) إلى غير ذلك. (8) وقد شيع جنازته جماعة من الصحابة والتابعين ودفنوه بثيابه الملطخة بالدم ليلا ولم يؤخروه. وقد حضرت الملائكة جنازته لما روى الحافظ الدمشقي مرفوعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «يوم موت عثمان تصلي عليه ملائكة السماء» قال الراوي: قلت يا رسول الله عثمان خاصة أو الناس عامة؟ قال: عثمان خاصة. (9)

ونسبة هجوه وبغضه إلى الصحابة كذب وزور، وذلك في غاية الظهور. فقد روى الديلمي وهو من المعتبرين عند الشيعة في (المنتقى) عن الحسن بن علي قال «ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعا يده على العرش، ورأيت أبا بكر واضعا يده على منكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيت عمر واضعا يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعا يده على منكب عمر، ورأيت دما دونه، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: دم عثمان يطلبه الله تعالى به». (10)

وروى ابن السمان عن قيس بن عباد قال سمعت عليا يوم الجمل يقول «اللهم إنى أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاءوني

_________

(1) عن يحيى بن زيد بن ثابت قال: «لما حصر عثمان أتاه زيد بن ثابت فدخل عليه الدار، فقال له عثمان: أنت خارج الدار أنفع لي منك ههنا، فذب عني، فخرج فكان يذب الناس ويقول لهم فيه، حتى رجع لقوله أناس من الأنصار وجعل يقول: يا للأنصار كونوا أنصار الله مرتين انصروه، والله إن دمه». تاريخ ابن دمشق: 19/ 320؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ: 3/ 82.

(2) أخرج رواية قريبة ابن عساكر في تاريخ دمشق: 39/ 395.

(3) عن عبد الله بن رباح أنه قال: «انطلقت أنا وأبو قتادة إلى عثمان حين حصره القوم فلما خرجنا من عنده استقبلت الحسن بن علي بن أبي طالب داخلا عليه فرجعنا معه لننظر ما يقول له الحسن فقال يا أمير المؤمنين مرني بأمرك فإني طوع يديك فمرني بما شيء ت فقال له عثمان ابن أخ ارجع فاجلس في بيتك حتى يأتي الله بأمره فلا حاجة لنا في إهراق الدماء». تاريخ دمشق: 39/ 390 - 391. وفي رواية أخرى: «الحسن بن علي كان آخر من خرج من عند عثمان».

(4) عن نافع عن ابن عمر: «أنه لبس الدرع يوم الدار مرتين وقال: والله لنقاتلن عن عثمان». تاريخ دمشق: 39/ 394

(5) عن يحيى بن سعيد قال سمعت: «عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول: كنت مع عثمان في الدار، فقال: أعزم على كل من رأى أن لنا عليه طاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندي غناء من كف يده وسلاحه». تاريخ دمشق: 39/ 398.

(6) عن أبي هريرة قال قلت لعثمان اليوم طاب الضرب معك قال أعزم عليك لتخرجن. تاريخ دمشق: 39/ 396

(7) شرح نهج البلاغة: 13/ 296

(8) أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله الأنصاري: «أن عليا أرسل إليه، يعني إلى عثمان، إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم فإنك لم تحدث شيئا يستحل به دمك، قال: جزيت خيرا ما أحب أن يهراق دم في سببي». تاريخ دمشق: 39/ 398.

(9) أخرجه: الطبراني، المعجم الأوسط: 3/ 287، رقم 3172؛ الديلمي، مسند الفردوس: 5/ 533، رقم 8999؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق: 18/ 393.

(10) أخرجه أبو يعلى في مسنده: 12/ 138؛ ابن عدي، الكامل في ضعفاء الرجال: 2/ 167

(1/267)

________________________________________

للبيعة فقلت: ألا أستحي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة، إني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل في الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا. فلما دفن رجع الناس يسألون البيعة فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه. ثم جاءت عزيمة فبايعت. قال: فقالوا «يا أمير المؤمنين» فكأنما صدع قلبي» (1)

وروى ابن السمان أيضا عن محمد بن الحنفية أن عليا قال يوم الجمل «لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل» وعنه أن عليا بلغه أن عائشة تلعن قتلة عثمان فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال «وأنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل» مرتين أو ثلاثا. (2) إلى غير ذلك من أقوال أهل البيت وسائر الصحابة مما يدل على مزيد حبهم له وتأسفهم على مصيبته.

وهذا الكتاب لا يحتمل ذكر ذلك على سبيل التفصيل، وتأخير دفنه إلى ثلاثة ايام زور وبهتان كما يعلم مما ذكرنا من البيان. كيف وقد أجمع المؤرخون على أن شهادته - رضي الله عنه - بعد العصر يوم الجمعة لعشر خلون من ذي الحجة، ودفن في البقيع ليلة السبت - رضي الله عنه - وأرضاه، وجعل الغرف العالية مستقرة ومثواه، ونسأله تعالى أن يحشرنا في زمرتهم، ويميتنا على محبتهم.

 

المطاعن الرابعة في حق أم المؤمنين وحبيبة حبيب رب العالمين عائشة الصديقة وزوج مفخر العوالم على الحقيقة

منها أنها خرجت من المدينة إلى مكة (3) ومنها إلى البصرة ومعها ما يزيد عل ستة عشر ألف رجل من العسكر. وقد قال تعالى في الأزواج المطهرات {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} فأمرهن بالسكون في البيوت، ونهاهن عن الخروج من بيوتهن. (4)

والجواب أن الأمر باستقرارهن في البيوت والنهي عن الخروج منها ليس بمطلق، ولو كان مطلقا لما أخرجهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول الآية إلى الحج والعمرة

_________

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك: 3/ 101.

(2) أخرج الرواية أبي شيبة في مصنفه: 7/ 539؛ نعيم بن حماد، الفتن: 1/ 171؛ الإمام أحمد، فضائل الصحابة: 1/ 455؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق: 39/ 455.

(3) لقد خرجت - رضي الله عنها - من المدينة إلى مكة حاجة بيت الله الحرام عند اشتداد فتنة البغاة على أمير المؤمنين وقبيل شهادته.

(4) ابن طاوس، الطرائف: 1/ 291.

(1/268)

________________________________________

والغزوات ولا رخص لهن بزيارة الوالدين وعيادة المريض وتعزية أقاربهن. واللازم باطل فكذا الملزوم. والمراد من هذا الأمر والنهي تأكيد التستر والحجاب بأن لا يدرن ولا يتسكعن في الطرق والأسواق كنساء العوام، ولا منافاة بين السفر وبين التستر والحجاب، ألا ترى أن المخدرات من نساء الأمراء والملوك يخرجن من بلد إلى بلد ومعهن جمع من الخدم والأتباع. ولا سيما إذا كان السفر متضمنا لمصلحة دينية ودنيوية كالجهاد والحج والعمرة. وسفر أم المؤمنين كان من هذا القبيل، لأنها خرجت لإصلاح ذات البين وأخذ القصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه - المقتول ظلما وعدوانا، وذلك لا يعد تبرجا.

ويجاب أيضا بأن ما طعنوا به أم المؤمنين وجد في فاطمة - رضي الله عنه - أيضا لما ثبت في كتبهم بطريق التواتر أن الأمير قد أركب فاطمة على مطية وطاف بها (1) في محلات المدينة ومساكن الأنصار طالبا منهم الإعانة على ما غصب من حقها زمن خلافة الصديق - رضي الله عنه -. (2)

ويجاب أيضا بأن جميع رجال المؤمنين أبناء لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاتفاق، (3) وجميع من كان مع الصديقة في سفرها فهم أبناؤه. ولذا طلبت القصاص من القتلة، فلا إشكال ولا قيل ولا قال. وسيأتي قريبا بيان هذه القصة مفصلا إن شاء الله تعالى.

ومنها أن عسكر عائشة لما أتوا البصرة نهبوا بيت المال وأخرجوا عامل الأمير عثمان بن حنيف الأنصاري مهانا، مع أنه من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

والجواب أن هذه الأمور لم تقع برضاء عائشة ولا علمت بذلك، حتى أنها لما علمت ما جرى في حق عثمان بن حنيف اعتذرت له واسترضته. (4) ومثل هذا وقع لعسكر الأمير مع أبي موسى الأشعري فقد أحرقوا بيته ونهبوا متاعه لما دخلوا الكوفة (5) ومنهم مالك الأشتر. (6)

ومنها أن عائشة أفشت سر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير}. (7)

والجواب أن إفشاء السر وقع من حفصة

_________

(1) ما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه! أهكذا يصل حب الدنيا بأمير المؤمنين أن يستخدم ابنة رسول الله عليها السلام ويطوف بها على الناس من أجل حطام ومتاع قليل؟

(2) الرواية عن سليم بن قيس الهلالي، وهو من أوثق أصولهم، عن سلمان الفارسي قال «فلما كان الليل [في اليوم الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] حمل عليٌّ فاطمة على حمار وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين، فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتى منزله وذكر حقه إلى نصرته ... ». كتاب سليم بن قيس: ص 580؛ الطبرسي، الاحتجاج: 1/ 82.

(3) هذا خاص بالمؤمنين، قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}

(4) روى الطبري ما يدل على هذا من طريق سيف بن عمر، وأن من فعله واجترأ على عثمان بن حنيف كان بعض الغلمان من عسكر أم المؤمنين، ولم تكن تعلم بذلك فلما سمعت أمرتهم أن يطلقوا سراحه. تاريخ الطبري: 3/ 17. ومعروف كثرة الأعراب بين الفريقين. لكن الرواية التي احتج بها الشيعة واهية جدا لأنها رواية أبي مخنف المؤرخ الشيعي الواهي جدا، وسيف بن عمر أفضل منه بدرجات.

(5) ذكر الطبري في حوادث سنة 36هـ قال: كان علي - رضي الله عنه - قد خرج إلى البصرة، فوردت إليه الأنباء من الكوفة بأن أبا موسى الأشعري عامله عليها لا يوافقه الرأي في القتال، فأرسل إليه عمار بن ياسر ليستفهم الأمر، ولما كان مالك الأشتر من طلاب الفتنة فقد ألحَّ على الأمير في الذهاب إلى الكوفة، فأذن له وهنا استغل مالك الأشتر الفرصة لإثارة أهل الكوفة على أبي موسى الأشعري، قال الطبري: «فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة، وقد اجتمع الناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمر بقبيلة يرى فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلا دعاهم، ويقول: اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فاقتحم القصر فدخله وأبو موسى قائم في المسجد يخطب الناس ... فخرج عليه غلمان لأبي موسى يشتدون ينادون: يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر، فضربنا وأخرجنا، فنزل أبو موسى فدخل القصر فصاح به الأشتر: اخرج من قصرنا لا أم لك، أخرج الله نفسك فوالله إنك لمن المنافقين قديما، قال: أجلني هذه العشية، فقال هي لك ولا تبيتن في القصر الليلة ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فمنعهم الأشتر، وأخرجهم من القصر وقال إني قد أخرجته فكف الناس عنه ... ». تاريخ الطبري: 3/ 25 - 82. فما فعل طلاب الفتنة بعثمان بن حنيف حدث أيضا لأبي موسى الأشعري، فلم التعصب؟

(6) هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث المذحجي، من أصحاب علي - رضي الله عنه -، شهد مشاهده كلها، وولاه مصر، فلما كان بالعريش مات هناك، قال الذهبي: «وقد كان علي يتبرم به لأنه صعب المراس». طبقات ابن سعد: 6/ 213؛ سير أعلام النبلاء: 4/ 34.

(7) نهج الحق للحلي ص 370.

(1/269)

________________________________________

لا غير بإجماع المفسرين، وذلك أنها رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - مع مارية في فراشها من ثقب الباب، وقال لها إني حرمت مارية على نفسي فاكتميه ولا تفشيه، فذهبت حفصة وبشرت عائشة بذلك. (1) ومن مزيد فرحها اشتبه عليها الأمر فظنت أن الذي أمرت بكتمانه هو ما رأته من الشق لا التحريم. وقد عد ذلك الإفشاء من حفصة معصية وقد تابت عنها، وقد ثبت ذلك في تفاسير الشيعة كمجمع البيان للطبرسي. (2)

ومنها أن عائشة قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة (3) وما رأيتها قط ولكن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها. (4)

والجواب أن الغيرة محبوبة في النساء، ولا مؤاخذة على الأمور الجبلية. نعم لو صدر قول أو فعل مخالف للشرع للغيرة تتوجه الملامة. وفي الحديث الصحيح إن بعض أمهات المؤمنين غارت على الأخرى حين أرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما لذيذا وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك في بيت من تغار وأخذت الطبق من يد خادمها فضربت به على الأرض حتى انكسر [الإناء] (5) وانصب الطعام فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك الطعام بنفسه فاجتناه وجمعه من الأرض وقال «قد غارت أمكم» (6) ولم يعاتبها ولم يوبخها، فكيف يسوغ لأفراد الأمة أن يجعلوا أمهات المؤمنين هدفا لسهام مطاعنهم؟ والله الموفق.

ومنها أن عائشة كانت تقول في آخر الحال: قاتلت عليا ووددت أني كنت نسيا منسيا. (7)

والجواب أن هذه الرواية ما صحت بهذا اللفظ، والذى صح أنها تذكر يوم الجمل وتبكي بكاءا شديدا حتى يبتل محجرها (8) المبارك بالدموع لاستعجالها وترك التأمل ولم تحقق من قبل أن ماء الحوأب (9) واقع في أثناء السبيل أم لا. وعلى تقدير صدور ذلك

_________

(1) أخرج الطبري في تفسيره عن زيد بن أسلم: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه قال: فقالت: أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فجعلها عليه حراما فقالت يا رسول الله كيف تحرم عليك الحلال فحلف لها بالله لا يصيبها فأنزل الله عز وجل يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك». التفسير: 28/ 155؛ وأخرجه بلفظ آخر البيهقي، السنن الكبرى: 7/ 352؛، وأخرج النسائي رواية أخرى عن أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت له أمة يطؤها فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرمها فأنزل الله تعالى هذه الآية ... ». سنن النسائي: 7/ 71، رقم 3959. قال الحافظ ابن حجر: «وسنده صحيح ... وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم ... ». فتح الباري: 9/ 376.

(2) الطبرسي، مجمع البيان: 5/ 314.

(3) من مطاعن الحلي في نهج الحق: 398.

(4) متفق عليه

(5) زيادة من كتب الحديث

(6) صحيح البخاري كتاب النكاح باب الغيرة

(7) البيهقي، الاعتقاد: ص 373؛ ابن الجوزي، المنتظم: 5/ 95

(8) في المطبوع (معجرها). قال ابن منظور: «محجر العين: ما دار بها وبدا من البرقع من جميع العين، وقيل هو ما يظهر من نقاب المرأة». لسان العرب

(9) قال ياقوت الحموي: «هو ماء قريب من البصرة في الطريق من مكة إليها». معجم البلدان: 2/ 314

(1/270)

________________________________________

منها فلا ضير، إذ قد صح عند أهل السنة صدور مثل هذا اللفظ عن الأمير كرم الله تعالى وجهه لما طاف على القتلى من الطرفين فقال «يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا» وهو يضرب فخذيه.

ومنها أنها زينت يوما جارية كانت عندها وقالت: لعلنا نصطاد بها شابا من شباب قريش بأن يكون مشغوفا بها. (1)

والجواب أن هذه الرواية وردت عن وكيع بن الجراح [عن العلاء بن عبد الكريم] (2) عن عمار بن عمران عن امرأة من غنم عن عائشة رضي الله عنها، وعمار بن عمران والامرأة مجهولان فلا تقبل هذه الرواية. (3) والحاصل أن هذا الخبر لا صحة له عند أهل السنة بل لا ورود له. وعلى تقدير وروده عند الشيعة فبمقتضى قواعد الأصول عند الفريقين أنه غير مقبول لما ذكرنا. ولا يخفى على من يعرف ما لهم في هذا الباب من المصنفات أن جميع مطاعنهم واعتراضاتهم من قبيل هذه الهذيانات. نسأل الله تعالى التوفيق والهداية، والعصمة من الضلالة والغواية.

 

مطاعنهم في الصحابة رضي الله تعالى عنهم على سبيل العموم

منها أن أكثر الصحابة انفضوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العير التي جاءت من الشام وتركوه وحده في خطبة الجمعة وتوجهوا إلى اللهو واشتغلوا بالتجارة، وذلك دليل على عدم

_________

(1) أخرجه ابن أبي شيبة، المصنف: 4/ 49.

(2) زيادة من السيوف المشرقة

(3) أثر ضعيف لا يصلح للاحتجاح.

(1/271)

________________________________________

الديانة. (1)

والجواب أن هذه القصة إنما وقعت في بدء زمن الهجرة، ولم يكونوا إذ ذاك واقفين على الآداب الشريعة كما ينبغي، وكان للناس مزيد رغبة في الغلة، وظنوا أن لو ذهبت الإبل يزيد الغلاء ويعم البلاء، ولم يخرجوا جميعهم بل كبار الصحابة كأبي بكر وعمر كانوا قائمين عنده - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، ولذا لم يشنع عليهم ولم يوعهم سبحانه بعذاب ولم يعاتبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضا. (2)

ومنها أن أهل السنة رووا في صحاحهم عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد. فيقال: إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم». (3)

والجواب أنا لا نسلم أن المراد بالأصحاب ما هو المعلوم في عرفنا، بل المراد بهم مطلق المؤمنين به - صلى الله عليه وسلم - المتبعين له، وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي أصحاب الشافعي وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع. وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له في مذهب أصحابنا، مع أن بينه وبينهم عدة من السنين. ومعرفته - صلى الله عليه وسلم - لهم مع عدم رؤيتهم في الدنيا بسبب أمارات تلوح عليهم، فقد جاء في الخبر أن عصاة هذه الأمة يمتازون يوم القيامة من عصاة غيرهم كما أن طائعيهم يمتازون عن طائعي غيرهم، وجذبهم إلى ذات الشمال كان تأديبا لهم وعقابا على معاصيهم. ولو سلمنا أن المراد بهم ما هو معلوم في العرف فهم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق -

_________

(1) نهج الحق: ص 317.

(2) أخرج مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يوم الجمعة إذ قدمت عير إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فيهم أبو بكر وعمر قال: ونزلت هذه الآية: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها}».

(3) متفق عليه، وفتح الباب لطعن الشيعة بالصحابة بهذا الحديث يفتح الباب للخوارج بالطعن به بالأمير، فتأمل.

(1/272)

________________________________________

رضي الله عنه -. (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - «أصحابي أصحابي» لظن أنهم لم يرتدوا كما يؤذن به ما قيل في جوابه من أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. (2)

فإن قلت: إن «رجالا» في الحديث كما يحتمل أن يراد منه من ذكرت من مرتدي الأعراب يحتمل أن يراد ما زعمته الشيعة.

أجيب: إن ما ورد في حقهم من الآيات والأحاديث وأقوال الأئمة مانع من إرادة ما زعمته الشيعة. أما الآيات فكقوله تعالى {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم} وقوله تعالى {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم} وقوله تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} وقال تعالى {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى. وأما الأحاديث فقوله - صلى الله عليه وسلم - «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» (3) وقوله - صلى الله عليه وسلم - «الله الله في أصحابي» (4) الحديث، إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عنها المقام، وأما أقوال الأئمة فقد مر لك شيء منها، ولا مساغ للتخصيص الذي يزعمه الشيعة بوجه من الوجوه.

