الأربعاء، 17 يناير 2024

4.سورة النساء {ج1}

4.سورة النساء {ج1} 
 سُورةُ النِّساءِ
مقدمة السورة
أسماءُ السُّورةِ:{{سُمِّيتْ هذه السُّورةُ بسُورةِ النِّساء}}
:
فعن مَعْدَانَ بن أبي طَلحةَ اليَعمُريِّ، قال: إنَّ عمرَ بنَ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه خطَب يومَ جمعةٍ، فذكَر نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذكَر أبا بكرٍ، ثم قال: إنِّي لا أَدعُ بعدي شيئًا أهمَّ من الكَلالةِ، ما راجعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في شيءٍ ما راجعتُه في الكَلالةِ، وما أَغلظَ لي في شيءٍ ما أغلظَ لي فيهِ! حتى طعَنَ بإِصبَعِه في صَدْري، وقال: يا عُمرُ، ألَا تكفيك آيةُ الصَّيفِ التي في آخرِ سورةِ النساءِ؟! وإني إنْ أعِشْ أقضِ فيها بقضيةٍ، يَقضي بها مَن يقرأُ القرآنَ ومَن لا يقرأُ القرآنَ
فضائلُ السُّورة وخَصائصُها:

1- عن عبدِ الله بن مَسعودٍ رضِي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وهو على المنبر-: ((اقرأْ عليَّ القرآنَ، فقلت: يا رسولَ الله، أقرأُ عليك وعليك أُنْزِل؟! قال: إنِّي أَشتهي أن أسمعَه من غيري، قال: فقرأتُ عليه سورةَ النِّساء حتى بلغتُ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء: 41- 42] ، رفعتُ رأسي، أو غمزني رجلٌ إلى جنبي- وفي رواية: بيده- فرفعتُ رأسي، فنظرْتُ إليه فرأيتُ عينيهِ تسيلُ ))
.
2- عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ((مَن أخَذ السَّبْعَ الأُولَ من القرآن، فهو حَبرٌ)) .
3- عن واثلةَ بن الأسقعِ رضِي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أُعطِيت مكانَ التوراة السَّبْعَ الطِّوالَ... الحديث )) .
4- عن عبدِ اللهِ بن مَسعودٍ رضِي اللهُ عنه، قال: (إنَّ في النِّساء لخمسَ آياتٍ، ما يسرُّني بهنَّ الدُّنيا وما فيها، وقد علِمتُ أنَّ العلماء إذا مرُّوا بها يعرفونها: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] ، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40] ، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء: 64] ، وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110] .
5- عن حُذيفةَ بن اليمانِ، قال: ((صلَّيتُ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذاتَ ليلةٍ، فافتتَحَ البقرةَ، فقلتُ: يركع عند المئةِ، ثم مضى، فقلتُ: يصلي بها في ركعةٍ، فمضى، فقلتُ: يركع بها، ثم افتتح النساءَ فقرأها، ثم افتتح آلَ عمرانَ فقرأها، يقرأ مُترسِّلًا ))

.
بيانُ المَكِّي والمَدنيِّ:

سورةُ النِّساء مدنيَّةٌ؛ حُكي في ذلِك الإجماعُ
.
الدَّليل:
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، أنها قالت: ((وما نزلتْ سورةُ البقرةِ والنساء إلَّا وأنا عنده )) .
ولا خِلافَ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إنَّما بَنَى بها بالمدينة

.
مقاصدُ السورة:

مِن أبرزِ المقاصدِ التي تَضمَّنتها سورةُ النِّساء:
1- الاهتمامُ بالعقيدة وتوحيدِ الله سبحانه وتعالى وقضايا الإيمان، والردُّ على العقائد الباطلة، وإيضاح الحُجَّة على صِحَّة نبوَّة محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والتحذير من المنافقين.
2- العناية بالأُسرة، وتنظيم العلاقة بين الزوجينِ، وحقوق الأرحام، وبيان نظام الإِرْث، وتقسيم التَّرِكات.
3- الاهتمام بأُسُس بناء الدولة الإسلاميَّة، ومقوِّماتها، والجهاد في سبيل الله.
4- الاهتمامُ بحِفظ الدِّماء وأحكامها، وحِفظ الأموال، ورعاية حقوق اليتامى.
موضوعاتُ السورة:

أبرزُ الموضوعاتِ التي تناولتْها سورةُ النساء:
1- تناولتْ سورةُ النساء الحديثَ عن المرأة، ففصَّلت الكثيرَ من أحكامها، وأوضحتْ كثيرًا من حقوقِها، وأطالتِ السورةُ الكلامَ في هذا الجانب.
2- نظَّمت السورةُ الكثيرَ من العَلاقات القائمةِ بين الرجُل والمرأة؛ ومنها: موضوع القِوامة، وإباحة النِّكاح والتعدُّد فيه للرجل، وحق المرأة في الكرامة الإنسانية والمهر والميراث, وحُرمة عَضْل النساء، وأحكام الرَّضَاع,كما حثَّتْ على الفضيلة، وزجرت عن إتيان الفاحشة، وتطرَّقت أيضًا إلى العَلاقة مع مِلْك اليمينِ، إلى غير ذلك.
3- تحدَّثت عن حقوق الأيتام والسُّفهاء، وكيف التعامُل مع أموالِهم.
4- فيما يتعلَّق بالأموالِ، تناولت السورة موضوعَ تحريمِ أكْل أموالِ النَّاسِ بالباطل، والتحذير مِن فِعل ذلك، والحثَّ على الإنفاق في سبيل الله، وتوعُّد الذين يبخلون ويأمرون الناسَ بالبُخل.
5- تطرَّقت السورةُ إلى بيان الكثير من الأحكام الفقهيَّةِ مع بيان يُسْرِ الشَّريعةِ، وإرادة الله التخفيفَ عن عباده، ومراعاة ضَعْفهم، ومن هذه الأحكام: أحكامُ المواريث، وحُرمة صلاة السَّكران في حالة سُكرِه، ووجوب الاغتسال من الجَنابة لمن أراد الصَّلاة، ومشروعية التيمُّم وأحكامه، كما أَوضحتِ السورةُ بعضًا من أحكام الجناياتِ، والدِّيَات، مع بيان عِظَم دماء المؤمِن، وجزاء مَن يقتل مؤمنًا متعمِّدًا، وغير ذلك من الأحكام الفقهيَّة.
6- تحدَّثت السورةُ عن أهلِ الكتابِ، وبيَّنت بعضَ ما هُمْ عليه من الضَّلال، وما حلَّ عليهم من الغضب واللَّعن، وذَكَرت بعضَ تعنُّتِهم، ونَقْضهم للعهود، وكُفْرهم بالآيات، ومعاملتهم السيِّئة لأنبياء الله، التي وصلت إلى قتْل بعضِهم. ثم تناولَتْ دعوتَهم إلى الدِّين الحقِّ، ونهيَهم عن الغلوِّ في الدِّين، ومن ذلك غلوُّهم في المسيح عيسى ابن مريمَ، وقولهم بالتثليث.
7- تَطرَّقتْ إلى قضيةِ الحُكم في الإسلام، وإلى ما يَنبغي أنْ يقومَ عليه الحُكمُ في الدَّولة الإسلاميَّة، وهو العدلُ، ووجوبُ الطاعةِ لله والرسولِ وأُولي الأمر، وأنْ يكون المرجعُ في التنازع هو شَرْعَ الله، حتى جعلَتِ الإيمانَ مربوطًا بتحكيمِ الشَّرع، والرِّضا والتسليم له.
8- الحديثُ عن المنافقين، وفضْحُهم، وبيانُ الكثير من أعمالهم، وتصرُّفاتهم، ودَسائسهم، وعقوبتهم، ومكانهم في الآخرة، وأنَّهم في الدَّرْك الأسفل من النار.
9- ومِن المواضيع التي تحدَّثت عنها السورةُ: الأمْرُ بالقتال في سبيل الله، ولإعلاء كلمته، ولنُصرة المستضعَفين من المؤمنينَ، موضِّحةً الأجرَ العظيمَ لِمَن يُقاتِل في سبيل الله، والفضل الجزيل للمجاهدين على القاعدين، ومبيِّنةً بعضَ الأحكام التي يحتاج لها المقاتلُ في سبيل الله؛ كالتعامُل مَع مَن يُلقِي السلام، وأحكام صلاة الخوف، والقَصْر للصَّلاة.
10- حضَّت السورةُ على عمَل الخير، والتخلُّقِ بالأخلاق الفاضلة؛ ومنها: العدل، وأداء الشَّهادة لله كما هي، ولو كانت على النَّفْسِ، أو الوالدينِ أو الأقربين، وألَّا يتَّبِعوا أهواءَهم فيَقعوا في الظُّلم، ومنها: أداءُ الأمانات، والحثُّ على الإحسانِ للخَلْق، ومراعاة الأقرَبينَ من الوالدينِ والأقاربِ والجيرانِ، وكذلك مراعاةُ المحتاجين من الفُقَراء والمساكينِ والضعفاءِ، والإحسانِ إليهم.
11- بيانُ العداوة الأزليَّة بين الشيطانِ وبينَ بني آدمَ، وكيف أنَّ الشيطانَ توعَّد بإضلالِ جزءٍ من العِبادِ.
12- الحثُّ على الإيمانِ بالله ورُسله وكُتُبِه واليومِ الآخِر، وتوحيد العبادة، وبيانُ خطورةِ الشِّركِ، والنَّهْي عن اتِّخاذِ الكافرينَ أولياءَ من دون المؤمنينَ، والأمرُ بتقوى الله عزَّ وجلَّ، والاعتصام به، والتمسُّك بدِينه.
13- ذَكَرتِ السورةُ طَرَفًا من خبرِ أنبياء الله تعالى.
============2


سُورةُ النِّساءِ
الآية (1)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
غريب الكلمات:

وَبَثَّ: أي: ونشَر، وأصلُ البثِّ: التفريقُ، وكذلك إثارةُ الشَّيءِ وإظهارُه
.
تَسَاءَلُونَ: تطلُبون حقوقَكم، والسُّؤال يأتي بمعنى الطَّلب والالتماسِ، ويأتي بمعنى الاستفسارِ؛ يُقال: سأل يسألُ سؤالًا ومسألةً .
وَالْأَرْحَامَ: أي: القَرابَاتِ، واحِدَتُها رحِم، والرَّحِمُ: عَلاقة القرابَةِ، وأصل (رحم): الرِّقَّةُ والعطفُ والرَّأفة، ثم سُمِّيت رحِمُ الأنثى رَحِمًا مِن هذا؛ لأنَّ منها يكونُ ما يُرحَم ويُرقُّ له من ولدٍ .
رَقِيبًا: أي: حافظًا، عالِمًا، مُطَّلعًا، وأصل رقب: يدلُّ على انتصابٍ لمراعاةِ شيءٍ

.
مشكل الإعراب:

قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ:
وَالأَرْحَامَ قُرِئ بالنَّصب، والجرِّ؛ فعلى قِراءة النَّصب، فهو عَطفٌ على اسمِ الله تعالى، أي: واتَّقوا الأرحامَ أن تَقطَعوها، ويجوزُ أنْ يكونَ عطفُه على موضِع بِهِ كما في: مررتُ بزيد وعمرًا، بعطف (عمرًا) على موضع بزيد؛ لأنَّه مفعولٌ به في موضِع نصْب، وإنَّما ضعُف الفِعلُ عن التعديةِ بنفْسه فتعدَّى بحَرْف جَرٍّ.
وعلى قِراء الجرِّ، فهو معطوفٌ على الهاء في بِهِ، من بابِ العَطفِ على الضَّميرِ المجرورِ من غيرِ إعادة الجارِّ

.
المَعنَى الإجمالي:

يُخاطِبُ الله تعالى جميعَ البَشَر آمرًا إيَّاهم بتقواه؛ فهو الذي أَوجدَهم جميعًا من نفْسٍ واحدة، هي أبوهم آدَمُ عليه السَّلام، ومِن آدَمَ أوجد الله سبحانه حوَّاءَ، ونشَر منهما بشرًا كثيرًا من الرِّجال والنِّساء, وأمَرَهم سبحانه أيضًا أن يتَّقوه؛ فإنَّه سبحانه مَن يتساءلون به بينهم لعَظَمَتِه، وأمرهم أن يتَّقوا الأرحامَ فلا يَقْطَعوها؛ فإنَّهم يتساءلون بها أيضًا لِعِظَمِها، فلْيؤدُّوا حقَّها، إنَّ الله سبحانه مطَّلعٌ على جميع أعمالِهم، مراقِبٌ وحافظٌ لها.
تفسير الآية:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
مُناسَبةُ افتتاحِ السُّورةِ بالأمْر بالتقوى:
لقدِ اشتملتْ سورةُ النِّساء على أنواعٍ كثيرة من التكاليفِ؛ وذلك لأنَّه تعالى أمَر النَّاسَ في أوَّل هذه السورة بالتعطُّفِ على الأولاد والنِّساءِ والأيتام، والرأفة بهم، وإيصالِ حقوقِهم إليهم، وحِفْظ أموالِهم عليهم، وبهذا المعنى خُتِمت السورةُ، وهو قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [النساء: 176] ، وذَكَرَ في أثناء هذه السُّورة أنواعًا أُخَر من التكاليف، وهي الأمْرُ بالطهارة والصَّلاة، وقِتال المشركين، ولَمَّا كانت هذه التكاليفُ شاقَّةً على النفوس؛ لثِقَلِها على الطِّباع، لا جرمَ افتَتَح السورةَ بالعِلَّة التي لأجلها يجب حمْلُ هذه التكاليفِ الشاقَّة، وهي تقوى الربِّ الذي خلَقَنا، والإلهِ الذي أَوْجَدَنا؛ فلهذا قال
:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
أي: يا أيها الناس حققوا تقوى الله عزَّ وجلَّ، بامتثالِ أوامره، واجتنابِ نواهيه؛ وذلك لأنَّه ربُّكم، أي: خالِقُكم ومالِكُكم ومُدبِّركم .
ولَمَّا أمَر الله عزَّ وجلَّ بتقواه، وذكَر السبَّبَ الدَّاعيَ لهذه التَّقْوى، ذكَر سببًا آخرَ موجِبًا لها ، فقال:
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
أي: الذي أوجدَكم جميعًا- أيُّها الناس- من نَفْسٍ واحدةٍ، وهي آدَمُ عليه السَّلام .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأنعام: 98] .
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
أي: وأَوجَدَ مِن آدَمَ عليه السَّلامُ امرأتَه حوَّاءَ عليها السَّلام .
كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] .
وعن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((استوصُوا بالنِّساءِ؛ فإنَّ المرأةَ خُلقتْ من ضِلَعٍ ، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعلاه، فإنْ ذهبتَ تقيمُه كَسَرْتَه، وإنْ تركتَه لم يزلْ أعوجَ، فاستوصُوا بالنِّساءِ )) .
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً
أي: إنَّ الله سبحانه قد نشَر من آدَمَ وحواءَ عليهما السَّلام في أقطارِ الأرض أعدادًا كثيرةً من الرِّجال والنِّساء، فجميعُهم بنو أبٍ واحدٍ، وأمٍّ واحدةٍ .
كما قال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .
ثم ذكَر داعيًا آخرَ من دواعي تقواه جلَّ وعلا ، فقال:
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
أي: امتثِلوا ما أمَرَكم الله تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه؛ فإنَّ تساؤُلَكم به، وتعظيمَكم له سبحانه، من الموجِبِ الدَّاعي لتَقْواه؛ حتى إنَّكُم إذا أرَدْتُم قضاءَ حاجاتِكم، توسَّلْتُم بها بالسُّؤالِ بالله، فيقول مَن يريد ذلك لغيرِه: أسألُك باللهِ أن تفعلَ كذا؛ لعِلمه بما قام في قلب الغيرِ من تَعظيمِ الله الذي يَمنعه أنْ يردَّ مَن سأله بالله؛ فكما عَظَّمتُم الله تعالى بذلك، فلْتعظِّموه أيضًا بتقواه سبحانه .
وَالْأَرْحَامَ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
أنَّ في إخبارِ الله سبحانه بأنه خَلَق النَّاسَ من نفسٍ واحدةٍ، وأنَّه بثَّهم في أقطارِ الأرض، مع رُجوعِهم إلى أصلٍ واحدٍ- عَطفًا لقلوبِ بعضِهم على بعضٍ، وترقيقَ بعضِهم على بعض. وقَرَن سبحانه الأمْرَ بتقواه بالأمر ببرِّ الأرحامِ والنهي عن قطيعَتِها؛ ليؤكِّدَ هذا الحَقَّ، وأنَّه كما يلزم القيامُ بحقِّ الله تعالى، كذلك يجب القيامُ بحقوق الخَلْق، والأقربين منهم خاصَّة، بل القيامُ بحقوقِهم هو مِن حقِّ اللهِ عزَّ وجلَّ الذي أمر به .
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ
في قوله تعالى: وَالْأَرْحَامَ قراءتان:
1- وَالْأَرْحَامِ على أنَّها معطوفةٌ على الهاءِ في (به)، أي: تساءلونَ باللهِ وتَسَاءلون بالأرحامِ، أي: تتوسَّلونَ بها .
2- وَالْأَرْحَامَ على أنَّها معطوفة على لفظ الجلالةِ، أي: واتَّقوا الأرحامَ أن تَقْطَعوها .
وَالْأَرْحَامَ
أي: واحْذروا من أنْ تَقطعوا أرحامَكم، وتُفَرِّطوا في أداءِ حقِّهم ، وكما تتوصَّلونَ بهذه الصِّلة فيما بينكم لعِظَمِها من أجْل قضاءِ حاجةٍ، أو نَيْل مأرب، فآتوها حقَّها .
عن جَرير بن عبد الله رضِي اللهُ عنه، قال: ((كنَّا عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في صَدر ِالنهارِ، قال: فجاءَه قومٌ حُفاةٌ عُراةٌ مُجتابي النِّمارِ أو العَباءِ ، مُتقلِّدي السيوفِ، عامَّتُهم من مُضَرَ، بل كلُّهم من مُضَرَ، فتمعَّر وجهُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِمَا رأى بهم من الفاقةِ، فدخَل ثم خرج، فأمَر بلالًا فأذَّن وأقام، فصلَّى ثم خطَب فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا. والآيةَ التي في الحشرِ: اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ؛ تصدَّقَ رجلٌ من دينارِه، من درهمِه، من ثوبِه، من صاعِ بُرِّه، من صاعِ تَمْرِه (حتى قال) ولو بشِقِّ تمرةٍ، قال: فجاءَ رجلٌ من الأنصارِ بصُرَّةٍ كادت كَفُّه تَعجِزُ عنها، بل قد عجَزتْ، قال: ثم تتابَعَ الناسُ، حتى رأيتُ كَومَين من طعامٍ وثيابٍ، حتى رأيتُ وجهَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتهلَّلُ كأنَّه مَذْهَبةٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً، فله أجرُها، وأجرُ مَن عَمِل بها بعدَه، من غير أن يَنقُصَ من أجورِهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيئةً، كان عليه وِزرُها ووِزرُ مَن عمِل بها من بعده، من غير أن يَنقُصَ من أوزارِهم شيءٌ)). وفي روايةٍ: ((كنَّا عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صدرَ النَّهارِ، بمثلِ حديثِ ابنِ جعفرٍ، وفي حديثِ ابنِ معاذٍ من الزِّيادة قال: ثم صلَّى الظهرَ ثم خطَب، وفي رواية ٍ: كنتُ جالسًا عند النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأتاه قومٌ مُجتابي النِّمارِ، وساقوا الحديثَ بقِصَّتِه، وفيه: فصلَّى الظهرَ ثم صعِد منبرًا صغيرًا، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: أمَّا بعدُ؛ فإنَّ اللهَ أنزل في كتابِه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الآية)) .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى مراقِبٌ لجميع أعمالِكم، وحافِظٌ لها، ومِن جُملةِ ذلك ما أمَرَكم به من تقوى ربِّكم، ورِعايةِ حُرمة أرحامِكم

.
الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، أنَّ الناس إذا عرَفوا كونَ الكلِّ من شَخْص واحد، ترَكوا المفاخَرةَ والتكبُّر، وأظهروا التواضُعَ وحُسنَ الخُلق

2- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا التحذيرُ من مخالفة الله عزَّ وجلَّ، ومَن آمَن بأنَّ الله رقيبٌ عليه، فسيحذرُ من مخالفة الله عزَّ وجلَّ، ويوجِبُ له ذلك مراقبتَه، وشِدَّة الحياءِ منه، بلزوم تقواه .
3- في قوله: وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا: تنبيهٌ على مراعاةِ حقِّ الأزواجِ والزَّوجات والقيامِ به؛ لكَوْنِ الزوجاتِ مخلوقاتٍ من الأزواجِ؛ فبينهم وبينهنَّ أقربُ نسَبٍ، وأشدُّ اتصالٍ، وأقرَبُ عَلاقة

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- جعَل اللهُ تعالى قولَه يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ مَطْلعًا لسورتينِ في القرآن: إحداهما: هذه السُّورة، وهي السُّورة الرَّابعة مِن النِّصف الأوَّلِ من القرآن. والثانية: سُورةُ الحج، وهي أيضًا السورة الرَّابعة من النِّصف الثاني من القرآن، ثم إنَّه تعالى علَّل الأمرَ بالتقوى في هذه السُّورة بما يدلُّ على معرفةِ المبدأِ، وهو أنَّه تعالى خلَق الخَلْقَ مِن نفْسٍ واحدة، وهذا يدلُّ على كمالِ قُدرةِ الخالق، وكمالِ عِلْمه، وكمالِ حِكمتِه وجلالِه، وعلَّل الأمرَ بالتَّقوى في سورة الحجِّ بما يدلُّ على كمالِ معرفةِ المَعادِ، وهو قوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] ، فجعَلَ صدْرَ هاتين السورتين دلالةً على معرفة المبدأِ ومَعْرِفة المعاد
.
2- في قوله تعالى: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ دليلٌ على المعادِ؛ لأنَّه تعالى لَمَّا كان قادرًا على أنْ يُخرِجَ من صُلْب شخص واحد أشخاصًا مختلفين، وأنْ يَخلُقَ من قَطرة من النُّطفة شَخصًا عجيبَ التركيبِ، لطيفَ الصُّورة؛ فكيف يُستبعَد إحياءُ الأمواتِ وبعثُهم ونشورُهم؟! فتكون الآية دالَّةً على المعادِ من هذا الوجه .
3- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ...، في الآية تلويحٌ للمشركينَ بأحقيَّة اتِّباعِهم دعوةَ الإسلامِ؛ لأنَّ الناس أبناءُ أبٍ واحدٍ، وهذا الدِّين يدعو النَّاسَ كلَّهم إلى متابعته، ولم يَخصَّ أمَّةً من الأُمم أو نسبًا من الأنسابِ؛ فهو جديرٌ بأن يكون دينَ جميعِ البشر، بخلاف بقيَّة الشرائعِ، فهي مصرِّحة باختصاصِها بأُمَمٍ معيَّنة .
4- في قوله: وَالْأَرْحَامَ تعريضٌ للمشركين بأنَّ أَوْلَى الناسِ بأن يتَّبِعوه هو محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه مِن ذوي رَحِمِهم .
5- في قوله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ردٌّ على الفِكرة المُلْحِدة أنَّ الناس تطوَّروا من القُرُود إلى البشريَّة؛ فالنَّفْسُ هي آدَمَ، الذي نحن مِن نَسْلِه .
6- التَّذكيرُ بنِعمة الله عزَّ وجلَّ بما خَلَق لنا من الأزواجِ؛ لقوله تعالى: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، و(مِن) هنا للتبعيض، ويجوز أن تكونَ بيانيَّةً للجِنس؛ أي: مِن جِنْسِها، وهذا من النِّعم الكبيرة، فلو كانت أزواجُنا من غَير جِنْسِنا، فلا يمكن أن نركنَ إليها أبدًا؛ بل ننفِرُ منها نفورًا شديدًا؛ لأنَّه لا يركَنُ الإنسانُ إلَّا إلى مَن كان مِن جِنْسِه .
7- في قولِه تعالى: رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءَ خصَّ رجالًا بذكرِ الوصفِ بالكثرةِ دونَ النِّساء، قيل: حذَف وصفَ الثَّاني؛ لدلالةِ وصفِ الأوَّل عليه، والتقديرُ: ونساءً كثيرةً، ولأنَّ الفعل (بَثَّ) يقتضى الكثرةَ والانتشارَ، وقيل: لا يقدَّر الوصفُ، وإن كان المعنى فيه صحيحًا؛ لأنَّه نبَّه بخصوصيةِ الرِّجال بوصفِ الكثرةِ على أنَّ اللائقَ بحالِهم الاشتهارُ والخروجُ والبُروز، واللائقَ بحالِ النِّساء الخمولُ والاختفاءُ، وقيل: لأنَّ كثرة الرِّجالِ أهمُّ من كثرةِ النِّساء؛ فالكثرةُ في الرِّجال عزٌّ وفخرٌ يفتخرُ النَّاس به، بخلافِ النِّساء، فإنَّ الكثرةَ منهنَّ عالةٌ وتعبٌ وعناءٌ، وقيل: خُصِّصَ وصْفُ الكثرةِ بالرِّجال دونَ النِّسَاء؛ لأنَّ شهرةَ الرِّجالِ أتمُّ، فكانت كثرتُهم أظهرَ .
8- ذُكِرَ (الربُّ) أولًا في قوله اتَّقُوا رَبَّكُمُ وهو الاسمُ الذي يدلُّ على الإحسانِ والتربيةِ، وذُكِرَ ثانيًا (الله) في قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وهو الذي يدلُّ على القَهْر والهَيْبة؛ لأنَّه بنى الأَمْر بالتقوى أولًا على التَّرغيب، وثانيًا على التَّرهيب. كقوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة: 16] ، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء: 90] ، كأنَّه قال: إنَّه ربُّك أحْسنَ إليك، فاتَّقِ مخالفتَه وغَضَبَه وعقابَه؛ فإن لم تتَّقِه لذلك، فاتَّقِه لأنَّه شديدُ العقابِ

.
بلاغة الآية:

1- في الآية بَراعةُ الاستهلالِ؛ فقد استهلَّ السورةَ بالإشارةِ إلى بَدء الخَلْق والتكوينِ، وألْمَع إلى دَورِ المرأةِ المهمِّ، وأَوْصى بصِلةِ الرَّحِم
؛ حيث تَضمنَّت هذه الآيةُ المفتَتَحُ بها ما أكثرُ السُّورةِ في أحكامِه؛ من نِكاحِ النِّساءِ ومحرَّماتِه، والمواريثِ المتعلِّقَةِ بالأرحام، وأنَّ ابتداءَ هذا الأمر كان بخَلْق آدَمَ، ثم خَلَق زوجَه منه، ثم بَثَّ منهما رِجالًا ونساءً في غاية الكثرة ؛ فالآية تمهيدٌ لِمَا سيُبَيَّن في هذِه السُّورةِ من الأحكامِ المرتَّبةِ على النَّسَبِ والقرابة، وأيضًا في قولِه: الَّذِي خَلَقَكُمْ براعةُ استهلالٍ مناسِبَةٌ لِمَا اشتملتْ عليه السُّورةُ مِن الأغراضِ الأصليَّة، فكانتْ بمنزلةِ الدِّيباجةِ .
2- قوله: اتَّقُوا رَبَّكُمُ: عبَّر بـرَبَّكُم، دون الاسم العَلَم (الله)؛ لأنَّ في معنى الربِّ ما يَبعث العبادَ على الحِرص في الإيمانِ بوحدانِيَّتِه؛ إذ الربُّ هو المالك الذي يرُبُّ مملوكَه، أي: يُدبِّر شؤونَه، مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطَبين؛ لتأييدِ الأمر، وتأكيدِ إيجاب الامتثالِ به على طريقةِ الترغيبِ .
3- قوله: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا: إعادة الفِعل (خَلَق)- مع جوازِ عطفِ مفعولِه على مفعولِ الفِعل-؛ لإظهارِ ما بين الخَلقينِ من التفاوُتِ؛ فإنَّ الأوَّلَ بطريقِ التفريعِ من الأَصْل، والثاني بطريقِ الإنشاءِ من المادَّة؛ فإنَّه تعالى خلَقَ حواءَ مِن ضِلَع آدَمَ عليه السلام، وتأخيرُ ذِكْر خَلْقِها عن ذِكرِ خَلْقِهم؛ لأنَّ تذكيرَ خَلقِهم أدخلُ في تحقيقِ ما هو المقصودُ من حمْلِهم على الامتثالِ بالأمْر بالتقوى من تذكير خَلْقِها .
- وتقديمُ الجارِّ والمجرور مِنْهَا؛ للاعتناءِ ببيانِ مبدئيَّةِ آدَمَ عليه السَّلام لها، مع ما فيه من التشويقِ إلى المؤخَّر، وإيرادُ حواء بعنوان الزوجيَّة تمهيدٌ لِمَا بعده من التناسُل .
4- قوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً:
- وإيثارُ (رجالًا- ونساءً) على (ذكورًا- وإناثًا)؛ لتأكيدِ الكثرةِ، والمبالغةِ فيها بترشيح كلِّ فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئيَّة غيره .
- وترتيب الأمْر بالتقوى على هذه القِصَّة؛ للدَّلالة على القُدرة القاهرةِ التي من حقِّها أنْ تُخشى، والنِّعمةِ الباهرةِ التي تُوجِب طاعةَ مُولِيها .
5- قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ: فيه تكريرٌ للأمْر بالتقوى، وتذكيرٌ لبعضٍ آخَرَ من مُوجِبات الامتثالِ به؛ فإنَّ سؤالَ بعضِهم بعضًا باللهِ تعالى بأن يقولوا: أَسألُك بالله، وأَنْشُدُك اللهَ، على سبيلِ الاستعطاف، يَقتضي الاتِّقاءَ من مخالفةِ أوامرِه ونواهيه .
- وتعليقُ الاتِّقاءِ بالاسمِ الجليل (الله)؛ لمزيدِ التأكيدِ والمبالغة في الحَمْلِ على الامتثالِ بتربيةِ المهابة، وإدخالِ الرَّوعة؛ لوقوعِ التساؤُلِ به لا بغيرِه من أسمائِه تعالى وصِفاته .
- وفي قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ قرَنَ اللهُ سُبحانَه الأرحامَ باسْمِه الكَريمِ؛ إيذانًا بأنَّ صِلةَ الأرحامِ مِن اللهِ بمكانٍ عظيمٍ .
6- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا: خبرٌ جارٍ مجرَى التَّعليلِ للأمْرِ ووُجوبِ الامتثالِ به ، مع ما فيه من التوكيدِ بـ(إنَّ)، واسميَّة الجملة.
- وإظهارُ الاسمِ الجليلِ اللهَ؛ لتَأكيدِه، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيْكُمْ لرِعايةِ الفَواصِل .
- والتعبيرُ بصِيغة فَعيل في قوله: رَقِيبًا؛ للمُبالغةِ .

