الأربعاء، 17 يناير 2024

4.سورة النساء {ح3.}


4.سورة النساء {ح3.}
 
سُورةُ النِّساءِ
الآيات (85- 87)
ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ
غريبُ الكَلِمات:

يَشْفَعْ شَفَاعَةً: شفَع لفُلانٍ إذا جاء مُلتَمِسًا مَطلبَه، ومُعينًا له، والشَّفاعةُ: الانضمامُ إلى آخَرَ؛ نُصرةً له، وسؤالًا عنه، وأصْلُ الشَّفْع: ضمُّ الشَّيء إلى مِثلِه
.
كِفْلٌ: أي: نصيب، وأَصْل (كفل): يَدلُّ على تَضَمُّنِ الشَّيءِ للشَّيءِ .
مُقِيتًا: أي: قَدِيرًا ومُقْتدِرًا، وقيل: شاهِدًا وحافِظًا، وحقيقتُه: القائِمُ على كلِّ شيءٍ يَحفظُه ويُقيتُه. وأصلُ (قوت): يَدلُّ على قُدرةٍ على الشَّيءِ، والإمساكِ والحِفظِ .
حَسِيبًا: أي: رقيبًا، وكَافِيًا ومُقتدرًا، وعالِمًا ومحاسبًا، ومنه: أَحْسَبَني هذا الشَّيءُ، أي: كفاني
المَعْنى الإجماليُّ:

يُخبِر تعالى أنَّ مَن يسعَ لمعاونةِ غيرِه في أمرٍ من الأمورِ فيه منفعةٌ وخيرٌ لذلك الغَيْرِ، فإنَّ للساعي حظًّا من ثوابِ الله تعالى، ومَن يسعَ في معاونة غيره على أمرٍ من أمور الشَّرِّ يكُنْ عليه جزءٌ من الإثمِ والوِزر المترتِّبِ على سَعيِه ونيَّته، وكان الله على كل شيءٍ مقتدرًا، وهو على كلِّ شيء حفيظٌ وحسيبٌ.
ثمَّ يأمر اللهُ تعالى مَن حُيِّي بتحيَّةٍ أن يرُدَّ بتحيةٍ أحسَنَ ممَّا حُيِّيَ بها، أو يكون الرَّدُّ بمثلها، إنَّ اللهَ كان على كلِّ شيءٍ مِن طاعةٍ أو معصيةٍ حفيظًا ومحصيًا حتَّى يجازيَ فاعلَها عليها.
ثمَّ يقرِّرُ اللهُ تعالى أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا هو سبحانه وتعالى، وأنَّه سيحشُر جميعَ الخَلْق إلى موقفِ الحسابِ، لا شكَّ أبدًا أنَّ ذلك الجمعَ واقعٌ، فإنَّه لا أحدَ أصدقُ من الله تعالى في حديثِه وخبَرِه ووعدِه ووعيدِه.
تفسير الآيات:

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً
أي: مَن يَسعَ في معاونةِ غيرِه بما يجلِبُ له النَّفعَ والخير، ويدفعُ عنه الضُّرَّ والشَّرَّ - يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا
أي: يكُنْ له حظٌّ من ثواب الله تعالى .
عن أَبي موسى الأشعري رضِي اللهُ عنه، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا جاءَه السائلُ، أو طُلِبَتْ إليه حاجَةٌ، قال: اشفَعوا تؤجَروا، ويَقضي اللهُ على لسانِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما شاء )) .
وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً
أي: ومَن يَسعَ في مُعاونةِ غيرِه على أَمرٍ من الشَّرِّ .
يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا
أي: يكُنْ عليه وِزرٌ وإثمٌ مِن ذلك الأمرِ الَّذي تَرتَّبَ على سَعيِه ونيَّتِه .
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وحفيظٌ وحسيبٌ، فيُجازي كُلًّا بما يستحقُّه .
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ
أي: إذا سُلِّم عليكم بسلامٍ، وحُيِّيتم بأيِّ تحيةٍ كانت، أو دُعِي لكم بطولِ الحياةِ والبَقاء .
فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا
فرُدُّوا التَّحيةَ والسَّلام، وادْعُوا لِمَن دعَا لكم بأحسَنَ ممَّا حيَّاكم ودعا لكم وأفضَلَ، لفظًا وبَشاشةً، أو رُدُّوا عليه بمثلِ دُعائِه وتحيَّتِه .
عن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((خلَق اللهُ آدمَ على صورتِه، طولُه ستُّونَ ذراعًا، فلمَّا خلَقه، قال: اذهبْ فسلِّمْ على أولئك؛ نفرٍ من الملائكةِ جلوسٍ، فاستمِعْ ما يُحيُّونك؛ فإنَّها تحيَّتُك وتحيَّةُ ذرِّيَّتِك، فقال: السَّلامُ عليكم، فقالوا: السَّلامُ عليك ورحمةُ اللهِ، فزادوه: ورحمةُ اللهِ، فكلُّ مَن يدخلُ الجنَّةَ على صورةِ آدمَ، فلم يزَلِ الخَلْقُ ينقُصُ بعدُ حتَّى الآن )) .
وعن عِمران بن الحُصين رضِي اللهُ عنه، قال: ((جاءَ رجلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فقالَ: السَّلامُ عليكُم، فردَّ عليهِ ثمَّ جلَسَ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: عشرٌ، ثمَّ جاءَ آخَرُ فقالَ: السَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللَّهِ، فردَّ عليهِ ثمَّ جلسَ، فقالَ: عِشرون، ثمَّ جاءَ آخرُ فقالَ: السَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللَّهِ وبرَكاتُهُ، فردَّ عليهِ فجلسَ، فقالَ: ثلاثونَ )) .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا
أي: إنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ ممَّا يعمَل النَّاسُ من طاعةٍ أو معصيةٍ حفيظٌ ومُحْصٍ له, حتَّى يجازيَهم به .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَر قولَه: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [النساء: 86] ، تلاه بالإعلام بوحدانيَّة الله تعالى، والحشْرِ، والبَعثِ مِن القُبور للحساب ، فقال:
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
أي: إنَّ الله تعالى وحْدَه هو المعبود بحقٍّ، فلا يستحقُّ العبادةَ إلَّا هو سبحانه .
لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
أي: واللهِ ليحشرَنَّكم اللهُ تعالى جميعًا إلى موقِفِ الحساب، فيجمَعُ أوَّلَكم وآخِرَكم في صعيدٍ واحد فيُجازي كلَّ عاملٍ بعمله .
لَا رَيْبَ فِيهِ
أي: لا شكَّ بوجهٍ من الوجوه في حقيقةِ أنَّ الله عزَّ وجلَّ سيجمَعُ النَّاسَ يوم القيامة بعد مماتهم .
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا
أي: لا أحدَ أصدقُ منه في حَديثِه وخَبرِه، ووعْدِه ووعِيدِه سبحانه؛ فحديثُه وأخبارُه وأقوالُه في أعلى مراتبِ الصِّدقِ

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- الحثُّ على التَّعاونِ على البِرِّ والتَّقوى؛ وذلك بإعطاءِ المتعاونين نصيبًا من الأجرِ على ما تعاونوا عليه: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا
.
2- أنَّ مَن شارَك في عملٍ سيِّئٍ، كان له نصيبٌ منه: وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا .
3- التَّحذيرُ مِن الشَّفاعةِ السَّيِّئة؛ لقوله تعالى: وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا .
4- أنَّ اللهَ سبحانه مُقِيتٌ على كلِّ شيء، أي: مقتدرٌ عليه، ويلزَمُ مِن هذا أن يحذَرَ الإنسانُ من مخالَفةِ الله؛ لأنَّ الله تعالى حفيظٌ عليه ومقتدِرٌ عليه: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا .
5- الحثُّ العظيمُ على التَّعاونِ على البِرِّ والتَّقوى، والزَّجرُ العظيمُ عن التَّعاونِ على الإثمِ والعُدوان، وقرَّر ذلك بقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا .
6- في قولِ الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا أن ترُدَّ على المسلم بأحسنَ مِن سلامِه أو بما يماثله ، وفي ذلك إشارةٌ إلى حُسنِ العِشرة وآدابِ الصُّحبة، وأنَّ مَن حمَّلك فضلًا زِدتَ على فِعلِه، وإلَّا فلا تنقُصْ عن مِثْله

.
الفوائد العلميَّة واللَّطائف:

1- قال تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا من العِبرَةِ في الآيةِ أن نتذكَّرَ بها أنَّ الحاكمَ العادلَ لا تنفعُ الشَّفاعةُ عنده إلَّا بإعلامِه ما لم يكُنْ يعلَمُ من مظلَمةِ المشفوعِ له، أو استحقاقِه لِما يُطلَب له، ولا يقبَلُ الشَّفاعة لأجل إرضاءِ الشَّافعِ فيما يُخالِفُ الحقَّ والعدلَ، وينافي المصلحةَ العامَّة
.
2- قول الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا قوله: فَحَيُّوا على الأمرِ بردِّ السَّلام، فيُفيد وجوبَ الرَّدِّ؛ لأنَّ أصلَ صيغةِ الأمرِ أن تكونَ للوجوبِ .
3- أنَّ ردَّ التَّحيَّة يكونُ على وجهين؛ مجزئٍ وأفضلَ: فالمجزئُ مأخوذٌ من قوله: أَوْ رُدُّوهَا، والأكملُ والأفضل من قوله: بِأَحْسَنَ مِنْهَا، وقُدِّم الأحسنُ على المِثل؛ لأنَّه أكملُ وأفضلُ .
4- مراعاة الإسلامِ للعدل؛ لقوله: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا .
5- قوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا فيه أنَّه لا يُجزئُ الرَّدُّ بغير السَّلام، فإذا قال المسلم: السَّلام عليك، فقلت: أهلًا وسهلًا، فلا يُجْزئ؛ لأنَّ هذه التَّحيَّةَ ليست مِثلَها ولا أحسنَ منها؛ إذ إنَّ قولَ المسلم: السَّلام عليكم، دعاءٌ لك بالسَّلامةِ مِن كلِّ الآفات البدنيَّة والماليَّة والقلبيَّة وغيرِها .
6- يُستفادُ مِن قوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا، أنَّه يُطلَب من المُسَلَّمِ عليه أن يرُدَّ بأكمَلَ، إمَّا بالكمِّيَّة وإمَّا بالكيفيَّة، فإذا قال: السَّلام عليك. فالأحسنُ: عليك السَّلامُ ورحمة الله، هذا بالكمِّيَّة. أمَّا الكَيفيَّة: فإذا قال: السَّلام عليك، بصوت مرتفعٍ مسموعٍ يدلُّ على التَّواضعِ فقلت: عليك السَّلام، بصوت مثلِه أو أبينَ فهذا ردٌّ صحيحٌ بالكيفيَّة .
7- يُؤخذ من الآيةِ الكريمةِ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا: الحثُّ على ابتداءِ السَّلام والتَّحيَّة من وجهين: أحدهما: أنَّ اللهَ أمَر بردِّها بأحسَنَ منها أو مثلِها؛ وذلك يستلزمُ أنَّ التَّحيَّة مطلوبةٌ شرعًا، الثَّاني: ما يستفاد من أفعل التَّفضيلِ، وهو "أحسن" الدَّالُّ على مشاركة التَّحيَّة وردِّها بالحَسن، كما هو الأصلُ في ذلك .
8- قولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا الفاء في قوله (فحيُّوا) تفيد أنَّ الرَّدَّ يكونُ على الفَوْرِ .
9- قولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا تقديم قوله: (بأحسَنَ منها) فيه إشارةٌ إلى أنَّ ذلك أفضلُ .
10- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا، فِعل (كان) يدلُّ على أنَّ ذلك الوصفَ وصفٌ مقرَّرٌ أزَليٌّ .
11- قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ [النساء: 87] ، التَّوحيدُ والإيمان بالبعث والجزاء في الدَّار الآخرة هما الرُّكنانِ الْأَوَّلانِ للدِّينِ، وإنَّما الرُّسلُ يُبلِّغون النَّاسَ ما يجبُ مِن إقامتِهما ودعمِهما بالأعمال الصَّالحة .
12- وجوبُ الإيمانِ باليوم الآخِرِ على وجهٍ لا شكَّ معه؛ لقوله: لَا رَيْبَ فِيهِ، فيجب علينا أن نؤمنَ بأنَّ الله يجمَعُنا يومَ القيامةِ إيمانًا لا شكَّ معه، ولا تردُّدَ فيه .
13- قول الله تعالى: يَوْمِ القِيَامَةِ القيامة والقِيام بمعنًى واحدٍ، وقيل: دخلتِ الهاءُ للمبالغة لشدَّةِ ما يقعُ فيه من الهولِ .
14- إثبات الكلامِ لله عزَّ وجلَّ، يؤخَذ من قوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا، مِن قوله: أَصْدَقُ ومن قوله: حَدِيثًا، والصِّدقُ إنَّما يوصَفُ به الكلامُ، والحديثُ هو الكلام، وعلى هذا فيكونُ إثباتُ كلامِ الله عزَّ وجلَّ من الكلمتينِ جميعًا .
15- وجوبُ الإيمانِ بما أخبَر اللهُ به عن نفسِه وعن أمورِ الغيبِ كلِّها؛ لقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ، فإذا أخبر اللهُ عن نَفْسِه بشيء، أو عن الأمور الغائبةِ بشيءٍ، وجَب علينا تصديقُه؛ فكلامُه وخبره صِدقٌ لا كذِبَ فيه بوجهٍ من الوجوه؛ لقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ أي: مِن اسم التَّفضيل؛ لأنَّ اسمَ التَّفضيلِ يجعَلُ المفضَّل في قمَّةِ الوصف، وعلى هذا فليس في كلامِ الله سبحانه تعالى شيءٌ من الكذِبِ إطلاقًا .
16- وصفُ كلامِ اللهِ تعالى بالحَديثِ؛ لقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا وهو كذلك

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا
- قوله: نَصِيبٌ مِنْهَا وكِفْلٌ مِنْهَا: فيه مناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ عبَّر عنِ الجزاءِ في جانبِ الشَّفاعة الحسنةِ بأنَّه نَصِيبٌ؛ إيماءً إلى أنَّه قد يكونُ له أجرٌ أكثرُ مِن ثوابِ مَن شفَع عندَه، وعبَّر بـكِفْل عن الجزاءِ في جانبِ الشَّفاعة السيِّئة؛ إشارةً إلى أنَّ مَن يَشفَعُ شفاعةً سيِّئةً يكون له نصيبٌ من وِزْرها مُساوٍ لها في المِقْدارِ من غَيرِ أنْ يَنقُصَ منه شيءٌ؛ فالنصيبُ هو الحظُّ مِن كلِّ شيءٍ، والكِفلُ الحظُّ كذلك، ويُستعمَلُ الكِفلُ بمعنى المِثل؛ فيُؤخذُ من ذلك: أنَّ الكفلَ هو الحظُّ المماثِلُ لحظٍّ آخَر
. وقيل: عبَّر بـكِفْل عن الجزاءِ في جانبِ الشَّفاعة السيِّئة؛ لأنَّه يُفهَم منه النَّصيبُ ويُفهَمُ أكثرُ مِنه؛ تغليظًا في الزَّجرِ؛ إذ الكِفلُ اسمٌ للنَّصيبِ الذي عليه يَكونُ اعتمادُ الناسِ، في تَحصيلِ المصالحِ لأنفسِهم، ودَفْع المفاسِدِ عن أنفسِهم؛ والغَرضُ من قوله: كِفْلٌ مِنْهَا التنبيهُ على أنَّ الشفاعةَ المؤدِّيةَ إلى سُقوطِ الحقِّ وقوَّةِ الباطلِ تكونُ عَظيمةَ العِقابِ عِندَ اللهِ تعالى .
2- قوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا: تذييلٌ لجملة مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً؛ لإفادةِ أنَّ الله يُجازي على كلِّ عملٍ بما يناسبه مِن حُسن، أو سوء .
3- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا: تذييلٌ لقصدِ الامتنانِ بهذه التعليماتِ النافعة ، أو للتَّحذيرِ مِن عَدمِ ردِّ التَّحيَّة بمثلِها أو أحسَنَ، فيُحْذَر من التعرُّضَ لمحاسبةِ الله عزَّ وجلَّ الذي هو على كلِّ شيءٍ حسيبٌ، وليُحْذَرْ من مُخالفةِ هذا التَّكليفِ. وهذا يدلُّ على شِدَّة العنايةِ بحِفظِ الدِّماءِ والمنعِ مِن إهدارِها؛ لأنَّ الرجُلَ في الجِهادِ كان يَلْقاه الرجلُ في دارِ الحربِ أو ما يُقارِبُها فيُسلِّمُ عليه، فقد لا يلتفتُ إلى سَلامِه عليه ويَقتُلُه، وربَّما ظهَر أنَّه كان مسلمًا، فإذا كان مسلمًا، وقتَلَه، ففيه أعظمُ المضارِّ والمفاسدِ .
وقيل: في هذا التَّذييلِ وَعْدٌ بالجزاءِ الحَسَنِ على قَدْرِ فَضْلِ ردِّ السَّلامِ، أو بالجزاءِ السَّيِّئ على ترْك الردِّ مِن أصلِه ؛ فهو ترغيبٌ وترهيبٌ.
- وقد أُكِّد وصفُ الله تعالى بأنَّه حسيبٌ بمؤكِّدين: حرف (إنَّ)، وفِعل (كان) الدالِّ على أنَّ ذلك وصفٌ أزليٌّ .
4- قوله: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ: استئنافٌ ابتدائيٌّ، جمَع تمجيدَ الله، والتهديد، والتحذيرَ من مخالَفَة أمْرِه، والتَّقرير للإيمانِ بيومِ البَعثِ، والردِّ لإشراكِ بعضِ المنافقينَ وإنكارِهم البعث .
- وجملة لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إمَّا خبرٌ للمبتدأِ اللَّهُ، وإمَّا اعتراضٌ والخبرُ جُملةُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ؛ وجِيءَ بالاعتِراضِ لتَمجيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ .
- وقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ جوابُ قَسمٍ محذوفٍ، واقِعٌ جميعُه موقعَ الخبرِ عن اسمِ الجلالة الله، وأُكِّد هذا الخبر: بلام القَسَم، ونون التوكيد دلالةً على تقديرِ القَسَم؛ لإنكارِ المنكِرين ليوم القيامة؛ لتقويةِ تحقيقِ هذا الخبر؛ إبطالًا لإنكار الذين أنكروا البعثَ .
- وقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمَّا كان التَّدريجُ بالإماتة شيئًا فشيئًا، عبَّر بحرفِ الغاية (إلى)؛ فالمرادُ ليجمعَنَّكم في الموتِ أو القُبورِ إلى يومِ القيامة .
5- قوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا هذا استفهامٌ معناه النَّفيُ، والتَّقدير: لا أحدَ أصدقُ مِن الله حديثًا ؛​​ فالاسْتِفهامُ عن أنْ يَكُونَ أحَدٌ أَصدَقَ مِنَ اللَّهِ تعالى ​هوَ اسْتِفهامٌ إِنْكَارِيٌّ​؛ ​​​فهو إنكارٌ​​ أنْ يكونَ أحدٌ أكثرَ​ صِد​قًا منه​؛ فإنَّه لا يتطرَّق الكذبُ إلى خبرِ الله تعالى بوجهٍ؛ لأنَّ الكذبَ نقصٌ، وهو على اللهِ تعالى مُحالٌ .
- وفي قوله: حَدِيثًا تتميمٌ؛ حيث أتْبَعَ الكلامَ بهذه الكلمة التي تَزيدُ المعنى تمكُّنًا وبيانًا للمعنى المراد .


=========2.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (88- 91)
ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ
غريبُ الكَلِمات:

فِئَتَيْنِ: فِرْقَتينِ مُختلفتينِ، مُثنَّى فِئة، وهي: الجماعة المُتظاهرةُ الَّتي يرجِع بعضُهم إلى بعضٍ في التعاضُد
.
أَرْكَسَهُمْ: نَكَّسَهم وردَّهم في كُفرِهم، وأصل الرِّكْسِ: قلبُ الشَّيءِ على رأسِه، وردُّ أوَّله إلى آخره .
يَصِلُونَ: يَنتسِبون، أو يتَّصلون بقوم، والاتِّصالُ: اتِّحادُ الأشياء بعضها ببعض كاتِّحاد طرفَي الدائرة، والاتصالُ ضدُّ الانفصال، والوصلُ: ضِدُّ الهِجرانِ، وأصل (وصل): يدُلُّ على ضَمِّ شيءٍ إلى شيءٍ حتَّى يَعلَقَه .
مِيثَاقٌ: أي: عقدٌ وعَهْدٌ مؤكَّد بيمينٍ، أو عهدٌ مُحكَم، وأصلُه: العقدُ والإحكام .
حَصِرَتْ: أي: ضاقتْ عن قِتالكم، والحصْر: التَّضييق، وأصل (حصر): الحَبْسُ والمَنْعُ .
اعْتَزَلُوكُمْ: اجتَنبوُكم، والاعتزال: تجنُّب الشَّيء؛ عمَالةً كانتْ أو براءةً، وأصلُ (عزل): يدلُّ على تنحيةٍ وإمالةٍ .
السَّلَمَ: أي: الصُّلح، والسَّلَم اسمٌ بإزاء الحَرْب، وهو أيضًا التَّعرِّي من الآفاتِ الظَّاهرة والباطنة، والاستسلامُ والانقياد، وأصل (سلم): يدلُّ على الصِّحَّة والعافية .
الْفِتْنَةِ: أي: الشِّرْكِ والكُفر، والشَّرِّ والعذاب، وهي في الأصْل: الاختِبار والابتلاء والامتِحان؛ مأخوذة من الفَتْن: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جودتُه من رَداءتِه .
سُلْطَانًا: أي: حُجَّة، وأصْل السُّلطان: القوَّة والقهر، مِن التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطان سُلطانًا

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يُخاطب اللهُ تعالى المؤمنين: ما شأنُكم في المنافقين فِئتَينِ مختلفتَينِ؛ فئةً تُكَفِّرُهم، وفئةً لم تكفِّرْهم، والحالُ أنَّ الله ردَّ هؤلاءِ المنافقين إلى الكُفر، وأوْقَعَهم فيه؛ بما عَمِلُوه واقترفُوه من السَّيِّئات، فلا ينبغي الشكُّ فيهم، فهل يريد الشَّاكُّون في أمرِهم من المؤمنين أن يَهْدُوا مَنْ خَذَلَه الله ولم يُرِدْ هِدَايَته، بلِ الشَّأْنُ أنَّ مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فلا سبيلَ إلى هدايتِه أبدًا.
ثمَّ يُخبِرُ الله تعالى المؤمنينَ أنَّ هؤلاء المنافقين يَرْجُون أن يقع المؤمِنون في الكُفر كما وقعوا هم فَيَسْتَوُوا معهم، ناهيًا سبحانه عبادَه المؤمنين أنْ يتَّخذوا من المنافقينَ أولياءَ حتَّى يُؤمِنوا ويُهاجروا في سبيل الله؛ مِنْ دارِ الكفر وأهلِه إلى دار الإسلام وأهلِه، فإنْ أعْرَضُوا عن الإيمانِ والهِجْرة فَلْيُقاتِلْهمُ المؤمنونَ ويأسِرُوهم ويَقْتُلوهم أينما وَجَدُوهم، ولا يُوالُوا منهم أحدًا، ولا يَتَّخِذوا منهم نصيرًا.
ثمَّ استثْنَى الله تعالى من هؤلاء المنافقينِ الَّذين أوْجَبَ قتالَهُم وأخْذَهم أسْرى، مَنْ لجأ إلى قومٍ بينهم وبينَ المؤمنين هُدْنة بترْك القِتال، فَلْيجْعَلُوا حُكْمَ هؤلاء المنافقين كحُكْمِ هؤلاء المُهَادَنينَ، أو إنْ أتى هؤلاء المنافقونَ المؤمنينَ وقد أبغضوا قتالَهم، وأبغضوا القتالَ مع المؤمنين ضدَّ قَوْمِهم، فلا هُمْ مع المؤمنين ولا ضِدُّهم، فَلْيَتْرُكِ المؤمنون قتالَهُم أيضًا، ولو شاء الله لسلَّط هؤلاء المنافقين على المؤمنين فَقَاتلوهم، ولكنْ لِلُطْفه بهم كفَّهُم عنهم، فإنِ انْصَرَف المنافقون عن قتال المؤمنين وآثروا المُسالمة والصُّلح، فعندها لا يُبيحُ الله للمؤمنين قتلَهُم ولا غُنْمَ أموالهم ولا سَبْيَهم أو سَبْيَ ذَرَارِيِّهم.
ثمَّ يُخبِر اللهُ تعالى المؤمنين أنَّهم سيجِدُون صِنْفًا آخرَ من المنافقين، يُريدون أن يأمَنُوهم فيُظْهِرون الإسلام، ويريدون كذلك أن يَأْمَنوا قَومَهم الكُفَّارَ فيعبُدون مع قومهم ما يَعْبُدونه مِنْ دُون الله، كَلَّما دُعُوا إلى الشِّرْك والكفْرِ بالله تعالى أجابوا، فازدادوا تعمُّقًا فيهما، فهؤلاء الصِّنفُ من المنافقين إنْ لَمْ يَتْرُكوا قتالَ المؤمنين ويَمِيلوا للمُسالَمَة والصُّلح، فَلْيُقاتلْهم المؤمنون وَلْيَأسِرُوهم وَلْيَقْتُلوهم أينما وَجَدُوهم، وقد جعل الله للمؤمنين حُجَّةً واضِحةً على هؤلاء في استِحْقَاقهم للقتل.
تفسير الآيات:

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
هذه الآيةُ تفريعٌ عن أخبارِ المنافقينَ الَّتي تقدَّمَت؛ لأنَّ ما وُصِف من أحوالهم لا يترُكُ شكًّا عند المؤمنين في خُبْثِ طَوِيَّتِهِم وكُفْرِهم. وقيل: هي تفريعٌ عن قوله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا فقد حدَّث الله تعالى عنهم بما وُصِف من سابِقِ الآيِ، فلا يَحِقُّ التَّردُّد في سوءِ نواياهم وكفْرِهم
.
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
فَلِمَ اختلفْتُم- أيُّها المؤمنون- في شأنِ المنافقين على قَوْلَينِ؛ ما بين مُكَفِّرٍ لهم وغَيْرِ مكفِّرٍ؟ .
وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا
أي: والحالُ أنَّ الله تعالى قد ردَّهُم إلى الكُفرِ وأوقَعَهُم فيه؛ بسَببِ ما اقْتَرفوه مِن آثامٍ وسيِّئاتٍ؛ فلا يَنبغي لكم أنْ تَشْتَبِهوا فيهم، ولا تَشكُّوا، بل أمْرُهم واضحٌ غيرُ مُشكِل، فالصَّوابُ مع مَن قال: إنَّهم كافِرون .
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ
أي: أتودُّون- أيُّها المؤمنون- أنْ تُوَفِّقُوا للإقْرَارِ بدِينِ اللهِ تعالى والدُّخول فيه مَنْ خَذَلَه اللهُ عنه فَلَمْ يُوَفِّقْهُ لذلك ؟
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
أي: ومَنْ خَذَلَه الله تعالى عن دِينِه فلم يوفِّقْه لسُلُوك طريقِ الهدى، فلا طريقَ له إليه، ولا مَخْلصَ له إليه .
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا قال تَعَالى قبل هذه الآية: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وكان ذلك استفهامًا على سبيل الإنكار- قرَّر ذلك الاستبعادَ بأنْ قال: إنَّهم بلغُوا في الكُفْر إلى أنَّهم يتمنَّوْن أنْ تصيروا- أيُّها المسلمون- كُفَّارًا، فلمَّا بلغُوا في تعَصُّبِهم في الكفر إلى هذا الحدِّ فكيف تَطْمَعُون في إيمانِهِم؟
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً
أي: إنَّ هؤلاءِ المنافقِينَ الَّذين اختلفتُم فيهم- أيُّها المؤمنون- إلى فِئتينِ، يتمنَّوْن لكم الوقوعَ في الكُفْر فتكونون كُفَّارًا مثلَهُم وتَسْتَوونَ أنتم وهُمْ في ذلك .
فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى للمؤمنينَ كُفْرَهم وشِدَّة غُلُوِّهم في ذلك الكُفْر، شَرَح للمؤمنين بعدَ ذلك كيفيَّةَ الْمُخَالطة معهم؛ فقال :
فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أي: فلا تتَّخِذوا منهم أولياءَ وأخِلَّاءَ تُوالُونهم أو يُوالونَكم، حتَّى يُؤمِنوا ويقدِّموا إثباتًا على إيمانِهِم بمفارقَةِ دار الشِّرْك وأهلِه إلى دار الإسْلام وأهلِه؛ ابتغاءَ دينِ الله تعالى ومَرْضَاته .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
أي: فإنْ أعْرَضُوا عنِ الإيمانِ باللهِ تعالى وترَكوا الهجرةَ في سَبِيله سبحانه، فاحْمِلوا عليهم بالقِتال وخُذُوهم أسرى، واقتلُوهم في أيِّ مكانٍ وجدتموهُم فيه .
وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
أي: لا تُوالُوا أيَّ أحدٍ منهم يُوالِيكم على أموركم، ويكونُ موضِعَ أسرارِكم ومَشُورتكم ومَحبَّتكم، ولا تطلُبوا من أيِّ أحدٍ منهم نُصْرةً لكم على أعدائِكُم .
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمرَ الله سبحانه وتعالى بِقَتْل هؤلاءِ الكُفَّارِ في الآيةِ السَّابقةِ، استثنَى مِن ذلك ما في هذه الآيةِ ، فقال:
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
أي: سِوَى مَن لَجَأ من هؤلاء المنافقينَ إلى قومٍ بينكم وبينهم مُهادَنَةٌ وعَهْد ومِيثاقٌ بترْك القتال, فدخلوا فيهم، فاجعلُوا حُكْمَهم كَحُكْمِهم في حَقْنِ الدِّمَاء والأمْوَال .
أَوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ
أي: أو أَتَوْكم وقدْ ضاقتْ صُدورُهم عن قِتَالكم أو قِتَالِ قومِهِم فيُبْغِضُون قِتَالكم، ولا يَهُون عليهم أيضًا قِتَالُ قومِهم معكم؛ فلا هُمْ لكم ولا عليكم، فاتْرُكوا قِتالَ وقَتْلَ هذه الطائفةِ أيضًا .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان الكَفُّ عن هؤلاء ممَّا قد يثْقُل على الْمُسلمينَ؛ لِمَا جرَت عليه عادةُ العرب من الشِّدَّة في أمر الْمُعاهَدِين والْمُحالَفِين وتَكْلِيفهم قتالَ كلِّ أحدٍ يقاتِلُ مُحَالفِيهم، ولو كانوا من الأهل والأقربين، قال تعالى مخفِّفًا ذلك عنهم، ومؤكِّدًا أمرَ مَنْعِ قتالِ الْمُسالِمِين :
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ
أي: ولو شاءَ الله عزَّ وجلَّ لسلَّط عليكم- أيُّها المؤمنون- هؤلاءِ المنافقين فَقَاتَلوكم، ولكِنْ مِنْ لُطْفِه بكم أنْ كَفَّهُم عنكم .
قيل المقصود بهم هنا: الطَّائفةُ الثَّانية ، وقيل: كِلتَا الطَّائِفَتينِ الْمُسالِمتَيْنِ الَّلتيْنِ استثَنَاهما الله تعالى مِنْ قتالِهِم وقتلِهم .
فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ
أي: فإنِ انْصَرَف عن قِتالِكم هؤلاء الَّذين أمَرْتُكم بالكفِّ عن قِتَالِهِم من المنافقين، وآثَرُوا الْمُسَالمة، وصالَحُوكم .
فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا
أي: إذا استَسْلَمَ لكم هؤلاء المنافقون صُلحًا منهم لكم، فلم يَجعلِ اللهُ تعالى لكم على أنفسِهِم وأموالِهِم وذَرَارِيِّهم ونِسائِهم طريقًا مُباحًا إلى قَتْلٍ أو سِبَاءٍ أو غَنِيمة .
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر صِفةَ الْمُجِدِّين في إلْقاء السَّلَم، وتركِ قتالِ المسلمينَ، نبَّهَ على طائفةٍ أخرى مُخَادِعَة يريدون الإقامةَ في مَوَاضِعِهم مع أهلِيهم .
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ
أي: ستطَّلِعون- أيُّها المؤمنون- على صِنفٍ آخَرَ من المنافقين يُظْهِرون للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ولأصحابه الإسلامَ؛ خوفًا منهم لِيَأْمَنوا بذلك على دِمَائهم وأموالِهِم وذَرَارِيِّهم ونسائِهِم، ويُصَانِعون قومَهُم الكُفَّارَ في الباطِنِ، فيعبدُون معهم ما يعبُدُون من دونِ الله تعالى؛ لِيَأمَنُوا كذلك عِنْدَهم على دمائِهم وأموالِهِم وذرارِيِّهِم ونسائِهِم .
كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا
أي: كلَّما عَرَضَتْ لهم فتنةٌ بِدَعْوَتهم إلى الكُفْر والشِّرْك بالله تعالى، أجابوا إلى ذلك، فازدادُوا إيغالًا وانْهِمَاكًا في الكُفْر والشِّرْك .
فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ
أي: فَهُؤلاء إنْ لم يترُكُوا قتالَكم، ولم يَسْتَسلِمُوا إليكم ويُصَالِحُوكم .
فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
أي: فخُذُوهم أسْرى وأَعْمِلوا فيهمُ القتْلَ أينما لَقِيتُمُوهم؛ فإنَّ دماءَهم حلالٌ لكم .
وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا
أي: وهؤلاء جَعَلْنا لكم حُجَّةً واضحةً في استحقاقِهِمُ القتلَ

.
الفوائد التربوية:

1- الأعمالُ تتوالدُ مِنْ جِنْسِها، فالعملُ الصَّالِح يأتي بزيادةِ الصَّالِحاتِ، والعملُ السَّيِّئُ يأتي بالمعاصِي، فالعملُ سببٌ في بُلُوغ الغاياتِ مِنْ جِنْسِه؛ يرشدنا إلى ذلك قولُ الله تعالى وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فَقَد جَعَل الله ردَّ الْمُنافقين إلى الكُفْر جزاءً لِسُوءِ اعتِقَادِهِم وقلَّةِ إخلاصِهِم مع رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم
.
2- في قوله تعالى: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيد الله، ويتفرَّع على هذه الفائدةِ: ألَّا تَسْأَلَ الهدايةَ من الضَّلالِ إلَّا من الله عزَّ وجلَّ، وأنْ تجعلَ سؤالَكَ لبعضِ النَّاسِ كيف اهتدى، تجعلُه سؤالًا عن السَّبب والطَّريقِ، وأمَّا الَّذي بِيَدِه أزِمَّةُ الأمور فهو الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا قال الله لِنَبِيِّه: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] .
3- من يُهْلِكهُ الله فليس لأحدٍ طريقٌ إلى نجاته من الهلاك، يُرشِدُ إلى ذلك قولُ الله تعالى أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا .
4- التَّنْبِيه على الإخلاص، نستفيدُ ذلك من قولِ الله تعالى فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فقيَّدَ الهجرةَ بكونِها في سبيل الله؛ فإنَّه ربَّما كانتِ الهِجْرةُ مِنْ دارِ الكُفْرِ إلى دار الإسلام، ومِنْ شِعَار الكفر إلى شِعَار الإسلام لغَرَضٍ من أغراضِ الدُّنيا، إنَّما الْمُعتَبَر وقوعُ تلك الهِجْرة لأجْلِ أمر الله تعالى .
5- التَّحذيرُ من الوقوعِ في الفِتَن، وأنَّ الإنسان كلَّما وقع في الفتنة أُرْكِسَ فيها، قال تعالى: كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- الإنكارُ على المؤمنينَ في الاختِلَاف في المنافقين؛ لقوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ
.
2- قولُ الله تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا في هذه الآية دليلٌ على أنَّ المجتهدَ إذا استَنَد إلى دليلٍ ضعيفٍ ما كان من شأنِه أن يستدِلَّ به العالِمُ؛ لا يكون بعيدًا عن الْمَلَام- في الدُّنيا- على أنْ أَخْطَأَ فيما لا يُخطِئُ أهلُ العِلْم في مِثْلِه .
3- قوله تعالى: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا قد أسند الله- تعالى- فِعْل هذا الإرْكَاس إليه وقَرَنَه بسبَبِه، وهو كَسْبُ أولئك الْمُرْكَسِينَ للسَّيِّئات والدَّنَايا من قَبْلُ حتَّى فسدت فِطْرَتُهم، وأحاطت بهم خَطِيئتُهم فأَوْغَلوا في الضَّلال، وبَعُدُوا عن الْحَقِّ، حتَّى لم يَعُدْ يخطُرُ على بالِهِم ولا يَجُول في أَذْهَانِهِم إلَّا الثَّباتُ على ما هم فيه، ومقاومةُ ما عداه، مقاومةً ظاهرةً عند القُدرة، وخَفِيَّةً عند العَجْزِ، هذا هو أثَرُ كَسْبِهم للسَّيِّئات في نفوسهم، وهو أثرٌ طبيعيٌّ، وإنَّما أسندَهُ الله تعالى إليه; لأنَّه ما كان سببًا إلَّا بسُنَّتِه في تأثير الأعمالِ الاختيارِيَّة في نفوسِ العاملين .
4- أنَّ الإنسان يُركَسُ ويُرَدُّ على الوجه المذمومِ بسبَبِ عَمَله، ويُؤخَذ من قوله: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا .
5- أنَّ الأعمالَ قد تكونُ سببًا لرِدَّةِ الإنسانِ بكَثرةِ معاصيهِ، فالسَّيِّئةُ تَجذِبُ السَّيِّئةَ، والصَّغائرُ بَريدُ الكَبائرِ، والكبائِرُ بَريدُ الكُفْر، وهذا واضحٌ، يُؤخَذُ هذا من قوله: أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا .
6- الرَّدُّ على الجبْرِيَّة، ويُؤخَذُ من قوله: بِمَا كَسَبُوا، فأثبَتَ لهم كَسْبًا، والْجبريَّة يقولون: إنَّ الإنسان لا كَسْبَ له، وأنه مُجْبَرٌ على عَمَلِه .
7- الرَّدُّ على القَدَرِيَّة أيضًا، ويؤخَذُ من قوله: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ، والقَدَرِيَّة يقولون: إنَّ أفعال العباد لا عَلَاقة لتقديرِ الله بها إطلاقًا، فصار في الآية ردٌّ على كلتا الطائفتين الْمُنحرِفَتَين الْمُبتدِعَتَيْنِ، وأهلُ السُّنَّة والجماعة يقولون: للإنسان فِعْلٌ يُنْسَبُ إليه حقيقةً، والْمُقَدِّرُ لهذا الفعلِ هو الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو الْمُطابِق للمَنْقُول والمعقُول والْمَحْسُوس .
8- أنَّ الكُفَّارَ يودُّون بكل المحبَّة أن يَكْفُر المؤمنونَ كما كفروا؛ لقوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا، ويتفرَّعُ على هذه الفائدة أنَّهُم إذا كان هذا وُدَّهُم فسوف يَسْعَوْن إليه بكلِّ وسيلةٍ، سواءٌ كانت الوسيلةُ في تدميرِ الاقتصادِ، أو بالسِّلاحِ، أو بنَشْرِ الأخلاق الرَّذِيلةِ السَّافِلَة؛ لأنَّ الأخلاقَ الرَّذيلةَ السَّافِلةَ إذا انتشَرَتْ في الأُمَّةِ فعليها الوَدَاعُ .
9- أنَّ بَنِي آدَمَ بطبيعتِهم يَتَسلَّى بعضُهم ببعضٍ، ويَقْوَى بعضُهم ببعضٍ؛ لقوله تعالى: كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً .
10- مِنْ مباحث اللَّفْظ في الآياتِ: أنَّ "الفاءَ" في قوله تعالى: فَتَكُونُونَ سَوَاءً للعَطْفِ لا للجَوَاب؛ كقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ .
11- تحريمُ اتِّخاذ أولياءَ من الكُفَّار حتَّى يُهاجِرُوا في سبيل الله، فمَنْ تولَّى عن الهجرة في سبيل الله فليس وَلِيًّا لنا، ويجب علينا مُقاتلتُه؛ لقوله تعالى: فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ ، ففيها الحذَرُ من مُوَالاةِ المشركينَ والمنافقينَ والْمُشْتَهرين بالزَّنْدَقَة والإلْحَاد؛ وذلك لأنَّ أعَزَّ الأشياءِ وأعْظَمَها عند جميعِ الخَلْقِ هو الدِّينُ؛ فهو الأمر الَّذي به يُتقرَّبُ إلى اللهِ تعالى، ويُتَوَسَّلُ به إلى طَلَبِ السَّعادة في الآخرة، فالعَدَاوة الحاصِلَة بسببه أعظمُ أنواع العَدَاوة، فهم مُضْمِرُون الكُفْرَ، ويحاولون ردَّ من يستطيعون ردَّه من المسلمين إلى الكفر، قال تعالى وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً .
12- فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ وهذا يستلزمُ عدمَ مَحبَّتهم؛ لأنَّ الوَلايةَ فرْعُ المحبَّة، ويستلزمُ أيضًا بُغْضَهُم وعداوتَهُم؛ لأنَّ النَّهيَ عن الشَّيء أمرٌ بِضِدِّه، وهذا الأمر مُوَقَّتٌ بهجرَتِهِم، فإذا هاجرُوا جَرَى عليهم ما جَرَى على المسلمينَ .
13- قولُ اللهِ تعالى: حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لم يقُلِ الله تعالى: (حتَّى يُهاجِروا عن الكُفْر) مثلًا، بل قال: حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وذلك يَتناولُ كلَّ معاني الهجرة، فيدخل فيه مُهاجرة دارِ الكفر ومهاجَرة شعارِ الكُفْر .
14- تمامُ وفاءِ الإسلام بالعهدِ؛ حيثُ حَمَى العهْدَ لِمَن باشَرَ عَقْدَ العَهْدِ معنا ومَنْ لَجَأ إليه، ويؤخَذُ من قوله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ الآية .
15- أنَّ أفعال العِبَاد واقعةٌ بمشيئة الله؛ لقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ، فيُستَفَادُ منها الرَّدُّ على طائفةٍ مُبتدِعَةٍ زائغةٍ وهُمُ: القَدَرِيَّة، الَّذين يقولون: إنَّ فِعْلَ الإنسان مُسْتَقِلٌّ به لا علاقة لله به، ودليلُ ذلك قولُهُ تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ .
16- وفي قوله: فَلَقَاتَلُوكُمْ الرَّدُّ على الْجَبْرِيَّة؛ حيث نَسَب القتالَ إلى الإنسان، وهم لا ينسبون الفِعْل إلى الإنسان إلَّا على سبيل المجاز، فمثلًا: يقولون: الرَّجُل إذا صلَّى إنَّما صلَّى على سبيل المجاز، وإلَّا في الحقيقة أنَّه أُجْبِر على الصَّلاة .
17- أنَّه إذا اعْتَزَلَنَا مَنْ بيننا وبينه عَهْدٌ وأمان، ولم يقاتِلْ، وألقى السَّلَمَ وَجَبَ الكفُّ عنه؛ لقوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ... .
18- الحاصِلُ بالمفهوم أنَّهم لو أخذوا منَّا الميثاقَ ولكنَّهم خانُوا فقاتَلُونا فإنَّ العهد ينتقِضُ، ولا يكون بيننا وبينهم عهدٌ، يُؤخَذُ من مفهوم قوله: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا .
19- أنَّ من ألقى السلاح وجَبَ الكفُّ عنه؛ لقوله: فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، لكن إنْ خِيفَ أنَّ إلقاءَهُ السِّلاحَ خيانةٌ وخِداعٌ فإنَّه لا عِبْرَة بإلقائه؛ لأنَّ العَدُوَّ قد يُلْقي السِّلاحَ غَدْرًا وخيانةً، وقد ينهزم أيضًا أمام جيوشنا غَدْرًا وخيانةً، فالواجب التَّنَبُّهُ .
20- أنَّ الشَّرْع مَنْعًا ودفعًا وإذنًا كلُّه لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله: فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمرَ بِيَدِ الله؛ فهو الَّذي يحكم بما شاء من حِلٍّ وحُرْمَةٍ وإيجابٍ وغيرِ ذلك .
21- عِلْمُ الله عزَّ وجلَّ بالغيب؛ لقوله: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ .
22- إثباتُ الإرادة للعبدِ، وتؤخَذُ من قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ .
23- أنَّه لا يمكن الجمعُ بين الوَلاية والعَدَاوة، ولا يُمْكن أن يكون الإنسانُ وَلِيًّا لأولياءِ الله، وولِيًّا لأعداءِ الله، هذا شيء لا يمكنُ؛ لقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ، وهذا قالَهُ في مقامِ الذَّمِّ لا في مقام المدْحِ .
24- أنَّ هؤلاءِ القومَ لَمَّا لم يكونوا صادقين في الإيمان؛ كانوا كلَّما رُدُّوا إلى الفتنة أُرْكِسُوا فيها، وهكذا كل إنسانٍ ليس صادقًا في إيمانه، فإنَّه كُلَّما رُدَّ إلى الفتنة ازدادَ شرًّا وَرِكْسًا، قال تعالى: كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ: الاستفهام للإنكارِ، والتعجُّبِ مِن الانقسامِ إلى فِئتينِ في شأنِ المنافقين؛ والنَّفيُ والخِطابُ لجميعِ المؤمنين، لكنْ ما فيه مِن معنى التَّوبيخِ متوجِّهٌ إلى بعضِهم
.
2- قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: استئنافٌ بيانيٌّ نشَأ عن اللَّومِ والتعجُّب الذي في قوله: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ؛ لأنَّ السَّامعين يَترقَّبون بيانَ وجْهِ اللَّوم، ويَتساءلون عمَّاذا يتَّخذون نحوَ هؤلاء المنافقين. والاستفهام للإنكار، وقد دلَّ هذا الاستفهامُ الإنكاريُّ المشوبُ باللَّومِ على جملة محذوفةٍ هي محلُّ الاستئنافِ البيانيِّ، وتقديرُها: إنَّهم قد أضلَّهم الله، أتُريدون أن تَهْدُوا من أضلَّ الله؛ هذا بناءً على أنَّ قوله: وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ليس المرادُ منه أنَّه أضلَّهم، بل المراد منه: أساءَ حالَهم، وسوءُ الحال أمرٌ مُجمَل يفتقرُ إلى البيان، فيكون فصْلُ الجملةِ فصلَ الاستئناف. وأمَّا على أنَّ المعنى: أنَّه ردَّهم إلى الكفر، تكون جملةُ أَتُرِيدُونَ استئنافًا ابتدائيًّا، ووجْه الفَصْل-أي: عدم العطفِ- أنَّه إقبالٌ على اللوم والإنكار بعدَ جملة وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ التي هي خبريَّة؛ فالفصلُ لكمالِ الانقطاع؛ لاختلافِ الغرَضينِ .
- وفيه تجريدٌ للخِطاب وتخصيصٌ له بالقائلين بإيمانِهم مِن الفئتين، وتوبيخٌ لهم على زعْمهم ذلك، وإشعارٌ بأنَّه يؤدِّي إلى محاولة المُحالِ الذي هو هدايةُ مَن أضلَّه الله تعالى؛ وذلك لأنَّ الحُكمَ بإيمانهم، وادِّعاء اهتدائِهم- وهم بمَعْزلٍ من ذلك- سعيٌ في هدايتهم وإرادةٌ لها
- ووضْعُ الموصولِ (مَنْ) موضعَ ضميرِ المنافقين (تَهْدُوهم)؛ لتشديدِ الإنكارِ وتأكيدِ استحالةِ الهدايةِ بما ذُكر في حيِّزِ الصِّلةِ .
- وفيه توجيهُ الإنكارِ إلى الإرادةِ في قوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا، لا إلى مُتعلَّقها- حيث لم يَقُل: (أتهدون... إلخ)-؛ للمبالغةِ في إنكارِه ببيانِ أنَّه ممَّا لا يمكن إرادتُه، فضلًا عن إمكانِ نفْسِه، وحمْل الهدايةِ والإضلالِ على الحُكم بما يأباه .
- قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا: فيه توجيهُ الخِطابِ إلى كلِّ واحدٍ من المخاطَبينَ؛ للإشعارِ بشُمول عدمِ الوجدان للكلِّ على طريقِ التفصيلِ. وعلى أنَّ الجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر للإنكارِ السَّابق، ومؤكِّد لاستحالة الهداية؛ فحينئذٍ يجوز أن يكون الخِطاب لكلِّ أحد ممَّن يَصلُح له مِن المخاطَبين أولًا ومِن غيرهم .
3- قوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كلامٌ مستأنَفٌ مسوقٌ لبيانِ غُلوِّهم وتمادِيهم في الكُفر، وتصدِّيهم لإضلالِ غَيرِهم إثرَ بيانِ كُفْرهم وضلالهم في أنفسهم .
4- قوله: وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ جملةٌ جاريةٌ مجرى التَّعليلِ لاستثناءِ الطائفةِ الأخيرةِ مِن حُكم الأخْذ والقَتْل، ونظْمُهم في سلكِ الطائفةِ الأولى الجارِيَة مَجرى المعاهَدِينَ مع عدَمِ تَعلُّقهم بنا، ولا بمَن عاهدونا كالطائفةِ الأولى، أي: ولو شاءَ الله لسلَّطهم عليكم بِبَسْطِ صدورهم، وتقويةِ قلوبهم، وإزالة الرُّعْب عنها .
5- قوله: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا فيه حُسْنُ بلاغة القرآن؛ حيث قال هنا: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وهناك في الآيةِ الأولى قال: حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ؛ لأنَّ اختلافَ الألفاظِ يؤدِّي إلى النَّشَاط، واتفاقها يؤدِّي إلى المَلَل غالبًا .
-
سُورةُ النِّساءِ
الآيات (92- 94)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ
غريبُ الكَلِمات:

ضَرَبْتُمْ: أي: سافرْتُم وسِرْتُم، وخرجتم وتباعدتُم في الأرض، وأصلُ الضَّرْب: إيقاعُ شيء على شيء
.
تَبْتَغُونَ: تَطلُبون؛ يُقال: بَغَى الشَّيءَ، أي: طلبَه، وأصلُ البَغْي: جِنْسٌ من الفساد، ويُطْلَق على طلبِ الشَّيء، والظُّلْم، والتَّرفُّع والعُلُوِّ، ومُجاوَزَة المقدار .
عَرَضَ الْحَيَاةِ: أي: الغَنيمةَ، أو المالَ، ويُطلقُ العَرَضُ على المتاع والحُطام، وأصل (عرض): العَرْضُ الذي يُخالِفُ الطُّولَ .
فَمَنَّ: أي: أنْعَم، وصنَعَ الصُّنع الجَميل، والمِنَّة: النِّعمة الثَّقيلة، وأصل (منن): اصطناعُ الخير

.
مشكل الإعراب:

قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً
إِلَّا خَطَأً: الاستثناءُ هنا؛ قِيل: إنَّه استثناءٌ منقطِعٌ؛ أي: لكنْ إنْ قتَلَه خَطأً فجزاؤُه ما يُذْكَرُ. وقِيل: إنَّه استثناءٌ متَّصل- إنْ أُريدَ بالنَّفيِ التحريمُ- والمعنى: إلَّا خطأً بأنْ عَرَفَه كافرًا فقتَلَه، ثم ظهَر أنَّه كان مؤمِنًا. وقيل: إنَّه استثناءٌ مُفَرَّغٌ من أحوالٍ عامَّة- أو عِللٍ عامَّة- مَحذوفةٍ، وهو الاستثناءُ النَّاقِصُ المنفيُّ. وفي نَصْبِ خَطَأً أوجه؛ أحدها: أنَّه منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ لأجْلِه، أي: ما يَنبغي له أنْ يَقتُلَه لعلَّةٍ من العِلل إلَّا للخطأِ وحدَه. الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحَالِ، والتقدير: ما يَنبغي أن يَصدُر منه قتلٌ له إلَّا مُخطِئًا في قتْله، أي: ما يَنبغي له أن يَقتُلَه في حالٍ مِن الأحوالِ إلَّا في حالِ الخَطأِ. الثالث: أنْ يكونَ نائبًا عن المفعولِ المُطْلَق؛ أي: إلَّا قَتْلًا خَطأً