ومنها أن كثيرا من الصحابة فر من الزحف في غزوتي أحد وحنين، والفرار من الزحف من أكبر الكبائر. (5)

والجواب أن الفرار يوم أحد كان قبل النهي، ولئن قلنا كان بعده فهو معفو عنه بدليل قوله تعالى {ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم} (6) وأما الفرار يوم حنين فبعد تسليم أنه كان فرارا في الحقيقة معاتبا عليه، لم يصرّ عليه أولئك المخلصون بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله تعالى

_________

(1) قال الخطابي: «لم يرتد من الصحابة أحد وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحا في الصحابة المشهورين». فتح الباري: 11/ 285.

(2) قال النووي: «إن المراد به المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للسيما التي عليهم، فيقال: ليس هؤلاء مما وعدت بهم أن هؤلاء بدلوا بعدك أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم والثاني أن المراد من كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ارتد بعده فيناديهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وان لم يكن عليهم سيما الوضوء لما كان يعرفه - صلى الله عليه وسلم - في حياته من إسلامهم فيقال: ارتدوا بعدك ... ». شرح النووي على صحيح مسلم: 3/ 136

(3) وضعه في السلسلة الضعيفة رقم 58

(4) أحمد والترمذي؛ ضعيف الجامع: 1160

(5) نهج الحق: ص 317.

(6) ينظر تفسير ابن كثير: 1/ 419.

(1/273)

________________________________________

{ثم أنزل الله سكينته على رسول الله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين}. (1)

ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: كما أمرنا الله تعالى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلا بل تتنافسون ثم تتدابرون ثم تتباغضون ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض» (2) فإن هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة.

والجواب أن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو لا يستدعي أن يكون منهم. ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار، والحديث صريح في أن أولئك الفرقة ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب. فتعين أنهم من التابعين، وقد وقع ذلك منهم، فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك الأشتر وأضرابه، ولا كلام لنا فيهم.

ومنها أن الصحابة قد آذوا عليا وحاربوه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «من آذى عليا فقد آذاني». (3)

والجواب أن تلك المحاربات كانت لأمور اجتهادية فلا يلحقهم طعن من ذلك. ولا بد ههنا من التفصيل، ليتبين من هو على الحق ممن سلك التضليل فأقول: اعلم أن أعظم ما تداولت الألسن من الاختلاف الواقع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما وقع في زمن الأمير كرم الله تعالى وجهه، فنشأ منه وقعتان عظيمتان: وقعة الجمل، ووقعة

_________

(1) وقد ثبت كبار الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن إسحاق: «وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد قتل يومئذ». السيرة النبوية: 5/ 111. أما الحلي فما ادعاه [نهج الحق: ص 317] من أن أهل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط ثبتوا معه فمن كذبه العاري عن السند.

(2) صحيح مسلم

(3) أحمد وابن حبان، وفي سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس قد عنعن هنا.

(1/274)

________________________________________

صفين. والأصل الأصيل لذلك قتل عثمان. - رضي الله عنه -، وأنكر الهشامية (1) تلك الوقعتين، وإنكار ذلك مكابرة لا يلقى لها سمع، لأن الخبر متواتر في جميع مراتبه.

 

(وقعة الجمل)

وتلخيص الأولى أنه لما قتل عثمان - رضي الله عنه - عنه صبرا توجع المسلمون، فسار طلحة والزبير وعائشة - وكان قد لقيها الخبر وهي مقبلة من عمرتها - نحو البصرة، (2) فلما علم علي كرم الله وجهه بمخرجهم اعترضهم من المدينة لئلا يحدث ما يشق عصا الإسلام، ففاتوه، وأرسل ابنه الحسن وعمارا يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة، ولما قدموا البصرة استعانوا باهلها وبيت مالها، حتى إذا جاءهم الإمام كرم الله تعالى وجهه حاول الصلح واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك، فثار قتلة عثمان وكان ما كان. (3) وانتصر علي كرم الله تعالى وجهه، وكان قتالهم من ارتفاع النهار يوم الخميس إلى صلاة العصر لعشر خلون من جمادى الآخرة. (4) ولما ظهر علي - رضي الله عنه - جاء إلى أم المؤمنين - رضي الله عنه - فقال «غفر الله لك» قالت «ولك. وما أردت إلا الإصلاح» (5) ثم أنزلها دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار في البصرة على صفية (6) بنت الحارث أم طلحة الطلحات. (7)

وزارها بعد ثلاث ورحبت به وبايعته وجلس عندها فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن بالباب رجلين ينالان من عائشة فأمر القعقاع بن عمر أن يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وأن يجردهما من ثيابهما ففعل. (8) ولما أرادت الخروج من البصرة بعث إليها بكل ما ينبغى من مركب وزاد ومتاع وأذن لمن نجا من الجيش أن يرجع إلا أن يحب المقام، وأرسل معها

_________

(1) ليست من فرق الشيعة بل من فرق المعتزلة تنسب إلى هشام بن عمرو الفوطي الشيباني (توفي في حدود 220هـ)، قال عنه الذهبي: «صاحب ذكاء وجدال وبدعة ووبال»، وكان من أشد الناس قولا بالقدر. الفرق بين الفرق: ص 159؛ سير أعلام النبلاء: 10/ 547.

(2) قال الآلوسي: «كانت جماعة من كبار الصحابة كطلحة والزبير بن العوام ونعمان بن بشير ومحمود بن مسلمة وكعب بن عجرة وغيرهم يتلّهفون على عثمان، ويقولون أنه كان على الحق، ومقاتلوه على الباطل وأنه قتل مظلوما، وسمع ذلك قتلة عثمان فغاضبوا وأرادوا بهم كيدا، فلما أحسوا بذلك هرب كل منهم إلى ناحية، فهرب طلحة والزبير إلى مكة، فلما قدما إليها وجدا فيها أم المؤمنين، وكانت حاجة في السنة التي قتل فيها عثمان، فقالت: ما ورائكما؟ فقالا: إنا تحملّنا هربا من المدينة من غوغاء الأعراب، ثم قالا مع جمع آخر لها عسى أن تخرجي رجاء أن يرجع الناس إلى أمّهم وهي تمتنع عليهم ويحتجون عليها بقوله تعالى:] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [[النساء: 114]، فأجابتهم عائشة». السيوف المشرقة: 114/ب. وينظر تاريخ الطبري: 3/ 7؛ المنتظم لابن الجوزي: 5/ 80؛ الكامل لابن الأثير: 3/ 101.

(3) ثبت تاريخيا أن الصلح قد حصل بين الفريقين، فقد أرسل علي - رضي الله عنه - القعقاع بن عمرو إلى معسكر عائشة ونجح القعقاع في إقناع طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة y بأن الاقتصاص من قتلة عثمان لا يكون إلا بعد أن تستتب الأمور وتسكن الفتنة، فقالوا له: أصبت وأحسنت، واصطلح الفريقان على ذلك، ولكن قتلة عثمان وعلى رأسهم عبد الله بن سبأ اليهودي لم يرق لهم هذا الأمر وخشوا أن يفضحوا فأحدثوا فتنة عظيمة بين الفريقين، كانت النتيجة حصول المعركة والقتال بين الطرفين، ومع ذلك لم يكن أيٌّ من الطرفين راغبا في القتال، ولكن بسبب أهل البغي والفتنة حدث هذا القتال الذي لم يستمر طويلا، رغم المبالغات التاريخية التي وردت في وصفه. ينظر: تاريخ الطبري: 3/ 29؛ المنتظم لابن الجوزي: 5/ 85.

(4) تاريخ الطبري: 3/ 39؛ ابن الأثير، الكامل: 3/ 130.

(5) ذكر الرواية الطبري 3/ 55 دون قولها: ما أردت إلا الإصلاح.

(6) في المطبوع سنية

(7) تاريخ الطبري: 3/ 55؛ الكامل في التاريخ: 3/ 141؛ البداية والنهاية: 7/ 245 ..

(8) تاريخ الطبري: 3/ 53؛ الكامل في التاريخ: 3/ 144.

(1/275)

________________________________________

أربعين امرأة وسير معها أخاها محمدا. ولما كان اليوم الذي ارتحلت فيه جاء علي كرم الله تعالى وجهه فوقف على الباب في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: «يا بني لا يغتب (1) بعضكم بعضا، إنه ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه لمن الأخيار» فقال علي كرم الله تعالى وجهه «صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة» (2) وسار معها مودعا أميالا، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم. (3) وكانت رضي الله تعالى عنها بعد ذلك إذا ذكرت ما وقع تبكي حتى تبل خمارها. (4)

ففي هذه المعاملة من الأمير كرم الله تعالى وجهه دليل على خلاف ما تزعمه الشيعة من كفرها (5) - وحاشاها رضي الله عنها - وفي ندمها وبكائها على ما كان دليل على أنها لم تذهب إلى ربها إلا وهي نقية من غبار المعركة، على أن في كلامها ما يدل على أنها كانت حسنة النية في ذلك. وقال غير واحد إنها اجتهدت ولكنها أخطات في الاجتهاد ولا إثم على المجتهد المخطئ بل أجر على اجتهاده وكونها رضي الله تعالى عنها من أهل الاجتهاد مما لا ريب فيه. (6) نعم قالت الشيعة إنه يبطل اجتهادها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوما لأزواجه كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب، (7) فإياك أن تكوني أنت يا حميراء. (8) والحوأب كجعفر منزل بين

_________

(1) في تاريخ الطبري: (يعتَّب)

(2) تاريخ الطبري: 3/ 61؛ المنتظم: 5/ 94.

(3) تاريخ الطبري: 3/ 61؛ المنتظم: 5/ 94.

(4) ابن الجوزي، المنتظم: 5/ 95.

(5) قال المجلسي: «وبالجملة بغضها لأمير المؤمنين - عليه السلام - أولا وآخرا هو أشهر من كفر إبليس، وكفى حجة قاطعة عليه قتالها وخروجها عليه كما أنه كاف في الدلالة على كفرها ونفاقها». بحار الأنوار: 28/ 146.

(6) ينظر منهاج السنة النبوية: 4/ 316.

(7) أخرج الإمام أحمد عن قيس بن أبي حازم قال: «لما أقبلت عائشة بلغت مياه بني عامر ليلا نبحت الكلاب قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا أني راجعة، فقال بعض من كان معها: بل تقدمين فيراك المسلمون فيصلح الله عز وجل ذات بينهم، قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا ذات يوم كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب». السلسلة الصحيحة (رقم 475)

(8) قال ابن القيم (رحمه الله): «وكل حديث فيه يا حميراء أو ذكر الحميراء فهو كذب مختلق». المنار المنيف: ص 60.

(1/276)

________________________________________

البصرة ومكة قيل نزلته عائشة ونبحتها كلابه فتذكرت الحديث وهو صريح في النهي ولم ترجع.

والجواب عن ذلك أن الثابت عندنا أنها لما سمعت ذلك وتحقيقه من محمد بن طلحة همت بالرجوع إلا أنها لم توافق عليه ومع هذا شهد لها مروان بن الحكم مع ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية أن هذا المكان مكان آخر وليس الحوأب، (1) على أن «إياك أن تكوني يا حميراء» ليس موجودا في الكتب المعول عليها عند أهل السنة. (2) فليس في الخبر نهي صريح ينافي الاجتهاد، على أنه لو كان فلا يرد محذورا أيضا لأنها اجتهدت فسارت حين لم تعلم أن في طريقها هذا المكان، ولو أنها علمت لم يمكنها الرجوع لعدم الموافقة عليه. وليس في الحديث بعد هذا النهي أمر بشيء لتفعله، فلا جرم مرت على ما قصدته من إصلاح ذات البين المأمورة به بلا شبهة.

وأما طلحة والزبير رضي الله عنهما فلم يموتا إلا على بيعة الإمام كرم الله تعالى وجهه. أما طلحة فقد روى الحاكم (3) عن ثور بن مجزأة أنه قال: مررت بطلحة يوم الجمل في آخر رمق فقال لي: من أنت؟ قلت: من أصحاب أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، فقال: ابسط يدك أبايعك، فبسطت يدي فبايعني وقال: هذه بيعة علي، وفاضت نفسه. فأتيت عليا - رضي الله عنه - فأخبرته فقال: الله أكبر صدق الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أبى الله سبحانه أن يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه. (4) وأما الزبير - رضي الله عنه - فقد ناداه علي كرم الله تعالى وجهه وخلا به وذكره قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: لتقاتلن عليا وأنت له ظالم، فقال: لقد أذكرتني شيئا أنسانيه الدهر، لا جرم، لا أقاتلك أبدا، (5) فخرج من العسكرين نادما وقتل بوادي السباع مظلوما قتله همرو بن جرموز. (6) وقد ثبت عند الفريقين أنه (7) جاء بسيفه واستاذن على الأمير كرم الله تعالى وجهه فلم يأذن له، فقال: أنا قاتل الزبير، فقال: أبقتل ابن صفية تفتخر؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول «بشر قاتل ابن صفية بالنار». (8)

وأما عدم قتله فلقيام الشبهة

_________

(1) لم يثبت

(2) ورد في كتاب (الإمامة والسياسية) المنسوب خطأ إلى ابن قتيبة

(3) في المطبوع الحكم

(4) الحاكم، المستدرك: 2/ 421؛ البيهقي، الاعتقاد: 1/ 373.

(5) ابن حجر، الإصابة: 2/ 557.

(6) قتل الزبير غدرا بوادي السباع. الإصابة: 2/ 557.

(7) لما انتهى على من حرب الجمل وسار من البصرة إلى الكوفة فدخلها يوم الاثنين 12 من رجب، وأرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية في دمشق يدعوه إلى طاعته، فجمع معاوية رءوس الصحابة وقادة الجيوش وأعيان أهل الشام واستشارهم فيما يطلب علي. فقالوا: لا نبايعه حتى يقتل قتلة عثمان، أو يسلمهم إلينا. فرجع جرير إلى علي بذلك. فأستخلف علي على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر وخرج منها فعسكر بالنخيلة أول طريق الشام م العراق. وبلغ معاوية أن عليا تجهز وخرج بنفسه لقتاله فخرج هو أيضا قاصدا صفين.

(8) أخرجه أحمد عن زر بن حبيش قال: «استأذن ابن جرموز على علي - رضي الله عنه - وأنا عنده فقال علي - رضي الله عنه -: بشر قاتل ابن صفية بالنار، ثم قال علي - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير». المسند: 1/ 89 الحاكم، المستدرك: 3/ 414. ومن الإمامية: المفيد، الاختصاص: ص 95؛ ابن شعبة الحراني، تحف العقول: ص477.

(1/277)

________________________________________

على ما قيل، ونظيره ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن أن أناسا من الصحابة - رضي الله عنه - ذهبوا يتطرقون، (1) فقتل واحد منهم رجلا قد فر وهو يقول: إني مسلم، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا ولم يقتل القاتل. (2) وكذا قتل أسامة - رضي الله عنه - فيما أخرجه السدي رجلا يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جدا ولم يقبل عذره وقال له: كيف أنت ولا إله إلا الله؟ ونزل قوله تعالى {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} الآية. (3)

وأجاب آخرون بأن العلماء اختلفوا في أنه هل يجب على الحاكم القصاص إذا لم يطلبه الولي أم لا؟ ولعل الأمير كرم الله تعالى وجهه ممن لا يرى الوجوب بدون طلب ولم يقع. وروي أيضا أن الأمير - رضي الله عنه - قال لما جاءه عمر بن طلحة بعد موت أبيه «مرحبا بابن أخي، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين}» (4) وهذا ونحوه يدل على أنهما رضي الله تعالى عنهما لم يذهبا إلا طاهرين متطهرين.

 

(وقعة صفين)

وأما تلخيص الواقعة الثانية فقد ذكر المؤرخون أن معاوية - رضي الله عنه - كان قد استنصره ابنا عثمان - رضي الله عنه - ووكلاه في طلب حقهما من قتلة أبيهما، فلما بلغه فراغ علي كرم الله تعالى وجهه من وقعة الجمل ومسيره إلى الشام خرج عن دمشق حتى ورد صفين في نصف المحرم فسبق إلى سهولة المنزل وقرب من الفرات، فلما ورد الأمير - رضي الله عنه - دعاهم إلى البيعة فلم يفعلوا، وطلبوا منه قتلة عثمان - وكانوا قد انحازوا

_________

(1) الطارق: كل آتٍ بليل. النهاية: 3/ 121.

(2) سنن البيهقي: 9/ 116؛ ابن كثير، التفسير: 1/ 540.

(3) ضعف هذه الرواية ابن كثير في تفسيره: 1/ 439.

(4) ابن أبي شيبة، المصنف: 7/ 544؛ نعيم بن حماد، الفتن: 1/ 88؛ البيهقي، الاعتقاد: ص 373.

(1/278)

________________________________________

إلى عسكره، ولهم عشائر وقبائل ومع هذا لم يمتازوا بأعيانهم - فمال - رضي الله عنه - إلى التأخير حتى يمتازوا ويتحقق القاتل من غيره، فأبى معاوية إلا تسليم من يزعمونه قاتلا. (1) وكثر القيل والقال حتى اتهم بنو أمية الأمير كرم الله تعالى وجهه بأنه الذي دلس على قتلة عثمان - رضي الله عنه -، وكان كرم الله تعالى وجهه قد تصرف بسلاح عثمان فقال لذلك قائلهم: (2)

ألا ما لليلى لا تغور كواكبه ... إذا غار نجم لاح نجم يراقبه

بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم (3) ... ولا تنهبوه لا تحل مناهبه

بني هاشم لا تعجلونا فإنه ... سواء علينا قاتلوه وسالبه

وإنا وإياكم وما كان منكم ... كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعبه (4)

بني هاشم كيف التقاعد بيننا ... وعند علي سيفه وحرائبه

لعمرك لا أنسى ابن أروى (5) وقتله ... وهل ينسين الماء ما عاش شاربه

هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما فعلت يوما بكسرى مرازبه

وكان الأمير كرم الله تعالى وجهه يلعن القتلة ويقول «يا معاوية، لو نظرت بعين عقلك دون عين هواك لرأيتني أبرأ الناس من قتلة عثمان». (6) وتصرفه - رضي الله عنه - بسلاحه لأنه كان من الأشياء الراجعة إلى بيت المال، وحكمه إذ ذاك كحكم المدافع في زماننا في أن حق التصرف في ذلك للإمام. ثم إنه قد وقع الحرب بينهم مرارا وبقى كرم الله تعالى وجهه بصفين ثلاثة أشهر وقيل سبعة وقيل تسعة، وجرى ما تشيب منه الرءوس وتهون معه حرب البسوس، (7) وليلة الهرير أمرها شهير، (8) وآل الأمر إلى التحكيم، وحدث من ذلك ما أوجب ترك القتال مع معاوية والاشتغال بأمر الخوارج، وذلك تقدير العزيز العليم. (9)

_________

(1) ينظر تاريخ الطبري: 3/ 71 وما بعدها.

(2) ذكر الأصبهاني أن القائل هو الوليد بن عقبة

(3) لأن عثمان كانت جدته لأمه البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، أم حكيم. طبقات ابن سعد: 3/ 45.