========3.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (2-6)
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ
غريب الكلمات:

وَلَا تَتَبَدَّلُوا: أي: لا تَأكُلوا أموالَ اليتامى بدلًا من أكْل أموالِكم، وأصلُ بدَل: قيامُ الشيءِ مقامَ الشيءِ الذَّاهب
.
حُوبًا: أي: إثمًا؛ قال: فلانٌ يَتَحَوَّبُ من كذا، أي: يتأثَّم، والتَّحوُّبُ التوجُّع، والحَوْبَة الحاجةُ أو المسكَنة، وأصْلُ (حوب): الإثمُ أو الحاجةُ والمسكنةُ، وقيل: مأخوذ من قولهم: حَوْبُ؛ لزَجْرِ الإبل .
تَعُولُوا: أي: تَجُوروا وتَميلوا، ويُطلقُ كذلك على ما يُهلِك، وما يُثقِل، وأصْلُه: تركُ النَّصَفة بأخْذ الزِّيادة .
مَثْنَى وثُلَاثَ ورُبَاعَ: أي: اثنتينِ اثنتينِ، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا، وهذه الألفاظُ لا تنصرفُ للعدلِ والوصفِ .
صَدُقَاتِهِنَّ: أي: مُهورَهنَّ، واحدتُها صَدُقة، وأصل (صدق): القوَّة في الشَّيء قولًا كان أو غيره .
نِحْلَةً: أي: هِبة، أو فريضةً عن طِيب نفْس من غيرِ مُطالَبة، وأصل النِّحلة: العَطيَّةُ على سبيل التبرُّع، وهي أخصُّ من الهِبة .
هَنِيئًا: الهَنِيء: كلُّ ما لا يَلحَق فيه مشقَّة، ولا يُعقِب وخامةً؛ يُقال: هَنِئ الطَّعام فهو هَنِيء، وكذلك مشتقٌّ من هناء الإبل؛ فإنَّه شفاءٌ من الجَرَب، وأصل (هنأ): إصابةُ خيرٍ من غير مشقَّة .
مَرِيئًا: أي: بلا داءٍ، والمريءُ: المحمودُ العاقبة؛ يُقال: أَمْرأ الطَّعام، إذا انهضَمَ وحُمِدتْ عاقبتُه، ويُقال: مَرُؤ الطعام وأمرأ: إذا تخصَّص بالمريءِ؛ لموافقةِ الطَّبع .
لَكُمْ قِيَامًا: أي: قِوامًا، وهو ما يقومُ به أمْرُكم، وأصل (قوم): مراعاةُ الشَّيء والحِفظُ له، والانتصابُ والعزم .
آنَسْتُمْ: أي: وجدتُم وعلِمتُم، وتبيَّنتُم وعَرَفتُم، وأصل الإيناس: الرُّؤية والعِلمُ، والإحساسُ بالشَّيء، وكذلك: ظُهورُ الشَّيء، وكلُّ شيءٍ خالَفَ طريقةَ التوحُّش .
رُشْدًا: عقلًا، أو إصلاحًا، أو خيرًا، والرُّشد يُطلق كذلك على الدِّين والهِداية، وهو خلافُ الغيِّ، وأصل (رشد): استقامةُ الطَّريق .
وَبِدَارًا: مُبادَرة، أو مسارَعة؛ يُقال: بدرتُ إليه وبادرتُ، ويُعبَّر عن الخطأِ الذي يقَعُ عن حِدَّةٍ؛ يُقال: كانتْ من فلان بوادرُ في هذا الأمرِ، وأصل (بدر): الإسراعُ إلى الشَّيء .
فَلْيَسْتَعْفِفْ: أي: ليتركْ ولا يأكُلْ مِن مال اليتيم، والعِفَّة: الامتناعُ عن مقاربةِ المحرَّم، وهي أيضًا: حُصولُ حالةٍ للنَّفس تمتنعُ بها عن غلَبةِ الشَّهوة،، والاستعفافُ: طلبُ العِفَّة، وأصلُ (عفف): الاقتصارُ على تناوُلِ الشَّيءِ القليل

.
مشكل الإعراب:

1- قوله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا:
نِحْلَةً: منصوبةٌ على المصدرِ، والعاملُ فيها الفعلُ قَبْلَها؛ لأنَّ آتُوهُنَّ بمَعْنى انحِلوهُنَّ، وذلِك نحو: قَعَدْتُ جُلوسًا. ويجوز أن تَكون نِحْلَةً مَصدرًا واقعًا موقعَ الحالِ مِن واو الجماعةِ في قوله: وَآتُوا، أي: وآتوهنَّ ناحِلينَ، أو مِن النِّسَاءَ أي: مَنحولاتٍ. وقيل غير ذلك
.
نَفْسًا: منصوبٌ على التَّمييز، وهو هنا منقولٌ من الفاعِل؛ إذ الأصلُ: فإنْ طابتْ أنفسُهن، وجِيء بالتَّمييز هنا مُفردًا، وإنْ كان قبْله طِبْنَ وهو جمْعٌ- حيث لم يقُل (أنفسًا)-؛ لعدمِ اللَّبْس؛ إذ مِن المعلومِ أنَّ الكلَّ لَسْنَ مُشتركاتٍ في نفْسٍ واحدة، فالمعنى مفهوم، وحسُن ذلك أنَّ نَفْسًا هنا في مَعْنى الجِنس .
2- قوله: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا:
أَنْ يَكْبَرُوا: مصدرٌ مؤوَّل بالصَّريح، أي: (كِبَرَهم)، وإعرابُه فيه وجهان؛ الأوَّل: أنَّه مفعولٌ بالمَصْدَر بِدَارًا، أي: وبِدَارًا كِبَرَهم، كقوله: أَوْ إِطْعَامٌ... يَتِيمًا [البلد: 14-15] . والثاني: أنَّه مفعولٌ من أجْلِه على حذْفِ مضافٍ، أي: مَخافةَ أنْ يَكبَروا، وعلى هذا فمفعول بِدَارًا، محذوفٌ

.
المَعنَى الإجمالي:

يأمُر اللهُ سبحانه وتعالى الأوصياءَ بإعطاء اليتامَى أموالهم، مُتْبِعًا ذلك الأمرَ بنهْيِهم عن استبدالِ الخبيثِ من المال بالطيِّب منه، وذلك حين يأخذونَ من مال الأيتامِ، ويتركونَ ما أحلَّه الله لهم مِن غَيره، أو أن يجعلوا رَديءَ المالِ لهم بدلَ الجيِّد، كما نهاهم عن ضمِّ أموالِ الأيتامِ إلى أموالهم بقَصْدِ أكلِها بالباطل؛ فإنَّه إثمٌ عظيم.
ثم يُرشِد اللهُ سبحانه وتعالى مَن يخافون ألَّا يعدِلوا- في حال تزوَّجوا بنساءٍ يتامى ممَّن تحت ولايتهم- أو أنْ يُقصِّروا في حقوقهن، يوصيهم أن يَدَعُوهنَّ ويتزوَّجوا غيرهنَّ ممَّن ترتضي نفوسهم، اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا، فإنْ خافوا ألَّا يُقيموا العدلَ في حالة عدَّدوا النساء، فليقتصروا على الزواج بزوجةٍ واحدة، أو الاكتفاء بما يملكون من الجواري؛ فإنَّ ذلك أقربُ إلى ألَّا يَظلموا.
ثم يأمُر الله تعالى مَن أراد الزواجَ بإعطاء النِّساءِ المرادِ الزواجُ منهن مهورَهنَّ عطيَّةً واجبةً، طيِّبة بها نفوسُهم، فإنْ طابت نفوسُ النِّساء عن بعضِ المهر أو كلِّه، فوهبْنَه لأزواجهنَّ، فلا حرَجَ عليهم من أخْذه.
ثم يَنهى اللهُ الناسَ أن يُعطوا أموالَهم التي يقوم بها عيشُهم، مَن لا يُحسِن التصرُّفَ فيها، كذلك نهاهم أن يُعطوا مَن لا يحسنون التصرُّفَ في أموالِهم التي يملكونها، إنْ كانوا أوصياءَ عليهم، ولكن عليهم أن يُنفِقوا عليهم منها فيما يحتاجونه في حياتِهم؛ من طعام وشراب، وملبس ومسكن، وأن يقولوا لهم قولًا طيِّبًا تطيبُ به نفوسُهم.
ثم يأمُر تعالى الأوصياءَ أن يختبِروا الأيتامَ في دِينهم، وعقولِهم وتصرُّفِهم، قبل بلوغهم، فإذا ما بلغوا الحُلُمَ، ورأَوْا فيهم حُسْنَ التصرُّف، والقُدرة على إصلاح المالِ، فلْيعُطوهم أموالَهم، ونهاهم سبحانه عن أنْ يأخذوا مِن أموالِ اليَتامى شيئًا مِن غيرِ حاجةٍ، أو أنْ يُبادِروا بأكْلِها في حال صِغَرِهم؛ قبل أنْ يَكبَروا فيَأخُذوا أموالَهم ويمنعوهم منها، وأمَرَ الله تعالى مَن كان غنيًّا أن يتركَ للأيتام أموالَهم، ويكتفيَ بما رزقه الله، ومَن كان منهم ذَا حاجةٍ فليأخُذْ ما تعارَفَ عليه الناسُ أنه يسدُّ حاجةَ أمثالِه من الفقراء، وأَرشدَهم اللهُ أن يُشهِدوا على الأيتامِ حين يُسلِّمونَهم أموالَهم، وكفَى باللهِ شهيدًا ومُحاسِبًا، ورقيبًا عليهم.
تفسير الآيات:

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
مناسبةُ عطفِ الأمْر على ما قَبلَه: أنَّه مِن فروعِ تقوى اللهِ في حقوقِ الأرحام؛ لأنَّ المتصرِّفين في أموال اليتامى في غالبِ الأحوالِ هم أهلُ قَرابتهم، أو مِن فروعِ تقوى الله الذي يتساءَلون به وبالأرحامِ
.
وأيضًا لَمَّا افتَتَح السُّورةَ بذِكر ما يدلُّ على أنه يجبُ على العبدِ أن يكون منقادًا لتكاليفِ الله سبحانه، محترزًا عن مساخِطِه، شرَعَ بعد ذلك في شَرْح أقسامِ التكاليفِ، فبدأ بما يتعلَّق بأموال اليتامى ؛ لأنَّهم صاروا بحيث لا كافِلَ لهم، ففارق حالُهم حالَ مَن له رحِمٌ ماسَّة .
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ
أي: أعطُوا- يا مَعشرَ أوصياءِ اليتامى- أموالَهم إليهم كاملةً، إذا بلغوا الحُلُمَ ورَشَدُوا .
كما قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء: 6] .
وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ
أي: لا تأخذوا مالَ اليتيمِ بغيرِ حقٍّ، وتَتركُوا ما أحلَّ اللهُ تعالى لكُم مِن غيرِ ذلك، ومِن استبدالِ الخبيثِ بالطيِّبِ أنْ يأخُذَ الوليُّ مِن مالِ اليتيمِ النَّفيسَ، ويجعل بدلَه من مالِه الخسيسَ .
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ
أي: لا تضُمُّوا أموالَ اليتامَى إلى أموالِكم؛ بقصد أن تأكلوا أموالَهم بالباطلِ .
إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا
أي: إنَّ ضمَّ أموالِ اليتامى مع أموالكم بقَصْد أكلِها بالباطل، إثمٌ عظيم .
كما قال الله عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] .
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
سببُ النُّزولِ:
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، أنَّ رجلًا كانت له يتيمةٌ فنَكَحَها، وكان له عَذْق ، وكان يُمسكها عليه، ولم يكُن لها من نفْسِه شيءٌ، فنزلت فيه وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى- أحسَبه قال: كانتْ شريكتَه في ذلِك العَذْق وفي مالِه .
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
أي: وإنْ خِفتُم ألَّا تحقِّقوا في تزوُّجِكم بيتامى النِّساء اللاتي تحت ولايتكم، العدلَ معهنَّ والقيامَ بحُقوقهنَّ .
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها في قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا الآية. قالت: أُنزلتْ هذه في الرَّجُل يكونُ له اليتيمةُ وهو وليُّها ووارِثُها، ولها مالٌ وليس لها أحدٌ يُخاصِمُ دونها، فلا يَنكحُها حبًّا لمالها، ويَضْرِبها ويُسيءُ صُحبتَها، فقال الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يقول: ما أحللتُ لكم، ودَعْ هذه التي تضرُّ بها .
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
أي: فإنْ خَشِيتُم عدَم إقامة العدل معهنَّ، فانكحوا غيرهنَّ ممَّن تطيبُ بهنَّ نفوسكم .
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ
أي: مُباحٌ لكم أن تتزوَّجوا باثنتين من النِّساء، أو بثلاث، أو بأربعٍ .
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً
أي: فإنْ خَشِيتُم عدمَ إقامَةِ العَدلِ بتَعدادِ النِّساء، فلْتَقْتصروا على التزوُّج بواحدةٍ فحسبُ .
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
أي: أو اقتصِروا على الجواري السَّراري؛ فإنَّه لا يجب عليكم القَسْمُ بينهنَّ .
ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا
أي: إنْ خفتم ألَّا تعدِلوا بين النساء إن عدَّدْتُم، فاقتصرتُم لذلك على واحدة، أو تسرَّرتم مِلْكَ أيمانكم، فذلك أقربُ إلى تحقيقِ العَدلِ، والبُعدِ عن الجَور والظُّلْم .
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان هناك جانَبانِ مُستضعَفانِ في الجاهليَّة: اليتيمُ، والمرأة، وحقَّانِ مغبونًا فيهما أصحابُهما: مالُ الأيتام، ومالُ النِّساء؛ فلذلك حرَسَهما القرآنُ أشدَّ الحراسةِ فابتدأَ بالوصايةِ بحقِّ مالِ اليتيم، وثنَّى بالوصاية بحقِّ المرأةِ في مال ينجرُّ إليها لا محالةَ، وكان توسُّطُ حُكم النِّكاح بين الوصايتين أحسنَ مناسبةٍ تهيِّئ لعطف هذا الكلام .
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً
أي: أعطُوا من أَرَدْتم الزواجَ بهنَّ من النساء مهورَهنَّ، عطيةً واجبةً، طيبةً بها نفوسُكم .
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا
أي: فإنْ وهَب لكم نساؤُكم- أيُّها الأزواج- مُهورَهنَّ أو بعضًا منها، عن رِضًا وطيبِ نفْس منهنَّ بذلك .
فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا
أي: فخذوه حلالًا طيِّبًا لكم، لا حرجَ عليكم في ذلك ولا تَبِعة .
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
عُطِفتْ هذه الآيةُ على قوله: وَآتُوا الْيَتَامَى وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ؛ لبيانِ الحالِ التي يُمنَع فيها السَّفيهُ من مالِه، والحال التي يُؤتَى فيها مالَه، كأنَّه تعالى يقول: إنِّي وإنْ كنتُ أمرتُكم بإيتاءِ اليتامى أموالَهم، وبدَفْع صدقاتِ النِّساء إليهنَّ، فإنَّما قلت ذلك إذا كانوا عاقِلين بالِغين، متمكِّنين من حِفظِ أموالهم، فأمَّا إذا كانوا غيرَ بالغين، أو غير عقلاء، أو إنْ كانوا بالغين عقلاءَ إلَّا أنهم كانوا سفهاءَ مُسرِفين، فلا تدفعوا إليهم أموالهم، وأمسكوها لأجْلهم إلى أن يزولَ عنهم السَّفَهُ .
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا
أي: لا تُعطوا- أيُّها الناس- أموالَكم التي جعَلَها الله لكم قِيامًا- يقوم بها عيشُكم، وتحقيق مصالحكم- لا تعطوها لِمَن لا يُحسِن التصرُّفَ في المال، والقيام عليه وحِفظه؛ إمَّا لعدم عقْله كالمجنون، أو لعدم رُشده كالصَّغير، أو لغير ذلك من أسباب، حتَّى لو كان هذا المالُ مالَهم على الحقيقةِ وأنتُم عليه أوصياءُ، فلا تُعطوهم إيَّاه طالَما كانوا سفهاءَ لا يُحسنون التصرُّفَ فيه؛ كي لا يَهلِك، وليكُنْ حرصُكم على أموالهم كحِرصِكم على أموالِكم .
وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا واكْسُوهُمْ
أي: ولكنْ أنفِقوا من تلك الأموالِ على طعامِهم وشَرابِهم ومَلابِسهم وما يتعلَّق بضروراتِ عَيشِهم كمَسكنِهم، وليتَكم تتَّجِرون لهم في مالِهم؛ كي ينموَ ويكونَ الإنفاقُ عليهم من الرِّبح، لا مِن أصلِ المالِ .
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
أي: وقولوا لهم قولًا طيِّبًا، كأنْ تَعِدُوهم إنْ طلبوا أموالَهم، بأنَّها ستُدفَع إليهم بعدَ رُشدهم ، أو حين إعطائكم لهم رزقًا أو كسوةً ونحو ذلك، قولوا لهم قولًا هيِّنًا وليِّنًا بغير منٍّ ولا أذًى .
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6).
وَابْتَلُوا الْيَتَامَى
أي: اختبِروا عقولَ الأيتامِ ممَّن تحت ولايتِكم، وذلك قُبيلَ وصولِهم سِنَّ البلوغ، واختبِروا أفهامَهم، وصلاحَ دِينهم، وقُدرتَهم على إصلاح أموالهم .
حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا
أي: اختبِروهم إلى أن يَصِلوا سِنَّ البلوغِ، فإذا بلغوا الحُلُمَ، وأدركتم منهم حُسنَ تصرُّفٍ، وقدرةً على إصلاح الأموال .
كما قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام: 152] .
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
أي: فأعطوهم في هذه الحالِ أموالَهم كاملةً، ولا تَحبِسوها عنهم .
وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا
أي: لا تَأخُذوا من أموالِ اليَتامى شيئًا من غيرِ حاجةٍ، فتتجاوزوا في ذلك إلى غيرِ ما أباحَه اللهُ تعالى لكم مِن أموالِهم .
وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا
أي: لا تَأكُلوها في حالِ صِغَرِهم- قبلَ بُلوغِهم وإيناسِ الرُّشدِ منهم- التي لا يُمكنُهم فيها أخذُها منكم، ولا مَنعُكم من أكْلِها، لا تأكلوها استعجالًا منكم بذلِك قبل أن يَكبَروا، فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها .
وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ
أي: ومَن كان مِن أولياء اليتامى في غنيةٍ عن أموالهم، فليتنزَّهْ عن أخْذِ أُجرةٍ من مالِ اليتيمِ نظيرَ قيامِه عليه، ولْيَكتفِ بماله .
وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ
أي: ومَن كان ذا حاجةٍ من أولياء اليَتامى، أخَذَ من أموالهم بحسَب ما جرَى العُرْف على أنَّه يَسدُّ حاجتَه ويَكفي مِثلَه من الفُقراء .
عن عبد الله بن عمرٍو رضِي اللهُ عنهما ((أنَّ رجلًا أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: إنِّي فقيرٌ ليس لي شيءٌ ولي يتيمٌ؟ قال: فقال: كُلْ من مالِ يتيمِك غيرَ مُسرفٍ، ولا مبادرٍ، ولا مُتَأثِّل )) .
وعن عُروةَ بن الزُّبَيرِ رضِي اللهُ عنه، أنَّه سمِع عائشة رضِي اللهُ عنها تقول: ((وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ أُنزِلَت في والي اليتيم الذي يُقيم عليه، ويُصلح في مالِه إنْ كان فقيرًا، أكَل منه بالمعروف )) .
فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ
أي: إذا سلَّمتُم- يا معشرَ أولياءِ اليتامى- أموالَهم إليهم، فأَشْهِدوا عليهم بقبضها كاملةً منكم؛ لئلَّا يقعَ منهم لاحقًا إنكارٌ لِمَا تَسَلَّموه .
وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا
أي: إنَّ الله تعالى يَكفي عن كلِّ أحدٍ آخَر من الشهود؛ محاسبةً وشهادةً ورقابةً على أولياء اليتامى

.
الفوائد التربوية:

1- يجبُ على الإنسانِ الاحتياطُ إذا خاف الوقوعَ في المحرَّم؛ لقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ يعني: ولا تُعرِّضوا أنفسكم للجَور، بل يلزم المسلمُ السَّعةَ والعافية؛ فإنَّ العافيةَ من خيرِ ما أُعطِيَ العبدُ
.
2- أنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا سدَّ بابَ حرامٍ، فتَح أبواب الحلال؛ لأنَّ قوله: أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى يعني: فلا تتزوجوهنَّ، ولكن فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ، وهذا من طريقة القرآن والسُّنة .
3- تحريمُ الوسائلِ المؤدِّية إلى المحرَّم؛ لقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً، فأوجب الاقتصارَ على الواحدة إذا خافَ الإنسانُ عدمَ العدل، وهذه قاعدةٌ عظيمةٌ في أصول الفقه: «أنَّ للوسائِل أحكامَ المقاصِدِ»؛ فما لا يتمُّ الواجب إلَّا به، فهو واجبٌ، وما لا يتمُّ المندوبُ إلا به، فهو مندوبٌ، وما يحصُل به المحرَّم، فهو حرام .
4- مَن ولَّاه الله على أحدٍ فعليه ألَّا يُغلِظَ له القولَ، بل يقول له القولَ المعروفَ؛ حتى يجمعَ بين الإحسانِ القوليِّ والفِعليِّ؛ قال تعالى: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
 
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:
1- قدَّم الله تعالى ذِكر الأمْر بالتقوى، وكون الخَلْق بأسْرِهم مخلوقين من نفْس واحدة، وذَكر عَقيبه الأمرَ بالإحسان إلى اليَتامى والنساءِ والضُّعفاءِ؛ قيل ليَصيرَ ذلك سببًا لزيادة شفقةِ الخَلقِ بعضِهم على بعضٍ، فقال تعالى أولًا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ.... ثم قال بعدها: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ...، ثم أتبعها بقوله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً..، ثم: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ...
.
2- أنَّ اليتيمَ يملك، وملكُه تامٌّ؛ لقولِه تعالى: أَمْوَالَهُمْ، ويتفرَّع على هذه الفائدة: أنَّ الزكاة واجبةٌ عليه؛ لأنَّ الزكاة تبَع للمِلْك؛ قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] ، فإذا ثبتَتِ الملكيَّةُ ثبَت وجوبُ الزكاة، والزكاة ليستْ تكليفًا محضًا، بل هي تكليفٌ لحقِّ الغير، وهم الفقراء، فهي شبيهةٌ بالدَّين؛ ولهذا وجبتْ في أموالِ اليتامى والمجَانينِ، وإنْ كانوا غيرَ مكلَّفينَ .
3- أنَّ اليتيمَ تَجِب النفقةُ في مالِه على مَن تجِبُ عليه نفقتُه، وتُؤخَذ من إثبات الماليَّة، والنفقةُ واجبةٌ على كلِّ غنيٍّ لكلِّ فقير، والبلوغ ليس بشَرْط؛ لأنَّ الله تعالى أثبت الماليَّةَ لليتامى في قوله: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ، وإذا ثبتت المالية؛ ترتَّب عليها ما يترتَّب على ذوي الأموال .
4- ليس قيد إِلَى أَمْوَالِكُمْ في قوله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ محطَّ النهيِ، بل النهيُ واقعٌ على أكْلِ أموالهم مطلقًا، سواءٌ كان للآكِل مالٌ يَضمُّ إليه مالَ يتيمِه أم لم يكُنْ، ولكن لَمَّا كان الغالبُ وجودَ أموالٍ للأوصياءِ، وأنَّهم يريدون مِن أكْلِ أموالِ اليتامى التكثُّرَ، ذكَر هذا القيد؛ رعيًا للغالب ، ولأنَّ بعضَ الأولياءِ يتستَّرُ فيُدخِلُ مالَ اليتيمِ في مالِه، ولا يَعلمُ به أحدٌ .
5- في قوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ أنَّ اليَمينَ أفضلُ من اليَسارِ؛ لأنَّه أضافَ المِلْكَ إليها، ولا شكَّ أنَّ اليمينَ أفضلُ من اليَسار؛ ولهذا تُعدُّ اليمينُ للإكرامِ، واليَسارُ للإهانةِ؛ فالشيءُ الطيَّب يُتناوَلُ باليمينِ، والشيءُ الخبيثُ يُزال باليَسارِ .
6- تفاضُل الأعمال؛ فبعضُها أعلى من بعضٍ في الحُسْن، وأَدْنى من بعضٍ في السُّوء؛ لقوله: ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا؛ لأنَّ الأدْنى اسمُ تفضيلٍ؛ فلا بدَّ أن يكونَ هناك فاضلٌ ومفضولٌ .
7- أنَّه لا يجوزُ للوليِّ أن يأخذ شيئًا من صَدَاق النِّساء؛ لأنَّه أضاف الصَّدَاقَ إليهن؛ فهو مِلْكُهن، ولأنَّا أُمِرْنا بإيتائهنَّ صدَاقَهنَّ وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ .
8- في قوله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً أنَّه يجِبُ إعطاؤهن الصَّداقَ على وَجْه النِّحلة؛ أي: العطيَّة التامَّة، فلا يكون فيه مِنَّةٌ في المستقبلِ .
9- في إضافتِه تعالى الأموالَ إلى الأولياءِ في قولِه سبحانه: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ، إشارةٌ إلى أنَّه يجبُ عليهم أنْ يَعمَلوا في أموالِ السُّفهاءِ ما يَفعلونَه في أموالهم؛ من الحِفْظ والتصرُّف، وعدم التعريضِ للأخطارِ .
10- في التعبير بـ (فيها) دون (منها) في قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ تنبيهٌ إلى ما يَنبغي من الاتِّجارِ في مالِ اليتيم؛ قصدًا إلى إنمائِه؛ كي لا يَنفدَ بالإنفاقِ والزَّكَاة .
11- في إضافةِ الأموالِ إلى ضَمير المخاطَبينَ بـيَا أَيُّهَا النَّاسُ- في أوَّل السورة- إشارةٌ بديعةٌ إلى أنَّ المالَ الرائج بين الناس هو حقٌّ لمالكيه المختصِّين به في ظاهر الأمْرِ، ولكنَّه عند التأمُّل تَلُوح فيه حقوقُ الأمَّة جمعاءَ؛ لأنَّ في حصوله منفعةً للأمَّة كلِّها؛ لأنَّ ما في أيدي بعضِ أفرادِها من الثروةِ يعودُ إلى الجميع بالصَّالحة، فمِن تلك الأموالِ يُنفِق أربابُها، ويستأجِرون ويشترون، ويَتصدَّقون، ثم تُورَثُ عنهم إذا ماتوا، فينتقل المالُ بذلك مِن يدٍ إلى غيرها، فينتفع العاجزُ والعاملُ والتاجِر، والفقيرُ وذُو الكَفافِ، ومتى قلَّتِ الأموالُ من أيدي الناس، تقارَبوا في الحاجةِ والخَصاصة، فأصبحوا في ضَنْكٍ وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلةٍ أو أمَّةٍ أخرى، وذلك من أسبابِ ابتزازِ عِزِّهم، وامتلاكِ بلادِهم، وتصييرِ منافِعِهم لخِدمة غيرهم؛ فلأجْل هاتِه الحِكمة أضافَ اللهُ تعالى الأموالَ إلى جميعِ المخاطبين .
12- في قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى العملُ بالتَّجرِبة؛ لأنَّ الابتلاء يعني: الاختبارَ عِدَّةَ تجارِب

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ: هذا شروعٌ في تَفصيلِ مواردِ الاتِّقاءِ ومظانِّه بتكليفِ ما يُقابلها أمرًا ونهيًا؛ وتقديمُ ما يَتعلَّق باليتامى لإظهارِ كمال العنايةِ بأمرهم، ولملابستِهم بالأرحام؛ إذ الخطابُ للأولياءِ والأوصياء، وقلَّما تُفوَّضُ الوصايةُ إلى الأجانب
، وعبَّر بالإيتاء؛ للإيذان بأنَّه ينبغي أن يكونَ مرادُهم بذلك إيصالَها إليهم، لا مجرَّدَ ترْكِ التعرُّضِ لها .
- وقوله: اليَتَامَى: فيه تسميةُ الشيء باسم ما كان عليه، حيث سمَّاهم يتامى بعدَ البُلوغِ .
2- قوله: وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ: فيه تَكرارٌ؛ حيث نهى عن أخْذ مال اليتيمِ على الوجه المخصوصِ بعدَ النهيِ الضِّمنيِّ عن أخْذه على الإطلاق ، وفي هذا تأكيدٌ على النهيِ.
3- قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ: عبَّر عن أخْذِ أموالِ اليتامى بقوله: وَلا تَأْكُلُوا من بابِ إطلاقِ اسمِ المسبَّبِ على السَّببِ وشِبهه؛ لأنَّ الأخْذ سببٌ للأكْلِ .
- وفيه مِن أسرارِ البلاغة
تَخصيصُ الأعْلَى بالنَّهيِ دُونَ الأَدْنى؛ إذ إنَّ أعْلى دَرجاتِ أكْلِ مالِ اليَتيمِ في النَّهيِ أنْ يَأكلَه وهو غنيٌّ عنه، وأدْناها أنْ يأكلَه وهو فقيرٌ إليه- مع أنَّ أهل البيان يقولون: المنهيُّ متى كان درجاتٍ فطَريقُ البَلاغةِ النهيُ عن أدْناها تنبيهًا على الأعْلى- فكان المتبادر أنْ يَنهَى عن أكْل مالِ اليتيمِ مَن هو فقيرٌ إليه؛ حتى يَلزمَ نهيُ الغنيِّ عنه من طريق الأَوْلى، وفائدةُ تخصيصُ الصُّورة العُليا بالنهي في هذه الآية: أنَّ أبلغَ الكلام ما تعدَّدتْ وجوه إفادتِه، والنهي عن الأدْنى وإنْ أفاد النَّهيَ عن الأعْلى إلَّا أنَّ للنَّهي عن الأعْلى أيضًا فائدةً أخرى جليلةً لا تُؤخَذ من النهي عن الأدْنى؛ وذلك أنَّ المنهيَّ كلَّما كان أقبحَ كانتِ النفسُ عنه أنفرَ والدَّاعية إليه أبْعَد، ولا شكَّ أنَّ المستقرَّ في النُّفوسِ أنَّ أكْلَ مالِ اليتيمِ مع الغِنى عنه أقبحُ صُورِ الأكْل؛ فخُصِّص بالنهي تشنيعًا على مَن يقَعُ فيه، حتى إذا استحكَم نفورُه مِن أكْل مالِه على هذه الصورة الشَّنعاء، دعاه ذلك إلى الإحجامِ عن أكْل ماله مطلقًا؛ ففيه تدريبٌ للمخاطَب على النُّفورِ مِن المحارِم، ولا تكادُ هذه الفائدةُ تحصُل لو خُصِّص النَّهيُ بأكْلِه مع الفقر؛ إذ ليستِ الطِّباعُ في هذه الصُّورة مُعِينةً على الاجتنابِ كإعانتها عليه في الصُّورة الأولى.
ويُحقِّق مراعاةَ هذا المعنى تخصيصُه الأكْلَ، مع أنَّ تناوُلَ مالِ اليتيمِ على أيِّ وجهٍ كان، منهيٌّ عنه، كان ذلك بالادِّخار، أو بالْتباس، أو ببذله في لذَّة النكاح مثلًا، أو غير ذلك. إلَّا أنَّ حِكمة تخصيص النَّهي بالأكل: أنَّ العرب كانت تتذمَّم بالإكثار من الأكْل، وتَعُدُّ البِطنةَ من البهيميَّة، وتعيب على مَن اتَّخذها ديدنَه، ولا كذلك سائرُ الملاذِّ؛ فإنهم ربَّما يتفاخرون بالإكثار من النِّكاح ويَعدُّونه من زينةِ الدُّنيا، فلمَّا كان الأكلُ عندهم أقبحَ الملاذِّ خُصَّ النهي به، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرَّها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها، أكلًا أو غيره .
- وفي قوله: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ نهَى عن أكْل مالِ اليَتامَى مع أموال المنهيِّين عنها، مع أنَّه حرَّم عليهم أكْلَ مالِ اليتامَى وحْدَه ومع أموالِهم؛ لأنَّهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزَقهم اللَّهُ من مالٍ حلالٍ وهم على ذلِك يَطمَعون فيها- كان القبحُ أبلغَ والذمُّ أحقَّ؛ ولأنهم كانوا يفعلون كذلك، فنَعى عليهم فِعلَهم وسمَّعَ بهم؛ ليكون أزجر لهم .
4- قوله: كَانَ حُوبًا كَبِيرًا: في وصْف الحوب بالكبير مبالغةٌ في بيان عِظَم ذَنْب الأكْل المذكور، كأنَّه قيل: من كِبار الذُّنوبِ العظيمة لا مِن صِغارها .
5- قوله: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ: عبَّر النِّساءِ بـمَا التي لغيرِ العاقلِ غالبًا، ولم يقُل: (مَن طاب) كما هو المتبادَر في استعمالِ (مَن)؛ فإنَّها للعاقِل و(ما) لغيرِ العاقل تَغليبًا، والسرُّ في هذا: أنَّ (ما) تأتي لصِفاتِ مَن يَعقِلُ، وقدْ وصفَ الله النِّساءَ بالطيب، فصَحَّ استعمالُ (ما) هنا؛ فعبَّر عن النِّساءِ بـمَا ذَهابًا إلى الصِّفةِ، وقيل: لأنَّ الإناثَ مِن العُقلاءِ يَجرينَ مجرَى غيرِ العقلاءِ؛ لنُقصانِ عقْلِهنَّ .
6- قوله: أَلَّا تُقْسِطُوا، وقوله: أَلَّا تَعْدِلُوا تَكرارٌ في المعنى . وهو يُفيد تأكيدَ الأمْرِ بالعدل.
7- قوله: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ جاءَ العطفُ بالواو دون (أو)؛ لأنَّ الواو دلَّت على إطلاقِ أنْ يأخذَ الناكِحون مَن أرادوا نِكاحَها من النساء على طريق الجمْع، إنْ شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد، وإنْ شاؤوا متَّفِقين فيها، محظورًا عليهم ما وراء ذلك .
- وجاء بصيغة التكرير فى مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ- التي تَعني اثنتين اثنتين، وثلاثًا ثلاثًا وأربعًا أربعًا-؛ لأنَّ الخِطابَ للجميع فوجَب التكريرُ؛ ليصيبَ كلُّ ناكحٍ يُريد الجمعَ ما أراد من العدد الذى أُطلق له، كما يُقال للجماعة: اقتَسِموا هذا المال- وهو ألف درهم-: درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أُفْرِد لم يكُن له معنًى .
8- قوله: فَكُلُوهُ: فيه تخصيص الأكْل بالذِّكر؛ لأنَّه معظمُ وجوه التصرُّفات الماليَّة .
9- قوله: هَنِيئًا مَرِيئًا: صِفتان أُقيمتا مقامَ المَصْدَرينِ؛ كأنَّه قيل: هنأ ومرأ، وهذه عبارة عن التَّحليل والمبالغة في الإباحة، وإزالة التبعيَّة .
- وإتْباعُ هَنِيئًا بـمَرِيئًا ووَصْفه به؛ فيه تأكيدٌ .
10- قوله: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا:
فيه إضافةُ أموال مَن لا رُشدَ لهم إلى الأولياء -على القولِ بأنَّ هذا النَّهيَ للأولياءِ عن أن يُؤتوا الذين لا رُشدَ لهم أموالهم فيُضيِّعوها-؛ تنزيلًا لاختصاصِها بأصحابِها منزلةَ اختصاصِها بالأولياء، فكأنَّ أموالَهم عينُ أموالِهم؛ لِمَا بينهم وبينهم من الاتِّحاد الجنسي والنِّسبي؛ مبالغةً في حمْلِهم على المحافظةِ عليها .
- وقيل: أُضيفتِ الأموالُ للأولياء؛ لأنَّها في تصرُّفِ الأولياء وتحتَ ولايتهم، وهو الملائمُ للآيات المتقدِّمة والمتأخِّرة .
11- قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرور مِنْهُمْ على المفعول رُشْدًا؛ للاهتمام بالمقدَّم، والتشويق إلى المؤخَّر .
- وتنكير رُشْدًا وتنوينه؛ لأنَّ معناه نوعٌ من الرشد، ولا يُنتظَر به تمامُ الرُّشد .
12- قوله: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ: (استعفَّ) أبلغُ من (عفَّ)، كأنَّه يَطلُب زيادةَ العِفَّة من نفْسِه ؛ ففي هذه الآية نوعٌ طريفٌ من أنواعِ البيانِ يُطلَقُ عليه اسمُ (قوَّة اللَّفظ لقوَّة المعنى)؛ وذلك في قوله فَلْيَسْتَعْفِفْ؛ فإنَّ (استعفَّ) أبلغُ من (عفَّ)، كأنَّه يَطلُب زيادةَ العِفَّة من نفْسِه؛ هضمًا لها، وحملًا على النَّزاهة، فالألفاظُ دالَّةٌ على المعاني، فإذا زِيدَ في الألفاظِ أوجبتِ الزِّيادةُ زيادةً في المعاني، وهذا النوعُ لا يُستعمل إلَّا في المبالغة .
- ولفظ (الاستعفاف) و(الأكْل بالمعروف) مُشعِرٌ بأنَّ الوليَّ له حقٌّ في مال الصَّبي .
13- قوله: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُم: في إيثار التعبيرِ بالدَّفْع على الإيتاءِ الوارد في أوَّل الأمر إيذانٌ بتفاوتِهما بحسَب المعنى .
14- وقوله: فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ: فيه تَكرارٌ لقوله: فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ . وهو يُفيدُ تأكيدَ الأمْر.
- وتقديم الجارِّ والمجرور إِلَيْهِمْ على المفعول الصَّريح أَمْوَالَهُمْ؛ للاهتمامِ به .
15- قوله: وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا: الجملة تأكيدٌ للأمر بالدَّفع، وتقرير لها، وتمهيد لِمَا بعدَها .

