السبت، 20 يناير 2024

22.سورة الحج مدنية 78.

 

سورةُ الحَجِّ{22.سورة الحج مدنية 78.}

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسورةِ (الحَجِّ)

فعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((في سُورةِ الحَجِّ سَجدتانِ)) .

وعن عبدِ الله بنِ ثعلبةَ: (أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضي اللَّه عنه صلَّى بهم بالجابيةِ ، فقرأ سورةَ الحجِّ، فسجَد فيها سَجْدتينِ)

فضائل السورة وخصائصها:

 

فُضِّلَت هذه السُّورةُ على سائِرِ السُّوَرِ بسَجدَتينِ:

كما دلَّ على ذلك قولُ ابنِ عباسٍ، وفعلُ عُمرَ -فيما تقدَّم- رضي الله عنهم أجمعينَ

بيان المكي والمدني:

 

اختلف العُلَماءُ في هذه السُّورةِ على أقوال:

الأوَّل: أنَّها مَدَنيَّةٌ

الثاني: أنَّها مكِّيَّةٌ .

الثَّالث: أنَّها مختلِطةٌ

 

.

مقاصد السورة:

 

مِن أهَمِّ مقاصِدِ سُورةِ الحَجِّ:

بَيانُ التَّوحيدِ، وإقامةُ الأدلةِ عليه، وإثباتُ البَعثِ

 

.

موضوعات السورة:

 

مِن أهَمِّ الموضوعاتِ التي اشتَمَلت عليها السُّورةُ:

1- افتُتِحَت السُّورةُ بالأمرِ بتقوى اللهِ، والحَديثِ عن أهوالِ القيامةِ، وأحوالِ النَّاسِ فيه.

2- بيانُ الأدِلَّةِ على أنَّ البَعثَ حَقٌّ.

3- ذِكرُ جِدالِ المُشرِكينَ، وعِبادةِ المُنافِقينَ.

4- بَيانُ حُكمِ اللهِ بين العِبادِ، والفَصلِ بينهم، وأنَّ كُلَّ شَيءٍ في الكَونِ يَسجُدُ لله، وأنَّ كَثيرًا مِنَ النَّاسِ حَقَّ عليه العَذابُ.

5- عَقْدُ مُقارَنةٍ بين خَصمَينِ اختَصَموا في رَبِّهم مِنَ المُؤمِنينَ والكافِرينَ، مع بيانِ عاقِبةِ كُلٍّ منهما.

6- الحَديثُ عن فريضةِ الحَجِّ وما جَعَل اللهُ فيه من المنافِعِ، وصَدِّ المُشرِكينَ عن المسجدِ الحَرامِ.

7- التَّحذيرُ مِنَ الشِّركِ.

8- الإذْنُ للمُسلِمينَ بالقِتالِ، وضَمانُ النَّصرِ والتَّمكينِ في الأرضِ لهم.

9- تَسليةُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا أصابه مِن تكذيبٍ.

10- عَرضُ نماذِجَ مِن تكذيبِ المكَذِّبينَ مِن قَبلُ، ومِن مَصارِعِ المكَذِّبينَ ومَشاهِدِ القُرى المُدَمَّرةِ على الظَّالِمينَ.

11- عَرضُ طَرَفٍ مِن كَيدِ الشَّيطانِ للرُّسُلِ والنبيِّينَ في دَعوتِهم، وتثبيتِ اللهِ لِدَعوتِه، وإحكامِه لآياتِه.

12- التَّذكيرُ بألوانٍ مِن نِعَمِ اللهِ تعالى على الخَلقِ، وأنَّ الله اصطفى خَلْقًا مِنَ الملائِكةِ جعَلَهم رُسُلًا إلى النَّاسِ.

13- تَوجيهُ بَعضِ الإرشاداتِ إلى المؤمِنينَ بعِبادتِه سُبحانَه، وفِعلِ الخَيراتِ، والجِهادِ، وإقامةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والاعتِصامِ باللهِ.