(4) في الأصل ساعبه

(5) هي أروى بنت كريز بن ربيعة، والدة عثمان بن عفان، أسلمت وهاجرت بعد ابنتها أم كلثوم وبايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تزل بالمدينة حتى ماتت في خلافة عثمان. الإصابة: 7/ 482.

(6) روى ابن عساكر عن سالم بن أبي الجعد قال: «كنا مع ابن الحنفية في الشعب فسمع رجلا ينتقص عثمان وعنده ابن عباس، فقال: يا أبا عباس هل سمعت أو سمعت أمير المؤمنين عشية سمع الضجة من قبل المربد فبعث؟ فقال: نعم عشية بعث فلان بن فلان، فقال: اذهب فانظر ما هذا الصوت، فجاء فقال هذه عائشة تلعن قتلة عثمان والناس يؤمنون، فقال علي: وأنا ألعن قتلة عثمان في السهل والجبل اللهم العن قتلة عثمان اللهم العن قتلة عثمان في السهل والجبل، ثم أقبل ابن الحنفية عليه وعلينا فقال: أما وفي ابن عباس شاهدا عدل؟ قال: قلنا بلى قال قد كان هذا». تاريخ دمشق: 39/ 459.

(7) من حروب الجاهلية بين بكر وتغلب، يقال استمرت أربعين عاما. الكامل في التاريخ: 1/ 410.

(8) من الليالي شديدة البرودة من صفين. ينظر: تاريخ الطبري: 3/ 94.

(9) ينظر العواصم من القواصم لابن العربي

(1/279)

________________________________________

وأهل السنة إلا من شذ يقولون: إن عليا كرم الله تعالى وجهه في كل ذلك على الحق لم يفترق عنه قيد شبر، وإن مقاتليه في الوقعتين مخطئون باغون وليسوا بكافرين خلافا للشيعة، ولا فاسقين خلافا للعمرية أصحاب عمر بن عبيد من المعتزلة.

وأما أن الحق مع علي كرم الله تعالى وجهه فغني عن البيان، وأما كون المقاتل باغيا فلأن الخروج على الإمام الحق بغي، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ويح عمار تقتله الفئة الباغية. (1) وقد قتله عسكر معاوية. وقوله حين أخبر بذلك «قتله من أخرجه» (2) مما لا يلتفت إليه، وإلا لصح أن يقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل حمزة وأضرابه ممن قاتل معه - صلى الله عليه وسلم -. وكذا قول من قال: المراد من الفئة الباغية الفئة الطالبة أي لدم عثمان، فلا يدل الخبر على البغي بالمعنى المذموم. (3)

وأما كونه ليس بكافر فلما في نهج البلاغة أن عليا كرم الله تعالى وجهه خطب يوما فقال: «أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والإعوجاج والشبهة» (4)، وقوله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يجب المقسطين} فسمى الله تعالى الطائفتين المقتتلين (مؤمنين) وأمر بالإصلاح بينهما.

وأجاب بعض الشيعة عن الآية بأنها في قتال المؤمنين بعضهم مع بعض دون القتال مع الإمام والنعي عليه، والخطاب فيها للأئمة أمروا أن يصلحوا بين طائفتين

_________

(1) متفق عليه

(2) البداية والنهاية: 7/ 269.

(3) قال ابن حجر: «إنهم [أي الفئة الباغية] كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة على وهو الإمام الواجب الطاعة، إذ ذاك وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم». فتح الباري: 1/ 542.

(4) تقدم التخريج

(1/280)

________________________________________

من المؤمنين اقتتلوا فيما بينهم، وأن يقاتلوا إذا بلغت إحداهما حتى تفيء. (1)

ولا يخفى ما في هذا الجواب من الوهن وعدم نفعه للمجيب أصلا، لأن الأمر الثاني يستدعي أن يكون القتال مع الإمام ضرورة فافهم. ومما يدل على أن المحارب غير كافر صلح الحسن - رضي الله عنه - مع معاوية، وهو مما لا مجال لإنكاره. (2)

وقد روى المرتضى وصاحب (الفصول المهمة) من الإمامية أنه لما أبرم الصلح بينه - رضي الله عنه - وبين معاوية خطب (3) فقال: «إن معاوية نازعني حقا لي دونه، فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة، وقد كتنم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني، ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلاحكم» (4) انتهى.

وفي هذا دلالة ظاهرة على إسلام الفريق المصالح وأن المصالحة لم تقع إلا اختيارا، ولو كان المصالح كافرا لما جاز ذلك ولما صح أن يقال «فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة» أه. فقد قال سبحانه وتعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}.

ويدل على وقوع ذلك أختيارا أيضا ما رواه صاحب (الفصول) عن أبي مخنف (5) من أن الحسين - رضي الله عنه - كان يبدي كراهة الصلح ويقول لو جز أنفي كان أحب إلى مما فعله أخي. (6) فإنه لا معنى لهذا الكلام لو لم يكن وقوع الصلح من أخيه رضي الله عنهما اختيارا فإن الضرورات تبيح المحظورات وهو ظاهر.

وبعد هذا كله قد ثبت عند جمع أن معاوية - رضي الله عنه - ندم على ما كان منه في المقاتلة والبغي على الأمير كرم الله تعالى وجهه واتفق أن بكى عليه كرم الله تعالى وجهه. فقد أخرج ابن الجوزي عن أبي صالح قال: قال معاوية لضرار: صف لي عليا. فقال: أوتعفيني. قال: بل تصفه. فقال: أوتعفيني. قال: لا أعفيك. قال: أما ولابد فإنه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس

_________

(1) القطب الراوندي في فقه القرآن: 1/ 371.

(2) والحسن - عليه السلام - معتبر في دين الشيعة معصوما، وكل ما يصدر عن المعصوم يجب عليهم أن يؤمنوا بأنه الحق، فبيعة الحسن لمعاوية من عمل المعصوم في مذهبهم ومعاوية هو الإمام الحق ببيعت المعصوم له. وانظر التعليق على العواصم ص 197 - 198.

(3) أي الحسن بن علي - رضي الله عنهما -

(4) تقدم التخريج

(5) هو مؤرخ الشيعة، وصفه ابن عديس بأنه «شيعي محترق».

(6) تقدم التخريج

(1/281)

________________________________________

بالليل وظلمته. كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه. يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما خشن. كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا أتيناه، ويأتينا إذا دعوناه - إلى أن قال - لا يطمع القوى في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه، وغارت نجومه، وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه يقول: يا دنيا يا دنيا ألي تعرضت أم بي تشوقت؟ هيهات هيهات، غري غيري قد بتتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطوك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق. قال: فذرفت دموع معاوية، فما يملكها وهو ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء. ثم قال معاوية: رحم الله تعالى أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها. (1) انتهى.

وما يذكره المؤرخون من أن معاوية - رضي الله عنه - كان يقع في الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد وفاته ويظهر ما يظهر في حقه ويتكلم بما يتكلم في شأنه مما لا ينبغي أن يعول عليه أو يلتفت إليه، لأن المؤرخين ينقلون ما خبث وطاب، ولا يميزون بين الصحيح والموضوع والضعيف، وأكثرهم حاطب ليل لا يدرى ما يجمع. (2) فالاعتماد على ذلك في مثل هذا المقام الخطر والطريق الوعر والمهمة القفر الذي تضل فيه القطا وتقصر دونه الخطا مما لا يليق بشان عاقل فضلا عن فاضل، وما جاء من ذلك في بعض روايات صحيحة وكتب معتبرة رجيحة فينبغي أيضا التوقف عن قبوله والعمل بموجبه، لأن له معارضات مسلمة في الصحة والثبوت. على أن من سلم من داء التعصب بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.

_________

(1) تاريخ دمشق: 24/ 401.

(2) بل فيهم صاحب الهوى الذي يكذب تزلفا لحاكم منحرف، أو متعصبا لمذهب يبيح الكذب نكاية بالخصم ومن يخالف المذهب.

(1/282)

________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

الباب التاسع في ذكر ما اختص بهم ولم يوجد في غيرهم من فرق الإسلام

(في ذكر بعض خرافاتهم)

فمن ذلك إنكارهم كرامات الأولياء، وإقامتهم حفلات العزاء والنياحة والجزع، وتصوير الصور، وضرب الصدور وما أشبه ذلك مما يصدر في العشرة الأولى من المحرم. ويعتقدون أن ذلك مما يقرب به إلى الله تعالى وتكفر به سيئاتهم وما يصدر عنهم من الذنوب في السنة كلها، وما دروا أن ذلك موجب لطردهم من رحمة الله تعالى، كيف لا وفيه هتك لبيت النبوة واستهزاء بهم، ولله تعالى در من قال: (1)

هتكوا الحسين بكل عام مرة ... وتمثلوا بعداوة وتصوروا

ويلاه من تلك الفضيحة إنها ... تطوى وفي أيدي الروافض تنشر

ومن ذلك أنهم يجعلون من الدقيق شبح إنسان، ويملآون جوفه دبسا أو عسلا، ويسمونه باسم عمر، ثم يمثلون حادث قتله ويشربون ما فيه من عسل بزعم أنه دم عمر. ويتشاءمون من يوم الاثنين، (2) وكذا من عدد الأربعة لئلا يذهب الوهم إلى أن الخلفاء أربعة. ويتفاءلون بعدد الاثني عشر. ولكن خواصهم يظهرون عدم الاستحسان لمثل هذه الأمور فلا حاجة بنا إلى صرف المداد في ردها.

ومن ذلك مزيد أوهامهم وكثرة خطإهم باعتقاد أن كل مخالف عدو مع أن المخالف أعم من العدو مطلقا. فإنه إذا قصد شخصان مقصدا واحدا واختلفا في الطريق إليه كيف يحكم بكون أحدهما عدوا للآخر. وأيضا قد ثبت في كتب الشيعة أن أبا مخنف يروي عن الإمام الحسين في باب صلح الإمام الحسن مع معاوية أنه كان ينكر على هذا الصلح، وكان يقول لو جدع أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي. فلو كانت المخالفة موجبة للعداوة يلزم أن يكون الإمام الحسين عدوا للإمام الحسن، معاذ الله من ذلك الاعتقاد الفاسد والكفر الصريح.

_________

(1) من ديوان عبد الغفار الأخرس

(2) لأنه يذكرهم بقول الله عز وجل (ثاني اثنين).

(1/283)

________________________________________

وكاعتقادهم عدم وجود المتنافيين في شيء في وقتين، ولذا قالوا إن الخلفاء الثلاثة ليسوا بمؤمنين، بناء على أنهم كانوا كافرين فلا يليقون للإمامة. (1) وهذا غلط ظاهر، إذ عدم اجتماع المتنافيين مشروط باتحاد الزمان وغير ذلك من الوحدات الثماني المذكورة في المنطق. وكاعتقادهم أن الفرع مشارك للأصل في الأحكام، ولذا اعتقدوا العصمة في الأئمة بناء على أنهم خلفاء المعصوم، واعتقدوا أن الأئمة أفضل من الأنبياء بناء على أنهم نواب أفضل الأنبياء، مع أن النبي مبلغ بالذات، والعصمة من خواص المبلغ، ولا يلزم أن يكون نائب شخص مثله في جميع صفاته، وإلا لزم مساواة التابع للمتبوع.

وكاعتقادهم أن من سمي بغيره فله مثله في الحكم، ولذا تراهم يسمون شخصا بيزيد أو شمر فيهينونه ويظهرون له العداوة، قال تعالى {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} والنار حارة وليس لفظها كذلك، وهو يتحاشون من التسمية بعبد الله وعبد الرحمن، ويستحسنون التسمية بكلب علي وكلب حسين وما أشبه ذلك. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن أحسن الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن. (2)

وكتوهم بطلان ما لا دليل عليه، كما أنكروا فضائل الصحابة بناء على عدم ثبوتها في كتبهم. (3) مع أن نفس الأمر غير تابع للعلم والجهل، ولو تليت عليهم آيات الله لولوا {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون}

ومن ذلك مزيد تعصبهم كترجيحهم الرواية لضعيفة على القوية التي توافق مخالفهم. (4)

وكزعمهم أن من في قلبه حب علي يدخل الجنة ولو كان يهوديا أو نصرانيا أو مشركا، وأن من يحب الصحابة يدخل النار ولو كان صالحا وفي قلبه محبة أهل البيت. ولذا حكم رضي الدين اللغوي (5) أحد كبار الشيعة بكون زنينا بن إسحاق النصراني من أهل الجنة بسبب مدحه الأمير وأهل البيت بقوله:

عدي وتيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء ولكني محب لهاشم

وما تعتريني في علي وأهله ... إذا ذكروا في الله لومة لائم

_________

(1) روى ابن بابويه عن المفضل ابن عمر عن أبي عبد الله قال: «إن الله تبارك وتعالى جعل عليا علما بينه وبين خلقه ليس بينهم وبينه علم غيره، فمن تبعه كان مؤمنا، ومن جحده كان كافرا ومن شك فيه كان مشركا». ثواب الأعمال: ص 209؛ علل الشرائع: 1/ 89. وزاد الطوسي في روايته: «ومن جاء بولايته دخل الجنة ومن أنكرها دخل النار». الأمالي: ص 410؛ المجلسي، بحار الأنوار: 69/ 133.

(2) أخرجه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ: «إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» الصحيح، كتاب الآداب.

(3) المعيار الوحيد للإمامية في الصحابة هو متابعتهم لعلي - رضي الله عنه - في حروبه، فمن حارب معه عظموه ومن لم يتابعه أو اعتزل الفتنة فهو من أعدائه، وصار عندهم كافرا مرتدا كما قال حسين كاشف الغطاء في أصل الشيعة: ص 142.

(4) فمعيارهم ما وافق هواهم وليس الأسانيد وعلم الرجال. وفي كتبهم الكثير من الروايات التي تؤيد أهل السنة، فمن ذلك رد الطوسي الأخبار الواردة عن أهل البيت الموافقة لأهل السنة وفسرها بالتقية! وبذلك رد أكثر من خمس رواياتهم الفقهية. كما في كتابيه تهذيب الأحكام والاستبصار.

(5) فقيه متكلم على مذهب الإمامية من شيوخ ابن العلقمي، مات سنة 610هـ. أعيان الشيعة: 10/ 262

(1/284)

________________________________________

يقولون ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النهي من عربهم الأعاجم

فقلت لهم إنى لأحسب حبهم ... سرى في قلوب الخلق حتى البهائم (1)

وجميع فرق الشيعة يترضون على ابن فضلون اليهودي (2) لقوله:

رب هب لي من المعيشة سؤلي ... واعف عني بحق آل الرسول

واسقني شربة بكف علي ... سيد (الأوصياء) بعل البتول

مع أن حب آل البيت غاية الأمر أنه عبادة، وقد اشترط لقبولها الإيمان لقوله تعالى {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له لكاتبون} وأيضا إن نجاة الكفار ودخولهم الجنة عند الشيعة محال كما سبق في العقائد، وقوله تعالى {ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.

وكتعصبهم في تسمية أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - «الأمة الملعونة» (3) ولم يلتفتوا إلى قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس} ويلزمهم من ذلك أنهم ليسوا من أمة محمد، وإلا يلزمهم لعن أنفسهم وإخراج أهل البيت من الأمة.

وكترجيحهم لعن عمر وسائر الصحابة والعياذ بالله على ذكر الله وسائر العبادات، (4) وقد ثبت في كتبهم أن لعن الشيخين - في كل صباح ومساء - موجب لسبعين حسنة. (5) وقد قال تعالى {ولذكر الله أكبر}.

_________

(1) نسبه الفتال إلى نصراني لم يصرح باسمه في روضة الواعظين: 1/ 167؛ وتبعه ابن شهرآشوب في المناقب: 4/ 132

(2) وابن فضلون اليهودي يعلم أن شيخه الأول ابن سبأ الذي اخترع عقيدة «لكل نبي وصي، وإن عليا وصي محمد - صلى الله عليه وسلم -»، ليبتدع في الإسلام ما ليس منه توطئة لإدخال الفساد على هذا الدين ومحاولة تغييره. ولو صدق ابن فضلون في دعواه حب علي كرم الله وجهه لدخل في الإسلام ولما بقى يهوديا، أما أن يمدح عليا ويبقى يهوديا فذلك لأنه تلميذ ابن سبأ وحامل رسالته.

(3) أخرج الكليني وغيره عن سدير الصيرفي قال سمعت أبا عبد الله يقول: «ما تنكر هذه الأمة الملعونة أن يفعل الله عز وجل بحجته في وقت من الأوقات كما فعل بيوسف ... ». الكافي: 7/ 1؛ ابن بابويه، علل الشرائع: 1/ 244.

(4) ألف علي بن عبد العال الكركي - من مشاهير علمائهم مات سنة 940هـ - كتابا في لعن الشيخين خاصة والصحابة عامة سماه (نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت)

(5) أخرج العياشي عن زرارة عن أبي عبد الله أنه قال: «في تفسير قوله تعالى {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} قال من ذكرهما فلعنهما كل غداة كتب له سبعين حسنة ومحا عنه عشر سيئات ورفع عشر درجات». تفسير العياشي: 1/ 387. وقد صرح المجلسي بأنها الشيخين كما في بحار الأنوار: 30/ 223.

(1/285)

________________________________________

وكإنكارهم كون رقية وأم كلثوم زوجتي عثمان بنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن خديجة أمهما. (1) مع أنه مخالف لقوله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك} ولما ذكر في (نهج البلاغة) من معاتبة الأمير لعثمان على تغييره سيرة الشيخين بقوله «قد بلغت من صهره ما لم ينالا» (2) أي الشيخين. وروى أبو جعفر الطوسي في (التهذيب) عن الإمام جعفر الصادق أنه كان يقول في دعائه «اللهم صل على رقية بنت نبيك، اللهم صل على أم كلثوم بنت نبيك». (3) وروى الكليني أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج خديجة وهو ابن بضع وعشرين سنة فولد منها قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم - «القاسم ورقية وزينب وأم كلثوم، وبعد المبعث الطيب والطاهر وفاطمة». (4) وأورد في رواية أخرى أنه لم يولد له بعد المبعث إلا فاطمة وأن الطيب والطاهر ولدا قبل المبعث.

وكقولهم إن أبا بكر وعمر وعثمان منافقون، مع أن الأمير اقتدى بهم في الأوقات الخمسة زمن خلافتهم، وقال تعالى {ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب}.

وكقولهم إن الآيات المشعرة بمدح الصحابة من المهاجرين والأنصار وأم المؤمنين كلها متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله. (5)

وكقولهم إن أهل السنة شر من اليهود والنصارى، ذكر ذلك ابن المعلم وغيره. (6) {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} فيا ليت شعري أين ذهب إيمان أهل السنة بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، ومحبتهم لأهل البيت الطاهرين والأئمة الزاكين وصلاتهم وزكاتهم حجهم وجهادهم، وكيف يكون من أشرك بالله تعالى وكفر برسوله - صلى الله عليه وسلم - أرجح من هؤلاء؟ وما أشبه قولهم بقول اليهود في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الكافرين أهدى من المؤمنين؛ قال تعالى {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا}.

_________

(1) لكن ذكر الإمامية أن رقية وزينب لم تكونا بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هما بنات لأخت خديجة، وأنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج خديجة وهي عذراء، ذكره ابن شهر آشوب المازندراني، وعزاه إلى الطوسي والمرتضى، فقال: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج بها [خديجة] وكانت عذراء وإن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة بنت أخت خديجة». مناقب آل أبي طالب: 1/ 159.