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يُخْبِر تعالى أنَّه ليس للمؤمن أن يقتُلَ أخاه المؤمِنَ إلَّا أن يكون ذلك القتلُ صادرًا عن خَطَأ غيرِ مقصودٍ، فإذا ما حصل القتلُ خطأً فعلى القاتل أن يُكَفِّر عن فعله ذاك بتحريرِ رقَبَة مؤمن أو مؤمنة من الرِّقِّ، وعليه أيضًا دِيَةٌ كاملةٌ تتحمَّلُها عاقِلَتُه، تُدْفَعُ إلى وَرَثَة المقتول، إلَّا أن يَتَصَدَّقوا بإسقاطِ الدِّيَة فلا تَجِبُ عليه حينَها، فإنْ كان المقتولُ مؤمنًا لكنَّه من قومٍ كُفَّار حَرْبِيِّينَ فلا يجب على قاتله خطأً إلَّا تحريرُ رقبةٍ مؤمِن أو مؤمِنة من الرِّقِّ، وإن كان من قوم بين المؤمنين وبينهم عهدٌ وذمَّةٌ أو هُدْنة وليسوا بحربيِّين، فعلى القاتل دفْعُ دِيَة إلى ورثة المقتول تتحمَّلها عاقلةُ القاتل، وعليه أيضًا تحريرُ رقبةِ مؤمنٍ أو مؤمنةٍ من الرِّقِّ، فمن لم يجد الرَّقَبة لِيُعْتِقَها أو لم يَجِدْ ثَمَنَها فعليه صيامُ شهرين متتابعينِ، شَرَعَ الله ذلك لعبادِهِ؛ توبةً منه تعالى عليهم ورحمةً، وكان الله عليمًا حكيمًا.
ثمَّ توعَّد اللهُ تعالى مَن يَقتُلُ مؤمنًا عن عَمْدٍ وقصْدٍ لإتلافِ رُوحِهِ- توعَّده بأنَّ عقوبَتَه هي المُكْثُ الطويلُ في جَهنَّم، وغَضِبَ الله عليه، وطَرَدَه من رحمته، وأعَدَّ له عذابًا عظيمًا، وهذه العقوبةُ هي ما يستحقُّه إنْ عاقَبَه الله تعالى.
ثمَّ يُخاطِبُ الله المؤمنينَ آمِرًا إيَّاهم أن يتبيَّنوا إذا خرَجوا للجهادِ في سبيل الله ويتثبَّتوا في قتْل مَن أَشكَلَ عليهم أمرُه فلم يتيقَّنوا مِنْ إسلامِهِ أو كُفْرِهِ، ولا يقولوا لِمَن أظهَرَ لهم إسلامَهُ واستسلم ولم يُقاتِل: إنَّه ليس مُسلمًا، بل عليهم أن يأخذوا الظَّاهِرَ من حاله، ولا يقتلوه طلبًا لمتاع الحياةِ الدُّنيا، وذلك لسَلْب ما معه من مالٍ، مذكِّرًا إيَّاهم سبحانه أنَّهم كذلك كانوا من قبلُ يُخْفُون إيمانَهُم من قومِهِمُ المشركينَ، فتفضَّلَ الله عليهم بإعزازِ دينِهِ فأظهروا ما كانوا يُخْفُون، فعليهم أن يتثبَّتوا قبل أن يُقْدِمُوا على قَتْلِ مَنْ أشْكَلَ أمرُه، إنَّ الله كان بما يعملون خبيرًا.
تفسير الآيات:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان الكلامُ في قِتالِ المتظاهرين بالإسلام الَّذين ظَهَر نفاقُهم، فلا جَرَمَ أنْ تتشَوَّفَ النَّفسُ إلى حُكم قَتْلِ المؤمنين الخُلَّصِ، فانتَقَلَ من تحديدِ أعمال المسلمين مع العَدُوِّ إلى أحكامِ معاملةِ المسلمينَ بَعضِهم مع بعضٍ: من وجوبِ كفِّ عدوانِ بَعضِهِم على بعضٍ، وأحكام قتْل مَن لا يَحِلُّ قَتْلُه من مؤمنٍ ومعاهَدٍ وذِمِّيٍّ، وما يقع مِن ذلك خطأً
.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً
أي: ليس لمؤمنٍ أنْ يقتُل أخاه المؤمنَ ولا يَحِلُّ له ذلك، كما أنَّه أمْرٌ ممتنِعٌ صدورُهُ من مؤمنٍ؛ لأنَّه منافٍ للإيمان، إلَّا أن يرتكِبَ ذلك غيرَ عامدٍ له ولا قاصِدٍ إليه .
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
أي: إذا ارتكبَ المؤمنُ القتْلَ غيرَ عامدٍ له ولا قاصِدٍ إليه، فعليه أن يُكَفِّرَ عن ذلك بتحريرِ مؤمنٍ أو مؤمنةٍ من رِقِّ العبوديَّةِ .
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا
أي: وعلى القاتِل دفْعُ دِيَةٍ كاملة- ولكنْ تتحمَّلُها عاقِلَتُه- إلى ورثَةِ المقتولِ عِوَضًا لهم عمَّا فاتَهُم من قريبهم وجَبْرًا لقلوبهم إلَّا إذا تصدَّقُوا بإسقاطِ الدِّيَة، فلا تجب حينئذٍ .
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
أي: فإنْ كان هذا المقتولُ الَّذي قَتَلَه المؤمِنُ خطأً من كُفَّارٍ حربِيِّينَ، لكنَّه مؤمنٌ، فلا دِيَةَ لهم، وعلى القاتل عِتْقُ رقبةٍ مؤمنة لا غيرُ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
أي: وإنْ كان القَتيلُ الَّذي قتَلَه المؤمنُ خطأً من قومٍ بينكم- أيُّها المؤمنونَ- وبينهم عهْدٌ وذمَّةٌ أو هُدْنة, وليسوا أهلَ حربٍ لكم .
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
أي: فعَلى القاتِلِ دِيَةٌ- تتحمَّلُها عاقِلَتُه- يدفعها إلى ورثة المقتولِ، وعِتْقُ رقبةٍ مؤمنة كفَّارةً لقتْلِهِ .
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
أي: فمَن لم يَجِدْ رقبةً مؤمنةً يُعْتِقُها كفَّارةً لخطئه في القتل، أو لم يَجِدْ ثَمَنَها، بأنْ كان مُعْسِرًا، ليس عنده ما يَفْضُل عن حوائجِه الأصليَّة، فعليه ِصيامُ شهرين، يَسْرُدُ صومَهُما إلى آخرهِمَا دون إفطارٍ فيهما .
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
أي: هذه الكَفَّاراتُ الَّتي شَرَعَها اللهُ للمُؤمِنِ الذي قَتَلَ مؤمنًا خطأً؛ توبةً منه على عباده ورحمةً بهم، وتكفيرًا لما عَسَاه أنْ يَحصُلَ منهم من تقصيرٍ وعَدَمِ احترازٍ، ولو شاء اللهُ تعالى لشَقَّ عليهم، ولكان الواجبُ بقتلِ الخطأِ أكبرَ من ذلك .
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى عليمٌ بكلِّ شيءٍ، ومن ذلك عِلْمُه بما يُصلِحُ عباده فيما يكلِّفُهم من فرائِضِه وغير ذلك، وهو سبحانه الحكيم في كلِّ شيء، فيَضَع كلَّ شيء في موضِعِه اللَّائق به، ومن ذلك حِكْمَته فيما يَشْرَعه لعباده من أحكام .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ الله سبحانه وتعالى حُكْمَ القتل الخطأ ذَكَرَ بعده بيانَ حُكْم القتل العَمْد؛ لأنه هو المقصودُ من التَّشْرِيع لأحكام القَتْلِ؛ لأنَّه هو المتوقَّعُ حصولُهُ من النَّاس وإنَّما أُخِّرَ لتهويلِ أمْرِه .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
أي: ومَن يقتُلْ مؤمنًا مُتَعَمِّدًا قتْلَهُ، قاصدًا إتلافَ نفسِهِ، فإنَّما عقوبتُه الَّتي يستحِقُّها إنْ عَاقَبَهُ الله تعالى الخُلُودُ في نار جهنَّم- فقد يكون له من توحيدِ الله تعالى وتوبتِهِ وأعمالِه الصَّالِحَة ما يَصْرِف عنه هذه العقوبةَ- وقيل: بلِ المرادُ بالخلودِ هنا الْمُكْث الطويلُ؛ إذ لا يُخَلَّد مَنْ في قلبه إيمانٌ في النَّارِ أبَدَ الآبدينِ .
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
أي: سَخِطَ عليه الجبَّارُ سبحانه، وطَرَدَه وأبعدَهُ من رحمته جَلَّ وعَلا .
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
أي: وهَيَّأَ اللهُ تعالى له عقوبةً كبيرةً، لا يعلمُ قَدْرَ مَبْلغِها سِواه عزَّ وجلَّ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا تَبيَّنَ بهذا المنعِ الشَّديد مِنْ قَتْلِ العمْد، وما في قتلِ الخَطَأ من المؤاخذةِ الموجِبَة للتثبُّت، وكان الأمر قد بَرَزَ بالقتالِ والقَتْل في الجِهَاد ومؤكَّدًا بأنواعِ التَّأكيد، وكان ربَّما التبس الحالُ؛ أتبعَ ذلك التَّصريحَ بالأمرِ بالتثبُّتِ، ولَمَّا كان خفاءُ ذلك منوطًا بالأسفارِ قال: إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وإلا فالتثبُّت والتبيُّن لازمٌ في قتلِ من تظاهَرَ بالإسلامِ في السَّفَر وفي الحَضَر فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
سَببُ النُّزول:
عنِ ابْنِ عباسٍ رضِي اللهُ عنهما وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا قال: كان رجلٌ في غُنَيْمَةٍ له فلحِقَه المسلمون. فقال: السَّلامُ عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتَه فأنزل الله في ذلك إلى قوله: عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تلكَ الغُنَيْمَة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
القراءات ذات الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا قراءتان:
1- فَتَثَبَّتُوا: من التثبُّت الَّذي هو خلاف العَجَلَةِ .
2- فَتَبَيَّنُوا: من التبيُّن, بمعنى: التَّأنِّي والنَّظَر والكَشْف عنه حتَّى يتَّضِحَ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
أي: يا أيُّها المؤمنون إذا سِرْتُم في جهادِ أعدائِكم فتأنَّوْا في قتلِ من أشكَلَ عليكم أمرُهُ , فلم تعلموا حقيقةَ إسلامِهِ ولا كُفْره, ولا تَعْجَلُوا فتقتُلُوه قبل أنَّ تتثبَّتوا وتتيقَّنوا أمرَه .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
القراءات ذات الأثر في التَّفسير:
في قوله تعالى: السَّلَامَ قراءتان:
1- السَّلَمَ أي: الاستسلامُ والانقياد، فالمعنى: لا تقولوا لمنِ استسلَمَ إليكم وانقاد: لستَ مُسلمًا .
2- السَّلَامَ الَّذي هو تحيةُ الإسلام، فالمعنى: لا تقولوا لِمَن حيَّاكم بتحيَّة الإسلام: لستَ مؤمنًا .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
أي: لا تقولوا لِمَنِ استسلم لكم فلم يُقاتِلْكم, مُظْهِرًا لكم أنَّه مُسْلِمٌ مِثْلُكم: لستَ كذلك، بل خُذُوه بظاهِرِ حاله .
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ
أي: فتقتلُوه لأجْل أخْذِ ما لديه من مالٍ طلبًا لمتاعِ الحياة الدُّنيا. فلا يحمِلَنَّكُمُ العَرَضُ الفانِي القليلُ على ارتكابِ ما لا يَنبغي فيفُوتَكم ما عند الله من الرِّزْق والمغانم الحلال، فما عندَ الله خيرٌ لكم من مالِ هذا .
كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا
أي: قد كنتُم- أيُّها المؤمنون- مِن قَبلُ تُخفُون إيمانَكم في قومِكم من المشركينَ وأنتم بين أظْهُرِهم, كهذا الَّذي قتلتُمُوه يُسِرُّ إيمانَه ويُخْفِيه من قَوْمِه من المشركين، فتفضَّلَ الله عليكم بإعزازِ دينِه وإظهارِ ما كنتم تَسْتَخْفُون به، فتثبَّتُوا حتَّى يتَّضِحَ لكم أمْرُه قبل أنْ تقتلوه .
عن أبي ظَبْيَانَ قال: سمعتُ أسامةَ بنَ زيدِ بنِ حارثةَ رضِي اللهُ عنه يُحدِّث، قال: ((بعَثَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الـحُرَقةِ مِن جُهينةَ، فصَبَّحْنا القومَ فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجُلٌ من الأنصارِ رجُلًا منهم، فلمَّا غَشيناه قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، قال: فكفَّ عنه الأنصاريُّ فطعنتُه برُمحي فقَتلتُه، فلمَّا قَدِمْنا بلَغَ ذلك النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا أسامةُ، أقتلتَه بعدَما قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ؟! قلتُ: يا رسولَ الله، إنَّما كان مُتعوِّذًا! قال: أقتلتَه بعدَما قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ؟! قال: ما زالَ يُكرِّرها عليَّ حتَّى تمنيتُ أنِّي لم أكُنْ أسلمتُ قبلَ ذلك اليومِ! )) .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى بكلِّ ما تَعملونه وتَنْوُونَه ذو خبرةٍ وعِلْمٍ به ومِنْ ذلك قَتْلُكم مَن تَقتُلون، وكَفُّكم عمَّنْ تكفُّون عن قتْلِه، فيَحفَظ عليكم ذلك ويُجازيكم به

.
الفوائد التربوية:

1- يُرشِدُ قولُ الله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا إلى فَضيلةِ العَفْو والحضِّ عليه، وأنَّه جارٍ مَجْرى الصَّدَقة، واستحقاقِ الثوابِ الآجِلِ به دونَ طَلبِ العَرَضِ العاجِل؛ حيثُ سَمَّى العفوَ صَدَقةً؛ حثًّا عليه، وتنبيهًا على فضلِه
.
2- وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا لم يَرِدْ في أنواع الكبائرِ دونَ الشِّركِ أعظمُ من هذا الوعيد، بل ولا مثلُه، ألَا وهو الإخبارُ بأنَّ جزاءَه جهنَّمُ خالدًا فيها، أي: فهذا الذَّنبُ العظيمُ قد انتَهضَ وَحْدَه أن يُجازَى صاحبُه بجهنَّم، بما فيها من العذابِ العظيم، والْخِزْي الْمُهِين، وسَخَطِ الجبار، وفَوَات الفوز والفلاح، وحُصُول الْخَيْبَة والْخَسَار. فعِياذًا بالله من كُلِّ سببٍ يُبْعِدُ عن رحمته .
3- قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا فيه بيانُ حكمةٍ عظيمة في حِفْظِ الجامعة الدِّينيَّة، وهي بثُّ الثِّقة والأمان بين أفراد الأمَّة، وطرْح ما من شأنه إدخالُ الشَّكِّ؛ لأنَّه إذا فُتِح هذا البابُ عَسُر سَدُّه، وكما يَتَّهِم الْمُتَّهِمُ غيرَه فللغيرِ أنْ يتَّهِم مَنِ اتَّهَمَه، وبذلك ترتفعُ الثِّقة، ويَسْهُل على ضعفاء الإيمان الْمُرُوقُ؛ إذ قد أصبحتِ التُّهْمَة تُظِلُّ الصادقَ والْمُنافِقَ .
4- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وجوب التثبُّت في الأمور، حتَّى في الجهاد في سبيل الله؛ فالتثبُّت يحصُل فيه من الفوائِد الكثيرة، والكفِّ لشرورٍ عظيمة، ما به يُعرَف دينُ العبد وعقْلُه ورَزَانته، بخلافِ المستعْجِل للأمور في بدايتها قبل أن يتبيَّنَ له حكمُها، فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الَّذين عاتَبَهم الله في الآية لمَّا لم يتثبَّتوا وقَتَلوا من سلَّمَ عليهم، وكان معه غُنَيْمَة له أو مالُ غيرِه، ظنًّا أنَّه يستكفِي بذلك قَتْلَهُم، وكان هذا خطأً في نفس الأمر، فلهذا عاتبهم بقوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ .
5- متاعُ الدُّنيا حُطامٌ سريع النَّفَاد، وثوابُ الله تعالى موصوفٌ بالدَّوام والبقاء، كما في قول الله تعالى تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ .
6- أنَّ العبدَ يَنبغي له إذا رأَى دَواعيَ نفْسِه مائلةً إلى حالةٍ له فيها هوًى وهي مُضِرَّةٌ له، أن يُذَكِّرَها ما أعدَّ الله لمن نَهَى نفسَه عن هواها، وقدَّم مرضاةَ الله على رضا نفْسِه، فإنَّ في ذلك ترغيبًا للنَّفْس في امتثالِ أمْرِ الله، وإنْ شَقَّ ذلك عليها، قال تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ .
7- قولُ الله تعالى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا فيه تربيةٌ عظيمةٌ، وهي أنْ يستشعرَ الإنسانُ عندَ مؤاخذتِه غيرَه أحوالًا كان هو عليها تُساوِي أحوالَ مَن يؤاخِذُه .
8- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا تهديدُ الإنسانِ أنْ يعملَ ما لا يُرضي الله عزَّ وجلَّ، يعني: لا تظُنَّ أنَّكَ إذا عَمِلْتَ شيئًا فإنَّه يخفى على الله أبدًا، ومتى آمَنَ الإنسانُ بهذا فإنَّه لن يُقْدِم على شيء لا يرضاه الله؛ لأنَّه يعلم أنَّ الله يعلم بهذا، حتَّى في قلبه؛ يحفَظُ قلْبَه من الانحرافِ والانجراف إذا عَلِمَ بأنَّ الله تعالى خبيرٌ بما يعمل، لكنْ هذه المسائل تحتاج إلى فِطْنةٍ، وأنَّ الإنسان دائمًا يكون مراقِبًا لله سبحانه، خائفًا منه، وكلَّما هَمَّ بشيء ذَكَرَ عظمةَ الله عزَّ وجلَّ وعِلْمَه بما سيعمل حتَّى يمتنع

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- امتناعُ قَتْلِ المؤمِنِ للمؤمِنِ عمْدًا، ويُؤخَذُ من قوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً، وإذا جاءت (ما كان) أو (لم يكن) أو (لا ينبغي) أو (ما ينبغي) فإنَّها تفيدُ الامتناعَ، ولكنْ هذا الامتناعَ شرعِيٌّ؛ لأنَّه قَدَرًا يمكن أن يقتله عمدًا لا خطأً، فإذًا: هو شرعًا لا يُمْكن، ويمتنع ويستحيل أن يصدُرَ من مؤمِنٍ قتلُ مؤمنٍ، أي: متعمِّدًا؛ ولهذا يُعتبَر مَنْ قَتَلَ المؤمنَ خطأ ناقصَ الإيمان جدًّا، حتَّى إنَّه يَصِحُّ أنْ ننفيَ عنه الإيمانَ
.
2- الإيمانُ الصَّحيحُ يَمنَعُ المؤمنَ مِنْ قتْل أخيه الَّذي قد عَقَدَ الله بينه وبينه الأُخُوَّةَ الإيمانيَّةَ الَّتي مِنْ مقتضاها محبَّتُه ومُوالاته، وإزالةُ ما يَعْرِض لأخيه من الأذى، وأيُّ أذًى أشدُّ من القتل؟ لذا قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا .
3- القتْلُ من الكُفرِ العِمليِّ وأكبر الكبائر بعد الشِّرْكِ بالله، ولَمَّا كان قوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا لفظًا عامًّا لجميع الأحوال، وأنَّه لا يصدُرُ منه قتلُ أخيه بوجهٍ من الوجوه، استثنى تعالى قتْلَ الخَطَأِ، فقال: إِلَّا خَطَأً فإنَّ المخطِئَ الَّذي لا يقصِدُ القتلَ غيرُ آثمٍ، ولا مجترِئ على محارِمِ الله، ولكنَّه لَمَّا كان قد فعل فعلًا شنيعًا وصُورَتُه كافيةٌ في قُبْحه وإن لم يقصِدْه، أَمَرَ تعالى بالكَفَّارة والدِّيَة، فقال: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً .
4- أنَّ المؤمِنَ قد يَقتُلُ غيرَ المؤمِنِ عمدًا؛ لقوله: أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا، ولكن هل هذا جائزٌ؟ الجواب: فيه تفصيلٌ: إنْ كان محارِبًا فقتْلُه جائزٌ، ثمَّ قد يَجِب أو لا يجِب على حَسَب ما تَقتضيه الحالُ، وإنْ كان معاهَدًا أو مُسْتأمَنًا أو ذِمِّيًّا فقتْلُهُ حرامٌ .
5- فضيلةُ العِتْقِ وعُلُوُّ منزلتِه؛ لأنَّه صارَ كفَّارةً لهذا الذنبِ، وهو قتْلُ المؤمِنِ؛ قال تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .
6- قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فيه تشوُّفُ الشَّارعِ إلى تحريرِ الرِّقاب من الرِّقِّ، ويتفرَّعُ على هذه الفائدة الرَّدُّ على من أنكر على المسلمين الاسْتِرْقَاقَ، فيقال: إنَّ الاسترقاقَ جاء نتيجةً لأمرٍ ضروريٍّ، ومع ذلك فإنَّ هناك مُشَجِّعَاتٍ كثيرةً على التَّحْريرِ .
7- اشتراطُ الإيمانِ في عِتْق الرَّقَبة في القتلِ؛ لقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .
8- جواز إعتاقِ الذَّكَر والأنثَى في كفَّارَةِ القتلِ، وتُؤخَذ من الإطلاقِ في قوله: تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ولم يَقُلْ: ذَكَر ولا أنثى، فيكون مُطلقًا .
9- قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ فيه تعظيمُ القتلِ؛ ولهذا أوجب اللهُ فيه الكَفَّارة، مع أنَّ القاعدةَ الشَّرعيَّة أنَّ المخطِئَ لا كفَّارةَ عليه، وأنَّه مرفوعٌ عنه القَلَمُ، لكنْ تعظيمًا لشأنِ القتل صار الَّذي يصدُرُ منه القتلُ ولو مخطئًا عليه الكَفَّارةُ .
10- الحِكمةُ تَقتضي أنْ لا يُجزئُ عتقُ الْمَعِيبِ في الكَفَّارةِ؛ لأنَّ المقصودَ بالعتقِ نَفْعُ العتيقِ، وملْكُه منافعَ نفسِه، فإذا كان يَضيع بعِتْقه، وبقاؤه في الرِّقِّ أنفعُ له فإنَّه لا يُجزئ عِتْقُه، مع أنَّ في قوله: تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ما يدلُّ على ذلك؛ فإنَّ التحرير: تخليصٌ مَنِ استحقَّت منافعه لغيرِه أنْ تكون له، فإذا لم يكن فيه مَنافعُ لم يُتَصَوَّرْ وجودُ التَّحرير. فتأمَّلْ ذلك فإنَّه واضح .
11- أشار قولُ الله تعالى: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إلى أنَّ الدِّيَةَ تَرضيةٌ لأهلِ القتيلِ .
12- أنَّه يجبُ على مَن وجبَتْ عليه الدِّيَةُ أنْ يُوصِلَها إلى أهلِ الميِّت؛ لقوله: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، فأهله هُمُ الورثة .
13- يُؤخَذ مِن قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، وهو مُستثنًى من قوله: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، أنَّ العفو عن الدِّيَة من الصَّدقة، وذلك أنَّ الصَّدقة إمَّا إعطاءٌ وإمَّا إبراءٌ، فالإعطاءُ ظاهر، والإبراء هو: أن يُبْرِئ الإنسان شخصًا مَدِينًا من الدَّيْنِ ويُسْقِطه عنه، لكن هذا لا يُجْزئ في الزكاة عن زكاة العَيْنِ .
14- في سماحِ المعاهَد للمؤمِنِ بالدِّيَة مِنَّةٌ عليه، والكتابُ العزيز الَّذي وصَفَ المؤمنين بالعزَّة لا يَفتح لهم بابَ هذه المنَّة، ومِن محاسِن نَظْمِ الكلام وتأليفه أن يؤخَّرَ المعطوف الَّذي له متعلَّقٌ على ما ليس له متعلَّق، وما متعلقاتُه أكثرُ على ما متعلقاتُه أقلُّ، وهذه نكتة لفظيَّة لتأخير ذكر الدِّيَةِ في حقِّ المؤمن؛ إذ تعلَّق بها الوصف، وهو قوله: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، والاستثناء وهو قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا .
15- قول الله تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا دليلٌ على جواز البراءة من الدَّيْنِ بلفظِ الصَّدقة، وعلى أنَّه لا يُشترطُ القَبولُ في الإبراءِ .
16- قوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فيه جوازُ العفْوِ عن الجَانِي، ولكن هذا مقيَّدٌ بما إذا كان في العفْوِ إصلاحٌ؛ لقول الله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ، فإنْ لم يكن فيه إصلاحٌ فترْكُ العفو أولى، بل قد يجب الأخْذُ بالحقِّ وترْكُ العفو؛ لأنَّ الإصلاحَ أهمُّ من المصلحة الخاصَّة، فالعفو عن الدِّيَة مصلحةٌ خاصَّة، لكنَّ الإصلاحَ مصلحةٌ عامَّة، فإذا كان هذا الَّذي قَتَلَ خطأً رجلًا متهوِّرًا لو عَفَوْنا عنه لذَهَب يقتلُ مرَّةً أخرى، وثالثة ورابعة، فإنَّ العَفْوَ عن هذا ليس من الإصلاحِ؛ وعليه فلا ينبغي العفْوُ .
17- قوله تعالى: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ... فيه أنَّ قتْلَ المعاهَد حرامٌ؛ لأنَّ الله أوجبَ في قتْل مَنْ بيننا وبينهم ميثاقٌ الدِّيَةَ والكَفَّارةَ .
18- أنَّ دِيَة الكافِرِ المعاهَد ليست كَدِيَة المُسلِمِ؛ لأنَّه قال: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ وهذه نكرة، وإعادة الكلمة بلفظ النكرة تدلُّ على أنَّ الثَّاني غير الأول، كما في قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا .
19- احترامُ الدِّين الإسلاميِّ للعهود والمواثيق؛ ولذلك لم يُهدِرْ حقَّ المعاهدِ الَّذي بيننا وبينه ميثاقٌ، بل أوجب الدِّيَةَ لأهْلِه؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ .
20- وجوبُ الكَفَّارة في قتْل مَنْ بيننا وبينهم ميثاقٌ وإنْ كانوا غير مسلمينَ؛ لقولِ اللهِ تبارك وتعالى: فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .
21- قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ومِنْ حِكْمَته أنْ أَوْجَبَ في القتْل الدِّيَةَ ولو كان خطأً؛ لتكونَ رادعةً وكافَّةً عن كثيرٍ من القتل باستعمالِ الأسبابِ العاصمةِ عن ذلك؛ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ. ومن حِكْمَته أيضًا أنْ وَجَبَتْ على العاقلةِ في قتْل الخطأِ، بإجماعِ العُلماء؛ لكونِ القاتلِ لم يُذنِبْ، فيَشُقُّ عليه أن يحمل هذه الدِّيَة الباهظة، فناسب أن يقوم بذلك مَنْ بينه وبينهم المعاونةُ والمُناصرة والمُساعدة على تحصيل المصالحِ وكفِّ المفاسِدِ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ .
22- أنَّ مَن لم يجِدِ الرقبةَ أو ثَمَنَها فعليه صيامُ شَهرينِ متتابعينِ؛ لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، ومَن لم يَستطعِ الصِّيامَ فلا شيءَ عليه، لا عِتْق رقبة لأنَّه لا يَجِدُ، ولا صيامَ لأنَّه لا يستطيع، ولا إطعام لأنَّه لم يُذكَر في الآية؛ ولهذا لمَّا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يكون الإطعام بدلًا عن الصيام ذكره كما في آيات الظِّهَار .
23- قولُ اللهِ تعالى: تَوْبَةً مِنَ اللهِ عدَّ سبحانه قتْلِ الخطأِ- بعدَ التَّعبير عنه باللَّام المقتضيَة أنَّه مباحٌ- ذنبًا؛ تغليظًا للحثِّ على مزيد الاحتياط .
24- قول الله تعالى: تَوْبَةً مِنَ اللهِ تاب يُطلَق على معنى نَدِم وعلى معنى قَبِلَ منه، وهي هنا بمعنى قَبِلَ التَّوبة بقرينة تعديته بـ (مِنْ) .
25- في قول اللهِ تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا إثباتُ اسمينِ من أسماءِ الله؛ أحدهما: العليم، والثَّاني: الحُكيم، واللهُ تعالى يَقرِن بين العليمِ والحَكيمِ في مواضعَ كثيرةٍ؛ ليُبيِّن أنَّ ما يَحكُم به سبحانه من الأحكامِ الشَّرعيَّة والأحكامِ الكونيَّة، فإنَّه صادرٌ عن علمٍ وحِكمةٍ لا عن جهلٍ وسَفَهٍ، وأصلُ الخطأِ في الحُكم إمَّا مِن الجَهل، وإمَّا من السَّفَه؛ فإنْ كان عن غير علمٍ فهو من الجهل، وإنْ كان عن غيرِ حِكمةٍ فهو من السَّفَه؛ ولهذا فالآياتُ الَّتي تتضمَّن أحكامًا يَختِمُها الله جلَّ وعلا كثيرًا بهذين الاسمين .
26- قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا في هذه الآية الكريمة دليلٌ على أنَّ قتْل المؤمن عَمدًا من كبائرِ الذُّنوب؛ لورودِ الوعيدِ عليه؛ وكل ذنبٍ رُتِّبَ عليه الوعيدُ والعقوبةُ فهو من كبائر الذُّنوب .
27- في قوله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إثباتُ الغضَبِ لله عزَّ وجلَّ، والغضبُ صفةٌ من الصِّفات الفعليَّة الَّتي تقَعُ بمشيئةِ الله تعالى، وكلُّ صفةٍ مُرتَّبةٍ على سببٍ؛ فهي من الصِّفاتِ الفِعليَّة؛ لأنَّها تُوجَد بوجودِ ذلك السَّببِ، وتَنتفي بانتفائِه .
28- أنَّ مَن قَتَل مؤمنًا متعمِّدًا فمِنْ جزائِه أنْ يُلْعَنَ، بأنْ يُطرَدَ مِن رحمة الله؛ لقوله: وَلَعَنَهُ، لكن لا يجوزُ أنْ نلعنَ القاتِلَ بعينِه، ونقول: أنتَ ملعونٌ مغضوبٌ عليك؛ لأنَّه يجوز أن يتوبَ فتزولَ اللَّعنةُ .
29- عِظَمُ عذابِ النَّار؛ لقوله: عَظِيمًا، والعظيم إذا استعظم الشَّيء صار بقدْرِ عظمة هذا المستعظِم، أي: إنَّه شيء عظيم عِظَمًا كبيرًا .
30- أنَّ الواجِبَ علينا معاملةُ الخَلق بالظَّاهر؛ لقوله: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ولم يقل: لستَ مسلمًا؛ لأنَّه ألقى السَّلامَ واستسلم، لكن لا تقولوا: لست مؤمنًا، يعني: لم يدخُلِ الإيمانُ في قَلبِك، فلا يجوزُ لنا أنَّ نتعدَّى الظَّاهِرَ الَّذي يبدو من الإنسان، حتَّى وإن وُجِدَت قرائنُ تدلُّ على خلافِ ظاهره، والدَّليل: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا .
31- عِلْمُ الله سبحانَه ببواطِنِ الأمور؛ لقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، ويدلُّ لذلك قولُه تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد: 3] ، فقد فسَّر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الباطِنَ بأنَّه (الَّذي ليس دونه شيءٌ) ؛ فكلُّ شيءٍ بأمْره، وكلُّ شيء بعِلْمِه، وكلُّ شيءٍ بسَمْعِه، وكلُّ شيء ببَصَرِه، فَعُلُوُّهُ عزَّ وجلَّ فوقَ كلِّ شيءٍ، ولا يمنَعُ مِنْ عِلْمِه بكلِّ شيءٍ .
32- الإسلامُ يمنعُ قَتْلَ مَن يُظهر الإسلامَ، ومن يُلْقِي السَّلَم أو السَّلامَ، ومَنْ بينَه وبينَ المسلمين عهدٌ وميثاقٌ إمَّا على المناصَرة، وإمَّا على تَرْكِ القتالِ، ومن اتَّصل بأهلِ الميثاقِ المعاهَدِين، ومن اعتزل القتالَ فلم يساعدْ فيه قومَه المقاتلينَ، وبَعْدَ هذا كلِّهِ رغَّب عن ابتغاء عَرَض الدُّنيا بالقتالِ; ليكون لِمَحْضِ رَفْعِ البغْي والعدوان، وتقرير الحَقِّ والإصلاح، ولا هَمَّ لجميع الدول والأمَمِ الآن إلَّا الرِّبْحُ وجَمْعُ الأموالِ، وهم ينقضُون العهدَ والميثاق مع الضُّعفاءِ، ولا يلتزمونَ حِفْظَ المعاهدات إلَّا مع الأقوياءِ، وهو ما شدَّد الإسلامُ في حفظه، وحافظ عليه النَّبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- في عهده، وحافَظَ عليه خلفاؤه الرَّاشِدونَ من بعده، فأين أرقى أمَمِ المدنيَّةِ من أولئك الأئمَّة الْمَهْدِيِّين


بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً: فيه انتقالُ الغرضِ الذي يُعيد نشاطَ السَّامع بتفنُّن الأغراض؛ فقدِ انتقلَ مِن تحديدِ أعمالِ المسلمين مع العدوِّ إلى أحكامِ معاملةِ المسلمين بعضِهم مع بعض، مِن وجوبِ كفِّ عُدوان بعضِهم على بعض
.
- وقوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً جاءَ بصِيغة المبالغةِ في النَّفي مَا كَانَ، وهي صِيغة الجُحودُ، أي: لا يَنبغي لمؤمنٍ أنْ يَقتُل مؤمنًا في حالٍ مِن الأحوالِ إلَّا في حالِ الخَطأ، أو أنْ يقتُل قتْلًا من القتْل إلَّا قتْلَ الخطأ، فكان الكلامُ حصرًا، وهو حصرٌ ادِّعائي مُرادٌ به المبالغةُ في النَّهي؛ كأنَّ صِفةَ الإيمانِ في القاتِلِ والمقتولِ تُنافي الاجتماعَ مع القَتْل في نفْسِ الأمرِ منافاةَ الضِّدَّينِ؛ لقصدِ الإيذانِ بأنَّ المؤمِنَ إذا قتَلَ مؤمنًا فقدْ سُلِبَ عنه الإيمانُ، وما هو بمؤمنٍ؛ على نحوِ: ((ولا يَشْرَبُ الخمرَ حينَ يَشرَبُها وهو مؤمنٌ )) ؛ فتكونُ جملةُ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً مستقلةً عمَّا بعدَها، غيرَ مرادٍ بها التشريعُ، بل هي كالمقدِّمة للتشريعِ؛ لقصدِ تفظيعِ حالِ قتْلِ المؤمنِ المؤمِنَ قتلًا غيرَ خطأٍ، وتكونُ خبريَّةً لفظًا ومعنًى .
- وقيل: إنَّ مَا كانَ خبرٌ مرادٌ به النَّهي؛ فيكون فيه تَنبيهٌ على أنَّ صورةَ الخطأِ لا يَتعلَّقُ بها النَّهي؛ إذْ قد عَلِم كلُّ أحدٍ أنَّ الخطأ لا يتعلَّقُ به أمرٌ ولا نهي، يعني: إنْ كان نوعٌ مِن قتْل المؤمِن مأذونًا فيه للمؤمن، فهو قتْلُ الخطأ، وقد عُلِم أنَّ المخطئَ لا يَأتي فِعلَه قاصدًا امتثالًا ولا عِصيانًا، فرَجَع الكلامُ إلى معنى: وما كان لمؤمنٍ أن يقتُلَ مؤمنًا قتلًا تتعلَّق به الإرادة والقصد بحال أبدًا، فتكون الجملةُ مبدأَ التشريع، وما بعدَها كالتَّفصيلِ لها .
2- قوله: فَدِيةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قيل: قَدَّم الدِّيَةَ هنا إشارةً إلى المبادرة بها حِفظًا للعهد، ولتأكيدِ أمْرِ التحريرِ بكونه ختامًا كما كان افتتاحًا في قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ؛ حثًّا على الوفاءِ به؛ لأنَّه أمانة لا طالبَ له إلَّا اللهُ .
وقيل: قدَّم هنا ذِكْرَ الدِّية، وأخَّرَ ذِكْرَ الكَفَّارة، وعَكَس في قتْل المؤمِن؛ لعلَّه للإشعارِ بأنَّ حقَّ الله تعالى في معاملةِ المؤمنين مُقدَّمٌ على حقوقِ النَّاس؛ ولذلك استثنى هنالك في أمر الدِّيَة فقال: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا; لأنَّ مِنْ شأنِ المؤمنِ العَفْوَ والسَّماحَ، واللهُ يُرَغِّبُهم فيما يَليقُ بكرامَتِهم ومكارِمِ أخلاقِهم، ولم يَستثْنِ هنا; لأنَّ مِن شأنِ المعاهَدين الْمُشَاحَّةَ والتَّشديدَ في حقوقِهم، وليسوا مُذْعِنين لهدايةِ الإسلام، فيُرَغِّبُهم كتابُه في الفضائل والمكارِمِ .
- وتكرَّرت جُملة: وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ؛ للتَّأكيدِ على تحريرِ الرِّقاب، وحصْر الرِّقابِ المطلوب تحريرُها في الرِّقاب المؤمنةِ فقط.
3- قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا: في هذه الآية فنُّ مراعاةِ النظير؛ حيث جاءَ التعبيرُ فيها دالًّا على تهديدٍ عظيمٍ بما يُناسِبُ المحتوى؛ إذ قدْ حفِلت هذه الآيةُ بالألفاظِ الدالَّة على الغَضَبِ، والتهديدِ والوعيدِ، والإرعاد والإبراق؛ للإشارةِ إلى أنَّ جريمةَ القتلِ مِن أكبرِ الجرائمِ وأشدِّها إمعانًا في الشرِّ؛ لِمَا يترتَّبُ عليها من هدْمٍ لبناءِ المجتمَع .
- وقوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ: عطفٌ على مُقدَّر يدلُّ عليه الشَّرطيَّةُ دَلالةً واضحة، كأنَّه قيل بطريقِ الاستئنافِ تقريرًا وتأكيدًا لمضمونها: حَكَمَ اللهُ بأنَّ جزاءَه ذلك، وغَضِبَ عليه، وهي جملةٌ استئنافيَّة، فيها تأكيدٌ لمضمونِ ما قَبلها من حُكم اللهِ بأنَّ جزاءه ذلك، بالإضافةِ إلى غَضبِ اللهِ عليه .
4- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا: استئنافٌ ابتدائيٌّ خُوطب به المؤمنون؛ استقصاءً للتحذيرِ مِن قتْل المؤمِنِ بذِكر أحوالٍ قد يُتساهَل فيها، وتَعْرِضُ فيها شُبَهٌ .
- والتَّصدير بالنِّداء للمؤمنين؛ لبيانِ أهميَّةِ الحُكم، وأنَّ امتثالَه من مُقتضياتِ الإيمانِ، وفيه فضيلةُ المؤمنينَ؛ حيث يُخاطبهم الله عزَّ وجلَّ بما شاءَ من أحكام، ولا شكَّ أنَّ مخاطبةَ الله للإنسانِ لشَخْصِه أو لوصفِه- لا شكَّ أنها شَرَف، والنَّاس يَتدافعون عند ملوكِ الدُّنيا، فإذا قال هذا المَلِكُ: كيف أصبحتَ يا فلانُ؟! فإنَّه يَعُدُّهُ شَرفًا، فإذا وجَّه الله الخطابَ للمؤمنينَ كان ذلك شَرفًا لهم .
- وقوله: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا: فيه النهيُ عمَّا هو نتيجةٌ لترْك المأمورِ به، وتعيين لمادَّة مُهمَّة من الموادِّ التي يجب فيها التبيين، أي: لا تقولوا بغير تأمُّل لِمَن حيَّاكم بتحيَّة الإسلام، أو لِمَن ألْقى إليكم مقاليدَ الاستسلامِ والانقياد لَسْتَ مُؤْمِنًا .
- وقوله: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: المقصود من هذا القيد زيادةُ التوبيخ والتحقير لعَرَض الدُّنيا بأنَّها نفْعٌ عارضٌ زائل .
- قوله: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ: جملة خبريَّة، فيها تعليلٌ للنهي عن ابتغاءِ مالِه بما فيه من الوَعد الضِّمْني؛ كأنَّه قيل: لا تَبتغوا مالَه؛ فعندَ الله مغانمُ كثيرةٌ يُغنمكموها، فيُغنيكم عن ارتكابِ ما ارتكبتموه .
- قوله: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: تعليلٌ للنهيِ عن القول المذكور، ولعلَّ تأخيرَه لِمَا فيه من نوعِ تفصيلٍ ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوُب أطرافِ النَّظم الكريم، مع ما فيه من مراعاةِ المقارنة بين التعليل السابق، وبين ما عُلِّل به، كما في قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ...إلخ [آل عمران: 106] .
- وتقديم خبَر كان كَذَلِكَ؛ للقصرِ المفيدِ لتأكيد المشابهة بين طرفَي التشبيه، والفاء في فَمَنَّ للعطف على كُنْتُمْ أي: مِثلَ ذلك الذي ألْقى إليكم ال سلامَ كنتم أنتُم أيضًا في مبادِي إسلامِكم لا يَظهرُ منكم للناسِ غيرُ ما ظهَرَ منه لكم مِن تحيَّة الإسلامِ ونحوِها، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بأنْ قَبِل منكم تلك المرتبةَ، وعصَم بها دماءَكم وأموالكم، ولم يأمُرْ بالتفحُّص عن سرائرِكم .
- وكرَّر قوله: فَتَبَيَّنُوا؛ تأكيدًا لتعظيم الأمْر، وتَرتيبِ الحُكم على ما ذُكِر من حالهم ، مع ما فيه من التأكيد بصِيغة التفعُّل التي بمعنى الاستفعال- أي: اطلبوا بيانَ الأمْر وثباته، ولا تَتهوَّكوا فيه من غير رويَّة ، مع المبالغة في التَّحذير عن ذلِك الفِعل .
- والتذييلُ بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا تعليلٌ لِمَا قَبْلَه بطريقِ الاستئنافِ، وفيه الجمْعُ بين الوعيدِ والوَعْدِ، أي: فيُجازيكم بِحَسَبِها إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شرًّا فشرٌّ، فلا تَتهاونوا في القَتْلِ واحتاطُوا فيه ، مع ما في الجملةِ مِن تأكيدِ الخبرِ بـ(إنَّ) واسميَّة الجملة. وعبَّر باسمِ الإشارةِ وَأُولَئِكُمْ؛ لزيادةِ تمييزِ هؤلاءِ المنافقين .


======3.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (92- 94)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ
غريبُ الكَلِمات:

ضَرَبْتُمْ: أي: سافرْتُم وسِرْتُم، وخرجتم وتباعدتُم في الأرض، وأصلُ الضَّرْب: إيقاعُ شيء على شيء
.
تَبْتَغُونَ: تَطلُبون؛ يُقال: بَغَى الشَّيءَ، أي: طلبَه، وأصلُ البَغْي: جِنْسٌ من الفساد، ويُطْلَق على طلبِ الشَّيء، والظُّلْم، والتَّرفُّع والعُلُوِّ، ومُجاوَزَة المقدار .
عَرَضَ الْحَيَاةِ: أي: الغَنيمةَ، أو المالَ، ويُطلقُ العَرَضُ على المتاع والحُطام، وأصل (عرض): العَرْضُ الذي يُخالِفُ الطُّولَ .
فَمَنَّ: أي: أنْعَم، وصنَعَ الصُّنع الجَميل، والمِنَّة: النِّعمة الثَّقيلة، وأصل (منن): اصطناعُ الخير

.
مشكل الإعراب:

قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً
إِلَّا خَطَأً: الاستثناءُ هنا؛ قِيل: إنَّه استثناءٌ منقطِعٌ؛ أي: لكنْ إنْ قتَلَه خَطأً فجزاؤُه ما يُذْكَرُ. وقِيل: إنَّه استثناءٌ متَّصل- إنْ أُريدَ بالنَّفيِ التحريمُ- والمعنى: إلَّا خطأً بأنْ عَرَفَه كافرًا فقتَلَه، ثم ظهَر أنَّه كان مؤمِنًا. وقيل: إنَّه استثناءٌ مُفَرَّغٌ من أحوالٍ عامَّة- أو عِللٍ عامَّة- مَحذوفةٍ، وهو الاستثناءُ النَّاقِصُ المنفيُّ. وفي نَصْبِ خَطَأً أوجه؛ أحدها: أنَّه منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ لأجْلِه، أي: ما يَنبغي له أنْ يَقتُلَه لعلَّةٍ من العِلل إلَّا للخطأِ وحدَه. الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحَالِ، والتقدير: ما يَنبغي أن يَصدُر منه قتلٌ له إلَّا مُخطِئًا في قتْله، أي: ما يَنبغي له أن يَقتُلَه في حالٍ مِن الأحوالِ إلَّا في حالِ الخَطأِ. الثالث: أنْ يكونَ نائبًا عن المفعولِ المُطْلَق؛ أي: إلَّا قَتْلًا خَطأً

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يُخْبِر تعالى أنَّه ليس للمؤمن أن يقتُلَ أخاه المؤمِنَ إلَّا أن يكون ذلك القتلُ صادرًا عن خَطَأ غيرِ مقصودٍ، فإذا ما حصل القتلُ خطأً فعلى القاتل أن يُكَفِّر عن فعله ذاك بتحريرِ رقَبَة مؤمن أو مؤمنة من الرِّقِّ، وعليه أيضًا دِيَةٌ كاملةٌ تتحمَّلُها عاقِلَتُه، تُدْفَعُ إلى وَرَثَة المقتول، إلَّا أن يَتَصَدَّقوا بإسقاطِ الدِّيَة فلا تَجِبُ عليه حينَها، فإنْ كان المقتولُ مؤمنًا لكنَّه من قومٍ كُفَّار حَرْبِيِّينَ فلا يجب على قاتله خطأً إلَّا تحريرُ رقبةٍ مؤمِن أو مؤمِنة من الرِّقِّ، وإن كان من قوم بين المؤمنين وبينهم عهدٌ وذمَّةٌ أو هُدْنة وليسوا بحربيِّين، فعلى القاتل دفْعُ دِيَة إلى ورثة المقتول تتحمَّلها عاقلةُ القاتل، وعليه أيضًا تحريرُ رقبةِ مؤمنٍ أو مؤمنةٍ من الرِّقِّ، فمن لم يجد الرَّقَبة لِيُعْتِقَها أو لم يَجِدْ ثَمَنَها فعليه صيامُ شهرين متتابعينِ، شَرَعَ الله ذلك لعبادِهِ؛ توبةً منه تعالى عليهم ورحمةً، وكان الله عليمًا حكيمًا.
ثمَّ توعَّد اللهُ تعالى مَن يَقتُلُ مؤمنًا عن عَمْدٍ وقصْدٍ لإتلافِ رُوحِهِ- توعَّده بأنَّ عقوبَتَه هي المُكْثُ الطويلُ في جَهنَّم، وغَضِبَ الله عليه، وطَرَدَه من رحمته، وأعَدَّ له عذابًا عظيمًا، وهذه العقوبةُ هي ما يستحقُّه إنْ عاقَبَه الله تعالى.
ثمَّ يُخاطِبُ الله المؤمنينَ آمِرًا إيَّاهم أن يتبيَّنوا إذا خرَجوا للجهادِ في سبيل الله ويتثبَّتوا في قتْل مَن أَشكَلَ عليهم أمرُه فلم يتيقَّنوا مِنْ إسلامِهِ أو كُفْرِهِ، ولا يقولوا لِمَن أظهَرَ لهم إسلامَهُ واستسلم ولم يُقاتِل: إنَّه ليس مُسلمًا، بل عليهم أن يأخذوا الظَّاهِرَ من حاله، ولا يقتلوه طلبًا لمتاع الحياةِ الدُّنيا، وذلك لسَلْب ما معه من مالٍ، مذكِّرًا إيَّاهم سبحانه أنَّهم كذلك كانوا من قبلُ يُخْفُون إيمانَهُم من قومِهِمُ المشركينَ، فتفضَّلَ الله عليهم بإعزازِ دينِهِ فأظهروا ما كانوا يُخْفُون، فعليهم أن يتثبَّتوا قبل أن يُقْدِمُوا على قَتْلِ مَنْ أشْكَلَ أمرُه، إنَّ الله كان بما يعملون خبيرًا.
تفسير الآيات:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا كان الكلامُ في قِتالِ المتظاهرين بالإسلام الَّذين ظَهَر نفاقُهم، فلا جَرَمَ أنْ تتشَوَّفَ النَّفسُ إلى حُكم قَتْلِ المؤمنين الخُلَّصِ، فانتَقَلَ من تحديدِ أعمال المسلمين مع العَدُوِّ إلى أحكامِ معاملةِ المسلمينَ بَعضِهم مع بعضٍ: من وجوبِ كفِّ عدوانِ بَعضِهِم على بعضٍ، وأحكام قتْل مَن لا يَحِلُّ قَتْلُه من مؤمنٍ ومعاهَدٍ وذِمِّيٍّ، وما يقع مِن ذلك خطأً
.
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً
أي: ليس لمؤمنٍ أنْ يقتُل أخاه المؤمنَ ولا يَحِلُّ له ذلك، كما أنَّه أمْرٌ ممتنِعٌ صدورُهُ من مؤمنٍ؛ لأنَّه منافٍ للإيمان، إلَّا أن يرتكِبَ ذلك غيرَ عامدٍ له ولا قاصِدٍ إليه .
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
أي: إذا ارتكبَ المؤمنُ القتْلَ غيرَ عامدٍ له ولا قاصِدٍ إليه، فعليه أن يُكَفِّرَ عن ذلك بتحريرِ مؤمنٍ أو مؤمنةٍ من رِقِّ العبوديَّةِ .
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا
أي: وعلى القاتِل دفْعُ دِيَةٍ كاملة- ولكنْ تتحمَّلُها عاقِلَتُه- إلى ورثَةِ المقتولِ عِوَضًا لهم عمَّا فاتَهُم من قريبهم وجَبْرًا لقلوبهم إلَّا إذا تصدَّقُوا بإسقاطِ الدِّيَة، فلا تجب حينئذٍ .
فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
أي: فإنْ كان هذا المقتولُ الَّذي قَتَلَه المؤمِنُ خطأً من كُفَّارٍ حربِيِّينَ، لكنَّه مؤمنٌ، فلا دِيَةَ لهم، وعلى القاتل عِتْقُ رقبةٍ مؤمنة لا غيرُ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
أي: وإنْ كان القَتيلُ الَّذي قتَلَه المؤمنُ خطأً من قومٍ بينكم- أيُّها المؤمنونَ- وبينهم عهْدٌ وذمَّةٌ أو هُدْنة, وليسوا أهلَ حربٍ لكم .
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
أي: فعَلى القاتِلِ دِيَةٌ- تتحمَّلُها عاقِلَتُه- يدفعها إلى ورثة المقتولِ، وعِتْقُ رقبةٍ مؤمنة كفَّارةً لقتْلِهِ .
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ
أي: فمَن لم يَجِدْ رقبةً مؤمنةً يُعْتِقُها كفَّارةً لخطئه في القتل، أو لم يَجِدْ ثَمَنَها، بأنْ كان مُعْسِرًا، ليس عنده ما يَفْضُل عن حوائجِه الأصليَّة، فعليه ِصيامُ شهرين، يَسْرُدُ صومَهُما إلى آخرهِمَا دون إفطارٍ فيهما .
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ
أي: هذه الكَفَّاراتُ الَّتي شَرَعَها اللهُ للمُؤمِنِ الذي قَتَلَ مؤمنًا خطأً؛ توبةً منه على عباده ورحمةً بهم، وتكفيرًا لما عَسَاه أنْ يَحصُلَ منهم من تقصيرٍ وعَدَمِ احترازٍ، ولو شاء اللهُ تعالى لشَقَّ عليهم، ولكان الواجبُ بقتلِ الخطأِ أكبرَ من ذلك .
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى عليمٌ بكلِّ شيءٍ، ومن ذلك عِلْمُه بما يُصلِحُ عباده فيما يكلِّفُهم من فرائِضِه وغير ذلك، وهو سبحانه الحكيم في كلِّ شيء، فيَضَع كلَّ شيء في موضِعِه اللَّائق به، ومن ذلك حِكْمَته فيما يَشْرَعه لعباده من أحكام .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ الله سبحانه وتعالى حُكْمَ القتل الخطأ ذَكَرَ بعده بيانَ حُكْم القتل العَمْد؛ لأنه هو المقصودُ من التَّشْرِيع لأحكام القَتْلِ؛ لأنَّه هو المتوقَّعُ حصولُهُ من النَّاس وإنَّما أُخِّرَ لتهويلِ أمْرِه .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
أي: ومَن يقتُلْ مؤمنًا مُتَعَمِّدًا قتْلَهُ، قاصدًا إتلافَ نفسِهِ، فإنَّما عقوبتُه الَّتي يستحِقُّها إنْ عَاقَبَهُ الله تعالى الخُلُودُ في نار جهنَّم- فقد يكون له من توحيدِ الله تعالى وتوبتِهِ وأعمالِه الصَّالِحَة ما يَصْرِف عنه هذه العقوبةَ- وقيل: بلِ المرادُ بالخلودِ هنا الْمُكْث الطويلُ؛ إذ لا يُخَلَّد مَنْ في قلبه إيمانٌ في النَّارِ أبَدَ الآبدينِ .
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
أي: سَخِطَ عليه الجبَّارُ سبحانه، وطَرَدَه وأبعدَهُ من رحمته جَلَّ وعَلا .
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
أي: وهَيَّأَ اللهُ تعالى له عقوبةً كبيرةً، لا يعلمُ قَدْرَ مَبْلغِها سِواه عزَّ وجلَّ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا تَبيَّنَ بهذا المنعِ الشَّديد مِنْ قَتْلِ العمْد، وما في قتلِ الخَطَأ من المؤاخذةِ الموجِبَة للتثبُّت، وكان الأمر قد بَرَزَ بالقتالِ والقَتْل في الجِهَاد ومؤكَّدًا بأنواعِ التَّأكيد، وكان ربَّما التبس الحالُ؛ أتبعَ ذلك التَّصريحَ بالأمرِ بالتثبُّتِ، ولَمَّا كان خفاءُ ذلك منوطًا بالأسفارِ قال: إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، وإلا فالتثبُّت والتبيُّن لازمٌ في قتلِ من تظاهَرَ بالإسلامِ في السَّفَر وفي الحَضَر فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
سَببُ النُّزول:
عنِ ابْنِ عباسٍ رضِي اللهُ عنهما وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا قال: كان رجلٌ في غُنَيْمَةٍ له فلحِقَه المسلمون. فقال: السَّلامُ عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَتَه فأنزل الله في ذلك إلى قوله: عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تلكَ الغُنَيْمَة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
القراءات ذات الأثَرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا قراءتان:
1- فَتَثَبَّتُوا: من التثبُّت الَّذي هو خلاف العَجَلَةِ .
2- فَتَبَيَّنُوا: من التبيُّن, بمعنى: التَّأنِّي والنَّظَر والكَشْف عنه حتَّى يتَّضِحَ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا
أي: يا أيُّها المؤمنون إذا سِرْتُم في جهادِ أعدائِكم فتأنَّوْا في قتلِ من أشكَلَ عليكم أمرُهُ , فلم تعلموا حقيقةَ إسلامِهِ ولا كُفْره, ولا تَعْجَلُوا فتقتُلُوه قبل أنَّ تتثبَّتوا وتتيقَّنوا أمرَه .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
القراءات ذات الأثر في التَّفسير:
في قوله تعالى: السَّلَامَ قراءتان:
1- السَّلَمَ أي: الاستسلامُ والانقياد، فالمعنى: لا تقولوا لمنِ استسلَمَ إليكم وانقاد: لستَ مُسلمًا .
2- السَّلَامَ الَّذي هو تحيةُ الإسلام، فالمعنى: لا تقولوا لِمَن حيَّاكم بتحيَّة الإسلام: لستَ مؤمنًا .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
أي: لا تقولوا لِمَنِ استسلم لكم فلم يُقاتِلْكم, مُظْهِرًا لكم أنَّه مُسْلِمٌ مِثْلُكم: لستَ كذلك، بل خُذُوه بظاهِرِ حاله .
تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ
أي: فتقتلُوه لأجْل أخْذِ ما لديه من مالٍ طلبًا لمتاعِ الحياة الدُّنيا. فلا يحمِلَنَّكُمُ العَرَضُ الفانِي القليلُ على ارتكابِ ما لا يَنبغي فيفُوتَكم ما عند الله من الرِّزْق والمغانم الحلال، فما عندَ الله خيرٌ لكم من مالِ هذا .
كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا
أي: قد كنتُم- أيُّها المؤمنون- مِن قَبلُ تُخفُون إيمانَكم في قومِكم من المشركينَ وأنتم بين أظْهُرِهم, كهذا الَّذي قتلتُمُوه يُسِرُّ إيمانَه ويُخْفِيه من قَوْمِه من المشركين، فتفضَّلَ الله عليكم بإعزازِ دينِه وإظهارِ ما كنتم تَسْتَخْفُون به، فتثبَّتُوا حتَّى يتَّضِحَ لكم أمْرُه قبل أنْ تقتلوه .
عن أبي ظَبْيَانَ قال: سمعتُ أسامةَ بنَ زيدِ بنِ حارثةَ رضِي اللهُ عنه يُحدِّث، قال: ((بعَثَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى الـحُرَقةِ مِن جُهينةَ، فصَبَّحْنا القومَ فهزمناهم، قال: ولحقتُ أنا ورجُلٌ من الأنصارِ رجُلًا منهم، فلمَّا غَشيناه قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، قال: فكفَّ عنه الأنصاريُّ فطعنتُه برُمحي فقَتلتُه، فلمَّا قَدِمْنا بلَغَ ذلك النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: يا أسامةُ، أقتلتَه بعدَما قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ؟! قلتُ: يا رسولَ الله، إنَّما كان مُتعوِّذًا! قال: أقتلتَه بعدَما قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ؟! قال: ما زالَ يُكرِّرها عليَّ حتَّى تمنيتُ أنِّي لم أكُنْ أسلمتُ قبلَ ذلك اليومِ! )) .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى بكلِّ ما تَعملونه وتَنْوُونَه ذو خبرةٍ وعِلْمٍ به ومِنْ ذلك قَتْلُكم مَن تَقتُلون، وكَفُّكم عمَّنْ تكفُّون عن قتْلِه، فيَحفَظ عليكم ذلك ويُجازيكم به

.
الفوائد التربوية:

1- يُرشِدُ قولُ الله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا إلى فَضيلةِ العَفْو والحضِّ عليه، وأنَّه جارٍ مَجْرى الصَّدَقة، واستحقاقِ الثوابِ الآجِلِ به دونَ طَلبِ العَرَضِ العاجِل؛ حيثُ سَمَّى العفوَ صَدَقةً؛ حثًّا عليه، وتنبيهًا على فضلِه
.
2- وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا لم يَرِدْ في أنواع الكبائرِ دونَ الشِّركِ أعظمُ من هذا الوعيد، بل ولا مثلُه، ألَا وهو الإخبارُ بأنَّ جزاءَه جهنَّمُ خالدًا فيها، أي: فهذا الذَّنبُ العظيمُ قد انتَهضَ وَحْدَه أن يُجازَى صاحبُه بجهنَّم، بما فيها من العذابِ العظيم، والْخِزْي الْمُهِين، وسَخَطِ الجبار، وفَوَات الفوز والفلاح، وحُصُول الْخَيْبَة والْخَسَار. فعِياذًا بالله من كُلِّ سببٍ يُبْعِدُ عن رحمته .
3- قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا فيه بيانُ حكمةٍ عظيمة في حِفْظِ الجامعة الدِّينيَّة، وهي بثُّ الثِّقة والأمان بين أفراد الأمَّة، وطرْح ما من شأنه إدخالُ الشَّكِّ؛ لأنَّه إذا فُتِح هذا البابُ عَسُر سَدُّه، وكما يَتَّهِم الْمُتَّهِمُ غيرَه فللغيرِ أنْ يتَّهِم مَنِ اتَّهَمَه، وبذلك ترتفعُ الثِّقة، ويَسْهُل على ضعفاء الإيمان الْمُرُوقُ؛ إذ قد أصبحتِ التُّهْمَة تُظِلُّ الصادقَ والْمُنافِقَ .
4- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وجوب التثبُّت في الأمور، حتَّى في الجهاد في سبيل الله؛ فالتثبُّت يحصُل فيه من الفوائِد الكثيرة، والكفِّ لشرورٍ عظيمة، ما به يُعرَف دينُ العبد وعقْلُه ورَزَانته، بخلافِ المستعْجِل للأمور في بدايتها قبل أن يتبيَّنَ له حكمُها، فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الَّذين عاتَبَهم الله في الآية لمَّا لم يتثبَّتوا وقَتَلوا من سلَّمَ عليهم، وكان معه غُنَيْمَة له أو مالُ غيرِه، ظنًّا أنَّه يستكفِي بذلك قَتْلَهُم، وكان هذا خطأً في نفس الأمر، فلهذا عاتبهم بقوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ .
5- متاعُ الدُّنيا حُطامٌ سريع النَّفَاد، وثوابُ الله تعالى موصوفٌ بالدَّوام والبقاء، كما في قول الله تعالى تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ .
6- أنَّ العبدَ يَنبغي له إذا رأَى دَواعيَ نفْسِه مائلةً إلى حالةٍ له فيها هوًى وهي مُضِرَّةٌ له، أن يُذَكِّرَها ما أعدَّ الله لمن نَهَى نفسَه عن هواها، وقدَّم مرضاةَ الله على رضا نفْسِه، فإنَّ في ذلك ترغيبًا للنَّفْس في امتثالِ أمْرِ الله، وإنْ شَقَّ ذلك عليها، قال تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ .
7- قولُ الله تعالى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا فيه تربيةٌ عظيمةٌ، وهي أنْ يستشعرَ الإنسانُ عندَ مؤاخذتِه غيرَه أحوالًا كان هو عليها تُساوِي أحوالَ مَن يؤاخِذُه .
8- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا تهديدُ الإنسانِ أنْ يعملَ ما لا يُرضي الله عزَّ وجلَّ، يعني: لا تظُنَّ أنَّكَ إذا عَمِلْتَ شيئًا فإنَّه يخفى على الله أبدًا، ومتى آمَنَ الإنسانُ بهذا فإنَّه لن يُقْدِم على شيء لا يرضاه الله؛ لأنَّه يعلم أنَّ الله يعلم بهذا، حتَّى في قلبه؛ يحفَظُ قلْبَه من الانحرافِ والانجراف إذا عَلِمَ بأنَّ الله تعالى خبيرٌ بما يعمل، لكنْ هذه المسائل تحتاج إلى فِطْنةٍ، وأنَّ الإنسان دائمًا يكون مراقِبًا لله سبحانه، خائفًا منه، وكلَّما هَمَّ بشيء ذَكَرَ عظمةَ الله عزَّ وجلَّ وعِلْمَه بما سيعمل حتَّى يمتنع