==============

 

سورةُ الحَجِّ

 

 

الحج

سورة الحج مدنية | رقم السورة: 22 - عدد آياتها : 78 عدد كلماتها : 1,279 - اسمها بالانجليزي : The Pilgrimage

سورة الحج مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ (1) يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ (2) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيۡطَٰنٖ مَّرِيدٖ (3) كُتِبَ عَلَيۡهِ أَنَّهُۥ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُۥ يُضِلُّهُۥ وَيَهۡدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ (4) يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ (5) ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (6) وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٞ لَّا رَيۡبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡعَثُ مَن فِي ٱلۡقُبُورِ (7) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ (8) ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ (9) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ (10) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ (11) يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُۥۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ (12) يَدۡعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقۡرَبُ مِن نَّفۡعِهِۦۚ لَبِئۡسَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَلَبِئۡسَ ٱلۡعَشِيرُ (13) إِنَّ ٱللَّهَ يُدۡخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لۡيَقۡطَعۡ فَلۡيَنظُرۡ هَلۡ يُذۡهِبَنَّ كَيۡدُهُۥ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يُرِيدُ (16) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ (17) أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ (18) ۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ (19) يُصۡهَرُ بِهِۦ مَا فِي بُطُونِهِمۡ وَٱلۡجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَٰمِعُ مِنۡ حَدِيدٖ (21) كُلَّمَآ أَرَادُوٓاْ أَن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا مِنۡ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ (22) إِنَّ ٱللَّهَ يُدۡخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ (23) وَهُدُوٓاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ وَهُدُوٓاْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡحَمِيدِ (24) إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ (25) وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ (27) لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ (28) ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ (30) حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيۡرَ مُشۡرِكِينَ بِهِۦۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّيۡرُ أَوۡ تَهۡوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ (31) ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ (32) لَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ فَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِينَ (34) ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمۡ وَٱلۡمُقِيمِي ٱلصَّلَوٰةِ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ (35) وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمۡ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (37) ۞إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٖ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ (39) ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ (41) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدۡ كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَثَمُودُ (42) وَقَوۡمُ إِبۡرَٰهِيمَ وَقَوۡمُ لُوطٖ (43) وَأَصۡحَٰبُ مَدۡيَنَۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰۖ فَأَمۡلَيۡتُ لِلۡكَٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ (46) وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۚ وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَمۡلَيۡتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ ثُمَّ أَخَذۡتُهَا وَإِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ (48) قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَآ أَنَا۠ لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٞ (49) فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ (50) وَٱلَّذِينَ سَعَوۡاْ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ (51) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ (52) لِّيَجۡعَلَ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ (53) وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤۡمِنُواْ بِهِۦ فَتُخۡبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (54) وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةً أَوۡ يَأۡتِيَهُمۡ عَذَابُ يَوۡمٍ عَقِيمٍ (55) ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ (56) وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ (57) وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوٓاْ أَوۡ مَاتُواْ لَيَرۡزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ (58) لَيُدۡخِلَنَّهُم مُّدۡخَلٗا يَرۡضَوۡنَهُۥۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٞ (59) ۞ذَٰلِكَۖ وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيۡهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ (60) ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٞ (61) ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ (62) أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَتُصۡبِحُ ٱلۡأَرۡضُ مُخۡضَرَّةًۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ (63) لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ (64) أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦ وَيُمۡسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ (65) وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاكُمۡ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَكَفُورٞ (66) لِّكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكًا هُمۡ نَاسِكُوهُۖ فَلَا يُنَٰزِعُنَّكَ فِي ٱلۡأَمۡرِۚ وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدٗى مُّسۡتَقِيمٖ (67) وَإِن جَٰدَلُوكَ فَقُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَعۡمَلُونَ (68) ٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ (69) أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ (70) وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَمَا لَيۡسَ لَهُم بِهِۦ عِلۡمٞۗ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٖ (71) وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡمُنكَرَۖ يَكَادُونَ يَسۡطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَاۗ قُلۡ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكُمُۚ ٱلنَّارُ وَعَدَهَا ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ (72) يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ (73) مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) ٱللَّهُ يَصۡطَفِي مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلٗا وَمِنَ ٱلنَّاسِۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٞ (75) يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ (76) يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ (77) وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ (78)

 

الآيتان (1-2)

بسم الله الرحمن الرحيم

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ (1) يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ (2)

غريب الكلمات:

 

زَلْزَلَةَ: الزَّلزَلةُ: الحَرَكةُ الشَّديدةُ، واضْطِرابُ الأرْضِ، وأصلُها مِن: زَلَّ عن الموضِعِ، أي: زال عنه وتحَرَّكَ

.