(2) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 9/ 261.

(3) تهذيب الأحكام: 3/ 120؛ المفيد، المقنعة: ص 239؛ الفتال، روضة الواعظين: 2/ 324.

(4) الكافي: 1/ 439.

(5) بل خصوا آيات مدح الصحابة بعلي - رضي الله عنه -، وعموا عن سياقها. فمثلا أورد قيس بن سليم في كتابه عن علي - رضي الله عنه - أنه قال في تفسير قوله تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان - رضي الله عنهم - ورضوا عنه} سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنزلها الله - تعالى ذكره - في الأنبياء وأوصيائهم، فأنا أفضل أنبياء الله ورسله وعلي بن أبي طالب أفضل الأوصياء». كتاب قيس بن سليم: ص 643؛ ابن طاوس، التحصين: ص 632؛ المجلسي، بحار الأنوار: 31/ 410. والآية بلفظ الجمع تمدح المهاجرين والأنصار، ولم يدع أحد أن عليا كان من الأنصار.

(6) روى حسين الأهوازي عن حمران بن أعين قال: «قلت: لأبي عبد الله - عليه السلام - إنهم يقولون: لا تعجبون من قوم يزعمون أن الله يخرج قوما من النار فيجعلهم من أصحاب الجنة مع أوليائه، فقال: أما يقرؤن قول الله تبارك {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} إنها جنة دون جنة ونار دون نار إنهم لا يساكنون أولياء الله، وقال: بينهما والله منزلة ولكن لا أستطيع أن أتكلم، إن أمرهم لأضيق من الحلقة، إن القائم لو قام لبدأ بهؤلاء». الزهد: ص 95. وعلق المجلسي على الرواية موضحا: «بيان قوله - عليه السلام -: (إن أمرهم) أي: المخالفين، (لأضيق من الحلقة) أي: الأمر في الآخرة مضيق عليهم لا يعفى عنهم كما يعفى عن مذنبي الشيعة، ولو قام القائم لبدأ بقتل هؤلاء قبل الكفار، فقوله لا أستطيع أن أتكلم في تكفيرهم تقية، والحاصل أن المخالفين ليسوا من أهل الجنان ولا من أهل المنزلة بين الجنة والنار وهي الأعراف، بل هم مخلدون في النار». بحار الأنوار: 8/ 360.

(1/286)

________________________________________

ومن تعصباتهم أن أهل السنة عندهم أنجس من اليهود والنصارى، حتى لو أصاب البدن شيء منهم غسلوه، مع أن المتلطخ بالغائط والعذرة عندهم ليس بنجس.

ومن تعصباتهم أنهم يرون أن الإبتداء بلعن أبي بكر وعمر بدل التسمية في كل أمر ذي بال أحب وأولى. ويقولون: كل طعام لعن عليه الشيخان سبعين مرة كان فيه زيادة البركة. (1) ولا يخفى على من له بصيرة أن هؤلاء لا إيمان لهم ولا دين، بل هم من زمرة الشياطين، {وكذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار}

 

(القول بالتقية)

ومن خصائصهم القول بالتقية بالمعنى الذي لا يريده أهل السنة من قوله تعالى {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة} (2)

وتحقيق ذلك على وجه البسط أن التقية محافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. (3) والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت (التقية) قسمين: أما القسم الأول في العداوة المبنية على اختلاف الدين فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه، ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف، فإن أرض الله واسعة. نعم إن كان ممن له عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل أو قتل الأولاد أو الآباء أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا غالبا، سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو بحبس القوت أو بنحو ذلك، فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة، ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه. وإن كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب غير المهلك فإنه لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة

_________

(1) قال الكركي: «في نبذة يسيرة مما ورد من طرق أصحابنا الإمامية - رضي الله عنهم - مما هو صريح في لعن هؤلاء وإثبات كفرهم في شدة الظهور والوضوح كما يصرح وهو كثير جدا والغرض ههنا التعرض إليه لنستدل باليسير على الكثير» .. نفحات اللاهوت.

(2) قال المفيد «والتقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج القائم - عليه السلام -، فمن تركها قبل خروجه فقد خرج عن دين الله تعالى وعن دين الإمامية، وخالف الله ورسوله والأئمة عليهم السلام». الاعتقادات: ص 81 (الهامش).

(3) قال ابن القيم: «التقية أن يقول العبد خلاف ما يعتقده لاتقاء مكروه يقع به لو لم يتكلم بالتقية». أحكام أهل الذمة: ص 1038. وينظر تعريف ابن حجر في الفتح: 12/ 314؛ والسرخسي في المبسوط: 24/ 45.

(1/287)

________________________________________

الجواز أيضا فإن موافقتهم رخصة، وإظهار مذهبه عزيمة، فلو تلفت نفسه بذلك فإنه شهيد قطعا. ومما يدل على أنها رخصة ما روي عن الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. ثم دعا الآخر فقال له أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إنى أصم، قالها ثلاثا وفي كل يجيبه بأني أصم، فضرب عنقه. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله، فهنيئا له، وأما الآخر فقد رحمه الله تعالى فلا تبعة عليه. (1)

وأما القسم الثاني في العداوة المبينة على الأغراض الدنيوية فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه، فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} وبدليل النهي عن إضاعة المال. وقال قوم: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية. ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة، وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن. وقال بعضهم: الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط، ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب، فإن وجوبها محض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لإصلاح الدين فيترتب عليها الثواب، وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة، بل كثير من الواجبات لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة الجوع والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، فهذه الهجرة في مصالح الدنيا ليست كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فتكون مستوجبة لفضل الله تعالى وثواب الآخرة. وعدّ قوم من باب التقية مداره الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام والتبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد ذل من باب الموالاة المنهي عنها، بل هي سنة وأمر مشروع، فقد روى الديلمي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن الله أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بإقامة الفرائض» (2) وفي رواية «بعثت بالمداراة» (3) وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون،

_________

(1) مصنف ابن أبي شيبة: 6/ 476.

(2) ضعيف الجامع: رقم 1567.

(3) وضعه في ضعيف الجامع: رقم 2337.

(1/288)

________________________________________

فإذا جاءوكم فرحبوا بهم» (1) وروى ابن أبي الدنيا (2) «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» (3) وفي رواية البيهقي «رأس العقل المداراة» (4) وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» (5) وفي رواية له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة» (6) وأخرج ابن عدي وابن عساكر «من عاش مداريا مات شهيدا، قوا بأموالكم أعراضكم، وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» (7) وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا عنده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة» ثم أذن له فألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول، فقال: «يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس - أو يدعه الناس - اتقاء فحشه» (8) وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي رواية ابن أبي الدنيا وإبراهيم الحرمي بزيادة «ونضحك إليهم» إلى غير ذلك من الأحاديث.

ولكن لا ينبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر ويسيء الظنون. هذا كله على مذهب أهل السنة، وبقي قولان لفئتين متباينتين من الناس وهم الخوارج والشيعة:

أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال، ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا. ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة، منها أن احدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها، وطعنوا على بريدة الأسلمي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يحافظ على فرسه في صلاته كيلا يهرب. (9) ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان.

وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام، فقال بعضهم إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا يكون فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه فساد في الدين. وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانا، وقد يكون فعلها في وقت افضل من تركها، وقد يكون تركها افضل من فعلها. وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس. (10) وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا، (11) ومستحبة لصيانة العرض

_________

(1) ضعيف الجامع: رقم 3297.

(2) الحافظ صاحب التصانيف المشهورة، توفي سنة 281هـ. تذكرة الحفاظ: 2/ 677؛ طبقات الحفاظ: 1/ 298.

(3) ضعيف الجامع: رقم 3075.

(4) ضعيف الجامع: رقم 3069.

(5) ضعيف الجامع: رقم 5255.

(6) ضعيف الجامع: رقم 4254.

(7) وضعه في ضعيف الجامع: رقم 4115.

(8) متفق عليه

(9) أخرج البخاري عن الأزرق بن قيس قال: «كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس فترك صلاته وتبعها حتى أدركها، فأخذها ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس! فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن منزلي متراخ فلو صليت وتركت لم آتِ أهلي إلى الليل، وذكر أنه صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرأى من تيسيره». صحيح البخاري، كتاب الأدب

(10) مجمع البيان: 1/ 430.

(11) ينظر الكاظمي، الأصول الأصلية: ص 329.

(1/289)

________________________________________

حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به. ورووا عن بعض ائمة أهل البيت «من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي». (1) وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف. وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا. (2) وفي أفضلية التقية من سني واحد صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن خلاف أيضا. وأفتى كثير منهم بالأفضلية، ومنهم من ذهب إلى جواز - بل وجوب - إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان. وحملوا أكثر أفعال الأئمة - مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة - على التقية، وجعلوا هذا أصلا أصيلا واستوى عليه دينهم وهو الشائع الآن فيما بينهم. (3) حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام، (4) وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، ويأبى الله تعالى ذلك، ففى كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه ونبيه - رضي الله عنه - ذوى تقية، بل ويبطل أيضا فضلها الذي زعموه.

ففي كتاب (نهج البلاغة) الذي هو في زعمهم أصح الكتب بعد كتاب الله أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال: «علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك» (5) وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} بأكثركم تقية؟ (6) وفيه أيضا أنه كرم الله تعالى وجهه قال «إني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض (7) كلها ما بليت ولا استوحشت، وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي، وإلى لقاء الله وحسن ثوابه لمنتظر راج» (8) وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع،

_________

(1) روى الكليني وغيره عن الحلبي عن أبي عبد الله قال: «من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصف الأول». الكافي: 3/ 380؛ ابن بابويه، الأمالي: ص 336؛ العاملي، وسائل الشيعة: 8/ 299.

(2) قال مكرم الشيرازي: «وظاهر هذه الأحاديث رجحان الصلاة معهم مع نية الاقتداء بهم كما أن ظاهرها جواز الاكتفاء بها وعدم وجوب إعادتها». القواعد الفقهية: 1/ 452. وينظر منتهى الدراية: 2/ 61.

(3) وعدوا التقية ركنا من أركان الدين من تركه كان كتارك الصلاة، روى ابن بابويه وغيره عن علي بن محمد الهادي (الإمام العاشر عندهم) أنه قال: «لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا». من لا يحضره الفقيه: 2/ 127؛ الحراني، تحف العقول: ص 483؛ العاملي، وسائل الشيعة: 10/ 131.

(4) فمن مسلمات المذهب أن التقية جائزة على الأنبياء. روى الكليني وغيره عن أبي بصير قال: «قال أبو عبد الله - عليه السلام -: التقية من دين الله، قلت: من دين الله؟! قال: أي والله من دين الله، قال يوسف {أيتها العير إنكم لسارقون} والله ما كانوا سارقين شيئا، وقال إبراهيم: {إني سقيم} والله ما كان سقيما وما كان يكذب». الكافي: 2/ 217؛ رجال النجاشي: ص 237؛ البرقي، المحاسن: 1/ 258.

(5) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 20/ 175.

(6) حيث روى الإمامية في تفسير الآية عن أبي عبد الله أنه قال: «أعلمكم بالتقية». الطوسي، الأمالي: ص 661؛ الطبرسي، أعلام الورى: ص 434؛ النوري، مستدرك الوسائل: 12/ 253.

(7) طلاع الأرض: ملؤها. شرح نهج البلاغة

(8) نهج البلاغة (بشرح ابن أبي الحديد): 17/ 225.

(1/290)

________________________________________

ومثله لا يتصور أن يتأتى منه ما فيه هدم الدين. وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد [فصلى] (1) فجاء علي كرم الله تعالى وجهه فوجأه على رقبته فقال: ويلك تصلى وأنت على غير وضوء؟ فقال: أمرني عمر، فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال: انظر ما يقول هذا عنك - ورفع صوته على عمر - فقال عمر: أنا أمرته بذلك. (2) فانظر كيف رفع الصوت ولم يتاقه.

وروى الراوندي شارح نهج البلاغة ومعتقد الشيعة في كتاب الخرائج والجرائح (3) عن سلمان الفارسي أن عليا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرق بساتين المدينة وفي يد علي قوس فقال يا عمر بلغني عنك ذكرك لشيعتي، فقال: أربع على صلعتك. فقال علي: إنك ههنا؟ ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرا فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه، فقال عمر: الله الله يا أبا الحسن، لا عدت بعدها في شيء، فجعل يتضرع، فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت، فمضى عمر إلى بيته. قال سلمان: فلما كان الليل دعاني علي فقال: سر إلى عمر، فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق، وقد عزم أن يخبئه فقل له: يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبئه فأفضحك. قال سلمان: فمضيت إليه وأديت الرسالة، فقال: أخبرني عن أمر صاحبك من أين علم به؟ فقلت: وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال: يا سليمان اقبل عني ما أقول لك، ما علي إلا ساحر، والصواب أن تفارقه وتصير من جملتنا. قلت: ليس كما قلت، لكنه

_________

(1) زيادة من السيوف المشرقة وكتب الإمامية

(2) أخرج الرواية العياشي في تفسيره: 1/ 297؛ الراوندي، فقه القرآن: 1/ 35؛ العاملي، وسائل الشيعة: 27/ 60.

(3) في الأصل خرائج الجرائح

(1/291)

________________________________________

ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه، وعنده أكثر من هذا. قال: ارجع إليه فقل: السمع والطاعة لأمرك. فرجعت إلى علي، فقال: أحدثك عما جرى بينكما؟ فقلت: أنت أعلم مني. فتكلم بما جرى بيننا ثم قال: إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت. (1)

وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضا، إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم (2) من عمر خوفا منه وتقية. (3)

وروى الكليني عن معاذ بن كثير (4) عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله عز وجل أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - كتابا، فقال جبريل: يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال: ومن النجباء يا جبريل؟ فقال: علي بن أبي طالب وولده. وكان على الكتاب خواتم من ذهب، فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى علي وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتما فعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن أخرج قومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك من الله تعالى، ففعل. ثم دفعه إلى علي بن الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين، ففعل. ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتما فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك. ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك خاتما فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان، ففعل. ثم دفعه إلى موسى وهكذا إلى المهدي. (5) رواه من طريق آخر عن معاذ أيضا عن أبي عبد الله وفي الخاتم الخامس: وقل الحق في الأمن والخوف، ولا تخش إلا الله تعالى. (6) وهذه الرواية أيضا

_________

(1) الخرائج والجرائح: 1/ 232؛ البحراني، مدينة المعاجز: 1/ 446؛ المجلسي، بحار الأنوار: 41/ 256

(2) هي أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، ولدت قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتزوجها عمر بن الخطاب في خلافته فولدت له زيدا ورقية. الاستيعاب: 4/ 1954؛ الإصابة: 8/ 293. روى الحاكم عن علي بن الحسين: «إن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب إلى علي - رضي الله عنه - أم كلثوم، فقال: أنكحنيها فقال علي: إني أرصدها لابن أخي عبد الله بن جعفر، فقال: عمر أنكحنيها فوالله ما من الناس أحد يرصد من أمرها ما أرصده، فأنكحه علي، فأتى عمر المهاجرين، فقال: ألا تهنوني؟ فقالوا: بمن يا أمير المؤمنين؟ فقال: بأم كلثوم بنت علي وابنة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كل نسب وسبب ينقطع يوم القيامة إلا ما كان من سببي ونسبي، فأحببت أن يكون بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسب وسبب». المستدرك: 3/ 153، رقم 4684؛ وبلفظ قريب أخرجه البيهقي في الكبرى: 7/ 64، رقم 13172 وهو في صحيح الجامع، برقم 4527. وأخرج الإمامية الرواية بلفظ قريب، فقد أوردها ابن البطريق، العمدة: ص 286؛ المجلسي، بحار الأنوار: 25/ 247.

(3) ورغم اتفاق الطرفين على ثبوت هذا الزواج، إلا أن كتب الإمامية افترت لسبب لا يخفى على اللبيب القول بأن عمر تزوج من جنية تمثلت بصورة أم كلثوم أرسلها له علي - رضي الله عنه -؛ أورد ذلك القطب الراوندي، والرواية عن عمر بن أذينة قال: «قيل لأبي عبد الله - عليه السلام -: إن الناس يحتجون علينا ويقولون إن أمير المؤمنين - عليه السلام - زوج فلانا [أي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -] ابنته أم كلثوم، وكان متكئا فجلس وقال: أيقولون ذلك، إن قوما يزعمون ذلك لا يهتدون إلى سواء السبيل، سبحان الله ما كان يقدر أمير المؤمنين - عليه السلام - أن يحول بينه وبينها فينقذها، كذبوا لم يكن ما قالوا: إن فلانا [عمر - رضي الله عنه -] خطب إلى علي ابنته أم كلثوم، فأبى علي - عليه السلام -، فقال للعباس: والله لئن لم تزوجني لأنتزعن منك السقاية وزمزم، فأتى العباس عليا فكلمه، فأبى، فألح العباس، فلما رأى أمير المؤمنين - عليه السلام - مشقة كلام الرجل على العباس، وأنه سيفعل بالسقاية ما قال، أرسل أمير المؤمنين - عليه السلام - إلى جنيّة من أهل نجران يهودية يقال لها (سحيفة بنت جريرية)، فأمرها فتمثلت في مثال أم كلثوم وحجبت الأبصار عن أم كلثوم، وبعث بها إلى الرجل فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوما فقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم، ثم أراد أن يظهر ذلك للناس فلما قتل حوت الميراث وانصرفت إلى نجران، وأظهر أمير المؤمنين أم كلثوم». الخرائج والجرائح: 2/ 825؛ المجلسي، بحار الأنوار: 42/ 88. ففي هذه الرواية طعن بعلي - رضي الله عنه - واتهامه بالسحر والخداع وتسخير الجن ومخالفة قوله تعالى: {وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون برجالٍ من الجن فزادوهم رهقا}.

(4) معاذ بن كثير الكسائي، روايته عندهم عن الصادق، وثقه المفيد. رجال البرقي: ص 46؛ رجال الطوسي: ص 306؛ معجم رجال الحديث: 18/ 186.

(5) الكافي: 1/ 279؛ ابن بابويه، الإمامة والتبصرة: 38 - 39؛ ابن بابويه (الصدوق)، كمال الدين: ص 232.

(6) الكافي: 1/ 280؛ ابن بابويه، الإمامة والتبصرة: ص 39.

(1/292)

________________________________________

صريحة بأن أولئك ليس دينهم كما تزعمه الشيعة.

وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال: «لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومال الناس إلى أبي بكر فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى نصرتي، فلم يستجب لي من جميع الناس إلا أربعة: الزبير وسلمان وأبو ذر والمقداد.» (1) وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام، لأن هذا الفعل عند من بايع أبا بكر - رضي الله عنه - فيه ما فيه.

وفي كتاب أبان بن عياش أن أبا بكر بعث قنفدا (2) إلى علي حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال: انطلق إلى علي وقل له أجب خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فانطلق فبلغه، فقال له: ما أسرع ما كذبتم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتددتم والله ما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيري. (3)

وفيه أيضا: «أنه لما لم يجب علي غضب عمر وأضرب النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت: يا أبتاه، يا رسول الله. فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به درعها فصاحت: يا أبتاه. فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته». (4)

وفيه أيضا أن عمر

_________

(1) تقدم التخريج

(2) هو قنفذ بن سعيد بن جدعان التميمي، قال ابن عبد البر: ولاه عمر - رضي الله عنه - مكة ثم صرفه. الاستيعاب: 3/ 1307؛ الإصابة: 5/ 445.