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- امتناعُ قَتْلِ المؤمِنِ للمؤمِنِ عمْدًا، ويُؤخَذُ من قوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً، وإذا جاءت (ما كان) أو (لم يكن) أو (لا ينبغي) أو (ما ينبغي) فإنَّها تفيدُ الامتناعَ، ولكنْ هذا الامتناعَ شرعِيٌّ؛ لأنَّه قَدَرًا يمكن أن يقتله عمدًا لا خطأً، فإذًا: هو شرعًا لا يُمْكن، ويمتنع ويستحيل أن يصدُرَ من مؤمِنٍ قتلُ مؤمنٍ، أي: متعمِّدًا؛ ولهذا يُعتبَر مَنْ قَتَلَ المؤمنَ خطأ ناقصَ الإيمان جدًّا، حتَّى إنَّه يَصِحُّ أنْ ننفيَ عنه الإيمانَ
.
2- الإيمانُ الصَّحيحُ يَمنَعُ المؤمنَ مِنْ قتْل أخيه الَّذي قد عَقَدَ الله بينه وبينه الأُخُوَّةَ الإيمانيَّةَ الَّتي مِنْ مقتضاها محبَّتُه ومُوالاته، وإزالةُ ما يَعْرِض لأخيه من الأذى، وأيُّ أذًى أشدُّ من القتل؟ لذا قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا .
3- القتْلُ من الكُفرِ العِمليِّ وأكبر الكبائر بعد الشِّرْكِ بالله، ولَمَّا كان قوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا لفظًا عامًّا لجميع الأحوال، وأنَّه لا يصدُرُ منه قتلُ أخيه بوجهٍ من الوجوه، استثنى تعالى قتْلَ الخَطَأِ، فقال: إِلَّا خَطَأً فإنَّ المخطِئَ الَّذي لا يقصِدُ القتلَ غيرُ آثمٍ، ولا مجترِئ على محارِمِ الله، ولكنَّه لَمَّا كان قد فعل فعلًا شنيعًا وصُورَتُه كافيةٌ في قُبْحه وإن لم يقصِدْه، أَمَرَ تعالى بالكَفَّارة والدِّيَة، فقال: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً .
4- أنَّ المؤمِنَ قد يَقتُلُ غيرَ المؤمِنِ عمدًا؛ لقوله: أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا، ولكن هل هذا جائزٌ؟ الجواب: فيه تفصيلٌ: إنْ كان محارِبًا فقتْلُه جائزٌ، ثمَّ قد يَجِب أو لا يجِب على حَسَب ما تَقتضيه الحالُ، وإنْ كان معاهَدًا أو مُسْتأمَنًا أو ذِمِّيًّا فقتْلُهُ حرامٌ .
5- فضيلةُ العِتْقِ وعُلُوُّ منزلتِه؛ لأنَّه صارَ كفَّارةً لهذا الذنبِ، وهو قتْلُ المؤمِنِ؛ قال تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .
6- قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فيه تشوُّفُ الشَّارعِ إلى تحريرِ الرِّقاب من الرِّقِّ، ويتفرَّعُ على هذه الفائدة الرَّدُّ على من أنكر على المسلمين الاسْتِرْقَاقَ، فيقال: إنَّ الاسترقاقَ جاء نتيجةً لأمرٍ ضروريٍّ، ومع ذلك فإنَّ هناك مُشَجِّعَاتٍ كثيرةً على التَّحْريرِ .
7- اشتراطُ الإيمانِ في عِتْق الرَّقَبة في القتلِ؛ لقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .
8- جواز إعتاقِ الذَّكَر والأنثَى في كفَّارَةِ القتلِ، وتُؤخَذ من الإطلاقِ في قوله: تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ولم يَقُلْ: ذَكَر ولا أنثى، فيكون مُطلقًا .
9- قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ فيه تعظيمُ القتلِ؛ ولهذا أوجب اللهُ فيه الكَفَّارة، مع أنَّ القاعدةَ الشَّرعيَّة أنَّ المخطِئَ لا كفَّارةَ عليه، وأنَّه مرفوعٌ عنه القَلَمُ، لكنْ تعظيمًا لشأنِ القتل صار الَّذي يصدُرُ منه القتلُ ولو مخطئًا عليه الكَفَّارةُ .
10- الحِكمةُ تَقتضي أنْ لا يُجزئُ عتقُ الْمَعِيبِ في الكَفَّارةِ؛ لأنَّ المقصودَ بالعتقِ نَفْعُ العتيقِ، وملْكُه منافعَ نفسِه، فإذا كان يَضيع بعِتْقه، وبقاؤه في الرِّقِّ أنفعُ له فإنَّه لا يُجزئ عِتْقُه، مع أنَّ في قوله: تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ما يدلُّ على ذلك؛ فإنَّ التحرير: تخليصٌ مَنِ استحقَّت منافعه لغيرِه أنْ تكون له، فإذا لم يكن فيه مَنافعُ لم يُتَصَوَّرْ وجودُ التَّحرير. فتأمَّلْ ذلك فإنَّه واضح .
11- أشار قولُ الله تعالى: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إلى أنَّ الدِّيَةَ تَرضيةٌ لأهلِ القتيلِ .
12- أنَّه يجبُ على مَن وجبَتْ عليه الدِّيَةُ أنْ يُوصِلَها إلى أهلِ الميِّت؛ لقوله: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، فأهله هُمُ الورثة .
13- يُؤخَذ مِن قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا، وهو مُستثنًى من قوله: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، أنَّ العفو عن الدِّيَة من الصَّدقة، وذلك أنَّ الصَّدقة إمَّا إعطاءٌ وإمَّا إبراءٌ، فالإعطاءُ ظاهر، والإبراء هو: أن يُبْرِئ الإنسان شخصًا مَدِينًا من الدَّيْنِ ويُسْقِطه عنه، لكن هذا لا يُجْزئ في الزكاة عن زكاة العَيْنِ .
14- في سماحِ المعاهَد للمؤمِنِ بالدِّيَة مِنَّةٌ عليه، والكتابُ العزيز الَّذي وصَفَ المؤمنين بالعزَّة لا يَفتح لهم بابَ هذه المنَّة، ومِن محاسِن نَظْمِ الكلام وتأليفه أن يؤخَّرَ المعطوف الَّذي له متعلَّقٌ على ما ليس له متعلَّق، وما متعلقاتُه أكثرُ على ما متعلقاتُه أقلُّ، وهذه نكتة لفظيَّة لتأخير ذكر الدِّيَةِ في حقِّ المؤمن؛ إذ تعلَّق بها الوصف، وهو قوله: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ، والاستثناء وهو قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا .
15- قول الله تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا دليلٌ على جواز البراءة من الدَّيْنِ بلفظِ الصَّدقة، وعلى أنَّه لا يُشترطُ القَبولُ في الإبراءِ .
16- قوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فيه جوازُ العفْوِ عن الجَانِي، ولكن هذا مقيَّدٌ بما إذا كان في العفْوِ إصلاحٌ؛ لقول الله تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ، فإنْ لم يكن فيه إصلاحٌ فترْكُ العفو أولى، بل قد يجب الأخْذُ بالحقِّ وترْكُ العفو؛ لأنَّ الإصلاحَ أهمُّ من المصلحة الخاصَّة، فالعفو عن الدِّيَة مصلحةٌ خاصَّة، لكنَّ الإصلاحَ مصلحةٌ عامَّة، فإذا كان هذا الَّذي قَتَلَ خطأً رجلًا متهوِّرًا لو عَفَوْنا عنه لذَهَب يقتلُ مرَّةً أخرى، وثالثة ورابعة، فإنَّ العَفْوَ عن هذا ليس من الإصلاحِ؛ وعليه فلا ينبغي العفْوُ .
17- قوله تعالى: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ... فيه أنَّ قتْلَ المعاهَد حرامٌ؛ لأنَّ الله أوجبَ في قتْل مَنْ بيننا وبينهم ميثاقٌ الدِّيَةَ والكَفَّارةَ .
18- أنَّ دِيَة الكافِرِ المعاهَد ليست كَدِيَة المُسلِمِ؛ لأنَّه قال: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ وهذه نكرة، وإعادة الكلمة بلفظ النكرة تدلُّ على أنَّ الثَّاني غير الأول، كما في قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا .
19- احترامُ الدِّين الإسلاميِّ للعهود والمواثيق؛ ولذلك لم يُهدِرْ حقَّ المعاهدِ الَّذي بيننا وبينه ميثاقٌ، بل أوجب الدِّيَةَ لأهْلِه؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ .
20- وجوبُ الكَفَّارة في قتْل مَنْ بيننا وبينهم ميثاقٌ وإنْ كانوا غير مسلمينَ؛ لقولِ اللهِ تبارك وتعالى: فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .
21- قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ومِنْ حِكْمَته أنْ أَوْجَبَ في القتْل الدِّيَةَ ولو كان خطأً؛ لتكونَ رادعةً وكافَّةً عن كثيرٍ من القتل باستعمالِ الأسبابِ العاصمةِ عن ذلك؛ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ. ومن حِكْمَته أيضًا أنْ وَجَبَتْ على العاقلةِ في قتْل الخطأِ، بإجماعِ العُلماء؛ لكونِ القاتلِ لم يُذنِبْ، فيَشُقُّ عليه أن يحمل هذه الدِّيَة الباهظة، فناسب أن يقوم بذلك مَنْ بينه وبينهم المعاونةُ والمُناصرة والمُساعدة على تحصيل المصالحِ وكفِّ المفاسِدِ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ .
22- أنَّ مَن لم يجِدِ الرقبةَ أو ثَمَنَها فعليه صيامُ شَهرينِ متتابعينِ؛ لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، ومَن لم يَستطعِ الصِّيامَ فلا شيءَ عليه، لا عِتْق رقبة لأنَّه لا يَجِدُ، ولا صيامَ لأنَّه لا يستطيع، ولا إطعام لأنَّه لم يُذكَر في الآية؛ ولهذا لمَّا أراد الله عزَّ وجلَّ أن يكون الإطعام بدلًا عن الصيام ذكره كما في آيات الظِّهَار .
23- قولُ اللهِ تعالى: تَوْبَةً مِنَ اللهِ عدَّ سبحانه قتْلِ الخطأِ- بعدَ التَّعبير عنه باللَّام المقتضيَة أنَّه مباحٌ- ذنبًا؛ تغليظًا للحثِّ على مزيد الاحتياط .
24- قول الله تعالى: تَوْبَةً مِنَ اللهِ تاب يُطلَق على معنى نَدِم وعلى معنى قَبِلَ منه، وهي هنا بمعنى قَبِلَ التَّوبة بقرينة تعديته بـ (مِنْ) .
25- في قول اللهِ تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا إثباتُ اسمينِ من أسماءِ الله؛ أحدهما: العليم، والثَّاني: الحُكيم، واللهُ تعالى يَقرِن بين العليمِ والحَكيمِ في مواضعَ كثيرةٍ؛ ليُبيِّن أنَّ ما يَحكُم به سبحانه من الأحكامِ الشَّرعيَّة والأحكامِ الكونيَّة، فإنَّه صادرٌ عن علمٍ وحِكمةٍ لا عن جهلٍ وسَفَهٍ، وأصلُ الخطأِ في الحُكم إمَّا مِن الجَهل، وإمَّا من السَّفَه؛ فإنْ كان عن غير علمٍ فهو من الجهل، وإنْ كان عن غيرِ حِكمةٍ فهو من السَّفَه؛ ولهذا فالآياتُ الَّتي تتضمَّن أحكامًا يَختِمُها الله جلَّ وعلا كثيرًا بهذين الاسمين .
26- قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا في هذه الآية الكريمة دليلٌ على أنَّ قتْل المؤمن عَمدًا من كبائرِ الذُّنوب؛ لورودِ الوعيدِ عليه؛ وكل ذنبٍ رُتِّبَ عليه الوعيدُ والعقوبةُ فهو من كبائر الذُّنوب .
27- في قوله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إثباتُ الغضَبِ لله عزَّ وجلَّ، والغضبُ صفةٌ من الصِّفات الفعليَّة الَّتي تقَعُ بمشيئةِ الله تعالى، وكلُّ صفةٍ مُرتَّبةٍ على سببٍ؛ فهي من الصِّفاتِ الفِعليَّة؛ لأنَّها تُوجَد بوجودِ ذلك السَّببِ، وتَنتفي بانتفائِه .
28- أنَّ مَن قَتَل مؤمنًا متعمِّدًا فمِنْ جزائِه أنْ يُلْعَنَ، بأنْ يُطرَدَ مِن رحمة الله؛ لقوله: وَلَعَنَهُ، لكن لا يجوزُ أنْ نلعنَ القاتِلَ بعينِه، ونقول: أنتَ ملعونٌ مغضوبٌ عليك؛ لأنَّه يجوز أن يتوبَ فتزولَ اللَّعنةُ .
29- عِظَمُ عذابِ النَّار؛ لقوله: عَظِيمًا، والعظيم إذا استعظم الشَّيء صار بقدْرِ عظمة هذا المستعظِم، أي: إنَّه شيء عظيم عِظَمًا كبيرًا .
30- أنَّ الواجِبَ علينا معاملةُ الخَلق بالظَّاهر؛ لقوله: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا ولم يقل: لستَ مسلمًا؛ لأنَّه ألقى السَّلامَ واستسلم، لكن لا تقولوا: لست مؤمنًا، يعني: لم يدخُلِ الإيمانُ في قَلبِك، فلا يجوزُ لنا أنَّ نتعدَّى الظَّاهِرَ الَّذي يبدو من الإنسان، حتَّى وإن وُجِدَت قرائنُ تدلُّ على خلافِ ظاهره، والدَّليل: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا .
31- عِلْمُ الله سبحانَه ببواطِنِ الأمور؛ لقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، ويدلُّ لذلك قولُه تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد: 3] ، فقد فسَّر النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الباطِنَ بأنَّه (الَّذي ليس دونه شيءٌ) ؛ فكلُّ شيءٍ بأمْره، وكلُّ شيء بعِلْمِه، وكلُّ شيءٍ بسَمْعِه، وكلُّ شيء ببَصَرِه، فَعُلُوُّهُ عزَّ وجلَّ فوقَ كلِّ شيءٍ، ولا يمنَعُ مِنْ عِلْمِه بكلِّ شيءٍ .
32- الإسلامُ يمنعُ قَتْلَ مَن يُظهر الإسلامَ، ومن يُلْقِي السَّلَم أو السَّلامَ، ومَنْ بينَه وبينَ المسلمين عهدٌ وميثاقٌ إمَّا على المناصَرة، وإمَّا على تَرْكِ القتالِ، ومن اتَّصل بأهلِ الميثاقِ المعاهَدِين، ومن اعتزل القتالَ فلم يساعدْ فيه قومَه المقاتلينَ، وبَعْدَ هذا كلِّهِ رغَّب عن ابتغاء عَرَض الدُّنيا بالقتالِ; ليكون لِمَحْضِ رَفْعِ البغْي والعدوان، وتقرير الحَقِّ والإصلاح، ولا هَمَّ لجميع الدول والأمَمِ الآن إلَّا الرِّبْحُ وجَمْعُ الأموالِ، وهم ينقضُون العهدَ والميثاق مع الضُّعفاءِ، ولا يلتزمونَ حِفْظَ المعاهدات إلَّا مع الأقوياءِ، وهو ما شدَّد الإسلامُ في حفظه، وحافظ عليه النَّبيُّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- في عهده، وحافَظَ عليه خلفاؤه الرَّاشِدونَ من بعده، فأين أرقى أمَمِ المدنيَّةِ من أولئك الأئمَّة الْمَهْدِيِّين


بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً: فيه انتقالُ الغرضِ الذي يُعيد نشاطَ السَّامع بتفنُّن الأغراض؛ فقدِ انتقلَ مِن تحديدِ أعمالِ المسلمين مع العدوِّ إلى أحكامِ معاملةِ المسلمين بعضِهم مع بعض، مِن وجوبِ كفِّ عُدوان بعضِهم على بعض
.
- وقوله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً جاءَ بصِيغة المبالغةِ في النَّفي مَا كَانَ، وهي صِيغة الجُحودُ، أي: لا يَنبغي لمؤمنٍ أنْ يَقتُل مؤمنًا في حالٍ مِن الأحوالِ إلَّا في حالِ الخَطأ، أو أنْ يقتُل قتْلًا من القتْل إلَّا قتْلَ الخطأ، فكان الكلامُ حصرًا، وهو حصرٌ ادِّعائي مُرادٌ به المبالغةُ في النَّهي؛ كأنَّ صِفةَ الإيمانِ في القاتِلِ والمقتولِ تُنافي الاجتماعَ مع القَتْل في نفْسِ الأمرِ منافاةَ الضِّدَّينِ؛ لقصدِ الإيذانِ بأنَّ المؤمِنَ إذا قتَلَ مؤمنًا فقدْ سُلِبَ عنه الإيمانُ، وما هو بمؤمنٍ؛ على نحوِ: ((ولا يَشْرَبُ الخمرَ حينَ يَشرَبُها وهو مؤمنٌ )) ؛ فتكونُ جملةُ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً مستقلةً عمَّا بعدَها، غيرَ مرادٍ بها التشريعُ، بل هي كالمقدِّمة للتشريعِ؛ لقصدِ تفظيعِ حالِ قتْلِ المؤمنِ المؤمِنَ قتلًا غيرَ خطأٍ، وتكونُ خبريَّةً لفظًا ومعنًى .
- وقيل: إنَّ مَا كانَ خبرٌ مرادٌ به النَّهي؛ فيكون فيه تَنبيهٌ على أنَّ صورةَ الخطأِ لا يَتعلَّقُ بها النَّهي؛ إذْ قد عَلِم كلُّ أحدٍ أنَّ الخطأ لا يتعلَّقُ به أمرٌ ولا نهي، يعني: إنْ كان نوعٌ مِن قتْل المؤمِن مأذونًا فيه للمؤمن، فهو قتْلُ الخطأ، وقد عُلِم أنَّ المخطئَ لا يَأتي فِعلَه قاصدًا امتثالًا ولا عِصيانًا، فرَجَع الكلامُ إلى معنى: وما كان لمؤمنٍ أن يقتُلَ مؤمنًا قتلًا تتعلَّق به الإرادة والقصد بحال أبدًا، فتكون الجملةُ مبدأَ التشريع، وما بعدَها كالتَّفصيلِ لها .
2- قوله: فَدِيةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قيل: قَدَّم الدِّيَةَ هنا إشارةً إلى المبادرة بها حِفظًا للعهد، ولتأكيدِ أمْرِ التحريرِ بكونه ختامًا كما كان افتتاحًا في قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ؛ حثًّا على الوفاءِ به؛ لأنَّه أمانة لا طالبَ له إلَّا اللهُ .
وقيل: قدَّم هنا ذِكْرَ الدِّية، وأخَّرَ ذِكْرَ الكَفَّارة، وعَكَس في قتْل المؤمِن؛ لعلَّه للإشعارِ بأنَّ حقَّ الله تعالى في معاملةِ المؤمنين مُقدَّمٌ على حقوقِ النَّاس؛ ولذلك استثنى هنالك في أمر الدِّيَة فقال: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا; لأنَّ مِنْ شأنِ المؤمنِ العَفْوَ والسَّماحَ، واللهُ يُرَغِّبُهم فيما يَليقُ بكرامَتِهم ومكارِمِ أخلاقِهم، ولم يَستثْنِ هنا; لأنَّ مِن شأنِ المعاهَدين الْمُشَاحَّةَ والتَّشديدَ في حقوقِهم، وليسوا مُذْعِنين لهدايةِ الإسلام، فيُرَغِّبُهم كتابُه في الفضائل والمكارِمِ .
- وتكرَّرت جُملة: وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ؛ للتَّأكيدِ على تحريرِ الرِّقاب، وحصْر الرِّقابِ المطلوب تحريرُها في الرِّقاب المؤمنةِ فقط.
3- قوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا: في هذه الآية فنُّ مراعاةِ النظير؛ حيث جاءَ التعبيرُ فيها دالًّا على تهديدٍ عظيمٍ بما يُناسِبُ المحتوى؛ إذ قدْ حفِلت هذه الآيةُ بالألفاظِ الدالَّة على الغَضَبِ، والتهديدِ والوعيدِ، والإرعاد والإبراق؛ للإشارةِ إلى أنَّ جريمةَ القتلِ مِن أكبرِ الجرائمِ وأشدِّها إمعانًا في الشرِّ؛ لِمَا يترتَّبُ عليها من هدْمٍ لبناءِ المجتمَع .
- وقوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ: عطفٌ على مُقدَّر يدلُّ عليه الشَّرطيَّةُ دَلالةً واضحة، كأنَّه قيل بطريقِ الاستئنافِ تقريرًا وتأكيدًا لمضمونها: حَكَمَ اللهُ بأنَّ جزاءَه ذلك، وغَضِبَ عليه، وهي جملةٌ استئنافيَّة، فيها تأكيدٌ لمضمونِ ما قَبلها من حُكم اللهِ بأنَّ جزاءه ذلك، بالإضافةِ إلى غَضبِ اللهِ عليه .
4- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا: استئنافٌ ابتدائيٌّ خُوطب به المؤمنون؛ استقصاءً للتحذيرِ مِن قتْل المؤمِنِ بذِكر أحوالٍ قد يُتساهَل فيها، وتَعْرِضُ فيها شُبَهٌ .
- والتَّصدير بالنِّداء للمؤمنين؛ لبيانِ أهميَّةِ الحُكم، وأنَّ امتثالَه من مُقتضياتِ الإيمانِ، وفيه فضيلةُ المؤمنينَ؛ حيث يُخاطبهم الله عزَّ وجلَّ بما شاءَ من أحكام، ولا شكَّ أنَّ مخاطبةَ الله للإنسانِ لشَخْصِه أو لوصفِه- لا شكَّ أنها شَرَف، والنَّاس يَتدافعون عند ملوكِ الدُّنيا، فإذا قال هذا المَلِكُ: كيف أصبحتَ يا فلانُ؟! فإنَّه يَعُدُّهُ شَرفًا، فإذا وجَّه الله الخطابَ للمؤمنينَ كان ذلك شَرفًا لهم .
- وقوله: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا: فيه النهيُ عمَّا هو نتيجةٌ لترْك المأمورِ به، وتعيين لمادَّة مُهمَّة من الموادِّ التي يجب فيها التبيين، أي: لا تقولوا بغير تأمُّل لِمَن حيَّاكم بتحيَّة الإسلام، أو لِمَن ألْقى إليكم مقاليدَ الاستسلامِ والانقياد لَسْتَ مُؤْمِنًا .
- وقوله: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: المقصود من هذا القيد زيادةُ التوبيخ والتحقير لعَرَض الدُّنيا بأنَّها نفْعٌ عارضٌ زائل .
- قوله: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ: جملة خبريَّة، فيها تعليلٌ للنهي عن ابتغاءِ مالِه بما فيه من الوَعد الضِّمْني؛ كأنَّه قيل: لا تَبتغوا مالَه؛ فعندَ الله مغانمُ كثيرةٌ يُغنمكموها، فيُغنيكم عن ارتكابِ ما ارتكبتموه .
- قوله: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ: تعليلٌ للنهيِ عن القول المذكور، ولعلَّ تأخيرَه لِمَا فيه من نوعِ تفصيلٍ ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوُب أطرافِ النَّظم الكريم، مع ما فيه من مراعاةِ المقارنة بين التعليل السابق، وبين ما عُلِّل به، كما في قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ...إلخ [آل عمران: 106] .
- وتقديم خبَر كان كَذَلِكَ؛ للقصرِ المفيدِ لتأكيد المشابهة بين طرفَي التشبيه، والفاء في فَمَنَّ للعطف على كُنْتُمْ أي: مِثلَ ذلك الذي ألْقى إليكم السلامَ كنتم أنتُم أيضًا في مبادِي إسلامِكم لا يَظهرُ منكم للناسِ غيرُ ما ظهَرَ منه لكم مِن تحيَّة الإسلامِ ونحوِها، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ بأنْ قَبِل منكم تلك المرتبةَ، وعصَم بها دماءَكم وأموالكم، ولم يأمُرْ بالتفحُّص عن سرائرِكم .
- وكرَّر قوله: فَتَبَيَّنُوا؛ تأكيدًا لتعظيم الأمْر، وتَرتيبِ الحُكم على ما ذُكِر من حالهم ، مع ما فيه من التأكيد بصِيغة التفعُّل التي بمعنى الاستفعال- أي: اطلبوا بيانَ الأمْر وثباته، ولا تَتهوَّكوا فيه من غير رويَّة ، مع المبالغة في التَّحذير عن ذلِك الفِعل .
- والتذييلُ بقوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا تعليلٌ لِمَا قَبْلَه بطريقِ الاستئنافِ، وفيه الجمْعُ بين الوعيدِ والوَعْدِ، أي: فيُجازيكم بِحَسَبِها إنْ خيرًا فخيرٌ وإنْ شرًّا فشرٌّ، فلا تَتهاونوا في القَتْلِ واحتاطُوا فيه ، مع ما في الجملةِ مِن تأكيدِ الخبرِ بـ(إنَّ) واسميَّة الجملة.


======4.


سُورةُ النِّساءِ
الآيتان (95- 96)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
غريبُ الكَلِمات:

أُولِي الضَّرَرِ: أي: أصحابِ العَجزِ- بالزَّمَانةِ والمرَضِ- ونحوهم؛ يُقال: ضريرٌ بيِّنُ الضَّرر، وأصل (ضرر): خلافُ النَّفْع

.
مشكل الإعراب:

قوله: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ:
غَيْرُ: قُرِئت بالرَّفْع، وبالنَّصب، وبالجرِّ؛ فالرَّفْعُ على البَدلِ مِن القَاعِدُونَ؛ لأنَّ الكلامَ نفيٌ، والبَدلُ معه أرْجَحُ. والنَّصبُ على الاستثناءِ من القَاعِدُونَ؛ لأنَّهم المحدَّثُ عنهم، أو يكون النَّصْبُ على الحالِ مِن القَاعِدُونَ أيضًا، وجازُ وقوعُ (غَيْر) حالًا وإنْ كانتْ مضافةً؛ لأنَّها نكرةٌ لا تتعَرَّفُ بالإِضافةِ. والجر‍ُّ على الصِّفة لـلِلْمُؤْمِنِينَ، وجاز ذلك وإنْ كان لا يَجوزُ اختلافُ النَّعتِ والمنعوتِ تَعريفًا وتنكيرًا، على اعتبارِ أنَّ (المؤمنين) أُريد بهم الجِنسُ؛ فأَشْبَهوا النكرةَ فَوُصِفوا كما تُوصَف، أو على أنَّ (غير) قد تَتعرَّفُ إذا وقعتْ بين ضِدَّين

.
المَعْنى الإجماليُّ:

يُخبر تعالى أنَّه لا يَستوي مِن المؤمنين مَن قعَدَ عن الجِهادِ فلمْ يخرُجْ، ومَن خرَج للجهادِ في سَبيلِ اللهِ بمالِه ونفْسِه، وأخْبَر سبحانه أنَّه فضَّلَ المجاهدينَ بأموالهم وأنفُسِهم على القاعدينَ درجةً، وكِلَا هَذَينِ الفريقينِ من المجاهدين والقاعدينَ وَعَدَهما اللهُ الجنَّةَ، ولكنْ فضَّلَ المجاهدينَ على القاعِدينَ بأجرٍ عظيمٍ، هذا الأجرُ العظيمُ هو درجاتٌ عاليةٌ يَرفعُهم اللهُ بها في الجِنانِ، ومَغفرةُ ذنوبَهم، ورَحمتُهم، وكان الله غفورًا رحيمًا.
تفسير الآيتين:

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا عاتبَهم الله تعالى على ما صَدَر منهم مِن قَتْلِ مَن تَكلَّم بكلمةِ الشَّهادة، فلعلَّه يَقعُ في قلبِهم أنَّ الْأَوْلى الاحترازُ عن الجهادِ؛ لئلَّا يقَعَ بسببه في مِثل هذا المحذورِ، فلا جَرَمَ ذَكَرَ اللهُ تعالى في عَقيبه هذه الآيةَ، وبيَّنَ فيها فَضْلَ المجاهدِ على غيرِه؛ إزالةً لهذه الشُّبْهة، وأيضًا كيلَا يكونَ ذلك اللومُ مُوهِمًا انحطاطَ فضيلَتِهم في بعضِ أحوالِهم، على عادَةِ القُرآنِ في تعقيبِ النِّذَارة بالبِشَارة؛ دَفعًا لليأسِ مِن الرحمةِ عنْ أنفُس المسلمينَ
.
وأيضًا لَمَّا عاتَبَهم اللهُ تعالى على ما صدَرَ منهم مِنْ قتْل مَنْ تكلَّم بالشَّهادة؛ ذكَر عقيبَه فَضيلةَ الجِهاد، كأنَّه قيل: مَن أتَى بالجهادِ فقدْ فاز بهذه الدَّرَجةِ العظيمةِ عندَ اللهِ تعالى، فَلْيَحْتَرِزْ صاحبُها من تلك الْهَفْوةِ فقال تعالى:
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
سَببُ النُّزول:
عن سَهلِ بنِ سَعدٍ الساعديِّ، أنَّه قال: ((رأيتُ مَرْوانَ بنَ الحَكمِ جالسًا في المسجدِ، فأقبلتُ حتَّى جلستُ إلى جَنبِه فأخْبَرَنا أنَّ زيدَ بنَ ثابتٍ رضِي اللهُ عنه أخْبَره أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمْلى عليه: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال: فجاءَه ابنُ أمِّ مَكتومٍ وهو يُمِلُّها عليَّ، فقال: يا رسولَ اللهِ، لو أستطيعُ الجهادَ لجاهدتُ- وكان رجلًا أعْمَى- فأَنْزلَ اللهُ تبارَك وتَعالَى على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وفَخِذُه على فَخِذي فثَقُلَتْ عليَّ حتَّى خِفْتُ أنْ تَرُضَّ فَخِذي ، ثم سُرِّي عنه ، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ)) .
وفي روايةٍ أخرى، عنِ البَرَاءِ، قال: ((لَمَّا نَزَلَتْ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ادعُ لي فلانًا، فجاءَه ومعه الدَّوَاةُ واللَّوْحُ، أوِ الكَتِفُ، فقال: اكتب لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ وخلْفَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أنا ضَريرٌ، فنزَلَتْ مَكانَها لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) .
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
أي: لا يَستوي مَن لم يَخرُجْ للجهادِ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا- إلَّا مَن تخلَّف عن الجهادِ لعُذْر- مع مَن جاهَدَ من المؤمنين بنَفسِهِ ومالِهِ .
فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً
أي: فضَّل اللهُ المجاهدين ببذْلِ أموالِهِم وأنفسِهِم على القاعدينَ بدرجةٍ رفيعةٍ .
عن أبي هُريرَةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن آمَنَ باللهِ ورسولِه، وأقام الصَّلاةَ، وصامَ رمضانَ، كان حقًّا على اللهِ أن يُدخلَه الجنَّةَ، هاجر في سبيلِ اللهِ، أو جلس في أرضِه الَّتي وُلِدَ فيها. قالوا: يا رسولَ اللهِ، أفلا نُنبِّئُ النَّاسَ بذلك؟ قال: إنَّ في الجنَّةِ مائةَ درجةٍ، أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيلِه، كلُّ درجتيْنِ ما بينهما كما بين السماءِ والأرضِ، فإذا سألتم اللهَ فسلُوهُ الفردوسَ، فإنَّهُ أوسطُ الجنَّةِ، وأعلى الجنَّةِ، وفوقَه عرشُ الرَّحمنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ )) .
وعن كَعبِ بنِ مُرَّةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((مَن بلَغَ العدوَّ بسَهمٍ رَفَعَ اللهُ له درجةً، فقالَ له عبدُ الرَّحمنِ بنُ النَّحَّام:ِ وما الدَّرجةُ يا رسولَ الله؟ِ قال أمَا إنَّها ليستْ بعَتَبةِ أمِّك، ما بين الدَّرجتَيْن مائةُ عامٍ )) .
وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى
أي: وعَدَ اللهُ كُلًّا مِن المجاهِدين بأموالهم وأنفسِهم, والقاعِدين: الجنَّةَ .
وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا
أي: وفضَّل اللهُ المجاهدين بأموالهم وأنفُسِهم على القاعِدينَ جزاءً كبيرًا وثوابًا جزيلًا .
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً
أي: إنَّ هذا الأجْرَ العظيمَ يَشملُ رَفْعَهُم دَرجاتٍ في الجِنان العالياتِ، وسَتْرًا للذنوب وتجاوزًا عن الزلَّاتِ، وحلولَ الرَّحَماتِ والبركات؛ إحسانًا منه سبحانه وتكريمًا، وفضلًا منه وتشريفًا .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف: 10- 12] .
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو الغفورُ الَّذي يَستُرُ ذُنوبَ عِبادِه، ويَتجاوزُ عن مُؤاخذتِهِم بها، وهو الَّذي يَرحَمُهم فيتفضَّلُ عليهم بنِعَمِهِ سبحانه

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- قولُ الله تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... فيه التَّرغيبُ في الجِهاد، والحثُّ عليه
.
2- فَضْلُ الجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى بالمالِ والنَّفس؛ ووجهُه: أنَّهم أعْلى درجةً من القاعدين الَّذين لا يُجاهدون فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- في قوله تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ نفْيُ التَّساوي بين النَّاس، والعَجَبُ أنَّنا نسمع مَن يُدندِنُ كثيرًا فيقول: إنَّ دين الإسلام دين المساواة، وهذا غلط على دين الإسلام، فدين الإسلام ليس دينَ المساواةِ، ولكنَّه دينُ العدلِ، والعدلُ هو: إعطاءُ كلِّ أحدٍ ما يستحقُّه؛ ولذلك تجد أكثرَ ما في القرآنِ نفيَ المساواة، وليس إثباتها؛ كقوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ
.
2- قوله تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ فيه حِكمةُ الشَّريعةِ؛ حيث لا تُسَاوِي بين المفترقَيْنِ كما أنَّها لا تُفَرِّق بين المتساويِيَن؛ فالشَّريعة الإسلامية من لدُنْ حكيمٍ خبيرٍ، فلا يمكن أنْ تجدَ فيها حُكمَينِ متناقضينِ، ولا يمكن أنْ تجد فيها شيئينِ متساويينِ ثمَّ يختلفانِ في الحكم أبدًا، بل إذا تراءى لك أنَّ هذين الشيئين متساويانِ، وقد اختلفا في الحكم شرعًا، فأَعِدِ النَّظَرَ مرَّةً بعد أخرى حتَّى يتبيَّنَ لك، فإنْ لم يتبينْ لك فاتَّهِمْ فَهْمَك، ولا تَتَّهِمِ الأحكامَ الشَّرعيَّة5 .
3- نفيُ التساوي أيضًا في قوله تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... يُفيدُ التَّذكيرَ بما بينهما مِن التفاوُتِ العَظيم، والبَوْنِ البَعيد؛ ليَأنفَ القاعدُ ويَترفَّعَ بنَفْسِه عن انحطاطِ منزلتِه، فيهتزَّ للجِهاد، ويَرغبَ فيه وفي ارتفاعِ طبقتِه كذلك فهذا النفي للتساوي يقتضي العموم، فالقاعدون والمجاهدون لا يستوون مِن كلِّ وجهٍ .
4- أنَّ مَن قعَد عن الجِهاد لضَرَرٍ، فإنَّه كالذي أتى بالجهاد؛ لقوله: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، ثمَّ استثنى فقال: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ، فأولو الضَّررِ مُساوُون للمجاهدين .
5- البِشارةُ بالحُسنَى لعامَّة المؤمنينَ من القاعدين والمجاهدين؛ لقوله: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى .
6- عِظَم منَّةِ الله سبحانه على العِباد؛ حيثُ جَعَل إثابتَهُم على الأعمالِ مثلَ الأُجرة الَّتي استحقَّها الإنسان فَرْضًا على الْمُسْتَأجِر؛ لقوله: أَجْرًا عَظِيمًا، فسمَّاه أَجْرًا، كأُجرة الأجير، مع أنَّ الفضلَ للهِ تعالى أولًا وآخِرًا؛ فهو الَّذي وفقَّك للعمل، وهو الَّذي منَّ عليك بالجزاء عليه .
7- فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، هذا بيانٌ لمفهوم عدمِ استواء المجاهِدين والقاعِدين غيرِ أُولي الضَّرر، وهو أنَّ الله تعالى رَفَعَ المجاهدين عليهم درجةً، وهي درجةُ العمل الَّذي يترتَّبُ عليه دفعُ شرِّ الأعداءِ عن الْمِلَّة والأمَّة والبلاد، وكُلًّا وَعَدَ الله الحُسنى .
8- ذكَر تعالى في الآيةِ فَضْلَ المجاهدينَ في سبيلِ اللهِ على القاعِدين لغيرِ عَجزٍ؛ فعُلِمَ أنَّ العاجِزَ معذورٌ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ .
9- قولُ الله تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى فيه دليلٌ على أنَّ فرْضَ الجِهاد على الكِفايةِ، وليس على كلِّ واحدٍ بعينه؛ لأنَّه تعالى وَعَدَ القاعدين الْحُسنى كما وعَد المجاهدينَ، ولو كان الجِهادُ واجبًا على التَّعيينِ لَمَا كان القاعدُ أهلًا لوعْدِ الله تعالى إيَّاه الحُسْنى .
10- عِظَم دَرجاتِ المجاهدين في سَبيلِ الله، وجْهُ ذلك قولُه: دَرَجَاتٍ مِنْهُ، فأضافَها إلى نَفسِهِ، ومعلومٌ أنَّ العطاءَ يعظُم بعِظَم المُعطِي .
11- إثباتُ الرَّحمةِ للهِ، والرَّحمةُ الَّتي أضافَها اللهُ تعالى إلى نفْسه نوعانِ: منها صِفةٌ لله، ومنها مخلوقٌ مِن مخلوقاتِ الله سَمَّاه اللهُ تعالى (رحمةً) .
12- لَمَّا وعَد المجاهدِينَ بالمغفرةِ والرَّحمةِ الصَّادرَتَيْنِ عن اسْمَيهِ الكريمينِ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، ختَم هذه الآيةَ بهما، فقال: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

.
بَلاغةُ الآيتين:

1- قوله: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ: فيه تعريضٌ بالقاعِدين، وتَشْنيعٌ بحالِهم؛ حيثُ بيَّن أنَّ القاعدَ عن الجِهاد لا يُساوي المجاهِدَ في فَضيلةِ نُصْرة الدِّين، وبهذا يَظهرُ موقعُ الاستثناءِ بقوله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ؛ كيلَا يَحسبَ أصحابُ الضررِ أنَّهم مقصودونَ بالتَّحريض؛ فيَخرجوا مع المسلمين، فيُكلِّفوهم مَؤونةَ نقْلِهم وحِفظهم بلا جَدْوى، أو يَظنُّوا أنَّهم مقصودونَ بالتعريضِ فتَنكسِرَ لذلك نفوسُهم، زيادةً على انكسارِها بعَجزِهم، ولأنَّ في استثنائِهم إنصافًا لهم وعُذرًا بأنَّهم لو كانوا قادِرين لَمَا قَعَدوا؛ فذلِك الظنُّ بالمؤمِن؛ فالاستثناءُ مقصودٌ، وله موقعٌ من البلاغةِ لا يُضاعُ، ولو لم يُذكَر الاستثناءُ هنا، لكان تجاوزُ التَّعريضِ أصحابَ الضررِ معلومًا في سياقِ الكلامِ؛ فالاستثناءُ عُدولٌ عن الاعتمادِ على القَرينةِ إلى التَّصريحِ باللَّفْظِ، وهو عدولٌ عن حِراسةِ المقامِ إلى صَراحةِ الكلامِ، وهو مِن البلاغةِ ومِن مراعاةِ مقتضى الحال أيضًا؛ لأنَّ السامعينَ أصنافٌ كثيرةٌ منهم الذَّكيُّ الذي يَفْهَم بالقَرينةِ، ومنهم غيرُه الذي لا يَفْهَم إلَّا بالتَّصريحِ
.
- وفيه: تقديمُ المفضولِ الْقَاعِدُونَ في الذِّكرِ على الفاضِلِ الْمُجَاهِدُونَ؛ للإيذانِ مِن أوَّل الأمرِ بأنَّ القصورَ الذي يُنْبئ عنه عدمُ الاستواءِ مِن جِهة القاعِدين وليس مِن جِهةِ المجاهِدِينَ؛ فإنَّ مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشَّيئين المتفاوتينِ زيادةً ونقصانًا، وإنْ جاز اعتبارُه بحسَب زيادةِ الزائد، لكن المتبادِر اعتبارُه بحسَب قُصورِ القاصِر، كقولِه تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [الرعد: 16] ، وبيانُ ذلك أنَّ الفرقَ بين المتفاوتين في الزِّيادة والنَّقصِ، يُمكن اعتبارُ التفاوتِ بالنِّسبةِ إلى النقصِ في الناقِص، ويمكن اعتبارُه بالنسبةِ إلى الزيادةِ في الزَّائد؛ فقُدِّم الجانبُ الناقِص ليُبيِّنَ أنَّ التفاوتَ الذي حصَل بينهما، إنَّما هو بسببِ النَّقصِ الذي جاءَ منهم لا بسببِ الزيادةِ في الفريقِ الثاني، وفيه زيادةُ تأنيبٍ لجانبِ النقص . وقدْ حَسُنَ هذا الانتقالُ مِن حالةٍ إلى أعْلى منها؛ لأنَّ هذا الانتقالَ مِن حالةٍ إلى أعلى منها عندَ التفضيل والمدْحِ أو النُّزولِ مِن حالة إلى ما دونها عندَ القدح والذم- أحسنُ لفظًا وأوقعُ في النَّفْس .
2- قوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً: فيه التفصيلُ بعد الإجمال؛ فإنَّه استئنافٌ مسوقٌ لتفضيلِ ما بين الفَريقينِ مِن التفاضُلِ المفهومِ مِن ذِكر عدمِ استوائِهما إجمالًا، ببيانِ كيفيَّتِه وكمِّيَّته، وهو مبنيٌّ على سؤالٍ ينساقُ إليه المقال، كأنَّه قيل: كيف وقَع ذلك؟ فقيل: فضَّلَ الله... إلخ ؛ فجملة: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بيانٌ لجُملة: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فلمَّا بيَّن أنَّ المجاهِدين والقاعِدين لا يَستويانِ، وكان عَدمُ الاستواءِ يَحتمِلُ الزِّيادةَ ويَحتملُ النُّقصانَ، وكان نَفيُ المساواةِ سببًا لترقُّبِ كلٍّ مِن الحِزبَينِ الأفضليةَ؛ لأنَّ القاعدَ وإنْ فاتَه الجهادُ، فقدْ تخلَّفَ الغازي في أَهلِه؛ إذ يُحيي الدِّينَ بالاشتغالِ بالعِلمِ ونحوِه- لا جرَمَ كشَفَ اللهُ سُبحانَه عن التَّفضيلِ فقال: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً .
- وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ جاءَ هنا تقديمُ الأموالِ على الأنفُس، بَيْنما في قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة: 111] جاءَ تَقديمُ الأنفسِ على الأموالِ؛ وذلِك لأنَّ النَّفْسَ أشرفُ مِن المالِ، وقد تَبايَن الغَرضانِ في الآيتينِ؛ ولَمَّا كان الكلامُ هنا في سورةِ النِّساءِ عن المجاهِدِ وهو بائعٌ، أَخَّر ذِكرَ الأَنفُس؛ تنبيهًا على أنَّ المضايقةَ فيها أشدُّ؛ فلا يَرضَى بَبذلِها إلَّا في آخِرِ المراتِبِ، وأمَّا في سورةِ التوبةِ فالكلامُ عن الذي يَشتري- وهو اللهُ سبحانه وتعالى- فقَدَّم ذِكْرَ النَّفسِ؛ تَنبيهًا على أنَّ الرَّغبةَ فيها أشدُّ، وإنَّما يرغَب أولًا في الأنفسِ الغالِي .
3- قوله: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى: جُملة معترِضة؛ جيءَ بها لبيانِ سَعة فضلِ الله عزَّ وجلَّ، ولكي يَطمئنَّ الأقلُّ درجةً أنَّ له نصيبًا من الأجرِ ، وفيها حُسْنُ احتراسٍ أو احتراز؛ فإنَّه سبحانه إذا فضَّلَ شيئًا على شَيءٍ وكلٌّ منهما له فضلٌ، احترز بذِكرِ الفَضلِ الجامعِ للأمرينِ؛ لئلَّا يتوهَّم أحدٌ ذمَّ المُفضَّلِ عليه، أو القَدْح فيه .
- وقوله: وَكُلًّا مفعولٌ أوَّلُ لـوَعَدَ؛ قُدِّم لإفادةِ القَصرِ؛ تأكيدًا للوعدِ، أي: كلَّ واحدٍ من المجاهِدين والقاعِدين .
4- قوله: أَجْرًا عَظِيمًا: فيه التعبيرُ بالمصدر المؤكِّد لـفَضَّلَ على أنَّه بمعنى (أَجَرَ)، وإيثارٌ على ما هو مصدرٌ من فِعله؛ للإشعارِ بكون ذلك التفضيلِ أجرًا لأعمالهم .
5- قوله: دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً: جَمَعَ دَرَجَاتٍ؛ لإفادة تعظيم الدَّرجة؛ لأنَّ الجَمْع- لِمَا فيه من معنى الكثرة- تُجعل صِيغتُه لمعنى القُوَّة .
- وفي قولِه في الآيةِ السَّابقةِ: دَرَجَةً بالإفرادِ، ثم قولِه في هذه الآيةِ: دَرَجَاتٍ بالجمْع، مناسبةٌ حَسنةٌ؛ وذلك مِنْ وجوهٍ :
الأوَّلُ: أنَّ قوله: دَرَجَةً جِيءَ به بصِيغةِ الإفراد، وليسَ إفرادُها للوَحْدة؛ لأنَّ دَرَجَةً هنا جِنسٌ معنويٌّ لا أفرادَ له، فالمرادُ بالدرجة ليس هو الدَّرجةَ الواحدةَ بالعَدَدِ، بل بالجنس، والواحد بالجِنْسِ يدخل تحته الكثيرُ بالنوع، وذلك هو الأجرُ العظيم، والدَّرجاتُ الرفيعةُ في الجنَّة المغفرةُ والرَّحمة؛ ولذلك أُعيد التعبيرُ عنها في الجُملة، التي جاءتْ بعدَها؛ تأكيدًا لها بصِيغة الجَمْع بقولِه: دَرَجَاتٍ مِنْهُ؛ لأنَّ الجَمْع أقوى مِن المفرد، وتنوين دَرَجَةً للتعظيم، وهو يُساوي مفاد الجمع في قوله الآتي: دَرَجَاتٍ مِنْهُ.
الوجهُ الثاني: أنَّ المرادَ بالتفضيلِ بالدرجةِ تَفضيلُهم على القاعِدينَ بعُذر؛ لأنَّ لهم أجرًا لكونهم من الغُزاة بالهمَّة والقَصْد؛ ولهذا قال وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى، أي الجنَّة. والمرادَ بالتفضيلِ بالدَّرجات تفضيلُهم على القاعِدينَ بلا عذرٍ؛ لأنهم مُقصِّرون ومُسيئونَ؛ فكان فضلُ الغزاةِ عليهم دَرجاتٍ؛ لانتفاءِ الفضلِ لهم.
الوجه الثالث: أنَّ هذا من قبيل أُسلوبِ الإبهامِ ثمَّ التَّفسيرِ، والغَرَضُ منه مزيدُ التَّحقيقِ والتقريرِ، فكأنَّه قيل: فضَّلَ اللهُ المجاهدينَ على القاعِدينَ دَرَجةً لا يُقادَر قَدرُها، ولا يُبلَغُ كُنهُها، ولَمَّا كانتْ معرفةُ هذا الفَرْقِ الواسعِ بين الفريقين تُوهِمُ حِرمانَ القاعدينَ، قيل: وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى ثم أُريدَ تفسيرُ ما أفادَه التنكيرُ بطريقِ الإبهامِ بحيث يقطَعُ احتمالَ كونِه للوَحْدة فجيءَ بالجمع في قَوْلِه تعالى: دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً.
الوجه الرابع: أنَّ التفضيلَ بالدَّرجةِ هو ما فضَّلَ الله المجاهدين في الدُّنيا بدَرجةٍ واحدةٍ، وهي الغنيمةُ، وأما الجَمْعُ فتفضيلُهم في الآخِرَةِ بدرجاتٍ كثيرةٍ في الجنَّة بالفضلِ والرَّحمة والمغفرة.
الوجه الخامس: أنَّ المقصودَ بالمجاهِدِ الأَوَّلِ غيرُ المقصود به في الموضِعِ الثاني؛ لئلَّا يحصُلَ التَّكرارُ، فالمفضَّلون درجةً هم المجاهِدون بأموالِهم وأنفُسِهم كما نصَّت الآية، وأمَّا المرادُ بالثاني وهو المفضَّلُ بالدرجات مَن كان مجاهدًا على الإطلاقِ في كُلِّ الأمور، وهو الجهادُ بالنَّفْس والمال والقلب، وهو أشرفُ أنواعِ المجاهدةِ، وحاصِلُ هذا الجهادِ صَرْفُ القلب من الالتفاتِ إلى غير الله إلى الاستغراقِ في طاعة الله، ولَمَّا كان هذا المقامُ أعلى مما قبله؛ لا جَرَمَ جَعَل فضيلةَ الأول درجةً، وفضيلة هذا الثاني درجاتٍ.
- وقد جاءتِ اللَّفظتان: مَغْفِرَةً، ورَحْمَةً على المَصدرِ بإضمارِ فِعلَيْهما (غَفَر- رَحِم)؛ تَرغيبًا في الجِهاد .
6- قوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا: تذييلٌ مقرِّرٌ لِمَا وعَد مِن المغفرةِ والرحمةِ .
- وجاء لفظ غَفُورًا على هيئة صِيغة المبالغة (فعول)؛ مبالغةً في وصْفِه تعالى بالمغفرة؛ لإفادةِ أنَّه يَغفِر له ما فرَط منه من الذُّنوب التي مِن جملتِها القعودُ عن الهجرةِ إلى وقتِ الخروج، وكذَا جاءَ لفْظُ رَحِيمًا على هَيئةِ صِيغةِ المبالغةِ (فعيل) أيضًا؛ ليدلَّ على المبالغةِ في وصْفِه تعالى بالرَّحمة؛ فيَرحمه بإكمالِ ثَوابِ هِجرتِه .

==========5.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (97-100)
ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ
غريب الكلمات:

حِيلَةً: الحِيلةُ ما يُتوصَّلُ به إلى حالةٍ ما في خُفيةٍ، وأكثرُ استعمالِها فيما في تَعاطِيه خُبثٌ، وقد تُستعملُ فيما فيه حِكمةٌ، وأصل الحَوْل: تغيُّرُ الشَّيءِ وانفصالُه عن غيرِه، وقيل: أصلُ (حول) تحرُّك في دَورٍ؛ لأنَّه يدورُ حوالي الشَّيءِ ليُدركَه
.
مُرَاغَمًا: أي: مُتَزَحْزَحًا عمَّا يَكرَهُه، أو مُتَحوَّلًا، والمُراغَم والمُهاجَر واحدٌ، وأصل (رغم): المَذهبُ والمهرَبُ

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِر اللهُ تعالى أنَّ الَّذين تَقبِض الملائكةُ أرواحَهم وهم ظالِمو أنفسِهم بمعصيةِ الله؛ حيثُ أقاموا في دار الكُفر، ولم يُهاجِروا فرارًا بدِينهم، مع أنَّهم لا يَستطيعون إقامتَه في تلك الدَّار، وهم قادِرونَ على الهِجرة، تقولُ لهم الملائكةُ حين قَبْض أرواحِهم موبخةً لهم: لِمَ بقِيتُم في هذا المكانِ وتركتُم الهِجرةَ؟ فأجابوا أنَّهم كانوا ضُعفاءَ، مقهورِين، ليس لهم القُدرةُ على الهجرةِ، فتقول لهم الملائكةُ حِينَها: قد كانتْ أرضُ اللهِ واسعةً فسيحةً، وقد كان بوُسعِكم الانتقالُ إلى أيِّ مكانٍ منها تستطيعونَ فيه عِبادةَ الله. ثمَّ يُبيِّن اللهُ تعالى أنَّ هؤلاء الَّذين ظلَموا أنفسَهم مَصيرُهم نارُ جهنَّمَ، وقَبُحتْ جهنَّمُ مآبًا ومرجعًا لهم.
واستَثْنَى اللهُ تعالى الَّذين استُضعِفوا حقًّا وقُهِروا، رِجالًا ونساءً ووِلدانًا، فلمْ يَقدِروا على الهِجرة؛ لعجزِهم عن تدبيرِ حِيلةٍ تخلِّصُهم من المشركين، ولا يَعرِفون الطَّريقَ الَّتي يَنبغي المرورُ فيها للخروجِ من دار الكُفرِ إلى دارِ الإسلام، فأولئك وعَدَهم اللهُ بأنْ يعفوَ عنهم، ويتجاوزَ عن مؤاخذتِهم بترْكِ الهجرة، وكان اللهُ عفوًّا غفورًا.
ثمَّ حثَّ اللهُ على الهِجرة ورغَّبَ بها؛ حيثُ أخبَرَ أنَّ مَن يهاجرُ في سبيلِ الله فإنَّه يجدُ في الأرض مكانًا يَتزحْزَحُ فيه عمَّا يكرَهُ، وموضعًا فيه سَعةٌ في الدِّين يمكِنُه إظهارُه فيه، وفيه سَعةٌ في الصَّدرِ، والرِّزق، وكلِّ شيء، وأخبَر تعالى أنَّ مَن يَخرج من بَيتِه مُهاجرًا قاصدًا رضَا الله، واتباعًا وحبًّا لرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ يموتُ قَبلَ أنْ يَبلُغَ دارَ الإسلام الَّتي هاجَر إليها، فقد ثبَت أَجرُهُ على اللهِ، وكان اللهُ غفورًا رحيمًا.
تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى ثوابَ مَن أقدَمَ على الجِهاد، أتْبَعَه بعِقابِ مَن قعَدَ عن الجِهادِ وسكَن في بلادِ الكُفرِ
.
وأيضًا لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى القاعدِينَ عن الجِهادِ من المؤمنين بعُذْرٍ وبدونه، كان حالُ القاعِدِين عن إظهارِ إسلامِهم مِن الَّذين عَزَموا عليه بمكَّةَ، أو اتَّبَعوه ثمَّ صَدَّهم أهلُ مكَّةَ عنه، وفتَنوهم حتَّى أرجَعوهم إلى عِبادةِ الأصنام بعُذرٍ وبدونه، بحيثُ يخطُرُ ببالِ السَّامع أنْ يَتساءلَ عن مَصيرِهم إنْ هم استمرُّوا على ذلك حتَّى ماتوا، فجاءتْ هذه الآيةُ مجيبةً عمَّا يَجيش بنفوسِ السَّامعين من التَّساؤلِ عن مَصيرِ أولئك .
سببُ النُّزول:
عن ابن عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: ((أنَّ أناسًا من المسلِمين كانوا مع المُشرِكين يُكثِّرون سوادَ المُشرِكين على رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيأتي السَّهمُ يُرمى به، فيُصيبُ أحدَهم فيقتُلُه، أو يُضرَبُ فيُقتَلُ، فأنزَل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ)) .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
أي: إنَّ الَّذين تَقبِضُ الملائكةُ أرواحَهم والحالُ أنَّهم اكتَسبوا غضَبَ اللهِ تعالى؛ بسببِ مَعصيتِه بإقامتِهم بينَ ظَهْرَانَيِ المشرِكين مع عدمِ تمكُّنِهم من إقامةِ الدِّين، وهم قادِرونَ على الهِجرةِ فلم يُهاجِروا حتَّى ماتوا .
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ
أي: قالتِ الملائكةُ توبيخًا لهم: لماذا بقِيتُم في هذا المكانِ وترَكتُم الهِجرةَ ؟
قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
أي: قال الَّذين توفَّاهم الملائكةُ ظالِمي أنفسِهم مُعتذِرين عن تَركِ الهجرةِ: كنَّا ضُعَفاءَ مَقهورينَ، ليس لنا قُدرةٌ على الخُروجِ مِن بين ظَهْرانَيِ المُشركين .
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا
أي: قالتْ لهم الملائكةُ: إنَّ أرضَ اللهِ تعالى واسعةٌ، فإذا كان العبدُ في مَكانٍ لا يتمكَّنُ فيه من إظهارِ دِينِه، فإنَّ له متَّسعًا وفُسحةً من الأرضِ، بحيث ينتقلُ إلى الأرض الَّتي يتمكَّنُ فيها من عبادةِ اللهِ تعالى .
كما قال عزَّ وجلَّ: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت: 56] .
فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
أي: فهؤلاء الَّذين تقدَّم ذِكرُهم ووصْفُ حالِهم، مصيرُهم في الآخرةِ جهنَّمُ، وهي مسكَنُهم .
وَسَاءَتْ مَصِيرًا
أي: وساءتْ جهنَّمُ لأهلِها الَّذين صاروا إليها مرجعًا ومرَدًّا .
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
أي: أمَّا الَّذين استضعَفَهم المشركون من الرِّجالِ والنِّساءِ والوِلدانِ وقهَروهم، فلم يقدِروا على الهجرةِ من بينِ أظهُرِهم؛ بسبب قلَّةِ الحِيلةِ للتَّخلُّصِ من أيدي المشركين، وعدمِ المعرفةِ بالطَّريق الَّتي ينبغي سلوكُها للخروجِ من أرضِ الشِّرك إلى أرضِ الإسلام .
عن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان إذا قال: سمِع اللهُ لِمَن حمِدَهُ في الرَّكعةِ الآخِرَةِ من صلاةِ العِشاءِ قنَت: اللَّهمَّ أَنجِ عَيَّاشَ بنَ أبي رَبيعَةَ، اللَّهمَّ أَنجِ الوليدَ بنَ الوليدِ، اللَّهمَّ أَنجِ سلَمَةَ بنَ هِشامٍ، اللَّهمَّ أَنجِ المستضعَفِينَ من المؤمِنينِ، اللَّهمَّ اشدُدْ وَطْأتَك على مُضَرَ، اللَّهمَّ اجعَلْها عليهم سِنينَ كسِنِي يوسُفَ )) .
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ
أي: فهؤلاء مَوْعُودون بأن يصفَحَ اللهُ تعالى عنهم، ويتجاوَزَ عن مؤاخذتِهم بترك الهجرةِ؛ وذلك بمقتضى كرَمِه وإحسانِه سبحانه .
عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ قال: كانت أُمِّي ممَّن عذَر اللهُ .
وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا
أي: يصفَحُ عن عبادِه، ويستُرُ عليهم ذنوبَهم، ويتجاوزُ عن مؤاخذتِهم بها .
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا رهَّب اللهُ تعالى مِن تركِ الهجرة، رغَّب فيها بما يُسلِّي عمَّا قد يُوسوِسُ به الشَّيطانُ مِن أنَّه لو فارَق رفاهيةَ الوطنِ، وقَع في شدَّةِ الغُربة، وأنَّه ربَّما تجشَّمَ المشقَّةَ فاختُرِمَ قبل بلوغ القصدِ، فذكر ما يترتَّب عليها من وجودِ السَّعةِ والمذاهبِ الكثيرة؛ ليذهَبَ عنه ما يتوهَّمُ فقال تعالى:
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أي: ومن يُفارِقْ أرضَ الشِّركِ هربًا بدِينِه إلى أرض الإسلامِ لإقامة دِينِ الله تعالى ابتغاءَ مرضاتِه سبحانه .
يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا
أي: فإنَّه يجدُ في الأرض مكانًا ومتزحزَحًا كثيرًا يمتنعُ فيه ، ويتحصَّنُ ممَّا يكرَهُ، ويغلِبُ فيه أهلَ الشِّرك؛ بابتعادِه عنهم، ويتمكَّنُ فيه من إغاظتِهم وجهادِهم .
وَسَعَةً
أي: سَعةً في الدِّين بإظهارِ دِينه وعبادةِ ربِّه سبحانه، وسَعةً في الصَّدرِ، وفي الرِّزقِ، وفي كلِّ شيءٍ .
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا وعَد تعالى مَن يُهاجِرُ فيَصِلُ إلى دار الهجرةِ بالظَّفَرِ بما ينبغي من وُجدانِ المراغمِ والسَّعةِ، وعَد مَن يموتُ في الطَّريق قبل بلوغها بأجرٍ عظيمٍ يضمَنُه- عزَّ وجلَّ- له .
أسباب النُّزول:
خرَج ضَمْرَةُ بنُ جُنْدُبٍ مِن بيتِهِ مهاجِرًا فقال لأهلِهِ: احْمِلوني فأخرِجوني مِن أرضِ المشرِكينَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فمات في الطَّريقِ قبل أنْ يصلَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنزَل الوحيُ: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا الآيةَ .
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ
أي: ومَن خرَج من منزلِه وموطنِه فرارًا بدِينه ليُقيمَه، ابتغاءَ مرضاةِ الله تعالى، واتِّباعًا لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ونصرًا له .
ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ
أي: فمات في أثناء الطَّريق بقتلٍ أو غيرِه قبل بلوغه أرضَ الإسلامِ ودارَ الهجرةِ .
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
أي: فقد ثبَت له عند اللهِ تعالى ثوابُ مَن هاجَر وبلَغ دارَ هجرتِه .
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى غفورٌ يستُرُ ذنوبَ عبادِه، ويتجاوزُ عن مؤاخذتِهم بها، رحيمٌ بهم، ومِن رحمته أنْ أعطاهم أجرَهم كاملًا ولو لم يُكمِلوا العملَ، وغفَر لهم ما حصَلَ منهم مِن التَّقصيرِ في الهجرةِ وغيرِها