تَذْهَلُ: أي: تَنسَى وتَترُكُ، والذُّهولُ: نِسيانُ ما مِن شَأنِه ألَّا يُنسَى؛ لوجودِ مُقتَضى تذَكُّرِه، وأصلُ (ذهل): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ بذُعرٍ أو غَيرِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: يا أيُّها النَّاسُ، اتَّقُوا رَبَّكم، واحذَروا عِقابَه، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيهِ، إنَّ ما يَحدُثُ يوم القيامةِ مِن أهوالٍ عظيمةٍ شَيءٌ عَظيمٌ، يومَ تَرَونَ زلزلةَ السَّاعةِ تَنسى المرضِعةُ رَضيعَها الذي ألقَمَتْه ثَدْيَها، وتشتغِلُ عنه؛ لِمَا نَزَل بها مِنَ الكربِ، وتُسْقِطُ الحامِلُ حَمْلَها مِنَ الرُّعبِ، وتَغيبُ عُقولُ النَّاسِ، فيَصيرون كالسُّكارى؛ مِن شِدَّةِ الهَولِ والفَزَعِ، ولَيسُوا بسُكارى مِن الخَمرِ، ولكِنَّ شِدَّةَ العذابِ أفقَدَتْهم عُقولَهم وإدراكَهم!

تفسير الآيتين:

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1).

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ.

أي: يا أيُّها النَّاسُ، اتَّقُوا رَبَّكم الذي خلَقَكم، والذي يرزُقُكم ويدَبِّرُ أمورَكم، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه

.

إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ.

أي: اتَّقُوا اللهَ؛ لأنَّ أمامَكم أهوالًا عَظيمةً، يَحصُلُ منها رُعبٌ هائِلٌ، وفَزَعٌ كَبيرٌ يومَ القيامةِ، ولا نجاةَ مِن ذلك إلَّا بتَقواهُ سُبحانَه .

عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ تعالى: يا آدَمُ. فيقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ ، والخَيرُ في يَدَيكَ! فيقولُ: أخرِجْ بَعْثَ النَّارِ . قال: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قال: مِن كُلِّ ألفٍ تِسعَ مئةٍ وتِسعةً وتِسعينَ. فعِندَه يَشيبُ الصَّغيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وأيُّنا ذلك الواحِدُ؟! قال: أبشِروا؛ فإنَّ منكم رجُلًا، ومِن يأجُوجَ ومَأجوجَ ألْفًا. ثمَّ قال: والَّذي نَفْسي بيَدِه، إنِّي أَرْجو أنْ تَكونوا رُبُعَ أهلِ الجَنَّةِ. فكبَّرْنا! فقال: أَرْجو أنْ تَكونوا ثُلُثَ أهلِ الجَنِّةِ. فكبَّرْنا! فقال: أَرْجو أنْ تَكونوا نِصْفَ أهلِ الجَنَّةِ. فكبَّرْنا! فقال: ما أنتُم في النَّاسِ إلَّا كالشَّعرةِ السَّوداءِ في جِلدِ ثَورٍ أبيضَ، أو كشَعرةٍ بَيضاءَ في جِلدِ ثَورٍ أسوَدَ!)) .

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2).

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ.

أي: يومَ تَرَونَ زلزلةَ السَّاعةِ -أيُّها النَّاسُ- تَشْتغِلُ كُلُّ مُرضِعةٍ حِينَها عمَّن تُرضِعُه، وتَغفُلُ عنه حائِرةً مَدهوشةً، قد اشتدَّ بها الكَربُ؛ مِن هَولِ ما تراهُ .

وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا.

أي: وتُسقِطُ كُلُّ امرأةٍ حاملٍ جَنينَها الذي في بَطنِها قَبلَ تمامِه؛ لشِدَّةِ الكَربِ والفَزَعِ والهَولِ .

وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى.

أي: وترى النَّاسَ تَحسَبُهم سُكارى قد دَهِشَت عقولُهم، وغابت أذهانُهم؛ مِن شِدَّةِ الفَزَعِ والكَربِ والهَولِ، ولَيسُوا بسُكارى حقيقةً مِن شُربِ الخَمرِ !

وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.

أي: ولكِنَّ الذي أوجَبَ لهم هذه الحالةَ خَوفُهم مِن شِدَّةِ عذابِ اللهِ الذي رأوْهُ، فأذهَبَ هَولُه عُقولَهم، وأفرَغَ قُلوبَهم، ومَلَأها فَزَعًا ورُعبًا !

الفوائد التربوية :

 

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ يخاطِبُ اللهَ النَّاسَ كافَّةً بأن يتَّقوا رَبَّهم الذي ربَّاهم بالنِّعَمِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، فحقيقٌ بهم أن يتَّقوه بتركِ الشِّركِ والفُسوقِ والعصيانِ، ويمتَثِلوا أوامِرَه مهما استطاعوا، ثمَّ ذكَر ما يُعينُهم على التقوى، ويحَذِّرُهم مِن تركِها، وهو الإخبارُ بأهوالِ القيامةِ، فقال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فحقيقٌ بالعاقِلِ الذي يعرِفُ أنَّ هذا أمامَه أن يُعِدَّ له عُدَّتَه، وألَّا يُلهِيَه الأملُ فيترُكَ العمَلَ، وأن تكونَ تقوَى اللهِ شِعارَه، وخوفُه دِثارَه

، ومحبَّةُ اللهِ وذِكرُه رُوحَ أعمالِه ، فعِظَمُ الهولِ يومَ القيامةِ موجِبٌ واضحٌ لِلاستعدادِ لذلك الهولِ بالعملِ الصَّالحِ في دارِ الدُّنيا قبلَ تَعَذُّرِ الإمكانِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- من أسرارِ بلاغةِ القُرآنِ: أنَّه تعالى جعل الافتتاحَ بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ لسورتين في القرآن: إحداهما: سورةُ النساءِ، وهي السُّورةُ الرَّابعةُ مِن النِّصفِ الأوَّلِ مِن القرآنِ، وعلَّل الأمرَ بالتَّقوى فيها بما يدُلُّ على معرفةِ المبدأِ بأنَّه خلق الخَلْقَ من نفْسٍ واحدةٍ، وهذا يدُلُّ على كمالِ قُدرةِ الخالقِ، وكمالِ عِلمِه وحكمتِه. والثانيةُ: سورةُ الحجِّ، وهي الرابعةُ أيضًا مِن النِّصفِ الثَّاني مِن القرآنِ، وعلَّلَ الأمرَ بالتَّقوى فيها بما يدُلُّ على معرفةِ المعادِ، فجعلَ صدْرَ هاتين السورتينِ دليلًا على معرفةِ المبدأِ والمعادِ، وقدَّم السُّورةَ الدالَّةَ على المبدأِ على السُّورةِ الدالَّةِ على المعادِ، وهذا سِرٌّ عظيمٌ

! وهذا على القولِ بأنَّ ترتيبَ السُّوَرِ توقيفيٌّ.

2- قال الله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تسميةُ الزَّلزلةِ بـ «شيء» إمَّا لأنَّها حاصلةٌ مُتيقَّنٌ وقوعُها، فيُستسهَلُ لذلك أن تسمَّى شيئًا، وهي معدومةٌ؛ إذ اليقينُ يُشبِهُ الموجوداتِ. وإمَّا على المآلِ، أي: هي إذا وقعت شيءٌ عظيمٌ، وكأنَّه لم يُطلِقِ الاسمَ الآنَ، بل المعنى: أنَّها إذا كانت فهي إذَنْ شيءٌ عظيمٌ؛ ولذلك تَذهَلُ المراضِعُ، وتَسكَرُ النَّاسُ .

3- في قَولِه تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى دَلالةٌ على إجازةِ المُبالغةِ في الأشياءِ، حتى يُسمَّى بأضدادِها، كما يُقالُ: «فلانٌ ميتٌ» إذا كان بليدًا في أمْرِه خاليًا مِن المنافِعِ، و«فلانٌ شيطانٌ» إذا كان داهيةً، وأشباه ذلك، ألَا تراه قال: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، ثمَّ قال: وَمَا هُمْ بِسُكَارَى يعني -واللهُ أعلَمُ- مِن الشَّرابِ، ولكنْ مِن غَلبةِ الفَزَعِ لِمَا عايَنوا مِن الزَّلزَلةِ .