(3) كتاب قيس بن سليم: ص 862؛ المجلسي، بحار الأنوار: 28/ 297؛ وأوردها الطبرسي، الاحتجاج: ص 82.

(4) كتاب قيس بن سليم: ص 585؛ المجلسي، بحار الأنوار: 28/ 268.

(1/293)

________________________________________

قال لعلي: بايع أبا بكر، قال: إن لم أفعل ذلك؟ قال: إذا لأضربن عنقك. قال: كذبت والله يا ابن صهاك (1) لا تقدر على ذلك، أنت ألأم وأضعف من ذلك. (2)

فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل من ذلك الإمام، إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية.

وروى محمد بن سنان (3) أن أمير المؤمنين قال لعمر: يا مغرور، إنى أراك في الدنيا قتيلا بجراحة عبد أم معمر، (4) تحكم عليه جورا فيقتلك، ويدخل بذلك الجنان على رغم منك» (5)

ورورى أيضا أنه قال مرة لعمر: «إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكا وصلبا، وتخرجان من جوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من ولاكما، ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس (6) ودانيال (7) وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رمادا، ثم تأتى ريح فتنسفكما في اليم نسفا». (8)

فانظر بالله عليك من يروي هذه الأكاذيب (9) عن الإمام كرم الله تعالى وجهه، هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه؟ سبحان الله! إن هذا لهو العجب العجاب والداء العضال.

ومما يرد قولهم أن زكريا ويحيى والحسين ليس لهم عند الله كرامة وفضل لأنهم لم يفعلوا التقية، ويلزم أن يكون جميع المنافقين في عهده - صلى الله عليه وسلم - في أعلى المراتب من الكرامة.

_________

(1) صهك الجواري السود. لسان العرب

(2) كتاب قيس بن سليم: ص 593؛ الطبرسي، الاحتجاج: 1/ 93؛ المجلسي، بحار الأنوار: 28/ 300.

(3) ذكره الخوئي، معجم رجال الحديث: 16/ 138.

(4) يقصدون أبا لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة.

(5) أبو الحسن الديلمي، إرشاد القلوب: 2/ 285؛ المجلسي بحار الأنوار: 30/ 276.

(6) قال الطبري: «كان جرجيس فيما ذكر عبدا صالحا من أهل فلسطين ممن أدرك بقايا من حواريي عيسى - عليه السلام -، وكان يأكل من تجارته). ينظر تاريخ الطبري: 1/ 382.

(7) من الأنبياء عند أهل الكتاب. تاريخ الطبري: 1/ 316؛ تفسير ابن كثير: 4/ 496.

(8) المجلسي، بحار الأنوار: 30/ 276.

(9) ولوضوح كذبها لم يناقشها المؤلف

(1/294)

________________________________________

سبحانك هذا بهتان عظيم. {ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون}

وأيضا أن التقية لا تكون إلا لخوف، والخوف قسمان:

الأول الخوف على النفس وهو منتف في حضرات الأئمة بوجهين: أحدهما أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في (الكافي) وعقد لها بابا وأجمع عليها سائر الإمامية. (1) وثانيهما أن الأئمة يكون لهم علم بما كان ويكون، (2) فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص، فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم، ولا حاجة بهو إلى أن ينافقوا في دينهم ويغروا عوام المؤمنين.

القسم الثاني خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة، ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء، فقد كانوا يتحملون البلاء دائما في امتثال أوامر الله تعالى، وربما قابلوا السلاطين الجبابرة. وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم - صلى الله عليه وسلم -. (3) وأيضا لو كانت التقية واجبة فلم توقف إمام الأئمة كرم الله تعالى وجهه عن بيعة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة اشهر؟ وماذا منعه من أداء الواجب أول وهلة؟ (4)

ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أرادوه قوله تعالى في حقهم {الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا} وقوله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} وقوله تعالى {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يجب الصابرين} إلى غير ذلك من الآيات.

نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى

_________

(1) بوب الكليني: (باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون إلا باختيار منهم. الكافي: 1/ 258؛ وللصفار: (باب في الأئمة أنهم يعرفون متى يموتون ويعلمون ذلك قبل أن يأتيهم الموت عليهم السلام). بصائر الدراجات: ص 480؛ والباب نفسه عند المجلسي في بحار الأنوار: 27/ 285.

(2) بوب الكليني لذلك: (باب أن الأئمة عليهم السلام يعلمون علم ما كان ويكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء). الكافي: 1/ 260؛ وقلده المجلسي فكتب: (باب أنهم لا يحجب عنهم علم السماء والأرض والجنة والنار وأنه عرض عليهم ملكوت السماوات والأرض ويعلمون علم ما كان ويكون إلى يوم القيامة). بحار الأنوار: 26/ 109.

(3) والروايات كثيرة في ذلك منها ما رواه الكليني عن أبي حمزة الثمالي قال: «قال لي أبو عبد الله - عليه السلام - من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد». الكافي: 2/ 92؛ العاملي، مسكن الفؤاد: ص 47. ويمكن الاطلاع على روايات أكثر في (باب الصبر على البلاء) من كتاب العاملي، وسائل الشيعة: 3/ 225 وما بعدها.

(4) هذا من باب مجاراة الخصم، فالثابت أن عليا بايع الصديق كما بايعه الصحابة الآخرون ولم يتأخر.

(1/295)

________________________________________

الأنبياء والأئمة وجه، وهذا أحد محملين لما أخرجه عند بن حميد عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة. (1) والثاني حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو على التفصيل الذي ذكرناه. وإنما ذكرت لك ما ذكرت، وحررت في هذا المقام ما حررت، من الدلائل القطعية والبراهين الجلية، لينقطع عرق التقية التي هي أساس مذهب الشيعة وعماد كل قبيحة وشنيعة.

 

(الأنبياء وولاية علي)

ومن تعصباتهم انهم يقولون إن الله تعالى أرسل جميع الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام لولاية علي. (2) وكان علي من جميع الأنبياء سرا، ومع نبينا - صلى الله عليه وسلم - جهرا، كما رواه ابن طاوس وغيره. (3) وانه لولا علي لم تخلق الأنبياء كما رواه ابن المعلم عن محمد بن الحنفية. (4) وأن درجة علي فوق درجة الأنبياء والرسل يوم القيامة، (5) وأنهم يحشرون مع شيعته، (6)

وأنهم متدينون بمحبته كما رواه ابن طاوس أيضا. (7) ومن اعتقد خلاف ذلك فهو كافر بزعمهم. وأنت تعلم أن هذا مخالف لجميع الشرائع، وبداهة العقل، وآيات الكتاب. (8) نسأل الله تعالى السلامة من مثل هذه العقائد الباطلة لدى أولي الألباب.

ومن تعصباتهم أنهم يقولون: إن الله تعالى قد أمر الكرام الكاتبين يوم قتل عمر أن يرفعوا الأقلام ثلاثة أيام عن جميع الخلائق فلا يكتبون ذنبا على أحد، كما رواه علي ابن مظاهر الواسطي عن أحمد بن إسحاق القمي عن العسكري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما حكاه عن ربه جل جلاله. (9) ولا يخفى كذب هذه الرواية وبطلانها، إذ يلزم أن من زنى بأمه أو سب الأمير أو عبد الأوثان في تلك الأيام ومات فيها دخل الجنة بلا حساب وفاز بالنعيم

_________

(1) ابن أبي شيبة، المصنف: 6/ 474، قال ابن حجر ورواه عبد بن حميد في تفسيره. تغليق التعليق: 5/ 261.

(2) أخرج الصفار في باب (ما خص به الأئمة من آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من ولاية الأنبياء لهم في الميثاق وغيره وما علموا من ذلك) عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن قال: «ولاية علي مكتوب في جميع صحف الأنبياء ولن يبعث نبيا إلا بنبوة محمد وولاية وصيه علي - عليه السلام -». بصائر الدرجات: ص 72.

(3) روى البرسي قال: «إن فرعون لعنه الله لما لحق هارون بأخيه موسى دخلا عليه يوما وأوجسا خيفة منه، فإذا فارس يقدمهما ولباسه من ذهب وبيده سيف من ذهب، وكان فرعون يحب الذهب، فقال لفرعون: أجب هذين الرجلين وإلا قتلتك، فأنزعج فرعون لذلك وقال: هذا إلى غد، فلما خرجا دعا البوابين وعاقبهم، وقال: كيف دخل عليّ هذا الفارس بغير إذن؟ فحلفوا بعزة فرعون أنه ما دخل إلا هذان الرجلان، وكان الفارس مثال علي - عليه السلام - هذا الذي أيد الله به النبيين سرا وأيد به محمد - صلى الله عليه وسلم - جهرا، ألا أنه كلمة الله الكبرى التي أظهرها لأوليائه فيما يشاء من الصور، فينصرهم بها وبتلك الكلمة يدعون الله فيجيبهم وينجيهم، وإليه الإشارة بقوله: {ويجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا}، قال ابن عباس: كانت الآية الكبرى لهما هذا الفارس». تفسير البرهان: 4/ 227؛ المشهدي، كنز الدقائق: 10/ 69.

(4) الروايات كثيرة منها ما رووا عن محمد بن الحنفية قال: «قال أمير المؤمنين - عليه السلام - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... أنا سيد الأنبياء وأنت سيد الأوصياء وأنا أنت من شجرة واحدة، لولانا لم يخلق الجنة ولا النار ولا الأنبياء ولا الملائكة ... ». القمي، كفاية الأثر: ص 156؛ المجلسي، بحار الأنوار: 36/ 337.

(5) الروايات كثيرة منها ما روى ابن شاذان عن أبي ذر قال: «نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي بن أبي طالب - عليه السلام - فقال: هذا خير الأولين وخير الآخرين من أهل السماوات وأهل الأرضين، هذا سيد الصديقين وزين الوصيين وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إذا كان يوم القيامة جاء على ناقة من نوق الجنة قد أضاءت القيامة من ضوئها على رأسه تاج مرصع بالزبرجد والياقوت، فتقول الملائكة هذا ملك مقرب ويقول النبيون هذا نبي مرسل، فينادي منادٍ من بطنان العرش هذا الصديق الأكبر وصي حبيب الله، هذا علي بن أبي طالب - عليه السلام - فيقف على ظهر جهنم فينجي منها من يحب ويدخل فيها من لا يحب ويأتي أبواب الجنة فيدخل فيها أولياءه وشيعته من أي باب أرادوا بغير حساب». مائة منقبة: ص 88 - 89.

(6) ويزورون قبره ويوالونه؛ روى ابن قولويه القمي عن إسحاق بن عمار قال: «سمعت أبا عبد الله يقول: ليس نبي في السماوات والأرض إلا يسألون الله تعالى في زيارة الحسين - عليه السلام - ففوج ينزل وفوج يصعد» .. كامل الزيارات: ص 111.

(7) روى الطوسي وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاءني جبريل من عند الله بورقة آس خضراء مكتوب فيها ببياض: إني افترضت محبة علي على خلقي، فبلغهم ذلك عني». الأمالي: ص 619؛ البياضي، الصراط المستقيم: 2/ 50؛ الأربلي، كشف الغمة: 1/ 99.

(8) ولهذا قالوا بتحريف القرآن الذي نسي الإمامة والولاية كأهم ما في الدين وذكر بدلهما التوحيد {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}

(9) تقدم قسم منها في المسائل الفقهية، وفيها أيضا: « ... وأمرت الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن الخلق كلهم ثلاثة أيام من ذلك اليوم ولا أكتب عليهم شيئا من خطاياهم كرامة لك ولوصيك ... ». بحار الأنوار: 31/ 125.

(1/296)

________________________________________

من غير عقاب وقد قال تعالى {ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} وكثير من روايات الأئمة توافق هذه الآية، ولكن من أضله الله تعالى لا تنفعه الهداية.

ومن تعصباتهم أنهم يقولون: إنما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر معه حين هاجر من مكة لئلا يعلم كفار قريش بخروجه وطريق ذهابه. (1) ويرده قوله تعالى {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} فقد حكى الله تعالى حزنه على الرسول وتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - له. وقال عبد الله المشهدي أحد روساء الشيعة: الحق أن هذا الاحتمال، أي إخراج الرسول له لئلا يعلم كفار قريش بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيد جدا ولعل النبي ألف صحبته لسبقه في الإسلام وملازمته للرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقال المفسر النيسابوري: (2) ثم إننا لا ننسى أن اضطجاع علي على فراشه - صلى الله عليه وسلم - طاعة وفضيلة، إلا أن صحبة أبي بكر أعظم، لأن الحاضر أعلى من الغائب، ولأن عليا ما تحمل المحنة إلا ليلة واحدة وأبو بكر مكث في الغار أياما، وإنما اختار عليا للنوم في فراشه لأنه كان صغيرا لم تظهر منه دعوة بالدليل والحجة وجهاد بالسيف والسنان، بخلاف أبي بكر فإنه دعا في جماعة إلى الدين، وقد ذب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنفس والمال، وكان غضب الكفار على أبي بكر أشد من غضبهم على علي، ولهذا لم يقصدوا عليا بضرب وألم لما عرفوا أنه مضطجع. انتهى.

_________

(1) روى القمي ونقله عنه معظم مفسريهم عن أبي عبد الله: «قال لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار قال لفلان [لأبي بكر]: كأني أنظر إلى سفينة جعفر في أصحابه يقوم في البحر وأنظر إلى الأنصار محتسبين في أفنيتهم، فقال فلان [أبو بكر]: وتراهم يا رسول الله؟ قال نعم، قال: فأرينهم فمسح على عينيه فرآهم فقال في نفسه: الآن صدقت أنك ساحر، فقال له رسول الله: أنت الصديق». تفسير القمي: 1/ 290

(2) محمود بن أبي الحسن النيسابوري، عالم له تفسير (إيجاز البيان في معاني القرآن) ثم شرحه، توفي سنة 550هـ. معجم الأدباء: 7/ 145؛ طبقات المفسرين: ص 424.

(1/297)

________________________________________

ومن هذيانتهم أنهم يقولون: المراد من دابة الأرض في القرآن أمير المؤمنين، وقد فسر الكليني بذلك قوله تعالى {وإذا وقع القول عليهم اخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون}. ويزعم أنه روى ذلك عن أبي جعفر عن أمير المؤمنين أنه قال «أنا الدابة التي تكلم الناس» (1) مع أن الدابة حسبما تدل عليه الآية ستخرج قبل قيام الساعة، (2) ورجعة الأمير التي يزعمونها في عهد الإمام المهدي، وبينه وبين قيام الساعة أمد بعيد وزمان مديد، (3) وبالله تعالى العجب، وما أجرأ هؤلاء الكفرة على سوء الأدب! (4)

 

(في مشابهتهم لليهود والنصارى)

ولنذكر لك ههنا فائدة تتعلق بحالهم وتزيد بصيرة في ضلالهم.

إن مذهب الشيعة له مشابهة تامة ومناسبة عامة مع فرق الكفرة والفسقة الفجرة؛ أعني اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين.

 

(مشابهتهم لليهود)

أما مشابهتهم لليهود فلأن اليهود قالت: لا تصلح الإمامة إلا لرجل من آل داود عليه السلام، وقالت الرافضة: لا تصلح الإمامة إلا لردل من ولد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (5) وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال وينزل بسبب من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينادي مناد من السماء. (6) واليهود تؤخر صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة يؤخرونها. (7) واليهود تنود في الصلاة، وكذلك الرافضة. (8) واليهود لا ترى على النساء عدة، وكذلك الرافضة. (9) واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن. (10) واليهود يبغضون

_________

(1) الكافي: 1/ 197؛ تفسير القمي: 2/ 130؛ الصفار، بصائر الدرجات: ص 199.

(2) أخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: «حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا لم أنسه بعد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا»

(3) أي وفق قول الإمامية فيلزم التناقض

(4) سوء الأدب مع أئمتهم ومع غيرهم.

(5) الأخبار عندهم كثيرة منها ما رواه ابن بابويه في باب (أن الله عز وجل خص آل محمد بالإمامة دون غيرهم) عن الصادق عن أبيه قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أراد أن يحيى حياتي، ويموت ميتتي ويدخل جنة عدن غرسها بيد ربي، فليتول عليا - عليه السلام - وليعاد عدوه، وليأتم بالأوصياء من بعده، أعطاهم الله علمي وفهمي، وهم عترتي من لحمي ودمي ... ». الإمامة والتبصرة: ص 43؛ ورواه أيضا الكليني، الكافي: 1/ 209؛ المجلسي، بحار الأنوار: 23/ 138.

(6) تقدم

(7) وردت روايات عندهم بالنهي عن الصلاة عند تشابك النجوم، وورد عكسها، وحسب قاعدة مخالفة أهل السنة ردوا روايات صحيحة، وأخذوا بروايات تشابك النجوم. روى الطوسي عن جارود قال: «قال لي أبو عبد الله (- عليه السلام -): يا جارود، يُنصحون فلا يقبلون، وإذا سمعوا بشيء نادوا به، أو حُدّثوا بشيء أذاعوه، قلت لهم: مسّوا بالمغرب قليلا فتركوها حتى اشتبكت النجوم، فأنا الآن أصلّيها إذا سقط القرص». تهذيب الأحكام: 2/ 32؛ وسائل الشيعة: 4/ 177. وفي رواية أخرى يشير الصادق إلى أن الإمامية قلدوا الخطابية في تأخير المغرب؛ روى الطوسي عن أبي أسامة الشحام قال: «قال رجل لأبي عبد الله - عليه السلام - أؤخر المغرب حتى تستبين النجوم؟ قال: فقال: أخطابيةٌ؟ إن جبرائيل - عليه السلام - نزل بها على محمد حين سقط القرص». تهذيب الأحكام: 2/ 28؛ رجال الكشي: ص 290؛ ابن بابويه، علل الشرائع: 2/ 350؛ وسائل الشيعة: 4/ 191. وروايات تشابك النجوم في: تهذيب الأحكام: 2/ 30؛ العاملي، وسائل الشيعة: 4/ 196.

(8) خاصة عند التسليم، حيث يرفعون اليدين ثلاث مرات وينزلونها قبل التسليم.

(9) فالمرأة التي لم تبلغ التسع سنوات لا عدة لها إن طلقها زوجها ولو دخل بها على مذهب الإمامية. إصباح الشيعة: ص 452.

(10) تقدم

(1/298)

________________________________________

جبريل - عليه السلام - ويقولون هو عدونا من الملائكة، وكذلك صنف من الروافضة يقولون: غلط جبريل - عليه السلام - بالوحي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما بعث علي كرم الله تعالى وجهه. (1) واليهود كانوا يبغضون الصحابة، وكذلك الرافضة. (2) إلى غير ذلك.