=================4.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (7-10)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ
غريب الكلمات:

سَدِيدًا: أي: قاصدًا إلى الحَقِّ، مِن السَّداد، وهو: الصَّوابُ والقصدُ في القول، وأصله: الاستقامة
.
سَعِيرًا: أي: نارًا تَتسعَّر، أي: تشتعِل وتتَّقِد وترتِفع، والسَّعير اسمٌ من أسماءِ جهنَّمَ

.
المَعنَى الإجمالي:

يُخبر اللهُ تعالى أنَّ للرِّجالِ والنِّساءِ نصيبًا من التَّرِكة التي يُخلِّفها المورِّثُ، من الوالدين أو الأقربينَ، سواء كان الإرثُ قليلًا أو كثيرًا، نَصيبًا واجبًا معيَّنَ المقدار.
ثم يُرشد تعالى إلى أنه إنْ حضَرَ وقتَ تقسيمِ التركةِ الأقاربُ غيرُ الوارثينَ، والأيتامُ وذوو الحاجة، فلْيُعْطَوا منها، ولْيُحسَنْ إليهم بالقول الحسَن؛ تطييبًا لنفوسِهم.
ثم يأمُر اللهُ تعالى الأوصياءَ أن يخشَوْه ويتَّقُوه في أمْر اليتامى، فيفعلوا بهم مِثل ما يحبُّون أن يُفعَل بذريَّتهم الضِّعافِ بعدَ وفاتهم، وقِيل غير ذلك.
ثم يُخبر الله تعالى متوعِّدًا الذين يأكلونَ أموالَ الأيتام بغير حقٍّ، أنَّهم إنما يأكلونَ في بطونهم نارًا يوم القيامة، وسيكون مصيرُهم نارًا مشتعلةً شديدة الحرِّ.
تفسير الآيات:

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
أي: إنَّ الذكورَ والإناث يستوونَ في أصْل الوراثةِ في حُكم الله تعالى؛ فكلٌّ ينالُ من الإرث قِسطًا وحِصَّةً، مما خلَّفَه الميِّت، وإن تفاوتوا بحَسَب ما فرَض الله تعالى لكلٍّ منهم، بما يُدلي به إلى الميِّت من قرابةٍ، أو زوجيَّةٍ، أو وَلاء
.
مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن أنَّ للرِّجال وللنساءِ نصيبًا من التَّرِكة، ووربما يُتوهَّم أنَّ النساءَ والولدانَ ليس لهم نصيبٌ إلَّا من المالِ الكثير، أزالَ ذلك بقولِه :
مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
أي: للذُّكورِ والإناث نصيبٌ من الإرث، سواء كان قليلًا أو كثيرًا .
نَصِيبًا مَفْرُوضًا
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ الله تعالى أنَّ لكلٍّ من الذكور والإناث نصيبًا، في قليلِ الإرثِ وكثيره، بيَّن هنا أنَّ ذلك النَّصيب ليس راجعًا إلى العُرْف والعادة، وليس لهم أن يَتصرَّفوا فيه كما يَشاؤونَ ؛ لذا قال:
نَصِيبًا مَفْرُوضًا
أي: ذلك النَّصيب لكلٍّ منهم، حصَّةٌ واجبةٌ، معيَّنةُ المقدار .
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه تعالى لَمَّا ذكَر في الآيةِ الأولى أنَّ النساءَ كالرِّجال في أنَّ لهن حظًّا من الميراث، وعَلِم تعالى أنَّ في الأقاربِ مَن يرث ومَن لا يرث، وأنَّ الذين لا يرِثون إذا حضروا وقتَ القِسمة، فإنْ تُرِكوا مَحرومينَ بالكليَّة ثقُل ذلك عليهم؛ فلا جرمَ أمَر الله تعالى- على سبيل النَّدبِ- أنْ يُدفَعَ إليهم شيءٌ عند القِسمة؛ حتى يحصُل الأدبُ الجميل، وحُسن العِشرة ، فقال تعالى:
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
أي: إذا حضَر توزيعَ الميراثِ الأقاربُ غيرُ الوارثين، والأيتامُ، والمحتاجون .
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ
أي: فأعطوهم شيئًا ممَّا تيسَّر من هذه التَّركة؛ برًّا بهم، وإحسانًا إليهم، وجبرًا لخواطرهم بما لا يضُرُّكم؛ فإنَّ نفوسَهم متشوِّفةٌ إليه .
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بالإحسانِ إليهم بالفِعل، أمَرَ بعد ذلك بالإحسانِ إليهم بالقول ، فقال سبحانه:
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا
أي: فلْتقولوا لهم قولًا حسنًا جميلًا، تَطِيبُ به نفوسُهم .
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أعادَ الله تعالى الوصيةَ باليتامى مرةً بعدَ أخرى، وختَم بالأمرِ بإِلَانةِ القول، وكان للتصويرِ في التأثيرِ في النَّفس ما ليس لغيرِه؛ أعادَ الوصيةَ بهم؛ لضعْفِهم، مصوِّرًا لحالِهم ، فقال:
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
قيل المعنى: مَن سمِع مُحتضَرًا، قد ظلَم في وصيَّته أو أضرَّ بسببها بوَرَثَته، فعليه أن يتَّقيَ اللهَ تعالى، ويأمرَه بالعدلِ فيها، ويُسدِّدَه للصَّوابِ، كما يحبُّ أن يُصنَعَ بورثتِه إذا خَشِي عليهم الضَّيْعةَ .
وقيل المراد: أنَّ على أولياء اليتامى معاملتَهم في مصالحهم الدِّينيَّة والدنيويَّة، بما يحبُّون أن يُعامَل به ذُريَّتُهم الضِّعافُ من بعدِهم، فلْيتَّقُوا الله تعالى في وِلايتِهم لهم، فكما تحبُّ أن تُعامَل ذرِّيتُك من بعدك، فعامِل الناسَ في ذرِّياتِهم إذا وَلِيتَهُم .
عن سعد بن أبي وقَّاصٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((تشكَّيتُ بمكةَ شكوى شديدةً، فجاءني النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يعودني، فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إني أترُك مالًا، وإني لم أترُكْ إلَّا ابنةً واحدةً، فأُوصِي بثُلثَي مالي وأتركُ الثُلثَ؟ فقال: لا، قلتُ: فأُوصِي بالنِّصفِ وأترك النصفَ؟ قال: لا، قلتُ: فأُوصِي بالثُّلثِ وأترُك لها الثُّلثينِ؟ قال: الثُّلث، والثلثُ كثيرٌ )) .
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا طالَ التحذيرُ والزَّجرُ والتهويلُ في شأنِ اليتامى، وكان ذلك ربَّما أوجب النفرةَ من مخالطتهم رأسًا، فتضيع مصالحُهم؛ وصَل بذلك ما بَيَّن أنَّ ذلك خاصٌّ بالظَّالم في سياقٍ موجبٍ لزِيادة التحذيرِ، متوعِّدًا على ذلك بـأشدِّ العذابِ ، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا
أي: إنَّ الذين يأكلون أموالَ اليتامى في الدُّنيا بغير حقٍّ، سيُعاقَبون على ذلك بأنْ تَتأجَّجَ في بطونهم نارٌ يومَ القيامةِ .
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى عِقابَهم بالنارِ في أجوافِهم، ذكَر بعدَها عِقابَهم بالنارِ في ظاهرِ أجسادِهم ، فقال:
وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا
أي: وسيُحرَقون بنارٍ مشتعلة، متوقِّدة، شديدٍ حرُّها .
وعن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((اجتَنِبوا السبعَ الموبقاتِ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما هنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسحرُ، وقتلُ النَّفْسِ التي حرَّم اللهُ إلَّا بالحقِّ، وأكْلُ الرِّبا، وأكْلُ مالِ اليتيمِ، والتولِّي يومَ الزحفِ، وقذفُ المحصناتِ المؤمناتِ الغافلاتِ ))

.
الفوائد التربوية:

1- تقديمُ الرِّجالِ على النِّساءِ حتَّى في الأمْر الذي يَشترِكون في الاستحقاقِ فيه، ووجهُ الدَّلالة: قوله: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ، وهذا هو المشروعُ والمعقولُ والفِطري، وقد عَكَس ذلك مَن عكَس اللهُ قلوبَهم مِن الكفرةِ والمبهورين بهم؛ حيث قدَّموا النِّساءَ على الرِّجال، وهذا خطأٌ عظيم؛ لأنَّ الرِّجالَ مُقدَّمون على النِّساء، وهم قوَّامونَ عليهنَّ
.
2- ما جاءَ به الإسلامُ من الآداب العالية، والأخلاق الفاضلة؛ حيث أمَرنا بأن نُعطيَ هؤلاء الذين حضَروا القِسمة؛ لأنَّ قلوبهم تتعلَّق بالمال، وتتشوَّفُ للنَّوال؛ فلهذا أمَرَ الشرعُ بإعطائهم؛ قال تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ .
3- أنَّه يَنبغي لمن أعطى أحدًا شيئًا أن يقول له قولًا معروفًا يُطَيِّب قلْبَه، ويُبعِدُه من المنِّ بالعطاء؛ لأنَّ المنَّ بالصَّدقة من كبائر الذنوب، وهو مُبطِلٌ للأجْر؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة: 264] .
4- قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا أمرٌ للأوصياء بأنْ يَخشَوُا اللهَ تعالى ويتَّقوه في أمْر اليتامى، فيفعلوا بهم ما يُحبُّون أن يُفعَل بذَراريِّهم الضِّعافِ بعدَ وفاتهم ، وفي ترتيب الأمْرِ على هذا: إشارةٌ إلى أنَّ المقصودَ منه، والعِلَّة فيه: أنْ يُحبَّ لأولادِ غيرِه ما يحبُّ لأولاده، وتهديدٌ للمُخالِف بحال أولاده ، فيجبُ على المرء أن يُعامِلَ الناس بما يحبُّ أن يعاملوه به؛ لأنَّه إذا كان يَكره لنفْسه أن يَعتديَ أحدٌ على أولاده بعد موته، فكذلك لا يَعتدي هو على أولادِ النَّاسِ، فإذا أراد أنْ يَجنيَ على غيرِه فليتذكَّرْ نفْسَه، فمثلًا إن كان يَهُمُّ بأنْ يَزنيَ بامرأة، فليتذكَّر هلْ يَرضَى أنْ يَزنيَ أحدٌ بإحْدى محارمِه؟! فإذا كان لا يَرضَى؛ فلماذا يرَضَى أنْ يَزنيَ بمحارمِ الناس؟! .
5- في قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ما يبعثُ الناسَ كلَّهم على أنْ يَغضَبوا للحقِّ مِن الظُّلم، وأنْ يأخُذوا على أَيدي أَولياءِ السُّوءِ، وأنْ يَحرُسوا أموالَ اليَتامى ويُبَلِّغوا حقوقَ الضُّعفاءِ إليهم؛ لأنَّهم إنْ أضاعوا ذلك يُوشِكْ أنْ يَلحَقَ أبناءَهم وأموالَهم مِثلُ ذلك، وأنْ يأكُلَ قويُّهم ضعيفَهم؛ فإنَّ اعتيادَ السُّوءِ يُنسي الناسَ شَناعتَه، ويَكسِبُ النُّفوسَ ضراوةً على عَملِه

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- أنَّ الأوامرَ قد تكون مُوكَلةً إلى المأمور غيرَ مقدَّرة؛ لقوله: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ، ولم يقل: الثُّلث، ولا الرُّبع، ولا العشر، بل جَعَل هذا مطلقًا؛ فهو يرجع إلى كرَم المعطي من وجهٍ، وإلى كثرة المال من وجهٍ آخَرَ
.
2- في قوله تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ قدَّمَ أُولي القُربى على اليتامى والمساكين؛ لـأنَّ الإحسانَ إلى القَرابةِ أفضلُ من الإحسانِ إلى اليتيمِ والمسكينِ؛ ولهذا لَمَّا أخبرتْ ميمونةُ بنتُ الحارثِ رضِي اللهُ عنها رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّها أعتقتْ جاريةً لها، قال لها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لو أَعطيتِها أخوالَكِ، كان أَعظمَ لأجْرِكِ )) ؛ فدلَّ هذا على أنَّ إعطاء ذَوِي الأرحامِ أفضلُ من إعطاءِ البَعيدِ .
3- أنَّ الجزاء مِن جِنس العمل؛ لأنَّه قابَل أكْلهم بالنار التي يُعذَّبون بها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا

.
بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ
- قوله: وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ: فيه إيرادُ حُكمِ النساءِ على الاستقلال دون أن يُقال: (للرِّجال والنِّساء... إلخ)؛ للاعتناء بأمرهنَّ، والإيذان بأصالتهنَّ في استحقاق الإرث، والإشارة من أوَّل الأمْر إلى تفاوت ما بين نصِيبَي الفريقينِ، والمبالغة في إبطال حُكم الجاهليَّة؛ فإنَّهم لم يكونوا يورِّثون النساء والأطفال
.
- قوله: وَالْأَقْرَبُونَ: فيه إطلاقُ الكلِّ على البعض؛ إذ المراد بـالْأَقْرَبُونَ أربابُ الفرائض، وليس كلَّ الأقارب .
- قوله: مَفْرُوضًا: فيه إيجاز بالحذْف، فالفارض هو الله، لكن حُذِف وبُني الوصفُ للمفعول للعِلم به، فهو كقوله تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [النساء: 28] ، والذي خلَقَه هو اللهُ عزَّ وجلَّ .
2- في قوله تعالى: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ: قال: مِنْهُ ولم يقل: (فيه)؛ لأنَّ هؤلاء يُعطون من رأس المال، ومِن أصله، وأمَّا أموال اليتامى فقال الله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا، فقال: فِيهَا ولم يقُل: (منها)؛ لأنَّهم يُرزقون بعدَ الاتِّجار بها، فيُعطَون من الرِّبح، وهو إشارةٌ إلى أنه ينبغي لِوليِّ اليتيم أن يتَّجِرَ في ماله حتى يحصُلَ على ما يَرزقُه فيه، أمَّا هنا فقال: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي: من هذا المال الذي يُقسَم أمامَهم .
3- قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا:
- فيه إيجازٌ بالحَذْف؛ حيثُ حُذِفَ مفعولُ وَلْيَخْشَ؛ لتذهبَ نفْسُ السَّامعِ في تقديرِه كلَّ مذهبٍ مُحتمَل؛ فينظر كلُّ سامعٍ بحسَبِ الأهمِّ عنده ممَّا يَخشاهُ أنْ يُصيبَ ذرِّيَّتَه .
- وفيه أيضًا حذْفُ مفعول خَافُوا؛ لِتذهبَ النَّفسُ في تقديره كلَّ مذهب، ولِتَفْتَنَّ في تصوير الخوف من المصير المحتوم الذي يَؤُول إليه أمرُ الضِّعاف في هذه الحياة. ويُمكن تقديرُه بمثل الضياع والتشرُّد في مسارب الحياةِ ومسالِكِها المتشعِّبة، من دون كافلٍ يَكفُلهم، أو مُدبِّرٍ يُدبِّر شؤونَهم .
- وقوله: فَليتَّقُوا اللهَ وليَقُولُوا قَولًا سَدِيدًا: أمَرَهم بالتقوى التي هي غايةُ الخشيةِ بعدَما أمرهم بها؛ مراعاةً للمبدأِ والمنتهى؛ إذ لا يَنفع الأوَّلُ دون الثاني، ثم أمَرَهم أن يقولوا لليتامى مثلَ ما يقولون لأولادهم بالشَّفَقَة وحُسْن الأدب .
- قوله: وَلْيَخْشَ، وَخَافُوا فيه تَكرارٌ من جِهةِ المعنى- على قولِ مَن جعَلَهما مُترادِفَينِ .
4- قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا: استئنافٌ جِيءَ به لتقريرِ مضمونِ ما فُصِّل من الأوامِر والنواهي .
- وقوله: يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا فيه من أنواع البلاغة ما يلي:
- التَّعريض؛ حيث عرَّض بذِكر البُطون لخِسَّتهم وسُقوطِ هِمَمِهم، والعربُ تذمُّ بذلك .
- تأكيدُ الحقيقةِ بما يَرفع احتمالَ المجازِ .
- الاختِصاص؛ حيثُ خصَّ البُطونَ بالذِّكْر دون غيرِها؛ لأنَّها محلٌّ للمأكولاتِ ، وذِكْر البُطون- مع أنَّه معلوم أنَّ الأكْلَ لا يكونُ إلَّا في البُطون-؛ للتأكيدِ والمبالغةِ، ولتَجسيدِ بشَاعةِ الجُرم المقترَفِ بأكْل مالِ اليتيمِ؛ حتى يَتأكَّدَ عِند الَّسامِع بشاعةُ هذا الجُرمِ بمزيدِ تصويرٍ .
- تأكيدُ هذا التشنيعِ على الظالمِ لليَتيمِ في مالِه بتَخصيصِ ذِكْر الأكْلِ؛ لأنَّه أبشعُ الأحوالِ التي يُتناوَلُ مالُ اليتيمِ فيها .

==============5.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (11-14)
ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ
غريب الكلمات:

يُوصِيكُمُ اللَّهُ: الوصيةُ: التقدُّمُ إلى الغيرِ بما يَعملُ به مقترنًا بوعْظ، والوصيةُ مِن الله هي الأمرُ المؤكَّد، والتوصية تُعرِب عن تأكيدِ الأمرِ، والاعتناءِ بشأنِ المأمورِ به، وأصل (وصي): يدلُّ على وصْلِ شيء بشيء؛ يقال: وطِئْنَا أرضًا واصية، أي: إنَّ نَبْتها متَّصِلٌ قد امتلأت منه، ومنه الوصية، كأنَّه كلامٌ يُوصَى؛ أي: يُوصَل
.
حَظُّ: أي: نصيبٌ مقدَّر، وأصل (حظظ): النَّصيب والجِد .
كَلَالَةً: الكَلالة: الذي يموتُ ولا ولدَ له ولا والدَ، مصْدَر مِن تكلَّله النَّسب, أي: أحاطَ به؛ فالابنُ والأبُ طرفانِ للرَّجُل, فإذا ماتَ ولم يُخلِّفْهما, فقد ماتَ عن ذَهاب طَرَفَيهِ, فسُمِّي من ذَهبَ طَرفاه كَلالةً

.
مشكل الإعراب:

1- قوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللهِ:
فَرِيضَةً: منصوبةٌ على أنَّها مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجُملةِ السَّابقة مِن الوصيَّة؛ لأنَّ معنى يُوصِيكُمُ اللهُ فرَضَ اللهُ عليكم، فصار المعنى: (يُوصِيكُم اللهُ وصيةَ فَرْضٍ)، أو منصوبةٌ بفِعلٍ محذوفٍ مِن لفْظِها على أنَّها مَصدرٌ له، أي: فرَض اللهُ ذلِك فريضةً. وقيل: إنَّها حالٌ؛ لأنَّها ليستْ مصدرًا
.
2- قوله تعالى: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً
كَانَ: يجوزُ هنا أنْ تكونَ ناقصةً، ويكونُ رَجُلٌ مرفوعًا على أنه اسْمُها، ويُورَثُ خبرها في مَحلِّ نصْب، ويجوزُ جعْلُ كَانَ تامَّةً- فيُكْتَفى بالمرفوعِ، أي: وإنْ وُجِد أو وَقَع رجلٌ- وَرَجُلٌ فاعِلَها، وجملة يُوْرَثُ في محلِّ رفْعٍ صِفَةٌ لـ رَجُلٌ.
كَلالَةً منصوبةٌ على الحالِ من الضَّميرِ المُسْتَترِ في يُوْرَثُ، على نيَّةِ حَذْفِ مضافٍ: والتقدير: يُورَثُ ذا كَلالةٍ، والكلالةُ على هذا: اسمٌ للمَيِّتِ الذي لم يَتْرُكْ ولدًا ولا والدًا. وفي إعرابِ كَلَالَةً توجيهاتٌ إعرابيَّة أخرى بِحَسَب تفسيرها ومعانيها المختلِفة .
3- قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ:
وَصِيَّةً مِنَ اللهِ: وَصِيَّةً: منصوبةٌ على أنَّها مصدرٌ مؤكِّد لفِعلٍ محذوفٍ؛ أي: وصَّى أو يُوصيكم اللهُ بذلك وصيةً، ودلَّ على المحذوفِ قولُه: غَيْرَ مُضَارٍّ، وعلى هذا الوجه فمفعولُ مُضَارٍّ محذوفٌ، والتقدير: غيرَ مضارٍّ ورثتَه بوصيةٍ. وقيل: إنَّ وَصِيَّةً منصوبةٌ باسمِ الفاعلِ مُضَارٍّ على أنَّه مفعولُه، وجُعلتِ المُضارَّةُ الواقعةُ بالورثةِ كأنَّها واقعةٌ بنفس الوصية؛ مبالغةً في ذلك، ويؤيِّد هذا التخريجَ قِراءةُ الحَسَن: (غَيْرَ مُضارِّ وَصِيَّةٍ) بإضافةِ اسمِ الفاعِل إليها، وأصله: غيرَ مضارٍّ في وصيةٍ من اللهِ، فاتُّسِعَ في هذا إلى أنْ عُدِّيَ بنفسِه من غيرِ واسطة؛ لِقَصْد المبالَغة. وقيل غيرُ ذلك

.
المَعنَى الإجمالي:

يَعهَد اللهُ إليكم في شأنِ ميراثِ أولادِكم من بعدِ موتِكم أن يكون نصيبُ الذَّكر منهم في الميراث مِثلَ نصيب الأُنثيين. فإنْ كانتِ البناتُ زائداتٍ على اثنتينِ، وليس معهنَّ ذكَرٌ، فلهنَّ ثُلثَا ما ترَك المتوفَّى، وإنْ كانتْ واحدةً فقط فلها النِّصف، ولوالدَيِ الميِّت السُّدسُ من التَّرِكَة إذا كان له ولدٌ، سواء من الذُّكور أو الإناثِ، واحدًا أو جماعةً، فإنْ لم يترك الميِّتُ ولدًا، وكان أبوه وأمُّه وارثَيْهِ، فلأمِّه الثُّلُثُ، ولأبيه ما تبقَّى من مالِ التَّرِكة. وإنْ كان مع الأبوينِ الوارثينِ إخوةٌ للميِّت- أشِقَّاءُ، أو لأبٍ، أو لِأُمٍّ- فتستحقُّ الأمُّ في هذه الحال السُّدسَ من التَّرِكة، وما بقِي فللأب. هذه الفرائِض التي ذكَرها الله سبحانه وتعالى تُعطَى لأهلها مِن بعد أن تُنَفَّذ وصيةُ الميِّت، وتُقضى دُيونُه؛ إنَّكم لا تدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفعُ لكم، وأقربُ لحصولِ مقاصدِكم الدِّينيَّة والدنيويَّة، فلو رُدَّ تقديرُ الإرثِ إلى عقولِكم واختيارِكم، لحَصَل من الضَّرر ما اللهُ به عليمٌ؛ فهذا التقسيمُ المذكورُ فرَضَه اللهُ سبحانه على عِباده؛ فهو سبحانه العليمُ الحكيم.
ثم بيَّن اللهُ ميراثَ الزوجينِ؛ فأخبر أنَّ للأزواج النِّصفَ من تركة زوجاتِهم، إذا لم يكُن لهنَّ ولدٌ، سواءٌ من الذكور أو الإناث، واحدًا كان أو أكثر، وفي حالة وجودِ الولد فإنَّ الأزواجَ يستحقُّون الرُّبُعَ من ترِكة الزوجاتِ، من بعد استخراج الوصية التي أَوصينَ بها، وقضاءِ الدُّيون التي عليهنَّ، وللزَّوجاتِ الرُّبُعُ من ترِكة أزواجهنَّ إنْ لم يكُن لأزواجهِنَّ ولدٌ، فإنْ كان هناك ولد، فلهن الثُّمُنُ من الترِكة، من بعد الوصِيَّة وقضاء الدَّين، ثم أوضح الله تعالى حُكمَ مَن تُوفِّيَ بدون أن يترُكَ ولدًا ولا والدًا، وكان له أخٌ أو أخت من جِهة أمِّه؛ فإنَّ لكلٍّ من الأخِ أو الأخت في هذه الحال سُدسَ التركة، فإنْ كانوا أكثرَ من واحدٍ فإنَّ نصيبَهم الثُّلُثُ من التركة، يقتسمونه بينهم بالتَّساوي ذُكورًا وإناثًا، وذلك بعد إخراج الوصيَّة وقضاءِ دُيون المتوفَّى، على ألَّا تكون تلك الوصيةُ مقصودًا بها الإضرارُ بالوَرَثَة، هذه الأحكامُ التي ذُكرت هي عَهدٌ مِن الله، يجب التزامُه، فالله سبحانه وتعالى عليمٌ حليم.
ثم يُخبِر تعالى أنَّ ما شرَعه من الفرائض والمقادير هي حدودُه، التي يجب ألَّا يتجاوزَها العبادُ، ويُبيِّنُ جزاءَ مَن يطيعُ الله ورسوله أنَّ له جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ، ماكثينَ فيها على الدوامِ، وهذا هو الفلاحُ والرِّبحُ العظيم. وأمَّا مَن يَعصي اللهَ ورسوله، ويتجاوز حدودَ الله، فإنَّ الله سيُدْخِلُه نارًا يَمكُثُ فيها على الدَّوام، وله عذابٌ مُخْزٍ.
تفسير الآيات:

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى الحُكْمَ في مال الأيتامِ، وما على الأولياء فيه، بيَّن كيف يَمْلِك هذا اليتيمُ المالَ بالإرث، ولم يكُن ذلك إلَّا ببيان جملة أحكام الميراث
.
وأيضًا لَمَّا أثبتَ اللهُ تعالى حُكمَ الميراثِ بالإجمالِ في قوله: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: 7] ، وأبْهَمَ المقدارَ ومَن يرِثُ- ذكر عَقيب ذلك المجمَل، هذا المفصَّل، فبيَّن المقاديرَ، ومَن يَرِثُ من الأقربينَ .
سببُ النُّزولِ:
عن جابرٍ رضِي الله تعالى عنه، قال: ((عادَني النبيُّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم، وأبو بكر في بني سَلِمة ماشِيَينِ، فوجدني النبيُّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم لا أعقِلُ، فدعا بماءٍ فتوضَّأ منه، ثم رشَّ عليَّ فأفقْتُ، فقلْتُ: ما تأمُرني أن أصنعَ في مالي يا رسولَ الله؟ فنَزَلَت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ)) .
وعن جابرٍ رضِي اللهُ عنه، قال: ((جاءتِ امرأةُ سعدِ بنِ الرَّبيعِ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بابنتَيها مِن سعدٍ، فقالت: يا رسولَ الله، هاتانِ ابنتَا سعدِ بنِ الرَّبيع، قُتِل أبوهُما معك في أُحدٍ شهيدًا، وإنَّ عمَّهما أخَذَ مالَهما، فلم يَدَعْ لهما مالًا، ولا يُنْكَحَان إلَّا ولهما مالٌ، قال: فقال: يَقضِي اللهُ في ذلك، قال: فنزلتْ آيةُ الميراثِ، فأرسلَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى عَمِّهما، فقال: أعطِ ابنتَي سعدٍ الثُّلُثَينِ، وأُمَّهما الثُّمُنَ، وما بقِي فهو لك )) .
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ
أي: يَعهَدُ إليكم ربُّكم ويأمرُكم أمرًا مؤكَّدًا في شأنِ ميراثِ أولادِكم بالتَّسْويةِ بينهم، ذُكورًا وإناثًا في أصْلِ الاستحقاقِ من الميراثِ .
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالتَّسويةِ بين الأولاد- من الذُّكور والإناثِ في أصلِ الميراثِ- فاوَتَ بين الصِّنفيْن، وذَكر كيفيَّةَ إرْثِهم ، فقال:
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ
أي: إذا اجتَمَع في أولادِ الميِّتِ ذكورٌ وإناثٌ، فإنَّنا نُعطي الذَّكَرَ ضِعْفَ ما تُعطَى الأنثى، (وذلك إنْ لم يكُن معهم صاحبُ فرضٍ، أو ما أَبقتِ الفروضُ يَقتسمونَه كذلك) .
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى حالةَ اجتماعِ الذُّكور والإناث، أتْبعَ ذلك بذِكر حالةِ انفرادِ الإناثِ ، فقال:
فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ
أي: فإنْ كان بناتُ الميِّت أكثرَ في العدد من اثنتين- مهما بلغ عددُهن- فإنهنَّ يستحققْنَ ثُلُثيِ الترِكة .
ولَمَّا بيَّن اللهُ تعالى ميراثَ البناتِ حالَ اجتماعِهنَّ، ذكَر ميراثَ البنتِ الواحدة، فقال:
وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ
أي: وإنْ خلَّف الميِّتُ بنتًا واحدةً، فإنَّ لها نصفَ التَّرِكة .
ولَمَّا ذكَر اللهُ تعالى مِيراثَ الأولاد، انتقَلَ إلى ذِكر ميراث الأبوين، فقال:
وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ
أي: إنَّ لكلٍّ من والد الميِّت ووالدته، السُّدسَ من التركة، إنْ كان للميِّت ولدٌ، ذكرًا كان أو أنثى، واحدًا أو جماعةً .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ
أي: فإن لم يكن للميِّت ولدٌ، ذكرًا كان أو أنثى، وله أبٌ وأمٌّ، فإنَّ لأمِّه ثُلُثَ التَّركة، وللأبِ ما بَقيَ منها .
عن عبدِ الله بن عبَّاس رضِي اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((أَلْحِقُوا الفرائضَ بأهلِها، فما بَقِيَ فهو لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ )) .
فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ
أي: إذا وَرِث الميِّتَ أبواه، وكان له إخوةٌ، سواء كانوا أشقَّاءَ، أو لأبٍ، أو لأمٍّ، وسواء كانوا اثنين أو أكثر، فإنَّ للأمِّ سدسَ الترِكة، وللأب ما بقي منها .
عن عبد الله بن عبَّاس رضِي اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((أَلْحِقُوا الفرائضَ بأهلِها، فما بَقِيَ فهو لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكرٍ )) .
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ
أي: هذه المواريثُ التي ذَكَرها الله تعالى، إنَّما تُستَحقُّ لأهْلِها ممَّا تبقَّى من تركة الميِّت، بعد تنفيذ وصيَّتِه المشروعةِ الثابتة عنه (على ألَّا تتجاوزَ الوصيةُ ثُلُثَ مال الميِّت- إلَّا إذا أجاز الوَرَثةُ تلك الزِّيادةَ- ولا تكون لوارثٍ، ولا تكون لشيءٍ محرَّم)، وقضاء دُيونه .
عن سعد بن أبي وقَّاصٍ رضِي اللهُ عنه قال: ((تشكَّيتُ بمكَّةَ شكوى شديدةً، فجاءني النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يعودُني، فقلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إنِّي أتركُ مالًا، وإني لم أترُكْ إلا ابنةً واحدةً، فأُوصي بثُلُثَي مالي وأتركُ الثُلثَ؟ فقال: لا. قلتُ: فأُوصي بالنِّصفِ وأتركُ النصفَ؟ قال: لا، قلتُ: فأُوصي بالثُّلُثِ وأتركُ لها الثُلثين؟ قال: الثلثُ، والثلثُ كثيرٌ )) .
وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ رضِي اللهُ عنه قال: ((سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في خُطبتهِ عامَ حجَّةِ الوداعِ: إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى، قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وصِيَّةَ لوارثٍ )) .
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
قيل: لَمَّا قسَّم سبحانه الميراثَ على ما اقتضتْه حِكمتُه؛ قطَعَ خطَّ الاعتراضِ على هذه القِسمة بقوله :
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا
أي: إنَّما فرَضَ اللهُ تعالى للآباء والأبناء نَصيبَهم من الميراث، كلٌّ بحسَبه؛ لأنَّ الإنسان قد يأتيه مِن أبيه النفعُ- دُنيويًّا كان أو أخرويًّا أو هما معًا- ما لا يأتيه من ابنِه، وقد يكون الأمرُ بالعكس؛ فلا ينبغي أن يُمنَع أحدٌ حقَّه من الإرث؛ فإنَّه لو رُدَّ تقديرُ الإرث إلى عقول الناس واختيارِهم لحَصَل مِنَ الضَّررِ ما اللهُ به عليمٌ؛ لنقصِ العُقولِ وعَدمِ مَعرفتِها بما هو اللائقُ الأحسن في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فلا يدرون أَيُّ الأولادِ أو الوالِدين أنفعُ لهم، وأقربُ لحصول مقاصدِهم الدِّينيَّة والدنيويَّة .
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ
أي: هذا التقسيم المقدَّر للميراث، فرْضٌ من الله تعالى وحده، قد حَكم به على عِبادِه .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى عالمٌ بكلِّ شيء، ومن ذلك عِلمُه بمَن يستحقُّ الأخذَ من الميراث، ومقدارِ ما يستحقُّه كلُّ أحد، وهو الحكيمُ الحاكم على عِبادِه، الذي يَضعُ الأشياءَ في مواضعها اللائقة بها، ومِن ذلك: وضْعُه حقَّ الميراث في أهلِه المستحقِّين له، وتقديرُه ما يستحقُّه كلُّ أحدٍ منهم على أحسنِ تقديرٍ .
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى ميراثَ الفُروعِ من الأصول، وميراثَ الأصولِ من الفُروع، أخَذ في ذِكْر ميراث المتَّصلين بالسَّببِ لا بالنَّسَب، وهو للزوجيَّة هنا ، فقال:
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ
أي: ولكم- أيُّها الأزواجُ- نصفُ ترِكة زوجاتكم بعد وفاتهنَّ، إذا مِتْنَ عن غيرِ ولدٍ، ذَكَرًا كان أو أُنثى، واحدًا أو أكثر .
فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ
أي: فإنْ كان لزوجاتكم ولدٌ، من ذَكَر أو أنثى، واحد أو أكثر، فلكم- أيُّها الأزواج- رُبُع ترِكة زوجاتكم .
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ
أي: ذلك الفَرْض لكم- أيُّها الأزواج- تستحقُّونه ممَّا تبقَّى من ترِكة أزواجِكم، بعد تنفيذ وصيتهنَّ المشروعة الثابِتَةِ عنهنَّ، وقضاءِ ديونهنَّ .
وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ
أي: ولأزواجكم- أيُّها الأزواج- رُبُعُ ما تركتم بعد وفاتكم، إنْ لم يكُن لكم ولدٌ .
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ
أي: فإنْ كان لكم- أيُّها الأزواج- ولدٌ، وأصابَكم الموتُ، فإنَّ لزوجاتِكم ثُمُنَ ما تركتُم .
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ
أي: إنَّما يستحقُّ زوجاتكم ذلك النَّصيبَ ممَّا تبقَّى من ترِكتكم، بعد تنفيذ وصيَّتكم المشروعة الثابتة عنكم، وقضاء دُيونكم .
وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
أي: إنْ كان المتوفَّى، رجلًا كان أو امرأةً، قد تُوفِّيَ عن غير ولدٍ ولا والدٍ، وله من جهة الأمِّ أخٌ أو أختٌ، فإنَّ لكلِّ واحدٍ منهما- أي الأخ أو الأخت- سُدُسَ التَّركةِ .
عن عبدِ اللهِ بن عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((كنتُ آخرَ النَّاسِ عَهْدًا بعُمرَ، فسَمِعْتُهُ يقولُ: القَولُ ما قلتُ، قلتُ: وما قلتَ؟ قالَ: الكلالةُ من لا ولدَ لَهُ ولا والِدَ )) .
فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ
أي: فإنْ كان الإخوةُ والأخواتُ من جِهة أمِّ الميِّت الموروث كلالةً- رجلًا كان الميِّت أو امرأةً- أكثرَ من واحد ، فلهم جميعًا ثُلُثُ التركة، يقتسمونها ذُكورًا وإناثًا بينهم بالتَّساوي .
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ
أي: هذا الذي فرَضَه الله تعالى لأخي الميِّتِ الموروث كلالةً وأخته، أو لإخوته وأخواته، إنَّما يستحقُّونه مِن بعدِ تنفيذِ وصيَّته المشروعةِ الثابتةِ عنه وقضاءِ دُيونِه .
غَيْرَ مُضَارٍّ
أي: غير مقصودٍ بها الإضرارُ بالوَرَثة بأيِّ وجهٍ من الوجوه، كأنْ يَحرِمَ بعضَ الورثة حقَّهم أو يَنقُصه، أو يزيدَ عليه .
وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ
أي: هذا الذي ذَكَره الله تعالى من أحكامٍ فيما يجب من ميراثِ مَن مات منكم، عهدٌ مؤكَّدٌ من الله تعالى إليكم، وجَب عليكم أن تَلتزِموا به .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو عِلمٍ بكلِّ شيء، ولا يَخفى عليه شيءٌ سبحانه، ومن ذلك: عِلمُه بمصالحِ خَلْقِه ومضارِّهم، وعِلمُه بمَن يستحقُّ أن يُعطى من الميراث، ومن يُحرَم، وعِلمُه بقدْر ما يستحقُّه كلُّ واحدٍ منهم، وهو سبحانه الحليمُ الذي لا يُعاجِل مَن عصاه بالعُقوبةِ .
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى سِهامَ المواريث، وقد كانوا في الجاهليَّةِ يَمنعون النِّساءَ والأطفالَ من الميراثِ، ذَكَر الوعدَ والوعيدَ ترغيبًا في الطَّاعةِ وترهيبًا عن المعصيةِ؛ لئلَّا يُغترَّ بوصْف الحَليم، فقال- مُعظِّمًا للأمْر بأداة البُعدِ تِلْكَ، ومشيرًا إلى جميعِ ما تقدَّم مِن أمْرِ المواريث وغيرها -:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
أي: تِلك الفرائضُ والمقاديرُ التي جعَلها الله تعالى للوَرَثةِ، هي حدودُ اللهِ تعالى التي شرَعَها لعباده؛ فيجبُ الوقوفُ معها، وعدمُ تجاوُزِها .
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أي: ومَن يتَّبعْ أمْرَ اللهِ تعالى وأمْرَ رسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام، ويجتَنِبْ نَهْيَهما، ومِن ذلك ما يَتعلَّق بأحكامِ المواريث، فإنَّ الله تعالى يُدخِلُه جنَّاتٍ تجري من تحت أشجارِها وغُروسِها أنهارٌ متعدِّدةٌ، وهم في هذا النعيمِ ماكثونَ على الدَّوامِ .
وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
أي: إنَّ إدخالَ اللهِ تعالى لِمَن أطاعه وأطاعَ رسولَه جِنانَه التي وصَف شيئًا منها، لهُوَ ربحٌ كبير، وفلاحٌ منقطعُ النظيرِ .
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا
أي: إنَّ مَن يُخالفْ أمْرَ الله تعالى وأمر رسوله عليه الصَّلاة والسَّلام، فيَترُكِ المأموراتِ، ويرتكِبِ المنهيَّاتِ، ويَتجاوزْ حدودَ ما شرَعه الله سبحانه، تغييرًا لما حكَم اللهُ به، ومضادةً للهِ في حُكمه، أو شكّا فيما فرَض الله على عبادِه، ومِن ذلك ما يَتعلَّق بأحكامِ المواريثِ؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يُدخِلُه نارَ جهنَّمَ، ماكثًا فيها .
وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ
أي: وله عذابٌ مُذِلٌّ يُخزيه

.
الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا، يتبيَّنُ لنا قصورُ عِلم الإنسانِ؛ فأقربُ الناسِ إلى الإنسانِ آباؤه وأبناؤه، فإذا كان لا يَدري أيُّهم أقربُ نفعًا؛ فما بالُك بالبعيدِ؟! وهذا لا شكَّ يعود إلى قُصور عِلم الإنسان، وقد قال الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، فالرُّوح التي هي بين جَنبَيك لا تَعرِفُها؛ لأنَّك لم تُؤتَ من العِلم إلَّا القليلَ
.
2- أنَّه إذا كان الحديثُ عن النِّساء والرِّجال؛ فإنَّ الحكمةَ أن يُقدَّم الحديثُ عن الرِّجالِ؛ لأنَّه سبحانه بدأ بميراثِ الأزواجِ قبل ميراثِ الزَّوْجات، وهذا هو الموافِقُ للفِطرة، خلافًا لِمَن حرف اللهُ فطرتَه، وغيَّرَ سليقتَه، فصار يُقَدِّم النِّساءَ على الرجال في الذِّكْر، قال تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ .
3- في ختمِ آياتِ المواريثِ بقولِه: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا... إشارةٌ إلى عِظَم أمرِ الميراثِ، ولزومِ الاحتياطِ والتحرِّي، وعدمِ الظلمِ فيه

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- أنَّ الله أرحمُ بالإنسان من والدِيْه؛ لقوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ؛ فالذي يوصيكَ بالشيءِ هو أرحمُ به منك، وأشدُّ عنايةً به منك
.
2- قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فيه اهتمامٌ بأحكامِ المواريثِ وما يَتعلَّق بها؛ لذا صدَّر تَشريعها بقوله: يُوصِيكُم؛ لِمَا في الوصيَّةِ من التأكيدِ والحِرص على اتِّباعها؛ لأنَّ الوصايةَ هي الأمرُ بما فيه نفْعُ المأمور، وفيه اهتمامُ الآمِرِ لشدَّة صلاحه؛ لذا عدَل من صيغةِ يأمُرُكم إلى يُوصِيكُم .
3- بدأ الله تعالى بذِكر ميراثِ الأولاد، وإنما فعل ذلك؛ لأنَّ تعلُّقَ الإنسانِ بولده أشدُّ التعلُّقات، وهم أقربُ النَّاسِ إليه، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ، أو لأنَّ الأولاد بَضْعٌ من أبيهم أو أمِّهم؛ فلذلك قدَّم ذِكرَهم على الأبوينِ .
4- قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ جعَلَ حظَّ الأنثيينِ هو المقدارَ الذي يقدَّر به حَظُّ الذَّكر، ولم يكُن قد تقدَّمَ تعيينُ حظٍّ للأنثيينِ حتى يُقدَّر به، فعُلِمَ أنَّ المرادَ تضعيفُ حظِّ الذَّكرِ من الأولادِ على حظِّ الأنثى منهم، وأوثِرَ هذا التعبيرُ لنُكتةٍ لطيفةٍ، وهي الإيماءُ إلى أنَّ حظَّ الأُنثى صارَ في اعتبارِ الشَّرْعِ أهمَّ من حظِّ الذَّكر؛ إذ كانت مهضومةَ الجانب عند أهل الجاهليَّة، فصار الإسلامُ يُنادي بحظِّها في أوَّل ما يَقرَع الأسماعَ .
5- في قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ دليلٌ على أنَّ المالَ كلَّه للذَّكرِ إذا لم يكُن معه أنثى؛ لأنَّه جعَل للذَّكر مثلَ ما للأنثيين، وقد جعَل للأنثى النِّصفَ إذا لم يكن معها ذكَرٌ بقوله: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فدلَّ على أنَّ للذَّكَرِ حالةَ الانفرادِ مِثْلَيْ ذلك، وَمِثْلَا النِّصفِ هو الكلُّ .
6- في قوله: مِمَّا تَرَكَ أنَّ الإرثَ شاملٌ لجميع الترِكةِ من عَقارٍ، ومنقول، وحيوان، ومنافع، وحقوق؛ فكلُّ ما ترك فهو داخلٌ في الإرث؛ ولهذا يجب التنبُّهُ لِمَن كان له وَرَثةٌ في غير البيت الذي هو فيه، فإنَّ من الناس مَن إذا مات ميِّتُهم وورِثَه آخرونَ خارجَ البيت، يتمتَّع بما في البيتِ مِن طعامٍ وغيره، ويَسكُن أيضًا، وهذا لا يجوزُ إلَّا بعدَ إِذن بقيَّة الورثة، وإلَّا فإنَّه يُخصَم مِن ميراثِه، وكذلك تُضرَبُ أُجرةٌ على هؤلاء الذين في البيت مِن حينِ موتِ الرَّجُل .
7- وصْف الوصيَّة بأنَّها يُوصَى بِهَا لتأكيدِ أمرِها، والتَّحقُّقِ من نسبتها إلى الميِّت؛ لأنَّ الحقوقَ يجب التثبُّت فيها ؛ ولئلَّا يُتَوهَّمَ أنَّ المراد الوصيَّةُ التي كانت مفروضةً قبل شَرْع الفرائض، وهي التي في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 180] .
8- من الفوائد اللُّغَوِيَّة: أنَّ (كان) في قوله: كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا قد تُسْلَبُ دَلالتَها على الزَّمان؛ لأنَّها لو دلَّت على الزَّمانِ في قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، لكان الربُّ عزَّ وجلَّ الآن ليس عليمًا ولا حكيمًا، لكنَّها أحيانًا تُسلَب دَلالتَها على الزَّمان، ويكون مدلولُها مجرَّدَ الحدَثِ، أو مجرَّدَ الوَصْفِ إذا كان صِفةً .
9- أُعْقِبَتْ فريضةُ الأزواج بِذِكْرِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ؛ لئلَّا يَتوهَّمَ متوهِّمٌ أنَّهنَّ ممنوعاتٌ من الإيصاءِ ومِن التَّداينِ كما كان الحال في زمان الجاهليَّة، وأمَّا ذِكْرُ تلك الجملةِ عَقِبَ ذِكر ميراثِ النِّساء من رجالهنَّ فجريًا على الأسلوبِ المتَّبَعِ في هذه الآيات، وهو أن يعقبَ كلَّ صِنفٍ من الفرائضِ بالتنبيه على أنَّه لا يُستَحَقُّ إلَّا بعد إخراجِ الوصيَّة وقضاءِ الدَّيْن .
10- أَوْردَ اللهُ تعالى أقسامَ الوَرَثَة في هذه الآياتِ على أَحسنِ التَّرتيباتِ؛ وذلك لأنَّ الوارثَ إمَّا أنْ يكونَ متَّصلًا بالميِّت بغيرِ واسطةٍ أو بواسطةٍ، فإنِ اتَّصلَ به بغيرِ واسطةٍ فسببُ الاتِّصال إمَّا أن يكونَ هو النَّسبَ أو الزوجيَّةَ، فحصَل هاهنا أقسامٌ ثلاثةٌ؛ أشرفُها وأعلاها الاتِّصال الحاصلُ ابتداءً من جِهة النَّسب، وذلك هو قرابةُ الولاد، ويَدخُل فيها الأولادُ والوالدان؛ فاللهُ تعالى قدَّم حُكْمَ هذا القسم. وثانيها: الاتِّصالُ الحاصلُ ابتداءً من جِهة الزوجيَّة، وهذا القسمُ متأخِّر في الشَّرفِ عن القِسم الأوَّل؛ لأنَّ الأوَّل ذاتيٌّ، وهذا الثَّاني عَرَضيٌّ، والذاتيُّ أشرفُ من العَرَضيِّ. وثالثها: الاتِّصالُ الحاصلُ بواسطة الغير، وهو المسمَّى بالكلالة، وهذا القسمُ مُتأخِّرٌ عن القِسمينِ الأوَّلَينِ لوجوه؛ أحدها: أنَّ الأولادَ والوالدينِ والأزواجَ والزوجاتِ لا يَعْرِض لهم السُّقوطُ بالكليَّة، وأمَّا الكَلالةُ فقد يَعرِض لهم السُّقوطُ بالكليَّة. وثانيها: أنَّ القِسمَينِ الأوَّلينِ يُنسَبُ كلُّ واحدٍ منهما إلى الميِّت بغير واسطةٍ، والكلالةُ تُنسَب إلى الميِّت بواسطةٍ، والثَّابتُ ابتداءً أشرفُ مِن الثَّابتِ بواسطةٍ. وثالثها: أنَّ مخالطةَ الإنسانِ بالوالدين والأولاد والزَّوج والزَّوجة أكثرُ وأتمُّ من مخالطتِه بالكلالة. وكثرةُ المخالطةِ مَظِنَّةُ الأُلفة والشَّفقة، وذلك يُوجِبُ شدَّةَ الاهتمام بأحوالهم؛ فلهذه الأسبابِ الثلاثةِ وأشباهِها أخَّرَ الله تعالى ذِكْرَ مواريثِ الكلالةِ عن ذِكر القِسمَينِ الأَوَّلين؛ فما أحسنَ هذا الترتيبَ! وما أشدَّ انطباقَهُ على قوانينِ المعقولاتِ !
11- في قوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ، ناسَبَ الخَتْمُ بالعذابِ المهين؛ لأنَّ العاصيَ المتعدِّيَ للحدود بَرَزَ في صورةِ مَنِ اغترَّ وتجاسرَ على معصيةِ الله، وقد تقلُّ المبالاةُ بالشَّدائد ما لم يَنضمَّ إليها الهوانُ؛ ولهذا قالوا: "المنِيَّة ولا الدَّنِيَّة"

.
بلاغة الآيات :

1- قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ... الآية: تفصيلٌ بعدَ الإجمالِ الذي في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ، وتَخصيصُ الذَّكَرِ بالتَّنصيصِ على حَظِّه والابتداءِ به؛ لإظهارِ مزِيَّتِه على الأُنثى؛ لأنَّ القصدَ إلى بيانِ فضْلِه، والتَّنبيهِ على أنَّ التَّضعيفَ كافٍ للتَّفضيلِ، فلا يُحْرَمْنَ بالكليَّةِ وقد اشتركَا في الجِهة، والمعنى للذَّكَرِ منهم، فحُذِفَ للعِلم به
.
- وإيثار اسمَيْ (الذَّكر) و(الأُنثى) على ما ذُكر أوَّلًا من (الرِّجال) و(النِّساء)؛ للتَّنصيصِ على استواءِ الكِبارِ والصِّغارِ من الفريقينِ في الاستحقاقِ من غَيرِ دخْلٍ للبلوغِ والكِبَر في ذلك أصلًا، كما هو زَعْمُ أهلِ الجاهليَّة؛ حيث كانوا لا يُورِّثون الأطفالَ كالنِّساءِ .
- وقال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ دون أن يقولَ: (للأنثى نِصفُ الذَّكَر)؛ لأنَّ الحظَّ والنَّصيب فضلٌ وزيادة، والنِّصف نقص؛ فلهذا قال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ، ولم يقُلْ: للأنثى نِصفُ ما للذَّكر؛ لِمَا في كلمة (نِصْف) من النَّقْص، بخِلافِ حظِّ الأنثيين؛ فإنَّ فيه زيادةً، فهو أحسنُ تعبيرًا ممَّا لو قال: للأُنثى نِصفُ ما للذَّكَر .
2- قوله: فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وقوله: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ: مِمَّا تَرَكَ: أي: ممَّا ترَكَ الميِّتُ الموروثُ؛ ففيه إعادةُ الضَّمير إلى غيرِ مذكورٍ قَبْلَه، وهو الضَّميرُ المستكِنُّ في الفِعل (ترَكَ)، أي: ترك هو؛ لقوَّةِ الدَّلالةِ على ذلك؛ لأنَّ الآيةَ لَمَّا كانتْ في الميراثِ، عُلِم أنَّ التارِكَ هو الميِّتُ الموروثُ .
3- وقوله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ: فيه تكرار للوَصيَّةِ والإيصاء ، وهو يُفيد التَّأكيدَ.
- وتقديمُ الوصيَّة على الدَّين مع أنَّها متأخِّرَة في الحُكم؛ لأنَّه لَمَّا كانت الوصيَّةُ مُشْبِهَةً للميراث في كونها مأخوذةً من غير عِوَضٍ، كان إخراجها مما يشقُّ على الوَرَثة ويتعاظَمُهم ولا تطيبُ أنفُسُهم بها، فكان أداؤها مَظِنَّةً للتفريطِ، بخلاف الدَّيْنِ فإنَّ نفوسَهم مطمئنَّةٌ إلى أدائه؛ فلذلك قُدِّمَت على الدَّيْن بعثًا على وجوبِها، والمسارعةِ إلى إخراجِها مع الدَّيْن؛ ولذلك جِيءَ بكلمة (أو) للتَّسويةِ بينهما في الوجوب. وقيل: قُدِّمتِ الوصيةُ أيضًا؛ إذ هي حظُّ مساكينَ وضِعافٍ، وأُخِّر الدَّينُ إذ هو حظُّ غريمٍ يطلُبُه بقوَّة، وهو صاحبُ حقٍّ له فيه، ثم أكَّد ذلك ورغَّبَ فيه بقوله: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ..، أي: لا تدرونَ مَن أنفعُ لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتونَ ؟
4- قوله: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا: جملة اعتراضيَّة مؤكِّدة لوجوبِ تنفيذ الوصيَّة .
5- وفي الآية: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ... قدَّم ذِكْر ميراث سببِ الزوجيَّة على ذِكْر الكلالةِ وإنْ كان بالنسب؛ لتواشُجِ ما بين الزوجين واتصالهما، واستغناءِ كلٍّ منهما بعِشْرَةِ صاحبه دون عِشْرَةِ الكَلَالة .
6- قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: فيه تَكرارٌ لاسم الجلالة ، وإظهارُ الاسم الجليل في موضعِ الإضمار؛ لتربيةِ المهابة وإدخالِ الرَّوعةِ، والمبالغةِ في التهديدِ والتشديدِ في الوعيد .
7- قوله: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، وقوله:يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا: فيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ جمَع خَالِدِينَ في الطَّائعين، وأفرَد خَالِدًا في العاصين؛ قِيل: لأنَّ أهلَ الطاعةِ أهلُ الشَّفاعة، وإذا شفَع في غيرِه دَخَلَها؛ فلمَّا كانوا يَدْخُلون هم والمشفُوعُ لهم ناسَبَ ذلِك الجمْعَ، والعاصِي لا يَدخُل النارَ به غيرُه، فبَقِي وحيدًا؛ فناسَبَ ذلِك الإِفرادَ .
وقيل: في هذِه الآية نوعٌ طريفٌ من أنواع البَلاغة يُطلَق عليه اسم (جمْع المختلفة والمؤتَلِفَة) ؛ فقد جمَعَ ضميرَ الخالدينَ في الجنة؛ لأنَّ كلَّ مَن دخل الجنَّة كان خالدًا فيها أبدًا، أمَّا أهلُ النار فعبَّر بالمفرَد (خالدًا)؛ إذ بينهم الخالِدون وغيرُ الخالِدِين من عُصاةِ المؤمنين؛ فساغَ الجمعُ هناك ولم يَسُغْ هنا .
وقيل: لَعلَّ إيثارَ الإفراد في خَالِدًا فِيهَا- نظرًا إلى ظاهِر اللفظ- واختيارَ الجمْع في خَالِدِينَ فِيهَا- نظرًا إلى المعنى-؛ للإيذان بأنَّ الخلودَ في دار الثَّوابِ بصفة الاجتماعِ أجلَبُ للأنْسِ، ولأنَّ منادمةَ الإخوانِ مِن أعلَى نعيمِ الجنانِ، كما أنَّ الخلودَ في دار العذابِ بصفةِ الانفرادِ أشدُّ في استجلابِ الوَحْشةِ، وهذا الانفرادُ نوعٌ مِن أنواعِ العذابِ والهَوان .
8- قوله: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فيه تفصيلٌ بعد إجمال؛ للتَّأكيد .
9- قوله: وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ: تنكيرُ لفظ وَصِيَّةً وتنوينُه؛ للتفخيم، ومِن متعلِّقة بمحذوف وقَع صفةً له مؤكِّدَةً لفخامته الذاتيَّة بالفخامة الإضافيَّة، أي: يوصيكم بذلك وصيَّةً كائنةً من الله .
10- قوله: وَلَهُ، أي: للرجل، ففيه تأكيدٌ للإيذان المذكور؛ حيث لم يَتعرَّضْ للأنثى بعدَ جريانِ ذِكْرها أيضًا، وقيل: الضَّميرُ لكلٍّ منهما .
11- قوله: وَذَلِكَ: إشارةٌ إلى ما مرَّ من دخولِ الجنَّات الموصوفة بما ذُكر على وجهِ الخُلود، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بكمالِ علوِّ درجتِهِ .