4- قد يكونُ سَبَبُ السُّكرِ مِن الأَلَم، كما يكونُ من اللَّذَّةِ، كما قال تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فَأخبَرَ أنَّهم يُرَونَ سُكارى وما هم بسُكارى

 

!

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ

- قولُه: اتَّقُوا رَبَّكُمْ في التَّعبيرِ عن الذَّاتِ العَلِيَّةِ بصِفَةِ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضَميرِ المُخاطبينَ: إيماءٌ إلى استحقاقِه أنْ يُتَّقى؛ لِعَظمتِه بالخالِقيَّةِ، وإلى جَدارةِ النَّاسِ بأنْ يَتقُّوه؛ لأنَّه بصِفَةِ تَدبيرِ الرُّبوبِيَّةِ لا يأمُرُ ولا يَنْهى إلَّا لمُراعاةِ مَصالحِ النَّاسِ، ودَرْءِ المفاسِدِ عنهم

.

- قولُه: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تَعليلٌ للأمْرِ بالتَّقوى، كما يُفِيدُه حَرفُ التَّوكيدِ (إنَّ) الواقِعُ في مَقامِ خِطابٍ لا تَردُّدَ للسَّامِعِ فيه، والتَّعليلُ يَقْتضي أنَّ لِزَلزلةِ السَّاعةِ أثرًا في الأمْرِ بالتَّقوى؛ وهو أنَّه وقْتٌ لحُصولِ الجزاءِ على التَّقوى وعلى العصيانِ، وذلك على وَجْهِ الإجمالِ المُفصَّلِ بما بعْدَه في وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ .

- والإتيانُ بلفْظِ شَيْءٌ؛ للتَّهويلِ بتَوغُّلِه في التَّنكيرِ، وللإيذانِ بأنَّ العُقولَ قاصِرةٌ عنْ إدراكِ كُنْهِها، والعِبارةَ ضَيِّقةٌ لا تُحِيطُ بها إلَّا على وَجْهِ الإبهامِ .

2- قولُه تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ تَمثيلٌ لبَيانِ شِدَّةِ الأمرِ وتَفاقُمِه .

- قولُه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ ... بَيانٌ لجُملةِ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ؛ لأنَّ ما ذُكِرَ يُبيِّنُ معنَى كونِها شيئًا عظيمًا، وهو أنَّه عظيمٌ في الشَّرِّ والرُّعبِ .

- وتَقديمُ يَوْمَ على عامِلِه تَرَوْنَهَا؛ للاهتمامِ بالتَّوقيتِ بذلك اليومِ، وتوقُّعِ رُؤيتِه لكلِّ مُخاطَبٍ مِنَ النَّاسِ، وأصْلُ نظْمِ الجُملةِ: تَذهَلُ كلُّ مُرضعةٍ عمَّا أرضعَتْ يومَ تَرونَ زَلزلةَ السَّاعةِ .

- وذكَرَ لفْظَ الذُّهولِ في قولِه: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا دُونَ النِّسيانِ؛ لأنَّ الذُّهولَ أدَلُّ على شِدَّةِ التَّشاغُلِ. وأطلَقَ ذُهولَ المُرضِعِ وذاتِ الحمْلِ، وأُرِيدَ ذُهولُ كلِّ ذي عِلْقٍ نَفيسٍ عن عِلْقِه على طَريقةِ الكِنايةِ. وزِيادةُ كلمةِ كُلُّ؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا الذُّهولَ يَعْتري كلَّ مُرضِعٍ، وليس هو لبَعضِ المراضِعِ باحتِمالِ ضَعفٍ في ذاكرتِها، وهي كِنايةٌ عن تَعميمِ هذا الهولِ لكلِّ النَّاسِ، وهذا مِن بَديعِ الكِنايةِ عن شِدَّةِ ذلك الهولِ؛ لأنَّ استلزامَ ذُهولِ المُرضِعِ عن رَضيعِها لشِدَّةِ الهولِ يَستلزِمُ شِدَّةَ الهولِ لغَيرِها بطَريقِ الأَولى؛ فهو لُزومٌ بدرجةٍ ثانيةٍ، وهذا النَّوعُ مِن الكِنايةِ يُسمَّى الإيماءَ . وقولُه: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا هو كِنايةٌ أيضًا كقولِه: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ .

- وقيل: مُرْضِعَةٍ دونَ (مُرضِع)؛ لأنَّ المُرضِعةَ: الَّتي هي في حالِ الإرضاعِ مُلْقِمةٌ ثَدْيَها الصَّبِيَّ. والمُرضِعُ: الَّتي شأْنُها أنْ تُرضِعَ وإنْ لم تُباشِرِ الإرضاعَ في حالِ وَصْفِها به؛ فمِن شأنِ العربِ إذا ذَكرتِ الأوصافَ المختصَّةَ بالإناثِ فأرادتِ المباشرةَ بالفِعلِ أدْخلتْ عليها التاءَ، وإذا أرادتْ مُطلَقَ الوَصفِ والنَّسَبَ جَرَّدتْها من التاءِ، فإنْ قالوا: هي مُرضِعٌ -يُريدون أنَّها ذاتُ رَضاعٍ- جَرَّدوه مِن التاءِ. وإن قالوا: هي مُرضعةٌ بمعنى أنَّها تَفعَلُ الرَّضاعَ، أي: تُلقِمُ الولدَ الثديَ، قالوا: هي مرضعةٌ -بالتَّاءِ-. فقيل هنا: مُرْضِعَةٍ؛ ليدُلَّ على أنَّ ذلك الهولَ إذا فُوجِئَتْ به هذه وقد ألْقَمَتِ الرَّضيعَ ثَدْيَها نزعَتْهُ عن فِيهِ؛ لِمَا يَلْحَقُها مِن الدَّهشةِ، وهو تصويرٌ بليغٌ يدُلُّ على شِدَّةِ الهولِ؛ لأنَّه لا يُتصوَّرُ في الشفقةِ والحنوِّ أعظمُ حالًا مِن تلك المرضعةِ التي ألْقَمتْ حبيبَها الثديَ؛ فهي تتدفَّقُ حنانًا، ومع ذلك تذهَلُ عنه إذا رأتْ تلك الأهوالَ؛ لشِدَّتِها وعظَمتِها، وعلى هذا فقولُه تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أبلغُ مِن (مُرضِع) في هذا المقام؛ فإنَّ المرأةَ قد تذهَلُ عن الرضيعِ إذا كان غيرَ مُباشِرٍ للرَّضاعةِ، فإذا الْتقَمَ الثديَ واشتغلتْ برَضاعِه لم تذهَلْ عنه إلَّا لأمرٍ أعظمَ عندَها مِن اشتغالِها بالرَّضاعِ .

- قولُه: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ (ما) في قولِه: عَمَّا مَوصولةٌ، والإتيانُ بالموصولِ وصِلَتِه عَمَّا أَرْضَعَتْ في تَعريفِ المَذهولِ عنه دونَ أنْ يقولَ: (عنِ ابْنِها)؛ للدَّلالةِ على أنَّها تَذهَلُ عن شَيءٍ هو نُصْبُ عَينِها، وهي في عمَلٍ مُتعلِّقٍ به، وهو الإرضاعُ؛ زِيادةً في التَّكنِّي عن شِدَّةِ الهولِ. وقيل: إنَّ (مَا) مَصدريَّةٌ، أي: تَذهلُ عنْ إرضاعِها، والأوَّلُ أدَلُّ على شِدَّةِ الهولِ، وكَمالِ الانزعاجِ .