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّ العبرةَ في الأعمالِ بالخواتيم؛ لقوله: ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ، يعني: أنَّهم في وقتِ الوفاة ظالِمون لأنفُسِهم؛ فالعبرةُ بالخواتيم؛ ولهذا يجبُ على الإنسانِ أن يكونَ خائفًا من سوءِ الخاتمةِ، وأن يسأَلَ اللهَ سبحانه دائمًا حُسنَ الخاتمةِ، وألَّا يموتَ إلَّا وهو مسلِمٌ
.
2- أنَّ مَن ترَك شيئًا للهِ عوَّضه اللهُ خيرًا منه، وتُؤخَذُ مِن قوله: يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً؛ فقد خرَج مِن الضِّيق فوجَد السَّعة .
3- أنَّ مَن أُذِلَّ بطاعةِ الله صار العِزُّ له في النِّهايةِ، وتُؤخَذُ مِن قوله: مُرَاغَمًا كَثِيرًا؛ فهذا الَّذي أُذِلَّ هو الآن يُذِلُّ أنوفَ الَّذين أذَلُّوه بالأمسِ .
4- الحثُّ على الهجرةِ والتَّرغيبُ فيها، وبيان ما فيها من المصالح، فوعَد الصَّادقُ في وعدِه أنَّ مَن هاجَر في سبيلِه ابتغاءَ مرضاتِه، أنَّه يجِدُ مُراغَمًا في الأرضِ وسَعةً؛ فالمُراغَمُ مشتمِلٌ على مصالحِ الدِّين، والسَّعةُ على مصالحِ الدُّنيا: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً .
5- كلُّ مَن نوى خيرًا ولم يُدرِكْه، فالله تعالى موفِّيه إيَّاه؛ نستفيدُ ذلك مِن قول الله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فمن قصَد طاعةَ الله ثمَّ عجَز عن إتمامِها، كتَب اللهُ له ثوابَ تمامِ تلك الطَّاعة

.
الفوائد العِلميَّة واللَّطائف:

1- أنَّ للملائكةِ ذواتًا حقيقيَّةً تقبِضُ الأرواحَ، وتُخاطِب وتتكلَّم، وكلامُها مفهومٌ، خلافًا لِمن يقول: إنَّ الملائكةَ هي القُوَى الخيِّرةُ، وإنَّ الشَّياطينَ هي القُوَى الشِّرِّيرةُ، فإنَّ هذا قولٌ باطلٌ يكذِّبُه القرآنُ والسُّنَّةُ والإجماعُ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ
.
2- مِن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ... الآيةَ، نستفيدُ وجوبَ الهجرةِ من المَوْضِع الَّذي لا يتمكَّنُ المسلمُ فيه من إقامةِ دِينِه، وأنَّ مَن لم يهاجِرْ فإنَّه يموت وقد ظلَم نفسَه، ولكنَّ وجوبَ الهجرةِ مشروطٌ بشروطٍ؛ منها: أولًا: القُدرة؛ لقوله في الآية الكريمة الَّتي بعد هذه الآيةِ: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ [النساء: 98] ؛ ولأنَّ القاعدةَ العامَّةَ العظيمةَ العميقةَ في الشَّريعة الإسلاميَّة: أنَّه لا واجبَ مع العجزِ؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ التغابن: 16، فيُشترط لوجوب الهجرةِ القدرةُ .
3- أن الظَّالم يحتجُّ بأيِّ حُجَّةٍ كانت؛ لقول هؤلاء: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ، والواقع أنَّهم غيرُ مستضعَفين؛ لأنَّ الملائكة قالت لهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا .
4- أنَّ الشَّريعة إن منَعَتْ بابًا ضيِّقًا فتَحت بابًا أوسعَ، ويؤخَذُ هذا من قوله: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؛ فاللهُ تعالى لم يحجُرْ عليهم الأرضَ، بل جعَلها واسعةً، وهذا كقوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا الشرح: 5- 6 .
5- أنَّ التَّخلُّفَ عن الهجرة الواجبة من كبائرِ الذُّنوبِ؛ لقوله تعالى: فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، ووجهُ الدَّلالة: أنَّه ترتَّب عليها عقوبةٌ خاصَّةٌ .
6- نستفيدُ مِن قول الله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ أنَّ مِن الرِّجالِ البالغين مَن لا تجبُ عليهم الهجرةُ؛ وذلك لكونهم مستضعَفين .
7- قول الله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ، أدخَل الوِلدانَ في جملة المُستثنَيْنَ مِن أهل الوعيد، مع أنَّ الاستثناءَ إنَّما يحسُنُ لو كانوا مستحقِّين للوعيد؛ وذلك لأنَّ سقوطَ الوعيدِ بسبب العجز، والعجزُ تارةً يحصُل بسببِ عدم الأُهْبةِ، وتارةً بسبب الصِّبا، فلا جرمَ حسُنَ هذا ، وقيل أيضًا: لَمَّا توعَّد اللهُ تعالى على ترك الهجرة، أتبَعَ ذلك بما زاد القاعدَ عنها تخويفًا بذِكْرِ مَن لم يدخل في المحكوم عليه بالقدرة على صورة الاستثناءِ، تنبيهًا على أنَّهم جديرون بالتَّسويةِ في الحُكمِ لولا فضلُ الله عليهم .
8- أنَّ الدِّين الإسلاميَّ دِينُ اليُسر والسُّهولة، وأنَّه مع وجود المشقَّة ينتفي الحرَجُ؛ قال تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ .
9- أنَّ الواجبَ الوصولُ إلى القيامِ بالواجب بأيِّ حِيلةٍ تكونُ؛ لقوله: لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً .
10- في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ..... وَسَاءَتْ مَصِيرًا الإيمانُ بالملائكة ومدحُهم؛ لأنَّ اللهَ ساق ذلك الخطابَ لهم على وجهِ التَّقريرِ والاستحسانِ منهم، وموافقتِه لمحلِّه .
11- أنَّه تجبُ الهجرةُ على مَن يقدر عليها من أيِّ سبيلٍ؛ لقوله: وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، وسبيلًا: نكرةٌ في سياقِ النَّفي فتعمُّ .
12- في قوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أنَّه يُرجَى لهؤلاء أن يعفوَ اللهُ عنهم؛ لقوله: فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ؛ فالرَّجاءُ هنا باعتبارِ ما يكونُ في قلبِ المخاطَبِ، أمَّا باعتبارِه منسوبًا إلى اللهِ فقال بعضُ السَّلفِ: عَسَى مِن الله واجبةٌ، يعني: أنَّ اللهَ وعَدهم أن يعفوَ عنهم ، وقيل: إنَّ ذِكرَ لفظة (عسى) ها هنا مع أنَّ الله تعالى هو فاعلُ العفوِ، وهو عالمٌ بأنَّه يعفو عنهم، وذلك لفائدةِ الدَّلالة على أنَّ تركَ الهجرة أمرٌ مضيَّقٌ لا توسِعةَ فيه، فمثَّل حالَ العفوِ عنهم بحالِ مَن لا يقطَعُ بحصولِ العفوِ عنه، والمقصودُ من ذلك تضييقُ تحقُّقِ عُذرِهم؛ لئلَّا يتساهلوا في شروطِه اعتمادًا على عفوِ الله .
13- في قوله: عَفُوًّا غَفُورًا إثباتُ اسمينِ مِن أسماء اللهِ، هما: العفوُّ، والغفورُ، وإثباتُ الصِّفتينِ الدَّالِ عليهما هذانِ الاسمانِ، والعفوُّ هو: المتجاوزُ عن السَّيِّئات، والغفورُ: هو الماحي لها، لكن إذا اجتمع العفوُّ والغفورُ، صار المرادُ بالعفوِّ ما يقابل تركَ الواجب، والغفورِ ما يقابِلُ فِعلَ المحرَّمِ، أي: عفوٌّ عن التَّفريط في الواجبِ، غفورٌ عن فِعل المحرَّمِ .
14- قوله: مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فيه عطفُ الرَّسولِ على اسم الجلَالةِ؛ للإشارةِ إلى خصوصِ الهجرة إلى المدينةِ؛ للالتحاقِ بالرَّسولِ وتعزيزِ جانِبِه؛ لأنَّ الَّذي يُهاجِرُ إلى غير المدينة قد سلِم من إرهاقِ الكُفْر، ولم يحصُلْ على نُصرةِ الرَّسولِ؛ ولذلك بادَرَ أهلُ هجرةِ الحبَشةِ إلى اللَّحاقِ بالرَّسولِ حين بلَغَهم مُهاجَرُه إلى المدينةِ .
15- أنَّ مَن سعى في الهجرةِ وأدرَكه الموتُ، فإنَّ أجره ثابتٌ كاملٌ، وتؤخذ من قوله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، ويقاسُ على ذلك بقيَّةُ الأعمال؛ فمن خرَج إلى المسجد يُريدُ الصَّلاةَ فمات في أثناء الطَّريقِ، يُكتَب له أجرُ الصَّلاة .
16- قال تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، ولم يقُلْ: وقَع أجرُه على الله ورسولِه، مع أنَّ الهجرةَ كانت إلى اللهِ ورسولِه؛ لأنَّ الهجرةَ إلى الرَّسولِ وسيلةٌ، والغايةُ هي: الهجرةُ إلى الله عزَّ وجل؛ فلهذا كان الَّذي يُثِيب على الهجرةِ ليس الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بل هو اللهُ عزَّ وجلَّ

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ: جملةٌ مستأنَفةٌ استئنافًا بيَانيًّا لسائل متردِّدٍ؛ ولذلك فُصِلت- أي: لم تُعطَف بالواو-، وصُدِّرتْ بحرفِ التَّأكيد (إِنَّ)؛ فإنَّ حالَهم يوجِبُ شكًّا في أن يكونوا مُلحَقِينَ بالكفَّار
.
- وقوله: الْمَلَائِكَةُ فيه إطلاقُ الجمعِ على الواحد، وهو مَلَكُ الموتِ- على قولِ مَن قال إنَّه مَلَكُ الموتِ وحْدَه ، وهو مفيدٌ للتَّهويل والتَّعظيمِ.
2- قوله: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ: استئنافٌ مبنيٌّ على سُؤالٍ نشأ مِن حِكايةِ سُؤالِ الملائكةِ؛ كأنَّه قيل: فماذا قالوا في الجوابِ؟ فقيل: قالوا-مُتجانِفينَ عن الإقرارِ الصَّريحِ بما هُم فيه مِن التَّقصيرِ، مُتعلِّلين بما يوجِبُه على زَعْمِهم-: إنَّهم كانوا مُستضعَفين في الأرضِ .
- قوله: فِيمَ كُنْتُمْ: استفهامٌ يرادُ منه التَّوبيخُ والتَّقريعُ، والتَّقرير .
- وقوله: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ وقَعَ جوابًا عن قولهم: فِيمَ كُنْتُمْ؛ لأنَّ معنى قوله: فِيمَ كُنْتُمْ للتَّوبيخِ بأنَّهم لم يكونوا في شيءٍ مِن الدِّين؛ حيث قدَروا على المهاجَرةِ ولم يهاجِروا، فقالوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعتذارًا ممَّا وُبِّخوا به، واعتلالًا بالاستضعافِ، وأنَّهم لم يتمكَّنوا من الهجرةِ حتَّى يكونوا في شيءٍ، فبكَّتَتْهم الملائكةُ بقولهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فيها .
3- قوله: فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ اسمُ الإشارة فَأُولَئِكَ فيه تنبيهٌ على أنَّهم جَديرونَ بالحُكمِ الواردِ بعْد اسمِ الإشارةِ مِن أجلِ الصِّفاتِ المذكورة قَبْلَه؛ لأنَّهم كانوا قادرينَ على التَّخلُّصِ مِن فتنةِ الشِّركِ بالخروج من أرضِه .
4- قوله: فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا:
- الإتيانُ باسم الإشارة فَأُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم جَديرونَ بالحُكمِ المذكور من المغفرةِ .
- وقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا: الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لِمَا قبلها مِن مقدرةِ الله عزَّ وجلَّ على العفوِ عنهم ومغفرةِ ذنوبهم، مع ما فيها من التَّأكيدِ والمبالغةِ في الوَصْفِ.
5- قوله: ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ كلمة يُدْرِكْهُ فيها إشعارٌ بأنَّ المهاجِرَ كالفارِّ الَّذي يريد أن يصِلَ إلى مُهاجَرِه، لكنَّ الموتَ لحِقَه فأدرَكه


=====6.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (101-104)
ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ
غريب الكلمات:

تَقْصُرُوا: قَصرُ الصَّلاةِ: جَعْلُها قصيرةً بتركِ بعضِ أركانها تَرخيصًا، وأصلُ (قصر): النَّقصُ، وعدمُ بلوغِ الشَّيء مَدَاهُ ونهايتَه
.
يَفْتِنَكُمُ: أي: يَقْتُلَكمْ أو يَأسِرَكُم، وتُطلَق الفِتْنةُ كذلك على: الشِّرْك والكُفر، والشَّرِّ والعذاب، وهي في الأصل: الاختِبارُ والابتلاء والامتِحان، مأخوذةٌ من الفَتْن: وهو إدخالُ الذَّهبِ النَّارَ؛ لتظهَرَ جَودتُه من رداءتِه .
تَغْفُلُونَ: تَسْهُون، والغفلة: سهوٌ يَعتري الإنسانَ مِن قلَّة التَّحفُّظ والتَّيقُّظ، وأصل (غفل): تركُ الشَّيء سهوًا، وربَّما كان عن عَمْدٍ .
وَأَمْتِعَتِكُمْ: جَمْع مَتَاع، وهو كلُّ ما حصَل التَّمتُّع والانتفاعُ به على وجهٍ ما، وأصلُ المتاع والمُتعةِ ما يُنتَفَعُ به انتفاعًا قليلًا غيرَ باقٍ، بل ينقضي عن قريبٍ، وأيضًا: منفعةٌ وامتدادُ مدَّة في خيرٍ .
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ: أي: يتحامَلون عليكم، والمَيْل: العدولُ عن الوسَطِ إلى أحد الجانبين، وأصل ميل: انحرافٌ في الشَّيء إلى جانبٍ منه .
مَوْقُوتًا: أي مفروضًا محدَّدًا موقَّتًا بوقت، يقال: وقَّته اللهُ عليهم ووَقَتَهُ، أي: جعَله لأوقاتٍ، والوقتُ: نهايةُ الزَّمانِ المفروض للعمل، وأصل وقت: يدلُّ على حدِّ شيءٍ وكُنْهِه في زمانٍ وغيرِه

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى لعباده: إنَّهم إذا سافروا فلا حرَجَ عليهم ولا إثمَ في قَصْرِ صلاة الفرضِ إذا ما خافوا أن يصُدَّهم الكفَّارُ عن دِينهم بحَمْلِهم عليهم وهم في الصَّلاة؛ فإنَّ الكفَّارَ ذوُو عداوةٍ واضحةٍ لهم.
ثمَّ يخاطبُ الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أنَّه إذا كان في أصحابِه وشهِد معهم القتالَ وأراد أن يُقِيمَ لهم الصَّلاة، فليقسِمْ أصحابه قسمينِ، وبعد ذلك فلتقُمْ طائفةٌ منهم معه في الصَّلاةِ، والطَّائفةُ الأخرى تقفُ في وجه العدوِّ، ولْيَأخذوا أسلحتَهم، فإذا فرغت الطَّائفةُ الَّتي معه من صلاتِها، فلْيَكونوا مِن ورائِه ووراء الطَّائفةِ الَّتي لم تكُنْ صلَّتْ معه الرَّكعةَ الأولى وكانتْ في مقابِلِ العدوِّ، فإذا ما انصرَفَتِ الطَّائفةُ الأولى للحِراسَةِ، فلتأتِ الطَّائفةُ الَّتي كانت قبلَ ذلك في الحِراسةِ والَّتي لم تُصَلِّ بعدُ، فَليُصَلُّوا مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما تبقَّى له من ركعة، وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ؛ فقد تمنَّى الكفَّارُ لو غفَل المسلمون عن أسلحتِهم وأمتعتِهم فيَحمِلون عليهم ويَستأصلونَهم بضَربةٍ واحدةٍ.
ثمَّ رخَّص اللهُ لعباده أنْ يَضَعوا أسلحتَهم، نافيًا عنهم الحَرَجَ والإثمَ، إذا ما تأذَّوْا بمطَرٍ، أو كانوا مَرْضَى، لكن لا بدَّ أن يكونوا حَذِرينَ، ثمَّ أخبر تعالى أنَّه أعدَّ للكفَّار عذابًا مُخزيًا في الدَّارينِ.
ثمَّ أمَر اللهُ المسلِمين إذا ما انتهَوْا مِن أداء صلاةِ الخوفِ أنْ يَذكُروه قِيامًا أو قُعودًا أو مُضْطَجِعين على جنوبِهم، فإذا زال الخوفُ عنهم وأمِنوا فليُقِيموا الصَّلاةَ كاملةً، إنَّ الصَّلاةَ كانت على المؤمنينَ فريضةً محدَّدةً بوقتٍ.
ثمَّ يوجِّهُ الله الخِطابَ إلى المسلمين ألَّا يكونوا ضُعفاءَ ولا كُسالى في طلبِهم للعدوِّ؛ فإنَّهم وإنْ كانوا يصيبُهم الألمُ، فإنَّ عدوَّهم أيضًا يتألَّمُ، فلا ينبغي أن يكونوا أضعفَ منهم، وهم مع ذلك يَرْجُون من الله ما لا يَرجو أولئك الكفَّارُ مِن النَّصرِ والثَّوابِ، وكان اللهُ عليمًا حكيمًا.
تفسير الآيات:

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّـا أوجب اللهُ تعالى السَّفرَ للجهادِ والهجرة، وكان مُطلَقُ السَّفر مظِنَّةَ المشقَّة، فكيف بسفرِهما مع ما ينضمُّ إلى المشقَّة فيهما من خوفِ الأعداء، ولَمَّا كانت الصَّلاةُ فرضًا لازمًا في كلِّ حالٍ لا يسقُطُ في وقتِ القتال، ولا في أثناءِ الهجرةِ، ولا غيرِ الهجرةِ من أيَّام السَّفَرِ، ولكن قد تتعذَّرُ أو تتعسَّرُ في السَّفرِ وحالِ الحرب إقامتُها فرادَى وجماعةً، كما أمَر اللهُ- ناسَب في هذا المقام أن يبيِّنَ اللهُ تعالى ما يريد أن يرخِّصَ لعباده فيه من القَصْرِ من الصَّلاةِ في هاتينِ الحالَتينِ
فقال:
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
أي: إذا سافَرْتُم أيُّها المؤمنون .
كما قال تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ... الآية [المزمل: 20] .
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ
أي: فلا حرَجَ ولا إثمَ عليكم في قَصْرِ كيفيَّةِ الصَّلاةِ المفروضةِ .
إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
أي: إنْ خشِيتُم أنْ يصُدَّكم الكفَّارُ عن دِينكم، بقتالِهم إيَّاكم، وبحملِهم عليكم وأنتم في صلاتِكم، فيصدُّوكم عن إقامتِها وأدائِها، ويحُولوا بينكم وبين عبادةِ الله تعالى .
إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا
أي: إنَّ عداوةَ جميع الكفَّارِ لكم- أيُّها المؤمنون- بيِّنةٌ واضحةٌ، قد أظهَروها لكم .
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ حُكمَ القَصرِ في السَّفرِ عندَ الخوفِ، عقَّبه ببيانِ كيفيَّةِ صلاةِ الخوف .
سببُ النُّزول:
عن مجاهدٍ، عن أبي عيَّاشٍ الزُّرَقيِّ قال: كنَّا مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعُسْفانَ، فاستقبَلَنا المشرِكون عليهم خالدُ بن الوليد، وهم بيننا وبين القِبْلة، "فصلَّى بنا رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الظُّهر"، فقالوا: قد كانوا على حالٍ لو أصَبْنا غِرَّتَهم، ثمَّ قالوا: تأتي عليهم الآن صلاةٌ هي أحبُّ إليهم من أبنائِهم وأنفُسِهم، قال: "فنزل جبريلُ عليه السَّلام بهذه الآياتِ بين الظُّهرِ والعصرِ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ، قال: فحضَرَتْ فأمَرهم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخَذوا السِّلاحَ، قال: فصفَفْنا خَلْفَه صفَّيْنِ، قال: ثمَّ ركَع فركَعْنا جميعًا، ثمَّ رفع فرفعْنا جميعًا، ثمَّ سجَد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالصَّفِّ الَّذي يلِيه، والآخَرون قيامٌ يحرُسُونهم، فلمَّا سجَدوا وقاموا جلَس الآخَرون فسجدوا في مكانهم، ثمَّ تقدَّم هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصافِّ هؤلاء، قال: ثمَّ ركَع فركَعوا جميعًا، ثمَّ رفَع فرفعوا جميعًا، ثمَّ سجد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والصَّفُّ الَّذي يليه، والآخَرون قيامٌ يحرُسونهم، فلمَّا جلَس جلَس الآخَرون، فسجدوا ثمَّ سلَّم عليهم ثمَّ انصرَف، قال: فصلَّاها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مرَّتينِ: مرَّةً بعُسْفانَ، ومرَّةً بأرضِ بني سُلَيمٍ" .
وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما، قال: خَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فلَقِي المشركين بعُسْفانَ، فلمَّا صلَّى رسولُ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الظُّهرَ فرَأَوْه يَركعُ ويَسجُدُ هو وأصحابُه، قال بعضُهم لبعضٍ: كان هذا فُرصةً لكم، لو أَغَرْتُم عليهم ما عَلِموا بكم حتَّى تُواقِعُوهم، فقال قائلٌ منهم: فإنَّ لهم صلاةً أخرى هي أحبُّ إليهم مِن أهْلِيهم وأموالِهم، فاستَعِدُّوا حتَّى تُغِيروا عليهم فيها، فأنزلَ اللهُ تبارَك وتعالى على نبيِّه: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ إلى آخِرِ الآيةِ، وأَعْلَمَ ما ائْتَمَرَ به المشرِكون، وذَكَرَ صَلاةَ الخَوفِ .
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ
أي: إذا كنتَ في أصحابِك- يا محمَّدُ- وأردتَ أن تُصلِّيَ بهم صلاةً كاملةً تُقِيمُها بحدودِها ورُكوعِها وسُجودِها، وتُتمُّ ما يجبُ فيها .
فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
أي: فلتقُمْ فِرقةٌ مِن أصحابك معك في صلاتك، وليكنْ بقيَّتُهم في وجه العدوِّ .
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ
قيل: المأمورُ بأخْذِ الأسلحةِ هنا: الطَّائفةُ المُصلِّيَة ، وقيل: بل الطَّائفةُ الأخرى الَّتي في وجه العدوِّ .
فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ
أي: فإذا فرغَتِ الطَّائفةُ الَّتي قامت معك- يا محمَّدُ- في الصَّلاة من صلاتها، فليتَّخِذْ أفرادُها موضعهم خلفَك وخلفَ الطَّائفةِ الأخرى الَّتي ستدخُلُ معك في صلاتِك ممَّن لم يُصَلِّ معك الرَّكعةَ الأولى .
وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ
أي: لتأتِ الطَّائفةُ الَّتي كانت في مقابلِ العدوِّ ممَّن لم يُصلِّ معك الرَّكعةَ الأولى، وليُصلُّوا معك الرَّكعةَ الَّتي بقِيَتْ عليك .
بعضُ الأحاديثِ الواردة في صلاة الخوف:
عن ابن عمرَ رضِي اللهُ عنهما قال: ((صلَّى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلاةَ الخوفِ بإحدى الطَّائفتينِ ركعةً، والطَّائفةُ الأخرى مواجهةُ العدوِّ، ثمَّ انصَرَفوا وقاموا في مقامِ أصحابهم، مُقبِلين على العدوِّ، وجاء أولئك، ثمَّ صلَّى بهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ركعةً، ثمَّ سلَّم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ قضى هؤلاء ركعةً، وهؤلاء ركعةً )) .
وعن صالحِ بنِ خوَّاتِ بن جُبيرٍ، عمَّن صلَّى مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ ذاتِ الرِّقاعِ صلاةَ الخوفِ: ((أنَّ طائفةً صفَّت معه، وطائفةٌ وجاهَ العدوِّ، فصلَّى بالَّتي معه ركعةً، ثمَّ ثبَتَ قائمًا، وأتَمُّوا لأنفسِهم، ثمَّ انصَرَفوا فَصفُّوا وِجاهَ العدوِّ، وجاءتِ الطَّائفةُ الأخرى فصلَّى بهم الرَّكعةَ الَّتي بقِيَت مِن صَلاتِه، ثمَّ ثبَت جالسًا وأتمُّوا لأنفسهم، ثُمَّ سلَّمَ بهم )) .
وعن جابرٍ رضِي اللهُ عنه قال: ((شَهدتُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صلاةَ الخوف، فصَفَّنا خَلْفَه صفَّيْنِ، والعدوُّ خَلْفَه بيننا وبين القِبْلة، فكبَّر صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكبَّرْنا جميعًا، ثمَّ ركَع وركعْنا، ثمَّ رفع رأسَه من الركوع، ورفَعْنا جميعًا، ثمَّ انحدر بالسُّجود والصَّفُّ الَّذي يليه، وقام الصَّفُّ المؤخَّرُ في نَحْر العدوِّ، فلمَّا قضَى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السُّجودَ والصَّفُّ الَّذي يليه، انحدَرَ المؤخَّرُ بالسُّجود، وقاموا، ثمَّ تقدَّم الصَّفُّ المؤخَّر وتأخَّر الصَّفُّ المقدَّم، ثمَّ ركَع وركَعْنا جميعًا، ثمَّ رفع رأسه من الرُّكوع ورفعنا جميعًا، ثمَّ انحدر بالسُّجود والصَّفُّ الَّذي يليه، وقام الصَّفُّ المؤخَّر في نحر العدوِّ، فلمَّا قضى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ السُّجودَ والصَّفُّ الَّذي يليه انحدَر المؤخَّرُ بالسُّجود وقاموا، ثمَّ تقدَّم الصَّفُّ المؤخَّر، وتأخَّر الصَّفُّ المقدَّم، ثمَّ ركع وركعنا جميعًا، ثمَّ رفع رأسَه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثمَّ انحدَر بالسُّجودِ والصَّفُّ الَّذي يليه الَّذي كان مؤخَّرًا في الرَّكعةِ الأُولى، وقام الصَّفُّ المؤخَّر في نحرِ العدوِّ، فلمَّا قضى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقام الصَّفُّ الَّذي يليه انحدر الصَّفُّ المؤخَّرُ بالسُّجود، وسجد، ثمَّ سلَّم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وسلَّمْنا جميعًا )) .
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ
قيل: المأمورُ بأخْذ الأسلحةِ هنا: الطَّائفةُ المُصلِّيَة ، وقيل: بل الطَّائفةُ الأخرى الَّتي في وجْهِ العدوِّ الَّتي صلَّتْ أوَّلًا .
وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ
أي: تمنَّى الَّذين كفروا بالله لو تَنشغِلون بصلاتِكم عن أسلحتِكم الَّتي تُقاتلونهم بها، وعن أمتعتِكم الَّتي بها بَلاغُكم في أسفارِكم، فتَسهُون عنها؛ حرصًا منهم على الإيقاعِ بكم .
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً
أي: فيَحملون عليكم جميعًا، حالَ غَفلتِكم بصلاتِكم عن أسلحتِكم وأمتعتِكم، فيُصيبون منكم غِرَّةً بذلك، ويُجهِزون عليكم بضربةٍ واحدة .
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
ولَمَّـا كان الخطابُ عامًّا لجميع المحارِبين، وكان يعرِضُ لبعض الناسِ مِن العُذرِ ما يشُقُّ معه حملُ السِّلاح، عقَّبَ على العزيمةِ بالرُّخصةِ لصاحب العُذرِ فقال: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ .
سببُ النُّزول:
عن سعيدِ بن جُبَير، عن ابن عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنه قال: نزلت إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى في عبدِ الرَّحمن بن عوفٍ وكان جريحًا .
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ
أي: لا حرجَ عليكم ولا إثمَ- إن نالكم أذًى بسبب مطرٍ تُمطَرُونه، أو أصابكم مرضٌ- في تركِ حملِ أسلحتكم إن ضعُفْتُم عن حملِها .
وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
أي: ولكنْ إن وَضَعتُم أسلحتَكم من أذَى مطرٍ أو مرضٍ، فكونوا متيقِّظينَ، واحترِسوا مِن عدوِّكم أن يميلَ عليكم وأنتم عنه غافلون .
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا
أي: إنَّ الله تعالى قد هيَّأ للكفَّارِ عذابًا مذِلًّا في الدُّنيا والآخرة .
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى بعضَ أحكام صلاة الخوفِ، وكان يقعُ فيها من التَّخفيفِ في أركانها، وغيرِ ذلك ممَّا لا يوجَد في غيرها، أعقَبَه بالأمرِ بذِكره؛ لشدَّةِ تأكُّدِه في هذا الموطنِ، كذلك فإنَّ ما هُم عليه من الخوف والحَذَر مع العدوِّ جديرٌ بالمواظَبةِ على ذِكر الله والتَّضرُّعِ إليه فقال:
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ
أي: فإذا فرَغْتم- أيُّها المؤمنون- من أداءِ صلاةِ الخوفِ، فاذكُروا اللهَ تعالى في جميعِ أحوالِكم وهيئاتكم؛ من قيامٍ وقعودٍ واضطجاعٍ على جنوبِكم .
فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ
أي: فإذا أمِنْتم- أيُّها المؤمنون- وزال خوفُكم من عدوِّكم، فأتِمُّوا الصَّلاةَ على الوَجْهِ الأكملِ كما أُمِرْتُم، ظاهرًا وباطنًا، بحدودِها وأركانِها وشروطها، وجميعِ شؤونها .
إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا
أي: إنَّ الصَّلاةَ على المؤمنين فرضٌ مؤقَّتٌ بوقتٍ .
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كانت آياتُ الجهادِ في هذه السُّورة معلِّمةً للحَذَرِ خوفَ الضَّررِ، مُرشِدةً إلى إتقان المكائد للتَّخلُّصِ من الخطرِ، وكان ذلك مَظِنَّةً لمتابعة النَّفس والمبالغةِ فيها، وهو مظنَّةٌ للتَّواني في أمرِ الجهاد- أتبَع ذلك بما ينبِّهُ على الجِدِّ في أمره فقال:
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ
أي: لا تضعُفُوا ولا تَكسَلوا في طلب عدوِّكم، بل جِدُّوا في جهادِهم، وانشَطوا لقتالهم .
ثمَّ ذكَر سبحانه ما يُقوِّي قلوبَ المؤمنينَ ، وبيَّن أنَّه لا وجهَ للوَهَنِ والضَّعفِ في تركِ طلبِهم ، فقال تعالى:
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ
أي: إنْ كنتم- أيُّها المؤمنون- تتوجَّعون ممَّا ينالُكم من عدوِّكم من جِراحٍ وأذًى في الدُّنيا، فإنَّهم مِثلُكم؛ يتوجَّعون أيضًا ممَّا ينالُهم منكم من جِراحٍ وأذًى، فليس من المعقولِ أن تكونوا أضعفَ منهم، وأنتم وهُم قد تساوَيْتُم في ذلك .
كما قال تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران: 140].
وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ
أي: وأنتم- أيُّها المؤمنونَ- تطمَعون فيما عند الله تعالى من الثَّوابِ والنَّصرِ لدِينه، وهم لا يطمعونَ في شيء من ذلك؛ فأنتم أَولى بالقتالِ منهم، والصَّبرِ على حربِهم، وأشدُّ رغبةً في إعلاءِ كلمة الله عزَّ وجلَّ .
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى له كمالُ العِلم، فلا يخفى عليه شيءٌ مطلَقًا، ومن ذلك عِلمُه بمصالحِ عباده؛ فعرَّفهم عند حضورِ صلاتِهم ومواجَهةِ عدوِّهم كيفيَّةَ أداء فرضِ الله عليهم، مع السَّلامةِ من عدوِّهم، وله سبحانه كمالُ الحِكمة والحُكم؛ فهو الَّذي يُقدِّر ويُدبِّر كلَّ شيءٍ من أحكامه الكونيَّةِ والشَّرعيَّة، ويضعُ كلَّ شيءٍ منها في موضعه اللَّائقِ به

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- التَّنبيهُ على عظيم قدرِ الصَّلاة؛ قال تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ؛ فالسِّياقُ يُشير إلى شدَّة الاهتمامِ بشأن الصَّلاة، وأنَّه لا يُسقِطها عن المكلَّف شيءٌ، فلو أن فيها رخصةً بوجهٍ لوضَعَها اللهُ تعالى عن المسلمين في مثل هذه الحالة
.
2- قول الله تعالى: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ فيه تعليمُ المسلمين أنْ يطلُبوا المسبَّباتِ مِن أسبابها، أي: إن أخَذْتم حِذرَكم أمِنْتُم مِن عدوِّكم .
3- الأمرُ بذِكر الله بعد انتهاء الصَّلاة؛ لقوله: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ .
4- إذا كنَّا مأمورين بالذِّكرِ على كلِّ حال نكونُ عليها في الحرب كما يُعطيه السِّياقُ، فأجدَرُ بنا أن نؤمَرَ بذلك في كلِّ حالٍ مِن أحوالِ السِّلم، كما يُعطيه الإطلاقُ على أنَّ المؤمنَ في حربٍ دائمةٍ وجهاد مستمرٍّ، تارةً يجاهدُ الأعداءَ، وتارةً يجاهدُ الأهواءَ، فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ .
5- قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ من فوائدِ تخصيصِ الذِّكر بعد صلاة الخوفِ: أنَّ الخوفَ يوجِبُ مِن قلقِ القلبِ وخوفِه ما هو مَظِنَّةٌ لضَعفِه، وإذا ضعُفَ القلبُ ضعُفَ البدنُ عن مقاومة العدوِّ، والذِّكرُ لله والإكثارُ منه مِن أعظمِ مقوِّيات القلبِ ، ومنها: أن الذِّكرَ لله تعالى مع الصَّبرِ والثَّباتِ سببٌ للفلاح والظَّفَرِ بالأعداء؛ كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، فأمَر بالإكثارِ منه في هذه الحالِ، إلى غيرِ ذلك من الحِكَم .
6- المؤمِنون أَولى بالمصابَرة على القتالِ من المُشركين؛ لأنَّ المؤمنين مُقرُّون بالثَّوابِ والعقابِ، والحشرِ والنَّشر، والمشركين لا يقرُّون بذلك، نستفيدُ ذلك من قوله تعالى: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ .
7- أنَّه ينبغي للإنسان إذا عمِل العملَ الصَّالحَ أن يكون راجيًا؛ لقوله: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ، ويكون هذا الرَّجاءُ عند ابتغاء القومِ وطلَبِهم، وهكذا ينبغي للإنسانِ إذا وفَّقه اللهُ للعبادةِ أن يكون راجيًا، أي: راجيًا ثوابَها؛ لأنَّ مِن بشرى الإنسان أن يُوفَّق للعبادةِ؛ فمَن وُفِّق للعبادة على ما يُرضي اللهَ، فهي بُشرى بالقَبولِ، كما أنَّ مَن وُفِّق للدُّعاءِ فهو بشرى بالإجابة .
8- أنَّ بني آدمَ في الأمور البشريَّة على حدٍّ سواءٍ، فإذا كان الكافرُ يتألَّم فالمؤمنُ يتألَّم، حتَّى الأنبياءُ في الأمور البشريَّة كغيرِهم من النَّاسِ، لكنَّهم يختلفونَ عنهم في الصِّفات المعنويَّةِ؛ كالصَّبرِ، والتَّحمُّلِ، والإقدامِ، والعزيمةِ، وغيرِ ذلك، إِنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَألَمُونَ كَمَا تَألَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ .
9- أنَّه يجب علينا التَّفويضُ التَّامُّ فيما لا نعلم حكمتَه مِن أحكام الله الكونيَّة أو الشَّرعيَّة؛ وجهُ ذلك: أنَّه عليمٌ؛ فعنده من العِلمِ ما يخفى علينا، فيخفى به وجهُ الحِكمة بالنِّسبةِ إلينا؛ لأنَّ حكمةَ الله صادرةٌ عن عِلمٍ؛ قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا .
10- قوله تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ذكَر اللهُ تعالى في هذه الآيةِ شيئينِ يُقوِّيانِ قلوبَ المؤمنين:
الأول: أنَّ ما يُصيبُهم من الألم والتَّعبِ والجراح ونحوِ ذلك؛ فإنَّه يصيبُ أعداءَهم، فليس من المروءةِ الإنسانيَّة والشَّهامةِ الإسلاميَّة أن يكونوا أضعفَ منهم، قد تساوَوْا هم وإيَّاهم فيما يوجِبُ ذلك؛ لأنَّ العادةَ الجاريَة ألَّا يضعُفَ إلَّا مَن توالَتْ عليه الآلامُ وانتصر عليه الأعداءُ على الدَّوامِ، لا مَن يُدالُ مَرَّةً، ويُدالُ عليه أخرى.
الأمر الثَّاني: أنَّهم يرجُون من الله ما لا يرجو الكَفَرةُ، فيرجون الفوزَ بثوابِه، والنَّجاةَ من عقابِه، بل خواصُّ المؤمنين لهم مقاصدُ عاليَة، وآمالٌ رفيعةٌ من نصر دِين الله، وإقامةِ شرعِه، واتِّساعِ دائرةِ الإسلام، وهدايةِ الضَّالِّين، وقمعِ أعداء الدِّين؛ فهذه الأمورُ توجِبُ للمؤمن المصدِّقَ زيادةَ القوة، وتضاعِفُ النَّشاطَ والشَّجاعة التَّامَّة؛ لأنَّ مَن يُقاتِلُ ويصبِرُ على نيل عِزِّه الدُّنيويِّ إن ناله، ليس كمَن يُقاتِلُ لنَيل السَّعادةِ الدُّنيويَّة والأُخرويَّة، والفوزِ برضوانِ الله وجنَّتِه

.
الفوائد العِلميَّة واللَّطائف:

1- هاتانِ الآيتان أصلٌ في رخصةِ القَصْرِ، وصلاةِ الخوف؛ يقول تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ، أي: في السَّفرِ
، إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا.
2- قول الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ يدلُّ على أنَّه تعالى جعل الضَّربَ في الأرض شرطًا لحصولِ هذه الرُّخصة، فلو كان الضَّربُ في الأرضِ اسمًا لمُطلَق الانتقالِ، لكان ذلك حاصلًا دائمًا؛ لأنَّ الإنسانَ لا ينفكُّ طولَ عمره من الانتقالِ من الدَّار إلى المسجدِ، ومِن المسجد إلى السُّوقِ، وإذا كان حاصلًا دائمًا، امتنع جعلُه شرطًا لثُبوتِ هذا الحُكم، فلمَّا جعَل الله الضَّرب في الأرض شرطًا لثُبوت هذا الحُكم علِمْنا أنَّه في مطلق السَّفرِ .
3- أنَّ الخوفَ له أثرٌ في تغيير الأحكام؛ لقوله: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا .
4- حِرصُ الكفَّار على فَتْنِ المُؤمنينَ حتَّى في العبادات؛ لقوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا .
5- أنَّ جميعَ الكفَّار أعداءٌ لنا؛ لقوله: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا، وأنَّ عداوتَهم لنا بيِّنةٌ ظاهرةٌ .
6- قوله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ... هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ صلاةَ الجماعة فرضُ عينٍ مِن وجهينِ:
أحدهما: أنَّ اللهَ تعالى أمَر بها في هذه الحالة الشَّديدةِ، وقتَ اشتدادِ الخوفِ من الأعداءِ، وحَذَرِ مهاجمتِهم، فإذا أوجَبَها في هذه الحالة الشَّديدةِ، فإيجابُها في حالة الطُّمأنينَة والأمن مِن باب أَوْلَى وأحرى.
والثَّاني: أنَّ المصلِّين صلاةَ الخوف يتركون فيها كثيرًا من الشُّروط واللَّوازم، ويُعفَى فيها عن كثيرٍ من الأفعال المُبطِلة في غيرها، وما ذاك إلَّا لتأكُّدِ وجوبِ الجماعةِ؛ لأنَّه لا تعارُضَ بين واجبٍ ومستحبٍّ، فلولا وجوبُ الجماعة لم تُترَكْ هذه الأمورُ اللَّازمةُ لأجلِها .
7- قوله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ...: تدلُّ الآيةُ الكريمة على أنَّ الأَولى والأفضلَ أن يصلُّوا بإمامٍ واحدٍ، ولو تضمَّن ذلك الإخلالَ بشيءٍ لا يُخَلُّ به لو صلَّوْها بعدَّةِ أئمَّةٍ؛ وذلك لأجلِ اجتماعِ كلمةِ المسلِمين، واتِّفاقِهم، وعدمِ تفرُّقِ كلمتِهم، وليكون ذلك أوقعَ هيبةً في قلوبِ أعدائِهم .
8- قولُ الله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ مَحمَلُ هذا الشَّرطِ جارٍ على غالب أحوالهم يومَئذٍ من ملازمةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لغزواتهم وسراياهم إلَّا للضَّرورة، فليس المرادُ الاحترازَ عن كونِ غيرِه فيهم، ولكن التَّنويه بكون النَّبيِّ فيهم .
9- أنَّ الإمامَ مسؤولٌ عن صلاةِ المأموم، وتؤخَذُ من قوله: فَأَقَمْتَ لَهُمُ، كأنَّه يُقِيمُها لهم، وهذا يعني أنَّه يجبُ على الإمام أن يتَّبعَ السُّنَّةَ في صلاتِه، بينما لو كان يصلِّي وحده فله أن يخفِّفَ، وله أن يُثقِلَ حسَبَ ما يريد؛ لقول النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((وإذا صلَّى أحدُكم لنفسِه فليُطوِّلْ ما شاء )) .
10- وجوبُ صلاة الجماعةِ على الأعيانِ؛ لقوله: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، وقوله: وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ؛ لأنَّها لو كانت فرضَ كفايةٍ لاكتَفَى بالطَّائفةِ الأُولى، فلمَّا أُمِرَتِ الطَّائفةُ الثَّانية بالصَّلاة جماعةً، دلَّ هذا على أنَّها واجبةٌ على الأعيانِ .
11- قول الله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، خصَّ آخرَ الصَّلاة بزيادةِ الحذرِ، إشارةً إلى أنَّ العدوَّ في أوَّلِ الصَّلاة قلَّما يَفْطِنون لكونِهم في الصَّلاةِ، بخلاف الآخر؛ فلهذا خُصَّ بمزيد الحذَرِ .
12- في قوله تعالى: فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ أنَّ السُّجودَ ركنٌ من أركانِ الصَّلاة؛ لأنَّه عبَّر به عن إتمامِ الصَّلاة .
13- في قوله تعالى: فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَجوازُ انفرادِ الإنسانِ عن الإمام لعُذرٍ، وجهه: أنَّ الطَّائفةَ الأولى انفَردَت وأتمَّت صلاتَها، فإذا حصل للإنسان عذرٌ لا يستطيعُ معه إتمامَ صلاته؛ مِثلُ أن يطرأَ عليه حَقنٌ أو ما أشبهَ ذلك، فله أن ينفردَ ويُكمِلَ صلاتَه- إن كان يستفيدُ مِن هذا الانفرادِ- بحيث لا تكونُ صلاتُه مع الإمام أفضلَ من صلاتِه إذا انفردَ .
14- في قوله تعالى: فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ جوازُ إقامة جماعتينِ في مكان واحدٍ للحاجة، ومثال الحاجة: أن يكون المسجدُ ضيِّقًا؛ كالمساجدِ الَّتي تكون في السُّوقِ المزدَحِم بالباعة والمشتَرِين، فلا يسَعُهم أن يُصلُّوا، ولا يتمكَّنونَ من المتابعة في السُّوقِ، فنقول: لا بأسَ أن تصلِّي جماعةٌ أُولى، ثمَّ تأتي جماعةٌ أخرى .
15- وجوبُ أخْذ الأسلحةِ في هذه الصَّلاة؛ فقوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ أمرٌ، وظاهِرُ الأمر للوجوب، فيقتضي أن يكون أخذُ السِّلاحِ واجبًا .
16- قول الله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ فيه رخصةٌ للخائفِ في الصَّلاة بأن يجعَلَ بعضَ فِكْرِه في غير الصَّلاة .
17- قال تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ أمَر تعالى بأخذِ السِّلاحِ والحذرِ في صلاة الخوفِ، وهذا وإن كان فيه حركةٌ واشتغالٌ عن بعض أحوال الصَّلاةِ، فإنَّ فيه مصلحةً راجحةً، وهي الجمعُ بين الصَّلاةِ والجهادِ، والحَذَرُ من الأعداء الحريصينِ غايةَ الحِرص على الإيقاعِ بالمسلمينَ، والميلِ عليهم وعلى أمتعتِهم؛ ولهذا قال تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً .
18- قول الله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُم يُرشدُ إلى وجوبِ الحَذَرِ مِن العدوِّ، وعن جميع المضارِّ المظنونةِ، ويُرشِد إلى إتقانِ المكائِد للتَّخلُّص مِن الخطر .
19- الرُّخصةُ في حَمْل النَّجاسة في هذه الحالة، وهذا يتوقَّفُ على القولِ بأنَّ الدَّمَ نجسٌ؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ الأسلحة ولا سيما بعد القتالِ لا تخلو من دماءٍ؛ ولهذا قال العلماء: يجوز في هذه الحال أن يحملَ الإنسانُ سلاحًا نجسًا؛ لأنَّ الحاجةَ داعيةٌ لذلك، وَلْيَأخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ .
20- يؤخذُ من الآيةِ الكريمة أنَّ الكفَّارَ يحرصونَ على عدم تسلُّحِ المسلمين، وهذا صحيحٌ؛ فالكفَّار يودُّون أن نغفُلَ عن أسلحتِنا، فكيف يُعْطوننا؟! وتدلُّ على شدَّةِ حَنَقِ الكفَّار بالنِّسبة للإغارةِ علينا؛ فإنَّ قوله: مَيْلَةً وَاحِدَةً يدلُّ على الحَنَقِ وشدَّةِ الغيظ، وأنَّهم مقبِلون بقوَّةٍ .
21- أنَّ أعداءَ المسلمين يحبُّون الإجهازَ على المسلمينَ بسُرعة، وتؤخذُ من قوله: فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً؛ فسياسةُ الكفَّار واحدةٌ مِن أوَّلِ الأمر إلى آخره، يريدونَ القضاءَ على المسلمينَ بسرعة، مرَّةً واحدة؛ لأنَّ التَّباطُؤَ يؤدِّي إلى فواتِ الفرصة عندهم، فيقولون: لا نفوِّتُ الفرصة .
22- قول الله تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ خصَّ رفعَ الجُناح في وَضْع السِّلاحِ بهاتين الحالتين؛ وذلك يُوجِب أنَّ فيما وراء هاتين الحالتين يكونُ الإثمُ والجُناحُ حاصلًا بسبب وضعِ السِّلاح، وهذا يُفيد إيجابَ حملِها عند عدم العُذر .
23- قول الله تعالى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ رخصةٌ لهم في وضعِ الأسلحة عند المشقَّة، وقد صار ما هو أكملُ في أداء الصَّلاة رخصةً هنا؛ لأنَّ الأمورَ بمقاصدها، وما يحصُلُ عنها من المصالح والمفاسد؛ ولذلك قيَّد الرُّخصةَ مع أخذِ الحَذَرِ .
24- قول الله تعالى: أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى، أي: متَّصفين بالمَرَض، وكأنَّ التَّعبيرَ بالوصف إشارةٌ إلى أنَّ أدنى شيءٍ منه لا يرخِّصُ في وضعِ السِّلاحِ .
25- التَّحذيرُ من الاغترار بما يُبديه الكافرُ من الموالاةِ، وجهُه: أنَّ العالِمَ بما في الصُّدورِ، والعالِمَ بكلِّ حالٍ- سبحانه وتعالى- أخبرنا بأنَّ الكافرين كانوا لنا عدوًّا مُبينًا، ولا أحدَ أعلمُ مِن الله بعبادِ الله: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا .
26- قول الله تعالى: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا، إنَّما قال (عدوًّا) ولم يقُلْ (أعداء)؛ لأنَّ لفظ العدوَّ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ .
27- أنَّ الذِّكرَ بعد الصَّلاة لا يُشترط فيه أن يجلس الإنسانُ حتَّى ينهيَه، بل له أن يذكُرَ ولو كان قد انصرَفَ؛ لقوله: قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِكُمْ، أي: على أيِّ حال .
28- في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ أنَّ الذِّكر لا ينقُصُ إذا قعد الإنسانُ من قيامٍ، أو قام من قعودٍ أو اضطجع، وهذا هو الأصلُ؛ أنَّه لا ينقُصُ بكون الإنسان قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، اللَّهمَّ إلَّا أن يترتَّب على ذلك أنَّه إذا كان قائمًا فهو أنشَطُ له، لكنَّ الغالب أن القاعدَ أخشَعُ؛ لأنَّ القائمَ لا يقوم ليقفَ، وإنَّما ليمشيَ .
29- الصَّلواتُ الخمسُ إنَّما كانت مَوْقُوتةً؛ لتكون مذكِّرةً لجميعِ أفراد المؤمنين بربِّهم في الأوقاتِ المختلفة؛ لئلَّا تحمِلَهم الغفلةُ على الشَّرِّ، أو التَّقصيرِ في الخيرِ؛ قال تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا .
30- قوله سبحانه: مَوْقُوتًا فيه الإشارةُ إلى أنَّ الوقتَ مقدَّمٌ على جميعِ الشُّروط، وجهه: أنَّ الله تعالى لَمَّا ذكَر صلاةَ الخوف ثمَّ صلاةَ الأمنِ بيَّن أنَّ هذا مِن أجل مراعاةِ الوقتِ، والأمرُ كذلك، أي: إنَّ الوقت مقدَّمٌ على جميعِ الشُّروط؛ ولهذا إذا لم تجِدْ ماءً فتيمَّمْ، حتَّى تصلِّيَ في الوقت، وإذا لم تجدْ ماءً ولا ترابًا صلِّ على حسَب حالِك، وإذا لم تجدْ ثوبًا تستُرُ به العورةَ صلِّ على حسَب حالك، ولا تنتظر حتَّى تحصُلَ على ثوبٍ؛ لأنَّ الوقتَ مقدَّمٌ على كلِّ شيءٍ .
31- قول الله تعالى: وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ، الابتغاءُ مصدرُ (ابتغى) بمعنى (بغى) المتعدِّي، أي: الطَّلَب، والمراد به هنا: المبادَأَةُ بالغزو، وألَّا يتقاعَسوا، حتَّى يكونَ المشركونَ هم المبتدئينَ بالغزو، والمُبادِئُ بالغزوِ له رعبٌ في قلوبِ أعدائه .
32- في الآيةِ إشارةٌ إلى أنَّه لا يُشهَدُ للشَّهيدِ بأنَّه في الجنَّة؛ وذلك في قوله تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ، والرَّجاءُ قد يتحقَّقُ وقد لا يتحقَّق؛ ولهذا نُهِيَ أن نقولَ عن شخص معيَّنٍ بأنَّه شهيد، إلَّا مَن شهد له الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام؛ فمن شهِد له الرَّسولُ بالشَّهادة شهِدنا له، وكذلك مَن شهِد له القرآنُ؛ كما في غزوة أُحُدٍ .
33- قوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا لا يدلُّ على أنَّه كان فمضى؛ لأنَّ كَانَ هنا مسلوبةُ الزَّمان، وإنَّما أُتِيَ بها لتحقيقِ هذين الاسمينِ وما تضمَّناه من صفةٍ .
34- إثباتُ كمالِ الله عزَّ وجلَّ في حكمته تعالى؛ حيث قرَنَ بين العِلم والحكمةِ إشارةً إلى أنَّ حكمتَه صادرةٌ عن عِلمٍ، وليست عن صُدفة؛ لأنَّ الإنسانَ قد يفعل الفِعلَ ويكون مُحكَمًا مُتقَنًا لكن على غيرِ علمٍ، بل صدفةً؛ كما يقال: «رُبَّ رميةٍ مِن غير رامٍ»، لكنَّ حكمةَ الله عزَّ وجلَّ مقرونةٌ بالعِلْم مبنيَّةٌ عليه

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا جملة مستأنَفةٌ استئنافًا بيَانيًّا مسُوقة لبيان أحكام قَصْرِ الصَّلاة
.
- وفيه انتقالٌ إلى تشريعٍ آخَرَ بمناسبةِ ذِكْرِ السَّفرِ للخروجِ مِن سُلطةِ الكفر، على عادةِ القرآنِ في تَفنينِ أغراضِه، والتماسِ مُناسباتِها .
2- قوله: إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا: تعليلٌ لِمَا قَبْله، باعتبارِ تعلُّلِه بما ذُكر، أو لِمَا يُفهَم مِن الكلامِ من كونِ فِتنتِهم متوقَّعةً؛ فإنَّ كمالَ عداوتِهم للمؤمنين من موجِبات التعرُّض لهم بسوء .
3- قوله: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا ...الآية، فيها إيجازٌ بالحذفِ؛ فإنَّه لَمَّا قال: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ علم أنَّ ثمةَ طائفةً أخرى؛ فالضمير في قوله: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ للطَّائفةِ باعتبار أفرادها، وكذلك ضميرُ قوله: فَإِذَا سَجَدُوا للطَّائفةِ الَّتي مع النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
- وفي قوله: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ بيانٌ لِمَا قبله من النَّصِّ المُجمَلِ الواردِ في مشروعيَّة القَصرِ بطريق التَّفريعِ، وتصويرٌ لكيفيَّتِه عند الضَّرورةِ التَّامَّةِ، وتخصيصُ البيانِ بهذه الصُّورة مع الاكتفاء فيما عداها بالبيان بطريق السُّنَّةِ .
- قوله: فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ، وقوله: وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ: فيه تَكرار ، وهو يُفيدُ التَّأكيدَ.
- قوله: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ: لعلَّ زِيادةَ الأَمْرِ بالحذرِ في هذِه المرَّةِ؛ لكونِها مظِنَّةً لوقوفِ الكَفَرة على كونِ الطائفةِ القائمةِ مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في شُغلٍ شاغلٍ، وأمَّا قبْلَها فربَّما يَظنُّونَهم قائِمينَ للحربِ، وتكليفُ كلٍّ مِن الطائفتينَ بما ذُكِر؛ لأنَّ الاشتغالَ بالصَّلاة مظنَّةٌ لإلقاءِ السِّلاحِ والإعراضِ عن غيرِها، ومظنَّةٌ كذلك لهجومِ العدوِّ .
4- قوله: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً الجملة استئنافيَّةٌ مسُوقةٌ لتعليل الأمرِ المذكورِ، وهو قوله: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، وفيها: التفاتٌ؛ إذ إنَّ الخِطابَ للفريقين بطريق الالتفاتِ، أي: تمنَّوْا أنْ ينالوا غِرَّةً، ويَنتهزوا فرصةً، فيشدُّوا عليكم شَدَّةً واحدةً .
قوله: مَيْلَةً وَاحِدَةً: استُعمِلتْ صِيغة (المرَّة) هنا للكِناية عن القوَّة والشِّدَّة؛ وذلك أنَّ الفعل الشَّديدَ القويَّ يأتي بالغرَضِ منه سريعًا دون معاودةِ علاجٍ، فلا يتكرَّر الفعلُ لتَحصيلِ الغرض، وأكَّد معنى المرَّة المستفادَ من صِيغة (فَعْلة) بقوله: وَاحِدَةً؛ تَنبيهًا على قصْدِ معنى الكناية؛ لئلَّا يُتوهَّمَ أنَّ المصدرَ لمجرَّد التَّأكيدِ لقوله: فَيَمِيلُونَ .
- قوله: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، وقوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ: فيه تَكرارٌ ، وهو يُفيدُ تأكيدَ نفْيِ الجُناح.
5- قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا: الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّر لِمَا قبلها؛ من أجْل تشجيعِ المسلمين؛ لأنَّه لَمَّا كرَّر الأمْرَ بأخْذِ السِّلاح والحَذَر، خِيفَ أن تثُورَ في نفوسِ المسلمين مَخافةٌ من العدوِّ من شدَّةِ التَّحذيرِ منه، فعقَّب ذلك بأنَّ اللهَ أعدَّ للكافرين عذابًا مُهِينًا، وهو عذابُ الهزيمةِ والقتلِ والأَسْر، ولِيعلموا أنَّ الأمرَ بالحَذرِ ليس لذلك، وإنَّما هو تعبُّد من اللهِ تعالى بتَعاطي الأسبابِ المشروعةِ .
- وقيل: هو تعليلٌ للأمْر بأخْذِ الحذرِ؛ فإنَّه أعدَّ لهم عذابًا مُهِينًا بأنْ يخذُلَهم وينصُرَكم عليهم، فاهتمُّوا بأموركم ولا تُهمِلوا في مباشرة الأسباب؛ كي يحُلَّ بهم عذابُه بأيديكم، وليعلموا أنَّ الأمر بالحزم ليس لضعفِهم وغلَبةِ عدوِّهم، بل لأنَّ الواجبَ أن يُحافِظوا في الأمورِ على مراسم التَّيقُّظ والتَّدبُّر فيتوكَّلوا على الله سبحانه وتعالى .
6- قوله تعالى: فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا تذييلٌ مسُوقٌ مساقَ التَّعليلِ؛ لوجوبِ المحافظةِ على الصَّلاة في أوقاتها حتَّى في وقتِ الخوفِ ولو مع القَصْرِ منها .
- وقوله: فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ فيه إظهارٌ لِمَا كان الأصل فيه الإضمارُ- حيث قال: إِنَّ الصَّلَاةَ ولم يَقُل: (إِنَّها)-؛ تَنبيهًا على عَظيمِ قدْرِ الصَّلاةِ .
7- قوله: وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكيمًا جاءتْ لفظة (عليمًا) و(حَكيمًا) على صِيغة (فعيل)؛ للمبالغةِ في وصْف الله تعالى بالعِلم والحكمة؛ فإنَّه سبحانه يعلم كلَّ شيء، ويعلم الأعمالَ ويعلَمُ ما في الضمائر ، وكذلك متَّصفٌ بالحِكمةِ في كلِّ أفعاله سبحانه، مع ما تُفِيدُه الجملةُ الاسميَّةُ من التَّأكيد.