====================6.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (15-18)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ
غريب الكلمات:

الْفَاحِشَةَ: أي: الزِّنا، وأصل الفُحْشِ: كلُّ شيءٍ مستقبَح ومستشنَع، من قولٍ، أو فِعْل
.
سَبِيلًا: فعلًا وطريقًا، والسَّبيل: الطَّريقُ الذي فيه سُهولة، وأصل (سبل): يدُلُّ على إِرْسالِ شيءٍ من عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ، وعلى امتدادِ شيءٍ .
فَآذُوهُمَا: الأذى هنا السَّبُّ والشَّتم، وقد ورَد في القرآن على أحدَ عَشَرَ وجْهًا، وأصلُ الأذى: كل ما يُكرَه، ويُغْتَمُّ به .
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا: أي: لا تُعَيِّرُوهما بالفاحشةِ، والإعراضُ أن تُوَلِّيَ الشيءَ عُرْضَك؛ أي: جانبَك، ولا تُقْبِلَ عليه .
بِجَهَالَةٍ: الجهالةُ: هي فِعلُ الشيءِ بخلافِ ما حقُّه أن يُفعَلَ، وأصل جَهِلَ: خِلافُ العِلم، والخِفَّةُ، وخلافُ الطُّمأنينةِ

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا، ومثله قوله: وَاللَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا:
اللَّاتِي: اسمٌ موصول مبنيٌّ في محلِّ رفْعٍ بالابتداء، وخبره جملةُ فَاسْتَشْهِدُوا، وجاز دخولُ الفاءِ زائدةً في الخبَر؛ لأنَّ المبتدأ أشْبَهَ الشَّرطَ في كونه موصولًا عامًّا، صِلتُهُ فعلٌ مستقبَلٌ، والخبر مستحقٌّ بالصِّلة. وقيل: الخبر محذوف، والتَّقدير: (فيما يُتلى عليكم حُكمُ اللَّاتي)، فـ (فيما يُتلَى) هو الخبر، و(حُكمُ) هو المبتدأ، و(اللاتي): مضافٌ إليه، فحُذف الخبرُ والمضافُ إلى المبتدأ؛ للدَّلالةِ عليهما، وأُقيمَ المضافُ إليه مقامَه، ويكون قوله فَاسْتَشْهِدُوا دالًّا على ذلك الحُكم المحذوف؛ لأنَّه بيانٌ له. ومثله إعراب واللَّذَانِ يَأتِيَانِها...، إلَّا أنَّ اللَّذَانِ: معرَبٌ وليس مبنيًّا؛ لأنَّه مُلحَقٌ بالمثنَّى، فهو مرفوعٌ وعلامةُ رفْعِه الألفُ. وقيل: يجوزُ أن يكون موقعهما الإعرابيُّ النَّصبَ بفِعل مقدَّر؛ لدلالةِ السِّياقِ عليه لا على جِهة الاشتغال، والتقدير: اقصِدوا أو تَعمَّدوا اللاتي يأتِينَ، وقيل: يجوزُ النصبُ على الاشتغالِ كذلك، وفيه بحثٌ وتوجيهٌ طويل؛ يُراجَعُ في مَظانِّه

.
المَعنَى الإجمالي:

يَأمرُ اللهُ تعالى عِبادَه- وذلك قبل تشريعِ حدِّ الزِّنا- بحَبْسِ مَن يَقعنَ في الزِّنا من نِسائِهم في البيوت، وألَّا يَسمحوا لهنَّ بالخروجِ، سواءٌ كُنَّ متزوجاتٍ أو غيرَ متزوِّجاتٍ، بعد أن يَشهدَ عليهنَّ أربعةٌ من الرِّجال المسلمينَ العُدول بوقوعهنَّ في الزِّنا، حتى يأتيَهنَّ الموتُ، أو يجعلَ الله لهنَّ مخرجًا.
كما أمَرَ اللهُ المؤمنين بإيذاءِ مَن زَنَى مَن الرِّجال والنِّساء إيذاءً قوليًّا بالتعييرِ والتوبيخِ وغيرِ ذلك مِن أنواع الإيذاء، فإنْ تابَا من هذا الجُرْمِ العظيمِ، وأصلحَا فَلْيَكُفَّ المؤمنون عن أذيَّتِهما، إنَّ الله كان توَّابًا رحيمًا، وهذه الأحكامُ السَّابقةُ جميعُها منسوخةٌ.
ثم بيَّنَ تعالى أنَّه يَقبَلُ التَّوبةَ ممَّن يقَعُ منهم الذنبُ عن سفَهٍ منهم، ثم يتوبونَ قبل معايَنَتِهم للموت، فهؤلاء يَقبلُ اللهُ توبَتَهم، وكان الله عليمًا حكيمًا. وأمَّا الذين يَقعون في المحرَّمات، ثم إذا عاينوا الموتَ بادروا حينَها بالتَّوبَةِ، فإنَّ اللهَ لا يَقبَلُ توبتَهم تلك، تمامًا كما أنَّه سبحانه لا يَقبَلُ توبةَ مَن مات وهو كافرٌ؛ فكلاهما ميؤوسٌ من قَبولِ توبَتِه، وهؤلاء قد أعدَّ الله لهم عذابًا مؤلِمًا.
تفسير الآيات:

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
النَّاسِخُ والمَنسُوخ:
هاتانِ الآيتانِ الكريمتانِ، منسوختانِ بالاتِّفاق
.
والنَّاسخُ لهما قولُه تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] .
وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رضِي اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((خُذوا عنِّي خُذوا عنِّي؛ قد جَعَل اللهُ لهنَّ سبيلًا؛ البِكْرُ بالبِكْر جَلْدُ مئَةٍ ونَفْيُ سَنَةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلْدُ مئةٍ والرَّجْمُ )) .
وعليه؛ يكونُ حُكمُ الجَلْدِ لغيرِ المحصَنين ثابتًا بالقرآنِ، وحُكمُ الرجمِ للمُحصَنين ثابتًا بالسُّنَّة، وبقرآنٍ منسوخ.
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر سُبحانَه في هذه السُّورةِ الإحسانَ إلى النِّساء، وإيصالَ صَدُقَاتِهِنَّ إليهنَّ، وميراثهنَّ مع الرِّجال، ذكَر التَّغليظَ عليهنَّ فيما يأتينَ به من الفاحشة؛ لئلَّا يَتوهمْنَ أنَّه يَسوغُ لهنَّ تركُ التعفُّفِ ، فقال:
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
أي: إذا وقَع نساؤكم في الزِّنا - متزوِّجاتٍ كنَّ أو غيرَ متزوِّجات- فاطلبوا لإثبات وقوعِهنَّ في الزِّنا أربعةَ رجالٍ من المسلمين العُدُولِ .
فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ
أي: فإنْ شهِدَ أربعةٌ من المسلمين العدولِ على وقوعِهنَّ في الزِّنا، فاحبِسُوهنَّ في البيوتِ؛ عقابًا لهنَّ، لا يُمَكَّنَّ من الخروجِ منها إلى أن يَـمُتْنَ .
أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا
أي: أو يُصَيِّرَ اللهُ تعالى لهنَّ طريقًا ومَخْرجًا للخلاصِ من هذا الإمساك بتشريعِ حُكمٍ لهنَّ، وقد كان؛ فقد جعَل الله لهنَّ سبيلًا، فعن عُبادَةَ بنِ الصَّامتِ رضِي اللهُ عنه أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((خُذُوا عنِّي خُذُوا عنِّي؛ قد جَعَل اللهُ لهنَّ سبيلًا؛ البِكْر بالبِكْرِ جَلْدُ مِئةٍ ونَفْيُ سَنَةٍ، والثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ، جَلْدُ مئةٍ والرَّجْمُ )) .
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا
أي: إنَّ الرجُلَ والمرأة إذا زَنَيَا، فآذوهما بالتَّوبيخ، والتَّعييرِ، وغيرِ ذلك من أنواعِ الإيذاءِ .
فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا
أي: فإنْ رجعَا عن الوقوعِ في الزِّنا، ونَدِمَا عليه، وعزمَا على ألَّا يَعودَا إلى اقترافِ ذلك، وأصلحَا دِينَهُما بالعملِ بما يُرضِي الله تعالى، فكُفُّوا عن أذيَّتِهِما .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى يُوفِّقُ عبادَه للتوبة، ويَقبَلُها منهم، وهو ذو الرَّحمةِ العظيمةِ بعِبادِه، ومِن رحمتِه أنْ هيَّأَهُم للتَّوبة، وقَبِلَها منهم .
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
أي: إنَّما يَقبلُ الله تعالى التَّوبة مِمَّن عَمِل عملًا سيِّئًا، صدر عن سَفَهٍ منه، وعملُه السُّوءَ هو الجهالةُ التي جهِلها، فكلُّ عاصٍ لله عزَّ وجلَّ، فهو جاهلٌ، وإنْ كان عالِمًا بالتَّحريمِ .
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ
أي: إنَّ الله تعالى يَقبَلُ توبةَ العبد إذا تاب حالَ حياتِه، قبل مُعايَنَةِ الموتِ .
عن ابنِ عُمَرَ رضِي اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ )) .
فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
أي: فإنَّ هؤلاء الذين يعملون السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ يتوبونَ من قريبٍ، يَرزُقُهم اللهُ تعالى- دون مَن لم يَتُبْ- إنابةً إلى طاعتِه، ويَتقبَّلُ منهم أَوْبَتَهُم إليه .
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى ذو عِلمٍ بكلِّ شيءٍ، ومِن ذلك: عِلمُهُ بمَن تاب إليه مِن عبادِه، وهو الحكيمُ الذي من حِكمتِه توبتُه على مَن تابَ مِن عِبادِه .
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ
أي: إنَّ مَن يرتكبون المحرَّمات لا يقبلُ الله عزَّ وجلَّ توبتهم، حين يأتيهم الموتُ. ساعة الاحتضار وبلوغِ الرُّوحِ الحُلْقومَ .
عن ابن عُمَرَ رضِي اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ )) .
وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ
أي: ولا يَقبَلُ اللهُ تعالى أيضًا توبةَ مَن ماتوا على الكفر ؛ فحالُهم أشبهُ بحالِهم في انعدامِ الرجاءِ في قَبول توبتِهم.
أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
أي: إنَّ الكفَّارَ الذين ماتوا على كُفرِهم أعدَّ الله تعالى لهم عذابًا مُوجِعًا شديدًا

.
الفوائد التربوية :

1- أنَّ حبْسَ المرأةِ في بيتِها من أسبابِ دَرْءِ الفِتنة؛ لقوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ؛ لأنَّ هذا نوعٌ من العقوبة من وَجْهٍ، وكفٌّ لأسباب الفِتنة من وجهٍ آخرَ
، وقال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ.
2- الإشارة إلى أنَّ البيت خيرٌ للمرأة؛ لقوله: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، وكما قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((بيوتُهنَّ خيرٌ لهنَّ )) .
3- يُؤخَذُ من قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، أنَّ كلَّ عاملِ سُوءٍ فإنَّما يعمَلُه بجهالةٍ وسَفَه، والسَّفَهُ ضدُّ الرُّشدِ، فمن عَمِلَ سيِّئًا فقدْ فُقِدَ منه الرُّشد .
4- وجوبُ المبادرة بالتَّوبة؛ لأنَّ الله علَّق قَبُولَها على أمَدٍ لا يُعلَم، فإذا كان كذلك وجَبَ المبادرةُ بها، كما قال سبحانه وتعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- في قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، إشارةٌ إلى أنَّ الرجل أقوى في الشَّهادة من المرأةِ وأثبتُ؛ وذلك لأنَّ الله تعالى لم يعتبِرْ في الزِّنا إلَّا شهادةَ الرِّجالِ
.
2- سَمَّى اللهُ تعالى الزِّنا فاحشةً في قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ دون الكُفر وقتْلِ النَّفْسِ مع أنَّهما أكثرُ قبحًا من الزنا؛ قيل: لأنَّ القُوى المدبِّرة لبَدَن الإنسان ثلاثة: القوَّة الناطقة، والقوَّة الغضبيَّة، والقوَّة الشهوانيَّة؛ ففسادُ القوَّة الناطقة هو الكفرُ والبِدعة وما يشبههما، وفسادُ القوَّة الغضبيَّة هو القتلُ والغضَبُ وما يُشبههما، وفساد القوَّة الشهوانيَّة هو الزِّنا واللواط والسحاقُ وما أشبهها، وأخسُّ هذه القوى الثَّلاثة: القوَّة الشَّهوانيَّة؛ فلا جَرَمَ كان فسادها أخسَّ أنواعِ الفساد، فلهذا السَّبب خُصَّ هذا العملُ بالفاحشة، والله أعلمُ بمراده .
3- إثبات الجَعْل لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله: أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، والجَعْل نوعان: جعْل شرعيٌّ، وجعل كونيٌّ قدَرِيٌّ، ومن أمثلة الجعل الشرعيِّ: قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة: 97] . وأمثلة الجعل الكونيِّ كثيرة في القرآن؛ كقوله تعالى: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ: 9-11] .
4- في قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ... أنَّ لله تعالى أن يوجِبَ على نفسه ما شاء، وليس للعباد أن يوجبوا عليه شيئًا؛ لقوله تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] ، وله أن يُحَرِّم على نفسه ما شاء، قال الله تعالى في الحديث القُدُسيِّ: ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظُّلْمَ على نفسي )) ، وقال تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12] ، فهذا إلزامٌ وفَرْضٌ، ومنه هذه الآية: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ .
5- قوله تبارك وتعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ هنا قال: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ، ولم يَقُلْ: على الله؛ لأنَّ هذه التوبة منتفيَةٌ شرعًا، فهي ليست حقيقيَّة

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا: الجملة تعليلٌ للأمر بالإعراضِ عنهما، وفيها مبالغةٌ في قَبولِ التَّوبة
؛ حيث عبَّرَ بصِيَغ المبالغة فعَّال توَّابًا، وفعيل رَحِيمًا، مع ما فيها مِن التأكيدِ بـ(إنَّ) واسميَّة الجملة.
2- قوله تعالى: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
- قوله: فَأُولَئِكَ: إشارة إلى المذكورينَ من حيثُ اتصافُهم بما ذُكِرَ، وما فيه من معنى البُعد باعتبارِ كونهم بانقضاءِ ذِكرهم في حُكم البعيدِ .
- قوله: فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: فيه تكرير الإسناد يَتُوبُ اللَّهُ؛ لتقويةِ الحُكم، وهذا وعدٌ بقبول توبتهم إِثْرَ بيان أنَّ التوبة لهم، والفاءُ في فَأُولَئِكَ للدَّلالةِ على سببيَّتها للقَبول .
- قوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا: الجملة اعتراضيَّة مقرِّرة لمضمون ما قبلها، وإظهار الاسم الجليل الله في موضِع الإضمار؛ للإشعارِ بعلَّة الحُكم؛ فإنَّ الألوهيَّة منشأٌ لاتِّصافِه تعالى بصفاتِ الكمال، مع ما في عَلِيمًا حَكِيمًا من المبالغة في الاتِّصاف بالعِلم والحكمة .
3- قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ: نفيُ التوبة؛ للمبالغةِ في عدم الاعتدادِ بها في تلك الحالة، وكأنَّه قال: وتوبةُ هؤلاء وعدمُ توبة هؤلاء سواءٌ .
- قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ...: تصريحٌ بما فُهِمَ من قَصْرِ القَبول على توبة مَن تاب من قريب، وزِيادةُ تعيينٍ له ببيان أنَّ توبة مَنْ عداهم بمنزلة العَدَم، وجمع السَّيِّئَات باعتبار تكرُّرِ وقوعها في الزَّمان المديد؛ لأنَّ المرادَ جميعُ أنواعها، وما مرَّ من السوء نوعٌ منها .
4- قوله: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ: ذكر (الآن) لمزيد تعيين الوقت، وإيثار (قال) على (تاب)؛ لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبارِ، والتحاشي عن تسميته توبةً .
5- قوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ: عطف على قوله: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ...، وهم الذين يُسوِّفون، وذَكَرَ هؤلاء الكفَّارَ مع أنَّه لا توبةَ لهم رأسًا؛ مبالغةً في بيانِ عدمِ قُبول توبةِ المُسوِّفين، وإيذانًا بأنَّ وجودَها كعدمها، بل في ذِكرِ حرْف النَّفي (لا) في المعطوف وَلَا الَّذِينَ... إشعارٌ خفيٌّ بكَوْنِ حال المسوِّفين في عدم استتباع الجدوى أقوى مِن حال الذين يموتون على الكُفر .
6- قوله: أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا: تأكيدٌ لعدمِ قَبول توبتِهم، وبيانُ أنَّ العذاب أعدَّه لهم مَن لا يُعجزه عذابُهم متى شاء، والاعتداد: التهيئة، من العَتَاد وهو العُدَّة .
- قوله: أُولَئِكَ إشارة إلى الفريقين، وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذانِ بترامي حالِهِم في الفظاعة وبُعْدِ منزلتهم في السُّوء .
- قوله: أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا: تكريرُ الإسنادِ لتقويةِ الحُكمِ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصَّريحِ لإظهارِ الاعتناءِ بكونِ العذابِ مُعَدًّا لهم، وتنكيرُ عَذَابًا ووصْفُه بـأَلِيمًا؛ للتفخيمِ الذاتيِّ والوصفيِّ .

==================.7.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (19-22)
ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ
غريب الكلمات:

وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ: أي: ولا تَمنعوهنَّ من التَّزوُّج، أو لا تَحبِسوهنَّ وتقهروهنَّ، يقال: عَضَلَ فلانٌ المرأةَ، إذا منعَها من التزوُّج، وأصل (عضل): المنْعُ والشِّدَّة، والالتواء في الأمْر؛ من عضَلتِ المرأةُ إذا علَق ولدُها في بطنِها وعَسُر خروجُه
.
وَعَاشِرُوهُنَّ: صاحِبوهنَّ وخالِطوهنَّ، وأصل (عشر): يدلُّ على مُداخلةٍ ومخالطةٍ .
بُهْتَانًا: أي: ظلمًا، والبُهتان أيضًا الكذبُ، وكلُّ فِعل مستبشَع يُتعاطَى باليَد والرِّجْل، مِنْ تناوُلِ ما لا يجوز، والمشيُ إلى ما يقبُح .
أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ: يعني الجِماع؛ يُقال: أفضى إلى امرأتِه: انتهى إليها ولم يكنْ بينهما حاجزٌ، والإفضاءُ الخَلوة، وأصله يدلُّ على انفساحٍ في شيءٍ واتِّساع .
وَمَقْتًا: بُغضًا، والْمَقْتُ: البُغضُ الشَّديدُ لِمَن تراه تعاطَى القبيحَ، وأصل (مقت): شناءةٌ وقُبحٌ

.
مشكل الإعراب:

قوله تعالى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ
وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ: فيه وجهان: أحدُهما: أن (لا) نافية، والفِعل منصوبٌ عطفًا على تَرِثُوا؛ أي: لا يَحِلُّ لكم أنْ تَرِثوا النِّساءَ ولا أنْ تَعْضُلوهُنَّ. والثاني: أنَّه (لا) نَّاهِيَة والفِعل مَجزومٌ بها؛ فهو مستأنَفٌ، أو من قَبيلِ عَطْفِ الإنشاءِ على الخَبرِ، حيث عُطِفت جملةُ النَّهْيِ على الجملةِ الخبريَّةِ

.
المَعنَى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى المؤمنين مُبَيِّنًا أنَّه محرَّمٌ عليهم أنْ يأخذوا نِساءَ موتاهم بطريقِ الإرثِ، والحالُ أنهنَّ- بلا ريبٍ- مُكرَهاتٌ على ذلك، كما ينهاهم عن قَهْرِ النِّساءِ والتضييقِ عليهنَّ من أجل أن يفتدينَ أنفُسَهنَّ منهم بمقابِلٍ؛ فيفارقوهنَّ، إلَّا إذا وقعْنَ في الزنا أو النُّشوز، فيحلُّ حينئذ معاملَتُهنَّ تلك المعاملةَ حتى يفتدينَ أنفُسَهنَّ، كما أمر الله تعالى عباده بحُسْنِ صحبة النِّساء بالمعروف، وألَّا يتعجَّلوا في مفارقتِهنَّ إنْ كَرِهُوهنَّ؛ فعسى اللهُ أنْ يَجعلَ في إمساكهنَّ مع ذلك خيرًا كثيرًا في الدُّنيا والآخِرة.
وإذا أراد الأزواجُ فِراقَ أزواجهنَّ والتزوُّجَ بغيرهنَّ، فلا يحلُّ للزوجِ أن يأخُذَ مِن مهرِ زوجتِه التي يُريد طلاقَها شيئًا، ولو أمْهَرَها مهرًا كثيرًا؛ فإنَّ أخْذَهُ هنا بهتانٌ وظُلْم وإثمٌ ظاهر، ولا يوجد ما يُبرِّر أخْذَ شيءٍ من ذلك، وقد حصَل بينهم علاقةُ استمتاعٍ وجِماع، وأَخَذَ الزوجاتُ منهم عهدًا شديدًا مؤكَّدًا، وهو عقدُ النِّكاحِ.
ثم نَهى اللهُ عِبادَه أن يتزوَّجوا زوجاتِ آبائهم مِن بَعْدِهم، إلَّا ما قدْ وقَعَ في أيَّامِ جاهليَّتِهم؛ فإنَّه معفوٌّ عنه، وذلك أنَّ هذا الفعلَ في غايةِ القُبْح، وهو أمرٌ مبغوضٌ من الله ومن النَّاس، وساء هذا الأمرُ طريقًا لِمَن سَلَكَه!
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
سببُ النُّزولِ:
عن ابن عبَّاس رضِي اللهُ عنهما قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ قال: كانوا إذا مات الرَّجُلُ كان أولياؤه أحقَّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوَّجها، وإن شاؤوا زوَّجوها، وإنْ شاؤوا لم يُزَوِّجوها، فهم أحقُّ بها مِن أهلِها، فنزلتْ هذه الآيةُ في ذلك ))
.
وعن أبي أُمامةَ بنِ سهلِ بن حُنيفٍ، قال: ((لَمَّا تُوُفِّي أبو قَيسِ بنُ الأسلتِ، أراد ابنُه أنْ يتزوَّج امرأتَه، وكان لهم ذلك في الجاهليَّة، فأنزل اللهُ تعالى: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا)) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا
أي: يحرُمُ عليكم- أيُّها المؤمنون- أنْ تَستحوِذوا على زَوجاتِ مَن ماتَ مِن آبائكم وأقاربكم، وكأنَّهنَّ مِن جملةِ تركتِهم، وذلك كأنْ تتزوجوهنَّ، أو تُزوِّجوهنَّ لغيركم، أو تمنعوهنَّ من الزَّواج، والحال أنهنَّ كارهاتٌ لذلك مُكرَهاتٌ عليه .
وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أي: يحرُم عليكم- أيُّها الأزواج- أن تُضيِّقوا على أزواجكم في العِشْرة وتقهروهنَّ؛ لتُلجِئوهنَّ إلى افتداء أنفسهنَّ منكم، بترك مهورهنَّ أو بعضٍ منها، أو بتنازلهنَّ عن أيِّ حقٍّ آخرَ من حقوقهنَّ؛ لتفارقوهنَّ .
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
أي: يحلُّ لكم- أيُّها الأزواج- عَضْلُ زوجاتكم والضِّرارُ بهنَّ بالعدل، إذا وقَعْنَ في الزِّنا أو النُّشوز، حتى يَفتدينَ أنفُسَهنَّ منكم بالتنازُلِ عن بعضِ حُقوقهنَّ- كالمهرِ أو بعضِه- من أجْلِ أنْ تفارقوهنَّ .
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
أي: صاحِبوا- أيُّها الأزواج- زوجاتِكم كما أمرَكم الله تعالى، وذلك بالخُلق الحسَن؛ كالقول الطيِّب، وكفِّ الأذى، وبذْلِ الإحسان، وحُسن الهيئة، وغير ذلك، وصاحبوهنَّ بأداء حقوقهنَّ من النَّفقةِ والكُسوة، وغير ذلك ممَّا أمَرَ الله تعالى به، وبما يَتعارَفُ عليه النَّاس ولا يُنكِرُه الشَّرعُ .
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهلِهِ، وأنا خَيْرُكُمْ لأهلِي)) .
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا
أي: عاشِروا- أيُّها الأزواج- زوجاتِكم بالمعروف، وإنْ كرهتموهنَّ؛ فعسى أن يكونَ صَبْرُكم مع إمساكِكم لهنَّ وكراهيتِهنَّ، فيه خيرٌ كثيرٌ لكم في الدُّنيا والآخِرة؛ كأولادٍ تُرْزَقُونَهُمْ منهنَّ، أو تزولُ كراهتكم لهنَّ، وتَخْلُفُها محبتُهنَّ، وغير ذلك .
عن أبي هريرة رضِي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً ؛ إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخرَ، أو قال: غيرَهُ )) .
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى كراهيةَ الزَّوجِ لزوجِه في قوله: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ ولا جَرَمَ أنَّ الكراهيةَ تَعقُبها إرادةُ استبدالِ المكروهِ بضدِّه؛ فلذلك عطَفَ الشَّرْط على الذي قبله استطرادًا واستيفاءً للأحكام .
وأيضًا لَمَّا نهى عن العَضْل تسبُّبًا إلى إذهاب بعض ما أُعْطِيَتْهُ المرأةُ أَتْبَعَهُ التصريحَ بالنَّهي عن أخْذ شيءٍ منه في غيرِ الحالة التي أُذِنَ فيها في المضارَّة وهي الفاحشة ، فقال:
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ
أي: إذا أراد أحدُكم- أيُّها الأزواج- أنْ يُطلِّقَ زوجته، ويتزوَّج بأخرى .
وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا
أي: والحال أنَّكم قد أمهرتموهنَّ مهرًا كبيرًا، فإنَّه لا يحلُّ أخْذُ شيءٍ منه عَنوةً؛ لأنَّه حقُّها، والنهي عن ذلك بالأَوْلى لو كان المهر قليلًا .
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
أي: أتأخذون ما آتيتموهنَّ من المهور كَذِبًا، وظلمًا بغير حقٍّ، وإثمًا ظاهرًا، قد أبان أمْرَ آخِذِه أنَّه بأخْذه إيَّاه ظالمٌ لِمَن أخَذَه منه ؟
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ
أي: على أيِّ وجهٍ تأخذون من نسائكم ما أعطيتُموهنَّ من مهور؟ والحال أنَّه قد حصلت بينكم عَلاقةُ استمتاعٍ وجماعٍ .
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا
أي: وقد أخذ نساؤكم منكم- أيُّها الأزواج- عهدًا شديدًا مؤكَّدًا، وذلك بعقد النكاح، والقيام بحقوقهنَّ، ومن ذلك: إمساكُهنَّ بمعروف، أو تسريحهنَّ بإحسان .
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
سببُ النُّزولِ:
عن ابن عباس رضِي اللهُ عنهما قال: ((كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما يَحْرُم إلَّا امرأةَ الأب والجمع بين الأختين، قال: فأنزل الله وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إلى قوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)) .
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
أي: لا تَتزوَّجوا- أيُّها المؤمنون- زوجاتِ آبائِكم مِن بَعدِهم، إلَّا ما وقَع منكم من ذلك في جاهليَّتِكم، أو قبل تحريمِه؛ فإنَّه معفوٌّ عنه
إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا
أي: إنَّ تزوُّجَكم بزوجاتِ آبائِكم لَهُوَ فِعلٌ في غايةِ البَشاعة والقُبح، وهو أمرٌ يُبغِضُه اللهُ تعالى، ويُبغضه الناسُ، وقد يُبغض الابنُ أباه بسببه؛ فإنَّ من تزوَّج بامرأةٍ قد يُبغض مَن كان زوجَها قبلَه .
وَسَاءَ سَبِيلًا
أي: وبِئْسَ هذا الأمرُ طريقًا لِمَن سلَكه

.
الفوائد التربوية:

- في قوله تعالى وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا حثٌّ للأزواج أن يُمسِكوا زوجاتِهم مع الكراهية لهنَّ؛ فإنَّ في ذلك خيرًا كثيرًا؛ من ذلك امتثالُ أمر الله، وقَبولُ وصيَّته التي فيها سعادةُ الدنيا والآخرة، ومنها أنَّ إجبارَه نفسَه- مع عدم محبَّته لها- فيه مجاهدةُ النفس، والتخلُّق بالأخلاقِ الجميلة، وربَّما تزول الكراهيةُ وتخلُفُها المحبَّة، كما هو الواقع، وربما رُزِقَ منها ولدًا صالحًا نفَعَ والديه في الدنيا والآخرة، وهذا كلُّه مع الإمكان في الإمساك وعَدَمِ وقوع المحذور

.

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- قال أهلُ العِلم: (عسى) من الله واجبةٌ، فإذا قال الله: (عسى) فهي واجبة، قال تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا...؛ وقال أيضًا: فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 99] ؛ وذلك لأنَّ الرجاءَ في حقه عزَّ وجلَّ غيرُ واردٍ؛ إذ إنَّه هو المتصرِّف المدبِّر، والرجاءُ إنَّما يكون مِمَّن لا يملِكُ الشيء فيرجوه من غيره، وعلى هذا فتكون الآية وعدًا من الله أنَّ من صَبَر ابتغاءَ وجه الله على ما يكرهه، واحتسابًا لثواب الله، بأن يجعَلَ الله فيه خيرًا كثيرًا، فإنَّه يتحقَّق له هذا الوعدُ، فإنْ تخلَّفَ هذا الوعدُ فلوجودِ مانعٍ، وإلَّا فإنَّ وعْدَ الله حقٌّ
.
2- في قوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا... الإرشاد إلى إعماقِ النَّظر وتغلغُلِ الرأي في عواقِبِ الأشياء، وعدم الاغترارِ بالبوارقِ الظَّاهرة، ولا بميلِ الشَّهوات إلى ما في الأفعال مِن ملائم، حتى يَسبُرَه بمِسْبَارِ الرأي، فيتحقَّق سلامةَ حُسْنِ الظاهرِ من سُوء خفايا الباطِن .
3- وفي قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا دَلالةٌ على عدم تحريمِ كثْرَةِ المهرِ، مع أنَّ الأفضلَ واللائق الاقتداءُ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في تخفيفِ المَهْر؛ ووجْهُ الدَّلالة أنَّ الله أخبَرَ عن أمْرٍ يقع منهم، ولم يُنْكِرْه عليهم، فدلَّ على عدم تحريمِه .
4- الإشارةُ إلى سترِ ما بين الزوجين؛ لقوله: وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، وهذا الإفضاءُ معروفٌ أنَّه إفضاء سِرِّيٌّ؛ ولهذا فإنَّ الذي يُفشِي السرَّ فيما كان بينه وبين زوجته مِنْ شَرِّ الناسِ منزلةً عند الله يومَ القيامة .
5- في قوله تعالى: وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، كنَّى الله تعالى عن الجِماعِ بالإفضاءِ، وهو الوصولُ إلى الشَّيءِ من غير واسطةٍ؛ تعليمًا لعباده؛ لأنَّه مِمَّا يُسْتَحْيَا منه .
6- غِلَظُ عقد النِّكاح، وأنَّه عقدٌ يجب أن يُهتمَّ به؛ لقوله: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، ويدلُّ على هذا قولُه تعالى في الطلاق: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق: 1] ، أي: اضبطوها بالحِسابِ، فالآيةُ الكريمةُ تُفيد خطَرَ عقْدِ النِّكاح وأهميَّتَه، وأنَّه يجب أن يُعتنَى به، ويُحتفَظ به وبشروطِه وكلِّ ما يلزم فيه؛ حتى لا يقعَ الإشكالُ بين الرجل وزوجته، وتحصُلَ أمورٌ لا تُحمَد عُقباها .
7- أنَّ نكاحَ المحارم أشدُّ من الزِّنا؛ لقوله: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا، وفي الزِّنا قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] ، ولم يَقُل: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا؛ ولهذا ذهب كثيرٌ من العلماء إلى أنَّ من زَنَى بامرأةٍ من محارمِه أو تزوَّجها، فإنَّه يُرجَم ولو كان غير مُحصَنٍ؛ لأنَّ نكاحَ ذواتِ المحارمِ أعظمُ من الزِّنا وأشدُّ

.
بلاغة الآيات:

1- قوله: لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ: (لا) في قوله: وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لتأكيد النَّفي، يعني: لا يحلُّ لكم أن ترِثوا النِّساءَ ولا أنْ تعضلوهنَّ، أي: ولا تمنعوهنَّ من التَّزويج، أو: ولا أن تُضَيِّقوا عليهنَّ
.
2- قوله: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ: عبَّر بالذَّهابِ به لا بالأخْذِ ولا بالإذهاب؛ للمبالغةِ في تقبيحِه ببيانِ تضمُّنه لأمرينِ كلٌّ منهما محظورٌ شنيع، (الأخْذ والإذهاب) منهنَّ؛ لأنَّه عبارةٌ عن الذَّهاب مستصحبًا به .
3- قوله: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا: علَّة للجزاءِ أُقيمتْ مقامَه؛ للإيذان بقوَّة استلزامها إيَّاه، كأنَّه قيل: (فإنْ كرهتموهنَّ، فاصبروا عليهنَّ مع الكراهة؛ فلعلَّ لكم فيما تكرهونه خيرًا كثيرًا ليس فيما تحبُّونه) .
- وذِكْر الفِعل الأول تَكْرَهُوا مع إمكان الاستغناءِ عنه، وانحصار العِلِّيَّة في الثاني وَيَجْعَلَ... للتوسُّلِ إلى تعميمِ مفعوله؛ ليُفيدَ أنَّ ترتيبَ الخيرِ الكثيرِ مِن الله تعالى ليس مَخصوصًا بمكروهٍ دونَ مكروه، بل هو سُنَّة إلهيَّة جاريَةٌ على الإطلاقِ حَسَبَ اقتضاء الحِكمة، وفيه من المبالغةِ في الحَمْلِ على ترْك المفارقةِ وتعميمِ الإرشادِ ما لا يَخفَى .
- وتنكير خَيْرًا وتنوينه؛ لتفخيمِه الذاتي، ووصْفُهُ بالكثرةِ بقوله: كَثِيرًا؛ لبيان فخامتِه الوصفيَّة .
4- قوله: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا: فيه مبالغةٌ في تفخيمِ الأمْر وتأكيده؛ حيث عظَّم الأمرَ حتى يُنتهى عنه .
5- قوله: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا: استئنافٌ مَسُوق لتقريرِ النهيِ والتنفيرِ عن المنهيِّ ، والاستفهامُ إنكارٌ وتوبيخ، أي: تأخذونه باهتِين وآثمِين .
6- قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ: استفهامُ إنكارٍ لأخْذِه إثْرَ الإنكارِ الوارد في قوله تعالى: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا، وتنفيرٌ عنه غِبَّ تنفيرٍ، على سبيلِ التعجُّب، أي: بأيِّ وجهٍ تَسْتَحِلُّون المهر وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ؟!
- وفيه مبالغةٌ؛ حيثُ وجَّه الإنكارَ إلى كيفيَّة الأخْذِ؛ إيذانًا بأنَّه ممَّا لا سبيلَ له إلى التحقُّق والوقوعِ أصلًا؛ لأنَّ ما يَدخُلُ تحتَ الوجود لا بدَّ أن يكونَ على حالٍ من الأحوال، فإذا لم يكُنْ لشيءٍ حالٌ أصلًا، لم يكُنْ له حظٌّ من الوجودِ قطعًا .
7- قوله: وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ: في قوله: أَفْضَى كنايةٌ حسنة ؛ لأنَّ الإفضاءَ إلى الشيءِ عبارةٌ عن المباشَرة له، وعُني بالإفضاءِ في هذا الموضِع الجماعُ .
8- قوله: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ: خُصَّ هذا النِّكاحُ بالنَّهي، ولم يُنْظَمْ في سلكِ نكاحِ المحرَّماتِ الآتيةِ بَعدَه؛ مُبالغةً في الزَّجرِ عنه؛ حيثُ كانوا مُصِرِّين على تعاطِيه مع الاستِهانةِ بذلك، فأفْرَدَه وقدَّمَه؛ تَعظيمًا لحُرمةِ أزواجِ الآباءِ .
9- قوله: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا: تعليلٌ للنهي، وبيانٌ لكون المنهيِّ عنه في غاية القُبح مبغوضًا أشدَّ البُغضِ، وأنَّه لم يَزَلْ في حُكمِ الله تعالى وعِلمه موصوفًا بذلك، ما رُخَّص فيه لأُمَّةٍ من الأمم؛ فلا يُلائِم أن يُوسط بينهما ما يُهَوِّن أمْرَه مِن ترْك المؤاخذةِ على ما سَلَف منه .