 

(مشابهتهم للنصارى)

وأما مشابهتهم للنصارى فلأن النصارى أحدثوا كثيرا من الأعياد، وكذلك الرافضة. كيوم مقتل عمر وعثمان وما أشبه ذلك. (3) والنصارى يصورون صورة عيسى ومريم ويضعون ذلك في كنائسهم ويعظمونها ويسجدون لها، فكذلك الرافضة فإنهم يصورون صور الأئمة ويعظمونها بل يسجدون لها ولقبورهم وما جرى مجرى ذلك. (4)

 

(مشابهتهم للصابئين)

وأما مشابهتهم للصابئين فلن الصابئين كانوا يحترزون عن أيام يكون القمر بها في العقرب أو الطرف أو المحاق، وكذلك الرافضة. (5) وكانت الصابئة يعتقدون أن جميع الكواكب فاعلة مختارة، وأنها هي المدبرة للعالم السفلي، وكذلك الرافضة. (6)

_________

(1) هذا قول الغرابية من الرافضة

(2) فهم يحكمون عليهم بالردة إلا ستة منهم

(3) حيث أحدثوا وابتدعوا عيد الغدير وعيد النيروز ويوم التسلية وهو يوم مقتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

(4) وصور يظنون أنها لأئمتهم - حيث لم يصورها أحد في حياتهم بل اخترعوها في عصور بعد موتهم - وصور علمائهم عامة في بيوتهم

(5) فهم يتشاءمون من الزواج إذا كان القمر في العقرب أو غيره كما تقدم. وهذا مثل قول الصابئة الذين اعتقدوا بوجود الخالق ولكنهم اعتقدوا بتأثير الكواكب والنجوم، وهذا ضد عقيدة التوحيد.

(6) حيث قالوا بأن الحيوانات خالقة لأفعالها وأن الله تعالى لا يخلق فعل الحيوان لأنه يتنزه عن ذلك، كما تقدم.

(1/299)

________________________________________

(مشابهتهم للمشركين)

وأما مشابهتهم للمشركين فلأنهم يعظمون قبور الأئمة ويطوفون حولها، بل ويصلون إليها مستدبرين القبلة، إلى غير ذلك من الأمور التي يستقل لديها فعل المشركين مع أصنامهم. (1) وإن حصل لك ريب من ذلك فاذهب يوم السبت (2) إلى مرقدي موسى الكاظم ومحمد الجواد - رضي الله عنه - فانظر ماذا ترى، ومع ذلك فهذا معشار ما يصنعون عند قبر الأمير كرم الله تعالى وجهه ومرقد الإمام الحسين - رضي الله عنه -، ومما لا يشك ذو عقل في إشراكهم والعياذ بالله تعالى.

 

(مشابهتهم للمجوس)

وأما متشابهتهم للمجوس فلأن المجوس يزعمون أن خالق الخير يزدان وخالق الشر أهرمن وكذلك الروافض يزعمون [أن] الله تعالى خالق الخير فقط، والإنسان والشيطان خالقان الشر. ولهذا قال الأئمة في حقهم «إنهم مجوس هذه الأمة» كما مر في الإلهيات. وكذلك تعظيمهم للنيروز (3) وغير ذلك، أعاذنا الله تعالى من سلوك هاتيك المسالك.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( فهرس الكتاب - فهرس المحتويات )

 

 

 

 

 

 

مختصر التحفة الاثني عشرية

(خاتمة)

ومن استكشف عن عقائدهم الخبيثة وما انطووا عليه، علم أن ليس لهم في الإسلام نصيب، وتحقق كفرهم لديه ورأى منهم كل أمر عجيب، واطلع على كل أمر غريب، وتيقن أنهم قد أنكروا الحسي، وخالفوا البديهي الأوّلي. ولا يخطر بالهم عتاب ولا يمر على أذهانهم عذاب أو عقاب. فإن جاءهم الباطل أحبوه ورضوه، وإذا جاءهم الحق كذبوه وردوه: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون} ولقد غشى على

_________

(1) هذا مشهور

(2) هذا مشهور عندهم اليوم. خاصة زيارة الإمام يوم السبت، اليوم الذي تعظمه اليهود!

(3) والنيروز هو عيد المجوس

(1/300)

________________________________________

قلوبهم الران فلا يعون ولا يسمعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ولقد تعنتوا بالفسق والعصيان في فروع الدين وأصوله، فصدق ظن إبليس فاتبعوه من دون الله ورسوله. فيا ويلهم من تضييعهم الإسلام ويا خسارتهم مما وقعوا فيه من حيرة الشبه والأوهام. فلو التفت إلى ما هم عليه في هذا الزمان، لوجدتهم في صريح من الضلال والخسران، لأنهم إلى الحق لا يلتفتون، ولا بمثل ذلك يعبأون، بل هم بالدين يستهزئون.

ولو أنك ذكرت لهم شيئا من مثالبهم، وصرحت بشيء من عيوبهم، أخذتهم العزة بالإثم، وصار ذلك عندهم من أنكر المناكر، حيث إنهم قد فرحوا بما عندهم من الجهل، وما انطووا عليه من خبث السرائر، حتى كأنهم للدنيا خلقوا، فهم لها في جميع أحوالهم يعملون، وعلى دقائق شيء ونها بأفكارهم يغوصون، وبالمتاعب وتحمل المشاق فيها إلى الموت يترددون، لبئس ما كانوا يصنعون.

فالاشتغال بعلومهم، ورد ما ادعوه في كتبهم من أصولهم وفروعهم، أولى ممن خالف أهل الحق بإعداد العدد، وأحق من هؤلاء بما نستمده من كل برهان وسند. كيف لا وهم قد وافقونا في لباسنا، وزاحمونا في أملاكنا، ونفثوا بسحرهم في أسلاكنا، بحيث ما ألقوه من الدسائس في عباراتهم، ويذهب على كثير من الناس ما يصدر عنهم من لحن القول في محاوراتهم، حتى أن كثيرا منهم يبرأ من بدعته، ويلتزم ما التزمه أهل السنة في طريقته، بحيث تخفى حاله على كل أحد، ولا يتبين أمره إلا لمن عرف ونفذ، فيتوصل بذلك إلى شبه ودسائس يلقيها في كلامه لجل إضلال مخاطبه من حيث لا يشعر بمقصوده ولا يدرى بمرامه.

فمنهم من ألف كتابا في مناقب الإمام الشافعي وأودع فيه من الدسائس الرافضية ما يخفى إلا على المتبحر. ومنهم من ألف في مذاهب المجتهدين وذكر فيا ما يخالف مذهبهم قصدا إلى ترويج مذهبه وإبطال مذهب أئمة الدين. فهم أعداء أنبياء الله تعالى ورسله، والمحرفون لكلام الشريعة عن موضعه ومحله. ولعمر الله إن هؤلاء الطغام الحيارى أضر على عوام المسلمين من اليهود والنصارى. فالحذر الحذر منهم، والفرار الفرار منهم.

والزم أيها الأخ الطالب للنجاة من الارتباك في ورطة الشبه والتمويه، وعليك بالسلوك في طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلال وشبه

(1/301)

________________________________________

المبتدعين ولا تغتر بتوافر الملحدين، وكثرة الهالكين. وكن حريصا على التفتيش عما كان عليه الصحابة من الأحوال متبعا ما كانوا يتحرونه من الأعمال، فهم السواد الأعظم، الواقفون من الهداية المحمدية على ما لم نعلم. ومنهم يعرف الحسن من القبيح، والمرجوح من الرجيح. فمن اتبع غير سبيل المؤمنين (1)، فهو الحقيق بوعيد رب العالمين. قال تعالى تعليما لعباده وتذكيرا {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}.

ومن نظر بعين بصيرته، وأمعن الفكر في طريق الاتباع وحقيقته، فحاد وابتدع، وللهوى والأطماع اتبع، كان كحاطب ليل أو متحير يدعو على نفسه بالثبور والويل، وقال تعالى في بيان طريق الهدى وتفضيله {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} فحث سبحانه على اتباع سبيله الذي هو الكتاب والسنة، ونهى جل شانه عن اتباع السبل مبينا بأن ذلك سبب للتفرق والمحنة.

ولذلك ترى أهل السنة قد لزموا سبيلا واحدا، ولم تر منهم زائغا عما به وحائدا. وأما أهل البدع والأهواء وذوو الضلال والافتراء فقد افترقوا في سبلهم على حسب معتقداتهم الفاسدة، وتشتتوا على مقتضى آرائهم الكاسدة، فهم على ما زعموه مصرون، وكل حزب بما لديهم فرحون.

فإذا الواجب علينا معاشر أهل السنة اتباعه - صلى الله عليه وسلم - في جميع اقواله، والتأسي به في سائر أفعاله وأحواله، والاقتداء بما كان عليه أصحابه، فإنهم المبلغون عنه - صلى الله عليه وسلم - وأحبابه، لأن من اقتدى بأولئك الأعلام، فقد اقتدى به - صلى الله عليه وسلم -. وما أخبث رجلا ترك سبيل السنة الشارحة للكتاب، واستبدل بالنعيم المقيم العذاب {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم}.

روى البخاري في صحيحه عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال: «كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل

_________

(1) والصحابة وصفهم الله تعالى بأنهم مؤمنون حيث قال عز من قائل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}

(1/302)

________________________________________

بعد هذا الخير من شر؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال نعم، وفيه دخن. قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، وتعرف منهم وتنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك».

فيا له من حديث اشتمل على علوم أخبر بها الصادق الأمين، وأبان عن فوائد جليلة تفيد العلم اليقين: منها حرص الصحابة - رضي الله عنه - على علم ما يستقيم به دينهم المتين، ومنها أن أول خير يقع في أمته فيه كدورة تذهب بصفائه، وفيه تغيير يغاير ما أمروا باقتفائه. ومنها أن يكون بعد ذلك دعاة من الأشرار، من أجابهم قذفوه والعياذ بالله تعالى في النار، فهم كذابون دجالون، ضالون مضلون.

روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتوكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم» أخرجه الإمام مسلم وغيره. ولقد صدق عليهم قوله تعالى {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون}

ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من أدرك الزمان أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، وهم الذين اتبعوا سنته ولازموا طريقته، فإن لم يكن لهم جماعة وكانوا غرباء فالواجب عليهم العزلة عن تلك الفرق كلها. ثم حرض - صلى الله عليه وسلم - على هذا الاعتزال الذي فيه سلامة الدين بقوله على سبيل المبالغة «ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يأتيك الموت» وأنت على هذا العمل، معرض عن كل ما يفسد عليك دينك الذي هو رأس مالك، صابر على تلك المعاطب والمهالك.

وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال «أوصيكم

(1/303)

________________________________________

بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة»

فقد أوصانا - صلى الله عليه وسلم - بلزوم سنته وسنة الخلفاء الراشدين الذين هم على طريقته. إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة والأخبار الرجيحة التي تحث على اتباع الكتاب وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنهما إلى سبيل العليم العلام.

{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين

تم بحمد الله هذا المختصر

وقد سماه علامة العراق السيد محمود شكري الألوسي رحمه الله

المنحة الإلهية

تلخيص ترجمة التحفة الاثني عشرية

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

(1/304)

________________________________________

خاتمة: حملة رسالة الإسلام الأولون وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير وكيف شوه المغرضون جمال سيرتهم

روى الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه (ك 62 ب 1) عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (قال عمران بن حصين: فلا أدرى أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثا، (1) ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون، ويظهر فيهم السمن».

وروى البخاري مثله بعده عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وحديث هذا عند الإمام أحمد أيضا في مسنده، وفي صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي. وروى مسلم مثله في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.

_________

(1) وتحديد ذلك إلى نهاية الدولة الأموية. وقد يلتحق به زمن الخلفاء الأولين من بني العباس. قال الحافظ ابن حجر في تفسير هذا الحديث من (فتح الباري) ج 7 ص 4: «اتفقوا أن آخر من كان من اتباع التابعين - من يقبل قوله - من عاش إلى حدود سنة 220. وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وأمتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن. وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن (أي إلى زمن الحافظ ابن حجر 773 - 852) وظهر قوله - صلى الله عليه وسلم - «ثم يفشو الكذب» ظهورا بينا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات.

(1/305)

________________________________________

فالهدى كل الهدى، مما لم تر الإنسانية مثله - قبله ولا بعده - هو الذي تلقاه الصحابة عن معلم الناس الخير. وكان الصحابة به خير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بشهادته هو لهم وصدق رسول الله. أما الذين يدعون خلاف ذلك فهم الكاذبون.

إن الخير كل الخير فيما كان عليه أصحاب رسول الله، وإن الدين كل الدين ما اتبعهم عليه صالحو التابعين، ثم مشى على آثارهم فيه التابعون لهم بإحسان.

ومن أحط أكاذيب التاريخ زعم الزاعمين أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضمر العداوة بعضهم لبعض. بل هم كما قال الله سبحانه في سورة الفتح - 29: {أشداء على الكفار رحماء بينهم}. وكما خاطبهم ربنا في سورة الحديد 10: {ولله ميراث السماوات والأرض * لا يستوى منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى} ولا يخلف الله وعده. وهل بعد قول الله عز وجل في سورة آل عمران 110: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} يبقى مسلما من يكذب ربه في هذا، ثم يكذب رسوله في قوله: «خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ... »؟!. في صدر هذه الأمة حفظ الله كتابه بحفظته أمينا عن امين، حتى أدوا أمانة ربهم بعناية لم يسبق لها نظير في أمة من الأمم، فلم يفرطوا في شيء من ألفاظ الكتاب على اختلاف الألسنة العربية في تلاوتها ونبرات حروفها، تنوع مدودها وإمالاتها، إلى أدق ما يمكن أن يتصوره المتصور. فتم بذلك وعد الله عز وجل في سورة الحجر 9: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.

ومن صدر هذه الأمة تفرغ فريق من الصحابة فالتابعين وتلاميذهم لحمل أمانة السنة فكانوا يمحصون أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويذرعون أقطار الأرض ليدركوا الذين سمعوها من فم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتلقوها عنهم كما يتلقون أثمن كنوز الدنيا. بل كانت دار الإمارة في المدينة المنورة منتدى الفقهاء الأولين في صدر الإسلام يجتمعون إلى أميرهم مروان

(1/306)

________________________________________

ابن الحكم، فإذا عزيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة غير الذي كان معروفا عندهم أرسل مروان في تحقيق ذلك إلى من نسبت تلك السنة إليه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أزواجه، حتى يرد الحق إلى نصابه (انظر مسند الإمام أحمد: الطبعة الأولى 6: 299 و 306).

وبينما كان حفظه القرآن وحملة السنة المحمدية يجاهدون في حفظ أصول الشريعة الكاملة، كان آخرون من أبناء الصحابة وأبطال التابعين يحملون أمانة الإمامة والرعاية والجهاد والفتوح، ويعملون على نقل الأمم إلى الإسلام: يعربون ألسنتها، ويطهرون نفوسها، ويسلكونها في سلك الأخوة الإسلامية لتتعاون معهم على توحيد الإنسانية تحت راية الهدى وتوجيهها إلى أهداف السعادة.

وقد بارك الله لهؤلاء وأولئك في أوقاتهم، وأتم على أيديهم في مائة سنة ما يستحيل على غيرهم - من أهل الطرائق والأساليب الأخرى - أن يعملوه في آلاف السنين.

هؤلاء هم الذين أخبر عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم خير أمته، وقد صح ما أخبر به قبل الإسلام إنما رأى الخير على أيديهم، فبهم حفظ الله أصوله، وبهم هدى الله الأمم. والبلاد التي دخلت في الإسلام على أيديهم نبغ منها في ظل طريقتهم وعلى أساليبهم كبار الأئمة كالإمام البخاري والإمام أبي حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك، فكانت الأمم تقبل على هذه الهداية بشغف وتقدير وإخلاص - لما ترى من إخلاص دعاتها وصدقهم وإيثار الآجلة على العاجلة - والأمة التي تولت الدعاية لهذه الهداية تستقبل نوابغ المهتدين بصدر رحب، وتبوى المستأهلين منهم المكانة التي هم أهل لها.

هكذا كانت الحال في البطون الثلاثة الأولى التي امتدحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفها بأنها خير أمته. أما العصور التي أتت بعدهم فإن المسلمين يتميزون فيها بمقدار اتباعهم للصدر الأول فيما كان عليه من حق وخير. وهم كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم: «مثل أمتي مثل المطر: لا يدرى أوله خير أم آخره» رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه عن أنس، ورواه ابن حبان والإمام أحمد في مسنده أيضا من حديث عمار، ورواه أبو ليلى

(1/307)

________________________________________

في مسنده عن علي بن أبي طالب، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص، كل هؤلاء الصحابة رووه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأمة محمد إلى خير في كل زمان ومكان ما تحرت الطريق الذي مشى فيه هداة القرون الثلاثة الأولى وتابعوهم فيه. بل يرجى لمن يقيم الحق في أزماننا كما أقامه الصحابة والتابعون في أزمنتهم أن يبلغوا منزلتهم عند الله ويعدوا في طبقتهم، ولعلهم المعنيون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الإمام أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة «يا رسول الله أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك» فقال - صلى الله عليه وسلم -: «قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني» وإسناده حسن، وصححه الحاكم. واحتج الحافظ الأندلسي أبو عمر بن عبد البر بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار في الأرض وصبرهم على الهدى وتمسكهم به، إلى أن عم بهم في أرجائها. قال ابن عبد البر: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء».

ومن غرابة الإسلام بعد البطون الثلاثة الأولى مؤلفين شوهوا التاريخ تقربا للشيطان أو الحكام، فزعموا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا إخوانا في الله، ولم يكونوا رحماء بينهم، وإنما كانوا أعداء يلعن بعضهم بعضا، ويمكر بعضهم ببعض، وينافق بعضهم لبعض، يتآمر بعضهم على بعض، بغيا وعدوانا.

لقد كذبوا. وكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أسمى من ذلك وأنبل، وكانت بنو هاشم وبنو أمية أوفى من ذلك لإسلامها ورحمها وقرابتها وأوثق صلة وأعظم تعاونا على الحق والخير.