=====7.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (105-109)
ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ
غريب الكلمات:

وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا: أي: مُخاصِمًا تُخاصِمُ عن الخائِنين, وتَدْفَعُ عنهُم مَن طَلَبَهم بِحَقِّه الَّذي خَانوه فيه، فالخَصِيمُ هنا بمعنَى المنتَصِر المدافِع، والخَصيمُ: المبالِغ في الخِصامِ، وأصل (خصم): المنازَعة
.
يَخْتَانُونَ: يخُونونَ، يجعلونها خائنةً بارتكابِ الخِيانةِ، والاختيانُ: مراودةُ الخيانةِ، وكذلك: تحرُّكُ شهوةِ الإنسانِ لتحرِّي الخيانةِ .
خَوَّانًا: أي: مُبالِغًا في الخيانةِ، مُصِرًّا عليها .
أَثِيمًا: أي: مبالغًا في إثمه لا يُقلِع عنه، والإثم والآثام: اسمٌ للأفعال المُبَطِّئة عن الثَّواب، أو الذَّنبُ الَّذي يستحقُّ العقوبةَ عليه، وأصل الإثم: البُطء والتَّأخُّر .
يُبَيِّتُونَ: يُدبِّرون ليلًا، يقال لكلِّ فعل دُبِّر فيه بالليل: بُيِّتَ، وأصل البيت: مأوى الإنسان باللَّيل؛ لأنَّه يقال: بات: أقام باللَّيل، ويُطلق أيضًا على المآب، ومجمع الشَّمل .
مُحِيطًا: أي: مُحْصِيًا وعالِمًا لا يَخْفَى عَليهِ شَيْءٌ من أعمالِهم، وحَافِظًا لذلكَ علَيْهِم، والإحاطةُ بالشَّيء هي العِلْم بوجودِه، وجِنسِه، وقَدْره، وكيفيَّته، وغرَضه المقصود به، وبإيجاده، وما يكونُ به ومِنه؛ وذلك ليس إلَّا للهِ تعالى، وأصل (حوط) هو الشَّيْءُ يُطِيفُ بِالشَّيْءِ، ومنه الحائِط؛ لإحاطتِه بما يدورُ عليه، واستُعمِلَ في القُدرة والعِلم والإهلاكِ .
وَكِيلًا: أي: مانعًا وحافظًا وكفيلًا، ووكيل الرجل في مالِه هو الَّذي كفَله له، وقام به، وأصل (وَكَلَ): يدلُّ على اعتماد غيرِك في أمرِك

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يخبِرُ الله نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه هو مَن أنزل إليه الكتاب بالحقِّ، ومشتملًا على الحقِّ، ليحكُمَ بين النَّاس بما علَّمه الله تعالى ممَّا أنزله في كتابه، ناهيًا إيَّاه عن المخاصَمة والمدافعة عمَّن علِم خيانتَه، وأمَره تعالى أن يستغفر اللهَ؛ فإنَّه سبحانه غفورٌ رحيم.
ثمَّ نهاه تعالى عن المجادلة والدِّفاع عن الَّذين يخُونون أنفسَهم؛ فإنَّ الله تعالى لا يحبُّ مَن اتَّصف بالخيانةِ وارتكابِ الإثمِ.
ثمَّ ذكَر الله عن هؤلاء الخائنين أنَّهم يستترونَ عن النَّاس عند ارتكابِهم سيِّئَ العملِ، ولا يستترون من الله، وهو معهم أينما كانوا، مُطَّلِعٌ على كلِّ ما يفعلونه، خصوصًا حين يُدبِّرون ليلًا ما لا يرضاه من القول، والله قد أحاط عِلمًا بجميع أعمالِهم.
ثمَّ يخاطبُ الله عباده قائلًا لهم: هَبْكُم جادلتُم عن هؤلاء الخَوَنة في الحياة الدُّنيا، ونفَعهم جدالُكم عند الخَلْق، فمن الَّذي سيخاصم اللهَ عنهم يومَ القيامةِ حين تقومُ عليهم الحُجَّة، أمَّن سيكون وكيلًا عنهم؟
تفسير الآيات:

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بمجاهدة الكفَّار بيَّن أنَّ الأمرَ وإن كان كذلك، فإنَّه لا تجوزُ الخيانةُ معهم، ولا إلحاقُ ما لم يفعَلوا بهم، بل الواجبُ في الدِّين أن يُحكَمَ له أوْ عليهِ بما أنزَل على رسولِه، وألَّا يلحَقَ الكافرَ حَيْفٌ لأجلِ كُفْره أو إرضاءً لطرفٍ آخر ينتسب إلى الإسلامِ
.
وأيضًا لَمَّا أمَر المؤمنينَ بأن يأخذوا حِذرَهم من الأعداءِ، ويستعدُّوا لمجاهدَتِهم حفظًا للحقِّ أن يُؤتَى من الخارج، أمرهم بأن يقوموا بما يحفَظُه في نفسِه، فلا يؤتى من الدَّاخل، وأن يُقِيموه على وجهِه كما أمر اللهُ تعالى، ولا يُحَابُوا فيه أحدًا ، فقال تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
أي: إنَّا أنزَلْنا إليك- يا محمَّدُ- القرآنَ، هو حقٌّ مِن الله تعالى، فنزل نزولًا متلبِّسًا بالحقِّ، ومشتملًا أيضًا على الحقِّ؛ فأخباره صِدْقٌ، وأوامرُه ونواهيه عَدْلٌ .
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ
أي: لتقضيَ بين النَّاس، فتفصِلَ بينهم لا بهواكَ، بل بما علَّمك اللهُ ممَّا أنزَلَه إليك من كتابه .
ولَمَّا أمَر اللهُ بالحُكم بين النَّاس المتضمِّنِ للعدلِ والقِسط، نهاه عن الجَوْرِ والظُّلم الَّذي هو ضدُّ العدل فقال :
وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا
لا تخاصِمْ وتحاجِجْ عمَّن عرفتَ خيانتَه، من مدَّعٍ ما ليس له، أو منكرٍ حقًّا عليه، ولا تدافِعْ عنه .
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ
أي: اطلُبْ مغفرتَه، وهي سترُ الذَّنب، والتَّجاوُزُ عن المؤاخَذة به .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: فإنَّ الله تعالى هو الَّذي يغفِرُ الذُّنوب، ويرحم كلَّ مَن طلب مغفرتَه .
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى الله تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الخِصام لكلِّ من وقَعَت منه خيانةٌ ما، أتبَعَه النَّهيَ عن المجادلة عمَّن تعمَّد الخيانةَ، فقال سبحانه وتعالى :
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ
أي: لا تُدافِعْ- يا محمَّدُ- عمَّن يخُونون أنفسَهم، فيجعلونها خائنةً بارتكابهم الخيانةَ، فلا تُحاجِجْ وتخاصِمْ عنهم مَن يطالبُهم بحقوقه، وما خانُوه فيه .
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى يُبغِضُ مَن كان من صفاتِه خيانةُ النَّاس، وركوبُ الإثم في ذلك، وفي غيره، ممَّا حرَّمه اللهُ عزَّ وجلَّ عليه .
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ
أي: إنَّهم حريصونَ على إخفاءِ قبائحهم عن النَّاس، فيتوارَوْنَ منهم تجنُّبًا للفضيحة بينهم، إمَّا حياءً منهم، أو خوفًا منهم، أو لئلَّا يُنكِروا عليهم سوءَ أعمالهم .
وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
أي: إنَّهم لا يُبالون بنظرِ الله تعالى إليهم، واطِّلاعِه على قبائحِهم الَّتي يبارزونه بها، وهو الَّذي لا يخفى عليه شيءٌ مِن أعمالهم، وبيدِه العقابُ؛ فهو أحقُّ أن يُخافَ ويُستحيَا منه جلَّ وعلا .
إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ
أي: حيث إنَّهم يُهيِّئون ويدبِّرون ليلًا ما لا يرضاه سبحانه من القولِ؛ كتبرئةِ الجاني، ورميِ البريءِ بالجناية .
وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى قد أحاط علمًا بأعمالِهم، وأحصاها عليهم، حتَّى يجازيَهم عليها .
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
أي: هَبْ أنَّكم جادَلْتم عنهم في هذه الحياةِ الدُّنيا، ودفَعَ عنهم جدالُكم العارَ والفضيحةَ عند الخَلْق .
فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أي: فمَن هذا الَّذي سيخاصم اللهَ عنهم يومَ القيامةِ حين تتوجَّه عليهم الحُجَّةُ، ويُقامُ عليهم من الشُّهودِ ما لا يُمكِنُ معه الإنكارُ؟ فيومئذٍ لا يدافعُ عنهم عنده سبحانه أحدٌ فيما يحُلُّ بهم من العذابِ .
أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
أي: لا أحدَ يكونُ نائبًا لهؤلاء الخائنينَ في ترويجِ دعواهم عندَ الله تعالى يومَ القيامةِ

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- يُستفادُ مِن قول الله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا أنَّ الأحكامَ كلَّها من الله تعالى، وأنَّه ليس لأحدٍ أن يحيدَ عن شيءٍ منها طلَبًا لرضَا أحدٍ
.
2- قوله: وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ فيه النَّهيُ عن معاونة الآثِم، وهذا مطابقٌ لقوله تعالى: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2] .
3- ترهيبُ المسلِم مِن أن يعلَمَ مِن الظَّالم كونَه ظالِمًا ثمَّ يُعِينَه على ذلك الظُّلم، ويحمِلَه عليه ويرغِّبَه فيه؛ يُستفادُ ذلك من قول الله تعالى: وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا .
4- النَّهيُ في قوله تعالى: وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ لم يكُنْ موجَّهًا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خاصَّةً، وإنَّما هو تشريعٌ وُجِّه إلى المكلَّفينَ كافَّةً؛ فهؤلاء الخائنونَ يوجَدون في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وفي جعلِ النَّهيِ بصيغة الخطابِ له- وهو أعدلُ النَّاسِ وأكمَلُهم- مبالغةٌ في التَّحذيرِ مِن هذه الخَلَّةِ المعهودةِ من الحُكَّامِ .
5- قوله تعالى: وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ "الاختيانُ" و"الخيانة" بمعنَى الجِناية والظُّلم والإثم، وهذا يشمَلُ النَّهيَ عن المجادَلةِ عمَّن أذنَب وتوجَّه عليه عقوبةٌ مِن حدٍّ أو تعزيرٍ، فإنَّه لا يجادَلُ عنه بدفعِ ما صدَر منه من الخيانةِ، أو بدفعِ ما ترتَّبَ على ذلك مِن العقوبةِ الشَّرعيَّة .
6- أنَّ الخائن لغيرِه خائنٌ في الحقيقة لنفسِه؛ حيث أوقَعها في المآثِمِ والخيانةِ، فلا يظُنَّ الخائنُ الَّذي يكتسب بخيانتِه ما يكتسِبُ أنَّه رابحٌ، بل هو خائنٌ لنفسِه، وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ .
7- أنَّ الخيانةَ مِن كبائر الذُّنوب، يؤخذُ مِن قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا؛ لأنَّه إذا رُتِّب على العملِ عقوبةٌ خاصَّة فهو من الكبائرِ .
8- في قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا التَّحذيرُ من الخيانةِ؛ لكونِ الله تعالى نفى محبَّتَه للخائن الأثيم، وفيه أيضًا التَّرغيبُ في أداءِ الأمانة؛ لأنَّه إذا وقع الذَّمُّ على وصفٍ لزِم أن يكونَ المدحُ في ضدِّه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا .
9- قول الله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ تضمَّنَ الوعيدَ الشَّديدَ والتَّقريعَ البالغَ؛ حيث يرتكبون المعاصيَ مستترينَ بها، مع علمِهم-إن كانوا مؤمنين- أنَّهم في حضرتِه لا سُترةَ ولا غفلةَ ولا غَيبةَ، وكفى بهذا زاجرًا للإنسانِ عن المعاصي .
10- أنَّ اللهَ سبحانه لا يخفى عليه شيءٌ، وأنَّ مَن حاوَل أن يُخفِيَ عن اللهِ شيئًا فإنَّه قد ظنَّ بربِّه ظنَّ السَّوء، ومع ذلك لن ينفَعَه هذا الظَّنُّ؛ لقوله: فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- علوُّ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لقوله: أَنْزَلْنَا، والنُّزولُ لا يكون إلَّا من عُلْوٍ، والقرآنُ كلامُ اللهِ، فإذا كان القرآنُ نازلًا لزِم أن يكونَ المتكلِّمُ به عاليًا
.
2- في قوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَجوازُ كتابةِ القرآنِ، وهذا أمرٌ متَّفقٌ عليه بين الأمَّة، بل قد تكون كتابتُه واجبةً .
3- قولُ الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فيه دليلُ جوازِ اجتهاد النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّ اجتهادَه كالنَّصِّ؛ لأنَّ الله تعالى أخبَر أنَّه يُرِيه ذلك .
4- قولُ الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ استُدلَّ بهذه الآيةِ على وجوب الاجتهادِ في فهم الشَّريعةِ .
5- إثباتُ العِلَل في أفعالِ الله الشَّرعيَّة والكونيَّة، وتؤخَذ من قوله: لِتَحْكُمَ؛ لأنَّ اللَّامَ للتَّعليل، ولا شكَّ أنَّ تعليلَ أحكام الله عزَّ وجلَّ ثابتٌ ثبوتًا قطعيًّا لا إشكالَ فيه، والحكمةُ من تمامِ صفاتِه سبحانه .
6- قول الله تعالى: بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ (أراك) أي عرَّفك وأوحَى إليك، وأصل (رأى) للرُّؤية البَصريَّة، فأُطلِقت على ما يُدرَكُ بوجه اليقينِ؛ لمشابَهته الشَّيءَ المُشاهَدَ؛ لكونِها جاريةً مجرَى الرُّؤية فى القوَّة والظهورِ والخُلوص مِن وُجوهِ الريبِ .
7- في قوله: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا دليلٌ على تحريمِ الخصومةِ في باطلٍ، والنِّيابةِ عن المبطِلِ في الخصوماتِ الدِّينيَّة والحقوقِ الدُّنيويةِ . وهو بابٌ في غايةِ الأهميةِ للمُحامين وغيرِهم.
8- يدُلُّ مفهومُ قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا على جواز الدُّخولِ في نيابةِ الخصومة لِمَن لم يُعرَفْ منه ظُلْم .
9- أنَّه يجبُ على الحاكمِ أن يتأنَّى في حُكمِه، وألَّا يتعجَّلَ، بل يتريَّثُ، لا سيَّما مع وجودِ قرائنَ، فمجرد هَمِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومَيلِه إلى هؤلاء فيه شيءٌ من التَّقصيرِ؛ ولهذا قال الله له: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ .
10- استنبَط بعضُ العلماءِ: أنَّه ينبغي لمن استُفتِي أن يقدِّمَ بين يدَيْ فتواه الاستغفارَ؛ لأنَّ الله قال: لِتَحْكُمَ ثمَّ قال: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ؛ ولأنَّ الذُّنوب تحُولُ بين الإنسانِ وبين معرفةِ الصَّواب .
11- قول الله تعالى: يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ (يختانون) بمعنى يخُونون، وهو افتعالٌ دالٌّ على التَّكلُّف والمحاولةِ لقصد المبالغةِ في الخيانة .
12- إثبات الرِّضا لله عزَّ وجلَّ؛ لقوله: مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ، ووجهه: أنَّ نفي الرِّضا عن هؤلاء يدلُّ على ثبوتِه لغيرِهم؛ إذ لو كان منتفيًا عن الجميعِ ما حسُنَ أن يُنفى عن هؤلاء .
13- أنَّ اهتداءَ النَّبيِّ صلواتُ اللهِ وسلامه عليه هو بتوجيهِ الله تعالى وإرشادِه؛ لقوله: وَلَا تُجَادِلْ؛ فإنَّ هذا توجيهٌ مِن الله عزَّ وجلَّ لنبيِّه محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلامُ ألَّا يجادلَ عن هؤلاء .
14- أنَّ النَّاسَ قد يتناصَرون بالباطلِ؛ قال تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
15- في قوله تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تحريمُ المحاماةِ إذا علِم المحامي أنَّ صاحبَه مُبطِلٌ، وجهُ ذلك: أنَّ الله أنكَرَ على هؤلاءِ أن يجادلوا عن صاحِبِهم، أمَّا إذا كان المحامي يريدُ أن يدافعَ عن الحقِّ بإثباتِه، فهذا جائزٌ، بل قد يكون واجبًا، كما لو وكَّلك شخصٌ لا يعرفُ ولا يكاد يُبِينُ، أن تدافعَ عنه، فهذا لا بأسَ به

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا الإتيانُ بلفظةِ خَصِيمًا على صِيغة (فعيل)؛ للمبالغة مِن خَصَم
.
2- قوله: إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا أتى باللَّفظتين غَفُورًا رَحِيمًا على صيغة (فعيل)؛ للمُبالغةِ في وصْفه سبحانه بالمغفرةِ والرحمةِ لمن يستغفرُه ، وفيه تأكيدُ الخبر بـ: (إنَّ)، واسميَّةِ الجملة.
3- قوله: إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا: الإتيانُ بصِيغة المبالغة (فعَّال) في الخِيانة و(فعيل) في الإثم؛ للمبالَغة في شَناعةِ الاتِّصافِ بهذه الأوصافِ؛ فإنَّ قوله: خَوَّانًا يعني أنَّه كثيرُ الخيانة مُفرِطٌ فيها، وأَثِيمًا يعني أنَّه مُنهمِكٌ في الإثم، وتعليقُ عدمِ المحبَّة المرادُ منه البُغضُ والسَّخَط بصِيغة المبالغةِ ، مع ما فيه مِن تَأكيدِ الخبر بـ: (إنَّ)، واسميَّة الجملة.
- وتَقدَّمت صِفةُ الخيانةِ على صِفةِ الإثم؛ لأنَّها سببٌ للإثم، ولمراعاة تواخِي الفواصِل .
4- قوله: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ
- فيه: توبيخٌ عظيمٌ وتقريعٌ؛ حيثُ يَرتكِبون المعاصِيَ مُستترِينَ بها عنِ الناسِ إنِ اطَّلعوا عليها .
- وقوله: وَهُوَ مَعَهُمْ: فيه ما يُعرَف في البَلاغة بـ(التَّتميم)؛ للإنكارِ عليهم والتَّغليظِ لقُبْحِ فِعلهم؛ لأنَّ حياءَ الإنسانِ ممَّن يَصحبُه أكثرُ مِن حيائِه وحْدَه .
5- قوله: وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا: فيه كنايةٌ عن المبالغةِ في الاتِّصافِ بالعلم، وفيه: وعيدٌ من حيث إنَّهم وإنْ كانوا يُخفُون كيفيَّةَ المكرِ والخِداعِ عن النَّاس، فإنَّها ظاهرةٌ في عِلْم الله .
6- قوله: هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فيه: التفاتٌ؛ فقد انتقَل مِن ضميرِ الغَيبةِ إلى الخِطاب؛ وفيه إيذانٌ بأنَّ تَعديدَ جِنايتِهم يُوجبُ مشافهتَهم بالتَّوبيخ والتَّقريع .
7- قَوْله: فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ: استفهامٌ معناه النَّفيُ، أي: لا أحدَ يُجادلُ اللهَ عنهم يوم القيامةِ إذا حَلَّ بهم عذابُه ، وهو وعيدٌ محْضٌ، أي: إنَّ الله يعلَمُ حقيقةَ الأمرِ؛ فلا يُمكِن أن يُلبَّسَ عليه بجدالٍ ولا غيرِه .
8- قوله: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا: أَمْ منقطعةٌ للإضرابِ الانتقاليِّ، ومَنْ استفهامٌ مُستعمَلٌ في الإنكار .


====== 9.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (110-113)
ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ
غريب الكلمات:

خَطِيئَةً: الخَطيئة: فعيلةٌ من الخطأ، وهو العدولُ عن القصدِ والجِهةِ، يقال: خَطِئَ الرَّجلُ يَخْطَأُ خِطْأً-: إذا تعمَّد الذَّنب
.
بُهْتَانًا: أي: ظُلمًا، والبُهْتَانُ كذلك الكذِبُ، أو كلُّ فِعل مستبشَعٍ يُتعاطَى باليدِ والرِّجل مِن تناوُل ما لا يجوزُ، والمَشْي إلى ما يقبُحُ .
لَهَمَّتْ: الهمُّ: جرَيان الشَّيءِ في القلب، وأصل هَمَم: يدلُّ على ذَوبٍ وجريانٍ ودبيبٍ

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يخبِرُ تعالى أنَّ مَن يعمل عملًا يُسيء به إلى غيره، أو يكتسِبُ ما يجعلُه يستحقُّ العقوبةَ من الله، ثمَّ يستغفر اللهَ تعالى عمَّا اقترَف، فإنَّه سيجدُ مِن الله مغفرةً لذنوبه، ورحمةً به، ومَن يقترف ذنبًا متعمِّدًا فإنَّما يجني بذلك على نفسِه وبالَ الذَّنبِ وعاقبتَه، وكان الله عليمًا حكيمًا.
ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّ مَن يصدُرْ منه ذنبٌ غيرَ متعمَّدٍ له، أو يرتكِبْه عامدًا ثمَّ يتَّهِمْ بهذا الذَّنبِ الَّذي اقترفه مَن هو بَريءٌ منه، فقد تحمَّلَ بعَمَله القبيحِ هذا فِرْيَةً على ذلك البريءِ، وإثمًا ظاهرًا بيِّنًا.
ثمَّ يخاطبُ الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لولا أنَّ الله تفضَّل عليه فحَفِظَه وعصَمه، لهمَّتْ طائفةٌ مِن الَّذين يختانون أنفسَهم أن يُضلُّوه عن طريق الحقِّ، وما يُضلُّون في الحقيقة إلَّا أنفسَهم، ولا يمكن أن يضرُّوه عليه الصَّلاة والسَّلام بشيءٍ، ثمَّ ذكَّره تعالى بنعمتِه عليه وفضلِه حين أنزل عليه القرآنَ، والسنَّة، ومعرفة أسرار الشَّريعة، وعلَّمه سبحانه وتعالى ما لم يكُنْ يعلَمُه مِن قبلِ تعليمِ الله سبحانه وتعالى له، وكان فضلُ الله عليه عظيمًا.
تفسير الآيات:

وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى عن نُصْرةِ الخائن وحذَّر منها، ندَب إلى التَّوبة مِن كلِّ سُوءٍ
فقال:
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
أي: ومَن يعمَلْ ما يُسيءُ به إلى غيرِه، أو يظلِمْ نفسَه بإكسابه إيَّاها ما يستحقُّ به عقوبةَ الله من شِركٍ ومعاصٍ .
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
أي: ثمَّ يطلُبْ مِن الله تعالى أن يستُرَ ما عمِلَ مِن ذنوبٍ، ويتجاوَزَ عن مؤاخَذتِه بها .
يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: فإنَّه يجدُ اللهَ تعالى غفورًا لذنوبِه، رحيمًا به .
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ندَبَ الله تعالى إلى التَّوبة ورغَّب فيها، بيَّن أنَّ ضررَ إثمِ الآثِم لا يتعدَّى نفسَه، حثًّا على التَّوبةِ، وتهييجًا إليها؛ لِمَا جُبِل عليه كلُّ أحدٍ مِن محبَّة نَفْع نفسِه، ودَفْع الضُّرِّ عنها ، فقال:
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ
أي: ومَن يَأتِ ذَنبًا عامدًا له، فإنَّما يَجترحُ وبالَ ذلك الذَّنبِ وضُرَّه وخِزيَه وعارَه في الدُّنيا والآخرة على نفسِه دون غيرِه، فلا يَجني أحدٌ على أحدٍ، وإنَّما على كلِّ نفسٍ ما عمِلَتْ، لا يَحمِلُه عنها غيرُها .
كما قال تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر: 18] .
وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى له العلمُ الكاملُ، والحِكمةُ التَّامَّة، ومِن عِلْمه وحِكمتِه أنَّه يَعلمُ الذَّنبَ وما صدَر منه، والسَّببَ الدَّاعي لفِعلِه، والعقوبةَ المترتِّبةَ على فِعلِه، ويَعلمُ حالةَ المُذنِب .
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى ما يخصُّ الإنسانَ مِن إثمِه، أتبَعَه ما يُعدِّيه إلى غيرِه ، فقال:
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا
أي: ومَن يَرتكِبْ خَطيئةً؛ أي ذنبًا غيرَ عامدٍ له، أو يرتكبْ إثمًا؛ أي ذنبًا متعمِّدًا له .
ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا
أي: يُلصِقْ ذَنبَه الَّذي ارتكبَه بشخصٍ آخرَ بريءٍ من هذا الذَّنبِ .
فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
أي: فقد تحمَّل بهذا الفِعلِ الشَّنيعِ فِريةً وكذبًا على ذلك البَريءِ، وإثمًا ظاهرًا بيِّنًا، يُبِينُ عن أمْرِ مُتحمِّلِه، وجَراءتِه على ربِّه سبحانه وتعالى .
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لـمَّا وعَظ سُبحانه وتعالى في هذه النَّازلةِ وحذَّر ونهى وأمَر، بَيَّن نِعمَتَه على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عِصمتِه عمَّا أرادوه مِن مُجادلتِه عن الخائنِ بقوله تعالى :
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
أي: ولولا أنَّ اللهَ تعالى تَفضَّل عليك- يا محمَّدُ- فحفِظَكَ وعصَمك بتوفيقِه وتبيانِه لك أَمْرَ هذا الخائنِ .
لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
أي: لعزَمَتْ فِرقةٌ من أولئك الَّذين يختانونَ أنفسَهم أن يَحْرِفوكَ عن طريق الحقِّ .
وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
أي: إنَّ كيدَهم ومكرَهم يعودُ على أنفسِهم، فما يُضلُّونَ بذلك في الحقيقةِ إلَّا أنفسَهم .
وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
أي: لا يمكِنُ أن يُضرُّوك بأيِّ شيءٍ من الأشياءِ .
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
أي: ومِن فَضْلِ اللهِ تعالى عليك- يا محمَّدُ- مع سائرِ ما تفضَّلَ به عليك مِن نِعَمِه، أنَّه أنزَل عليك الكتابَ: وهو القرآنُ، والحِكمةَ: وهي السُّنَّة ومعرفةُ أسرارِ أحكامِ الشَّريعة .
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أي: ومِن فَضْله تعالى عليك- يا محمَّدُ- أنْ علَّمَك ما لم تكُنْ تعلَمُه من قبلِ نزولِ الوحيِ عليك .
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ [الشورى: 52] .
وقال سبحانه: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 86] .
وقال جلَّ وعلا: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت: 48] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [الضحى: 7] .
وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
أي: إنَّ ما منَحَك اللهُ تعالى إيَّاه من نِعَمٍ وعطايا- يا محمَّدُ- أمرٌ عظيمٌ من لَدُنِ العظيمِ الكريم سبحانه

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا يفتَحُ باب التَّوبة على مصراعَيْه، وبابَ المغفرة على سَعَتِه، ويُطمِّعُ كلَّ مذنبٍ تائبٍ في العفوِ والقَبول، ويدلُّ على أنَّ التَّوبةَ مقبولةٌ عن جميعِ الذُّنوبِ؛ لأنَّ قوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ... عمَّ الكلَّ، فمَنْ يَستغْفِرْ ويصدُقْ في استغفارِه فسوفَ يَجِدُ اللهَ عزَّ وجلَّ غفورًا رحيمًا
.
2- أنَّ المعاصيَ ظُلْمٌ للنَّفسِ؛ لقوله: أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، وهذا شيءٌ ثابتٌ مُكرَّرٌ في القرآنِ .
3- أنَّ الإنسانَ تصحُّ توبتُه من الذَّنبِ ولو تكرَّر، ووجهُه: العمومُ في قوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ، وهذا عامٌ فيمَّن تكرَّر منه ذلك، أو لم يتكرَّرْ .
4- في قوله تعالى: أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ أنَّ الإنسانَ قد يكون عدوًّا لنفسِه، كما أنَّ أقرَبَ النَّاسِ قد يكون عدوًّا له؛ كما قال تعالى: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] ، فلْيَحذَرْ كلُّ إنسانٍ نَفْسَه؛ فإنَّها عدوُّه .
5- تحريم رميِ الغيرِ بما يفعله الإنسانُ من خطيئةٍ، والتَّحذيرُ منه؛ قال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا .
6- الحذرُ من شَهادة الزُّورِ والبُهتان؛ فصاحبُ البهتان مذمومٌ في الدُّنيا أشدَّ الذَّمِّ، ومعاقَبٌ في الآخرةِ أشدَّ العقابِ؛ يُستفادُ ذلك من قول الله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا

.
الفوائد العِلميَّة واللَّطائف:

1- قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ عملُ السُّوءِ عند الإطلاقِ يشمَلُ سائرَ المعاصي، الصَّغيرة والكبيرة، وسُمِّي "سوءًا"؛ لكونه يسُوءُ عاملَه بعقوبَتِه، ولكونِه في نفْسِه سيِّئًا غيرَ حسَنٍ، وكذلك ظُلمُ النَّفسِ عند الإطلاقِ يشمَلُ ظُلمَها بالشِّرك فما دونه، ولكنْ عند اقترانِ أحدِهما بالآخَرِ قد يُفسَّرُ كلُّ واحدٍ منهما بما يُناسِبُه، فيُفسَّرُ عملُ السُّوءِ هنا بالظُّلم الَّذي يسُوء النَّاسَ، وهو ظُلمُهم في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم، ويُفسَّرُ ظُلمُ النَّفس بالظُّلم والمعاصي الَّتي بين اللهِ وبين عبده
.
2- قول الله تعالى: يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا، أي: يتحقَّقُ ذلك، فاستُعِيرَ فعل (يجد) للتَّحقُّق؛ لأنَّ فعل (وَجَد) حقيقتُه الظَّفَرُ بالشَّيءِ ومشاهدتُه، فأُطلِقَ على تحقيقِ العفْوِ والمغفرة .
3- بيان عَدْلِ الله وحَكْمتِه؛ أنَّه لا يعاقِبُ أحدًا بذَنبِ أحدٍ، ولا يعاقِبُ أحدًا أكثرَ من العقوبة النَّاشئةِ عن ذَنبه؛ ولهذا قال: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، أي: له العِلمُ الكاملُ والحكمة التَّامَّةُ .
4- قول الله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا قدَّم البُهتَ؛ لقُربه من قوله: ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا، ولأنَّه ذنبٌ أفظعُ مِن كَسْبِ الخطيئةِ أو الإثمِ .
5- أنَّ السَّيِّئاتِ تتضاعَفُ بتعدُّدِ أوصافِها؛ لقوله: وَإِثْمًا مُبِينًا، وهذا هو الواقعُ، وهو العدلُ؛ فمَن قذَف قريبًا له ومَن قذَف أجنبيًّا عنه، كلاهما قد قذَفَ، لكنِ انضَمَّ إلى قذفِ القريبِ قطيعةُ الرَّحِم، فتكونُ هذه السَّيِّئةُ متضاعِفةً، فلا جرمَ أن يتضاعَفَ إثمُها؛ لأنَّ الأحكامَ مرتَّبةٌ على أوصافِها .
6- إثباتُ الرَّحمة الخاصَّة، فإنَّ قوله: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ رحمةٌ خاصَّةٌ لم تكُنْ لغيرِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
7- بيانُ فضلِ اللهِ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّه محتاجٌ لفضلِ اللهِ ورحمتِه، ولولا فضلُ الله عليه ورحمتُه لحصَل له ما يحصُلُ لغيره؛ لقوله: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ .
8- أنَّ مَن أراد إضلالَ الخَلْقِ، فإنَّه لا يضُرُّ إلَّا نفسَه؛ لقوله: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ؛ لأنَّهم عَمُوا في الواقعِ عن الحقِّ، ودَعَوُا النَّاسَ إلى الباطل، فاكتسَبوا إثمًا إلى آثامِهم، فأضَلُّوا أنفسَهم بذلك .
9- إثباتُ علوِّ الله؛ لقوله: أَنْزَلَ، والنُّزولُ يكون مِن أعلى .
10- فضيلةُ الرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام؛ حيث كان محلًّا لإنزالِ الكتابِ عليه؛ قال تعالى: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .
11- أنَّ القرآنَ (كتابٌ)، على وزن (فِعَال) بمعنى (مفعول)، وهو مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظ، ومكتوبٌ في الصُّحُف الَّتي بأيدي الملائكةِ الكِرام البَرَرة، ومكتوبٌ في المصاحف الَّتي بأيدينا، قال جلَّ وعلا: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .
12- فضيلةُ العِلم؛ لأنَّ الله امتَنَّ به على رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيث قال: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، ولا شكَّ أنَّ العِلمَ أشرفُ ما يُلَقَّاهُ الإنسانُ بعد الإسلامِ؛ فهو خيرٌ مِن المال، وخيرٌ من الأولادِ، وخيرٌ من الأزواجِ، وخيرٌ من الدُّنيا كلِّها

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا: فيه مبالغةٌ في الغُفرانِ، كأنَّ المغفرةَ والرَّحمة مُعدَّانِ لطالبِهما، مُهيَّآن له، متى طلَبهما وجَدَهما، فلا يتخلَّفُ عنه شمولُ مَغفرتِه ورحمتِه زمَنًا. وصِيغةُ غَفُورًا رَحِيمًا فيها مبالغةٌ، أي: كثيرَ الغُفران، وكثيرَ الرَّحمةِ؛ وذلك كِناية عن العُمومِ والتَّعجيل؛ فهو عامُّ المغفرةِ والرَّحمة، فلا يخرج منها أحدٌ استغفَره وتابَ إليه
.
2- قوله: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
- في لفظةِ (على) في قولِه: فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ دلالةٌ على استعلاءِ الإثمِ على فاعلِه، واستيلائِه وقَهْرِه له .
- قوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا: التَّعبيرُ بصيغةِ المبالغةِ (فعيل)؛ للدَّلالةِ على المبالَغةِ في الوصْف .
3- قوله: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
- لفظ (احتَمَل) في قوله: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا أبلغُ من (حمَل)؛ لأنَّ افتَعل فيه للتَّسبُّب، كاعْتَمَل ، وأيضًا في (احتمل) تمثيلٌ لحالِ فاعلِه بحالِ عَناءِ الحاملِ ثِقلًا .
- وفي قوله:بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا مُبِينًا صفةٌ لقولِه إِثْمًا أي: بيِّنًا فاحشًا، وقد اكتُفِيَ في بيانِ عِظَمِ البُهتانِ بالتنكيرِ التفخيميِّ .
4- قول الله تعالى: وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ (مِنْ) تدُلُّ على العمومِ نصًّا، أي: لا يضرُّونَك قَليلًا ولا كثيرًا .


==========10.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (114-122)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
غريب الكلمات:


نَجْوَاهُمْ: أي: مُتناجِيهم، أو تَناجِيهم، وأصل النَّجاءِ: الانفصالُ مِنَ الشَّيءِ؛ يُقال: ناجيتُه، أي: سَارَرْتُه، وأصلُه: أنْ تخلوَ به في نَجوةٍ مِن الأرضِ يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 792- 793)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 917). .
مَعْرُوفٍ: المعروفُ كلُّ ما كان معروفًا فِعْلُه، جميلًا مستحسَنًا غيرَ مستقبَحٍ عند أهل الإيمان، و(عَرَف) في الأصل يدلُّ على السُّكونِ والطُّمأنينةِ، ومنه العُرف والمعروف؛ سُمِّي بذلك؛ لأنَّ النُّفوسَ تسكُنُ إليه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/105)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/281)، ((المفردات)) للراغب (ص: 561). .
يُشَاقِقِ: يخالِفْ، أو صار في شقٍّ غيرِ شقِّ أوليائه، والشِّقاقُ: المخالَفة، وأصل شق: يدلُّ على انصداعٍ في الشَّيءِ يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/170)، ((المفردات)) للراغب (ص: 459- 460)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .
وَنُصْلِهِ: أي: نَشْوِهِ بها، وصَلَى النارَ: أي: دخَل فيها، وأصل الصَّلْيِ: الإيقادُ بالنَّار، ويُقال: صَلِيَ بالنَّار وبكذا، أي: بَلِيَ بها يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 490)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 166). .
مَرِيدًا: أي: ماردًا، يعني: عاتيًا، قد عرِيَ من الخيرِ وظَهَر شرُّه، من قولهم: شجرة مَرْدَاء، إذا سقَط ورقها فظهَرَتْ عِيدانُها، ومنه غلامٌ أمردُ: إذا لم يكُنْ في وجهه شَعَرٌ، والماردُ والمَريدِ: كلُّ عاتٍ مِن شَياطينِ الجِنِّ والإنسِ، وأصل (مرد): يدلُّ على تَجريدِ الشَّيءِ مِن قِشْره، أو ما يَعْلوه من شَعرِه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 135)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 413)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/317)، ((المفردات)) للراغب (ص: 764)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 143). .
فَلَيُبَتِّكُنَّ: أي: يُقطِّعُونها ويَشقُّونها، والبَتْكُ: القَطْعُ، ويُستعملُ في قَطْعِ الأعضاءِ والشَّعرِ؛ يُقال: بتَك شَعرَه وأُذنَه يُنظر: ((العين)) للخليل (5/342)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 136)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/195)، ((المفردات)) للراغب (ص: 106)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 72)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 143)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 988). .
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ: يُشوِّهون خَلْقَه بالخِصاءِ، وقطعِ الآذانِ، وفَقْءِ العيون، ونَتْفِ اللِّحيةِ، أو: يُبدِّلون حُكمَه ودِينَه، وأصل غيَّر: اختلافُ شيئينِ، والخَلْقُ أصله: التَّقديرُ المستقيم، ويُستعمَلُ في إبداعِ الشَّيء من غير أصلٍ ولا احتذاءٍ يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 136)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/213) و(4/403)، ((المفردات)) للراغب (ص: 296- 297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 72). .
غُرُورًا: الغرورُ: الباطل، والغِرَّةُ: غفلةٌ في اليقظةِ، يقال: غَررْتُ فلانًا: أصبتُ غِرَّتَهُ ونِلتُ منه ما أريدُه، وأصل ذلك من الغَرِّ، وهو الأثَرُ الظَّاهر من الشَّيء، والغَرور: كلُّ ما يغُرُّ الإنسانَ من مالٍ وجاهٍ وشهوةٍ وشيطانٍ يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 352)، ((المفردات)) للراغب (ص: 603-604)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 263). .
مَحِيصًا: أي: مَعْدلًا ومهربًا، وحاص عن الشَّيء: أي: عدَل، وأصل (حيص): هو الميلُ في جورٍ وتَلَدُّدٍ يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 468)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/300)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 143)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877، 882). .
قِيلًا: قولًا ومقالًا، وأصل القول من النُّطق، ويستعمل على أوجهٍ كثيرة يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/42)، ((المفردات)) للراغب (ص: 688)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 144، 326)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 160، 739). .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ
إِلَّا مَنْ أَمَرَ: في هذا الاستثناءِ قولانِ، أحدُهما: أنَّه متَّصلٌ
، على أنَّ المرادَ بالنَّجْوَى: القومُ الَّذين يَتناجَون؛ ومنه قوله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوَى [الإسراء: 47] ، أي: مُتناجُون، وهو مِن إطلاقِ المصدرِ على الَّذي صدَرَ منه، نحو: رجلٌ عَدْلٌ، أي: عادِل. أو على أنَّ في الكَلامِ حذْفَ مُضافٍ، تقديرُه: إلَّا نَجْوَى مَنْ أَمَرَ؛ فعَلَى هذا يَجوزُ أنْ تكونَ مَنْ في موضعِ جرٍّ بدلًا مِن نَجْوَاهُمْ، وأنْ تكونَ في مَوضِعِ نَصْبٍ على أَصلِ بابِ الاستثناءِ. والثَّاني: أنَّ الاستثناءَ مُنقطِعٌ ، وعليه فالمرادُ بالنَّجْوَى هنا المصدرُ فقط كالدَّعوى، ومَنْ للأشْخاصِ، وليستْ مِن جِنسِ التَّناجِي، وعليه فـمَنْ في موضِع نصْبٍ على الاستِثْناءِ

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِرُ تعالى أنَّه لا خيرَ في كثيرٍ ممَّا يُسِرُّه النَّاسُ بينهم من الكلامِ، إلَّا ما كان مِن أمرٍ بالتَّصدُّق، أو أمرٍ بمعروف، أو إصلاحٍ بين النَّاس، ومَن يفعلْ ذلك مخلِصًا لله فسوف يُعطيه اللهُ ثوابًا عظيمًا.
ثمَّ توعَّد سبحانه وتعالى مَن يخالفُ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويعاندُه مِن بعدِ ظهور الحقِّ له، ويتَّبِعُ خلافَ ما عليه سَيرُ المؤمنين، وينهَجُ غيرَ نهجِهم؛ توعَّده سبحانه بأن يَكِلَه إلى ما اختار لنفسِه، ويُحسِّنَه له استدراجًا له، ويُحرِقَه بنارِ جهنَّمَ، وقبُحَتْ جهنَّمُ مصيرًا.
ثمَّ أخبَر تعالى أنَّه لا يغفِرُ لمن أشرَك به، ومات على ذلك، ويغفِرُ ما دون الشِّرك لمن يشاءُ سبحانه وتعالى، ومَن يُشرِكْ بالله فقد ضلَّ عن الحقِّ ضلالًا بعيدًا.
ثمَّ بيَّن أنَّ الذين يُشْرِكونَ بالله ما يَدْعُون إلَّا أصنامًا بمسمَّيَاتٍ مؤنَّثةٍ، وما يَدْعون في حقيقةِ الأمر إلَّا شيطانًا رجيمًا متمرِّدًا على خالقِه جلَّ وعلا، قد طرَده اللهُ مِن رحمتِه، فقال لربِّه حينها معزِّزًا قولَه بالقَسَمِ: إنَّه سيتَّخذُ مِن عباده جزءًا معلومًا مقدَّرًا يكونون أولياءَه، وسيُضِلُّهم عن الطَّريقِ المستقيم، ويقذِفُ في أنفسِهم أمانيَّ يعِدُهم بها، تكونُ سببًا في ابتعادِهم عن التَّوحيدِ والطَّاعة، وسيأمُرُهم بتقطيعِ آذانِ الأنعامِ، وتغييرِ خَلْقِ الله وفِطرتِه، ثمَّ أخبَر تعالى محذِّرًا أنَّ مَن يتَّخذ الشَّيطانَ وليًّا مِن دون الله فقد خسِر خسرانًا ظاهرًا واضحًا؛ فإنَّ الشَّيطانَ يعِدُ أولياءَه ويقذِفُ في نفوسهم الأمانيَّ، وما وعودُه وأمانِيُّه إلَّا باطلٌ وخداعٌ، أولئك الَّذين يتَّخذونه أولياءَ مصيرُهم جهنَّمُ، ولا يجِدون عنها مَهربًا.
وأمَّا الَّذين آمنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، فسيُدخِلُهم اللهُ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ، ماكثين فيها أبدًا، وَعْدَ اللهِ الَّذي وعدهم به، ووعدُه الحقُّ، ولا أحدَ أصْدَقُ منه جلَّ وعلا قولًا وخبرًا.
تفسير الآيات:

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا لم تَخلُ الحوادثُ الَّتي أشارت إليها الآيُ السَّابقةُ، ولا الأحوالُ الَّتي حذَّرَت منها؛ مِن تناجٍ وتحاورٍ، سرًّا وجهرًا، لتدبيرِ الخيانات وإخفائِها وتبييتِها؛ لذلك كان المقامُ حقيقًا بتعقيبِ جميعِ ذلك بذِكْرِ النَّجوى وما تشتملُ عليه؛ لأنَّ في ذلك تعليمًا وتربيةً وتشريعًا
، فقال تعالى:
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ
أي: لا خيرَ في كثيرٍ من الكلام الَّذي يُسِرُّه النَّاس بينهم؛ إمَّا لأنَّه لا فائدةَ فيه؛ كفضولِ الكلام المباح، وإمَّا لكونِه شرًّا ومَضرَّةً محضةً؛ كالكلام المُحرَّمِ بجميعِ أنواعه .
إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ
أي: عَدَا الأمْرَ بالتَّصدُّقِ، سواءٌ كان بالمال أو بالعِلم، أو بأيِّ نفعٍ كان .
أَوْ مَعْرُوفٍ
أي: وعَدَا الأَمْرَ بالمعروفِ، وهو كلُّ ما أمَر الله تعالى به، أو ندَب إليه من أعمالِ البِرِّ والخيرِ والإحسانِ والطَّاعة، وكلُّ ما عُرِف في الشَّرعِ والعَقلِ حُسْنُه .
أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
أي: وعَدَا الأمرَ بالإصلاحِ بين المتنازعَيْنِ والمتخاصمَيْنِ حتَّى تُزالَ العداوةُ والشَّحناء بينهم، ويتمَّ التَّراجعُ إلى ما فيه الأُلفةُ، واجتماعُ الكلمة على ما أذِن اللهُ تعالى وأمَر به .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
أي: ومَن يأمُرْ بصدقةٍ أو معروف أو يُصلِحْ بين النَّاس؛ طلبًا لرضَا الله تعالى بفعله هذا، مخلصًا له فيه، ومحتسبًا ثوابَه عند الله عزَّ وجلَّ .
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا
أي: فسوف يُعطيه اللهُ تعالى جزاءً لِمَا فعَل من ذلك، ثوابًا كثيرًا واسعًا، لا يعلَمُ قدرَه سواه .
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا رتَّب الثَّوابَ العظيم على الموافَقةِ، وبيَّن وعدَه بالجزاء الحسَنِ للَّذين يتناجَوْن بالخيرِ، ويبتغونَ بنفعِ النَّاس مرضاةَ الله عزَّ وجلَّ، رتَّب العقابَ الشَّديدَ على المخالَفة والمشاقَقَة، ووكَل المخالِفَ إلى نفسِه بقوله تعالى :
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ
أي: ومَن يُخالِفِ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويعانِدْه فيما جاء به، سالكًا غيرَ طريقِ الشَّريعةِ الَّتي جاء بها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فصار في جانبٍ والشَّرعُ في جانبٍ آخرَ .
مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
أي: وحَصَلتْ منه تِلك المُشاقَّةُ عن عَمْدٍ بعدَما ظهَر له الحقُّ واتَّضَح .
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
أي: ومَن يتَّبِعْ طريقًا غيرَ طريقِ المؤمنين في عَقائدِهم وأعمالهِم، ويَسلُكْ منهجًا غيرَ منهجِهم .
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
أي: إذا سلَك هذه الطَّريقَ نَتخلَّى عنه، ونتركُه إلى ما اختاره لنفْسِه، ونُحسِّنُه له في صدرِه استدراجًا له .
كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ
أي: ونُدخِلْهُ نارَ جهنَّمَ ونُحرِقْه بها .
وَسَاءَتْ مَصِيرًا
أي: وما أسوَأَها مِن مرجعٍ ومآلٍ يصيرُ إليه !
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا توعَّد اللهُ تعالى على مُشاقَقةِ الرَّسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واتِّباعِ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ، وكان فاعلُ ذلك بعد بيانِ الهدى هم أهلَ الكتابِ ومَن أضلُّوه من المنافقينَ، فردُّوهم إلى ظلامِ الشِّرك والشَّكِّ- حسُنَ إيلاؤُه ببيانِ خطورةِ الشِّرك؛ تعظيمًا لأهلِ الإسلام، وحثًّا على لزوم هديِهم، وذمًّا لِمَن نابَذهم، وتوعُّدًا له ، فقال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى لا يغفِرُ لِمَن أشرَك به ومات على شِرْكِه .
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
أي: وما دونَ الشِّرك من الذُّنوبِ والمعاصي فهو تحت المشيئةِ؛ إن شاء اللهُ غَفَرَه برحمتِه وحِكمتِه، وإنْ شاء عذَّبَ عليه بعَدلِه وحكمتِه .
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا
أي: ومَن يجعَلْ لله تعالى شريكًا، فقد سلَك غيرَ طريقِ الحقِّ، وانحرَف عن سواءِ السَّبيلِ، وبَعُدَ عن الصَّوابِ بُعدًا شديدًا .
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا
أي: ما يَدْعو هؤلاء المشرِكون مِن دونِ الله تعالى إلَّا أوثانًا وأصنامًا مسمَّياتٍ بأسماءِ الإناثِ؛ كاللَّات والعُزَّى ومَنَاةَ، والمؤنَّثُ دون المذكَّرِ في قوَّتِه ومرتبتِه ومقامِه؛ ممَّا يدلُّ على نقصِ المسمَّيات بتلك الأسماءِ، وفَقْدِها لصفات الكمال، فكيف تُتَّخذُ آلهةً تُعبدُ؟! .
وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا
أي: وما يعبُدُ هؤلاء الَّذين يعبُدون هذه الأوثانَ مِن دونِ الله تعالى- في حقيقةِ الأمر- إلَّا شيطانًا متمرِّدًا على الله سبحانه، هو الَّذي أمَرهم بذلك، وزيَّنه لهم فأطاعوه، مع أنَّه عدوُّهم الَّذي يريدُ إهلاكَهم، ويسعى في ذلك بكلِّ ما يقدِرُ عليه .
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
لَعَنَهُ اللَّهُ
أي: قد أَقصاه اللهُ تعالى وأبعَدَه وطرَدَه مِن رحمتِه .
كما قال تعالى: قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 77-78] .
وكما أبعَدَه اللهُ تعالى من رحمتِه، يسعى في إبعاد العبادِ عن رحمة الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا أخبَر اللهُ عن سعيِه في إغواءِ العباد، وتزيينِ الشَّرِّ لهم والفسادِ ؛ قال اللهُ تعالى:
وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا
أي: قال الشَّيطانُ لربِّه حين لَعَنَه: واللهِ لأتَّخذَنَّ مِن عبادِك جزءًا معلومًا مقدَّرًا، أجعَلُهم أولياءَ لي، أتولَّاهم ويتولَّوْنَني، فيكونون من حزبِي أصحابِ السَّعيرِ .
كما قال الله تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83].
وقال أيضًا: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ.
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
بعد أن أقسَمَ الشَّيطانُ أنَّه سيتَّخذُ نصيبًا مفروضًا من العِباد، ذكَر ما يعتزمُ فعلَه بهم بقوله :
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
أي: واللهِ لأَصُدَّنَّهم عن طريق الحقِّ إلى سُبُلِ الضَّلالِ، ضلال في العِلمِ، وضلال في العمل .
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ
أي: واللهِ لأجعَلَنَّ في نفوسِهم من الأمانيِّ الَّتي أعِدُهم بها، ما يُزيغُهم عن توحيدِك وطاعتِك؛ كأن يُزيِّنَ لهم ما هم فيه من الضَّلالِ، مع تمنِّيهم أن ينالوا ما ناله المهتدونَ، وكأن يُمنِّيَهم بطولِ العمرِ مع أمرِهم بالتَّسويفِ والتَّأخيرِ في التَّوبةِ حتَّى يَبغَتَهم الموتُ .
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ
أي: واللهِ لآمُرَنَّهم بأن يُقطِّعوا آذانَ الأنعامِ من الإبلِ والبقرِ والغَنَم علامةً على أنَّها محرَّمةٌ-قيل: يُقطِّعونها نُسُكًا في عبادةِ الأوثانِ- وهذا يقتضي تحريمَ ما أحَلَّ اللهُ، أو تحليلَ ما حرَّمه، ويلتحقُ بذلك مِن الاعتقاداتِ الفاسدةِ والأحكامِ الجائرةِ ما هو مِن أكبرِ الضَّلالِ .
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ
أي: ولآمُرَنَّهم بتغييرِ خِلقتِهم الظَّاهرةِ بالوَشْمِ، والنَّمْصِ، والتَّفلُّجِ للحُسنِ، وغير ذلك ، وتغيير خِلقتِهم الباطنة، فتتغيَّرُ فِطرتُهم الَّتي فُطِروا عليها من التَّوحيدِ إلى الشِّركِ، ومِن اليقينِ إلى الشَّكِّ، ومِن قَبولِ الحقِّ والعملِ به إلى تركِه والإعراضِ عنه والتَّمرُّدِ عليه .
عن عبدِ اللهِ بن مسعود رضِي اللهُ عنه قالَ: ((لعنَ اللهُ الواشمَاتِ والمُتَوشِّماتِ ، والمُتَنَمِّصَات والمُتَفَلِّجَاتِ للحُسْنِ ، المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللهِ، فبلغَ ذلكَ امرأةً من بني أسدٍ يُقالُ لها: أمُّ يعقوبَ، فجاءَت فقالت: إنَّهُ بلغَني أنَّكَ لعَنْتَ كيْتَ وكيْتَ، فقالَ: وما ليَ لا ألعَنُ مَن لعنَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومَنْ هوَ في كتابِ اللهِ، فقالت: لقدْ قرأتُ ما بينَ اللَّوحينِ، فمَا وجدْتُ فيه ما تقولُ، قالَ: لئنْ كنتِ قرَأتِيهِ لقد وجَدْتِيهِ، أمَا قرأتِ: ومَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، قالتْ: بلى، قالَ: فإنَّهُ قدْ نهَى عنهُ، قالت: فإنِّي أرَى أهْلَكَ يفعَلونَهُ، قالَ: فاذْهَبي فانْظُرِي، فَذَهَبتْ فَنَظَرتْ، فلمْ تَرَ مِن حاجَتِها شيئًا، فقالَ: لو كانَتْ كذَلِك مَا جَامَعَتْنا )) .
وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حكَى عن الشَّيطانِ دَعاويَه في الإغواءِ والضَّلالِ، حذَّر النَّاسَ عن متابعتِه ، فقال:
وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ
أي: ومَن يجعَلِ الشَّيطانَ وليًّا لنفسِه ونصيرًا دون الله تعالى فيتَّبِعْه ويُطِعْه .
فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا
أي: فقد هلَك في الدُّنيا والآخِرةِ هلاكًا ظاهرًا، يُبيِنُ عن عطَبِه وهلاكِه، فيحصُلُ له الشَّقاءُ الأبديُّ، ويفُوتُه النَّعيمُ السَّرمديُّ .
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
يَعِدُهُمْ
أي: يعِدُ الشَّيطانُ أولياءَه بوعودٍ باطلةٍ لإضلالِهم؛ كأنْ يعِدَهم بأن يكونَ لهم نصيرًا ممَّن أرادهم بسوءٍ، وكأن يعِدَهم بأنَّهم إذا أنفَقوا في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ افتقَروا، وإن جاهَدوا في سبيل الله تعالى قُتِلوا .
وَيُمَنِّيهِمْ
أي: يُرجِّيهم ويَفتَحُ أمامَهم الآمالَ الكاذبةَ، والأمانيَّ الباطلةَ؛ كأنْ يُمنِّيَهم بالظَّفَرِ على أعدائِهم، وكأن يُمنِّيَهم بأنَّهم هم الفائزونَ في الدُّنيا والآخرةِ .
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا
أي: وما يعِدُ الشَّيطانُ أولياءَه إلَّا باطلًا وأوهامًا خادعةً لا حقيقةَ لها .
فإنَّه إذا حَصْحَصَ الحقُّ وصاروا إلى الحاجةِ إليه، قال لهم عدوُّ الله: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 22] .
وكما قال للمُشركين ببدرٍ وقد زيَّن لهم أعمالَهم: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ [الأنفال: 48] ، وحَصْحَصَ الحقُّ، وعايَن جِدَّ الأمرِ، ونزولَ عذابِ الله بحزبِه، نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 48] ، فصارَتْ عِداتُه إيَّاهم عند حاجتِهم إليه غرورًا، كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ [النور: 39] .
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
أي: إنَّ هؤلاء الَّذين اتَّخَذوا الشَّيطانَ وليًّا مِن دونِ الله تعالى، مصيرُهم الَّذي يَصِيرون إليه ومآلُهم ومستقَرُّهم يومَ حسابهم: نارُ جهنَّمَ .
وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا
أي: لا يَجِدون عن جَهنَّمَ ملجأً ولا مفرًّا، ولا خَلاصًا منها، بل هم خالِدون فيها .
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى ما للكفَّار ترهيبًا، أتبَعَه ما لغيرِهم ترغيبًا، فكما رتَّبَ تعالى مصيرَ مَن كان تابعًا لإبليس إلى النَّار؛ لإشراكِه وكفرِه، وتغييرِ أحكامِ الله تعالى، رتَّب هنا دخولَ الجنَّةِ على الإيمانِ وعملِ الصَّالحاتِ ، فقال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أي: إنَّ المؤمنين باللهِ تعالى وملائكتِه وكُتُبِه ورسُلِه واليومِ الآخِرِ، والقَدَرِ خيرِه وشرِّه على الوجهِ الَّذي أُمِروا به عِلمًا وتصديقًا وإقرارًا، الَّذين يعمَلون الأعمالَ الصَّالحة مِن واجباتٍ ومستحبَّاتٍ على القلب، واللِّسانِ، وبقيَّةِ الجوارحِ، يَعمَلونها خالصةً لله عزَّ وجلَّ، وعلى هَدْيِ رسولِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ .
سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
أي: سوف يُدخِلُهم اللهُ تعالى يومَ القيامةِ- جزاءً لهم- دارَ النَّعيمِ، الَّتي فيها ما لا عينٌ رأَتْ، ولا أُذنٌ سمِعَتْ، ولا خطَرَ على قلبِ بشَرٍ، تَجري من تحت أشجارِها وقُصورِها أنهارٌ متنوِّعة .
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
أي: ماكثين فيها أبدًا بلا زوالٍ ولا انتقالٍ .
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا
أي: هذا وعدٌ مِن الله تعالى واقعٌ لا محالةَ، لا كعِدَةِ الشَّيطانِ الكاذبةِ الَّتي وعَدَها أولياءَه .
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا
أي: لا أحدَ أصدَقُ مِن الله تعالى قولًا وخبرًا