=========================8.


سُورةُ النِّساءِ
الآية (23)
ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ
غريب الكلمات:

وَرَبَائِبُكُمُ: أي: بناتُ نِسائِكم من غيرِكم، والرَّبائب جمْع: رَبيبةٍ، وهي مأخوذةٌ من التربية، وهو إنشاءُ الشيءِ حالًا فحالًا إلى حدِّ التَّمام
.
فِي حُجُورِكُمْ: أي: فِي ضَمانِكم وتَربيتكم، والحُجور جمْع حِجر، وحِجْرُ القميص: اسمٌ لِمَا يُجعل فيه الشيءُ فيُمنَع؛ يُقال: فلان في حَجْرِ فلان، أي: في منعٍ منه عن التصرُّف في ماله، وكثيرٍ من أحواله، وأصل الحَجْر: المنعُ، والإحاطة على الشَّيءِ .
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ: أي: أزواجِ البنين، جمْع حَليلة؛ وسُمِّيت الزوجةُ حليلةً، والزَّوجُ حليلًا؛ لنُزولِهما معًا؛ فتَحُلُّ معه ويَحُلُّ معها، أو لحَلِّ كلِّ واحدٍ منهما إزارَه للآخَر، وإمَّا لكونِها حَلالًا له، وأصل (حلَّ): فتْحُ الشَّيء .
أَصْلَابِكُمْ: أي: ظُهورِكم، جمْع صُلب؛ وسُمِّي الظَّهرُ صلبًا باعتبارِ الصَّلابة والشدَّة، وأصل (صلب): الشِّدَّة والقوَّة، وكلُّ شيءٍ من الظَّهر فيه فَقَارٌ، فهو صلبٌ

.
المَعنَى الإجمالي:

يُخبرُ تعالى أنَّه حرَّم على المؤمنين التزوُّجَ بأمَّهاتِهم، وبناتِهم، وأخواتِهم، وعمَّاتِهم، وخالاتِهم، وبناتِ إخوانهم، وبناتِ أَخواتِهم، كما أنَّه حرَّمَ عليهم الزَّواجَ من أمَّهاتهم اللاتي قُمْنَ بإرضاعهم، وأخواتهم من الرَّضاعة، كما حرَّمَ أيضًا التزوُّجَ بأمِّ الزوجة مطلقًا سواء حصَل الدخولُ بالبنتِ أمْ لم يَحصُل، وحَرَّم كذلك الزواجَ ببنات الزوجات إذا تزوَّجوا أُمَّهاتِهن وبَنَوْا بهنَّ، فإذا لم يكونوا بَنَوْا بأمهاتهنَّ فيجوزُ نكاحُ بِنتِ الزوجةِ بعدَ فِراق أمِّها، وحرَّم نِكاحَ زوجات الأبناء الذين ولدوهم، سواءٌ دخل الابنُ بزوجته أم لم يدخُلْ، كما أنَّه حرَّمَ الجمْعَ بين الأختين إلَّا ما وقَع في الجاهليَّة، أو حصَل قبلَ تحريمه، فإنَّه لا إثمَ عليكم فيه؛ إنَّ الله كان غفورًا رحيمًا.
تفسير الآية:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر تحريمَ نِكاحِ ما نَكَحَ الآباءُ في الآيةِ السَّابقةِ تخلَّص إلى ذِكرِ باقي المحرَّمات في النِّكاح
.
ولَمَّا ابتدأَ بتعظيمِ الآباءِ واحترامِهم في أنْ يَنكِحَ الأبناءُ أزواجَهم على العمومِ، ثنَّى بخصوص الأمِّ بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
سببُ النُّزولِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما، قال: ((كان أهلُ الجاهليَّةِ يُحَرِّمون ما يَحْرُم إلَّا امرأةَ الأبِ والجمعَ بين الأختين، قال: فأنزل اللهُ: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إلى قوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ)) .
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ
أي: حرَّم اللهُ عزَّ وجلَّ عليكم- أيُّها المؤمنون- التزوُّجَ بأمهاتِكم، وبناتِكم، وأخواتِكم، وعمَّاتِكم، وخالاتِكم، وبناتِ إخوانِكم، وبناتِ أخَواتكم؛ فهؤلاء محرَّماتٌ على الرجُلِ من جِهة النَّسب .
وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ
أي: وحرَّم اللهُ تعالى أيضًا عليكم أيضًا- معشرَ الرِّجال- نِكاح أمَّهاتِكم، وأخواتِكم من جِهةِ الرَّضاعة .
عن عبدِ اللهِ بن عَبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ في بنتِ حمزةَ: ((لا تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ، هيَ بِنتُ أخِي من الرَّضَاعَةِ )) .
وعن عائشةَ رضِي اللهُ عنها أنَّ عمَّها من الرَّضاعةِ، يُسمَّى أفلحَ، استأذنَ عليها فحَجَبَتْهُ، فأخبرتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال لها: ((لا تَحْتَجِبي منهُ؛ فإنَّهُ يَحْرُمُ من الرَّضاعةِ ما يَحْرُمُ من النَّسَب )) .
وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ
أي: وحرَّم عليكم أيضًا نكاحَ أمِّ الزوجة مطلقًا، سواءٌ دخلتم بابنتها أو لم تدخلوا .
وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
أي: وحرَّمَ عليكم أيضًا نِكاح بناتِ زوجاتِكم اللاتي جامعتموهنَّ .
عن أمِّ حبيبةَ رملةَ بنتِ أبي سُفيانَ رضِي اللهُ عنهما، قالت: ((دخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقلتُ لهُ: هل لك في أُختي بنتِ أبي سفيانَ؟ فقال: أفعلُ ماذا؟ قلتُ: تنكِحُها، قال: أَوَ تُحِبِّينَ ذلك؟ قلتُ: لستُ لك بِمُخْلِيةٍ، وأَحَبُّ مَن شَرِكَني في الخيرِ أختي، قال: فإنَّها لا تحلُّ لي! قلتُ: فإنِّي أُخْبِرْتُ أنَّك تخطبُ دُرَّةَ بنتَ أبي سلمةَ، قال: بنتَ أمِّ سلمةَ؟ قلتُ: نعمْ، قال: لو أنَّها لم تكُنْ رَبيبتي في حِجري، ما حلَّتْ لي؛ إنَّها ابنةُ أخي مِن الرَّضاعةِ، أَرضعَتْني وأباها ثُويبةُ، فلا تَعْرِضْنَ عليَّ بناتِكُنَّ ولا أخواتِكنَّ )) .
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ
أي: فإنْ لم تكونوا دخلتُم بزوجاتِكم، فلم تُجامِعوهنَّ حتى طلَّقتموهنَّ، فلا حرجَ عليكم في نِكاح بناتِهنَّ .
وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ
أي: وحرَّم عليكم أيضًا نِكاحَ زوجات أبنائِكم، سواءٌ دخلوا بهنَّ أو لم يَدخُلوا، والمرادُ بأبنائكم: الذين ولدتموهم، دونَ أبنائِكم من جِهة الرَّضاعة، ودونَ الأدعياءِ الذين تبنَّيتموهم في الجاهليَّة .
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ
أي: وحرَّم عليكم أيضًا الجمْعَ بين الأختين بنكاحٍ، إلَّا ما وقَعَ منكم في جاهليَّتكم أو قبل تحريمه، فإنَّه لا إثمَ عليكم فيه .
وفي حديث أمِّ حَبيبةَ رضِي اللهُ عنهما، عندما عرضت على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم الزواجَ من أختِها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّها لا تحلُّ لي!)) ثم قال: ((فلا تَعْرِضْنَ عليَّ بناتِكُنَّ ولا أخواتِكنَّ )) .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: إنَّ الله تعالى غفورٌ، يَستُرُ ذنوبَ عِبادِه ويَتجاوزُ عنها، ومِن ذلك: عدمُ مؤاخذةِ مَن وقَع منهم في السَّابقِ في الزواجِ بِمَن حرَّمهنَّ الله تعالى عليه، وهو الرحيمُ بهم، ومن رحمتِه مغفرتُه لذنوبِهم

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- أنَّ الأمَّ عند الإطلاقِ لا يَدخُل فيها الأمُّ مِن الرَّضاعة، ووجهُ ذلك: أنَّه لو كانتِ الأمُّ من الرَّضاع تَدخُل في الأمِّ عندَ الإطلاق، لَمَا احْتِيجَ إلى قوله: وَأُمَهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ؛ لأنَّها تدخُل في قولِه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ، ويتفرَّع عن هذه الفائدةِ: أنَّ أمَّ الزوجةِ من الرَّضاعِ لا تَدخُل في قولِه: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ؛ لأنَّه عندَ الإطلاقِ لا تدخُلُ فيها الأمُّ من الرَّضاع
.
2- أنَّ لبنَ الفحل مُحَرِّمٌ؛ أي: إنَّ الأختَ من الأبِ من الرَّضاعة حرامٌ؛ لعمومِ قوله سبحانه: وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ، وهذا- والله أعلم- من فائدةِ ذِكرِ الأخواتِ دون البناتِ من الرَّضاعة؛ فإنَّ البناتِ مِن الرضاعة لم يُذْكَرْن، وكذلك العمَّات لم يُذْكَرْن؛ لأنَّ الأخوات تُغنِي عن العمَّات؛ لأنَّهنَّ حَواشٍ، وهنَّ أقربُ الحواشي إلى الإنسان؛ فيُستفَاد من هذه الآية أنَّ الأخواتِ من الأب، أو الأخواتِ من الأمِّ، أو الأخواتِ من أمٍّ وأب من الرَّضاع؛ كلُّهُن حرامٌ .
3- أنَّ أمَّ الزوجة حرامٌ بدون شرْط؛ لقوله: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ، فبمجرَّد العقدِ على المرأةِ عقدًا صحيحًا تَحْرُم أمُّها، وكذلك جدَّاتها وإنْ عَلَوْنَ .
4- جمهورُ الأئمَّة على أنَّ الرَّبيبةَ حرامٌ سواء كانت في حِجْر الرَّجُل أو لم تكُن في حِجره، قالوا: وهذا الخطابُ خرَج مخرجَ الغالب؛ فلا مفهومَ له ، وفائدة التقييد في قوله: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ التنبيهُ على الحِكمة في تحريمِ الرَّبيبة، وأنَّها كانت بمنزلةِ البنت، فَمِنَ المستقبَح إباحتُها، والدلالة على جوازِ الخَلوة بالربيبة وأنَّها بمنزلةِ مَن هي في حجرِه من بناته ونحوهنَّ .
5- تحريمُ حلائل الأبناء من زوجاتٍ أو مملوكاتٍ؛ لقوله: وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ، لكنَّ المملوكة لا تكون حليلةً إلَّا بالوطء؛ ولذلك فلو أنَّ شخصًا اشترى أَمَةً ولم يَطأْها، ثمَّ ملَكها أبوه، فإنَّها تحلُّ لأبيه، لكنْ لو عقَدَ على امرأةٍ ولم يطأْها، ثم طلَّقها، فلا تحلُّ لأبيه؛ لأنَّ المملوكةَ لا تكون حليلةً إلَّا بالوطء، وأمَّا الزوجة فتكون حليلةً بمجرَّد العقد الصحيح .
6- أنَّ حليلةَ ابنِ الرَّضَاع لا تَحْرُم؛ لقوله: الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ

.
بلاغة الآية:

1- قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ... الآية: فيها من البلاغة: حُسْن النَّسَق
في ترتيب الجُمل، وعطْف بعضها على بعضٍ كما يَنبغي؛ حيث قدَّم تَحريمَ الأمهات، وعَطَفَ عليه باقيَ الآية .
2- قوله: مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ: فيه كنايةٌ في قوله: دَخَلْتُمْ بِهِنَّ؛ إذ هي كنايةٌ عن الجماع، أو الخَلوة .
3- قوله سبحانه: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، وقوله: الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ: فيهما احتراسٌ؛ حيث احترَزَ في الأوَّل من اللَّاتي لم يُدْخَل بهنَّ ، واحترز في الثَّاني عن المتَبَنَّيْنَ، لا عن أبناءِ الولدِ .
4- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا: تعليلٌ لِمَا أفاده الاستثناءُ في قوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، فيتحتَّمُ أنْ يكونَ الاستثناءُ منقطعًا، أي: لكنْ ما قد مضَى لا تُؤاخَذُون به ، مع ما فيه مِن تأكيدِ الخَبَر بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجملةِ.

= ====================9.


سُورةُ النِّساءِ
الآيتان (24- 25)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ
غريبُ الكَلِمات:

وَالمُحْصَنَاتُ: هنَّ ذواتُ الأزواجِ، والمحصَنات أيضًا: الحرائرُ، وإن لم يكُنَّ مزوَّجاتٍ، والعفائف، وأصلُ حصن: الحِفظ، والحِياطة، والحِرز
.
غَيْرَ مُسَافِحِينَ: أي: غيرَ زُناة، أو غيرَ مجاهرين بالزِّنا, والسِّفاحُ: الزِّنا، وأصلُه مِن سَفَحْتُ القِربةَ: إذا صبَبْتَها؛ فسُمِّي الزِّنا سِفاحًا؛ لأنَّ الرَّجل يصُبُّ النُّطفةَ وتصُبُّ المرأةُ النُّطفة، والمسافِحُ: الَّذي يصبُّ ماءَه حيث اتَّفق، وأصْل سفَح: يدلُّ على إراقةِ شيء .
أُجُورَهُنَّ: أي: مُهورَهنَّ .
طَوْلًا: أي: فضلًا وسَعةً، وأصل طول يدلُّ على فضلٍ وامتدادٍ في الشَّيء .
أَخْدَانٍ: أي: زوانٍ سرًّا، أو أصدقاء، أو أخلَّاء في السِّرِّ، جمْعُ خِدن، أي: مصاحب، وأكثرُ استعمالِه فيمَن يُصاحبُ بشهوة؛ يُقال: خِدْن المرأة وخَدِينها، ويُطلق كذلك على الحبيبِ والرَّفيق، وأصل (خدن): المصاحَبة .
الْعَنَتَ: الفجور؛ يُقال: عَنَتَ فلان يَعْنَتُ عَنَتًا: إذا وقَع في أمرٍ يَخاف منه التَّلفَ، ويُطلَق العَنَت على: الضَّرَر والفساد، وأصْل (عنت): يَدُلُّ على مَشَقَّةٍ وما أَشْبَه ذلك

.
مشكل الإعراب:

1- قَوْله: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ:
كِتابَ: منصوبٌ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد لمضمون الجُملة المتقدِّمة قبلَه، وهي قوله: حُرِّمَتْ، ونصبُه بفعل مُقدَّر، أي: كتَب الله ذلك عليكم كتابًا، وقيل: تَقديرُه: الْزموا كتابَ الله. ويكون قولُه: عَلَيْكُمْ اسمَ فِعل للإغراءِ، حُذِف مفعولُه للدَّلالة عليه، أي: (عليكم ذلك)؛ فيكون أكثرَ تأكيدًا.
وقيل: إنَّ كِتَابَ منصوبٌ على الإِغراء بـعَلَيْكُمْ، والتقدير: عليكم كِتابَ الله، أي: الْزموه، كقوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [المائدة: 105] ، وقيل غير ذلك
.
2- قوله: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً
فَرِيضَةً: منصوبةٌ على أنَّها حالٌ من أُجُورَهُنَّ، أي: مفروضةً، أو على أنَّها مصدر مُؤكِّد، أي: فرَض اللهُ ذلِك فريضةً، أو مَنصوبةٌ على أنَّها مصدرٌ غير الصَّدر، أي: مصدرٌ مِن مَعنى الفِعْلِ الأوَّلِ فَآتُوهُنَّ وليس مَصدرًا من لَفظِه؛ لأنَّه في معناه؛ إذ الإيتاءُ مَفروضٌ، فكأنَّه قيل: فآتوهنَّ أُجورَهنَّ إيتاءً مفروضًا .
3- قولُه: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ:
طَوْلًا: طَوْلًا مفعولٌ به لـيَسْتَطِعْ.
أَنْ يَنْكِحَ: مصدَرٌ مؤَوَّلٌ، أي: نِكاح، وفي مَوْضِعِه الإعرابيِّ ثلاثةُ أوجُه؛ أحدُها: أنَّه في محلِّ نصبٍ، مفعولٌ به لـلمصدرِ المنَوَّنِ طَوْلًا، والتقديرُ: ومَن لم يَستَطِعْ أنْ ينالَ نِكاحَ المحصناتِ...إلخ. والثاني: أنَّه بدلُ كُلٍّ من كلٍّ مِن طَوْلًا؛ لأنَّ الطَّوْلَ هو القدرةُ أو الفَضْلُ، والنكاحُ قُدرةٌ وفَضْلٌ. الثالث: أنَّه في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على حَذْفِ حَرفِ الجرِّ (إلى) أو (اللام)، والتقديرُ: طَوْلًا إلى أنْ ينكحَ، أو: طولًا لأنْ يَنكِحَ. وقيل غير ذلك .
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ: الفاءُ رابطَةٌ في جوابِ (مَن) الشَّرطيَّة في قوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، ومِنْ تَبعيضيَّةٌ، ومَا موصولةٌ، والجارُّ والمجرورُ (مِن ما) مُتعلِّقٌ بفِعلٍ مقَدَّرٍ حُذفَ مفعولُه، والتقديرُ: فلْيَنكِحِ امرأةً أو أَمَةً مِنَ النَّوْعِ الذي مَلَكَتْه أيمانُكم، وهو في الحقيقةِ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ وَقَعَ صفةً لذلك المفعولِ المحذوفِ؛ أي: فلْيَنكِحِ امرأةً كائنةً مِن ذلك النَّوعِ، والجملةُ كلُّها في مَحلِّ جزمٍ، جوابُ الشَّرْطِ. وقيل غيرُ ذلك .
وَاللهُ أَعْلَمُ: جملةٌ معترضةٌ لا محلَّ لها مِن الإعراب، وبَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ جملةٌ في محلِّ نصبٍ، حالٌ مِن الضَّميرِ (كم) في أَيْمَانِكُمْ.
4- قَوْله: ذَلِكَ لِمَن خَشِي الْعَنَت مِنْكُمْ:
ذَلِك: مُبْتَدأ، وَمَا بعدَه لِمَن... جارٌّ ومجرور في محلِّ رفْع خَبر (ذلك)، أَي: الرُّخْصَة فِي نِكاحِ الإماءِ لِمَن خشِي العَنَت، أي: جائزٌ للخائِف مِنَ الزِّنا.
مِنكم: جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ نصْب، حالٌ من الضَّمير في (خشي)، أي: في حالِ كونِه مِنكم

.
المَعْنى الإجماليُّ :

يُخبِر تعالى أنَّه ممَّا يحرُمُ على الرِّجال نِكاحُهنَّ من النِّساء: المتزوِّجاتُ منهنَّ في حالة بقائهنَّ في ذمَّةِ أزواجهنَّ، إلَّا ما ملَكوهنَّ بالسَّبيِ في قتال الكفَّار، فإنَّه يحِلُّ لهم وطؤُهنَّ حتَّى وإن كنَّ متزوِّجاتٍ، لكن بعد استبرائِهنَّ، ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّ ما سبق تحريمُه في هذه الآيات هو فرضٌ فرَضَه فلْيلزموه، مبيِّنًا تعالى أنَّه أحلَّ لهم نكاحَ ما عدا المذكوراتِ في الآياتِ إذا طلَبوهنَّ بأموالهم؛ إمَّا بالزَّواجِ بمهرٍ معلومٍ، قاصدين العفافَ لهم ولأزواجِهم، وإمَّا بشراء السَّراريِّ، غيرَ مُريدينَ الوقوعَ في الزِّنا، فمن نكَحوهنَّ فجامَعوهنَّ فليُعطوهنَّ مهورَهنَّ مقابلَ ذلك الاستمتاعِ؛ وذلك فرضٌ فرَضه اللهُ تعالى، لا حرجَ على كلا الزَّوجينِ فيما تراضيَا به بعد فرضِ المهرِ من الزِّيادةِ عليه أو النُّقصانِ أو الإعفاءِ منه أو التَّأخيرِ له؛ إنَّ اللهَ كان عليمًا حكيمًا.
ومَن لم يكُنْ بمقدوره زواجُ الحرائرِ المؤمناتِ، فليتزوَّجْ من الإماءِ المؤمناتِ المملوكاتِ للمؤمنينَ، واللهُ تعالى يعلَمُ حقيقةَ إيمانِ مَن آمن منكم، جميعُكم من ذرِّيَّةِ آدمَ، وكلُّكم سواسِيَةٌ في البشريَّة، فلا تأنَفوا مِن تزوُّجِ الإماء عند الضَّرورةِ، فتَزوَّجوهنَّ برضا مَن يملِكونهنَّ، وأعطوهنَّ مهورَهنَّ بما شرَعه اللهُ دون بخسٍ منه، أو مماطلةٍ في دَفْعِه، على أن يكُنَّ عفيفاتٍ عن الزِّنا، غيرَ واقعاتٍ فيه علانيةً لا يمتنِعْنَ ممن أراد منهنَّ الفاحشةَ، كذلك غيرَ زوانٍ في السِّرِّ والخفيةِ باتِّخاذِهن أصدقاءَ وأخلَّاءَ يَزْنُونَ بهنَّ في الخفاء، فإذا أُحصِنَ الإماءُ بالزَّواج ثمَّ وقَعْنَ في الزِّنا فيجب عليهنَّ نصفُ الحدِّ الَّذي هو على الحرائرِ اللَّاتي يزنينَ قبل الإحصان بالزَّواج، فيُجلَدْنَ خمسينَ جلدة ، وتلك الرُّخصةُ بنكاحِ الإماءِ المؤمناتِ عند عدمِ القدرةِ على مهورِ الحرائرِ إنَّما هي لمن شقَّ عليه الصَّبرُ عن الجِماعِ، وخاف الوقوعَ في الزِّنا، ثمَّ يُرشِد اللهُ تعالى إلى أنَّ الصَّبرَ خيرٌ لهم من نكاحِ الإماء، واللهُ غفورٌ رحيم.
تفسير الآيتين:

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
سَببُ النُّزول:
عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ رسولَ اللهُ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ يومَ حُنَينٍ بعَثَ جيشًا إلى أوطاس، فلَقُوا عدوًّا، فقاتَلوهم، فظهَروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، فكأنَّ ناسًا من أصحابِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ تحرَّجوا من غِشيانِهنَّ من أجلِ أزواجِهنَّ من المشركينَ، فأنزَل اللهُ عزَّ وجلَّ: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، أي: فهنَّ لكم حلالٌ إذا انقضَتْ عدَّتُهنَّ ))
.
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ
أي: وحُرِّمَ عليكم أيضًا- معشرَ الرِّجال- نكاحُ ذواتِ الأزواجِ، أي: ما دُمْنَ في ذمَّةِ أزواجِهنَّ .
إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
أي: ما عدا مَن ملَكتموهنَّ بالسَّبيِ في قتال الكفَّارِ، فإذا سبَيْتم الكافرةَ ذاتَ الزَّوج، حلَّ لكم وَطْؤُها، لكن بعد أنْ تُستَبْرأَ ، وعلى ألَّا تكونَ مِن النِّساء المحرَّماتِ السَّابقِ ذِكرُهنَّ .
كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
أي: هذا التَّحريمُ فَرضٌ قد فرَضه اللهُ تعالى عليكم، فالزَموه، ولا تَخرُجوا عن حدودِه .
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ
أي: أباح اللهُ تعالى لكم- أيُّها الرِّجال- نكاحَ ما عدا مَن حرَّمهنَّ عليكم من النِّساء، سواءٌ كان بعقدٍ أو مِلكِ يمينٍ .
أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ
أي: حلالٌ عليكم- أيُّها الرِّجالُ- أن تطلُبوا بأموالِكم نكاحَ مَن سِوى المحرَّماتِ من النِّساء- إمَّا نكاحًا بصداقٍ معلومٍ، أو تسرِّيًا بشراءِ السَّراريِّ- والحال أنَّكم تريدون إعفافَ أنفسِكم وزوجاتِكم عن الحرامِ، غيرَ قاصدينَ الوقوعَ في الزِّنا .
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً
أي: فمَن نكحتموهنَّ نكاحًا شرعيًّا دائمًا فاستمتعتم بجِماعهنَّ، فآتوهنَّ مهورهنَّ في مقابلِ تلك المتعةِ، وذلك فرضٌ فرَضه اللهُ تعالى عليكم .
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ
أي: ولا حرَجَ عليكم- أيُّها الأزواجُ والزَّوجاتُ- فيما تراضَيْتم به، من زيادةٍ على المهر أو نقصٍ، أو إعفاءٍ منه، أو تأخيرٍ له، من بعدِ فرضِ الصَّداقِ .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو علمٍ بكلِّ شيءٍ، ومِن ذلك علمُه بما يُصلِحُكم- أيُّها النَّاس- في مَناكحِكم، وهو سبحانه الَّذي يضعُ كلَّ شيءٍ في موضعِه اللَّائقِ به بلا خلَلٍ ولا زلَلٍ، ومِن ذلك: هذه الأحكامُ الَّتي شرَعها ممَّا يتعلَّقُ بأمورِ النِّكاح .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ سبحانه وتعالى مَن يحلُّ ومَن لا يحلُّ، بيَّن فيمن يحلُّ أنَّه متى يحلُّ، وعلى أيِّ وجهٍ يحلُّ، فعطف اللهُ تعالى قوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء: 25] على قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء: 24] تخصيصًا لعمومه بغيرِ الإماء، وتقييدًا لإطلاقِه باستطاعةِ الطَّولِ .
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
أي: ومَن لم يكُنْ لَدَيهِ منكم- معشرَ الرِّجال- سَعةٌ وقدرةُ على تقديمِ مهرٍ كافٍ لنكاحِ الحرائرِ المؤمناتِ .
فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ
أي: فليتزوَّجْ مِن الإماءِ المؤمناتِ اللَّاتي يملِكُهنَّ سواهُ من المؤمنين .
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ
أي: إنَّ اللهَ تعالى أعلمُ بإيمانِ مَن آمَن منكم، فيعلَمُ ما إذا كان أولئك الإماءُ اللَّاتي تريدون نكاحَهنَّ مؤمناتٍ حقًّا أم لا، وأمَّا أنتم فليس لكم إلَّا الظَّاهرُ، فَكِلُوا سرائرَهنَّ إلى الله عزَّ وجلَّ .
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ
أي: إنَّ الجميعَ متساوونَ في البشريَّةِ، وكلُّهم بنو آدمَ؛ فالحرائرُ والإماءُ من هذه الجهة سواءٌ، فلا تأنَفوا من تزوُّجِ الإماءِ عند الضَّرورةِ .
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
أي: فتَزوَّجوهنَّ بسماحِ ورضَا أسيادِهنَّ .
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
أي: وأعطوهنَّ مهورَهنَّ بما شرَعه اللهُ تعالى، دون أن تبخَسوهنَّ شيئًا مِن مهورِهنَّ، أو تُماطِلوا في دَفعِه إليهنَّ .
مُحْصَنَاتٍ
أي: فانكِحوهنَّ، والحالُ أنَّهنَّ عفيفاتٌ عن الزِّنا؛ فهذا شرطٌ من شروط نِكاحِهنَّ .
غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ
أي: غيرَ الزَّانياتِ علانيةً، اللَّاتي لا يمتنِعْنَ مِن أحَدٍ أرادهنَّ بالفاحشةِ .
وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ
أي: ولا تنكِحوا أيضًا الزَّوانيَ المتستِّراتِ، اللَّاتي يتَّخِذْنَ أخلَّاءَ وأصدقاءَ لاقترافِ الزِّنا معهم خفيةً .
فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
القِرَاءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قوله تعالى: فَإِذَا أُحْصِنَّ [النساء:25] قراءتان:
1- قِراءة (أَحْصَنَّ)- بفَتحِ الألِفِ والصَّادِ على البِناءِ للفاعلِ- على مَعنى: أنَّ الإماءَ إذا أسلَمْنَ أَحصَنَّ فُروجَهنَّ بالإسلام، أي: أعْفَفْنَها، وقيل: أَحصَنَّ أنفُسَهنَّ بالتزويجِ، بإسنادِ الفِعْلِ إليهنَّ .
2- قِراءة (أُحْصِنَّ) على صِيغةِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه -والفاعِلُ هو الأزواجُ- على جَعْلِ الإماءِ مَفْعولاتٍ بإحْصانِ أزواجِهنَّ إيَّاهنَّ، وقيل: إنَّه بمعنى أسلمْنَ فأَحصَنَّ أنفُسَهنَّ بالإسلامِ .
فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
أي: فإن أُحصِنَ الإماءُ بالزواج، ثمَّ وقَعْنَ في الزِّنا .
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ
أي: فعليهنَّ من الحدِّ نصفُ ما على الحرائرِ، اللَّاتي زَنَيْنَ قبل الإحصان بالزَّواجِ، فيكون على الإماءِ خمسونَ جَلدةً .
ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ
أي: ذلك الَّذي أباحَه اللهُ تعالى لكم- مَعشرَ الرِّجال- مِن نِكاحِ الإماءِ المؤمناتِ العفيفاتِ، إنَّما أباحه جلَّ وعلا لِمَن شقَّ عليه منكم الصَّبرُ عن الجِماعِ، فخاف الوقوعَ في الزِّنا .
وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ
أي: وصبرُكم- أيُّها الرِّجالُ- عن نِكاحِ الإماء، إلى أن يتيسَّرَ لكم نكاحُ الحُرَّةِ، أفضلُ لكم .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أي: إنَّ اللهَ تعالى غفورٌ لِمن تزوَّج الإماءَ؛ إذ تجاوَز عن الإثمِ، فأباح نكاحَهنَّ بشروطِه رفعًا للحَرَج، وهو الرَّحيمُ، الَّذي وسِعَتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ، ومن ذلك تشريعُه لنكاحِ الإماءِ، فلم يُضيِّقْ على عبادِه، بل وسَّع عليهم غايةَ السَّعةِ

.
الفوائد التربوية:

1- استعمالُ ما يكون سببًا لقَبولِ الحُكم، وهو ما يُمكنُ أن نُعبِّرَ عنه بتخفيفِ الأمر على المحكوم عليه؛ لقوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؛ وذلك أنَّ العربَ كانوا يأنَفون أنَفةً كبيرة بالنسبةِ للأرقَّاء، ويرَوْن أنَّ مَن نكح رقيقةً فقد أتى شيئًا فاحشًا عظيمًا، ويقولون: الرَّقيقةُ مملوكةٌ، والبعيرُ مملوكٌ؛ ولهذا أرشَد الله إلى هذا الأمر بقوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؛ لتهوينِ الأمرِ على النَّاس، فيؤخَذُ مِن هذا أنَّه ينبغي للمتكلِّمِ أن يخاطِبَ المخاطَبَ بما يهوِّنُ عليه الحُكمَ
.
2- قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: الحكمةُ في ذِكرِ هذه الكلمة أنَّ العربَ كانوا يفتخرون بالأنسابِ، فأعلَمَ في ذِكر هذه الكلمةِ أنَّ اللهَ لا ينظُرُ ولا يلتفِتُ إليه