حدثني بعض الذين لقيتهم في ثغر البصرة لما كنت معتقلا في سجن الإنجليز سنة 1332هـ أن رجلا من العرب كان ينتقل بين بعض قرى إيران فقتله القرويون

(1/308)

________________________________________

لما علموا اسمه (عمر). قلت: وأي باس يرونه باسم (عمر)؟ قالوا: حبا بأمير المؤمنين علي. قلت: وكيف يكونون من شيعة علي وهم يجهلون أن عليا سمى أبناءه - بعد الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية - بأسماء أصدقائه وإخوانه في الله (أبي بكر) و (عمر) و (عثمان) رضوان الله عليهم أجمعين، وأم كلثوم الكبرى بنت علي بن أبي طالب كانت زوجة لعمر ابن الخطاب ولدت له زيدا ورقية، وبعد مقتل عمر تزوجها ابن عمها محمد بن جعفر ابن أبي طالب ومات عنها فتزوجها بعده أخوه عون بن جعفر فماتت عنده. وعبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن أبي طالب سمى أحد بنيه باسم (أبي بكر) وسمى ابنا آخر له باسم (معاوية)، ومعاوية هذا - أي بن أبي طالب - كان من نسله عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي أبن أبي طالب اشتهر بالمبارك العلوي وكان يكنى (أبا بكر). والحسن السبط بن علي أبن أبي طالب سمى أحد بنيه (أبا بكر) وآخر باسم (عمر) وثالثا باسم (طلحة). وزين العابدين علي بن الحسين سمى أحد أولاده أمير المؤمنين (عمر) تيمنا وتبركا. ولعمر هذا ذرية مباركة منهم العلماء والشعراء والشرفاء. والحسن السبط كان مصاهرا لطلحة بن عبيد الله. وإن أم إسحاق بنت طلحة هي أم فاطمة بنت الحسين بن علي. وسكينة بنت الحسين السبط كانت زوجا لزيد بن عمر بن عثمان بن عفان الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي. وأختها فاطمة بنت الحسين السبط بن علي بن أبي طالب كات زوجة عبد الله الأكبر بن عمرو بن عثمان بن عفان. وكانت قبل ذلك زوجة الحسن المثنى، وله منها جدنا عبد الله المحض. وأم أبيها بنت عبد الله بن جعفر ذي الجناحين بن أبي طالب كانت زوجة لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ثم تزوجها علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. وأم كلثوم بنت جعفر ذي الجناحين كانت زوجة الحجاج بن يوسف وتزوجها بعد ذلك أبان بن عثمان بن عفان. والسيدة نفيسة المدفونة في مصر (وهي بنت حسن الأنوار زيد بن الحسن السبط) كانت زوجة لأمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وولدت له. وعلي الأكبر ابن الحسين السبط

(1/309)

________________________________________

ابن علي بن أبي طالب أمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي وأمها ميمونة بنت أبي سفيان ابن حرب الأموي. والحسن المثنى ابن الحسن السبط أمه خولة بنت منظور الفزارية وكانت زوجة لمحمد بن طلحة بن عبيد الله، فلما قتل عنها يوم الجمل ولها منه أولاد تزوجها الحسن السبط فولدت له الحسن المثنى. وميمونة بنت أبي سفيان بن حرب جدة علي الأكبر ابن الحسين بن علي لأمه. ولما توفيت فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج علي بعدها أماة بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن أمية.

فهل يعقل أن هؤلاء الأقارب المتلاحمين المتراحمين الذين يتخيرون مثل هذه الأمهات لأنسالهم، ومثل هذه الأسماء لفلذات أكبادهم، كانوا على غير ما أراده الله لهم من الأخوة في الإسلام، والمحبة في الله، والتعاون على البر والتقوى؟!.

لقد تواتر عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقول على منبر الكوفة «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر» روي هذا عنه من أكثر من ثمانين وجها، ورواه البخاري وغيره، ولا يوجد تاريخ في الدنيا، لا تاريخ الإسكندر المقدوني، لا تاريخ نابليون، صحت أخباره كصحة هذا القول - من الوجهة العلمية التاريخية - عن علي بن أبي طالب. وكان كرم الله وجهه يقول: «لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا ضربته حد المفتري» أي أن هذه الفرية توجب على صاحبها الحد الشرعي، ولهذا كان الشيعة المتقدمون متفقين على تفضيل أبي بكر وعمر. نقل عبد الجبار الهمداني في كتاب (تثبيت النبوة) أن أبا القاسم نصر بن الصباح البلخي قال في (كتاب النقض على ابن الراوندي): سأل سائل شريك بن عبد الله فقال له: أيهما أفضل: أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي؟ فقال له: نعم: من لم يقل هذا فليس شيعيا. والله لقد رقى هذه الأعواد علي فقال: «ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر» فكيف نرد قوله وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذابا. وفي ترجمة يحيى بن يعمر العدواني من (وفيات الأعيان) للقاضي ابن خلكان أن يحيى

(1/310)

________________________________________

ابن يعمر كان عداده في بني ليث لأنه حليف لهم، وكان شيعيا من الشيعة الأولى القائلين بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص لذي فضل من غيرهم. ثم ذكر قصة له في الحجاج وإقامته الحجة على أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله بآية {ووهبنا له - أي لإبراهيم - إسحاق ويعقوب} إلى قوله: {وزكريا ويحيى وعيسى}. قال يحيى بن يعمر: وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأقره الحجاج على ذلك وكبر في نظره وولاه القضاء على خراسان مع علمه بتشيعه. وأنت تعلم أن الحجاج هو ما هو، ومع ذلك فقد كان - مع فاضل متجاهر بشيعيته المعتدلة محتج للحق بالحق - أكثر إنصافا من هؤلاء الكذبة الفجرة الذين جاءوا في زمن السوء فصاروا كلما تعرضوا لأهل السابقة والخير في الإسلام، ومن فتحت اقطار الأرض على أيديهم، ودخلت الأمم في الإسلام بسعيهم ودعوتهم وبركتهم وكلهم من أهل خير القرون بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم، وما منهم إلا من يتصل ببني هاشم وال البيت بالخؤولة أو الرحم أو المصاهرة، وبالرغم من كل ذلك يتعرضون لسيرتهم بالمساءة كذبا وعدوانا، ويرضون لأنفسهم بأن يكونوا أقل إنصافا وإذعانا للحق حتى من الحجاج بن يوسف. وإني أخشى عليهم لو أنهم كانوا في مثل مركز الحجاج بن يوسف لكانت فيهم كل مآخذ الصالحين عليه، مع التجرد من كل مزاياه وفضائله وفتوحه التي بلغت تحت رايات كبار قواده وضغائر إلى أقصى أقطار السند، وغشيت جبال الهند وما صاقبها.

وإن خطبة الأمير علي بن أبي طالب في نعت صديقه وإمامه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر يوم وفاته من بليغ ما كان يستظهره الناس في الأجيال الماضية. وفي خلافة عمر دخل علي في بيعته أيضا وكان من أعظم أعوانه على الحق، وكان يذكره بالخير ويثني عليه في كل مناسبة، وقد علمت أنه بعد أخيه وصهره عمر سمى ولدين من أولاده باسميهما ثم سميى ثالثا باسم عثمان لعظيم مكانته عنده، ولأنه كان إمامه ما عاش، ولولا أن عثمان - بعد أن قام الحجة على الذين ثاروا عليه بتحريض أعداء الله رجال عبد الله بن سبأ اليهودي - منع الصحابة من الدفاع عنه حقنا لدماء المسلمين، وتضييقا لدائرة الفتنة، ولما يعلمه من

(1/311)

________________________________________

بشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بالشهادة والجنة، لولا كان ذلك لكان علي في مقدمة من في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين كانوا عل استعداد للدفاع عنه ولو ماتوا في سبيل ذلك جميعا. ومع ذلك فإن عليا جعل ولديه الحسن والحسين على باب عثمان، وأمرهما بأن يكونا كوع إشارته في كل ما يأمرهما به ولو أدى إلى سفك دمهما، وأوعز إليهما يخبرا أباهما بكل ما يحب عثمان أن يقوم له به. وكذب على الله وعلى التاريخ كل ما اخترعه الكاذبون مما يخالف ذلك ويناقض وقوف الحسن والحسين في بابه واستعدادهما لطاعته في كل ما يامر. وقد كان من عادة سلفنا أن يدونوا أخبار تلك الأزمان منسوبة إلى رواتها، ومن أراد معرفة قيمة كل خبر على طريقة (أنى لك هذا؟) فرجع إلى ترجمة كل راو في كل سند لتمحصت له الأخبار، وعلم أن الأخبار الصحيحة التي يرويها أهل الصدق والعدالة هي التي تثبت أن أصحاب رسول الله كانوا كلهم من خيرة من عرفت الإنسانية من صفوة أهلها، وأن الأخبار التي تشوه سيرة الصحابة وتوهم انهم كانوا صغار النفوس هي التي رواها الكذبة من المجوس الذين تسموا بأسماء المسلمين.

ولعلك تسألني: إذن ما هو اصل التشيع، وهل لم يكن لعلي شيعة في الصدر الأول؟ وما هي قصة وقعة الجمل، وما الباعث على وقوعها؟ وما هي حقيقة التحكيم؟.

إن الجواب على هذه الأسئلة بالأسانيد إلى ترتاح إليها قلوب المنصفين مهما اختلفت مشاربهم ومذاهبهم، يحتاج إلى كتابة تاريخ المسلمين من جديد، وإلى أخذه - عند كتابته - من ينابيعه الصافية، ولا سيما في المواطن التي شوهها أهل الذمم الخربة من ملفقي الأخبار. وأعيد هنا ما قلته غير مرة، وهو أن الأمة الإسلامية أغنى أمم الأرض بالمادة السليمة التي تستطيع أن تبني كيان تاريخها، إلا أنها لا تزال أقل أمم الأرض عناية ببناء تاريخها من تلك المواد السليمة، والناس الآن بين قارئ لكتب قديمة أراد مؤلفوها أن يتداركوا الأخبار قبل ضياعها فيها كل ما وصلت إليه أيديهم من عث وسمين، ومنبهين على مصادر هذه الأخبار وأسماء رواتها ليكون القارئ على بينة

(1/312)

________________________________________

من صحيحها وسقيها، ولكن لبعد الزمن وجهل أكثر القراء بمراتب هؤلاء الرواة ودرجاتهم في الصدق والكذب، وفي الوفاء للحق أو الميل مع الهوى، تراهم لا يستفيدون من هذه المصادر ولا من الكتب التي اعتمدت عليها بلا تمحيص وتحقيق. (1) وهنالك كتب قديمة أيضا ولكنها دون هذه الكتب، لأن أصحابها من أهل الهوى، وممن لهم صبغات حزبية يصبغون أخبارهم بألوانها، فهي أعظم ضررا، ولعلها أوسع من تلك انتشارا. أما الكتب الحديثة كمؤلفات جرجي زيدان، والبحوث التي يستقيها حملة الأقلام من مؤلفات المستشرقين على غير بصيرة بدسائسهم، فإنها ثالثة الأثافي والعظائم، ولذلك باتت هذه الأمة محرومة أغزر ينابيع قوتها وهو الإيمان بعظمة ماضيها، في حين أنها سليلة سلف لم ير التاريخ سيرة أطهر ولا أبهر ولا أزهر من سيرته.

إلا أن من نعم الله علينا عناية علماء الحديث بتحقيق أحوال رواة الأخبار ومبلغ أمانتهم في حملها وقد صنفوا في ذلك كتبا ومعاجم عظيمة النفع لمن يراجعها عند التأليف، ولهم تحقيقات جليلة في جميع المسائل التي يترتب عليها اتجاه الحق في الحكم على الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام.

ومع أن كثيرا من أمهات الكتب النفيسة فقدت في كارثة هولاكو، (2) ثم في الحروب الصليبية واكتساح الأندلس، وما تلا ذلك كله من انحطاط المستوى العلمي في القرون الأخيرة، إلا أن كثيرا من تحقيقات المحققين لا تزال منبثة في مطاوي الكتب الإسلامية. والأمل عظيم في قيام نهضة جديدة لبعث ماضي هذه الأمة المجيد على ضوء ما تركه علماؤها من نصوص وتوجيهات.

_________

(1) ومن أهم هذه المصادر تاريخ ابن جرير الطبري، وقد كتبت في وصفه وتحليله مقاله في المجلد 24 من (مجلة الأزهر) ص 210 - 215 فارجع إليها لتستفيد من هذه المصادر ولتعرف ما تأخذ منها وما تدع.

(2) الذي كان ابن أبي الحديد من أعوان الخائن ابن العلقمي على تمهيد السبيل بين يديه لتقويض دولة الإسلام.

(1/313)

________________________________________

وأعود بعد هذه الأسئلة التي تقدمت آنفا عن أصل الفتن والتشيع، فقد زعم الزاعمون لعلي - كرم الله وجهه - ما لم يكن له علم به: زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عينه للخلافة بعده يوم استخلفه على المدينة وهو متجه إلى الشام في غزوة تبوك، وقال له يومئذ «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي». ورجال الحديث مختلفون في درجة هذا الخبر من الصحة، فبعضهم يراه صحيحا، وبعضهم يراه ضعيفا، وذهب الإمام أبو الفرج بن الجوزي إلى أنه موضوع مكذوب، ونحن إذا رجعنا إلى الظروف التي قالوا إنها لابست هذا الحديث نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الله له أن يتوجه نحو تبوك - أمر عليا بأن يتخلف في المدينة، وكان رجالها والقادرون عل الحرب من الصحابة قد خرجوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد علي في نفسه وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتجعلني مع النساء والأطفال والضعفة!» فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - تطيبا لنفسه: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟» أي في استخلاف موسى أخاه هارون لما ذهب إلى الجبل ليعود بالألواح فهذا استخلاف لم يكن له في نظر سيدنا علي كرم الله تعالى وجهه هذا المعنى الوهمي الذي اخترعه المتحزبون فيما بعد، بل هو على عكس ذلك كان يراه حرمانا له من مكانة أعلى وهي مشاركة إخوانه الصحابة في ثوب الجهاد لتكوين الكيان الإسلامي المنشود. زد على ذلك أن هذا النوع من الاستخلاف لم ينفرد به علي كرم الله وجهه، بل تكرر من النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلاف ابن أم مكتوم على المدينة نفسها، وكان ابن أم مكتوم يتولى الإمامة بالناس في المدينة مدة خلافته عليها، وقد ناظر كبار الشيعة في هذا الحديث علامة العراق السيد عبد الله السويدي عندما جمعه بهم نادر شاه في النجف سنة 1156هـ فأفحمهم السويدي وخذل باطلهم كما ترى ذلك فيما دونه رحمه الله بقلمه عن هذه الواقعة وأثبتناه في رسالة طبعناها بعنوان (مؤتمر النجف).

فالإمام علي كرم الله تعالى وجهه كان يعلم أن الخلافة الحقة هي التي انضوى فيها إلى جماع إخوانه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قدر الله لها بحكمته ما شاء، وقضى فيها بعدله ما أراد وما كان لمسلم من عامة المسلمين - فضلا عن مثل علي في تعظيم مكانته في الأولين

(1/314)

________________________________________

والآخرين - أن يسخط قدر الله، أو يتمرد على قضائه، أو يرضى غير الذي ارتضاه إخوانه من الصحابة، أو يداجي معهم على ما فيه صلاح المسلمين. ومن الافتئات عليه والانتقاص من قدره والتشويه لجمال الإسلام وتاريخه الشك في إخلاص علي أو في اغتباطه بما بايع عليه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق وصاحبيه بعده عمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين.

ومن المزايا التي تنفرد بها على وطبقته ممن ولي الخلافة أو دخل في بيعتها في الصدر الأول أنهم كانوا يرون ولاية هذا الأمر (واجبا) يقوم به الواحد إذا وجب عليه كما يقوم بسائر واجباته، ولا يرونها (حقا) لأحدهم يعادي عليه المسلمين، ويعرض دماءهم للخطر والشر، ليستأثر بها على غيره.

وجميع الوقائع - إذا جردت من زيادات أهل الأهواء - تدل على هذه المكانة السامية لعلي وإخوانه، فلما شوهت الوقائع وأخبارها بما دسه فيها المتزايدون من أكاذيب لا مصلحة فيها لعلي وآله وبنيه صورة قبيحة لا تنطبق على الحقيقة والواقع وظن المخدوعون بها أن تلك الطبقة - الممتازة على جميع أمم الأرض بعفتها وطهارة نفوسها وترفعها عن الصغائر - إنما كانت على عكس ذلك: تنازع كالأطفال والرعاع على توافه الدنيا وسفاف العاجلة. فالخلافة كانت في نظر الراشدين (عبئا) يتولى الواحد منهم حمله بتكليف من المسلمين أداء الواجب، ولم تكن عند أحد منهم (متاعا) ولا (مأكله) حتى ينازع غيره عليها. ولما تآمرت المجوسية واليهودية على سفك دم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، أبقى الله من حياته بقية يدبر فيها للمسلمين أمرهم بعده، جعل الأمر شورى، واقترح عليه بعض لصحابة أن يريح المسلمين من ذلك فيعهد إلى ابنه عبد الله بن عمر - ولم يكن عبد الله بن عمر دون أبيه في علم أو حزم أو بعد نظر أو إخلاص لله ورسوله والمؤمنين - رفض عمر ذلك وقال: «بحسب آل الخطاب أن يليها واحد منهم، فإن كان خيرا قد أصبنا منه وإن كان زرءا فقد قمنا بنصيبنا فيه». وعبد الله بن عمر نفسه عرضت

(1/315)

________________________________________

عليه الإمامة فيمن عرضت عليهم عند مقتل عثمان في ذي الحجة سنة 35 فهرب منها كما كان يهرب منها طلحة والزبير وعلي، ولم يتولها علي إلا قياما بواجب، ولم يستمدها من خرافات المنحرفين وسخافاتهم، بل من إرادة الأمة في ذينك اليومين (الخميس 24 ذي الحجة، والجمعة 25 منه) كما أعلن ذلك على رءوس الأشهاد وهو واقف على أعواد منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعلي إلى تلك الساعة لم تكن له شيعة خاصة به يعرفها وتتصل به، ولم يخطر قط على باله أن يجعل أحدا من الناس شيعة له، لأنه هو نفسه وسائر إخوانه من الصحابة كانوا شيعة الإسلام الملتفة حول خلفاء نبيها - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر ثم عمر ثم عثمان. ولو حدثته نفسه باتخاذ شيعة خاصة به عند جمهور الأمة الذي يتشيع للبيعة العامة لكان ذلك نقصا منه لما عقد عليه صفقة يمينه لإمامه، وما طوق به من بيعة الإسلام لأصحابها، ولا شك أنه استمر على ذلك إلى عشية الخميس 24 من ذي الحجة سنة 35 للهجرة، كان أهلا لأن يستمر علي ذلك بأمانة وإخلاص. ولو لم يكن علي كذلك لما كان في هذه المنزلة السامية عند الله والناس. ومن الثابت عنه في عشية ذلك اليوم أنه كان يدافع الخلافة عن نفسه، ويحاول أن يقنع أخاه طلحة بن عبيد الله - أحد العشرة المبشرين بالجنة - بأن يتولى هو هذا الأمر عن المسلمين، بينما طلحة أيضا كان يدافعها عن نفسه ويحاول إقناع علي بان يكون هو حامل هذا العبء، القائم عن المسلمين بهذا الواجب. وانظر الحوار بينهما في ذلك كما رواه عالم من كبار علماء التابعين وهو الإمام محمد بن سيرين على ما أورده أبو جعفر الطبري في تاريخه (6: 156 طبعة مصر و 1: 3075 طبعة هولندا) فيقول علي لطلحة «ابسط يدك يا طلحة لأبايعك» فيقول له طلحة «أنت أحق، فأنت امير المؤمنين، فابسط يدك».

وكاد الثائرون من جماعة الفسطاط والكوفة والبصرة يثبون بعلي وطلحة والزبير فيقتلونهم لهربهم من ولاية الأمر وتعففهم جميعا عن قبول الخلافة، فانتهى الأمر بقبول علي، وارتقى منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم التالي (الجمعة 25 من ذي الحجة سنة 35) فخطب خطبة حفظ لنا الطبري نصها (6: 157 و 1: 3077) فقال: «أيها الناس عن ملأ وأذن إن هذا أمركم، وليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم. وقد افترقنا بالأمس على أمر (أي على

(1/316)

________________________________________

البيعة له) فإن شيء تم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد» وبذلك أعلن أنه لا يستمد الخلافة من شيء سبق، بل يستمدها من البيعة إذا ارتضتها الأمة.