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- فضيلةُ الأمرِ بالإصلاحِ بين النَّاس؛ قال سبحانه: أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
.
2- فضيلةُ الأمر بالمعروف؛ حيث قرَنه اللهُ تعالى بالأمر بالصَّدقةِ؛ لقوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ .
3- قال الله تعالى: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، والإصلاحُ لا يكونُ إلَّا بين مُتنازعَيْنِ مُتخاصمَيْنِ، والنِّزاعُ والخِصامُ والتَّغاضُبُ يوجِبُ مِن الشَّرِّ والفُرقةِ ما لا يمكِنُ حصرُه؛ فلذلك حثَّ الشَّارعُ على الإصلاحِ بين النَّاسِ في الدِّماءِ والأموالِ والأعراضِ، بل وفي الأديانِ .
4- وجوبُ العناية بالإخلاصِ؛ فمع أنَّ هذه المذكوراتِ في قوله: أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ أعمالٌ في غاية الشَّرفِ والجلالةِ، والخيرَ وصفٌ ثابتٌ لها؛ لِمَا فيها من المنافعِ؛ ولأنَّها مأمورٌ بها في الشَّرعِ- إلَّا أن الثَّوابَ لا يحصُلُ إلَّا عن فعلِها ابتغاءَ مرضاةِ اللهِ، ولا ينتفعُ بها المرءُ إلَّا إذا أتى بها لوجه الله؛ فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا، فأمَّا إذا أتى بها للرِّياءِ والسُّمعةِ انقلَبَتْ فصارت مِن أعظمِ المفاسدِ. وأيضًا فكمالُ الأجرِ وتمامُه بحسَب النِّيَّةِ والإخلاص؛ فلهذا ينبغي للعبدِ أن يقصِدَ وجهَ الله تعالى، ويُخلِصَ العملَ لله؛ ليحصُلَ له بذلك الأجرُ العظيمُ .
5- أنَّ الإيمانَ وحده لا يكفي، بل لا بدَّ من عملٍ، وأنَّ العمَلَ وحده لا يكفي، بل لا بدَّ من إيمانٍ، فلا يستحقُّ الجنَّةَ إلَّا مَن جمَع بين الإيمانِ والعملِ الصَّالح، وإذا ذُكِرَ ثوابُ الجنَّةِ مقيَّدًا أو معلَّقًا بالإيمانِ وحده، فالمرادُ بذلك الإيمانُ المتضمِّنُ للعملِ الصَّالحِ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .
6- أنَّ العملَ لا ينفَعُ صاحبَه إلَّا إذا كان صالحًا، والعملُ الصَّالحُ هو: الخالصُ الصَّوابُ، أي: ما ابتُغِيَ به وجهُ الله، وكان على شريعةِ الله؛ قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- في قول الله تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ الصَّدقةُ، والمعروفُ، والإصلاحُ بين النَّاس، هذه الثَّلاثةُ لو لم تُذكَرْ، لدخَلَتْ في القليلِ من نجواهم، الثَّابتِ له الخيرُ، فلمَّا ذُكِرَتْ بطريقِ الاستثناءِ علِمْنا أنَّ نَظْمَ الكلام جرى على أسلوبٍ بديع، فأخرج ما فيه الخيرُ مِن نجواهم ابتداءً بمفهومِ الصِّفة، ثمَّ أُريدَ الاهتمامُ ببعض هذا القليلِ مِن نجواهم، فأُخرِجَ مِن كثيرِ نجواهم بطريقِ الاستثناءِ، فبقي ما عدا ذلك مِن نجواهم- وهو الكثيرُ- موصوفًا بأنْ لا خيرَ فيه
.
2- المعروفُ يَندرجُ تحته الصَّدقةُ والإصلاحُ، لكنَّهما جُرِّدا منه في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ، واختصَّا بالذِّكر لعِظَمِ أهميَّتِهما .
3- في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ فضيلة الصَّدَقةِ، وجهُ ذلك: أنَّه إذا كان الآمِرُ بالصَّدقةِ في أمرِه خيرٌ، ففاعلُ الصَّدقةِ مِن بابِ أَوْلى .
4- الحِكمةُ في كونِ النَّجوى مظِنَّةَ الشَّرِّ في الأكثرِ، هي أنَّ العادةَ الغالبةَ وسُنَّةَ الفِطرةِ المتَّبَعة هي استحبابُ إظهارِ الخيرِ والتَّحدُّثِ به في الملأِ، وأنَّ الشَّرَّ والإثمَ هو الَّذي يخفى، ويُذكَرُ في السِّرِّ والنَّجوى؛ لذا قال تعالى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ .
5- مَعْرُوفٍ المعروفُ هو الإحسانُ والطَّاعةُ، وكلُّ ما عُرِف في الشَّرعِ والعقلِ حُسْنُه، وإذا أُطلِق الأمرُ بالمعروف من غيرِ أن يُقرَنَ بالنَّهيِ عن المُنكَرِ، دخَل فيه النَّهيُ عن المُنكَر؛ وذلك لأنَّ تَرْك المنهيَّاتِ مِن المعروفِ، وأيضًا لا يتمُّ فعلُ الخيرِ إلَّا بترك الشَّرِّ، وأمَّا عند الاقترانِ فيُفسَّرُ المعروفُ بفعل المأمورِ، والمُنكَرُ بترك المَنْهِيِّ .
6- في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ بيانُ أنَّ هذه الأمورَ الثَّلاثةَ فيها خيرٌ وإن فعَلها الإنسانُ مِن غيرِ استحضارِ نيَّةٍ، وجهُه: أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا نفى الخيرَ في كثيرٍ من النَّجوى استثنى هذه الثَّلاثةَ، ثمَّ قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا .
7- أنَّه يصحُّ إطلاقُ الفعلِ على القولِ، وتؤخذُ مِن قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، مع أنَّ الَّذي حصَل أمرٌ بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ .
8- إثباتُ صفاتِ الفعلِ في قوله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا .
9- في قوله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا أنَّه لا يَنبغي للإنسانِ أنْ يستعجِلَ الثَّوابَ؛ إذ قد يؤخِّرُ اللهُ الثَّوابَ لحكمةٍ؛ فَسَوْفَ دَّالَّةٌ على التَّسويفِ، وهي تدلُّ أيضًا على التَّحقيقِ؛ ولهذا لا ينبغي استعجالُ ثوابِ اللهِ، وإجابةِ اللهِ تعالى للدُّعاء .
10- عِظَمُ ثوابِ مَن فعَل ذلك ابتغاءَ وجهِ الله؛ لقوله: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا؛ لأنَّ تعظيمَ الشَّيءِ مِن العظيمِ يدلُّ على عظَمتِه .
11- تحريمُ مُشاقَّةِ الرَّسولِ، وأنَّها مِن كبائر الذُّنوب، وجهُه: أنَّه رتَّب عليها العقوبةَ، وهي: التَّخلِّي عنه، وصَلْيُه جهنَّمَ: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ... .
12- العُذْرُ بالجهل؛ لقوله: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى، فلو أنكَر الإنسانُ شيئًا ممَّا جاء به الرَّسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام، وصار يُحاجُّ عليه، لكنَّه جاهلٌ، فإنَّه معذورٌ؛ لأنَّ الآيةَ صريحةٌ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى . ودلَّت الآيةُ أيضًا على أنَّه مع التَّردُّدِ لا تقومُ الحُجَّةُ، لكنْ على الإنسانِ أن يتبيَّنَ، فالذين لا يطلُبون التَّبيُّنَ، هم مُفرِّطون بلا شكٍّ، ولا يُعذَرون بجهلِهم .
13- أنَّ ما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فهو هُدًى ونورٌ، ويتبيَّنُ بأنْ يتأمَّلَ الإنسانُ ما جاء به الرَّسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام من العباداتِ والأخلاقِ والمعاملاتِ وغيرِ هذا، فإذا تأمَّله بعِلمٍ وعدلٍ- يعني: كان مُنصِفًا- تبيَّن له الحقُّ، وعرَفَ أنَّ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو الحقُّ؛ قال تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى .
14- قول الله تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ، فيه دَلالةٌ على أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ؛ لأنَّه لا يُتوعَّدُ إلَّا على مخالَفةِ الحقِّ ؛ فالأمَّةُ إذا أجمَعَتْ على شيءٍ فإنَّه حقٌّ ، وسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مفردٌ مضافٌ، يشمَلُ سائرَ ما المؤمنونَ عليه من العقائدِ والأعمالِ، فإذا اتَّفقوا على إيجابِ شيءٍ أو استحبابِه، أو تحريمِه أو كراهتِه، أو إباحتِه- فهذا سبيلُهم؛ فمن خالَفهم في شيءٍ من ذلك بعد انعقادِ إجماعِهم عليه، فقد اتَّبَع غيرَ سبيلِهم .
15- مَن لم يُشاقِقِ الرَّسولَ، واتَّبعَ سبيلَ المؤمِنين، بأن كان قصدُه وجهَ اللهِ واتِّباعَ رسولِه ولزومَ جماعةِ المسلمين، ثمَّ صدَر منه مِن الذُّنوبِ أو الهمِّ بها ما هو من مقتضياتِ النُّفوس، وغَلَبات الطِّباعِ، فإنَّ اللهَ لا يُولِّيه نفسَه وشيطانَه، بل يتدارَكُه بلُطفِه، ويمُنُّ عليه بحفظِه، ويعصِمُه من السُّوءِ، دلَّ على ذلك مفهومُ قولِه تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا .
16- قول الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ، يدلُّ على أنَّه يجبُ الاقتداءُ بالرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام في أفعالِه؛ إذ لو كان فعلُ الأمَّةِ غيرَ فعلِ الرَّسول لزِم كونُ كلِّ واحدٍ منهما في شقٍّ آخرَ مِن العمل، فتحصُلُ المُشاقَّةُ، لكنَّ المُشاقَّةَ محرَّمةٌ، فيلزَمُ وجوبُ الاقتداءِ به في أفعاله .
17- أنَّ سبيلَ المؤمنين طاعةُ الرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنه قال: وَمَنْ يُشَاقِقِ، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، إذًا: سبيلُ المؤمنين هي عدمُ المُشاقَّة، وهو كذلك، وكلَّما كان الإنسانُ أقوى إيمانًا، كان أقوى اتِّباعًا لرسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ .
18- كرَّر اللهُ تعالى قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ مرَّتينِ في هذه السُّورة، وكان بين الآيتين ذِكرُ قتلِ النَّفس، وقد قال أهلُ العلم: إنَّ قاتلَ النَّفس له توبةٌ، واستدلُّوا لذلك بأنَّ الله ذكَر قَتْلَ النَّفس بين آيتين كلتاهما تدلُّ على أنَّ ما سوى الشِّرك فاللهُ تعالى يغفِرُه .
19- قوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا، وفي الآية الأولى: فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا، فيؤخذُ مِن مجموعِ الآيتينِ أنَّ المشركَ مُفتَرٍ ضالٌّ، وهو كذلك؛ لأنَّ دَعْواه أنَّ لله شريكًا كذِبٌ وافتراءٌ عظيمٌ، وكونُه يَبني على هذه الدَّعوى أن يُشرِكَ بالله يكونُ هذا ضلالًا، فمجرَّدُ قوله: إنَّ اللهَ له شريكٌ، افتراءٌ، ثمَّ تطبيقُ ذلك في عملِه يُعتبَرُ ضلالًا، فيُؤخَذ من الآيتين الكريمتين: أنَّ المُشرِكَ مُفتَرٍ ضالٌّ .
20- قول الله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا، كنى بالدُّعاءِ عن العبادةِ؛ لأنَّ مَن عبَد شيئًا دعاه عند حوائجِه ومصالحه، وما أنسَبَ التَّعبيرَ لعبَّاد الأوثانِ عن العبادة بالدُّعاءِ، إشارة إلى أنَّ كلَّ معبودٍ لا يُدعى في الضَّروراتِ فيسمَع، فعابدُه أجهلُ الجَهَلةِ .
21- أنَّ الطَّاعةَ تُسمَّى دُعاءً وعِبادةً؛ لقوله: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطانًا مَرِيدًا .
22- التَّحذيرُ مِن الانصياعِ لأوامرِ مَن لَعَنَه اللهُ؛ لأنَّ هذه الجملةَ في قوله: لَعَنَهُ اللَّهُ كالتَّعليلِ لذَمِّهم حينما عبَدوا الشَّيطانَ .
23- إثباتُ القولِ للشَّيطان، وأنَّه يقولُ كما أنَّه يفعَلُ أيضًا، وقد أخبَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يأكل ويشربُ بشِماله؛ فهو يقولُ ويفعلُ ويُمَنِّي ويعِدُ ويضُرُّ .
24- أنَّ نصيبَ الشَّيطانِ من عباد الله مفروضٌ، أي: مُقدَّرٌ لا بدَّ أن يكونَ؛ قال سبحانه وتعالى: وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا .
25- أنَّ الشَّيطانَ أقسَم قَسَمًا مؤكَّدًا أن يُضِلَّ هؤلاء النَّصيبَ الَّذين فُرِضوا له، وهذا القَسَمُ له مدلوله، فيتفرَّعُ عليه أنَّه يجبُ علينا أن نحذَرَ مِن وساوسِ الشَّيطانِ؛ لأنَّها كلَّها ضلالٌ؛ لقوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ .
26- أنَّ هذا الإضلالَ الَّذي يقعُ مِن الشَّيطانِ لبني آدمَ مصحوبٌ بالأمنِيَّاتِ، بمعنى أنَّه يُدخِلُ عليهم الأمانيَّ وأنَّهم ينالون خيرًا، وأنَّ المعاصيَ لا تضُرُّهم، وأنَّ التَّوبةَ قريبةٌ، وما أشبَهَ ذلك، قال تعالى حاكيا عنه: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ .
27- قول الله تعالى: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ، بدأ بالأمرِ بالتَّبتيكِ، وإن كان مندرجًا تحت عمومِ التَّغييرِ لخَلقِ اللهِ؛ ليكونَ ذلك استدراجًا لِمَا يكونُ بعده من التَّغييرِ العامِّ، واستيضاحًا من إبليسَ طواعيتَهم في أوَّلِ شيءٍ يُلقيه إليهم، فيَعلَمَ بذلك قَبولَهم له، فإذا قبِلوا ذلك أمَرَهم بجميع التَّغييراتِ الَّتي يُريدُها منهم؛ كما يفعلُ الإنسانُ بمن يقصِدُ خداعَه: يأمُرُه أوَّلًا بشيءٍ سهلٍ، فإذا رآه قد قبِل ما ألقاه إليه من ذلك، أمَره بجميعِ ما يُريدُ منه .
28- في قوله تعالى: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ أنَّ الأصلَ في تغيير خَلْقِ الله المنعُ؛ لأنَّه من أوامرِ الشَّيطانِ .
29- أنَّه لولا وعودُ الشَّيطانِ لَمَا عُنِيَ أولياؤُه بنَشْرِ مذاهبِهم الفاسدةِ وآرائِهم وأضاليلِهم، الَّتي يَبتغون بها الرِّفعةَ والجاهَ والمال، وهؤلاء موجودون في كلِّ زمان، ويُعرَفون بمقاصدِهم، وقد دلَّ على هذا ما قبله، ولكنَّه ذكَرَه ليصِلَ به قولَه: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا .
30- في قوله تعالى: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا أنَّ مرجعَ الطَّائعينَ للشَّيطانِ جهنَّمُ، وأنَّه لا يمكِنُ أن يخرُجوا منها، ويكونُ ذلك على مَن أطاعوه طاعةً مُطلَقةً، أمَّا مَن أطاعوه في بعضِ المعاصي فإنَّ مذهبَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ أنَّهم لا يُخلَّدون في النَّار، وإنَّما يُعذَّبون بقدر أعمالِهم، ثمَّ يُخرَجون من النَّارِ .
31- جوازُ الشَّهادة لكلِّ مؤمنٍ عمِل الصَّالحات بأنَّه يدخُلُ الجنَّةَ؛ لقوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ، ثمَّ قال: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، وهذا على سبيلِ العموم، فإنَّنا نشهَدُ لكلِّ مؤمنٍ عاملٍ للصَّالحاتِ أنَّه سيدخُلُ الجنَّةَ، لكن لا نُطبِّقُ الشَّهادةَ هذه على جميع أفراد العموم .
32- قول الله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أكثَرَ مِن التَّأكيدِ هنا؛ لأنَّه في مقابلةِ وعدِ الشَّيطان، ووعدُ الشَّيطان موافِقٌ للهوى الَّذي طُبِعَتْ عليه النُّفوسُ، فلا تنصرِفُ عنه إلَّا بعُسرٍ شديدٍ .
33- قال تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، فصدَق اللهُ العظيمُ الَّذي بلَغ قولُه وحديثُه في الصِّدق أعلى ما يكونُ؛ ولهذا لَمَّا كان كلامُه صِدقًا وخبرُه حقًّا، كان ما يدلُّ عليه مطابَقةً وتضمُّنًا وملازمةً كلُّ ذلك مرادًا مِن كلامه، وكذلك كلامُ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لكونه لا يُخبِر إلَّا بأمرِه، ولا ينطِقُ إلَّا عن وحيِه

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا فيه: التفاتٌ من الغَيبة في قوله: ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ إلى التَّكلُّم بقوله: نُؤْتِيهِ- على قِراءة الجُمهورِ بالنُّونِ-؛ ليُناسِبَ ما بَعدَه من قولِه: نُوَلِّهِ مَا تَولَّى وَنُصْلِهِ، فيكون إسنادُ الثوابِ والعِقابِ إلى ضميرِ المتكلِّمِ العَظيمِ، وهو أبلغُ مِن إسنادِه إلى ضميرِ الغائبِ
.
2- قوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ: فيه عَطْفُ اتِّباعِ غَيْرِ سبيلِ المُؤمنينَ على مُشاقَّةِ الرَّسولِ في قوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى على سَبيلِ التَّوكيدِ والتَّشنيعِ، وإلَّا فمَن يُشاقِقُ الرَّسولَ هو متَّبِعٌ غيرَ سبيلِ المؤمنين ضرورةً، ولكنَّه بدأ بالأعظمِ في الإثم، وأتْبَعَ بلازمِه توكيدًا، وفائدتُه أيضًا الحَيْطَة لحفِظِ الجامِعةِ الإسلاميَّةِ بعدَ الرسولِ؛ فقد ارتدَّ بعضُ العَرَبِ بعد الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فكانوا ممَّن اتَّبَعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ ولم يُشاقُّوا الرَّسولَ .
3- قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا: استئناف ابتدائيٌّ، جُعِل تمهيدًا لِمَا بعده مِن وصفِ أحوال شِركِهم .
- وقوله: لَا يَغْفِرُ، ويَغْفِرُ... لِمَنْ يَشَاءُ فيه: تكرارٌ للتَّأكيدِ، والتَّشديدِ .
- وقوله: يُشْرَكَ، ووَمَنْ يُشْرِكْ فيه: تكرارٌ ، وهو يُفيدُ التَّأكيدَ.
- وقوله: فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا: فيه تأكيدُ الخبرِ بحرف (قد)؛ اهتمامًا به؛ لأنَّ المواجَهَ بالكلامِ هنا المؤمِنون، وهم لا يَشكُّون في تحقُّقِ ذلك .
4- قوله: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا بيانٌ وتفصيلٌ بعدَ الإجمال في قوله: فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا .
- قوله: إِلَّا إِنَاثًا إيرادُها بهذا الاسم؛ للتَّنبيهِ على فَرْطِ حماقةِ عَبَدتِها، وتَنَاهِي جهلِهم .
- وقوله تعالى: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا عبَّر بصيغةِ "فعيل" مَرِيدًا- أي: عاتيًا صُلْبًا عاصيًا ملازمًا للعِصيان- الَّتي هي للمُبالغةِ في سياقِ ذمِّهم؛ تنبيهًا على أنَّهم تَعبَّدوا لِمَا لا إلباسَ في شَرِّه .
5- قوله: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا: الجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لِمَا قبلها؛ فقد دلَّ على أنَّ ما دعاهم إليه الشَّيطانُ: مِن تَبْتِيكِ-أي: تَقطيع- آذانِ الأنعامِ، وتغييرِ خَلْقِ الله، إنَّما دعاهم إليه؛ لِمَا يقتضيه من الدَّلالةِ على استشعارِهم بشِعاره، والتَّديُّنِ بدعوتِه .
6- قوله: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا استئنافٌ لبيانِ أنَّه أنجَز عزمَه، فوعَد ومنَّى وهو لا يزالُ يعِدُ ويُمنِّي؛ فلذلك جِيءَ بالمضارعِ .
- وجملة: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ تأكيدٌ لقوله: وَلَأَمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ .
- وفيه تَكرارُ فِعْل يَعِدُهُمْ ، وهو يُفيد التَّأكيدَ على كثرةِ وعودِه الكاذبةِ.
- وقوله: وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا: فيه إظهارٌ لِلَفْظة الشَّيْطَانُ في موضعِ الإضمار، وكان مُقتضى السِّياقِ أن يقولَ: (وما يعِدُهم إلَّا غرورًا)، لكنَّه أظهرَ في مقام الإضمارِ؛ لإظهارِ عداوتِه؛ كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] .
7- قوله: أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ: جِيءَ باسم الإشارة أُولَئِكَ؛ لتنبيه السَّامعين إلى ما يرِدُ بعدَ اسمِ الإشارةِ من الخبرِ، وأنَّ المشارَ إليهم جَديرونَ به عقِبَ ما تَقدَّم مِن ذِكرِ صِفاتهم .
8- قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ فيه إسنادُ الفِعلِ إلى نونِ العظَمةِ؛ اعتناءً بأنَّه تعالى هو الَّذي يتولَّى إدخالَهم الجنَّةَ، وتشريفًا لهم .
9- قوله: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا: كلمة حَقًّا مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ جملة: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ؛ إذ هذا في معنى الوَعدِ، أي: هذا الوعدُ أُحقِّقُه حقًّا، أي: لا يتخلَّفُ .
10- قوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا: الاستفهامُ فيه غَرضُه الإنكارُ .
- والجملةُ تذييلٌ للوعدِ، وتحقيقٌ له، وهي جملةٌ مؤكِّدةٌ بليغةٌ، وفائدةُ هذه التَّوكيداتِ معارَضَةُ مواعيدِ الشَّيطانِ الكاذبةِ لقُرنائِه بوعدِ اللهِ الصَّادقِ لأوليائِه، والمبالغةُ في تأكيدِه؛ ترغيبًا للعبادِ في تَحصيلِه .


=======10.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (123-126)
ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ
غريب الكلمات:

بِأَمَانِيِّكُمْ: الأمانيُّ: الأكاذيبُ، ومَا يتمنَّاه الإنسانُ ويَشتهيه أيضًا، والأُمْنِيَّة- وهي التِّلَاوةُ المُجرَّدة عن المعرفة- تَجري عند صاحبِها مَجرَى أمنيَّةٍ متمنَّاة على التَّخمينِ
.
وَلِيًّا: أي: نصيرًا، وأصل (وَلِيَ) يدلُّ على القُرْب، سواءٌ من حيث: المكانُ، أو النِّسبة، أو الدِّين، أو الصَّداقة، أو النُّصرة، أو الاعتقاد، وكلُّ مَن وَلِيَ أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه .
نَقِيرًا: النَّقير: النُّقرة الَّتي في ظَهرِ النَّواة، ويُضرَبُ به المَثَلُ في الشَّيء الطَّفِيف، والنَّقر: قرعُ الشَّيء المُفضِي إلى النَّقب .
مِلَّةَ: المِلَّة: الدِّين، والطَّريقة، ويعبَّر بها عن أُصولِ الشَّرائع، مشتقَّة مِن أملَلْت (أي أملَيْت)؛ لأنَّها تُبنَى على مَسموعٍ ومتلوٍّ، فإذا أُرِيد الدِّينُ باعتبارِ الدُّعاءِ إليه قِيل: مِلَّة، وإذا أُريد باعتبارِ الطَّاعةِ والانقيادِ له قيل: (دِين) .
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا: أي: اتَّخذَه وليًّا يَنصْرُه على مَن أرادَه بِسُوءٍ، وخليل: فَعيل بمعنى الخُلَّة، وهي: الصَّداقة والمودَّة؛ إمَّا لأنَّها تتخلَّلُ النَّفسَ، أي: تتوسَّطُها، أو توحيد المحبَّةِ، وهي رُتبةٌ لا تقبَلُ المشارَكةَ، وأصل (خلل): دِقَّة أو فُرْجَة .
مُحِيطًا: أي: عالِمًا، والإحاطةُ بالشَّيء هي العِلْم بوجودِه، وجِنسه، وقَدْره، وكيفيَّته، وغرَضِه المقصودِ به، وبإيجاده، وما يكون به ومِنه؛ وذلك ليس إلَّا لله تعالى

.
مشكل الإعراب:

قوله: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ:
بِأَمَانِيِّكُمْ الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصْبٍ خبَرُ لَيْسَ، واسم لَيْسَ مُضمَر، تقديرُه: (ذلِك)، يَعودُ على الجزاءِ المفهومِ مِن قَوْلِهِ: يُجْزَ بِهِ، أي: ليس الجزاءُ تابعًا لأمانيِّ النَّاسِ ومُشتهاهم، بل هو أمْرٌ مُقَدَّرٌ مِن الله تعالى تقديرًا بِحَسَبِ الأعمالِ، وقيل: يعودُ المُضمَر على وَعْدَ اللَّهِ، أى: ليس يُنالُ ما وعدَ اللَّه من الثَّوابِ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا بأَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، وقيل غيرُ ذلك

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخاطب اللهُ المسلمين قائلًا لهم: إنَّ حصولَ النَّجاة والظَّفَرِ ليس بمجرَّدِ تمنِّيكم لها، ولا هي حاصلةٌ لأهل الكتابِ بمجرَّدِ أمانيِّهم، فإنَّ مَن يعمَلُ سوءًا يُجازى عليه، ولا يجدُ له أحدًا مِن دون الله يواليه، أو ينصُرُه.
ومَن يعمَل الأعمالَ الصَّالحةَ، سواءٌ كان ذكرًا أم أنثى، وهو مؤمنٌ بالله ورسولِه، فأولئك يدخلون الجنَّةَ، ولا يُظلَمون شيئًا ولو قلَّ، حتَّى ولو مقدارَ النُّقرةِ الَّتي تكونُ على ظهر نواةِ التَّمرِ.
ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّه لا أحدَ أحسنُ دِينًا ممَّن أخلَص لله عزَّ وجلَّ، وهو متَّبِعٌ شرعَ الله تعالى، واتَّبعَ دِينَ وطريقة إبراهيمَ عليه السَّلام، مائلًا عن الشِّركِ، مستقيمًا على التَّوحيدِ، واتَّخَذ اللهُ إبراهيمَ خليلًا.
وللهِ جميع ما في السَّموات والأرضِ، وقد أحاط عِلمُه بكلِّ شيءٍ سبحانه وتعالى.
تفسير الآيات:

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ
أي: لا يَحصُلُ لكم- أيُّها المسلِمون ولا لليهود والنَّصارى- النَّجاةُ والظَّفَرُ بمجرَّدِ تمنِّي ذلك
.
ومِن أمانيِّ أهلِ الكتابِ الَّتي أخبَر اللهُ تعالى عنها، قولُهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة: 111] .
مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ
أي: إنَّ كلَّ مَن يعملُ منكم- أيُّها المسلمون أو مِن أهلِ الكتاب- سوءًا صغيرًا أو كبيرًا، فإنَّه يُجازى به، سواءٌ كان جزاءً قليلًا أم كثيرًا، دُنيويًّا، أم أُخرويًّا .
قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8].
وعن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه قال: ((لَمَّا نزلتْ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ بلغتْ مِن المسلمين مَبلغًا شديدًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قارِبوا وسدِّدوا؛ ففي كلِّ ما يصابُ به المسلمُ كفَّارةٌ، حتَّى النَّكبةِ يُنكَبُها، أو الشَّوكةِ يُشاكُها )) .
وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
أي: ولا يَجِد الَّذي يَعمل سوءًا أحدًا سوى الله تعالى يَلِي أمرَه، ويُحصِّل له ما يطلبُه، ولا يجِد ناصرًا سوى الله تعالى ينصُرُه ويدفَعُ عنه ما يحذَرُه .
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى الجَزاءَ على السَّيِّئاتِ، وأنَّه لا بدَّ أن يأخُذَ مستحَقَّها مِن العبدِ إمَّا في الدُّنيا- وهو الأجود له- وإمَّا في الآخرةِ، شرَعَ في بيان إحسانِه وكرَمِه ورحمتِه في قَبولِ الأعمالِ الصَّالحة من عبادِه فقال:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
أي: ومَن يعمَلِ الأعمالَ الصَّالحة، قلبيَّةً كانت أو بدنيَّةً، مِن ذُكور العِبادِ وإناثهم، وهو مؤمنٌ بي وبرَسولي محمَّد .
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: يَدْخُلُونَ قِراءتان :
1- قِراءة (يُدْخَلُونَ) على البِناءِ لـما لم يُسمَّ فاعلُه؛ لأنَّهم لا يَدخُلون الجنَّة حتَّى يُدخِلَهم اللهُ تعالى .
2- قراءة (يَدْخُلُونَ) بجَعْلِ الفِعل للدَّاخلين؛ لأنَّهم هم الدَّاخلون بأمرِ الله لهم .
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
أي: فإنَّ أصحاب هذه المنزلة العالية الَّذين جمَعوا بين الإيمانِ والعمل الصَّالح إنَّما يدخُلون الجنَّة بإذنِ الله تعالى، ويُنعَّمون فيها .
وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا
أي: ولا يَنقُصُ اللهُ تعالى هؤلاء الَّذين يعمَلون الصَّالحاتِ من ثوابِ عملِهم ولا مقدارَ النُّقرةِ الَّتي تكونُ في ظَهر النَّواة؛ فكيف بما هو أعظمُ من ذلك وأكثرُ؟! فهو سبحانه إنَّما يُوفِّيهم أجورَهم كما وعَدَهم .
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ أمرَ النَّجاة- بل السَّعادة- منُوطٌ بالعملِ والإيمان معًا، وذكرَ ثواب المؤمنينَ- أعقَبه بتفضيلِ دِينهم، وبيانِ أنَّ صفوةَ الأديانِ الَّتي ينتحلُها النَّاسُ هي مِلَّةُ إبراهيمَ في إخلاصِ التَّوحيدِ وإحسانِ العملِ، وهو الدِّين القيِّمُ، ودرجةُ الكمالِ في ذلك ، فقال:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ
أي: لا أحدَ أصوبُ طريقًا وأصلحُ عملًا ممَّن أخلَص للهِ عزَّ وجلَّ، وانْقادَ له بالطَّاعةِ .
وَهُوَ مُحْسِنٌ
أي: وهو مع هذا الإخلاصِ في العملِ، متَّبِعٌ شَرْعَ اللهِ تعالى فيه .
وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
أي: واتَّبَع دِينَ وشرْعَ إبراهيمَ عليه السَّلام، مائلًا عن الشِّركِ، وعن التَّوجُّهِ للخَلْق مستقيمًا على التَّوحيدِ، مقبلًا بكُلِّيَّتِه على الخالقِ جلَّ وعلا .
كما قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68].
وقال سبحانه: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 161] .
وقال عزَّ وجلَّ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] .
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا
أي: واتَّخَذ اللهُ إبراهيمَ وليًّا قد وصَل إلى غايةِ ما يتقرَّبُ به العبادُ له، وانتهى إلى درجة الخُلَّةِ، الَّتي هي أرفعُ مقاماتِ المحبَّةِ الخالِصةِ لله تعالى .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر الله تعالى الخُلَّة لإبراهيمَ، ذكَر أنَّه مع الخُلَّةِ عبدُ الله، وأنَّ الخُلَّة ليست لاحتياجٍ، كما تكون خُلَّةُ الآدميِّينَ، وكيف يُعقَلُ ذلك وله مُلكُ السمَّواتِ والأرض؟! وما كان كذلك، فكيف يُعقَل أن يكونَ محتاجًا إلى البشر الضَّعيفِ؟! وإنما هي خُلَّةُ تشريفٍ منه تعالى لإبراهيمَ عليه السَّلام مع بقائِه على العبوديَّة .
وأيضًا لَمَّا ذكَر الله تعالى الوعدَ والوعيدَ، ولا يُمكنُ الوفاءُ بهما إلَّا عند حصولِ أمرين: أحدهما: القدرةُ التَّامَّة المتعلِّقة بجميع الكائنات والمُمكِنات، والثَّاني: العِلم التَّامُّ المتعلِّق بجميع الجزئيَّات والكلِّيَّات حتَّى لا يشتبهَ عليه المُطيعُ والعاصي، والمُحسنُ والمسيءُ- دلَّ على كمال قدرتِه بقولِه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وعلى كمالِ عِلمِه بقولِه: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا .
وأيضًا لَمَّا تقدَّم ذِكرُ عامل السُّوء وعامِل الصَّالحات، أخبَر بعظيمِ مُلكه، ومُلكه بجميع ما في السَّموات، وما في الأرض، والعالَمٌ مملوكٌ له، وعلى المملوكِ طاعةُ مالكِه ، فقال تعالى:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي يملِكُ وحْدَه جميعَ ما في السَّمواتِ وجميعَ ما في الأرضِ؛ فالجميعُ عبيدُه وخلْقُه، وهو المُتصرِّفُ فيهم، المُتفرِّدُ بتدبيرِهم .
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا
أي: لا تَخفى عليه خافيةٌ، ولا يغِيبُ عن عِلمِه مثقالُ ذرَّةٍ في السَّمواتِ ولا في الأرضِ، ولا أصغرُ مِن ذلك ولا أكبرُ، قد أحاط بكلِّ شيءٍ عِلمًا وقُدرةً، وسمعًا وبصرًا، وتدبيرًا وغيرَ ذلك

.
الفَوائِد التربويَّة:

1- أبطَل اللهُ الأمانيَّ، وأثبَت أنَّ الأمرَ كلَّه معقودٌ بالعملِ الصَّالح، وأنَّ مَن أصلَح عملَه فهو الفائزُ، ومَن أساء عملَه فهو الهالك؛ قال الله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا، فوجَب قطعُ الأمانيِّ، وحسمُ المطامعِ، والإقبالُ على العملِ الصَّالح
.
2- قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، الأعمالُ بدون الإيمان كأغصانِ شجرةٍ قُطِع أصلُها، وكبناءٍ بُنِي على موجِ الماءِ؛ فالإيمانُ هو الأصل والأساسُ والقاعدةُ الَّتي يُبنَى عليها كلُّ شيء، وهذا القيدُ ينبغي التَّفطُّنُ له في كلِّ عملٍ أُطلِقَ؛ فإنَّه مُقيَّدٌ به .
3- أنَّ التَّمنِّيَ لا يُجدي شيئًا؛ لقوله: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ .
4- أنَّ المصائبَ في الدُّنيا كفَّارات؛ لأنَّها نوعٌ من الجزاء، وقد أخبر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه ما من غمٍّ ولا همٍّ ولا حزنٍ يُصيب العبدَ إلَّا كُفِّر به عنه، حتَّى الشوكةُ إذا أصابَتْه فإنَّ اللهَ يُكفِّرُ بها عنه ؛ قال تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ .
5- أنَّه لا بدَّ لقَبولِ العمل أن يكونَ صالحًا؛ لقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، فإن كان فيه شِرْكٌ لم يُقبَلْ؛ لفواتِ الشَّرطِ، وهو الإخلاصُ، ومَن عمِل عملًا مبتدَعًا بإخلاصٍ تامٍّ، لكن ليس على شريعةِ الرسولِ، فإنَّه لا يُقبلُ منه؛ لأنَّه على غيرِ الاتِّباعِ .
6- يُرشِدُ قولُ الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، إلى أنَّ كمالَ الإيمانِ لا يحصُلُ إلَّا عند تفويضِ جميع الأمورِ إلى الخالقِ، وإظهارِ التَّبرِّي مِن الحَولِ والقوَّة، ويُنبِّهُ على فساد طريقةِ مَن استعان بغيرِ الله تعالى .
7- الحثُّ على الإخلاص؛ لقوله: مِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ .
8- دلَّ قولُ الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا على أنَّ إبراهيمَ- عليه السَّلام- إنَّما كان بهذا المنصبِ العالي، وهو كونه خليلًا لله تعالى، بسبب أنَّه كان عاملًا بتلك الشَّريعة، وذلك يُفيد التَّرغيبَ العظيم َفي هذا الدِّين، والعملَ بهذا الشَّرعِ للفوز بأعظمِ المناصِبِ في الدِّين .
9- إحاطةُ الله تعالى بكلِّ شيء؛ لقوله: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا، ويترتَّب على هذه الفائدة فائدةٌ مسلكيَّةٌ مهمَّة، وهي أنه متى شعَرَتِ النَّفسُ أنَّ لله ما في السَّموات وما في الأرض، وأنَّه بكلِّ شيء محيطٌ، لا ينِدُّ شيءٌ عن عِلمِه ولا عن سلطانه- كان هذا باعثَها القويَّ إلى إفرادِ الله سبحانه بالألوهيَّةِ والعبادةِ، وإلى محاولةِ إرضائِه باتِّباعِ منهجه وطاعةِ أمْره، وأورثَ النَّفسَ الخوفَ مِن اللهِ وخشيتَه ومراقبتَه؛ لأنَّك مهما كنتَ في أيِّ مكانٍ فاللهُ محيطٌ بك، ويعلَمُ حتَّى ما في قلبِك

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- قول الله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ذكَر المسلمينَ في الأمانيِّ؛ لقَصدِ التَّعميمِ في تفويضِ الأمورِ إلى ما حكَم اللهُ ووعَد، وأنَّ ما كان خلافَ ذلك لا يُعتَدُّ به، وما وافقه هو الحقُّ، والمَقْصِد المهِمُّ هو قوله: وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ على نحو: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24]
.
2- مجرَّدُ الانتسابِ إلى أيِّ دينٍ كان، لا يُفيد شيئًا إن لم يأتِ الإنسانُ ببرهانٍ على صحَّة دعواه؛ فالأعمالُ تُصدِّقُ الدَّعوى أو تُكذِّبُها؛ ولهذا قال تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ .
3- قال تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ مَن كان عملُه صالحًا، وهو مستقيمٌ في غالب أحوالِه، وإنَّما يصدُرُ منه بعضَ الأحيانِ بعضُ الذُّنوب الصِّغارِ، فما يُصيبُه من الهمِّ والغمِّ والأذى والآلامِ في بدَنِه أو قلبِه أو حَبِيبه أو مالِه ونحو ذلك- فإنَّها مُكفِّرات للذُّنوبِ، وهي ممَّا يُجزَى به على عملِه، قيَّضها الله لطفًا بعباده .
4- أَنَّ في هاتينِ الآيتينِ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ووَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ من العِبرة والموعظةِ ما يدُكُّ صروحَ الأمانيِّ ومعاقلَ الغرورِ، الَّتي يأوي إليها ويتحصَّنُ فيها الكُسالى والجُهَّال والفُسَّاق من المسلمينَ، الَّذين جعلوا الدِّين كالجنسيَّةِ السِّياسيَّة، وظنُّوا أنَّ الله العزيزَ الحكيمَ يحابي مَن يسمِّي نفسَه مسلِمًا، ويفضِّلُه على مَن يسمِّيها يهوديًّا أو نصرانيًّا بمجرَّد اللَّقَب، وأنَّ العبرةَ بالأسماءِ والألقابِ لا بالعِلم والعَمَل .
5- يُستفادُ من قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ .. العَدْلُ بين المتخاصمينِ، حتَّى وإنْ كان أحدُهما على حقٍّ والثَّاني على باطلٍ؛ فالواجبُ العدلُ، وأنْ يُحكَمَ لكلِّ واحدٍ بما يستحقُّ، وجه ذلك: نفيُ كونِ الشَّيء بالأمانيِّ بالنِّسبة للمُسلمين واليهود والنَّصارى، ثمَّ إثبات أنَّ مَن عمل سوءًا جُوزيَ به، وهذا غايةُ العدلِ .
6- الباء في قوله: بِأَمَانِيِّكُمْ للملابَسة، وليستْ للسَّببيَّة، أي: ليس الجزاءُ حاصلًا حصولًا على حسَبِ أمانيِّكم .
7- دلَّ قولُه تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ على أنَّ مَن عمِل سوءًا سيُجزَى به، ولكنَّ اللهَ تعالى قال في كتابه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وهذا يدلُّ على أنَّ مَن عمِل سوءًا قد يغفِرُ اللهُ له. ويُجاب عن ذلك بأنَّ قوله مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ المرادُ به التَّهديدُ، وهو مِن بابِ الوعيدِ، والعفوُ عن الوعيدِ مِن بابِ الكرمِ، وهو مدحٌ وليس بذمٍّ .
8- أنَّ الإنسانَ لا يُجازى بأكثرَ ممَّا عمِل من السُّوء؛ لقوله: يُجْزَ بِهِ، والباءُ هنا للعِوَضِ، أو للبدل، بخلاف مَن عمل حسنًا، فإنَّه يعطى أكثرَ؛ كما في آياتٍ أخرى .
9- كمالُ قوَّةِ الله تعالى وسُلطانِه؛ لقوله: وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا .
10- أنَّ القرآنَ الكريم- كما وصَفه اللهُ عزَّ وجلَّ- مثاني، أي: تُثَنَّى فيه الأمورُ، فإذا ذُكِر المؤمنُ ذُكِر الكافرُ، وإذا ذُكِر جزاءُ الكافر ذُكِر جزاءُ المؤمن، وهكذا، قال تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وذلك بعد قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ
11- أنَّه لا فرقَ بين الرِّجالِ والنِّساءِ فيما يستحقُّون مِن الجزاء، ووجهُ الدَّلالة: قولُه: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، ثمَّ ذكَر الجزاء فقال: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ .
12- قول الله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (مِن) الأُولى للتَّبعيض؛ لأنَّ كلَّ واحد لا يتمكَّنُ من عمل كلِّ الصَّالحات، وليس مُكلَّفًا بها ، وقيل «مِن» لبيان جنس العمل المبهَم، في قوله: وَمَنْ يَعْمَلْ فـ «من» هنا بيانيَّة .
13- في قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا جواز الشهادة لكلِّ مَن عمل صالحًا وهو مؤمن أنَّه في الجنَّة؛ لأنَّ هذا خبر من الله، والله تعالى لا يُخلِف وعدَه لكن الشَّهادة على سبيلِ العمومِ لا التَّعيينِ.
14- قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، لَمَّا كان المرادُ الإخلاصَ الَّذي هو أشرفُ الأشياءِ؛ عبَّر عنه بالوجه الَّذي هو أشرفُ الأعضاء .
15- الحثُّ على المتابعة للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لقوله تعالى: وَهُوَ مُحْسِنٌ .
16- قوله تعالى: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا فيه فضيلةُ إبراهيمَ عليه الصَّلاة والسَّلام؛ حيث أُمِرْنا باتِّباعِه، وهذا يعني: أنَّه إمامٌ؛ ولهذا يُطلِق عليه العلماءُ اسمَ أو لقبَ: إمام الحُنفاءِ .
17- في قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا الإشارةُ إلى أنَّ الخُلَّة أعلى رتبةً من المحبَّةِ؛ لاختصاص إبراهيمَ ومحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهما وسلَّمَ بها، ولو كانت بمعنى المحبَّة، أو في مرتبتِها، لكانت ثابتةً لجميع مَن يستحقُّ المحبَّةَ، ومِن المعلوم أنَّه لا يصحُّ أن تقول: إنَّ الله اتَّخذ المؤمنين أخلَّاء؛ لأنَّ الخُلَّة خاصَّة، ومن ثَمَّ نعلم خطأَ من يقول: إبراهيمُ الخليلُ ومحمَّدٌ الحبيب؛ لأنَّ هذا تنقُّصٌ للرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام؛ حيث أنزل مرتبتَه من الخُلَّة إلى المحبَّة الَّتي يشتركُ فيها حتَّى المؤمنُ المتَّقي المقسِط الصَّابر .
18- إثباتُ أفعالِ الله عزَّ وجلَّ؛ لقوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، والاتخاذ حادثٌ بعد وجودِ سببِه، فهو تبارَك وتعالى يفعَلُ ما يريدُ ومتى شاء .
19- خَتْمُ هذا السِّياقِ بهذه الآية: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا لفوائد: (إحداها): التَّذكير بقدرتِه تعالى على إنجاز وعدِه ووعيدِه في الآيات الَّتي قبلها؛ فإنَّ له ما في السَّموات والأرض خَلقًا ومُلكًا، وهو أكرم مَن وعَد، وأقدرُ مَن أوعد، (ثانيها): بيان الدَّليل على أنَّه المستحِقُّ وحده لإسلام الوجهِ له، والتَّوجُّهِ إليه في كلِّ حال، وهذا هو رُوحُ الدِّين وجوهرُه؛ لأنَّه هو المالكُ لكلِّ شيء، وغيرُه لا يملِكُ بنفسِه شيئًا، فكيف يتوجَّهُ العاقلُ إلى مَن لا يملِكُ شيئًا، ويترك التَّوجُّهَ إلى مالكِ كلِّ شيءٍ، أو يُشرِكُ به غيرَه في التَّوجُّهِ ولو لأجلِ قُربِه منه؟ (ثالثها): نفيُ ما قد يَسبِقُ إلى بعضِ الأذهان مِن اللَّوازم العاديَّة في اتِّخاذِ اللهِ إبراهيمَ خليلًا، كأن يتوهَّمَ أحدٌ أنَّ هنالك شيئًا من المناسَبة أو المقارَبة في حقيقةِ الذَّات أو الصِّفات، فبيَّن تعالى أنَّ كلَّ ما في السَّموات والأرض مِلكٌ له، ومِن خَلقِه، مهما اختلفتْ صفاتُ تلك المخلوقات ومراتبُها في أنفُسِها، وبنسبة بعضِها إلى بعض .
20- عمومُ مُلكِ الله، ويؤخَذُ ذلك من مَا الموصولة في قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ؛ لأنَّ جميعَ أسماءِ الموصول تفيدُ العمومَ

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ: استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للتَّنويهِ بفضائلِ الأعمال، والتَّشويهِ بمساويها
.
- وقوله: بِأَمَانِيِّكُمْ و: وَلَا أَمَانِيِّ فيه: تَكرارٌ ، وهو يُفيد التَّأكيدَ.
2- قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
قوله: وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا زيادةُ تأكيدٍ؛ لردِّ عقيدةِ مَن يتوهَّم أنَّ أحدًا يُغني عن عذابِ الله ، مع ما يُفيده تَكرارُ حرفِ النَّفيِ (لا) من التَّأكيدِ، وما تفيده صيغة فعيل (نصيرًا) من المبالغة.
- قوله: مَنْ يَعْمَلْ، وقوله: ومن يَعْمَلْ فيه: تَكرار ، وهو يفيد التَّأكيد.
3- قوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
- قوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى (مِن) لبيان الإبهام الَّذي في (مَن) الشرطيَّة في قوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ .
- وبين قوله: ذَكَرٍ، وقوله: أُنْثَى طِباقٌ يُفيدُ التَّعميمَ، أي: إنَّ المقصودَ البشرُ كلُّهم، بدون تحديد جِنسٍ معيَّنٍ ، كما أنَّه يُبرِزُ المعنى ويوضِّحه.
- قوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ فيه: اختصاصٌ بذِكْر الإيمانِ ؛ إذ الإيمانُ من الشُّروطِ الأساسيَّة لقَبول العمل.
4- قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا
- قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ الاستفهامُ إنكاريٌّ .
- وقوله: أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ: يُفيد الحصرَ، في أنَّه أسلَمَ نفْسَه لله سبحانه، وما أسلَمَ لغيره .
- وفيه كنايةٌ عن تمامِ الطَّاعةِ والاعترافِ بالعبوديَّة، وهو أحسنُ الكنايات؛ لأنَّ الوجهَ أشرفُ الأعضاء .
- قوله: مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فيه: اختصاصٌ ؛ حيث خَصَّ مِلَّة إبراهيمَ بالاتِّباع؛ للدَّلالةِ على أحقِّيَّتِها بالاتِّباعِ مِن كلِّ ملَّة.
- وقوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا: جُملةٌ معترِضةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ؛ فائدتُها تأكيدُ وجوبِ اتِّباعِ ملَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلام؛ لأنَّ مَن بلَغَ مِن الزُّلْفَى عند اللهِ أنِ اتَّخذه خليلًا، كان جديرًا بأنْ تُتَّبعَ مِلَّتُه وطريقتُه .
وقيل: إنَّ هذه الجملةَ ليستْ اعتراضيَّة ، بل هي معطوفةٌ على الجُملةِ الاستفهاميةِ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ... التي معناها الخبرُ- لا أحدَ أحسنُ دِينًا ممَّن أسلمَ وجهَه لله- نَبَّهَتْ على شرفِ المتبوعِ وأنَّه جديرٌ بأنْ يُتَّبع لاصطفاءِ اللهِ له بالخُلَّة، وعلى فوزِ المتَّبِع له .
- وفيه: إظهارُ اسمِ إبراهيمَ عليه السَّلام في موقِع الإضمار؛ لتفخيمِ شأنِه، والتَّنصيصِ على أنَّه الممدوحُ، وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ الاعتراضيَّة .
5- قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ: جملةٌ تذييليَّةٌ مبتدَأَةٌ، سِيقَت لتقرير وجوبِ طاعةِ الله تعالى على أهلِ السَّموات والأرض .
- وإنَّما قال: مَا، ولم يقُل (مَن)؛ لأنَّه ذهَب مَذهَبَ الجنسِ، والَّذي يعقِلُ إذا ذُكِر وأُريد به الجنسُ ذُكر بـ: (ما) .
- وفيه اختصاصُ مُلك ما في السَّموات والأرض باللهِ عزَّ وجلَّ، ويُؤخَذ ذلك مِن تقديمِ الخَبر وَلِلَّهِ؛ لأنَّ تقديمَ ما حقُّه التَّأخيرُ، يفيدُ الحصرَ .
- وهو كالاحتراسِ على أنَّ الخُلَّة ليستْ كخُلَّة النَّاسِ المقتضيةِ المساواةَ أو التَّفضيلَ ، أو الحاجة؛ فإنَّ لِلَّهِ ما في السَّموات وما في الأرض، فالكلُّ خَلْقُه وعبيدُه ومُلكه.
6- قوله: وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا: تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله على الوجوهِ المذكورةِ ، مع ما فيه مِن المبالغةِ في الاتِّصافِ بالعِلمِ بِالشَّيْءِ مِن جميعِ جِهاته ، وما تَضمَّنه من التَّهديدِ والوعيد لِمَن خالَف أمْرَ المحيطِ بكلِّ شيءٍ.


======11.


سُورةُ النِّساءِ
الآية (127)
ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ
غريب الكلمات:

وَيَسْتَفْتُونَكَ: يَسألُونَك الفُتيا وبيانَ الحُكم؛ يُقال: استفتيتُ عن كذا، إذا سألتَ عن الحُكْمِ، وأفتى الفقيهُ في المسألةِ، إذا بَيَّن حُكمَها، والفُتيا والفَتوى: الجوابُ عمَّا يُشكِلُ من الأحكام، وأصل (فتي): تبيينُ حُكمٍ
.
بِالْقِسْطِ: أي: بالعدلِ، وأصل القِسِط يَدلُّ على مَعنيينِ مُتضادَّيْنِ: العَدلِ، والجَوْرِ؛ يُقال: أَقْسَط: إذا عدَل، وقَسَط: إذا جارَ

.
مشكل الإعراب:

قوله: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ
وَمَا يُتْلَى ما اسمٌ موصولٌ بمعنى الذي، وهو مبنيٌّ في محلِّ رفْع، على أنَّه معطوفٌ على ضَميرِ الفاعِل في يُفْتِيكُمْ العائدِ على اللهِ تعالى، والتقديرُ: اللهُ يُفتيكم فِيهنَّ والمتلوُّ في الكِتابِ. وقيل غيرُ ذلك
.
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ: مجرورٌ على أنَّه مَعطوفٌ على يَتَامَى النِّسَاءِ، أي: ما يُتلى عليكم في يَتامَى النِّساء وفي المستضعَفين. وقيل: إنَّه في موضعِ جرٍّ لكنَّه معْطوفٌ على المجرور في فِيهِنَّ، وهذا مِن بابِ العَطفِ على الضَّمير المجرورِ من غيرِ إعادة الجارِّ. وقيل: إنَّه في مَوضِعِ نصبٍ عَطفًا على مَوضِعِ فِيهِنَّ، والتَّقدير: ويُبيِّن لكم حالَ المُستضعَفين، وقيل غيرُ ذلك

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخاطِبُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا له: إنَّ أصحابَك يسألونَك عن أحكامِ النِّساءِ، فقُلْ لهم: إنَّ اللهَ يُفتيهم فيما سأَلوا عنه من أحكام النِّساء، ويُفتيهم سبحانه وتعالى أيضًا بما يُتلى عليهم في القرآن في شأنِ اليَتيمات اللَّاتي هنَّ تحتَ وِلايتِهم، فيَظلِمونَهنَّ بمَنْعِهنَّ مِن أخذِ ميراثِهنَّ أو بمَنْعِهنَّ مِن التَّزوُّجِ؛ لينتفِعوا بأموالِهنَّ، أو بالأخذ من مهورهنَّ الَّتي تزوَّجْنَ بها، أو بغير ذلك، وهذا في حالةِ رَغبتِهم عنهنَّ، أو يرغبون فيهنَّ ويريدون نِكاحهنَّ لجمالهنَّ ومالهنَّ، مع عدمِ إعطائهنَّ حقوقهنَّ مِن المهرِ كاملةً، كما يُفتيهم جلَّ وعلا في شأن المستضعَفين من الوِلدان الصِّغار، ومنه أن يعطوهم حقَّهم من الميراث وغيرِه، وألَّا يستولُوا على أموالهم ظُلمًا وعدوانًا، وأن يعدِلوا مع اليتامى عدلًا تامًّا، ثمَّ أخبر سبحانه أنَّ ما يفعلونه من خيرٍ فإنَّ اللهَ كان به عليمًا، وسيَجزيهم عليه أتمَّ الجزاءِ.
تفسير الآية:

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ سبحانه في أوَّلِ هذه السُّورة أنواعًا كثيرةً من الشَّرائع والتَّكاليف، ثمَّ أتبَعها بشرحِ أحوالِ الكافرين والمنافقين، واستقْصَى في ذلك، ثمَّ ختَم تلك الآياتِ الدَّالَّةَ على عظَمةِ جلالِ اللهِ وكمالِ كِبريائِه- عاد بعد ذلك إلى بيانِ الأحكام
.
سببُ النُّزول:
عن عُرْوةَ بنِ الزُّبَيرِ، أنَّه سَأَلَ عائِشَةَ رضِي اللهُ عنها، عن قولِ اللهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، قالتْ: يا ابنَ أُختي، هي اليتيمةُ تكونُ في حَجْرِ وليِّها تُشارِكه في مالِه، فيُعجبه مالُها وجمالُها، فيُريد وليُّها أنْ يَتزوَّجَها بغيرِ أنْ يُقسِطَ في صَدَاقِها، فيُعطيها مِثلَ ما يُعطيها غيرُه، فنُهوا أنْ يَنكحوهنَّ إلَّا أنْ يُقسِطوا لهنَّ، ويَبْلُغوا بهنَّ أعْلَى سُنَّتِهنَّ مِن الصَّدَاق، وأُمروا أنْ يَنكحوا ما طابَ لهم مِن النِّساء، سواهنَّ، قال عُروةُ: قالتْ عائشةُ: ثمَّ إنَّ الناسَ استَفْتَوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعد هذه الآيةِ فيهنَّ، فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ، وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ" قالتْ: والَّذي ذَكَرَ اللهُ تعالَى أنَّه يُتْلَى عليكم في الكِتابِ: الآيةُ الأُولَى الَّتي قال اللهُ فيها: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، قالتْ عائِشَةُ: وقَوْلُ اللهِ في الآيةِ الأُخْرَى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، رَغْبة أحَدِكم عَنِ اليَتِيمَةِ الَّتي تكونُ في حَجْرِهِ، حِينَ تكونُ قَليلَةَ المالِ والجَمالِ، فَنُهُوا أنْ يَنْكِحوا ما رَغِبوا في مالِها وجَمالِها مِنْ يَتامَى النِّساءِ إلَّا بِالقِسطِ؛ مِن أَجْلِ رَغْبَتِهِم عنهُنَّ .
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ
أي: يسألُك أصحابُك- يا محمَّدُ- أنْ تُفتيَهم في أحكامِ النِّساءِ .
قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ
قُلْ لهم- يا محمَّدُ-: اللهُ يفتيكم في النِّساء .
ثمَّ خَصَّ سبحانه بعد التَّعميم، الوصيَّةَ بالضِّعاف من اليتامى والوِلدان؛ اهتمامًا بهم، وزجرًا عن التَّفريط في حقوقِهم، فقال :
وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
أي: ويُفتيكم أيضًا بِما يُتلَى عليكم في القُرآنِ في شأنِ اليتامى مِن النِّساءِ اللَّاتي تحتَ ولايتِكم فتبخَسونهنَّ حقَّهنَّ وتَظلِمونهنَّ، بمَنْعِهنَّ مِن أخْذِ ميراثِهنَّ أو بمَنْعِهنَّ مِن التَّزوُّجِ؛ لتنتفِعوا بأموالِهنَّ خوفًا من استخراجِها من أيديكم إنْ تزوَّجْنَ، أو بالأخذ من مهورهنَّ الَّتي تزوَّجْنَ بها، أو بغير ذلك، وهذا في حالةِ رَغبتِكم عنهنَّ، أو تَرغبون فيهنَّ لجمالهنَّ ومالهنَّ ولكن تُعطونهنَّ مِن المهرِ دون ما يستحقِقْنَ .
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ
أي: ويُفتيكم اللهُ عزَّ وجلَّ، ويُفتيكم ما يُتلى عليكم في القُرآنِ، في شأنِ المستضعَفين من الوِلدانِ الصِّغار، ومن ذلك وجوبُ إعطائِهم حقَّهم من الميراث وغيرِه، وألا تستولُوا على أموالهم ظُلمًا وعُدوانًا .
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ
أي: ويُفتيكم اللهُ عزَّ وجلَّ، ويُفتيكم ما يُتْلَى عليكم في القُرآن، بأنْ أوجبَ عليكم العدلَ التَّامَّ مع اليتامَى، ومن ذلك إعطاؤُهم فرائضَهم على ما قَسَم اللهُ تعالى لهم في كتابِه، ومِن ذلك القيامُ عليهم بإلزامِهم بحقوق الله عزَّ وجلَّ على عباده، والقيامُ عليهم في مصالحِهم الدُّنيويَّة .
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا
أي: ومهما يكُنْ منكم- أيُّها المؤمنون- من عدلٍ في أموال اليتامى الَّتي أمَركم اللهُ تعالى أنْ تقوموا فيهم بالقِسطِ، والانتهاءِ إلى أمرِ الله في ذلك، وفي غيره- فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ عالمٌ به، ومُحصٍ ذلك كلَّه، وحافظٌ له، وسيجزيكم عليه أوفرَ الجزاءِ وأتمَّه

.
الفوائد التربوية :

1- أنَّ كلَّ ما عمِلْناه من خيرٍ، قليلًا كان أو كثيرًا، فإنَّ الله يعلَمُه، ويترتَّب على هذه الفائدة: الحذرُ من الإخلالِ بالواجب؛ لأنَّه إذا كان يعلَمُ الخير الَّذي نعمَلُه فهو يعلَمُ أيضًا ما لا نعمَلُه من الخيرِ؛ قال تعالى: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا
.
2- الحثُّ على الخيرِ؛ لأنَّك إذا علِمْتَ أنَّ الله يعلَمُه، وأنَّه سيجازيك عليه، نشِطَتْ وقوِيَتْ همَّتُك لفعلِه؛ قال جلَّ وعلا: وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا

.
الفوائد العِلميَّة واللَّطائف:

1- حِرصُ الصَّحابة رضِي اللهُ عنهم على معرفةِ الأحكام الشَّرعيَّة؛ لقوله:وَيَسْتَفْتُونَكَ
.
2- اعتناء الصَّحابةِ بشأنِ النِّساء، بل واعتناءُ الله عزَّ وجلَّ فوق ذلك بشأنهنَّ؛ لقوله: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ؛ فالمستفتي الصَّحابةُ، والمفتي هو الله عزَّ وجلَّ، والواسطةُ بين المستفتي والمفتي هو الرَّسولُ عليه الصَّلاة والسَّلام .
3- الرُّجوعُ إلى ما في كتابِ الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ ما في الكتابِ من الفتوى صادرٌ من عند الله؛ لقوله: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ وهو كذلك؛ لأنَّ الكتابَ منزَّلٌ من الله عزَّ وجلَّ، هو الَّذي تكلَّمَ به وأنزَله على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وأمَره أن يُبلِّغَه النَّاسَ، وهو نفسُه تبارك وتعالى تكفَّل ببيانِه .
4- في قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ العناية بالنِّساء عمومًا، والعناية بيتامى النِّساء، وهذا أخصُّ؛ لأنَّ يتيمةَ النِّساءِ اجتمعَ في حقِّها الضَّعفُ من حيث الجنسُ؛ فجنسُ النِّساء أضعفُ من الرِّجالِ، والضَّعفُ من حيث فَقْدُ العائلِ، وهو الأبُ؛ فلهذا أوصى اللهُ بها بعنايةٍ .
5- جبروتُ أهل الجاهليَّةِ؛ وشدة ظُلمهم ليَتامَى النِّساء، بحيث لا يُؤتونهنَّ ما كُتِبَ لهنَّ، ويتحكَّمونَ فيهنَّ وفي مصيرهنَّ؛ لقوله: اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ .
6- أنَّ مهرَ المرأةِ مفروضٌ لها؛ لقوله: مَا كُتِبَ لَهُنَّ، وهذا كقوله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ [النِّساء: 4]، وعلى هذا فصاحبُ المهرِ هو المرأةُ، وليس وليَّ المرأةِ، ولو كان أباها فالمهرُ إليها؛ تقديرُه عددًا، وتعيينُه جنسًا، ولها أن تُبرِئَ منه إذا كانت عاقلةً رشيدةً .
7- أنَّه يجوزُ للإنسانِ أن يتزوَّجَ مَوْلِيَّتَه؛ لقوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ؛ لأنَّ هؤلاء اليتامى تحت ولاية هؤلاء الَّذين يرغَبون أنْ ينكحوهنَّ، وهو أحقُّ النَّاس بتزويجها، لكنْ عليه بتقوى الله، فلا يَظلِمْها ولا يَهضِمْها حقَّها .
8- في قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ العناية بالمستضعَفين من الوِلدان؛ لأنَّ المستضعَفَ من الوِلدان، سواءٌ كان لصِغَره، أو لمرضِه أو لجنونه، أو لغيرِ ذلك من الأسباب الَّتي صار بها ضعيفًا، فالعنايةُ به لا شكَّ أنَّها دليلٌ على رحمة الإنسان .
9- وجوبُ القِيامِ لليتامى بالقِسطِ، وهذا أمرٌ عامٌّ، يجب على كلِّ إنسان أن يقومَ لله شهيدًا بالقسطِ، لكن اليتامى لهم أمر خاصٌّ للعدل بينهم؛ لأنَّ اليتيمَ ليس له مَن يدافعُ عنه، وربَّما يأكُلُه وليُّه من حيث لا يشعُرُ؛ فلهذا أُوصِيَ بهم؛ قال تعالى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ

.
بَلاغةُ الآية:

1- قوله: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وعدٌ باستيفاءِ الإجابة عن الاستفتاء، وهو ضربٌ من تَبشيرِ السَّائل المُتحيِّر بأنَّه قد وجَد طَلِبَتَه، وتقديمُ اسمِ الجَلَالةِ للتَّنويهِ بشأنِ هذه الفُتيا
.
2- قوله: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فيه: إيجازٌ بالحذف؛ حيث إنَّ حَذْفَ حرْفِ الجرِّ بعدَ وتَرْغَبُونَ- هنا- وقَع موقعًا عظيمًا من الإيجازِ وإكثارِ المعنى، أي: ترغَبون عن نكاحِ بعضِهن، وفي نكاحِ بعضٍ آخرَ، فإنَّ فِعلَ رَغِبَ يتعدَّى بحرف (عن) للشَّيءِ الَّذي لا يُحَبُّ، وبحرفِ (في) للشَّيء المحبوب، فإذا حُذِفَ حرفُ الجرِّ احتمَل المعنيينِ إن لم يكُنْ بينهما تنافٍ ، وهذا ما يُسمَّى بالكلامِ الموجَّه، وهو الَّذي يحتملُ معنيينِ متضادَّيْنِ؛ فهنَّ إمَّا جميلات أو ذوات مالٍ فتَرغَبون فيهنَّ، أو دميمات ولا مالَ لهنَّ فترغَبون عنهن- حسَب تقديرِ الجارِّ .