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- إثبات الرِّقِّ؛ لقوله: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وهذا أمرٌ مجمَعٌ عليه بين المسلمين، ولا يمكن لأحدٍ الإنكارُ؛ لأنَّه في القرآن، وفي السُّنَّةِ، وبإجماعِ المسلمينَ، ولكنْ لا يجوز أن يُسْتَرَقَّ الإنسانُ لأيِّ سببٍ، بل لا بدَّ من سببٍ شرعيٍّ
.
2- صِحَّةُ إطلاقِ البعض على الكلِّ؛ لقوله: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ؛ لأنَّ «أيمان» جمعُ «يمين» وهي اليدُ، والمِلك في الحقيقة مِلكٌ للإنسان كلِّه، لكن عبَّر باليمينِ؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ الأخذَ والإعطاءَ يكونُ بها .
3- كتابُ الله سبحانه ينقسِمُ إلى قسمين: كتابٍ شرعيٍّ؛ كما في قوله تعالى في هذا الموضع: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، وكما في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183] ، وكتابٍ كَوْنيٍّ؛ كما في قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ: 29] ، أي: الكتاب القدريَّ، وكما في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] .
4- أنَّ المحلَّلاتِ من النِّساء أكثرُ من المحرَّماتِ، ويُؤخَذُ من قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، ووجهُ ذلك: أنَّه حصَر المحرَّماتِ، وعمَّمَ في المُحلَّلاتِ؛ لذا فمَن ادَّعى تحريمَ امرأةٍ فعليه الدَّليلُ، فلو خطَب إنسانٌ امرأةً، فقال له بعضُ النَّاس: إنَّ هذه المرأةَ مِن المحرَّماتِ عليك، فلا بدَّ أن يُقيمَ دليلًا على ذلك؛ لأنَّ المحرَّماتِ محصوراتٌ، والمحلَّلاتِ الأمرُ فيهنَّ مُطلَقٌ .
5- وجوبُ بذلِ المال في النِّكاح ؛ لقوله: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ وقوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا .
6- تحريمُ المتعة؛ لقوله تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ، وصاحبُ المتعةِ لا يريد الإحصانَ، بل إنَّه يريد السِّفاح؛ لأنَّ مَن أراد الإحصانَ فإنَّ الإحصانَ لا يحصُلُ إلَّا بالملازمةِ، وزواجُ المتعة إنَّما هو للسِّفاحِ فقط، أي: لسَفْحِ هذا الماءِ الَّذي ضيقَ عليه؛ ولذلك فلا يثبُتُ به شيءٌ من أحكام النِّكاحِ؛ فليس فيه طلاقٌ، ولا نسَبٌ، ولا عِدَّة، ولا إحصانٌ، فكلُّ أحكام النِّكاح لا تترتَّبُ عليه، حتَّى عند القائلين بجوازه، فدلَّ هذا على أنَّه سِفاحٌ .
7- في قوله: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ تسميةُ المهرِ أجرًا، ووجهه: أنَّه عِوَضٌ في مقابلِ منفعةٍ، لا في مقابل عَينٍ، فلو كان في مقابل عينٍ لسُمِّي بيعًا، لكنَّه في مقابلِ المنفعة، وهو استمتاعُ الزَّوج بالزَّوجة، فصار مِثلَ الإجارة .
8- في قوله: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أنَّ المهرَ لازمٌ كلزومِ الأُجرة على المستأجِر، ولكن إذا سمَح مَن له الحقُّ فإنَّه يسقُطُ؛ لقوله تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة: 237] .
9- وجوبُ إيتاءِ النِّساءِ مهورَهنَّ؛ لقوله: فَرِيضَةً أي: مفروضًا عليكم أن تؤتوهنَّ أجورَهنَّ .
10- أنَّه إذا تراضى الزَّوجُ والزَّوجة على زيادةٍ أو نَقْصٍ أو إسقاطٍ، فلا حرجَ؛ لقوله: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، ونأخُذُ مِن ذلك قاعدةً مهمَّةً، وهي: (أنَّ ما أوجَبه اللهُ عزَّ وجلَّ لحقِّ الإنسانِ، وأسقَط هذا الإنسانُ- صاحبُ الحقِّ - حقَّه، فلا إثْمَ على مَن لم يقُمْ به) .
11- الحثُّ على تزوُّجِ الحرائرِ المؤمناتِ، ووجهُ ذلك: أنَّ اللهَ لم يرخِّصْ في العدولِ عن نكاحِهنَّ إلَّا لحاجةٍ وعُذرٍ؛ لقوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ .
12- يستفاد من قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ نقْصُ مرتبةِ الرِّقِّ عن مرتبة الحرِّيَّة، وهو كذلك؛ فإنَّ الرَّقيقَ مملوكٌ يُباعُ ويُشتَرى، ولا يملِكُ نفسَه، حتَّى إنَّه إذا قُتِل فإنَّ دِيَتَه قيمَتُه وليس دِيَةَ حُرٍّ .
13- أنَّه لا يحِلُّ لِمَن لا يَجِدُ طَوْلَ الحُرَّةِ المؤمنةِ أنْ يَتزوَّجَ أمَةً كتابيَّةً، ويُؤخَذُ من قولِه: فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ، أي: فلا يحِلُّ أن يتزوَّجَ أمَةً كتابيَّة، وإذا لم يعجِزْ عن طَوْلِ الحُرَّة المؤمنةِ، فلا يتزوَّجُ أمَةً كتابيَّةً من بابِ أَوْلى، وبهذا يتبيَّنُ أنَّ الأمَةَ الكتابيَّةَ لا يحِلُّ للمؤمِنِ تزوُّجُها .
14- في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ... أمَر الله بنكاح الإماءِ عند العجزِ عن الحرائرِ، وكانوا في الجاهليَّةِ لا يرضَوْنَ بنكاحِ الأمَة وجعْلِها حَليلةً، ولكن يقضُون منهنَّ شهواتِهم بالبِغاءِ، فأراد الله إكرامَ الإماءِ المؤمناتِ، جزاءً على إيمانهنَّ، وإشعارًا بأنَّ وَحدةَ الإيمانَ قرَّبتِ الأحرارَ من العبيدِ، فلمَّا شرَعَ ذلك كلَّه ذيَّله بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ، أي: بقوَّتِه، فلمَّا كان الإيمانُ هو الَّذي رفَع المؤمنينَ عند الله درجاتٍ، كان إيمانُ الإماءِ مقنِعًا للأحرارِ بتركِ الاستنكافِ عن تزوُّجِهنَّ؛ ولأنَّه رُبَّ أمَةٍ يكونُ إيمانُها خيرًا من إيمانِ رجلٍ حرٍّ .
15- تحريم اتِّخاذِ الأخدان من الرِّجال؛ لقوله: وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، وحتَّى لو لم يحصُلِ الزِّنا؛ فإنَّ اتخاذَ الأخدان- يعني: الأصحاب والأصدقاء- سببٌ للزِّنا؛ ولهذا نُهِيَ عن الخَلوة بالمرأة خوفًا من ذلك، ونُهِيَ أن تخضَعَ بالقولِ خوفًا من ذلك .
16- في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ... أنَّه لا يجوز للحرِّ المُسلمِ نكاحُ أمَةٍ إلَّا بأربعةِ شروطٍ ذكَرها الله: إيمانهن- فلا يجوز التَّزوُّجُ بالأمَةِ الكتابيَّة، سواءٌ كان الزَّوجُ حرًّا أو عبدًا- والعفَّة ظاهرًا وباطنًا، وعدم استطاعة طَوْلِ الحُرَّة، وخوفُ العَنَتِ، فإذا تمَّتْ هذه الشُّروطُ جاز له نكاحُهنَّ .
17- الرُّجوعُ إلى العُرف، وتؤخَذُ من قوله: بِالْمَعْرُوفِ، وهذه قاعدةٌ للشَّيء الَّذي لم يحدِّدْه الشَّرع؛ أن نرجعَ فيه إلى العُرفِ .
18- أنَّه لا حدَّ على الأمَةِ إلَّا بعد الإحصانِ؛ لقوله: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ، أي: فإن زنَتْ قبل الإحصانِ فلا حدَّ عليها، وإنَّما تُجلَدُ جَلدَ تعزيرٍ .
19- أنَّه لا رجْمَ على الأمَة إذا زنَتْ ولو بعد أن تتزوَّجَ، وجهُ ذلك: أنَّ الرَّجمَ لا يتنصَّفُ، والله عزَّ وجلَّ قال: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ؛ ولهذا اشترط العلماءُ للرَّجمِ أن تكونَ الزَّانيةُ حُرَّةً .
20- في قوله تعالى: ... فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ... حُسْنُ التَّرتيبِ في سياق القرآن؛ لأنَّ اللهَ سبحانه ذكَر مسألة الزِّنا بين الشُّروطِ في نكاح الأمَةِ، للإشارةِ إلى أنَّ عند الأمَة مِن دنوِّ المنزلةِ ما لا يمنَعُها من الزِّنا، فهذا من حكمةِ النَّهيِ عن نكاحِ الإماءِ إلَّا بالشُّروطِ .
21- الصَّبر عن نكاحِ الإماء أفضلُ؛ وهذا إذا أمكَن الصَّبرُ، فإن لم يمكِنِ الصَّبرُ عن المحرَّمِ إلَّا بنكاحِهنَّ وجَب ذلك؛ ولهذا قال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
22- قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.... وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ دالٌّ على التَّحذيرِ من نكاحِ الإماءِ، وأنَّه لا يجوزُ الإقدامُ عليه إلَّا عند الضَّرورةِ، وذلك لهذه الأسباب:
السَّبب الأوَّل: أنَّ الولدَ يتبَعُ الأمَّ في الرِّقِّ والحرِّيَّة، فإذا كانت الأمُّ رقيقةً عُلِّقَ الولدُ رقيقًا، وذلك يوجِبُ النَّقصَ في حقِّ ذلك الإنسانِ وفي حقِّ ولدِه، والثَّاني: أنَّ الأمَة قد تكون تعوَّدت الخروجَ والبُروزَ والمخالطةَ بالرِّجال، وصارت في غايةِ الوقاحةِ، وربَّما تعوَّدت الفجورَ، وكلُّ ذلك ضررٌ على الأزواجِ، الثَّالث: أنَّ حقَّ المولى عليها أعظمُ مِن حقِّ الزَّوجِ، فمِثلُ هذه الزَّوجة لا تخلُصُ للزَّوج كخُلوصِ الحُرَّة، فربَّما احتاج الزَّوجُ إليها جدًّا ولا يجِدُ إليها سبيلًا؛ لأنَّ السَّيِّدَ يمنَعُها ويحبِسُها، الرَّابع: أنَّ المولى قد يبيعُها من إنسانٍ آخرَ، فعلى قولِ مَن يقولُ: بيعُ الأمَةِ طلاقُها، تصير مطلَّقةً، شاء الزَّوجُ أم أبى، وعلى قول مَن لا يرى ذلك فقد يسافِرُ المولى الثَّاني بها وبولدِها، وذلك مِن أعظمِ المضارِّ، الخامس: أنَّ مهرَها مِلكٌ لمولاها، فهي لا تقدِرُ على هِبةِ مهرِها من زوجها، ولا على إبرائِه عنه، بخلاف الحُرَّةِ؛ فلهذه الوجوهِ ما أذِن اللهُ في نكاح الأمَةِ إلَّا على سبيل الرُّخصةِ، واللهُ أعلم .
23- أنَّ المباحَ قد يكون مستويَ الطَّرفينِ، كما هو الأصل، وقد يكون مرجوحًا، كما هنا؛ لأنَّ اللهَ تعالى أحلَّ لنا نكاحَ الإماء بالشَّرطينِ، لكن قال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ .
24- أنَّ الأمر بالشَّيء قد يُستفادُ من الثَّناءِ على فاعله؛ لقوله: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ، فكأنَّه قال: اصبِروا، لكنَّه جعله على وجهِ التَّرغيبِ .
25- صيَّر الفقهاء هذه الآية فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَة ٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ أصلًا في نُقصانِ حُكمِ العبدِ عن حُكمِ الحُرِّ في غير الحدِّ، وإن كان في الأمورِ ما لا يجبُ ذلك فيه

.
بَلاغةُ الآيتين:

1- قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ: عطفٌ على قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ... إلخ، وتوسيطُ قوله تعالى: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] بينهما؛ للمبالغةِ في الحَمْلِ على المحافظةِ على المحرَّماتِ المذكورةِ
.
- وعلى قِراءة (وأَحَلَّ لَكَمْ) بالبِناءِ للفاعل؛ فالضَّميرُ المستتِرُ عائدٌ إلى اسمِ الجلَالةِ من قوله: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، فيكون فيه إسنادُ التَّحليلِ إلى اللهِ تعالى إظهارًا للمنَّةِ؛ ولذلك خالَف طريقةَ إسنادِ التَّحريم إلى المجهولِ في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ؛ لأنَّ التَّحريم مشقَّةٌ؛ فليس المقامُ فيه مقامَ منَّةٍ .
- قوله: مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ: إشارة إلى ما ذُكِرَ من المحرَّماتِ المعدودة، وفيه إيثارُ التَّعبيرِ باسمِ الإشارة ذَلِكُمْ على التَّعبيرِ بالضَّميرِ؛ حيث لم يقُل (مَا وَرَاءَهُ)، واسمُ الإشارةِ يدلُّ على ذاتِ المشارِ إليه ووَصْفِه، والضَّميرُ يدلُّ على الذَّات فقط؛ فلعَلَّ في هذا تَذكيرًا بما في كلِّ واحدةٍ مِنَ النِّساءِ المحرَّمات مِنَ الصِّفة التي عليها يَدورُ حُكمُ الحُرمةِ؛ فيُفهَم مشاركةُ مَن في مَعناهنَّ لهنَّ فيها بطَريقِ الدَّلالةِ؛ كحُرمةِ الجمْع بينَ المرأةِ وعمَّتها وبَينَها وبين خالتِها؛ فإنَّها ليستْ بطريقِ العِبارة، بل بطريقِ الدَّلالةِ .
2- قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ: فيه طباقٌ؛ إذ المُحْصَن الَّذي يمنَعُ فَرْجَه، والمسافِحُ الَّذي يبذُله ، وهو يُبرِز المعنى ويوضِّحه، مع ما فيه مِن التَّأكيدِ.
3- قوله: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ في قوله: مِنَ النِّسَاءِ احتراسٌ؛ إذ المُحصَنات قد يُراد بها الأنفُس المحصَناتُ، فيدخُل تحتَها الرِّجالُ، فاحترز عن ذلِك بقوله: مِنَ النِّسَاءِ .
- وفيه: إطلاقُ المُحصناتِ على النِّساء اللَّاتي يتزوَّجُهنَّ الرِّجال، باعتبار المآلِ الَّذي يُصار إليه، أي: اللَّائي يَصِرْن مُحْصَناتٍ بذلك النِّكاح .
- وفيه وصفُ المُحَصنات بالمؤمناتِ؛ جريًا على الغالِبِ .
4- قوله: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ الإضافة في قولِه: أَيْمَانُكُمْ وقوله: مِنْ فَتَيَاتِكُمُ للتَّقريبِ وإزالةِ ما بقِيَ في نفوسِ العربِ من احتقارِ العبيدِ والإماءِ، والتَّرفُّعِ عن نكاحِهم وإنكاحِهم، وكذلك وصْفُ المؤمناتِ .
- وقوله: الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، ومِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ فيه تَكرارُ لَفْظِ (المؤمنات) ؛ للتَّأكيدِ على وصْف الإيمان.
5- قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ: جملةٌ مُعترِضة جيءَ بها لتأنيسِهم بنِكاحِ الإماء، واستنزالِهم مِن رُتبةِ الاستنكافِ منه، ببيان أنَّ مناطَ التَّفاضُل ومدارَ التفاخرِ هو الإيمانُ دون الأحسابِ والأنسابِ .
6- قوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ: تذييلٌ ثانٍ، أكَّد به المعنى الثَّانيَ المراد من قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ .
7- قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ: جاءتْ خاتمةً للآية، وهذا كالمؤكِّد لِمَا ذكَره مِن أنَّ الْأَوْلى تركُ هذا النِّكاح، يعني: أنَّه وإنْ حصَلَ ما يَقتضي المنعَ مِن هذا الكلام، فإنَّه تعالى أباحه لكم؛ لاحتياجِكم إليه، فكان ذلك من بابِ المغفرةِ والرَّحمةِ .
- وفيه مبالغةٌ في وصفِ المغفرةِ والرَّحمة ، مع ما في الجملة الاسميَّة من التَّأكيدِ والدَّلالةِ على الثُّبوت والدَّوام، وما في إظهارِ الاسمِ الجَليل مكانَ الإضمارِ من تربية المَهابة.


===============10.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (26- 28)
ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
غريبُ الكَلِمات:

سُنَنَ: أي: طَرائِقَ ومَناهِجَ، جمْع سُنَّةٍ، وهي الطَّريقةُ المسلوكةُ، والمنهاج المُتَّبع
.
تَمِيلُوا مَيْلًا: أي: تَجورُوا جَورًا وتَنحرِفوا انحرافًا، والمَيل: العدولُ عن الوسَط إلى أحدِ الجانبَيْن، وأصلُه: الانحرافُ في الشَّيء إلى جانبٍ منه

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يخاطِب اللهُ تعالى عباده مخبرًا إيَّاهم أنَّه يُريد بما يأتي به من أحكامٍ وتشريعاتٍ أن يُبيِّنَ لهم ما يحِلُّ لهم، وما يَحْرُمُ عليهم، كما يُريد أن يُرشِدَهم عزَّ وجلَّ إلى الطَّريقة الَّتي كان عليها الأنبياءُ الَّذين كانوا قبلهم، وأتباعُهم، ويريد أنَّ يوفِّقَهم سبحانه وتعالى للتَّوبة ويتقبَّلَها منهم، والله عليمٌ حكيم.
وبمقابل إرادةِ الله للتَّوبةِ على عباده، يريد منهم الَّذين يطلُبونَ لذَّاتِ الدُّنيا، وشهواتِ أنفسهم- مِن الكفرةِ وأهلِ الفِسق- أن يميلوا ميلًا شديدًا من الحقِّ إلى الباطلِ، وعمَّا أحَلَّه اللهُ إلى ما حرَّمه.
واللهُ سبحانه وتعالى يريد التَّيسيرَ على العبادِ فيما يشرَعُه مِن أوامرَ ونواهٍ؛ لعِلْمِه عزَّ وجلَّ بأنَّ الإنسانَ خُلِق ضعيفًا.
تفسير الآيات:

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر الله عزَّ وجلَّ المحَرَّماتِ من النساء أخبر أنَّ في ذلك بيانًا وهدًى، حتَّى لا تكونَ شريعةُ هذه الأُمَّةِ دون شرائعِ الأُمَمِ الَّتي قبلها، بل تفُوقُها في انتظامِ أحوالها، يُقصَد منه استئناسُ المؤمنين واستنزالُ نفوسِهم إلى امتثالِ الأحكامِ المتقدِّمةِ من أوَّلِ السُّورة إلى هنا؛ فإنَّها أحكامٌ جمَّةٌ، وأوامرُ ونواهٍ تُفضي إلى خَلعِ عوائدَ ألِفوها، وصَرْفِهم عن شهواتٍ استباحوها، كما أشار إليه قولُه بعد هذا: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ فكان هذا كالاعتذارِ على ما ذُكِر مِن المحرَّماتِ
فقال تعالى:
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ
أي: يُريد اللهُ تعالى أن يبيِّنَ لكم ما أحَلَّ لكم، وما حرَّم عليكم، ممَّا تقدَّم ذِكرُه في هذه السُّورة وغيرِها .
وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
أي: ويريدُ الله تعالى أن يُرشدَكم إلى سُبل مَن قَبلكم مِن الَّذين أنعَم اللهُ عليهم من النَّبيِّين وأتباعِهم، ويوفِّقَكم لتسلكوا طرائقَهم الحميدةَ، وتتَّبِعوا شرائعَه الَّتي يُحبُّها ويرضاها سبحانه .
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ
أي: ويريد اللهُ عزَّ وجلَّ أن يوفِّقَكم للتَّوْبةِ إليه ويقبَلَها منكم .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو علمٍ بكلِّ شيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بما يُصْلِح عبادَه في دِينهم ودنياهم، ومن ذلك هذه الأحكامُ والحدودُ الَّتي علَّمهم إيَّاها.
وهو ذو الحِكمة، الَّذي مِن حكمتِه هذه الأحكامُ الَّتي شرَعها لعباده، ومن حكمته أنَّه يتوب على مَن اقتضَتْ حكمتُه ورحمتُه التَّوبةَ عليه، ويخذُلُ مَن اقتضَتْ حكمتُه وعدلُه مَن لا يصلُحُ للتَّوبة .
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ
أي: واللهُ عزَّ وجلَّ يريد أن يوفِّقَكم للتَّوْبةِ إليه ويقبَلَها منكم .
وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا
أي: ويريد الَّذين يطلُبون لذَّاتِ الدُّنيا وشهواتِ أنفسِهم فيها، مِن أهل الكفرِ والفسوقِ والعصيانِ، أن تَميلوا ميلًا شديدًا من الحقِّ إلى الباطلِ، وممَّا أحلَّ اللهُ تعالى لكم إلى ما حرَّم عليكم، فتكونوا أمثالَهم .
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أعقَب الاعتذارَ الَّذي تقدَّم بقوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [النساء: 26] بالتَّذكير بأنَّ اللهَ لا يزال مراعيًا رِفقَه بهذه الأمَّة، وإرادتَه بها اليُسرَ دون العُسرِ، إشارةً إلى أنَّ هذا الدِّين بيَّن حِفظَ المصالح ودَرْءَ المفاسد، في أيسرِ كيفيَّةٍ وأرفَقِها، فربَّما ألغت الشَّريعةُ بعضَ المفاسِدِ إذا كان في الحَملِ على تركِها مشقَّةٌ أو تعطيلُ مصلحةٍ، كما ألغت مفاسدَ نكاحِ الإماء نظرًا للمشقَّةِ على غيرِ ذي الطَّول .
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ
أي: يريد اللهُ عزَّ وجلَّ أن ييسِّرَ عليكم في أوامرِه ونواهيه، ومن ذلك إباحتُه نكاحَ الإماءِ بشروط .
وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا
أي: خفَّف اللهُ تعالى عنكم؛ لعِلْمِه بضَعف الإنسانِ في نفسِه، وبَدَنه، وضَعْف عَزمه، وهِمَّته، وصَبْره

.
الفوائد التربوية:

1- مراقبة اللهِ في السِّرِّ والعلانية، وتؤخذ مِن ثبوت صفةِ العِلم؛ لأنَّك متى علمتَ أنَّ اللهَ عالمٌ بك، فإنَّ ذلك يُوجِبُ لك مراقبةَ اللهِ سبحانه؛ فلا يَفْقِدُك حيث أمَرك، ولا يَجِدُك حيث نهاك، قال تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
.
2- في قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إثباتُ اسمِ الله «الحكيم» وصِفةِ الحكمةِ له: الذي يجعل الإنسان مقتنعًا بما يُجري اللهُ عزَّ وجلَّ من حُكمٍ شرعيٍّ وحُكم كونيٍّ، وجهُ ذلك: أنَّ ما يُجريه اللهُ عزَّ وجلَّ من الأحكام مقرونٌ بالحِكْمة، وإذا علِمْتَ ذلك اقتنعْتَ، سواءٌ كان هذا في الأحكامِ الكونيَّةِ، أو في الأحكام الشَّرعيةِ، حتَّى المصائبُ الَّتي تنالُ العبادَ لا شكَّ أنَّ لها حِكمةً ينبغي أن يقتنعَ الإنسانُ بوجودِها، ولا يَعترِضَ على اللهِ تعالى بها .
3- الحَذَرُ من الَّذين يتَّبِعون الشَّهوات؛ لأنَّهم يريدون منَّا أن نَميل ميلًا عظيمًا، والشَّهواتُ قد تكونُ شهوةَ بطنٍ وفَرْجٍ، وقد تكون شهوةَ فِكرٍ وقَلْب، وكِلا الأمرين مرادٌ هنا، قال تعالى: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا .
4- قوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا فيه الحَذَر مِن أهل البِدَع؛ لأنَّ أهلَ البِدَع ينقسمون إلى قِسْمين: قسمٍ عندهم شبهاتٌ، وقسمٍ عندهم شهواتٌ؛ فالجاهلُ منهم عنده شبهاتٌ حتَّى يلتبسَ عليه الحقُّ بالباطِلِ، والعالِم منهم عنده شهواتٌ؛ فهو يريد ما لا يريدُ اللهُ ورسولُه، ففي الآية التَّحذيرُ من هؤلاء وهؤلاء .
5- في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ إشارةٌ إلى انحطاط مرتبةِ الَّذين يتَّبِعون الشَّهواتِ؛ حيث جعَلهم اللهُ أتباعًا تقُودُهم الشَّهواتُ، ومن الذُّلِّ أن يكونَ الإنسانُ تابعًا للشَّهوات؛ لأنَّ العزَّة أن يكونَ الإنسانُ متبوعًا، فإذا كان تابعًا فمعناه أنَّ شهواتِه ملَكَتْه حتَّى صار تابعًا، وكأنَّه مجبَرٌ على ذلك .
6- أنَّ إرادةَ المتَّبِعين للشَّهواتِ بنا لا تقتصِرُ على أدنى مَيْلٍ، وتؤخَذُ من قوله: أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا، فإذا كان كذلك فإنَّنا إذا مِلْنا قليلًا تابَعوا حتَّى نميلَ ميلًا عظيمًا، نسأل اللهَ السَّلامةَ! .
7- أنَّ الإنسانَ ينبغي له إذا شمَخَتْ به نفسُه وعلا أنفُه أن يذكُرَ حقيقةَ نفسِه، وهي الضَّعفُ، حتَّى لا يطغَى؛ لقوله: وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- سَعةُ رحمةِ الله عزَّ وجلَّ بعباده؛ حيث أراد أن يبيِّنَ لهم؛ لأنَّ مِن لُطفِه وكرَمِه ألَّا يدَعَ النَّاسَ على جهلِهم؛ قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ؛
.
2- أنَّه ليس في الشَّرع شيءٌ مجهولٌ لكلِّ أحدٍ؛ لقوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ؛ فالشَّرعُ لا يُمكِنُ أن يكونَ خفيًّا على كلِّ أحدٍ، لكنَّه يخفى على الإنسانِ لأسباب: إمَّا قلَّة العِلم، وإمَّا قصورُ الفَهم، وإمَّا التَّقصيرُ في الطَّلب، وإمَّا سوءُ القصد، فهذه أربعةُ أسبابٍ لخفاءِ الحُكم الشَّرعيِّ على الإنسانِ .
3- كمالُ هذه الأمَّةِ وشريعتِها؛ لقوله: وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فما من خيرٍ كانت عليه الأُممُ إلَّا ولهذه الأمَّةِ منه نصيبٌ .
4- في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْأنَّ اليُسرَ أحبُّ إلى اللهِ من العُسرِ؛ لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ففيه الحثُّ على اتِّباعِ رُخَصِ اللهِ؛ لأنَّ الرُّخَصَ من التَّيسيرِ .
5- أنَّه إذا تعارَضَتِ الأدلَّةُ عند المستدِلِّ بين التَّيسيرِ والتَّعسيرِ، فالْأَوْلى أن يؤخَذَ بالتَّيسيرِ؛ لأنَّ هذا هو مرادُ اللهِ عزَّ وجلَّ، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ .
6- الإشارةُ إلى العلَّة بإرادةِ التَّخفيفِ على العبادِ، وهي قوله: وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا .
7- أنَّ ما كان مكروهًا للعبدِ، فإنَّ الله يُعبِّرُ عنه بالبناءِ للمفعولِ: وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ولم يقُلْ: خلَق اللهُ، مع أنَّ ذِكرَ اللهِ واردٌ في الجملة الَّتي قبلها، ويؤيِّد هذا قولُ الجِنِّ: وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن: 10] ، ويؤيِّده أيضًا ما في سورة الفاتحة: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فأضاف النِّعمةَ إلى اللهِ، وقال في الغضَب: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، ولم يقُلِ: الَّذين غضِبْتَ عليهم، مع أنَّ أوَّلَ مَن غضِب عليهم هو اللهُ عزَّ وجلَّ

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ: تذييلٌ قُصِد منه استئناسُ المؤمنين، واستنزالُ نفوسِهم إلى امتثالِ الأحكامِ المتقدِّمة من أوَّلِ السُّورةِ إلى هنا
.
- وهو استئنافٌ مسُوقٌ لتقريرِ ما سبَق من الأحكام، وبيان كونها جاريةً على مناهجِ المهتدينَ من الأنبياءِ والصَّالحين .
- وعبَّر بصيغةِ المضارعِ هنا يُرِيدُ؛ للدَّلالةِ على تجدُّدِ البيانِ واستمرارِه؛ فإنَّ هذه التَّشريعاتِ دائمةٌ مستمرَّةٌ، فيكون بيانًا للمخاطَبينَ ولِمَن جاء بعدَهم، وللدَّلالةِ على أنَّ الله يُبقي بعدها بيانًا متعاقبًا .
- وزِيدت اللَّامُ في قوله: لِيُبَيِّنَ؛ للتَّأكيدِ على إرادةِ التَّبيينِ، وكذلك لتأكيدِ معنى الاستقبال اللَّازم للإرادة .
2- قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ: فيه مبالغةٌ في الوصْفِ بالعِلم بالأشياء، الَّتي مِن جملتِها ما شرَع لكم من الأحكامِ، كما فيه مبالغةٌ في وصْفِه بمراعاةِ الحِكمةِ والمصلحة في جميعِ أفعالِه سبحانه ، مع ما في جمْعِ الوصفينِ من الكَمالِ والمبالغةِ كذلك.
3- قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ: جملةٌ مسُوقةٌ لبيانِ كمالِ منفعةِ ما أراده اللهُ تعالى، وكمالِ مَضرَّةِ ما يريد الفجرةُ، لا لبيانِ إراداتِه تعالى لتوبتِه عليهم؛ حتَّى يكونَ مِن بابِ التَّكريرِ للتقريرِ؛ ولذلك غيَّر الأسلوبَ إلى الجملةِ الاسميَّة؛ للدَّلالةِ على دوامِ الإرادةِ .
- وقد كرَّر قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ؛ للتَّأكيدِ والمبالغةِ ، وما في ذلك من سرور المؤمنين وزيادة نشاطِهم في التَّعرُّضِ لتوبة الله عزَّ وجلَّ، وأيضًا توطئةً وتمهيدًا لقوله: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ...، والمعنى أنَّ اللهَ له هذه الإرادةُ، وللَّذين يتَّبِعون الشَّهواتِ تلك الإرادةُ ، وقيل: ليس هذا بتأكيدٍ لفظيٍّ، وهذا كما يُعادُ اللَّفظُ في الجزاء والصِّفةِ ونحوهما .
4- قوله: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا: الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مسُوقٌ لتقريرِ ما قبله من التَّخفيفِ بالرُّخصةِ في نكاحِ الإماء، وليس لضعفِ البِنية مدخلٌ في ذلك، وإنَّما الَّذي يتعلَّقُ به التَّخفيفُ في العبادات الشَّاقَّة ، ففيه إظهارٌ لمزيَّةِ هذا الدِّينِ، وأنَّه أليقُ الأديانِ بالنَّاسِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ ولذلك فما مضى من الأديانِ كان مُراعًى فيه حالٌ دون حالٍ .
وحُذِفَ الفاعلُ للعلم به؛ فإنَّ الخالقَ هو الله عزَّ وجلَّ، وذلك معلومٌ بالضَّرورةِ .
- وقوله: ضَعِيفًا فيه التَّعبيرُ باسمِ ما يؤولُ إليه، أو باسْمِ أصلِه .