ومن مزايا الطبقة الاولى التي صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأدبت بأدبه وتشبعت بسنته أنها كانت ترى (الاعتدال) ميزان الدين، (والرفق) جمال الإسلام، لأن نبيها - صلى الله عليه وسلم - كان يقول لها: «إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه» وكان يقول لها: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله» ويقول: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق» ويقول: «إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو فيه». فلما نشأت الطبقة الثانية في حياة الطبقة الأولى أدب الأباء بينهم بهذا الأدب. ولكن أكثر ما كانت هذه الطريقة ناجحة في الحجاز ونجد والشام. وكان في ناشيء ة الكوفة والبصرة والفسطاط من أخذ بهذه الطريقة، كما أن فيهم من شب على العفو في الدين. ومن أكبر المصائب في الإسلام في ذلك الحين تسلط إبليس من أبالسة اليهود على الطبقة الثانية من المسلمين فتظاهر لها بالإسلام وادعى الغيرة على الدين والمحبة لأهله، وبدأ برمي شبكته في الحجاز والشام فلم تعلق بشيء بسبب تشيعهم بفطرة الإسلام في أعتداله ورفقه، وحذرهم من طرفي الإفراط والتفريط. فذهب الملعون يتنقل بين الكوفة والبصرة والفسطاط ويقول لحديثي السن وقليلى التجربة من شبابها: عجبا لمن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع. وقد قال عز وجل {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وكان يقول لهؤلاء الشبان «كان فيما مضى ألف نبي، ولكل نبي وصي، وإن عليا وصي محمد» ويقول لهم: «محمد خاتم الأنيباء، وعلى خاتم الأوصياء» (1) ثم يقول لهم محرضا على عثمان، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان سنة 30:

_________

(1) ورواية هذه الحقائق عن الملعون ابن سبأ اتفق عليها أهل السنة والشيعة، وقد نقلنا مثل هذا في هامش ص 299 عن تنقيح المقال للمامقاني كما نقلها المامقاني عن الكشي من كبار أئمتهم. وقد اعترفوا بذلك أن وصف علي بانه «وصي» من اختراع ابن سبا ولا علم للنبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الوصف لعلى لأنه اختراع في خلافة عثمان.

(1/317)

________________________________________

«ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، وممن يثب على علي وصي رسول الله وينزع منه أمر الأمة» ويقول لهم «إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، وهنالك علي وصي رسول الله فانهضوا فحركوه وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس» ... ..

إن هذا الشيطان هو عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء، وكان يسمى ابن السوداء وكان يبث دعوته بخبث وتدرج ودهاء. واستجاب له ناس من مختلف الطبقات، فاتخذ بعضهم دعاة فهموا أغراضه وعولوا على تحقيقها. واستنكر أتباعه بآخرين من البلهاء الصالحين المتشددين في الدين المتنطعين في العبادة ممن يظنون الغلو فضيلة والاعتدال تقصيرا. فلما انتهى ابن سبأ من تربية نفر من الدعاة الذين يحسنون الخداع ويتقنون تزوير الرسائل واختراع الأكاذيب ومخاطبة الناس من ناحية أهوائهم، بث هؤلاء الدعاة في الأمصار - ولا سيما الفسطاط والكوفة والبصرة - وعنى بالتأثير على أبناء الزعماء من قادة القبائل وأعيان المدن الذين اشترك آباؤهم في الجهاد والفتح، فاستجاب له من بلهاء الصالحين وأهل الغلو من المتنطعين جماعات كان على رأسهم في الفسطاط الغافقي بن حرب العكي وعبد الرحمن بن عديس البلوي التجيبي الشاعر وكنانة بن بشر بن عتاب التجيبي وسودان ابن حمران السكوني وعبد الله بن زيد بن ورقاء الخزاعي وعمرو بن الحمق الخزاعي وعروة بن النباع الليثى وقتيرة السكوني. وكان على رأس من استغواهم ابن سبأ في الكوفة عمرو أبن الأصم وزيد بن صوحان العبدي والأشتر مالك بن الحارث النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم. ومن البصرة حرقوص بن زهير السعدي وحكيم بن جبلة العبدي وذريح بن عباد العبدي وبشر بن شريح الحطم بن ضبيعة القيسي وابن المحرش ابن عبد عمرو الحنفي. أما المدينة فلم يندفع في هذا الآمر من أهلها إلا ثلاثة نفر وهم: محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وعمار بن ياسر. ومن دهاء ابن سبأ ومكره أنه كان يبث في جماعة الفسطاط الدعوة لعلي (وعلي لا يعلم ذلك)، وفي جماعة الكوفة الدعوة لطلحة، وفي جماعة البصرة الدعوة للزبير. وليس هنا موضع

(1/318)

________________________________________

تحليل نفسيات المخدوعين بدعوة هذا الشيطان، ولا نريد أن ننقل ذم علي وطلحة والزبير لهم وما قالوه فيهم يوم نزل الثائرون في ذي خشب والأعوص وذي المروة، وكيف زور ابن سبأ وشياطينه رسالة على لسان علي بدعوة جماعة الفسطاط إلى الثورة في المدينة، فلما واجهوا عليا بذلك قالوا له: أنت الذي كتبت إلينا تدعونا، فأنكر عليهم أنه كتب لهم، وكان ينبغي أن يكون ذلك سببا ليقظتهم ويقظة علي أيضا إلى أن بين المسلمين شيطانا يزور عليهم الفساد لخطة مرسومة تنطوي على الشر الدائم والشر المستطير، وكان ذلك كافيا لإيقاظهم إلى أن هذه اليد الشريرة هي التي زورت الكتاب على عثمان إلى عامله بمصر بدليل أن حامله كان يتراءى لهم متعمدا ثم يتظاهر بأنه يتكتم عنهم ليثير ريبتهم فيه، فراح المسلمون إلى يومنا هذا ضحية سلامة قلوبهم في ذلك الحين. إن دراسة هذا الموضوع الآن على ضوء القرائن القليلة التي بقيت لنا بعد مضي ثلاثة عشر قرنا تحتاج إلى من يتفرغ لها من شباب المسلمين، وسيجدون مستندات الحق في تاريخهم كافية لوضع كل شيء في موضعه إن شاء الله.

فأول فتنة وقعت في الإسلام هي فتنة المسلمين بمقتل خليفتهم وصهر نبيهم الإمام العادل الكريم الشهيد ذي النورين عثمان بن عفان رضوان الله عليه. وقد علمت أن الذين قاموا بها وجنوا جنايتها فريقان: خادعون ومخدوعون. وقد وقعت هذه الكارثة في شهر الحج، وكانت عائشة أم المؤمنين قد خرجت إلى مكة مع حجاج بيت الله ذلك العام، فلما علمت بما حدث في مدينة الرسول أحزنها بغي البغاة على خليفة نبيهم. وعلمت أن عثمان كان حريصا على تضييق دائرة الفتنة، فمنع الصحابة من الدفاع عنه، بعد أن أقام الحجة على الثائرين في كل ما دعوه عليه وعلى عماله، وكان الحق معه في كل ذلك وهم على الباطل، وكان هو المثل الإنساني الأعلى في العدل وكرم النفس والنزول على قواعد الإسلام واتباع سننه وكان في مدة خلافته أكرم وأصلح وأكثر إنصافا وقياما بالحق واتباعا للخير مما كان هو عليه في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واجتمعت عائشة بكبار الصحابة، وتداولت الرأي معهم فيما ينبغي عمله - وقد عرف القراء ما كانوا عليه من نزاهة، وفرار من الولاية، وترفع عن شهوات النفس - فرأوا أن يسيروا مع عائشة إلى العراق ليتفقوا مع أمير المؤمنين علي على

(1/319)

________________________________________

الاقتصاص من السبإيين الذين اشتركوا في دم عثمان وأوجب الإسلام عليهم الحد فيه، ولم يكن يخطر على بال عائشة وكل الذين كانوا معها - وفي مقدمتهم طلحة والزبير المشهود لهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة - أنهم سائرون ليحاربوا عليا، ولم يكن يخطر ببال علي أن هؤلاء أعداء له وأنهم حرب عليه. وكل ما في الأمر أن أولئك المتنطعين الغلاة لاذين انخدعوا بدعوة عبد الله بن سبا واشتركوا في قتل عثمان انغمروا في جماعة علي، وكان فيهم الذين تلقنوا الدعوة له وتتلمذوا على ذلك الشيطان اليهودي في دسيسة أوصياء الأنبياء ودعوى خاتم الأوصياء، فجاءت عائشة ومن معها للمطالبة بإقامة الحد على الذين اشتركوا في جناية قتل عثمان، وما كان علي - وهو ما هو في دينه وخلقه - ليتأخر عن ذلك، إلا أنه كان ينتظر أن يتحاكم إليه أولياء عثمان. وقبل أن يتفق الفريقان على ذلك شعر قتلة عثمان بأن الدائرة ستدور عليهم، وهم على يقين بأن عليا لن يحميهم من الحق عند ظهوره، فأنشب هؤلاء حرب الجمل، فكانت الفتنة الثانية بعد الفتنة الأولى. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13: 41 - 42 و 44) معتمدا على كتاب (أخبار البصرة) لعمر بن شبة، وعلى غيره من الوثائق القديمة التي جاء فيها عن ابن بطال قول الملهب: « ... .. إن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة وإنما أنكرت هي ومن معها على علي منعه من قتل قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم. وكان علي ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه، فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه. فاختلفوا بحسب ذلك وخشي من نسب إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم (أى بين فريقي عائشة وعلي) إلى أن كان ما كان».

ونجح قتلة عثمان في إثارة الفتنة بوقعة الجمل، فترتب عليها نجاتهم وسفك دماء المسلمين من الفريقين، وإنك لتجد الأسماء التي سجلها التاريخ في فتنة عثمان بقي يتردد كثير منها في وقعة الجمل، فيما بين الجمل وصفين، ثم في وقعة صفين وحادثة التحكيم، وفي هذه الحادثة الأخيرة اتسعت دائرة الغلو في الدين، فكثر المصابون بوبائه، وتفتننوا في مذهبه، إلى أن انتهى أمرهم بانشقاق (الخوارج) عن علي، وتميز فريق من المتخلفين مع علي

(1/320)

________________________________________

باسم (الشيعة)، ولم يقع نظري على اسم للشيعة في حياة علي كلها إلا في هذا الوقت سنة 37هـ. ومن الظواهر التي تسترعي الأنظار في تاريخ هذه الفترة أن الغلاة من الفريقين - فريق الشيعة وفريق الخوارج - كانوا سواء في الحرمة للشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنه -، تبعا لما كان عليه أمير المؤمنين علي نفسه، وما كان يعلنه على منبر الكوفة من الثناء عليهما والتنويه بفضلهما. أما الخوارج فإنهم والإباضية ظلوا على ذلك لم يتغيروا أبدا، فأبو بكر وعمر كانا عندهم أفضل الأمة بعد نبيها، استرسالا منهم فيما كانوا عليه مع علي قبل أن يفارقوه. وأما الشيعة فإنهم عند ما جددوا بيعتهم لعلي بعد خروج الخوارج إلى حروراء والنهروان قالوا له أولا: «نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت». فشرط لهم كرم الله تعالى وجهه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أى أن بوالوا من والى على سنة رسول الله ويعادوا من عادى على سنته - صلى الله عليه وسلم -. فجاءه ربيعة بن أبي شداد الخثعمي - وكان صاحب راية خثعم في جيش علي أيام الجمل وصفين - فقال له علي: «بايع على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -» فقال ربيعة: «وعلى سنة أبي بكر وعمر» فقال علي: «ولو أن أبا بكر وعمر عملا بغير كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونا على شيء من الحق» أي أن سنة أبي بكر وعمر إنما كانت محمودة ومرغوبا فيها لأنها قائمة على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، فبيعتكم الآن على كتاب الله وسنة رسوله تدخل فيها سنة أبي بكر وعمر.

هكذا كان أمير المؤمنين علي من أخويه وحبيبه خليفتي رسول الله أبي بكر وعمر في حياته كلها، وهكذا كانت شيعته الأولى: من خرج منهم عليه، ومن جدد البيعة له بعد التحكيم.

وحكاية التحكيم هذه كانت مادة دسمة للمغرضين من مجوس هذه الأمة أتاحت لهم دس السموم في تاريخنا على اختلاف العصور، وأول من شمر عن ساعديه للعبث بها وتشويه وقائعها أبو مخنف لوط بن يحيى، ثم خلف خلف بعد أبي مخنف بلغوا من الكذب ما جعل أبا مخنف في منزلة الملائكة بالنسبة إلى هؤلاء الأبالسة، وأبو مخنف معروف عند ممحصي

(1/321)

________________________________________

الأخبار وصيارفة الرجال بانه أخباري تالف لا يوثق به. نقل الحافظ الذهبي في (ميزان الاعتدال) عن حافظ إيران ورأس المحققين من رجالها أبي حاتم الرازي رحمه الله أنه تركه وحذر الأمة من أخباره، وأن الدارقطني أعلن ضعفه، وأن ابن معين حكم عليه بأنه ليس بثقة، وان ابن عدي وصفه بأنه «شيعي محترق».

ومن براعة هؤلاء المغرضين في تحريف الوقائع ودس أغراضهم فيها، وتوجيهها بحسب أهؤائهم، لا كما وقعت بالفعل، أنهم كانوا يعمدون إلى حادثة وقعت بالفعل فيرددون منها ما كان يعرفه الناس، ثم يلصقون بها لصيقا من الكذب والإفك يوهمون أنه من أصل الخبر ومن جملة عناصره، فيأتي الذين بعدهم فيجدون الخبر القديم مختصرا فيحكمون عليه أنه ناقص، ويقولون «من حفظ حجة على من لم يحفظ» ويتناولون الخبر ما لصق به من لصيق مفترى، حتى تكون الرواية الجديدة وما في بطنها من جنين الإثم هي المتداولة بين الناس. وقد يعمد هؤلاء المغرضون إلى موهبة من مواهب النبوغ عرف بها أحد أبطال التاريخ الإسلامي وعظماء الدعاة الفاتحين، لم يعرف عنه استعمالها إلا في سبيل الحق والخير، فيطلعون على الناس بأكاذيب يرتبونها على تلك الوهبة، ويوهمون أن رجل الحق والخير الذي حلاه الله بتلك الموهبة ولم يستعملها إلا في نشر دين الله وتوسيع نطاق الوطن الإسلامي، وقد انقلب بزعمهم مع الزمن، وسخر نبوغه للباطل والشر، فإذا أخذ المحققون في تمحيص ذلك وتحري مصادر هذه التهم التي لا تلتئم مع ما تقدمها من سيرة ذلك البطل المجاهد، وجدوها من بضاعة الكذابين ومفترياتهم، ولكن قلما يجدى ذلك بعد أن يكون «قد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا».

هذا أبو عبد الله عمرو بن العاص بن وائل السهمي بطل أجنادين، وفاتح مصر، وأول حاكم ألغى نظام الطبقات فيها، وكان السبب الأول في عروبتها وإسلام أهلها وشريك مسلميها في حسناتهم من زمنه إلى الآن لأنه الساعي في دخولهم في الإسلام - هذا الرجل العظيم عرفه التاريخ بالدهاء ونضوج العقل وسرعة البادرة، وكان نضوج عقله سبب انصرافه

(1/322)

________________________________________

عن الشرك ترجيحا لجانب الحق واختيارا لما دله عليه دهاؤه من سبيل الخير، فجاء مزيفو الأخبار من مجوس هذه الأمة وضحاياهم من البلهاء فاستغلوا ما اشتهر به عمرو من الدهاء استغلالا تقر به عين عبد الله بن سبأ في طبقات الجحيم.

يقول قاضي قضاه إشبيلية بالأندلس الإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري (المولود في أشبيلية سنة 468 والمتوفى بالمغرب سنة 543) في كتابه (العواصم من القواصم) ص 177 بعد أن ذكر ما شاع بين الناس في مسألة تحكيم عمرو وأبي موسى، وما زعموه من أن أبا موسى كان أبله وأن عمرا كان محتالا: «هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاص الله والبدع، وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما - يعني عمرا وأبا موسى - لما اجتمعوا للنظر في الأمر، في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر، عزل عمرو معاوية. ذكر الدارقطني بسنده عن حضين بن المنذر أنه لما عزل عمرو معاوية جاء (أي حضين) فضرب فسطاطه قريبا من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا (يعني عمرو بن العاص) كذا وكذا (يعني اتفاقه مع أبي موسى على عزل الأميرين المتنازعين حقنا لدماء المسلمين وردا للأمر إليهم يختارون من يكون به صلاح أمرهم). فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه - فقال حضين -: فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولقد قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذي توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة، وإن يستعن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما. قالت: فكانت هي التي قتل معاوية منها نفسه. فأتيته (أي أن حضينا أتى معاوية) فأخبرته أن الذي بلغه عنه كما بلغه. أي أن الذي بلغ معاوية من أن عمرا وأبا موسى عزلاه هو كما بلغه، وأنهما رأيا أن يرجع في الاختيار من جديد إلى النفر الذي توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض. ثم ذكر القاضي أبو بكر بن العربي

(1/323)

________________________________________

بقية خبر الدارقطني عن إرسال معاوية رسولا - وهو أبو الأعور الذاكواني - إلى عمرو بن العاص يعاتبه، وأن عمرا أتى معاوية وجرى بينهما حوار وعتاب، فقال عمرو لمعاوية: «عن الضجور قد تحليت العلبة» وهو مثل معناه أن الناقة الضجور التي لا تسكن للحالب قد ينال الحالب من لبنها ما يملأ العلبة. فقال له معاوية «ونربذ الحالب فتدق أنفه وتكفأ إناءه».

فرواية الدارقطني هذه - وهو من أعلام الحديث - عن رجال عدول معروفين بالتثبت ويقدرون مسئولية النقل، هي التي تتناسب مع ماضي عمرو وأبي موسى وأيامهما في الإسلام ومكانتهما من النبي - صلى الله عليه وسلم - وموضوعهما من ثقة الفريقين بهما واختيارهما من بين السادة القادة المجربين. وأما الافتئات على أبي موسى والإيهام بأنه كان أبله فهو أشبه بالرقعة الغربية في ردائه السابغ الجميل. يقول القاضى أبو بكر بن العربي (ص 174): «وكان أبو موسى رجلا تقيا ثقفا فقيها عالما أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن مع معاذ، وقدمه عمر ابن الخطاب وأثنى عليه بالفهم. (1) وزعمت الطائفة التاريخية أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعا في القول» ثم رد هذه الأكاذيب وأحال في تفصيل الرد على كتاب له اسمه (سراج الدين).

وبعد فإن صحائف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت كقلوبهم نقاء وسلامة وطهرا. وما نتمناه من تمحيص التاريخ أول ما يشترط له فيمن يتولاه أن يكون سليم الطوية لأهل الحق والخير، عارفا بهم كما لو كان معاصرا لهم، بارعا في التمييز بين حملة الأخبار: من عاش منهم بالكذب والدس والهوى، ومن كان منهم يدين لله بالصدق والأمانة والتحرز عن تشويه صحائف المجاهدين الفاتحين الذين لولاهم لكنا نحن وأهل أوطاننا جميعا لا نزال كفرة ضالين. (2)

_________

(1) واختصه بكتابه الشهير في القضاء وآدابه وقواعده.

(2) وقد اقترح كاتب هذه الخاتمة على مشيخة الأزهر إعادة النظر في دراسة التاريخ الإسلامي. ولعل الله بوفق إلى ذلك فتعود الأمة إلى مواطن الأسوة الصالحة من ماضيها النقى الطاهر، والله المستعان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...