=====12.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (128-130)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ
غريب الكلمات:

بَعْلِهَا: بَعْلُ المرأةِ: زَوجُها، والبَعْل في الأصل: الصَّاحِبُ
.
نُشُوزًا: أي: بُغضًا، والنُّشوز: بُغضُ المرأةِ للزَّوج، أو بُغضُ الزَّوجِ للمَرأة؛ يُقال: نشَزت عليه، أي: ارتفَعَتْ عليه، والنَّشْز: المرتَفِع من الأرض؛ فأصل النَّشْز: الارتفاعُ والعُلوُّ .
إِعْرَاضًا: الإعراض: هو أن تولِّيَ الشَّيء عُرْضَك، أي: جانبَك، ولا تُقبِلَ عليه .
وَأُحْضِرَتِ: أي: أُلزِمت، وجُعِلتْ حاضرةً له مطبوعةً عليه، وأصل (حضَر): إيرادُ الشَّيء، ووُرودُه ومشاهدتُه .
الشُّحَّ: وهو الإفراطُ في الحِرص، وأيضًا: بُخْلٌ مع حِرصٍ، ويُطلَقُ على الظُّلم، وأصل (شحح): المنْع .
كَالْمُعَلَّقَةِ: المُعَلَّقَةُ هي الَّتي لا تكونُ أيِّمًا ولا ذاتَ بَعْلٍ، والعَلَقُ: التَّشبُّثُ بالشَّيء، وأصله: أن يُناطَ الشَّيءُ بالشَّيء العالي

.
مشكل الإعراب:

قَوْله: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ:
إنْ: أداةُ شرطٍ لا يَليها إلَّا الفِعلُ. وامْرَأةٌ: فاعِل بفِعلٍ محذوفٍ وجوبًا، والتَّقدير: (وإن خافتِ امرأةٌ خافتْ)، واستُغني عن المحذوفِ بـ:خَافَتْ المذكور، وقيل: هي فاعل مُقدَّم على فِعلِه، أو مَرفوعةٌ بالابتداءِ
.
قوله: أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا:
صُلْحًا: منصوبٌ، وفي نَصْبِه أوجهٌ بحسَبِ القِراءاتِ في قوله: يُصْلِحَا ؛ فعلى قِراءة (يُصْلِحَا) مِن أصْلَح؛ يكونُ في نصبِ صُلْحًا ثلاثةُ أوجهٍ؛ الأوَّل: أنْ يكونَ منصوبًا على أنَّه نائبٌ عن المفعولِ المُطلَق للفِعلِ المتقدِّم يُصْلِحَا؛ لأنَّ صُلْحًا اسمُ مَصْدرٍ أو مَصدرٌ على حَذْفِ الزَّوائد كالعَطاءِ والنباتِ. الثاني: أن يكونَ مفعولًا مُطلَقًا منصوبًا بفِعلٍ مُقدَّر، أي: فيَصْلُح حالُهما صُلحًا. والمفعولُ به على هذينِ الوجهينِ قولُه: بَيْنَهُمَا اتُسِّع في الظَّرفِ فجُعِل مفعولًا به. الثالث: أنْ يكونَ نَصْبُ صُلْحًا على أنَّه مفعولٌ به إنْ جُعِل اسمًا للشَّيءِ المصطَلح عليه؛ كالعَطاءِ بمعنى المُعطَى، والنَّباتِ بمعنى المُنْبَتِ. وعلى بقيَّةِ القِراءاتِ فيجوزُ أنْ يكونَ صُلْحًا نائبًا عن المفعولِ المطلَق، ويكون واقعًا موقعَ (تصالُحًا، أو اصطلاحًا، أو مصالحةً)، حسَب القِراءات. ويجوزُ أنْ يكون صُلْحًا مفعولًا مُطلَقًا. ويَنتفِي عنه وجهُ المفعولِ به المذكورُ في قِراءة يُصْلِحَا، وقيل غيرُ ذلك .
قوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ: (حَضَر) فِعلٌ يتعدَّى بنَفْسِه إلى مَفعولٍ واحد، و(أَحْضَر) يَتعدَّى بالهمزةِ إلى مَفعولَيْنِ، فلمَّا بُني (أُحْضِرَ) هُنا للمفعولِ حُذِفَ الفاعِلُ، وقامَ المفعولُ الأوَّل الْأَنْفُسُ؛ مقامَ الفاعِلِ، فرُفِع على أنَّه نائبُ فاعلٍ، وانتصبَ المفعولُ الآخَرُ الشُّحَّ على أنَّه مفعولٌ به ثانٍ؛ فإنَّ الْأَنْفُسُ هي الفاعلُ في الأصْل؛ إذ الأصلُ: (حضَرتِ الأنفسُ الشحَّ)، ثمَّ أحْضَر اللَّهُ الأَنفسَ الشُّحَّ. وهذا هو المشهورُ من مذاهبِ النُّحاةِ. وقيل: إنَّ القائمَ مَقامَ الفاعِل هو المفعولُ الثَّاني وهو الْأَنْفُس أيضًا، والأصلُ: وحضَر الشُّحُّ الأنفسَ، ثمَّ أحْضَر اللَّهُ الشُّحَّ الأَنفسَ، فلمَّا بُني الفِعْلُ للمَفعول أُقيمَ المفعولُ الثَّاني وهو الْأَنْفُسُ مقامَ الفاعِل، وأُخِّر المفعولُ الأوَّلُ الشُّحَّ وبقِي منصوبًا

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ اللهُ تعالى بعضَ الأحكام الَّتي تتعلَّقُ بالزَّوجين، وما يقعُ بينهما من خلافٍ ونُفرةٍ؛ فالمرأةُ إذا خافت ترفُّعَ زوجِها عنها، وعدمَ رغبتِه فيها، فلا حرجَ ولا إثمَ أن يُصلِحَا بينهما صُلْحًا، بأن تُسقِطَ المرأةُ بعضًا من حقوقِها على أن تبقى مع زوجِها؛ فلا حرجَ عليها في إسقاطِه، ولا حرجَ عليه من قَبولِه، والصُّلحُ ببعضِ التَّنازُلاتِ خيرٌ من الفِراقِ الكُلِّيِّ، وقد جُبِلت النُّفوسُ على الحرصِ على حقوقها، ممَّا قد يتعذَّرُ معه التَّصالُحُ، لكن ينبغي على المرءِ أن يحرصَ على تركِ هذا الشُّحِّ جانبًا، والمسامحةِ ببعض الحقِّ، ثمَّ رغَّب اللهُ تعالى في الإحسان عمومًا؛ في عبادتِه، والإحسان إلى الخَلْق، ومنه الإحسانُ إلى الزَّوجات حتَّى ولو كرِهوهنَّ؛ وذلك بالصَّبرِ عليهنَّ، وحُسْنِ العِشرةِ، وإيفائِهنَّ حقَّهنَّ، وأن يتَّقوا اللهَ، فإن فعَلوا ذلك، فإنَّ اللهَ خبيرٌ بكلِّ ما عمِلوه، وسيُجازيهم عليه.
ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّ الأزواجَ لا يمكِنُ أن يحقِّقوا العدلَ الكامل بين زوجاتِهم، ولو اشتَدَّ حرصُهم على ذلك، لكن نهى سبحانه عن الميلِ الكُلِّيِّ إلى واحدةٍ بحيث تظلُّ الأخرى كالمعلَّقة الَّتي ليست مطلَّقةً، ولا هي متزوِّجة، وأنَّهم إن يُصلِحوا بينهم وبين زوجاتهم، وبينهم وبين النَّاس، أو بين النَّاس إذا تنازَعوا، ويتَّقوا اللهَ؛ فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ، وإن ينفصلِ الزَّوجانِ عن بعضِهما، بعد تعسُّرِ الصُّلحِ، يُغْنِ اللهُ كلًّا منهما من فضله الواسع، وكان الله واسعًا حكيمًا.
تفسير الآيات:

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
الآيةُ عَطفٌ لبقيَّةِ إفتاء الله تعالى؛ فهي من جُملة ما أخبَر الله تعالى أنَّه يفتيهم به في النِّساء ممَّا لم يتقدَّمْ ذِكرُه في هذه السُّورة
.
وأيضًا لَمَّا صاروا يَتزوَّجون ذواتِ الأموالِ من اليتامى ويُضاجِرون بعضَهنَّ، عقَّبَ ذلك تعالى بالإفتاءِ في أحوالِ المشاقَقَةِ بين الأزواج .
سببُ النُّزول:
عن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها في هذِه الآيةِ وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا قَالَتْ: ((الرَّجلُ تَكونُ عنده المرأةُ ليس بِمُستَكْثِرٍ منها يُريدُ أنْ يُفارِقَها، فتقول: أَجْعَلُك مِن شأني في حِلٍّ، فنزلتْ هذه الآيةُ في ذلك )) .
وعن هِشامِ بنِ عُروةَ، عن أبيه، قال: قالتْ عائشةُ رضِي اللهُ عنها: ((يا ابنَ أُختي، كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُفضِّلُ بَعضَنا على بعضٍ في القَسْمِ مِن مُكْثِه عِندنا، وكان قلَّ يومٌ إلَّا وهو يَطوفُ علينا جميعًا، فيَدنو مِن كلِّ امرأةٍ مِن غيرِ مسيسٍ، حتى يَبلُغَ إلى التي هو يومُها فيَبِيت عِندَها، ولقدْ قالتْ سَودةُ بِنتُ زَمْعةَ حين أسنَّتْ وفَرِقَتْ أنْ يُفارِقَها رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا رسولَ اللهِ، يَوْمي لعائشةَ، فقَبِلَ ذلك رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منها، قالتْ: نقول: في ذلِك أَنزلَ اللهُ تعالى وفي أشباهِها أُراهُ قال: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا)) .
وعن عائشةَ رضِي اللهُ عنها قالتْ: ((كانَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا أرادَ سفَرًا أقْرَعَ بَينَ نسَائِهِ، فأَيَّتُهُنَّ خرجَ سَهْمُهَا خرَجَ بهَا معهُ، وكانَ يَقْسِمُ لكلِّ امرأةٍ منْهُنَّ يومَها وليلَتَها، غيرَ أنَّ سَوْدَةَ بنتَ زَمْعَةَ وهَبَتْ يَومَها وليلَتَها لعائِشَةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ تَبْتَغِي بذلِكَ رِضَا رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ )) .
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا
أي: إذا خشِيَتِ المرأةُ استعلاءً من زوجها عليها، ونفورًا منها، وانصرافًا عنها، وعدمَ رغبتِه فيها .
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا
أي: فلا حَرَجَ ولا إثمَ عليهما في أن يتَّفِقا على ما يُصلِحُ الأمورَ بينهما؛ فلها أن تُسقِطَ حقَّها أو بعضَه؛ من نفقةٍ أو كسوة، أو مَبِيت، أو غيرِ ذلك من الحقوقِ عليه، على أن تبقى مع زوجها، وله أن يقبَلَ ذلك منها؛ فلا حرجَ ولا إثم عليها في بَذْلِها ذلك له، ولا عليه أيضًا في قَبولِه منها .
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
أي: إنَّ صُلحَهما على ترْكِ بعضِ حَقِّها للزَّوج، وقَبول الزَّوجِ بذلك؛ استدامةً لعقدِ النِّكاح- خيرٌ من المفارَقة بالكُلِّيَّةِ .
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
أي: إنَّ النُّفوسَ قد جُبِلت على الإفراطِ في الحرصِ على أشيائِها وحقوقِها، وهذا ممَّا يمنَعُ وقوعَ التَّصالُح والاتِّفاقِ؛ فعند النِّزاعِ وطلبِ المصالحة تكونُ الأنفسُ حريصةً جدًّا على ما لها من حُقوقٍ، كلُّ نفسٍ تُريد أنْ يكونَ الصُّلحُ في جانبها وفي مصلحتِها، وكأنَّ اللهَ يقول: دعُوا هذا الشُّحَّ الَّذي جُبِلَتْ عليه الأنفسُ، واطلُبوا الخيرَ في المصالَحةِ، والتَّسامُحِ عن بعض حقوقكم .
وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا
أي: وإنْ تُحسِنوا- أيُّها الأزواجُ- في أفعالِكم إلى نسائِكم إذا كرِهتموهنَّ بأن تتجشَّموا مشقَّةَ الصَّبرِ عليهنَّ، مع إيفائِهنَّ حقوقَهنَّ، وعِشرتِهنَّ بالمعروف، وتقسِموا لهنَّ أُسوةَ أمثالِهنَّ، وتُحِسنوا أيضًا في عبادة الخالق عمومًا، وتُحسِنوا إلى المخلوقين بجميع طُرقِ الإحسانِ، وتتَّقوا اللهَ تعالى في أزواجِكنَّ بتركِ الجَوْرِ عليهنَّ فيما يجب عليكم من حقوقِهنَّ، وتتَّقوا اللهَ عمومًا، بفعلِ جميع المأمورات، وتركِ جميعِ المحظورات .
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
أي: فإنَّ اللهَ تعالى بما تَعمَلون في أمورِ نِسائِكم- أيُّها الأزواجُ- من الإحسانِ إليهنَّ، والعِشرةِ بالمعروف، وتَرْكِ الجَوْرِ عليهنَّ فيما يجبُ لهنَّ، وغير ذلك ممَّا تعمَلونه، عالِمٌ بظاهرِه وباطنِه، لا يَخفَى عليه منه شيءٌ، يُحصيه، ويحفَظُه لكم، حتَّى يوفِّيَكم جزاءَ ذلك أوفرَ الجزاء .
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر سبحانه وتعالى أنَّ الوقوفَ على الحقِّ فضلًا عن الإحسانِ- وإنْ كانت المرأةُ واحدةً- متعسِّرٌ، أتبَعَه أنَّ ذلك عند الجمعِ بين أكثرَ مِن واحدةٍ أعسرُ، فقال تعالى :
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ
أي: ولنْ تتمكَّنوا- أيُّها الأزواجُ- من إقامة العدلِ التَّامِّ بين زوجاتِكم من جميع الجوانب، ولو كنتم حريصين على ذلك، فإنَّه وإن حصَل القَسمُ الصُّوريُّ بينهنَّ، فلا بدَّ من التَّفاوُتِ في المحبَّةِ والشَّهوةِ والجِماعِ .
فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
أي: فإذا مِلْتُم إلى واحدةٍ منهنَّ، فلا تبالِغوا في الميل بالكُلِّيَّة، وتميلوا ميلًا كثيرًا، حتَّى يحمِلَكم ذلك على أن تجُوروا على صواحبِها في تركِ أداء الواجب لهنَّ مِن حقٍّ في القَسْمِ لهنَّ، والنَّفقةِ عليهنَّ، والعِشرةِ بالمعروفِ، فتبقى كالمعلَّقةِ الَّتي ليست أيِّمًا ولا متزوِّجةً، فليست بالمطلَّقة الَّتي استراحَتْ ورزَقها الله تعالى غيرَه، ولا هي بالمتزوِّجةِ الَّتي تسعَدُ بالزَّواجِ كغيرها .
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا
أي: وإنْ تُصلِحوا أعمالَكم- أيُّها النَّاس- فتعدِلوا في قَسْمِكم بين أزواجِكم وما فرَض الله لهنَّ عليكم من النَّفقة والعِشرة بالمعروف، فلا تجُوروا في ذلك، وتُصلِحوا أيضًا فيما بينكم وبين النَّاس، وتُصلِحوا أيضًا بين النَّاس فيما تنازعوا فيه، وتتَّقوا الله عزَّ وجلَّ في الميل الَّذي نهاكم عنه- بأن تميلوا لإحدى الزَّوجاتِ على الأخرى، فتظلِموها حقَّها- وتتَّقوا الله تعالى في جميع أمورِكم وأحوالكم بفعلِ ما أمَر، واجتنابِ ما نهى عنه وزجَر .
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا
أي: فإنَّ اللهَ تعالى يَستُرُ عليكم ما سلَف منكم مِن مَيْلِكم وجَوْرِكم على زَوجاتِكم، ويتجاوَزُ عن مؤاخذتِكم بذلك، ويستُرُ ويتجاوَزُ عمَّا صدَر منكم من الذُّنوب عمومًا، وكما عطَفْتُم على أزواجِكم ورحمتموهنَّ، فاللهُ تعالى يرحَمُكم، وهو رحيمٌ بكم؛ إذ قبِلَ توبتَكم، وتجاوَز عنكم .
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى جواز الصُّلح إن أراد الزَّوجانِ ذلك، ذكَر في هذه الآية جوازَ المفارَقةِ إنْ رغِبَا فيها، ووعَد أن يُغنيَ كلَّ واحدٍ منهما من سَعتِه ، فقال:
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ
أي: إذا انفصَل الزَّوجانِ عن بَعضِهما بطَلاقٍ أو فسخٍ أو خُلعٍ أو غير ذلك، فإنَّ اللهَ تعالى يعوِّضُ الزَّوجَ برزقٍ واسعٍ أو بزوجةٍ هي خيرٌ له من زوجته، ويعوِّضُها برزقٍ واسعٍ أو بزوجٍ هو خيرٌ لها من زوجِها، وذلك مِن فضلِه وإحسانِه الواسعِ سبحانه .
وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى واسعٌ لهما في إغناء كلِّ واحدٍ من الزوجين وغيرهما مِن فضلِه، فهو سبحانه واسعُ الفضلِ عظيمُ المَنِّ، وهو ذو سَعَةٍ في جميع صفاتِه؛ كالرَّحمة، والمغفرةِ، والعِلم، والقدرة، وغير ذلك مِن صفاتِه العُلى، حكيمٌ في جميع أفعالِه وأقداره وشَرْعِه، ومن ذلك أنَّه يعطي بحكمةٍ، ويمنَعُ لحكمةٍ، ومن ذلك حكمتُه فيما قضى بين الزَّوجين من الافتراق وغيره

.
الفَوائِد التربويَّة :

1- الإشارةُ إلى أنَّ الصُّلحَ قد يكون ثقيلًا على النُّفوس، لكنَّ المؤمِنَ يهُونُ عليه ذلك إذا كان يؤمِنُ بأنَّ الصُّلح خيرٌ، ويؤخَذُ من قوله: وَأُحْضِرَتِ الأَنْفُسُ الشُّحَّ؛ فالإنسانُ بطبيعتِه قد يشقُّ عليه التَّنازلُ عن بعضِ حقِّه، لكنْ في المصالحة الَّتي هي خيرٌ لا بدَّ مِنْ ملاحظةِ هذا المعنى حتى يسهُلَ على النَّفس الَّتي أُحضِرتِ الشُّحَّ الموافقةُ على الصُّلحِ
.
2- في قوله: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا ندَب تعالى إلى إحسانِ عِشرة النِّساء حتى مع الكراهة لهن وعدم الرغبة فيهن؛ وأمَر بالتَّقوى؛ لأنَّ الزَّوجَ قد تحمله الكراهةُ للزَّوجة على أذيَّتِها وخصومتِها .
3- قولُه تعالى: فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ يُستفادُ منه أنَّه ينبغي للإنسانِ أن يستعملَ في خطابه ما يناسبُ المقامَ، فيستعمل أسلوبَ التنفيرِ فيما يُنفِّرُ منه، ويستعملَ أسلوب التَّرغيب فيما يُرغِّبُ فيه؛ فهذا من أسلوبِ الحِكمة .
4- في قوله تعالى: فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ الاستعطاف في المقامِ الَّذي ينبغي فيه العطفُ؛ لأنَّه إذا تصوَّر الإنسانُ أنَّ هذه الزَّوجةَ الَّتي مال عنها كالمعلَّقةِ بين السَّماء والأرض؛ فإنَّ هذا يوجب العطفَ عليها، والرَّأفةَ بها ورحمتَها .
5- أنَّ الإصلاح والتَّقوى سببٌ للمغفرة، لقوله تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، ووجهُه ظاهرٌ؛ لأنَّ الإصلاحَ خيرٌ، والحسناتِ يُذهِبْنَ السَّيِّئاتِ، ويجلُبْنَ الرَّحمةَ .
6- سدُّ باب اليأسِ مِن رحمة الله؛ حيث قال: يُغْنِ اللهُ كلًّا مِنْ سَعَتِهِ ولم يقُلْ: (يُغن كلًّا) فقط، بل قال: مِنْ سَعَتِهِ إشارةً إلى أنَّ فضلَ الله واسع .
7- في قوله: وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا إثباتُ الحكمةِ لله عزَّ وجلَّ، ويتفرَّعُ على هذا فائدةٌ عظيمةٌ مسلكيَّةٌ منهجيَّةٌ، وهي الرِّضا بقضاء الله وشرعِه، إذا علِم العبدُ أنَّ هذا صادرٌ عن حكمةٍ، حتَّى وإن كان فيه فواتُ مالٍ أو ولدٍ، فالله عزَّ وجلَّ ذو حكمةٍ عظيمةٍ فيما يُقدِّرُ

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا، عنايةُ الله عزَّ وجلَّ بما يكون بين الزَّوجين، وجهُه: أنَّ الله ذكَر هنا نشوزَ الزَّوجِ، وفي أوَّلِ السُّورة ذكَر نشوز الزَّوجة، ممَّا يدلُّ على عنايةِ الله تعالى بما يكون بين الزَّوجين؛ لأنَّ الزَّوجين هما الرَّابطةُ الَّتي تربِطُ بين الأولاد، وتربط أيضًا بين الصِّهرِ وصِهرِه، وهي أحدُ النَّوعينِ في الرَّبط؛ كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا [الفرقان: 54]
.
2- العملُ بالقرائن، ويؤخَذ من قوله: خَافَتْ ولم يقُلْ: رأَتْ نشوزًا، بل خافت، ومِن المعلومِ أنَّها لم تخَفْ مِن النُّشوز والإعراض إلَّا بوجودِ القرائنِ، والعملُ بالقرائنِ ثابتٌ بالقرآن .
3- أفاد قولُه تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا... أنَّ عروضَ الخلافِ والكراهة، وما يترتَّب عليها من النُّشوزِ والإعراض، وسوءِ المعاشَرة لِمَن يقِفُ عند حدودِ الله، من الأمور الطَّبيعيَّة الَّتي لا يمكِنُ زوالُها من بين البشَرِ، والشَّريعةُ العادلة الرَّحيمة هي الَّتي تُراعَى فيها السُّنَنُ الطَّبيعيَّةُ، والوقائعُ الفِعليَّةُ بين النَّاس، ولا يُتصوَّرُ في ذلك أكملُ ممَّا جاء به الإسلامُ
4- أنَّه يجوزُ أنْ يصطلحَ الزَّوجان فيما بينهما على ما شاءَا- بما لا يخالفُ الشرعَ-؛ لقوله: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا، ويتفرَّعُ عليها أنَّه يجوز للزَّوجةِ عند المصالَحةِ أن تُسقِطَ حقَّها من القَسْمِ، وأنَّه لا حرجَ على الزوجِ في أنْ تَبقَى عنده، ويُسقِطَ بعضَ الحقِّ، إذا صالحها على إسقاطِه .
5- في قوله تعالى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ذكَر الله أوَّلًا قولَه: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا فقولُه: فلا جُناحَ يوهِمُ أنَّه رخصةٌ، والغايةُ فيه ارتفاعُ الإثم، فبيَّن تعالى أنَّ هذا الصُّلح كما أنَّه لا جُناحَ فيه ولا إثمَ، فكذلك فيه خيرٌ عظيمٌ، ومنفعةٌ كثيرة؛ فإنهما إذا تصالَحَا على شيءٍ، فذاك خيرٌ من أن يتفرَّقَا أو يُقِيما على النُّشوزِ والإعراض .
6- وَالصُّلْحُ خَيْرٌ: هذه قاعدةٌ عظيمةٌ من الرَّبِّ سبحانه، وقد يظُنُّ بعضُ النَّاس أنَّه إذا تَنازَلَ عن الحقِّ أنَّ في ذلك غضاضةً وهضمًا لحقِّه، وأنَّ العاقبةَ غيرُ حميدةٍ، لكنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ الَّذي بيده ملكوتُ السَّمواتِ والأرضِ يقول: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ .
7- قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ: يُؤخذُ مِن عمومِ هذا اللَّفظِ والمعنى: أنَّ الصُّلحَ بين مَن بينهما حقٌّ أو منازَعةٌ في جميع الأشياء أنَّه خيرٌ مِن استقصاءِ كلٍّ منهما على كلِّ حقِّه؛ لِمَا فيها من الإصلاح، وبقاءِ الأُلفة، والاتِّصاف بصفة السَّماح، وهو جائزٌ في جميعِ الأشياء إلَّا إذا أحَلَّ حرامًا، أو حرَّمَ حلالًا، فإنَّه لا يكونُ صُلحًا، وإنَّما يكونُ جَوْرًا .
8- قال سبحانه: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، كلُّ حُكمٍ مِن الأحكام لا يتمُّ ولا يكمُلُ إلَّا بوجودِ مقتَضِيه وانتفاءِ موانعِه؛ فمن ذلك هذا الحُكمُ الكبير الَّذي هو الصُّلح، فذكَر تعالى المقتضيَ لذلك ونبَّهَ على أنَّه خيرٌ، والخيرُ كلُّ عاقلٍ يطلُبُه ويرغَبُ فيه، فإن كان- مع ذلك- قد أَمَر اللهُ به وحثَّ عليه، ازداد المؤمنُ طلبًا له ورغبةً فيه .
9- قال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ التَّعريفُ في قوله: والصُّلح تعريفُ الجنسِ، وليس تعريفَ العهدِ؛ لأنَّ المقصودَ إثباتُ أنَّ ماهيَّةَ الصُّلح خيرٌ للنَّاس؛ فهو تذييلٌ للأمرِ بالصُّلحِ والتَّرغيبِ فيه، وليس المقصودُ أنَّ الصُّلحَ المذكور آنفًا- وهو الخُلعُ- خيرٌ من النِّزاعِ بين الزَّوجين؛ لأنَّ هذا- وإن صحَّ معناه- إلَّا أن فائدةَ الوجهِ الأوَّلِ أوفرُ، ولأنَّ فيه التَّفاديَ عن إشكالِ تفضيل الصُّلح على النِّزاعِ في الخيريَّةِ، مع أنَّ النِّزاعَ لا خيرَ فيه أصلًا .
10- الإحسان والتَّقوى والبِرُّ وما أشبَهَ ذلك، إذا أُفرِد أحدهما عن الآخَرِ شمِل الآخَرَ، وإن اقترنا فُسِّر كلٌّ منهما بما يليق به. وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا الإحسانُ بفعل الأوامر، والتَّقوى بترك النَّواهي، أمَّا إذا أُفرد الإحسانُ فإنَّه يشملُ فِعلَ الأوامر وتركَ النَّواهي، وكذلك التَّقوى إذا أُفرِدَت فإنَّها تشمَلُ هذا وهذا، وهذا يوجد كثيرًا في القرآنِ الكريم، فالمسكين والفقير إذا أُفرِد أحدُهما عن الآخَرِ صار أحدُهما شاملًا للآخَر، وإن قُرِنا صار الفقيرُ له معنًى، والمسكينُ له معنًى؛ فهما ممَّا إذا اجتَمَعا افتَرَقا، وإذا افتَرَقا اجتمعا .
11- القاعدةَ الشَّرعيَّة: أنَّ ما لا يُستطاعُ لا يُلزَمُ به العبدُ. قال الله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا... .
12- قوله: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ: نبَّه تعالى على انتفاءِ استطاعةِ العدلِ بين النِّساء، وفي ذلك عُذْرٌ للرِّجال فيما يقعُ من التَّفاوتِ في الميل القَلْبِيِّ، والتَّعهُّدِ، والنَّظر، والتَّأنيس، والمُفاكَهة؛ فإنَّ العدل بينهنَّ في ذلك محالٌ، خارجٌ عن حدِّ الاستطاعةِ، وعلَّق انتفاء الاستطاعةِ في ذلك الأمر، على تقديرِ وجودِ الحِرص من الإنسانِ على ذلك .
13- عذَر اللهُ النَّاسَ في شأنِ العدل بين النِّساء فيما لا يملِكُه الزَّوجُ؛ فقال: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ، أي: تمامَ العدل، وجاء بـ(لن) للمبالَغةِ في النَّفيِ؛ لأنَّ أمرَ النِّساء يُغالِبُ النَّفسَ؛ لأنَّ اللهَ جعَل حُسنَ المرأة وخُلُقَها مؤثِّرًا أشدَّ التَّأثيرِ في محبَّة الزَّوج وميلِه إلى بعضِ أزواجه، ولو كان حريصًا على إظهار العدلِ بينهنَّ؛ فلذلك قال: وَلَوْ حَرَصْتُمْ، وأقام اللهُ ميزانَ العدلِ بقوله: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ .
14- قال تعالى: فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ نهى تعالى عن الجَوْرِ على المرغوبِ عنها، بمنعِ قسمتِها من غيرِ رضًا منها، واجتنابُ كلِّ الميلِ داخلٌ في الوُسعِ؛ ولذلك وقَع النَّهيُ عنه، أي: إنْ وقَع منكم التَّفريطُ في شيءٍ مِن المساواة، فلا تجُوروا كلَّ الجورِ .
15- يقرنُ اللهُ تعالى بين الغفور والرَّحيم في مواضعَ كثيرةٍ؛ وذلك لأنَّ بالمغفرة يزول المكروهُ، وبالرحمة يحصلُ المطلوبُ .
16- إن قيل: ما وجهُ قولِه تعالى في الآية الأُولى: وإن تحسنوا وتتقوا وفي الثانيةِ وإن تصلحوا وتتقوا فالجوابُ عن الأُولى: أنَّ معناها: إنْ خافَت امرأةٌ مِن زوجِها ترفُّعًا أو إعراضًا، فلا إثمَ في أن يتَصالحا على أن تتركَ له مِن مهرِها، أو بعضِ أيامِها ما يتراضيان به، والصلحُ خيرٌ مِن أن يُقيما على التباعدِ، أو يصيرا إلى القطيعةِ، ونفسُ كلِّ واحدٍ منهما تشحُّ بما لها قِبَلَ صاحبِها. وقيل: المرادُ: شحُّهنَّ على النُّقصان مِن أموالهنَّ وأنصبائهنَّ مِن أزواجهنَّ، وهذا يقتضي مخاطبةَ الأزواجِ بمجانبةِ القبيحِ، وإيثارِ الحُسنَى في معاملتِهم، فبعَث اللهُ تعالى في هذا المكانِ على فعلِ الإحسانِ.
وأمَّا الثانيةُ فجاءتْ بعدَ قولِه: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء في محبتهنَّ والشهوةِ لهنَّ؛ لأنَّ ذلك ليس إليكم، وإن حرصتُم على التَّسويةِ بينهنَّ فلا تميلوا كل الميل بأن تجعلوا كلَّ مبيتِكم وخَلوتِكم وجميلَ عشرتِكم وسعةَ نفقتِكم عندَ التي تشتهونها دونَ الأُخرى، فتبقَى تلك معلَّقةً لا ذات زوجٍ ولا مطلَّقة، فاقتضَى هذا الموضعُ أن يحثَّ الأزواجَ على إصلاحِ ما كان منهم بالتوبةِ مما سلَف، واستئنافِ ما يقدرون عليه مِن العدلِ، ويملكونه مِن الخلوةِ، وسعةِ النَّفقة، وحُسنِ العِشرةِ، فقال: (وإن تصلحوا وتتقوا) .
17- في قوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده، وأنَّ المرأة والرَّجُل إذا انكسَرا بالفِراق بينهما، جبَرَهما الله عزَّ وجلَّ بالإغناءِ، فيُغني كلًّا مِن سَعتِه .
18- في قوله تعالى: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ إشارةٌ إلى أنَّ الفِراقَ قد يكون خيرًا لهما؛ لأنَّ الفِراقَ خيرٌ من سوء المعاشَرة .
19- قال تعالى: وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا، ناسَب ذِكرُ وصفِ الحكمةِ، وهو وضعُ الشَّيء في موضعِه المناسِب؛ لأنَّ السَّعةَ ما لم تكُنْ معها الحكمةُ كانت إلى فسادٍ أقربَ منها للصَّلاحِ .
20- في قوله تعالى: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا أنَّ هذه السَّعةَ الَّتي وعَد الله تعالى بالإغناء منها مبنيَّةٌ على حكمةٍ، وكأنَّ هذا- والله أعلم- إشارةٌ إلى أنَّه لو تخلَّف هذا الموعودُ، فإنَّه لن يتخلَّفَ إلَّا لحكمةٍ، فقد يمنَعُ الله سبحانه الإنسانَ ما يحِبُّ لحكمةٍ ومصلحةٍ عظيمةٍ

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ
- فيه دلالةٌ على شِدَّةِ التَّرغيبِ في هذا الصُّلح بمؤكِّداتٍ ثلاثةٍ: وهي المصدرُ المؤكِّدُ في قوله: صُلْحًا، والإظهارُ في مقامِ الإضمار في قوله: والصُّلحُ خيرٌ، والإخبار عنه بالمصدرِ أو بالصِّفة المشبَّهةِ؛ فإنَّها تدلُّ على فِعلِ سجيَّةٍ
.
- وقوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ جملة اعتراضيَّة ، تُفيد التَّرغيبَ في أمرِ الصُّلح، والحثَّ عليه.
2- قوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ جملةٌ اعتراضيَّةٌ مؤكِّدة للمطلوب، وأفاد هذا التَّعبيرُ أنَّ الشُّحَّ حاضرٌ للأنفُس لا يغيبُ عنها أبدًا ولا تنفكُّ عنه، يعني: أنَّها مطبوعةٌ عليه .
3- قوله: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا: فيه كنايةٌ عن وعيدٍ؛ لأنَّ الخبيرَ بفاعلِ السُّوء- وهو قَديرٌ- لا يُعوِزُه أن يُعذِّبَه على ذلك، وأُكِّدت الجملةُ بـ: (إنَّ)، و(كان) .
- قوله: بِمَا تَعْمَلُونَ فيه: اختصاصٌ؛ حيث خَصَّ الْعَمَلَ بالذِّكرِ ؛ إذ هو مناطُ الحساب. وأيضًا فالعَملُ يَشمَلُ الفِعلَ والتَّرك؛ إذ التَّرْكٌ فِعلٌ، وأدلَّة ذلك لا تَخفَى من الكِتابِ والسُّنَّة وكَلامِ العرَب .
4- قوله: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا التَّعبير بـ: (لن) دون غيرها من حُروفِ النَّفيِ؛ للمبالَغة في النَّفيِ .
5- قوله: كَالْمُعَلَّقَةِ فيه: تشبيهٌ ؛ حيث شَبَّه ما يفعَلُه الرَّجُلُ بامرأتِه بعد الزَّواج بأخرى مِن إهمالٍ لها، وعدمِ المراعاةِ لشؤونِها الواجبةِ عليه، بما هو مُعلَّقٌ، لا هو يَسقُطُ، فلا هي ذاتُ زوجٍ، ولا هي أيِّمٌ.

=======13..


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (131-134)
ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ
المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِرُ تعالى أنَّ له وحده جميعَ ما في السَّموات، وجميع ما في الأرض، ولقد عهِدَ سبحانه إلى أهل الكُتب السَّابقة، وإلى المسلمين أن يتَّقوه؛ بالتزامِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه، وإن يكفُروا فإنَّ الله غنيٌّ عنهم، ولن يضرُّوا اللهَ سبحانه بذلك؛ وإنَّما يضرُّون أنفسَهم؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ له جميعُ ما في السَّموات والأرضِ، وهو الغنيُّ الحميدُ.
وللهِ ما في السَّمواتِ والأرض، وكفى به قائمًا بتدبيرِ شؤونِ خَلْقِه، إنْ يشَأْ جلَّ وعلا أنْ يُذهِبَ كلَّ النَّاس بإهلاكِهم إذا ما عصَوْه، ويأتيَ بآخرينَ أكثرَ طاعةً له، وكان سبحانه وتعالى على كلِّ شيء قادرًا.
ثمَّ حرَّض اللهُ تعالى النَّاس على أنْ يجعلوا مَقصَدَهم الأعظمَ: الفوزَ بنعيم الآخرة، مبيِّنًا أنَّ مَن كان يُريد ثواب الدُّنيا- كمن يُريد بجهاده الغنيمةَ والمنافع الدُّنيويَّة- فعند اللهِ ثوابُ الدُّنيا والآخرة، فلماذا قصَر الطَّلب على المنافعِ الدُّنيويَّة مع أنَّ ثوابَ الآخرة خيرٌ وأبقى؟! وكان الله سميعًا لكلِّ ما يجهَرُ به النَّاس ويُسرُّونه، بصيرًا بأحوالهم الظَّاهرة والخفيَّة، وسيُجازيهم بما يستحقُّونه من ثوابٍ أو عقابٍ.
تفسير الآيات:

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
مناسبة هذه الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا قال تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ذكَر هذه الآيةَ عقِبَها ليُنبِّهَ خَلْقَه على موضعِ الرَّغبة عند فِراق أحدِهم زوجتَه؛ ليفزَعوا إليه عند الجزعِ من الحاجة والفاقة والوَحْشة بفِراق سَكَنِه وزوجتِه، وتذكيرًا له بأنه الَّذي له الأشياءُ كلُّها، وأنَّ مَن كان له مُلكُ جميع الأشياء فغيرُ مُتعذِّرٍ عليه أن يُغنيَه، ويُؤنِسَ وَحشتَه
.
وأيضًا لَمَّا ذكَر سبحانه أنَّه يُغْني كلًّا مِن سَعتِه، وأنَّه واسعٌ، أشار إلى ما هو كالتَّفسيرِ لكونِه واسعًا، فقال: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، يعني مَن كان كذلك، فإنَّه لا بدَّ أن يكونَ واسعَ القُدرة والعِلم والجُود والفضل والرَّحمة .
وأيضًا لَمَّا أمَر بالعدلِ والإحسانِ إلى اليتامى والمساكينِ، بَيَّن أنَّه ما أمَر بهذه الأشياءِ لاحتياجِه إلى أعمال العباد؛ لأنَّ مالكَ السَّمواتِ والأرض كيف يُعقَلُ أن يكونَ محتاجًا إلى عملِ الإنسان مع ما هو عليه من الضَّعفِ والقُصور؟! بل إنَّما أمَر بها رعايةً لِمَا هو الأحسنُ لهم في دُنياهم وأخراهم .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: وللهِ تعالى وحده مُلكُ جميع ما تَحويه السَّمواتُ السَّبعُ، والأَرَضون السَّبع، وهو الحاكمُ فيها، ومُدبِّرُها بجميع أنواع التَّدبير .
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر سبحانه ما يتعلَّقُ بالرُّبوبيَّة، وهو مُلكُه الواسعُ العامُّ، ذكَر ما يتعلَّقُ بالألوهيَّةِ والعبادة، وهي: التَّقوى، فقال :
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
أي: ولقد عهِدْنا عهدًا مؤكَّدًا إلى أهلِ الكتب السَّابقةِ، كاليهود والنَّصارى، وإليكم- أيُّها المسلِمون- بأنْ تتَّقوا اللهَ تعالى بطاعةِ أوامرِه، واجتنابِ نواهيه .
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: إنْ تترُكوا تقوى اللهِ تعالى، وتُشرِكوا به، فإنَّكم لا تضُرُّون بذلك إلَّا أنفسَكم، ولا تضُرُّونَ اللهَ شيئًا، ولا تنقصون شيئًا من مُلكه، وله عبيدٌ خيرٌ منكم وأعظمُ وأكثرُ، مُطِيعون له خاضِعون لأمرِه، ولا يمتنعُ عليه شيءٌ أراده؛ من إعزازِ مَن أراد إعزازَه، وإذلالِ مَن أراد إذلالَه ومعاقبتَه، وغير ذلك من الأمور كلِّها؛ لأنَّ المُلكَ مُلكُه، والخَلْقَ خَلْقُه، بهم إليه الفاقةُ والحاجةُ، وبه قِوامُهم وبقاؤُهم وفَناؤُهم .
كما قال تعالى إخبارًا عن موسى عليه السَّلام أنَّه قال لقومه: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 8] .
وقال جلَّ وعلا: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن: 6] .
وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا
أي: وهو الغنيُّ الَّذي له الجودُ الكامل، والإحسان الشَّامل، الصَّادر من خزائن رحمتِه، الَّتي لا ينقُصُها الإنفاقُ؛ فلا حاجةَ به إلى شيءٍ ولا لأحدٍ، ومِن تمامِ غناه كمالُ أوصافِه سبحانه، وهو المحمودُ على غِناهُ وجميعِ صفاتِه، وعلى جميع ما يُقدِّره ويشرَعُه، قد استحَقَّ منكم- أيُّها الخلقُ- الحمدَ على صنائعِه الحميدةِ إليكم، وآلائِه الجميلة الَّتي أنعَم بها عليكم، وهو الحامدُ لِمَن يستحقُّ الحمدَ مِن عباده .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أعادَ تذكيرَهم بكونِه مالكَ السَّمواتِ والأرضِ؛ أي: العوالمِ كلِّها؛ ليتمثَّلوا عظمتَه، ويستحضروا الدَّليلَ على غناه وحمدِه؛ فيعلَموا أنَّه إذا كان قد توكَّل بإغناءِ كلٍّ مِن الزَّوجين إذا أقامَا حدودَه في تفرُّقِهما، فإنَّه قادرٌ على ذلك، كما أنَّه قادرٌ على إنجازِ كلِّ ما وعَد وأوعَد به، فيجبُ أن يكتفوا به في التَّوكُّلِ لهم .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
أي: وللهِ تعالى مُلكُ جميعِ ما تحويه السَّمواتُ والأرض، القيِّمُ بجَميعِه، الحافظُ والمدبِّرُ له بعلمِه وقدرتِه وحكمتِه، الرَّقيبُ الشَّهيدُ على كلِّ شيءٍ سبحانه .
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ
أي: إنْ يشَأِ اللهُ تعالى يُذهِبْكم- أيُّها النَّاس- بإهلاكِكم وإفنائِكم إذا عصَيْتموه، ويأتِ بناسٍ آخرينَ غيرِكم، هم أتْقَى وأطوعُ للهِ عزَّ وجلَّ منكم .
كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38] .
وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم: 19-20] .
وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى ذو قُدرةٍ تامَّةٍ على إهلاكِكم وإفنائِكم، واستبدالِ آخرين بكم .
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا كان شأنُ التَّقوى عظيمًا على النُّفوس؛ لأنَّها يَصرِفُها عنها استعجالُ النَّاس لمنافعِ الدُّنيا على خيراتِ الآخرة، نبَّهَهم اللهُ تعالى إلى أنَّ خيرَ الدُّنيا بيده، وخير الآخرة أيضًا، فإنِ اتَّقَوه نالُوا الخَيْرَيْنِ فقال:
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
أي: مَن كانت هِمَّتُه وإرادتُه دنيَّةً غيرَ متجاوزةٍ ثوابَ الدُّنيا، وليس له إرادةٌ في الآخرة فإنَّه قد قصَر سعيَه ونظَرَه على ثواب الدُّنيا الَّتي لا يحصُل له منها سوى ما كتَبَ اللهُ له- فليعلَمْ أنَّ عند الله تعالى خيرَ الدُّنيا والآخرة، فإنَّه إذا سأَله مِن هذه وهذه أعطاه وأغناه، فلا يقتصِرَنَّ قاصرُ الهمَّةِ على السَّعيِ للدُّنيا فقط، بل ليطلُبْهما منه، ويَسْتَعِنْ به عليهما، مفتقِرًا إليه على الدَّوام .
كما قال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 200- 202] .
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى سامعٌ لكلِّ شيء، بصيرٌ مُطَّلِعٌ على كلِّ شيء سبحانه

.
الفَوائِد التربويَّة :

1- أهميةُ تقوى الله عزَّ وجل؛ لأنَّه أوصى بها الأوَّلِينَ والآخِرينَ؛ لقوله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ
.
2- قوله جلَّ وعلا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ الإخبارُ بأنَّ اللهَ أوصى الَّذين أوتوا الكتابَ من قبلُ بالتقوى: مقصودٌ منه إلهابُ هِمَمِ المسلمين للتَّهمُّمِ بتقوى الله؛ لئلَّا تفضُلَهم الأممُ الَّذين من قبلِهم مِن أهلِ الكتاب؛ فإنَّ للائتساءِ أثرًا بالغًا في النُّفوس؛ كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] .
3- تكرَّرَ كثيرًا في هذه السُّورة الأمرُ بالاتِّقاءِ، وبه افتُتِحَتْ: اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: 1] ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء: 1] ، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ؛ لكثرةِ ما يعرِضُ مِن رعيِ حظوظِ النُّفوس عند الزَّوجية ومع القرابة، ولكونه يدِقُّ ويغمُضُ .
4- قال تبارَك وتعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ: التَّقوى المأمورُ بها هنا منظورٌ فيها إلى أساسِها، وهو الإيمانُ بالله ورُسُله؛ ولذلك قُوبِلت بجملة: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وبيَّن بها عدمَ حاجته تعالى إلى تقوى النَّاس، ولكنَّها لصلاح أنفسهم؛ كما قال: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] .
5- في قوله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ جعَل الأمر بالتَّقوى وصيَّة؛ وهي الأمرُ المؤكَّد، والشَّأنُ في الوصية إيجازُ القول؛ لأنَّها يُقصَد منها وعيُ السَّامع، واستحضارُه كلمةَ الوصيَّة في سائر أحواله، والتَّقوى تجمع الخيراتِ؛ لأنَّها امتثال الأوامر، واجتناب المناهي؛ ولذلك قالوا: ما تكرَّر لفظٌ في القرآن ما تكرَّر لفظ التَّقوى .
6- في هذه الآيةِ كمالُ مراقبةِ الله عزَّ وجلَّ لعباده؛ لقوله: وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وأنَّ فيها الكفايةَ عن كلِّ مراقب .
7- قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قوله: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تبكيتٌ لمن اقتصَر على أحدِ السُّؤالين مع كون المسؤول مالكًا للثَّوابين، وحثَّ على أن يُطلَبَ منه تعالى ما هو أكملُ وأفضل من مطلوبه؛ فمن طلب خسيسًا مع أنَّه يمكنُه أنْ يطلب نفيسًا فهو دَنيءُ الهِمَّة .
8- قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يجوز أن تكونَ الآية تعليمًا للمؤمنين ألا يصُدَّهم الإيمانُ عن طلب ثوابِ الدُّنيا؛ إذ الكلُّ من فضل الله، ويجوز أن تكونَ تذكيرًا للمؤمنين بألَّا يُلهيَهم طلبُ خير الدُّنيا عن طلَب الآخرة؛ إذ الجمعُ بينهما أفضلُ، وكِلاهما من عند الله .
9- ترتيبُ الثَّوابِ والجزاء على النِّيَّة؛ لقوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ، وعلى هذا فيجب على الإنسان أن يصحِّحَّ نيَّتَه تمامًا، وألَّا ينويَ بعمل الآخرة إلَّا الآخرةَ، أمَّا عملُ الدُّنيا فهو للدُّنيا .
10- بيانُ انحطاطِ رُتبة الدُّنيا عند الله عزَّ وجلَّ؛ ولهذا قال: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .
11- في قوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أنَّ الَّذي يعطي الثَّوابَ هو الله عزَّ وجلَّ لا غيرُه؛ فعند الله ثواب الدُّنيا والآخرة، ويتفرَّعُ على هذه الفائدة: ألَّا نعتمدَ فيما نرجوه من ثواب الدُّنيا والآخرة إلَّا على ربِّنا عزَّ وجلَّ؛ لأنَّه هو الَّذي بيدِه الأمورُ سبحانه وتعالى

.
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف :

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ إنَّ الأمرَ بتقوى الله شريعةٌ عامَّةٌ لجميع الأُمَم، لم يلحَقْها نَسْخٌ ولا تبديلٌ، بل هو وصيَّةُ الله في الأوَّلِين والآخِرين
.
2- قال تعالى: الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بَنى الفِعلُ للمجهول؛ لأنَّ القصدَ بيانُ كونهم أهلَ علمٍ؛ ليُرغَبَ فيما أُوصُوْا به، وللدَّلالة على أنَّ العِلمَ في نفْسه مُهيِّئٌ للقَبول، ولإفادة أنَّ وصيَّتَهم أعمُّ مِن أن تكونَ في الكتاب، أو على لِسان الرَّسولِ من غير كتابٍ .
3- قوله تبارك وتعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، ومِن تمامِ غناه أنَّه كاملُ الأوصاف؛ إذ لو كان فيه نقصٌ بوجهٍ من الوجوه، لكان فيه نوعُ افتقار إلى ذلك الكمالِ، بل له كلُّ صفةِ كمالٍ، ومن تلك الصفةِ كمالُها، ومن تمام غناه أنَّه لم يتَّخِذْ صاحبةً ولا ولدًا، ولا شريكًا في مُلكِه ولا ظهيرًا، ولا مُعاونًا له على شيءٍ من تدابير مُلكِه، ومن كمالِ غناه افتقارُ العالَم العُلويِّ والسُّفليِّ في جميع أحوالِهم وشؤونِهم إليه، وسؤالُهم إيَّاه جميعَ حوائجِهم الدَّقيقةِ والجليلة، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة، وأغناهم وأقناهم، ومَنَّ عليهم بلُطفِه وهداهم .
4- قال الله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا الحميدُ من أسماء الله تعالى الجليلةِ، الدَّالُّ على أنَّه هو المستحِقُّ لكلِّ حمد ومحبَّةٍ وثناء وإكرام؛ وذلك لِمَا اتَّصَف به من صفاتِ الحمد، الَّتي هي صفةُ الجمال والجلال، ولِمَا أنعَم به على خَلْقِه من النِّعمِ الجِزال؛ فهو المحمودُ على كلِّ حال .
5- إثباتُ المشيئةِ لله، وتؤخَذُ من قوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ، والمشيئةُ الثَّابتة لله ليست مشيئةً مطلَقة مجرَّدة عن الحكمة، بل هي مشيئةٌ مقرونةٌ بالحكمة، فكلُّ شيءٍ علَّقه اللهُ بالمشيئة، فالمراد المشيئةُ الَّتي تقتضيها الحكمةُ، بدليلِ قول الله تبارك وتعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 30] ، فدلَّ ذلك على أنَّ مشيئةَ الله مقرونةٌ بالعِلم والحكمة .
6- في قوله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا الرَّدُّ على الجبريَّة؛ وذلك بإثباتِ الإرادة للعبدِ، والجبريَّةُ يقولون: إنَّ العبدَ ليس له إرادةٌ، وأنَّه مجبَرٌ على عملِه ليس له إرادة، وهذه الآية وغيرها تردُّ عليهم .
7- في قوله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إثباتُ اسمينِ من أسماء الله، هما (السَّميع) و(البصير)، وإثبات ما يترتَّب عليهما من وصفِ (السَّمع) و(البصر)، وإثبات ما يترتَّب عليهما من أثرٍ، وهو أنَّه يسمَعُ ويُبصِرُ .
8- قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الآية تدلُّ على أنَّ الإسلامَ يَهدي أهلَه إلى سعادةِ الدَّارينِ، وأنْ يتذكَّروا أنَّ كلًّا من ثوابِ الدُّنيا وثواب الآخِرة من فضلِ الله ورحمتِه

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ: جملةٌ مستأنَفةٌ منبِّهةٌ على كمالِ سَعتِه، وعِظَم قُدرتِه، وهي كنايةٌ عن عظيمِ سلطانه واستحقاقِه للتَّقوى
.
- وفيه تَكرار قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ في آيتينِ، إحداهما في إثرِ الأخرى؛ لاختلافِ معنى الخبرينِ عمَّا في السَّموات والأرض في الآيتين؛ وذلك أنَّ الخبرَ عنه في إحدى الآيتين: ذِكرُ حاجتِه إلى بارئه وغِنى بارئِه عنه، وفي الأخرى: حِفظُ بارئِه إيَّاه به وعِلمُه به وتدبيره ، وكذلك هو تكرار مهمٌّ؛ ففي الأوَّل بيانُ غِناه عزَّ وجلَّ عن خَلقِه، وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، وفي الثَّاني: بيان مراقبتِه لخَلْقِه؛ فالآيةُ الأخيرة تتضمَّنُ التَّحذيرَ من المخالَفة، والأولى تتضمَّنُ الأمرَ بالموافقة . وفي هذا التَّكريرِ تقريرٌ لِمَا هو موجِبُ تَقْواه ليتَّقوه، فيُطيعوه ولا يعصُوه؛ لأنَّ الخشيةَ والتَّقوى أصلُ الخيرِ كلِّه .
- ولم يقُلْ: (وكان الله غنيًّا حميدًا وكفى بالله وكيلًا)؛ لأنَّ الَّذي في الآية الَّتي قال فيها: وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا، ممَّا صلَح أنْ يَختِمَ ما ختَم به مِن وصْفِ الله بالغِنى، وأنَّه محمودٌ، ولم يَذكُرْ فيها ما يصلُحُ أنْ يختِمَ بوصفِه معه بالحفظ والتَّدبير؛ فلذلك كرَّر قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .
2- قوله: قَدِيرًا: التَّعبير بصِيغة (فعيل)؛ للمبالغةِ وتبيينِ بليغِ القدرةِ، وأنَّه سبحانه لا يُعجِزُه مرادٌ .
=============14.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (135-137)
ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ
غريب الكلمات:

قَوَّامِينَ: جمْع قوَّام، وهو مُبالغةٌ من قائِم، وأصل (قوم): مراعاةُ الشَّيء وحِفظه
.
الْهَوَى: أي: مَيْلَ النَّفسِ إلى الشَّهوةِ، وأصلُ (هَوِيَ): الخُلوُّ والسُّقوط؛ ولذلك يُقال للآراءِ الزائفة: أهواءٌ .
تَلْوُوا: تَقْلِبوا الشَّهادةَ، وهو أنْ يلويَ الشَّاهدُ لِسانَه بالشَّهادة إلى غير الحقِّ بالتَّحريفِ والزِّيادة، والميلِ إلى أحدِ الخَصْمين، وأصلُ اللَّيِّ: فتلُ الحبلِ، وإمالة الشَّيء كذلك

.
مشكل الإعراب:

قوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ
شُهَدَاءَ: منصوبٌ على أنَّه خبرٌ ثانٍ لـ(كان) في قوله: كُونُوا قَوَّامِينَ، أو يكون شُهَدَاءَ منصوبًا على أنَّه حالٌ من الضَّمير المستكنِّ في قَوَّامِينَ، وقيل: إنَّ شُهَدَاءَ نعتٌ لـ: قَوَّامِينَ.
لِلَّهِ: ظرفٌ مُستقَرٌّ، حالٌ من ضَميرِ شُهَدَاءَ، أي: لأجْل اللهِ
.
قوله: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا
أَنْ تَعْدِلُوا: (أنْ) والفِعل مصدرٌ مؤوَّلٌ بالصَّريح أي: (عَدْلَكم)، وهو في محلِّ نصْبٍ على أنَّه مفعولٌ مِن أجلِه، على حَذْف مضاف، والتَّقدير: فلا تتَّبِعوا الهوى مَحبَّةَ أنْ - أو إرادةَ أنْ- تَعدِلوا عن الحقِّ وتَجورُوا. الثَّاني: أنَّه على إسقاطِ حرْفِ الجرِّ وحذْف (لا) النَّافية، والأصل: فلا تتَّبِعوا الهوى في ألَّا تعدِلوا، أي: في تَرْكِ العدلِ، فحذف (لا)؛ لدلالةِ المعنى عليها، ولَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ مِن (أنْ) جرَى القولانِ الشَّهيران في موقِع إعرابه (النَّصب- والجرُّ)، وقيل غير ذلك