=======================11.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (29- 31)
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ
غريبُ الكَلِمات:

نُصْلِيهِ نَارًا: نُدخِله فيها، ونَشويه بها؛ يقال: صَلَى النارَ، أي: دخَل فيها، وأصلُ (الصَّلَى): الإيقادُ بالنَّار
.
نُكَفِّرْ: أي: نَغْفِر، ونَمحُ، ونستُر، وأصْل الكَفْر في اللُّغة: سَتْر الشَّيءِ وتَغطيتُه

.
مشكل الإعراب:

- قَوْله إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
تِجَارَةً: قُرِئت بالنَّصب، وبالرَّفْع؛ فعلى قِراءة النَّصبِ يكون قوله: تِجَارَةً خبرَ تَكُونَ، ويكون اسم تَكُونَ مُضمرًا فيها، تَقْدِيره: إِلَّا أنْ تكون الأموالُ أموالَ تِجَارَةٍ، ثمَّ حذف المُضَاف وَأقَام الْمُضَاف إليه مقَامه، وَقيل: تَقْدِيره إِلَّا أنْ تكون التِّجَارَةُ تِجَارَةً، وَالتَّقْدِير الأوَّل أحسن؛ لتقدُّم ذِكرِ الْأَمْوَال. وأمَّا على قِراءة الرفع، فيكون قوله: تَجِارَة فاعلًا، بَجَعْل تَكُون تَامَّة بِمَعْنى يَقَع، ومثلُ قولِه: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً قَولُه: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً فِي النَّصب والرفع. والاستثناءُ هنا منقطِعٌ لوجهينِ؛ أحدُهما: أنَّ التِّجارةَ لم تندَرِجْ في الأموالِ المأكولةِ بالباطلِ حتى يُستثنَى عنها، والثاني: أنَّ المُسْتَثنى كَوْنٌ، والكونُ ليس مالًا من الأموالِ

.
المَعْنى الإجماليُّ:

ينهى اللهُ المؤمنين أن يأخذ بعضُهم أموالَ بعضٍ بغيرِ حقٍّ، لكنْ إن كان ما يأخُذُه بعضُهم من بعضٍ عن طريقِ التِّجارةِ المبنيَّة على رضا المتبايِعَيْن، فذلك حلالٌ لهم، كما ينهاهم سبحانه عن أن يقتُلَ أحدُهم نفسَه، أو يقتُل أخاه في الدِّين، إنَّه سبحانه كان بهم رحيمًا.
ثمَّ توعَّد سبحانه مَن يأخُذ أموالَ النَّاس بالباطلِ، ويقتُلُ الأنفُسَ الَّتي حرَّمها الله تعالى بغير حقٍّ، متجاوزًا حدودَ الله عن قصدٍ وعلمٍ بكونه محرَّمًا، بأنه سيُحرِقه سبحانه بنارٍ يُدْخِله فيها، وكان ذلك أمرًا سهلًا على الله.
ثمَّ يخاطِبُ اللهُ عباده: أنَّهم إن يبتعدوا عن الوقوع في كبائر السَّيِّئاتِ الَّتي نهى عنها، فإنَّ الله سيتجاوزُ عمَّا يصدُرُ منهم من صغائرِها، ويُدخِلُهم الجنَّةَ دارَ كرامَتِه.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ الله سبحانه وتعالى لَمَّا بيَّن كيفيَّةَ التَّصرُّف في النُّفوسِ بالنِّكاحِ، بيَّن كيفيَّةَ التَّصرُّفِ في الأموالِ المُوصِلَةِ إلى النِّكاح، وإلى مِلْكِ اليمينِ، وأنَّ المهورَ والأثمانَ المبذولةَ في ذلك لا تكونُ ممَّا مُلِكَت بالباطِلِ
.
أو أنه لَمَّا كان غالبُ ما مضى من السُّورة في معاملةِ اليتامى والأقارب والنِّساء، وسائر النَّاس، من أحكامٍ في المواريثِ والنِّكاحِ وما يُفرَض للنساء وما يجب مِن إيتائِهنَّ أجورَهنَّ ومن أوامرَ بإيتاءِ ذي الحقِّ في المال حقَّه إلى غير ذلك، وكان مدارُ الكلامِ في تلك المعاملات على المال، وبعد ذِكرِ تلك الأنواعِ من الحقوقِ الماليَّةِ ذكَرَ قاعدةً عامَّةً للتَّعاملِ الماليِّ وتشريعًا عامًّا في الأموال والأنفُسِ فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
أي: يا أيُّها المؤمنونَ، لا يأخُذْ بعضُكم أموالَ بعضٍ بغيرِ حقٍّ، من وسائلِ الكَسْبِ المحرَّمةِ؛ كالرِّبا والقِمارِ، وغيرِ ذلك من الأمور الَّتي نهاكم اللهُ عزَّ وجلَّ عنها .
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ
أي: لكنْ إن كان هذا المالُ الَّذي يأخذُه بعضُكم من بعضٍ، إنَّما يؤخَذُ بسببِ تجارةٍ صادرةٍ عن رضًا بين المتبايِعَيْنِ منكم، فذلك حلالٌ لكم .
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
مناسبتها لما قبلها
أنَّ المال لَمَّا كان عديلَ الرُّوح، ونهى عن إتلافِه بالباطلِ، نهى عن إتلافِ النَّفسِ؛ لكونِ أكثرِ إتلافِهم لهما بالغارات لنَهْبِ الأموالِ، وما كان بسببها أو تسبيبها، على أنَّ مَن أُكِل مالُه ثارت نفسُه، فأدَّى ذلك إلى الفِتَن الَّتي ربَّما كان آخرَها القتلُ، فكان النَّهيُ عن ذلك أنسبَ شيءٍ لِما بُنِيَتْ عليه السُّورةُ من التَّعاطُفِ والتَّواصلِ .
وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
أي: لا يقتُلْ أحدُكم نفسَه الَّتي بين جنبيه، ولا يُلقِ بنفسه إلى التَّهلُكة، بفعلِ ما يُفضي إلى التَّلَف، ولا يقتُلْ أيضًا أخاه في الدِّين، (فمن قتَل غيرَه من إخوانِه في الدِّين، فكأنَّما قتَل نفسَه؛ لأنَّهم أهلُ دِينٍ واحدٍ) .
فعن ثابت بن الضَّحَّاكِ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((... ومَن قَتلَ نفسَهُ بشيءٍ في الدُّنيا، عُذِّبَ بِه يومَ القيامةِ )) .
وعن أبي هريرة رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَنْ قتَلَ نفسَهُ بحديدَةٍ، فحديدتُهُ في يدِهِ يتوَجَّأُ بها في بطنِهِ في نارِ جهنَّمَ خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، ومَنْ شرِبَ سَمًّا فقتَلَ نَفْسَهُ، فهو يتحسَّاهُ في نارِ جهنَّمَ خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جبَلٍ فقتَلَ نفسَهُ، فهو يتردَّى في نارِ جهنَّمَ خالدًا مُخَلَّدًا فيها أبدًا )) .
وعن جُندُبِ بنِ عبد الله رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ به جرحٌ، فجَزِع، فأخَذ سِكِّينًا فحزَّ بها يدَه، فما رقأ الدَّمُ حتَّى مات، قال اللهُ تعالى: بادَرني عبدي بنفسِه، حرَّمتُ عليه الجنَّةَ )) .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو رحمةٍ بكم أيُّها العبادُ، ومن رحمتِه سبحانه بِكُم: أنْ نهاكم عن قتلِ نفوسِكم، وعن إتيانِ ما فيه هلاكُها، ومن رحمتِه أيضًا: أنْ حرَّم دماءَ بعضِكم على بعضٍ إلَّا بحقِّها, وحظَر أَخْذَ أموالِ بعضِكم من بعضٍ بالباطل, إلَّا عن تجارةٍ برضًا وطِيبِ نفسٍ, ولولا ذلك لهلَكْتم، ولأهلَك بعضُكم بعضًا، قتلًا وسلبًا وغصبًا .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا
أي: إنَّ مَن يأكُل أموالَ النَّاس بالباطل، ويقتُل النُّفوسَ الَّتي حرَّم اللهُ تعالى قتلها بغير حقٍّ، متجاوزًا بذلك حدودَ الله تعالى إلى ما حرَّمه، ومتجاسرًا على انتهاكِ ذلك، عن قصدٍ وعلمٍ بتحريمِه، لا عن جهلٍ أو نسيانٍ .
فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا
أي: فسوف ندخِلُه نارًا عظيمةً تُحرِقه .
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا
أي: إنَّ إدخالَه النَّارَ وإحراقَه بها، أمرٌ سهلٌ على الله تعالى، لا يمتنعُ عليه .
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى الوعيدَ على فِعلِ بعضِ الكبائر، ذكَر الوعدَ على اجتنابِ الكبائر تبشيرًا للمُجتنب، كأنَّ قائلًا قال عن الوعيدِ المذكور: هذا للفاعل، فما للمُجتنِبِ؟ فقال على وجهٍ عامٍّ :
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
أي: إذا ابتعدْتُم عن كبائرِ السَّيِّئاتِ الَّتي نُهِيتم عنها .
نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
أي: فإنَّ اللهَ تعالى يتجاوَزُ لكم عن صغائرِها .
وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا
أي: ونُدخِلْكم الجنَّةَ

.
الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ أضاف الأموالَ إلى الجميعِ، فلم يقُلْ: لا يأكُلْ بعضُكم مالَ بعضٍ؛ للتَّنبيهِ على تكافُلِ الأمَّةِ في حقوقِها ومصالحِها، كأنَّه يقولُ: إنَّ مالَ كلِّ واحد منكم هو مالُ أمَّتِكم، فإذا استباح أحدُكم أن يأكُلَ مالَ الآخَرِ بالباطل، كان كأنَّه أباح لغيرِه أكلَ مالِه وهَضْمَ حقوقِه; لأنَّ المرءَ يُدانُ كما يَدِينُ
.
2- وممَّا يُستفادُ أيضًا من إضافةِ الأموالِ للجميع في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ أنَّ صاحبَ المالِ الحائزَ له يجبُ عليه بذلُه- أو البذلُ منه- للمحتاجِ، فكما لا يجوزُ للمحتاج أن يأخُذَ شيئًا من مالِ غيرِه بالباطل- كالسَّرقةِ والغَصْبِ- لا يجوزُ لصاحبِ المال أن يبخَلَ عليه بما يحتاجُ إليه .
3- أنَّ مِن مقتضى الإيمانِ تجنُّبَ أكلِ المالِ بالباطل؛ لأنَّه وجَّه الخطابَ إلى المؤمنين، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ .
4- أنَّ الله عزَّ وجلَّ أرحمُ بالإنسانِ من نفسِه؛ لأنَّه نهاه أن يقتُلَ نفسَه، فصار أرحَمَ به مِن نفسِه، قال تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- في قوله تعالى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ تحريمُ التَّعامُلِ المحرَّمِ ولو كان برِضًا من الطَّرَفينِ؛ لأنَّ التَّعاملَ المحرَّمَ أكلٌ للمالِ بالباطل، وعلى هذا فلو تراضى الطَّرفانِ على تعامُلٍ رِبويٍّ فإنَّ ذلك محرَّمٌ
.
2- ويؤخَذُ من قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ أنَّه تنعقِدُ العقودُ بما دلَّ عليها من قولٍ أو فِعل؛ لأنَّ اللهَ شرَط الرِّضا، فبأيِّ طريقٍ حصَل الرِّضا انعقَد به العقدُ .
3- في قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً: خصَّ التِّجارة بالذِّكرِ؛ لأنَّ أسبابَ الرِّزق أكثرُها متعلِّقٌ بها .
4- أنَّ فِعلَ المنهيَّاتِ المذكورةِ في الآية من كبائر الذُّنوب؛ لأنَّه تُوُعِّدَ عليه بالنَّارِ، فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وكلُّ ذنْبٍ تُوُعِّدَ عليه بالنَّارِ فهو من كبائرِ الذُّنوب .
5- دلَّتْ إضافةُ كبائر إلى ما تُنهَون عنه على أنَّ المنهيَّاتِ قسمان: كبائر، ودونها، وهي الَّتي تُسمَّى الصَّغائر، وصفًا بطريق المقابلة، وقد سُمِّيت هنا سيِّئات .
6- قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ فيه تفاضُلُ النَّاسِ في الإيمانِ، وجهُه: أنَّ الإيمانَ يزدادُ بزيادة العملِ كَمِّيَّةً أو كيفيَّة أو نوعًا، وهنا قسَّم اللهُ المعاصيَ إلى قسمينِ، وكلَّما كان الإنسانُ في معصيةٍ أشدَّ، كان إيمانُه أنقَصَ وأقلَّ، فيؤخَذُ منه أنَّ الإيمانَ يزيدُ وينقُصُ، وهذا هو الَّذي عليه جمهورُ أهلِ السُّنَّة، بدليلِ الكتاب والسُّنَّةِ والواقع .
7- أنَّ الصَّغائرَ تقعُ مُكفَّرةً باجتنابِ الكبائرِ؛ لقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، أي: فإن لم يَجتنِبِ الكبائرَ أُخِذَ بالصَّغائرِ، لكنَّ الكبائرَ والصَّغائرَ تحت المشيئة ما لم تكُنْ كفرًا .
8- قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ فيه سَعةُ فَضلِ الله سبحانه؛ وذلك بتكفير السَّيِّئاتِ باجتنابِ كبائرِ الذُّنوب، وإلَّا لو جازى النَّاسَ بالعدل لعاقَبهم على الصَّغائر وعلى الكبائرِ، كلٌّ منها بحسَبِه؛ فالكبائرُ عقوبتُها شديدةٌ، والصَّغائرُ دون ذلك، ولكن مِن فَضْله عزَّ وجلَّ جعَل الصَّغائرَ مُكفَّرةً باجتنابِ الكبائرِ

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: فيه تصديرُ الخِطاب بالنِّداءِ والتَّنبيهِ بـيَا أَيُّهَا؛ لإظهارِ كمال العناية بمَضمونِه
، مع ما في وصْفِ الإيمانِ من التَّرغيبِ في الامتثالِ اللَّائقِ بأهلِ هذا الوَصْفِ.
2- قوله: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ: خصَّ الأكلَ ها هنا بالذِّكرِ، وإنْ كانت سائرُ التَّصرُّفات الواقعةِ على الوجه الباطل محرَّمةً؛ لأنَّ المقصودَ الأعظمَ من الأموال: الأكلُ؛ إذ إنَّ الأكلَ يعبَّرُ عنه في الانتفاعِ بالشَّيء انتفاعًا تامًّا، لا يعود معه إلى الغير؛ فأكلُ الأموالِ هو الاستيلاءُ عليها بنيَّةِ عدمِ إرجاعها لأربابها، وغالب هذا المعنى أن يكونَ استيلاءَ ظُلمٍ، وقد يُطلقُ على الانتفاعِ المأذون فيه؛ ولذلك غلَب تقييدُ المنهيِّ عنه من ذلك بقيدِ: "بالباطل" ونحوِه .
3- قوله: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ... وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: فيه تقديمُ النَّهيِ عن أكلِ الأموالِ على النَّهيِ عن قتلِ الأنفُس، مع أنَّ الثَّانيَ أخطرُ، إمَّا لأنَّ مناسبةَ ما قبله أفضَتْ إلى النَّهيِ عن أكلِ الأموالِ، فاستحقَّ التَّقديمَ لذلك، وإمَّا لأنَّ المخاطَبين كانوا قريبي عهدٍ بالجاهليَّةِ، وكان أكلُ الأموالِ أسهلَ عليهم، وهم أشدُّ استخفافًا به منهم بقتلِ الأنفُس؛ لأنَّه كان يقعُ في مواقعِ الضَّعف حيث لا يدفَعُ صاحبُه عن نفسه؛ كاليتيمِ والمرأةِ والزَّوجة؛ فآكِلُ أموالِ هؤلاء في مأمنٍ من التَّبعاتِ بخلاف قَتْلِ النَّفس؛ فإنَّ تبِعاتِه لا يسلَمُ منها أحدٌ، وإن بلَغ من الشَّجاعةِ والعزَّة في قومه كلَّ مبلغٍ .- أو لأنَّه أكثرُ وقوعًا، وأفشى في النَّاس من القتلِ، لا سيَّما إن كان المرادُ ظاهرَ الآية، مِن أنَّه نهى أن يقتُلَ الإنسانُ نفسَه، فإنَّ هذه الحالةَ نادرةٌ . ويُمكن أنْ يكونَ ذلِكَ من بابِ التدرُّجِ مِن الأدْنى إلى الأعْلى- كما هو الغالِبُ.
- والتَّعبير عنهم بالأنفُسِ؛ للمبالَغةِ في الزَّجرِ عن قتلِهم بتصويرِه بصورةِ ما لا يكادُ يفعَلُه .
4- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا: تعليلٌ للنَّهيِ بطريق الاستئنافِ، أي: مبالِغًا في الرَّحمة والرَّأفةِ؛ ولذلك نهاكم عمَّا نهى؛ فإنَّ ذلك رحمةٌ عظيمةٌ لكم بالزَّجرِ عن المعاصي، وللَّذين هم في مَعرِضِ التعرُّضِ لهم بحفظِ أموالِهم وأنفسِهم .

=================12.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (32- 33)
ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
غريبُ الكَلِمات:

مَوَالِيَ: أولياء، وهم الورَثة، أو العَصَبة، ويُطلَق المولى على ابنِ العَمِّ والحليف وغير ذلك، وأصل وَلِي: قَرُب
.
عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ: الأيمانُ: جمعُ يمين، وهو الحَلِف، وعقدُ اليمين: توثيقُها باللَّفظ مع العزمِ عليها، وأصل عقد: يدلُّ على شدٍّ، وشدَّةِ وُثوقٍ

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يَنهى اللهُ عباده عن تمنِّي ما فضَّلَ به بعضَهم على بعضٍ، مخبرًا أنَّ لكلٍّ من الرِّجالِ والنِّساء جزاءً على ما عمِلوه، إن كان خيرًا فخير، وإن كان شرًّا فشرٌّ، ثمَّ أرشَدهم إلى ما هو خيرٌ لهم، فأمَرهم أن يسألوا اللهَ من فضلِه ليُعطيَهم، فهو سبحانه بكلِّ شيءٍ عليم.
ثمَّ أخبر تعالى أنَّه قد جعل لكلِّ إنسان عَصَبةً يرِثونه بعد موته، فيقتسمون ما حصَل هو عليه وراثةً من أبيه وأمِّه وأقاربه، والَّذين بينكم وبينهم ولاءُ حِلْفٍ معقودٌ بالأيمانِ المؤكَّدة، فأعطوهم نصيبَهم من الميراثِ، وهذا الحكم قد نُسِخَ. ثم أخبر الله تعالى أنه مُطَّلِعٌ ورقيبٌ على كلِّ شيءٍ.
تفسير الآيات:

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا نهاهم الله تعالى في الآيةِ المتقدِّمةِ عن أكْلِ الأموال بالباطل، وعن قتلِ النَّفسِ، نهاهم عن تمنِّي ما فضَّل اللهُ به بعضَهم على بعضٍ؛ فإن التَّمنِّيَ يحبِّبُ للمتمنِّي الشَّيءَ الَّذي تمنَّاه، فإذا أحبَّه أتبَعَه نفسَه، فرَامَ تحصيلَه، وافتَتَن به ووقَع في الحسدِ، وإذا وقَع في الحسدِ وقَع لا محالةَ في أخذِ الأموالِ بالباطلِ، وفي قتْل النُّفوس. فلم يكتفِ بالنَّهيِ عن تحصيلِ المالِ بالباطلِ وقتلِ الأنفُس، حتَّى نهى عن السَّببِ المحرِّضِ على ذلك.
وأيضًا فإنَّ أخذَ المالِ بالباطل، وقَتْلَ النَّفس، من أعمالِ الجوارحِ، فأمَر أوَّلًا بتركِهما؛ ليصيرَ الظَّاهرُ طاهرًا عن الأفعالِ القبيحة، ثمَّ أمَر بَعْده بتركِ التَّعرُّضِ لنفوس النَّاسِ وأموالِهم بالقلبِ على سبيل الحسدِ؛ ليصير الباطنُ طاهرًا عن الأخلاقِ الذَّميمةِ، وليوافِقَ العملُ القلبيُّ العملَ الخارجيَّ، فيستويَ الباطنُ والظَّاهرُ في الامتناعِ عن الأفعالِ القبيحةِ
.
سَببُ النُّزول:
عن ابن عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((أتت امرأةٌ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: يا نبيَّ اللهِ، للذَّكَرِ مِثلُ حظِّ الأُنثيَيْنِ، وشَهادةُ امرأتينِ برجُلٍ، أفنحن في العملِ هكذا؟ إن عمِلَتِ المرأةُ حسنةً كُتِبَت لها نصفَ حسنةٍ! فأنزَل اللهُ: وَلَا تَتَمَنَّوْا... الآية)) .
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
أي: لا تطمَعوا في أمرٍ قد فضَّل اللهُ تعالى به بعضَكم على بعضٍ؛ كالجهادِ والعِلم، والمال، والولد، وغيرِ ذلك من أمور الدِّين أو الدُّنيا .
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ
أي: كلٌّ له جزاءٌ على عمله بحسَبِه، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ .
وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهاهم اللهُ تعالى عن تمنِّي ما فضَّل به بعضَهم على بعض؛ لأنَّه أمرٌ محتوم، والتَّمنِّي فيه لا يُجدي شيئًا، أرشَدهم إلى ما يُصلحُهم، فقال :
وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ
أي: ولكنِ اسألوا الله تعالى من فضله ليُعطيَكم؛ فإنَّه الكريمُ الوهَّاب جلَّ جلالُه .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو علمٍ بكلِّ شيء، ومن ذلك علمُهُ بمن يستحقُّ أن يعطيَه من فضلِه، وبمن يستحقُّ الحِرمان؛ وذلك كقَصرِه القتالَ في سبيله على الرجال؛ لعِلمِه بأنَّهم أقدَرُ عليه وأصلَحُ له .
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لما قال تعالى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ، عطف عليها هذه الجملة باعتبار كونِه جامعًا لمعنى النَّهي عن الطَّمعِ في مال صاحب المال، قُصِد منها استكمالُ تبيينِ مَن لهم حقٌّ في المال .
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ
أي: قد جعَل اللهُ تعالى لكلِّ واحدٍ منكم أيُّها النَّاسُ عَصَبةً، كإخوتِه وبني عمِّه، يرِثونه ممَّا ورِثه هو مِن أبيه وأمِّه، وسائرِ قَرابتِه .
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
النَّاسخ والمَنسوخ:
قيل: هذه الآية منسوخةٌ بقوله تعالى: وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الأنفال: 75] ، وهذا قولُ جمهورِ العلماء ، وقيل: هي مُحكَمةٌ .
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ
قيل: المعنى: وأمَّا الَّذين بينكم وبينهم ولاءُ حِلفٍ معقودٌ بالأيمانِ المؤكَّدة، فأعطوهم نصيبَهم من الميراثِ .
وقيل المراد: أعطوهم نصيبَهم من النُّصرةِ والمناصَحةِ، ونحوِ ذلك .
عن ابنِ عباسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ قال: وَرَثَةً، وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ: كان المُهاجِرونَ لَمَّا قَدِموا المدينةَ يَرِثُ المُهاجِرُ الأنصارِيَّ دون ذوي رحِمِه، للأخوَّةِ الَّتي آخَى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بينهم، فلمَّا نَزَلَتْ: وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ نُسِخَتْ، ثمَّ قال: وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ: من النَّصرِ والرِّفادَةِ والنَّصيحةِ، وقد ذهَب المِيراثُ، ويوصِي له )) .
وعن جُبَير بن مُطعِمٍ رضِي اللهُ عنه أنَّه قال: ((لا حِلفَ في الإسلامِ، وأيُّما حِلفٍ كانَ في الجاهليَّةِ، لم يزِدْه الإسلامُ إلَّا شِدَّةً )) .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا
أي: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ رقيبٌ، شاهدٌ لا يغيب عنه شيءٌ، ومطَّلعٌ على كلِّ شيء؛ وذلك بعِلمِه لجميعِ الأمور، وبصَرِه لحركاتِ عبادِه، وسمعِه لجميع أصواتِهم، ومن ذلك: اطِّلاعُه عليكم- أيُّها المؤمنون- في مسألةِ إيتاء الموالي بالحِلفِ نصيبَهم، فيعلَم هل تؤتونهم ذلك أم لا؛ ولذا فاحذَروا من مخالفةِ أمرِه جلَّ وعلا

.
الفوائد التربوية:

1- نهيُ الإنسانِ أن يَتمنَّى ما فضَّل اللهُ به غيرَه عليه؛ لقوله: وَلَا تَتَمَنَّوْا، وهذا النَّهي للتَّحريمِ؛ لأنَّ هذا النَّوع مِن التَّمنِّي هو الحسَدُ بعينه؛ لأنَّه قال: مَا فَضَّلَ اللَّهُ
، وقد كان أوَّلُ جُرمٍ حصَل في الأرض نشأ عن الحسدِ، ولقد كثُر ما انتُهِبَتْ أموالٌ، وقُتِلت نفوسٌ للرَّغبةِ في بسطةِ رزقٍ، أو فتنةِ نساء، أو نَوالِ مُلك، والتَّاريخُ طافحٌ بحوادثَ من هذا القَبيلِ .
2- إذا كان اللهُ تعالى في قوله: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ نهى عن مجرَّد التمنِّي، فكيفَ بمَن يُنكر الفوارقَ الشرعيَّة بينَ الرَّجل والمرأةِ، ويُنادي بإلغائِها، ويطالبُ بالمساواةِ، ويدعو إليها باسمِ المساواةِ بينَ الرَّجل والمرأةِ؟ فهذه بلا شكٍّ نظريةٌ إلحاديةٌ؛ لما فيها مِن منازعةٍ لإرادةِ اللهِ الكونيَّة القدريَّة في الفوارقِ الخَلقيةِ والمعنويَّة بينهما، ومنابذةٍ للإسلامِ في نصوصِه الشرعيَّة القاطعةِ بالفرقِ بينَ الذَّكر والأُنثى في أحكامٍ كثيرةٍ. ولو حصَلت المساواةُ في جميعِ الأحكامِ مع الاختلافِ في الخِلقةِ والكِفايةِ؛ لكان هذا انعكاسًا في الفطرةِ، ولكان هذا هو عينَ الظلمِ للفاضلِ والمفضولِ، بل ظلمٌ لحياةِ المجتمعِ الإنسانيِّ، لما يلحقُه مِن حرمانِ ثمرةِ قُدراتِ الفاضلِ، والإثقالِ على المفضولِ فوقَ قدرتِه، وحاشا أن يقعَ مثقالُ خردلةٍ مِن ذلك في شريعةِ أحكمِ الحاكمينَ .
3- قوله: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ... لكن يجوزُ أن يتمنَّى الإنسانُ مِثلَ ما فضَّل اللهُ به غيرَه عليه، وجْهُه قوله: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فنحن لا نقول لك: لا تتمَنَّ أن يعطيَك اللهُ مثلما أعطى فلانًا، بل نقول: لا بأس، ولكن لا تتمَنَّ ما أعطاه اللهُ فلانًا، وبينهما فرق .
4- سَعةُ فضلِ الله عزَّ وجلَّ وكرمِه؛ لقوله: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ؛ فهو سبحانه لم يأمُرْنا بالسُّؤالِ إلَّا ليُعطيَنا؛ لأنَّه لو أمَرنا بالسُّؤالِ مِن غير أن يُعطيَنا لكان هذا عبَثًا لا فائدةَ منه، ولكنَّه عزَّ وجلَّ كريمٌ، هو الَّذي يتعرَّضُ لعبادِه ويقول: اسأَلوني .
5- التسليمُ بما حكَم اللهُ به شرعًا أو قدَرًا؛ وذلك لأنِّي إذا علِمتُ أنَّه صادرٌ عن عِلمِ الله سلَّمتُ، وقلْتُ: لولا أنَّ المصلحةَ في وجود هذا الشَّيء ما فعَله اللهُ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه لا يفعَلُ إلَّا عن علمٍ، فيَزيدُني هذا تسليمًا بما قضاه اللهُ شرعًا أو قدَرًا، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا .
6- يُستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًاوجوبُ مراقبةِ الله؛ لأنَّ العاقلَ إذا علِم أنَّ الله سبحانه يعلَمُه، فسوف يراقبُ ربَّه بلسانِه وجَنانِه وأركانه؛ بلسانِه: بألَّا يقولَ ما حرَّم اللهُ، وجَنانِه: بألَّا يعتقدَ شيئًا حرَّمه اللهُ، أو يقولَ شيئًا حرَّمه اللهُ بالقلب؛ لأنَّ قولَ القلب هو حركتُه وعملُه، وأركانه: جوارحه؛ لأنَّ الإنسان إذا آمَن حقيقةً بهذا فسيراقبُ اللهَ

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- حِكمةُ الله سبحانه في العطاءِ والمنع؛ حيث يفضِّلُ بعضًا على بعض، ولا شكَّ أنَّ هذا صادرٌ عن حِكمة، وليس مجرَّدَ اختيارٍ، خلافًا لِمَن أنكَر حكمةَ الله، وقال: إنَّ فِعلَه لمجرَّدِ الاختيار، بل هو لاختيارٍ صادرٍ عن حكمةٍ، قال تعالى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ
.
2- إثباتُ أنَّ الأحكامَ تدورُ مع عِلَلِها؛ لقوله: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ؛ فنصيبُ الرِّجال يليقُ بهم، ونصيبُ النِّساء يليقُ بهنَّ .
3- قوله: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ فيه الفَرْق بين الجِنسينِ: الرِّجالِ والنِّساء؛ فالآيةُ تدلُّ على أنَّ بين الجِنسينِ فَرْقًا، خلافًا لِمَن يحاولُ أن يجعلَ الجِنسينِ على حُكمٍ واحدٍ، بل يحاولُ أن يفضِّلَ النِّساءَ على الرِّجال .
4- أنَّ إثباتَ الإرثِ يكونُ بالنَّسَبِ والسَّببِ، بالنَّسَبِ؛ لقوله: مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ، وبالسَّبب؛ لقوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ، فإنَّ هذا سببُه فعلُ الإنسان؛ كالزَّوجيةِ؛ فإنَّها سببٌ وليست بنسَبٍ، والإرث بالعِتق سببٌ وليس بنسَبٍ .
5- قوله: وَالْأَقْرَبُونَ هذه كلمةٌ واسعة، ولم يقُلِ: القَرابات، بل قال: وَالْأَقْرَبُونَ؛ لأنَّ الميراثَ يكونُ للأقربِ فالأقرب، حتَّى ذوو الفروضِ يُفضَّل الأقربُ على الأبعد؛ فالبِنتُ مع بنتِ الابنِ لها النِّصفُ، ولبنتِ الابنِ السُّدسُ، والبنتان يُسقطانِ بناتِ الابنِ، والأختُ الشَّقيقةُ مع الأختِ لأبٍ لها النِّصفُ، والأختان الشَّقيقتانِ تُسقطانِ الأخواتِ لأبٍ، وهلُمَّ جرًّا؛ ولهذا قال: وَالْأَقْرَبُونَ أي: الأقربُ فالأقربُ .
6- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا إثبات اسم الشَّهيد لله

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ: إن أُريدَ بذِكر الرِّجال والنِّساء هنا قصْدُ تعميمِ النَّاسِ، مثلما يذكر: المشرِق والمغرِب، والبَر والبحر، فالنَّهيُ عن تَمنِّي ما فَضَّل اللهُ به الرِّجالَ على النِّساءِ على عُمومِه، وتكونُ جملةُ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ مسُوقةً مَساقَ التَّعليلِ للنَّهيِ عن التَّمنِّي؛ قطعًا لعُذرِ المتمنِّين، وتَأنيسًا بالنَّهيِ؛ ولذلك فُصِلت- أي: لم تُعطَفْ بالواوِ على الَّتي قبلها. وإن أُريدَ بالرِّجال والنِّساء كلٌّ مِن النَّوعينِ بخُصوصِه، بمعنى: أنَّ الرِّجال يَختصُّون بما اكتسَبوه، والنِّساء يَختصِصْن بما اكتسَبْنَ من الأموالِ، فالنَّهيُ المتقدِّمُ مُتعلِّقٌ بالتَّمنِّي الَّذي يُفْضي إلى أكْلِ أموال اليتامَى والنِّساءِ، أي: ليس للأولياءِ أكْلُ أَموالِ مواليهم وولاياهم؛ إذ لكلٍّ مِن هؤلاءِ ما اكتَسَب، وتكونُ هذه الجملةُ عِلَّةً لجملةٍ محذوفةٍ دلَّت هي عليها، تَقديرُها: ولا تتمنَّوْا فتأكُلوا أموالَ مواليكم
.
- وعبَّر بالاكتِسابِ في قوله: مِمَّا اكْتَسَبُوا وقوله: مِمَّا اكْتَسَبْنَ تأكيدًا لاستحقاق كلٍّ منهما لنصيبِه، وتقويةً لاختصاصِه به، بحيث لا يَتخطَّاه إلى غيرِه؛ فإنَّ ذلك ممَّا يوجِبُ الانتهاءَ عن التَّمنِّي المذكورِ .
2- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا: تذييلٌ مناسبٌ لهذا التَّكليفِ؛ لأنَّه متعلِّق بعملِ النَّفس، لا يراقبُ فيه إلَّا ربَّه ، مع ما اشتملَتْ عليه من التَّأكيد بـ: (إنَّ) واسميَّة الجملة، وتقديمِ الجارِّ والمجرورِ (بِكُلِّ شَيْءٍ) على خبر كان (عَلِيمًا).
3- قوله: ولِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ: ولِكُلٍّ مفعولٌ ثانٍ لجعَلْنا، قُدِّم عليه؛ لتأكيد الشُّمولِ، ودفْعِ توهُّمِ تعلُّقِ الجَعْلِ بالبعضِ دون البَعض .
4- قوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ...: جملة مبيِّنةٌ للجملة قبلها، ومؤكِّدةٌ لها .
5- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا: خبرٌ فيه تهديدٌ على منْعِ نصيبهم ، مع ما فيه مِن التَّأكيد بـ(إنَّ) واسميَّة الجملة، وتقديم الجارِّ والمجرورِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ على خبَر كان شَهِيدًا.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...