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يأمرُ اللهُ المؤمنين أنْ يَعدِلوا في جميعِ أحوالهم؛ في حقوقِ الله تعالى، وفي حقوق الخَلْق، وأنْ يُؤدُّوا الشَّهادة ابتغاءَ وجه الله، ولو كانتِ الشَّهادةُ على أنفسِهم، أو والديهم، أو قَراباتهم، ولا تَستميلهم في أدائها أيُّ دوافع أخرى، فلا يراعوا غنيًّا لغناه، ولا فقيرًا شفقةً به فيجوروا بالشَّهادة، بل أَمرُ كلٍّ مِن الغنيِّ والفقير إلى الله، هو سبحانه أَوْلى بهما، وأعلمُ بما فيه صلاحهما، ونهى الله المؤمنين أنْ يحملَهم الهوى على مجانبة العدلِ، فإنْ حصَل منهم تحريفٌ أو تغييرٌ متعمَّدٌ للشَّهادة، أو أعرَضوا عنها بكتمانها أو ترْكها، فإنَّ الله تعالى خبيرٌ بما عمِلوه، سيحفَظُه ويجازيهم به.
ثمَّ يأمرُ الله المؤمنين بتَحقيقِ الإيمان به سبحانه وتعالى، وبنبيِّه محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبالثَّبات والاستمرار عليه، وإكمال ما نقص من الدِّين، وأن يؤمنوا بالقرآنِ الكريم، وما أنزَله الله من الكتب السَّابقة، ومن يكفُرْ بالله تعالى وملائكته وكُتبه ورُسله واليومِ الآخِرِ فقد ضلَّ عن الطَّريق المستقيم، وانحرَف عنه انحرافًا بعيدًا.
ثمَّ يخبِرُ تعالى أنَّ مَن كان مؤمنًا ثمَّ كفر، ثمَّ عاد للإيمان ليرجعَ بعد ذلك إلى الكفر، ويستمرَّ عليه ويزدادَ كفرًا، لم يكُنِ الله تعالى ليغفرَ له، ولا ليوفِّقَه لطريق الحقِّ بعدها.
تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا تقدَّم ذِكر النِّساء والنُّشوزِ والمصالَحة بينهنَّ وبين الأزواج، عَقَّبه بالأمرِ بالقيامِ بأداءِ حقوقِ اللهِ تعالى، وبالشَّهادةِ؛ لإحياءِ حقوق الله
.
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى طالِبَ الدُّنيا وأنَّه سبحانه عندَه ثوابُ الدُّنيا والآخرة، ذكَر عَقِيبه هذه الآيةَ، وبيَّن أنَّ كمالَ سعادةِ الإنسانِ في أنْ يكونَ قولُه لله، وفِعلُه لله، وحركَتُه لله، وسُكونه لله .
وأيضًا لَمَّا تقدَّم في هذه السُّورة أمرُ النَّاس بالقِسطِ وبالإشهاد عند دفْع أموال اليتامى إليهم، وأمرُهم بعد ذلك ببَذْل النَّفس والمال في سبيل الله، ثمَّ إنَّه تعالى أمَر في هذه الآيات بالمصالحة مع الزَّوجة، ومعلومٌ أنَّ ذلك أمرٌ من الله لعباده بأن يكونوا قائمينَ بالقِسط، شاهدينَ لله على كلِّ أحد، بل وعلى أنفسهم، فكانت هذه الآيةُ كالمؤكِّدِ لكلِّ ما جرى ذِكرُه في هذه السُّورة من أنواع التَّكاليفِ .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
أي: ليكُنْ مِن أخلاقِكم وصفاتكم- أيُّها المؤمنون- القيامُ بالعدلِ في كلِّ أحوالكم، في حقوق اللهِ، وفي حقوقِ عباده .
شُهَدَاءَ لِلَّهِ
أي: ليكُنْ أداؤُها ابتغاءَ وجهِ الله تعالى، فتشهدون بالقِسط لله عزَّ وجلَّ، لا يحمِلُكم على ذلك رياءٌ، ولا سُمعةٌ، ولا غيرُ ذلك؛ فحينئذ تكون صحيحةً عادلة حقًّا .
وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
أي: ولو كانت شَهادتُكم على أنفسِكم، أو على والدَيكم، أو أقربائكم، فقُوموا فيها بالعدل، وقولوا فيها الحقَّ، ولو عاد ضررُها عليكم؛ فإنَّ الحقَّ حاكمٌ على كلِّ أحد، ومُقدَّمٌ على كلِّ أحد .
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا
أي: فلا تراعوا الغنيَّ لغناه، ولا الفقير لفقرِه شَفقةً عليه ورحمةً له فتجُوروا؛ فإنَّ أمرَهما إلى خالقِهما ومالكِهما؛ فهو سبحانه أَوْلى وأحقُّ بهما منكم، وأعلمُ بما فيه صلاحُهما .
فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا
أي: فلا يَحملَنَّكم هوَى أنفُسِكم المعارضُ للحقِّ على ترْكِ العدل؛ فإنَّكم إنِ اتَّبعتم أهواءَكم عدَلْتُم عن الصَّواب، ووقَعتم في الجَوْرِ والظُّلم .
كما قال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8] .
وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
بعدَ أنْ أمَر الله تعالى ونهى وحذَّر، عقَّب ذلك كلَّه بالتَّهديد .
وأيضًا لما بيَّن أنَّ الواجبَ القيامُ بالقسطِ نهَى عمَّا يضادُّ ذلك ، فقال:
وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
في قوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا قراءتان:
1- قراءة (تَلُوا) من الولاية، والمعنى: إنْ وُلِّيتم إقامةَ الشَّهادة أو وُلِّيتُم الأمرَ فتعدِلوا عنه .
2- قراءة (تَلْوُوا) من لويتُ فلانًا حقَّه ليًّا، أي: دافَعْتَه وماطَلْتَه، والمعنى: وإنْ تَلْووا ألسنتَكم عن شَهادةِ الحقِّ، أو حكومةِ العَدْل .
وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا
أي: وإنْ تُحرِّفوا الشَّهادة وتُغيِّروها، أو تُعرضوا عنها بكتمانِها وتركِها .
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
أي: محيطًا بما تفعَلون، ويعلَمُ ما ظهَر وما بطَن مِن إقامتِكم الشَّهادةَ بالباطلِ بتَحريفِكم إيَّاها أو بكِتمانِكم لها وتركِكم إيَّاها، فيَحفظ ذلك عليكم ويُجازيكم به .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى المؤمنينَ بالقيامِ بالقِسطِ والشَّهادةِ لله، بيَّن أنَّه لا يتَّصِفُ بذلك إلَّا مَن كان راسخَ القدَمِ في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآيةِ؛ فالإيمانُ هو الحامِلُ على ذلك، وهو الجامعُ لمعاني القيامِ بالقِسط والشَّهادة لله؛ فأمَر بأن يؤمنوا باللهِ والمُبلِّغ والكتابِ النَّاهج لشرائعه، ويدوموا على إيمانهم، ويَحذَروا مساربَ ما يُخلُّ بذلك .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
أي: حقِّقوا- أيُّها المؤمنون- إيمانَكم بالله تعالى وبمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأكمِلوا ما نقَصَ لدَيكم منه، واثبُتوا واستمرُّوا عليه .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد: 28] .
وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ
أي: وآمِنوا أيضًا بالقرآن .
وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ
أي: وآمِنوا أيضًا بالكُتب السَّابقة الَّتي أنزَلها اللهُ تعالى .
وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا
أي: ومَن يكفُرْ بالله تعالى وملائكتِه وبما أنزله مِن كتبٍ وبمَن بعَثهم من الرُّسلِ وباليوم الآخِرِ، فقد خرَج عن الصِّراط المُستقيم، وانحرَف عن طريقِ الحقِّ والهدى انحرافًا بعيدًا .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر اللهُ تعالى بالإيمانِ، ورغَّب فيه، بيَّن فسادَ طريقةِ مَن يكفُرُ بعد الإيمان، وأنَّه لا يغفِرُ له فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا
أي: مَن تَكرَّر منه الكفرُ بعدَ الإيمان، فدَخَل في الإيمان ثمَّ رجع عنه، ثمَّ عاد فيه ثمَّ رجَع عنه، واستمرَّ على كفرِه وازداد منه .
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ
أي: لم يكُنِ الله تعالى ليستُرَ عليهم كُفرَهم وذُنوبِهم ويَتجاوزَ عن عُقوبتِهم؛ فإنَّ مَن كان هذا حالَه فهو بعيدٌ من المغفرةِ لإتيانِه بأعظمِ مانعٍ يمنَعُه مِن حُصولها؛ فكُفرُه يكونُ طبعًا لا يزول حتَّى مماتِه .
وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا
أي: ولم يكُنِ اللهُ عزَّ وجلَّ ليُسدِّدَهم لإصابةِ طريق الحقِّ والهدى فيوفِّقَهم لها

.
الفوائد التربوية :

1- القيامُ بالقِسطِ من أعظم الأمورِ، وأدلُّ على دِينِ القائم به، وورعِه ومقامِه في الإسلام، فيتعيَّنُ على مَن نصح نفسَه وأراد نجاتَها أن يهتمَّ له غايةَ الاهتمام، وأن يجعَلَه نُصْبَ عينيه، ومحَلَّ إرادتِه، وأن يزيلَ عن نفسه كلَّ مانعٍ وعائق يعُوقُه عن إرادة القِسطِ أو العمل به كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
.
2- قولُه تعالى: فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا فيه تحريمُ اتِّباع الهوى الَّذي يُخالِفُ العدلَ، والهوى لا يُذَمُّ مطلَقًا، ولا يُحمَدُ مطلقًا، فإذا كان الهوى تبعًا لِمَا جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فهو محمودٌ، وإذا كان مخالِفًا له فهو مذمومٌ .
3- في قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا التَّحذيرُ مِن مخالَفة أوامِرِ الله تعالى، ويَكفي أنْ يَتذكَّرَ المؤمنُ أنَّ اللهَ خبيرٌ بما يعمل، ليستشعرَ ماذا وراءَ هذا من تهديدٍ خطيرٍ، يَرتجِفُ له كِيانُه .
4- وجوبُ الثَّباتِ على الإيمانِ، وتَكميلِه؛ لقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ .
5- أنَّه يجبُ على الإنسان أنْ يَحذَرَ من التَّردُّدِ والتَّقلُّب؛ فإنَّ الغالبَ أنَّ مَن هذه حالُه لا يبارَكُ له في عمره، ولا في عملِه، فكونُه كلَّ يوم له رأيٌ، وكلَّ يومٍ له عَمَل، هذا لا شكَّ أنَّه يضيعُ عليه الوقتُ، ولا يستفيدُ مِن عُمرِه شيئًا، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا

.
الفوائد العِلميَّة واللَّطائف:

1- وجوبُ إقامةِ الشَّهادة؛ لقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ
.
2- قال تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ مِن أعظمِ أنواع القِسطِ: القِسطُ في المقالات والقائلين، فلا يَحكُمُ لأحدِ القولين أو أحدِ المتنازعَيْن لانتسابِه أو مَيلِه لأحدِهما، بل يَجعل وِجهتَه العدلَ بينهما، ومن القِسطِ: أداءُ الشَّهادة الَّتي عندك على أيِّ وجهٍ كان، حتَّى على الأحبابِ، بل على النَّفس؛ ولهذا قال: شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا .
3- وجوبُ العدلِ في الشَّهادة، بحيث لا يزيدُ فيها ولا يَنقُص، ولا يأبى أن يؤدِّيَها عند الحاجةِ إليها؛ لأنَّ هذا كلَّه داخلٌ في قوله: قَوَّامِينَ .
4- وجوبُ الإقرار على مَن عليه حقٌّ؛ لقوله: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فيجبُ على الإنسانِ أن يُقرَّ بالحقِّ الَّذي عليه ولو كان مُرًّا .
5- وجوبُ الشَّهادة على الوالدَيْنِ والأقربين بما يلزَمُهم؛ لقوله: أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ، وعلى هذا فتُقبَلُ شَهادة الولدِ على والدَيْه .
6- قوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ جاء هذا التَّرتيبُ في الاستقصاءِ في غايةٍ مِن الحُسنِ والفصاحة، فبدأ بقوله: ولو على أنفسِكم؛ لأنه لا شيءَ أعزُّ على الإنسانِ مِن نفسه، ثمَّ ذكَر الوالدَين، وهما أقربُ إلى الإنسان، وسبب وجوده، وقد أمر ببِرِّهما وتعظيمِهما، والحوطة لهما، ثمَّ ذكَر الأقربينَ، وهم مَظِنَّة المحبَّة والتَّعصُّب، وإذا كان هؤلاء أُمِر في حقِّهم بالقِسط والشَّهادة عليهم، فالأجنبيُّ أحرى بذلك .
7- في قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ قدَّم الأمْرَ بالقيام بالقِسط على الأمر بالشَّهادة؛ لوجوهٍ:
- أنَّ أكثرَ النَّاس عادتُهم أنَّهم يَأمرون غَيرَهم بالمعروف، فإذا آلَ الأمرُ إلى أنفسهم ترَكوه، حتَّى إنَّ أقبحَ القبيحِ إذا صدَر عنهم كان في مَحلِّ المسامحةِ، وأَحْسَنَ الحُسنِ، وإذا صدَر عن غيرِهم كان في محلِّ المنازَعة!
- أنَّ القيامَ بالقِسط عبارةٌ عن دفعِ ضررِ العقابِ عن الغير، وهو الَّذي عليه الحقُّ، ودفعُ الضَّررِ عن النَّفس مقدَّم على دفعِ الضَّررِ عن الغير.
- أنَّ القيام بالقِسط فِعلٌ، والشَّهادةُ قولٌ، والفعلُ أقوى من القول .
8- أنَّ اللهَ سبحانه نهى عن المحاباةِ للغِنى أو للفَقْر، وتؤخَذُ من قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا ؛ فاللهُ سبحانه هو الوليُّ على كلِّ أحدٍ، فلا تُحابِ أحدًا لغناه ولا لفقره؛ فالله وليُّ الجميعِ .
9- قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا المقصودُ من ذلك التَّحذيرُ مِن التَّأثُّر بأحوالٍ يلتبس فيها الباطلُ بالحقِّ لِمَا يحفُّ بها من عوارضَ يُتوهَّمُ أنَّ رعيَها ضربٌ مِن إقامةِ المصالح، وحراسةِ العدالة، فلمَّا أبطَلَتِ الآيةُ الَّتي قبلها وهي قولُه تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ التَّأثُّرَ للحمِيَّةِ أُعْقِبت بهذه الآيةِ لإبطالِ التَّأثُّرِ بالمظاهر الَّتي تستجلبُ النُّفوسَ إلى مراعاتِها، فيتمحَّض نظرُها إليها، وتُغضِي بسببِها عن تمييز الحقِّ من الباطل، وتذهل عنه، فمن النُّفوس مَن يتوهَّمُ أنَّ الغنى يربأُ بصاحبه عن أخذِ حقِّ غيره، يقول في نفسه: هذا في غُنْيَةٍ عن أكلِ حقِّ غيره، وقد أنعَم الله عليه بعدم الحاجة، ومِن النَّاس مَن يميل إلى الفقير رقَّةً له، فيحسبه مظلومًا، أو يحسب أنَّ القضاءَ له بمالِ الغنيِّ لا يضرُّ الغنيَّ شيئًا؛ فنهاهم اللهُ عن هذه التَّأثيراتِ بكلمةٍ جامعة، وهي قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا .
10- في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا تحريمُ ما يسمَّى بالاشتراكيَّة؛ لأنَّ دعاة الاشتراكيَّة يقولون: إنَّنا نريد أن نرحَمَ الفقير، فنأخُذ من مالِ الغنيِّ ونعطيه الفقيرَ رحمةً به، فيقال: إنَّ اللهَ أَوْلى به منكم، والله عزَّ وجلَّ له الحكمةُ في جَعْل النَّاس بعضُهم فقيرٌ وبعضُهم غنيٌّ .
11- تحذير مَن أعرَض عن إقامةِ الشَّهادة والعَدْل، أو لَوَى؛ لقوله: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا .
12- وَإِنْ تَلْوُوا لَمَّا بيَّن أنَّ الواجبَ القيامُ بالقِسط نهى عمَّا يضادُّ ذلك، وهو ليُّ اللِّسان عن الحقِّ في الشَّهادات وغيرِها، وتحريف النُّطق عن الصَّواب المقصود من كلِّ وجه، أو من بعض الوجوه، ويدخُلُ في ذلك تحريفُ الشَّهادة وعدمُ تكميلِها، أو تأويل الشَّاهد على أمرٍ آخَرَ، فإنَّ هذا مِن اللَّيِّ؛ لأنَّه الانحرافُ عن الحقِّ .
13- قوله: فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا كنايةٌ عن وعيد؛ لأنَّ الخبيرَ بفاعل السُّوء، وهو قديرٌ، لا يُعوِزُه أن يعذِّبَه على ذلك .
14- ذكَر الله تعالى في مراتبِ الإيمان أمورًا ثلاثةً: الإيمان بالله وبالرَّسول وبالكتُب، وذكَر في مَراتبِ الكفر أمورًا خمسةً: الكفر بالله وبالملائكة وبالكتُب وبالرُّسل وباليومِ الآخِر؛ وذلك أنَّ الإيمانَ بالله وبالرُّسل وبالكتُب متى حصَل فقَدْ حصَل الإيمانُ بالملائكةِ واليوم الآخِر لا مَحالةَ؛ إذ ربَّما ادَّعى الإنسانُ أنَّه يؤمِنُ بالله وبالرُّسل وبالكتب، ثمَّ إنَّه ينكِرُ الملائكة، وينكِرُ اليومَ الآخِرَ، ويَزعُم أنَّه يَجعل الآياتِ الواردةَ في الملائكةِ وفي اليوم الآخِرِ محمولةً على التَّأويلِ، فلمَّا كان هذا الاحتمالُ قائمًا، لا جرمَ نَصَّ أنَّ مُنكِرَ الملائكةِ ومُنكِرَ القيامةِ كافرٌ بالله
15- قوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ فيه أنَّ القرآنَ منزَّل، وأنَّه كلامُ الله؛ لأنَّه نزَل مِن عنده، فيكون كلامَه، وفيه علوُّ الله عزَّ وجلَّ أيضًا؛ لقوله: نَزَّلَ، والتَّنزيلُ يكون مِن أعلى إلى أسفلَ .
16- أنَّ القرآنَ منزَّلٌ على محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لقوله: عَلَى رَسُولِهِ، ومنتهى نزوله قلبُ النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ .
17- أنَّ القرآنَ الكريمَ نزل مُفرَّقًا؛ لقوله: نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ، ويشهد على ذلك قولُه تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] .
18- وجوبُ الإيمانِ بالكتب السَّابقة؛ لقوله تعالى: وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ، فلو أنَّ أحدًا قال: أنا أؤمن بالقرآن، لكنَّ التَّوراةَ والإنجيلَ لم تنزِلْ على رسولِنا فلن أؤمنَ بها، قلنا: إنَّك الآن كافرٌ مرتَدٌّ؛ لأنَّه لا بدَّ أن تؤمنَ بالكتابِ الَّذي أُنزِلَ مِن قبلُ كما أمَرك الله .
19- أنَّ هذا القرآنَ الكريمَ ختامُ الكتب، وتؤخَذُ من قوله: الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ولم يقُلْ ومن بعدُ؛ إشارةً إلى أنَّه لا كتابَ بعد القرآن الكريم .
20- الكفرُ بشيءٍ من هذه المذكوراتِ كالكُفرِ بجَميعها؛ لتلازُمِها وامتناعِ وجود الإيمان ببعضِها دون بعضٍ، فلا يصحُّ الإيمانُ المبعَّضُ؛ لقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ .
21- أنَّ الضَّلالَ يتفاوتُ، بعضُه أشدُّ من بعضٍ؛ لقوله: فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا .
22- أنَّ المتذبذبَ بين الإيمانِ والرِّدَّةِ يكونُ مآلُه أن يزداد كفرًا؛ لقوله: ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، وذلك- والله أعلم- أنَّ الإيمانَ لم يدخُلْ قلبَه .
23- قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ دلَّتِ الآيةُ على أنَّ الكفرَ يقبَلُ الزِّيادة والنُّقصانَ، فوجَب أن يكونَ الإيمانُ أيضًا كذلك؛ لأنَّهما ضِدَّانِ مُتنافيان، فإذا قبِل أحدُهما التفاوتَ فكذلك الآخَر .
24- الرَّدُّ على الجبريَّةِ الَّذين يقولون: إنَّ الإنسانَ مُجبَرٌ على عمله، وأن فِعلَه لا يُنسَبُ إليه إلَّا مجازًا؛ فالرَّدُّ عليهم من قوله: آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، فأضاف الأفعالَ إليهم، ففيه ردٌّ على الجبريَّة؛ لأنَّ الجبريَّةَ عندهم أنَّ العبدَ ليس له فِعلٌ اختياريٌّ، بل هو مجبَرٌ على العمل .
25- الرَّدُّ على القدَريَّةِ؛ لقوله: وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا، فدلَّ هذا على أنَّ الهدايةَ بيدِ الله، وليس يستقلُّ بها العبدُ، والقدَريَّة يقولون: إنَّ الإنسانَ مستقلٌّ بفعلِه، وليس لله فيه مشيئةٌ ولا خَلْق .
26- أنَّ اللهَ سبحانه إذا علِم من حالِ العبد أنَّه لن يستقيم، فإنَّه لن يَغْفِرَ له ولن يهديَه؛ لأنَّ هؤلاء: آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا، ويَترتَّب على هذه الفائدةِ الَّتي دلَّتْ عليها هذه الآيةُ، ودلَّ عليها قولُه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] أنَّ الأعمالَ الصَّالحةَ تجلبُ الأعمالَ الصَّالحة، والأعمالَ السَّيِّئة تجلب الأعمالَ السَّيِّئة، فإذا منَّ اللهُ عليك بعملٍ صالح فأبشِرْ أنَّه سيمُنُّ عليك بعمل آخَرَ تُتبِعُه إيَّاه

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ: جاءت كلمة قَوَّامِينَ على صِيغة (فعَّال)؛ للمبالِغة في لزُوم الاتِّصاف بالعدْلِ، وإقامةِ القسطِ في جميع الأمورِ؛ فصِيغة قَوَّامِينَ دالَّةٌ على الكثرةِ المرادِ لازِمُها، وهو عدمُ الإخلالِ بهذا القيامِ في حالٍ من الأحوال
.
2- قوله: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مجيء (لو) هنا لاستِقْصاءِ جميعِ ما يمكِنُ فيه الشَّهادة .
3- قوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا استئنافٌ واقعٌ موقعَ العِلَّة .
4- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: تذييلٌ عقَّب به أمرَ المؤمنين بأنْ يكونوا قوَّامين بالقِسطِ شُهداءَ لله، فأمَرَهم اللُه عقِبَ ذلك بما هو جامعٌ لمعانِي القيامِ بالقِسط والشَّهادةِ لله، الَّذي هو الإيمانُ بالله ورسوله والكتُب .
5- قوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ عبَّر في صِلةِ وصْف الكِتابِ الَّذي نزَّل على رَسولِه بصِيغة التَّفعيل نَزَّلَ، وفي صِلةِ الكتاب الَّذي أنزل من قبلُ بصيغة الإفعال أَنْزَلَ تفنُّنًا، أو لأنَّ القرآنَ حينئذٍ بصدد النُّزول نجومًا، والتَّوراة يومئذ قد انقضَى نُزولُها ؛ فقوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ المرادُ به هنا: القرآن، وعبَّر عنه بقوله: نَزَّلَ؛ لأنَّه يَنزِلُ شيئًا فشيئًا؛ كما قال تعالى: وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] ، وفي قوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ... عبَّر عن الكتُب السَّابقة بـ أَنْزَلَ؛ لأنَّها تنزِلُ جُملةً واحدة .
6- قوله: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ فيه: المبالغةُ في تأكيدِ النَّفيِ ؛ فإنَّ النَّفيَ في قولِه: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ أبلغُ مِن لو قال: (لا يغفر الله لهم)؛ لأنَّ أصلَ وضعِ هذه الصِّيغة للدَّلالة على أنَّ اسمَ كان لم يُجعَلْ ليصدُرَ منه خبرُها، ولا شكَّ أنَّ الشَّيء الَّذي لم يُجَعْل لشيء يكون نابيًا عنه؛ لأنَّه ضدُّ طَبْعِه، ولقد أبدَع النُّحاةُ في تسميةِ اللَّام الَّتي بعد كان المنفيَّة (لام الجحود) .

=====15.


سُورةُ النِّساءِ
الآيات (138-143)
ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ
غريب الكلمات:

الْعِزَّةَ: الغَلَبة، وهي حالةٌ مانعة للمُتَّصِفِ بها مِن أنْ يُغلَبَ، من قولهم: أرض عَزازٌ، أي: صُلْبة، وأصل عز: يدلُّ على شدَّة وقوة، وغَلَبة وقهر
.
وَيُسْتَهْزَأُ: أي: يُسخَر منها، والاستِهزَاءُ: ارتياد الهُزُؤِ، وإن كان قد يعبَّر به عن تعاطي الهُزْء، والهزؤ: اللَّعِب والسُّخريَّة، وأصل الهُزْء: مزحٌ في خفية، وقد يقال لِمَا هو كالمزح .
يَخُوضُوا: أي: يَتحدَّثوا ويَتفاوَضوا ويتداخَلَ كلامُهم؛ يُقال: تَخاوَضُوا في الحديثِ والأمرِ، والخوض: هو الشُّروع في الماءِ والمرورُ فيه؛ يُقال: خُضْتُ الماءَ وغيرَه، وأصل (خوض): توسُّط شيءٍ ودخول .
يَتَرَبَّصُونَ: يَنتظرون، والتَّربُّص: الانتظارُ والتَّمكُّث .
فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ: أي: نصْرٌ وتأييدٌ وظَفَرٌ وغنيمةٌ، وأصلُ الفتْحِ: إزالةُ الإغلاقِ والإشكالِ .
نَسْتَحْوِذْ: أي: نَغلِبْ ونَستولِ؛ يُقال: حاذَ الإبلَ يَحُوذها، أي: ساقَها سَوْقًا عنيفًا، وأصلُه: الخِفَّةُ والسُّرعةُ وانكماشٌ في الأمر .
كُسَالَى: أي: مُتثاقلين كالمُكرَه على الفِعل، والكَسلُ: التَّثاقُل عمَّا لا ينبغي التَّثاقُل عنه، وأصله: التَّثاقُل عن الشَّيء، والقعودُ عن إتمامِه أو عنه .
يُرَاؤُونَ: أي: يَفعلون الشَّيء ليراه النَّاس، وأصلُه من الرُّؤيةِ .
مُذَبْذَبِينَ: أي: مُتردِّدين بين الإسلامِ والكُفر، أو مُضطرِبين مائِلين، وأصل الذَّبذبة: جَعْلُ الشَّيءِ مُضطربًا

.
مشكل الإعراب:

قوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَن إِذا سَمِعْتُمْ
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ...: أنْ هي المخفَّفةُ من الثَّقيلة، واسمُها ضميرُ الشَّأن محذوف، أي: أنَّه، والجملةُ الشَّرطيَّةُ إِذَا سَمِعْتُمْ... في محلِّ رفعٍ خبرُ أنْ، و(أنْ) وما في حيِّزها مصدرٌ مؤوَّلٌ في موضِعَ نصْبٍ على أنَّه مَفعولٌ به على قِراءة نَزَّلَ بفَتْح النُّونِ، والفاعلُ هو الضَّميرُ العائدُ على لفظِ الجلَالة الله تعالى، وفي موضِع رفْعٍ مفعولٌ لم يُسمَّ فاعلُه على قِراءة مَن قرأ (نُزِّل) بالضَّمِّ، أي: وقد نُزِّل عليكمُ المنعُ من مجالستِهم عند سماعِكم الكفرَ بالآياتِ والاستهزاءَ بها

.
المَعنَى الإجماليُّ:

يأمرُ الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يُبشِّرَ المنافقين الَّذين يُظهِرون الإسلامَ ويُبطِنون الكُفرَ بالعذابِ الأليمِ، هؤلاء المنافقون الَّذين يُوالُون الكفَّارَ من دونِ المؤمنين، فيُحبُّونهم ويَنصرونهم ويُعِينونهم، ثمَّ يقول تعالى: أيُّ شيءٍ حمَلَهم على ذلك؟ أَيَطلُبون عندَ الكفَّارِ العزَّةَ؟ فلنْ يَجِدوها عندَهم؛ فالعِزَّة لله وحْدَه.
ثمَّ خاطَب اللهُ المؤمنين أنَّه قد أَنزَل عليهم في القرآنِ أنَّهم إذا سمِعوا استهزاءً وكُفرًا بآياتِ الله، فلا يَقعدوا مع هؤلاءِ المتحدِّثين حتَّى يَتحدَّثوا بحديثٍ غيرِ حديثِ الكُفرِ والاستهزاء، فإذا ما قعَدوا معهم في هذه الحالةِ فإنَّهم مِثلُهم، ثمَّ توعَّد اللهُ المنافقين والكفَّارَ بأنَّه سيجمَعُهم في جَهنَّمَ كلَّهم، هؤلاء المنافقون الَّذين يترقَّبون ما يحلُّ بالمؤمنين من خيرٍ أو شرٍّ، فإنْ فتَحَ الله على المؤمنين فتحًا على عدوِّهم بالنَّصر أو الظَّفَر أو الغنيمة، قال هؤلاء المنافقون للمؤمنين: ألم نكُنْ في صفِّكم شاهدينَ معكم القتالَ؛ طالبيَن منهم نصيبًا من المَغْنَم، وإن كانت الكِفَّةُ للكفَّار فأصابوا من المؤمنين، قال المنافقون للكفَّار: ألمْ نُساعِدْكم وننصُرْكم، ونَحْمِكُم من المؤمنين؛ فاللهُ سبحانه يحكُمُ بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيُجازي المؤمنين بالجنَّة، والمنافقين بدخولِ نارِ جهنَّمَ، ولن يُمكِّنَ اللهُ تعالى الكفَّارَ من التَّسلُّطِ التَّامِّ على المؤمنينَ في الدُّنيا، كما لم يجعَلِ اللهُ للكفَّار حُجَّةً على المؤمنينَ يغلِبونهم بها يومَ القيامة.
ثمَّ يُخبِرُ تعالى أنَّ المنافقينَ يخادِعون الله بإظهارهم الإسلامَ، وإبطانِهم الكفرَ، فيعصِمون بذلك دماءَهم وأموالهم، ويظنُّون روَاجَ فِعْلِهم هذا عند الله يوم القيامة، كما راج عند النَّاسِ في الدُّنيا، وهو سبحانه وتعالى خادِعُهم بما حكَم عليهم في الدُّنيا مِن منعِ دمائِهم وأموالِهم مع عِلمِه بهم؛ وذلك ليستدرجَهم في الدُّنيا حتَّى يلقَوْه في الآخرة فيُدخِلهم جهنَّمَ وبئس المصيرُ، ثمَّ أخبَر تعالى عن المنافقين أنَّهم إذا قاموا إلى الصَّلاةِ قاموا وهم متثاقِلون متبرِّمون مِن فعلِها، يؤدُّونها ليراهم المؤمنون فيظنُّون أنَّهم منهم، ولا يذكُرونَ اللهَ فيها إلَّا قليلًا، هؤلاء المنافقون متردِّدون حائرونَ بين الإيمانِ والكُفر، فلا هم مع المؤمنين خُلَّصٌ ولا مع الكفَّار خُلَّصٌ، بل مع المؤمنين في الظَّاهر، ومع الكفَّار في الباطن، ومنهم مَن يُخالِجُه الشَّكُّ فيميل إلى هؤلاء أحيانًا، وإلى هؤلاء أحيانًا أخرى، ثمَّ خاطَب اللهُ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا له: إنَّ مَن يُضلِلِ اللهُ عن طريق الهُدى، فلن تجِدَ له طريقًا آخَرَ لهدايتِه.
تفسير الآيات:

بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
أي: أخبِرْ- يا محمَّدُ- هؤلاءِ الَّذين أظهَروا الإسلامَ وأبطَنوا الكُفر بأقبحِ بِشارةٍ وأسوئِها، وهي أنَّ لهم عندَ اللهِ تعالى عذابًا مؤلِمًا موجِعًا
.
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أي: هؤلاء المنافقونَ الذين صِفتُهم أنَّهم يَجعَلون الكفَّارَ أولياءَ لهم يُحبُّونهم وينصُرونهم ويُعِينونهم لا عبادَ الله المؤمنين .
ثمَّ قال اللهُ تعالى منكرًا عليهم فيما سلكوه مِن موالاةِ الكافرينَ :
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ
أي: أيُّ شيءٍ حمَلهم على ذلك؟ أَيطْلُبون عندَ الكفَّار المنَعَةَ والقوَّة والغَلَبة باتِّخاذهم أولياءَ من دون المؤمنين ؟
فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا
أي: فليستِ العِزَّةُ عند الكفَّار، إنَّما العِزَّةُ والمَنَعةُ والنُّصرةُ والقوَّةُ من عند الله تعالى؛ فهو وحده القاهر لكلِّ شيء، الغالب لكلِّ شيء، ذو القَدْرِ العظيم، الَّذي لا يُماثِله شيءٌ، الَّذي يمتنع عليه كلُّ نقص وعيب، يُعِزُّ مَن يشاء، ويُذِلُّ مَن يشاء؛ فالتمِسوا العِزَّة منه سبحانه، وانتظِموا في جملةِ عبادِه المؤمنينَ، واتخِذوهم أولياءَ؛ فإنَّ لهم النَّصرةَ في هذه الحياةِ الدُّنيا، ويومَ يقوم الأشهادُ .
كما قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر: 10] .
وقال سبحانه: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 7، 8].
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا
أي: قد بَيَّن اللهُ تعالى لكم في القُرآنِ- أيُّها المؤمنون- حُكمَه الشَّرعيَّ عند حضورِ مجالسِ الكفرِ والاستهانةِ بآياتِ اللهِ تعالى وأوامرِه ونواهيه .
والآيةُ الَّتي أشار اللهُ عزَّ وجلَّ إليها هي قوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] .
فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
أي: لا تَمكثُوا فيها إلَّا أنْ يأخُذَ المُتحدِّثون في حديثٍ آخَرَ غيرِ حديثِ الكُفْر والاستهزاء .
إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ
أي: إنِ ارتكبتُم هذا النَّهيَ بعد بُلوغِه إليكم، ورَضِيتم بالمُكثِ معهم في المكان الَّذي يُكفَرُ فيه بآياتِ الله ويُستهان بها، وأقررتُموهم على ذلك، فقد شاركتُموهم إثمَ ذلك .
إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى جامعُ الفَريقينِ من الكفَّارِ والمنافقين في نارِ جهنَّمَ يومَ القيامة، فكما أشرَكوهم في الكُفر واجتمَعوا على عداوةِ المؤمنين والتَّخذيلِ عن دِينِ الله، كذلك جمَع اللهُ بينهم في الخلودِ في نار جهنَّمَ .
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ
أي: إنَّ المنافِقين ينتظرون ما يحلُّ بكم- أيُّها المؤمنون- من خيرٍ أو شرٍّ .
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ
أي: فإنْ فتَح الله تعالى عليكم فتحًا مِن عَدوِّكم بالنَّصرِ والظَّفَرِ والغنيمةِ .
قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ
أي: قال لكم هؤلاء المنافقون: ألم نشهَدْ معكم قتالَ عدوِّكم؟ فأعطُونا إذًا نصيبَنا من الغنيمةِ .
وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ
أي: وإنْ كان لأعدائِكم من الكافرينَ حَظٌّ منكم بإصابتِهم منكم في بَعضِ الأحيان .
قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أي: ألم نساعِدْكم ونُحِطْ بكم إحاطةَ العنايةِ والنُّصرة، ونَحْمِكُم من المؤمنين، مِن أنْ ينالوكم بسوءٍ، وصرَفْناهم عنكم بتخذيلِهم، أو بالتَّجسُّسِ عليهم لإبلاغِكم أخبارَهم، أو بإلقاء الأراجيف والفِتَن بين جيوشهم لإضعاف بأسِهم، وبغير ذلك من وجوهِ المنع، حتَّى انتصرتم عليهم؟ .
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أي: فإنَّ الله تعالى سيحكُمُ بين المؤمنين والمنافقين، ويفصل بينهم بالقضاءِ الفصل يوم القيامة؛ وذلك بإدخالِ المؤمنين جنَّتَه، وإدخالِ المنافقين مع أوليائِهم الكفَّارِ نارَه .
وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
أي: لن يُمكِّنَ اللهُ تعالى الكفَّارَ في الدُّنيا مِن التَّسلُّط التَّامِّ على المؤمنين، واستئصالهم بالكُلِّيَّة، بل لا تَزالُ طائفةٌ من المؤمنين على الحقِّ منصورةً، لا يَضرُّهم مَن خذَلهم ولا مَن خالَفهم إلى يومِ القيامة، ولن يَجعلَ اللهُ تعالى للكفَّار حُجَّةً يَغلِبون بها المؤمنين يومَ القيامة، بل يُدخِل عِبادَه المؤمنين الجنَّةَ، ويُدخل الكفَّارَ وأولياءَهم المنافقين النَّارَ؛ فالعاقبة في الدُّنيا والآخرة للمؤمنين .
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ
أي: إنَّ المنافقين يُخادِعون الله بإحرازِهم- بما أظهَروه من الإيمان وأبطَنوه من الكُفران- دماءَهم وأموالَهم؛ إذ يعتقدون لجَهلِهم وقلَّةِ عقلهم أنَّ أمرَهم كما راج عند النَّاس وجَرَتْ عليهم أحكامُ الشَّريعة ظاهرًا في الدُّنيا، يرُوجُ يوم القيامة عند اللهِ سبحانه وتعالى .
وَهُوَ خَادِعُهُمْ
أي: إنَّ الله تعالى خادِعُهم بما حَكَم فيهم في الدُّنيا مِن منعِ دمائهم بما أظهروا بألسنتِهم مِن الإيمان، مع علمِه باستبطانِهم الكفرَ؛ وذلك استدراجًا منه لهم في الدُّنيا حتَّى يلقَوْه في الآخرة فيُوردَهم نارَ جهنَّمَ .
وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى
أي: إذا قاموا لأداءِ الصَّلاةِ قاموا إليها وهم مُتثاقِلون مُتبرِّمون مِن فِعلها؛ لأنَّهم لا نيَّةَ لهم فيها، ولا رَغبةَ، وغيرُ مؤمنين بها، ولا موقِنين بمعادٍ ولا ثوابٍ ولا عقابٍ .
كما قال تعالى: وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى [التوبة: 54] .
ولَمَّا ذكَر الله جلَّ وعلا صِفةَ ظواهرِهم، أعقَبَ ذلك بذِكْرِ صفةِ بواطنِهم الفاسِدة ، فقال:
يُرَاؤُونَ النَّاسَ
أي: إنَّما يُؤدُّون الصَّلاةَ الَّتي يَقومون إليها كُسالى؛ ليراهم المؤمنون فيَحسَبوا أنَّهم منهم؛ وذلك بقاءً على أنفسهم، وحَذَرًا من المؤمنين عليها؛ كيلَا يُقتلوا أو تُسلَبَ أموالُهم، ولا إخلاصَ لهم لله تعالى .
وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
أي: لا يذكُرون اللهَ تعالى في صلاتِهم بألسنتِهم، وجوارحِهم، وقلوبِهم، ولا يَخشَعون فيها، ولا يَدْرُون ما يقولون، بل هم في صلاتِهم ساهُون لاهونَ؛ وذلك لامتلاءِ قلوبِهم بالرِّياء .
عن أَنسِ بنِ مالكٍ رضِي اللهُ عنه، قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقول: ((تلك صلاةُ المنافق، يجلسُ يَرقُبُ الشمسَ، حتَّى إذا كانتْ بين قَرْنَيِ الشَّيطانِ قام فنقَرها أربعًا، لا يذكُرُ اللهَ فيها إلَّا قليلًا )) .
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ
أي: إنَّ المنافقينَ مُتردِّدونَ مُتحيِّرونَ بين الإيمانِ والكُفر؛ فلا هُمْ مع المؤمنين ظاهرًا وباطنًا، ولا مع الكافرين ظاهرًا وباطنًا، بل ظواهرُهم مع المؤمنينَ، وبواطنُهم مع الكافرينَ، ومنهم مَن يَعتريه الشَّكُّ، فتارةً يميل إلى هؤلاء، وتارةً يميل إلى أولئك .
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ رضِي اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((مَثَلُ المنافقِ كمَثَلِ الشَّاةِ العائرةِ بين الغنمَيْن، تَعيرُ إلى هذه مرَّةً، وإلى هذه مرَّةً ))، وفي روايةٍ: ((تكِرُّ في هذه مرَّةً، وفي هذه مرَّةً )) .
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا
أي: ومَن يَخذُلْه اللهُ تعالى عن طريقِ الهُدَى والحقِّ فلا يُوفِّقه له، فلن تجِدَ له- يا محمَّدُ- طريقًا لهدايتِه، ولا وسيلةً لتركِ غَوايتِه

.
الفوائد التربوية:

1- أنَّ مَن ابْتغَى العِزَّةَ مِن دونِ الله فهو ذليلٌ؛ لقوله: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ
.
2- في قولِه سبحانه وتعالى: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، أنَّه يَنبغي للإنسان أنْ يَقطَعَ العلائقَ عن الخلائق، وأنْ يُعلِّقَ قلبَه بالله عزَّ وجلَّ، يبتغي منه العِزَّة، والنَّصر، ودَفْعَ البلاء، ويبتغي منه تيسيرَ الأمور ... وهكذا .
3- قوله تعالى: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فيه وجوبُ مغادرةِ المكان الَّذي يُكفَرُ فيه بآياتِ الله ويُستهزَأُ بها، ولا يجوزُ للإنسانِ أن يبقى ويقولَ: أنا مُنكِرٌ بقلبي .
4- قوله: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أنَّ جَليسَ الصَّالحين الَّذين يَعمَلون الصَّالحات مِثلُهم ومنهم، بقياس العكسِ؛ لأنَّه إذا وُزِرَ بالجلوسِ مع العصاةِ؛ أُجِرَ بالجلوس مع الطَّائعين .
5- يُفيدُنا قولُه تعالى: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ الحذرَ مِن جُلَساءِ السُّوء، والتَّرغيبَ في جُلَساءِ الصَّلاح .
6- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا لَمَّا اتَّخَذوهم في الدُّنيا أولياءَ، جمَع بينهم في الآخرة في النَّارِ، والمرءُ مع مَن أحَبَّ، وهذا توعُّدٌ منه تعالى تأكَّدَ به التَّحذيرُ من مجالَستِهم ومخالَطتِهم .
7- قوله تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يَنبغي للمؤمنِ أنْ يَتحرَّزَ مِن هذه الخَصْلةِ الَّتي ذُمَّ بها المنافِقون، وأنْ يُقبِلَ إلى صلاتِه بنشاطٍ وفراغِ قلبٍ وتمهُّلٍ في فِعلها، ولا يتقاعَسَ عنها فِعلَ المنافقِ الَّذي يُصلِّي على كُرْهٍ لا عن طِيبِ نفسٍ ورغبةٍ .
8- قوله تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى، الكسَلُ في الصَّلاة مُؤذِنٌ بقلَّةِ اكتراثِ المُصلِّي بها، وزُهدِه في فِعلِها؛ فلذلك كان مِن شِيَمِ المنافِقين، ومِن أجلِ ذلك حذَّرتِ الشَّريعةُ مِن تجاوزِ حدِّ النَّشاط في العبادةِ خشيةَ السَّآمةِ .
9- يُستفادُ مِن وصْفِ اللهِ تعالى للمُنافقين بقولِه: يُرَاؤُونَ النَّاسَ أنَّ مَن راءَى النَّاسَ بعمله الصَّالحِ ففيه شَبَهٌ بالمنافقين، والرِّياءُ بابه واسعٌ، ليس في الصَّلواتِ أو النَّفَقة أو الصَّوم أو الحجِّ فقط، بل هو أوسعُ مِن هذا، حتَّى الإنسان لو أنَّه لبِس ثيابًا رثَّةً ليَظهَرَ للنَّاسِ بمظهَرِ الزَّاهد فهو مُرَاءٍ، فكلُّ شيءٍ تُظهِرُ فيه للنَّاسِ أنَّك تتقرَّبُ به إلى اللهِ ليراكَ النَّاسُ، فإنَّه رياءٌ- والعياذ بالله .
10- مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ أنَّ الطُّمأنينةَ والاستقرار أمرٌ مطلوب؛ ولهذا نجدُ أشدَّ النَّاسِ استقرارًا وطُمأنينةً هم المؤمنون: قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] .
11- الإشارةُ إلى اللُّجوء إلى الله عزَّ وجلَّ في طَلَب الهداية؛ لقوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا

.
الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- البِشارة تُستعمَلُ في الخير، وتستعمَلُ في الشَّرِّ بقَيْدٍ، كما في هذه الآيةِ؛ يقول تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ
.
2- لَمَّا كان التَّظاهرُ بالإيمان ثمَّ تعقيبُه بالكفر ضربًا من التَّهكُّمِ بالإسلام وأهلِه، جِيءَ في جزاء عملِهم بوعيدٍ مناسبٍ لتهكُّمِهم بالمسلمين، فجاء به على طريقةِ التَّهكُّمِ؛ إذ قال: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ؛ فإنَّ البِشارةَ هي الخبَرُ بما يُفرِحُ المُخبَرُ به، وليس العذابُ كذلك .
3- أنَّه يَنبغي لنا أنْ نصارِحَ المنافقين بأنْ نبشِّرَهم- سواءٌ بلفظ: (أبشِروا)، أو بلفظ: (اعلَموا)- بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا؛ حتَّى يَرتدِعوا عن نِفاقِهم .
4- أنَّ المنافقين مُستحقُّون للعذابِ الأليم؛ لقوله: بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، واللَّام هنا للاستحقاقِ .
5- في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ: نَصَّ مِن صفاتِ المنافقين على أشدِّها ضررًا على المؤمنين، وهي: موالاتُهم الكفَّارَ، واطِّراحُهم المؤمنين، ونبَّهَ على فَسادِ ذلك؛ ليدَعَه مَن عسى أنْ يقَعَ في نوعٍ منه من المؤمنين غفلةً أو جَهالةً أو مُسامَحةً .
6- في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا التَّرهيبُ العظيمُ من موالاةِ الكافرين، وتَركِ موالاةِ المؤمنين، وأنَّ ذلك مِن صفاتِ المُنافقين، وأنَّ الإيمانَ يقتضي محبَّةَ المؤمنين وموالاتَهم، وبُغْضَ الكافرين وعداوتَهم .
7- لا تَناقُضَ بين قولِه تعالى: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] ؛ لأنَّ القدرةَ الكاملةَ لله، وكلُّ مَن سواه فبإقدارِه صار قادرًا، وبإعزازِه صار عزيزًا؛ فالعِزَّةُ الحاصلة للرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام وللمؤمنين لم تحصُلْ إلَّا من اللهِ تعالى، فكان الأمرُ عند التَّحقيق أنَّ العِزَّةَ جميعًا للهِ .
8- ظاهرُ الآية فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ- بقَطْعِ النَّظرِ عن آياتٍ أخرى-: أنَّه لا يجبُ الإنكارُ على الكافرِ بآياتِ الله المُستهزِئ بها؛ لأنَّه إنَّما نهى عن القعودِ معهم ولم يأمُرْ بالإنكارِ عليهم، ولكن يُقال: الجوابُ عن هذا: أنَّ اللهَ تعالى إنَّما أراد أن يُبيِّنَ حُكمَ المشارِكين، ونهيَهم عن ذلك، أي: إنَّ هذا المُنكَرَ يُفهَمُ مِن نهيِنا عن الجلوسِ معهم ألَّا نُقِرَّ المنكَرَ، فالصَّواب: أنَّ هذه الآيةَ لا تدلُّ على ارتفاع النَّهيِ عن هذا المنكَر، سواءٌ دلَّتْ عليه أو سكتت عنه، فلدينا نصوص أخرى تدلُّ على وجوب إنكار المنكَرِ .
9- أنَّ الأحكامَ تدورُ مع عِلَلِها؛ لقوله: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، فلمَّا كانوا يكفُرون بآياتِ الله ويستهزئون بها نُهِي عن القعودِ معهم، ثمَّ أذِن لنا بالقعودِ معهم إذا خاضُوا في حديثٍ غيرِه .
10- أنَّ المشارِكَ لفاعل المنكَرِ كفاعل المنكَرِ؛ لقوله: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، والآيةُ وإن كانت لا تدلُّ على المشارِك صراحة، وإنَّما تدلُّ على أنَّ الجالسَ معهم له حُكمُ الفاعل، لكن إذا كان الجالسُ- يعني: القاعد- معهم له حُكمُ الفاعل، فالمشارِكُ مِن باب أَولى .
11- قال تعالى: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، فقوله: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ، هذا تعليلٌ للنَّهي، أي: إنَّكم إن قعَدْتم معهم تكونوا مِثلَهم وشرُكاءَ لهم في كفرهم؛ لأنَّكم أقررتموهم عليه، ورضِيتموه لهم، ولا يجتمعُ الإيمانُ بالشَّيء وإقرارُ الكفرِ والاستهزاءِ به، ويؤخذ من الآيةِ أنَّ إقرارَ الكُفر بالاختيار كفرٌ، وأنَّ مَن رضِي بالكفر فهو كافرٌ، ويؤخذُ منه أنَّ إقرارَ المنكَرِ والسُّكوتَ عليه منكَرٌ، وأنَّ مَن رضِيَ بمُنكَرٍ يراه وخالَط أهلَه وإن لم يُباشِرْ، كان في الإثمِ بمنزلة المباشِرِ .
12- قال سبحانه: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، في هذه الآيةِ: الدَّلالةُ الواضحةُ على النَّهيِ عن مجالَسةِ أهلِ الباطل من كلِّ نوعٍ من المبتدِعة والفَسَقةِ عند خوضِهم في باطلِهم .
13- في قوله تعالى: جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ، أنَّ النَّارِ لصِنفَيْنِ من العالَم، المنافقين والكافرين، أمَّا الصِّنفُ الثَّالث وهم المؤمنون فلهم الجنَّةُ، وهؤلاء الأصنافُ الثَّلاثةُ هم المذكورون في أوَّلِ سورةِ البقرة .
14- بيانُ شدَّةِ عداوةِ المنافقين للمُؤمنين؛ لقوله: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ، أي: يَنتظرون السَّاعةَ الَّتي يكونُ فيها الضَّررُ على المؤمنين، لكن قال تعالى: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6] .
15- أنَّ المنافقين لهم حظٌّ من الفَيْءِ، ويُؤخذُ مِن قوله: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؛ فدلَّ هذا على أنَّ المنافِقَ يُعامَلُ بالظَّاهرِ، فيُعطَى ما يُعطاه المسلِمُ .
16- أنَّ المنافقين عندهم منَّةٌ، وفي أنوفهم أَنَفَةٌ، إنْ كان الفتحُ للمسلمين طالَبوا بالغنيمةِ، وإنْ كانت الغلبةُ للكفَّار مَنُّوا عليهم: وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، يعني: فأعطُونا من النَّصيبِ .
17- أنَّ المنافقين أشدُّ مِن الكفَّار؛ لأنَّ اللهَ بدأ بهم: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ، وجميعُ الآيات الَّتي فيها الجمعُ بين المنافقين والكفَّار يُقدِّمُ اللهُ فيها المنافقين؛ كقوله: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ [الأحزاب: 73] ، إلَّا في آيةٍ واحدة، بسببٍ، وهي قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التحريم: 9] ؛ وذلك لأنَّ جهادَ الكفَّار يكون بالسِّلاحِ عَلَنًا، وجهادَ المنافقين يكونُ بالعِلمِ والبيانِ وليس بالقتال .
18- إثباتُ الخِداعِ لله عزَّ وجلَّ، أي: إنَّه جلَّ وعلا يَخدَعُ مَن يُخادِعُه؛ لقوله تعالى: وَهُوَ خَادِعُهُمْ .
19- في قوله تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى أنَّ المنافقين يُصلُّون، لكن لا تُقبَلُ منهم صلاتُهم؛ لأنَّ الله تعالى قال: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأتُونَ الصَّلَاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى [التَّوبة: 54] مع أنَّ النَّفقةَ نفعُها مُتعَدٍّ، ومع ذلك لا تُقبَل، فكيف بالعبادة الَّتي نفعُها غيرُ مُتعدٍّ؟ فإنَّها من بابِ أَوْلى لا تُقبَلُ؛ فصلاتُهم لا تُقبَل، لكن هم يصلُّون مُراءاةً للنَّاس .
20- مِن صِفاتِ المنافقين أنَّهم إذا أدَّوُا الصَّلاة مراءاةً يؤدُّونها بكسلٍ وبُرودٍ، وعدمِ نشاط؛ قال تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى .
21- أنَّ حالَ المنافقين التَّردُّدُ بين الكُفرِ والإيمان، لكن الحُكم عليهم في الآخرة أنَّهم كفَّارٌ، أمَّا في الدُّنيا فيُعامَلون على ظَواهرِهم؛ لأنَّ الأحكامَ في الدُّنيا على الظَّواهرِ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ .
22- السَّببُ في تذبذبِ المنافقين كما في قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ أنَّ الفعلَ يتوقَّفُ على الدَّاعي، فإذا كان الدَّاعي إلى الفعلِ هو الأغراضَ المُتعلِّقة بأحوالِ هذا العالَم كثُرَ التَّذبذُبِ والاضطرابُ؛ لأنَّ منافعَ هذا العالَمِ وأسبابَه متغيِّرةٌ سريعةُ التَّبدُّلِ، وإذا كان الفعلُ تبعًا للدَّاعي، والدَّاعي تبعًا للمقصود، ثمَّ إنَّ المقصودَ سريعُ التَّبدُّل والتَّغيُّر- لزِم وقوعُ التَّغيُّر في الميل والرَّغبة، وربَّما تعارَضت الدَّواعي والصَّوارفُ، فيبقى الإنسانُ في الحيرة والتَّردُّد، أمَّا مَن كانَ مَطلوبُه في فِعلِه إنشاءَ الخيرات الباقية، واكتسابَ السَّعاداتِ الرُّوحانيَّة، وعلِم أنَّ تلك المطالبَ أمورٌ باقيةٌ بريئة عن التَّغيُّرِ والتَّبدُّلِ لا جرَمَ كان هذا الإنسان ثابتًا راسخًا؛ فلهذا المعنى وصَف اللهُ تعالى أهل الإيمانِ بالثَّباتِ فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم: 27] ، وقال: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] ، وقال: يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: 27]

.
بَلاغةُ الآياتِ:

1- قوله: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا: الجملة استئناف ابتدائيٌّ، مَسُوقٌ للتَّنديدِ بالمنافقين
.
- وقوله: بَشِّر بمعنى أخبِرْ، أو أنذِرْ، ووُضِع بَشِّر مكانَ (أخبِرْ) أو (أنذِرْ)؛ للتهكُّم بهم؛ فإنَّ البِشارةَ هي الخبرُ بما يَفْرَحُ المُخبَرُ به، وليس العذابُ كذلِك .
- وقوله: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ فيه إظهارٌ في موضِعِ الإضمارِ-حيث لم يقل: (بَشِّرْهم)-؛ تَعميمًا، وتَعليقًا للحُكمِ بالوصفِ .
2- قوله: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَولِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فيه مجيءُ صِفتِهم بطريقةِ الموصولِ الَّذِينَ؛ لإفادةِ تَعليلِ استحقاقِهم العذابَ الأليمَ، أي: لأنَّهم اتَّخذوا الكافرينَ أولياءَ مِن دون المؤمنينَ، أي: اتَّخذوهم أولياءَ لأجْلِ مُضادَّةِ المؤمنينَ .
- وأتت مِنْ الدَّالَّة على بُعدِ الصِّلةِ بينهم وبين المؤمنينَ .
3- قوله: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا: الاستفهامُ غرَضُه إنكارُ رأيِهم وإبطالُه، وبيانٌ لخيبةِ رجائِهم، وقطعٌ لأطماعِهم الفارغةِ .
- والجملةُ معترضةٌ مقرِّرةٌ لِمَا قبلها .
4- قوله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ: فيه التفاتٌ؛ حيث خَاطَب المنافقين قبلُ بخِطابِ الغَيبةِ في قوله: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ... و: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ... وأَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ؛ لإفادةِ تشديدِ التَّوبيخِ الَّذي يَستدعيه تَعْدَادُ جناياتهم ، ثمَّ خاطَب المؤمنين بضميرِ الخِطاب: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ؛ لإفادةِ القُربِ، وليكونَ أسرعَ للقَبولِ.
5- قوله: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ: فيه تقديمُ المنافِقين على الكافرين؛ لتشديد الوعيدِ على المنافقين ، مع تأكيد الخبرِ بـ: (إنَّ) واسميَّة الجملة.
- وعبَّر في قولِه: فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ بالضَّميرِ في مَعَهُمْ، ثمَّ تلاه قولُه: إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ، وهو التفاتٌ، فعبَّر بالاسمِ الظَّاهر، والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ له فوائدُ، منها: إرادةُ العمومِ .
6- قوله: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: تَضمَّنَتْ هذه الآيةُ بلاغةً في اختيار الألفاظِ؛ إذ سُمِّي ظَفَرُ المسلمين (فتحًا)، وظَفَرُ الكافرين (نصيبًا)؛ لتعظيمِ شأنِ المسلِمين، وتَخسيسِ حظِّ الكافرين لخسَّةِ حظِّهم؛ لأنَّ ظَفَرَ المسلمين أمرٌ عَظيمٌ، تبتهجُ له النُّفوسُ، وتَطمئنُّ إليه القلوبُ، وتُفتَحُ لهم أبوابُ السَّماءِ حتَّى ينزِلَ على أوليائِه، وأمَّا ظَفَرُ الكافرين، فما هو إلَّا حظٌّ دَنيٌّ، ولَمْظَةٌ مِن الدُّنيا يُصيبونها ، وكذلك لأنَّه لا يَحصُلُ لهم فَتْحٌ يكونُ مَبدأً لنُصرتهم المستمرَّةِ، بل غايةُ ما يكونُ أن يكونَ لهم نصيبٌ غيرُ مستقرٍّ، حِكمةً مِن الله .
- والاستفهامُ في قوله: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ تَقريريٌّ، أي: إنَّا قدِ استحوذْنا؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخَل على نفيٍ قَرَّره .
7- قوله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ: استئنافٌ ابتدائيٌّ، فيه: زيادةُ بيانٍ لمساويهم . ===

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...