- والتَّعبيرُ بـ ذَاتِ حَمْلٍ دونَ التَّعبيرِ (بحامِلٍ)؛ لأنَّه الجاري في الاستِعمالِ في الأكثرِ، مع ما في هذه الإضافةِ مِنَ التَّنبيهِ على شِدَّةِ اتِّصالِ الحمْلِ بالحاملِ؛ فيدُلُّ على أنَّ وَضْعَها إيَّاهُ لسبَبٍ مُفظعٍ . وأيضًا في عُدولِه سُبحانَه عن (كُلِّ حَامِلٍ) سِرٌّ بديعٌ؛ فإنَّ الحامِلَ قد تُطْلَقُ على المُهيَّأةِ للحمْلِ، وعلى مَن هي في أوَّلِ حَمْلِها ومبادئِه، فإذا قيل: (ذاتُ حمْلٍ) لم يكُنْ إلَّا لمَن ظهَرَ حمْلُها وصلَحَ للوضْعِ كاملًا أو سِقطًا، كما يُقالُ: (ذاتُ ولَدٍ)، فأَتَى في المُرضعةِ بالتَّاءِ التي تُحقِّقُ فِعلَ الرَّضاعةِ دونَ التَّهيُّؤِ لها، وأتى في الحامِلِ بالسَّببِ الَّذي يُحقِّقُ وُجودَ الحمْلِ، وقَبولَه للوضْعِ .

- قولُه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا... وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى فيه الاختلافُ بالجَمْعيَّةِ والإفرادِ؛ لأنَّ المَرئِيَّ في الأوَّلِ هي الزَّلزلةُ الَّتي يُشاهِدُها الجميعُ، وفي الثَّاني حالُ مَن عدا المُخاطَبِ منهم؛ فلا بُدَّ من إفرادِ المُخاطَبِ على وَجْهٍ يعُمُّ كلَّ واحدٍ منهم؛ لكنْ مِن غيرِ اعتِبارِ اتِّصافِه بتلك الحالةِ؛ فإنَّ المُرادَ بَيانُ تأثيرِ الزَّلزلةِ في المَرئيِّ لا في الرَّائي باختلافِ مَشاعِرِه، كأنَّه قيلَ: ويَصيرُ النَّاسُ سُكارى... إلخ. وإنَّما أُوثِرَ عليه ما جاء في التَّنزيلِ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى؛ للإيذانِ بكَمالِ ظُهورِ تلك الحالةِ فيهم، وبُلوغِها من الجلاءِ إلى حَدٍّ لا يَكادُ يَخْفى على أحدٍ . والمُرادُ مِنَ الأوَّلِ التَّهديدُ بالوُقوعِ، ومن الثَّاني التَّعجُّبُ مِن حالِهم . وقيل: الخِطابُ في وَتَرَى النَّاسَ لغيرِ مُعيَّنٍ، وهو كلُّ مَن تتأَتَّى منه الرُّؤيةُ مِن النَّاسِ؛ فهو مُساوٍ في المعنى للخِطابِ الَّذي في قولِه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا، وإنَّما أُوثِرَ الإفرادُ هنا للتَّفنُّنِ؛ كَراهيةَ إعادةِ الجمْعِ . وقيل: قولُه تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا وبَعْدَه: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى مُحَوَّلٌ على (أيَّها المُخاطَبُ)، أي: لو حضَرْتَ أيُّها المُخاطَبُ لرَأيتَه بهذه الصِّفةِ .

- وعُدِلَ عن فِعلِ المُضِيِّ إلى المُضارِعِ في قولِه: وَتَرَى؛ لاستحضارِ الحالةِ، والتَّعجيبِ منها .

- قولُه: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وُصِفَ النَّاسُ بذلك على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ، وقولُه بعْدَه: وَمَا هُمْ بِسُكَارَى قَرينةٌ على قَصْدِ التَّشبيهِ؛ فنَفى عنهم الحقيقةَ -وهي السُّكْرُ مِن الخمْرِ؛ وذلك لِمَا هُم فيه مِن الحيرةِ وتَخليطِ العقْلِ .

- قولُه: وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ استدراكٌ لِمَا تقدَّمَ مِن الحالةِ اللَّيِّنةِ، وهو الذُّهولُ والوضْعُ ورُؤيةُ النَّاسِ أشباهَ السُّكارى؛ وكأنَّه قيل: وهذه أحوالٌ هيِّنةٌ، ولكنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ، وليس بَهيِّنٍ ولا لَيِّنٍ .

===========

 

سورةُ الحَجِّ

الآيتان (3-4)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

 

مَرِيدٍ: أي: مُتَمَرِّدٍ خارجٍ عن الطَّاعةِ، مُتجرِّدٍ للفَسادِ، وأصلُ (مرد): يدُلُّ على تجريدِ الشَّيءِ مِن قِشرِه، أو ما يَعلوه مِن شَعرِه

.

السَّعِيرِ: السعيرُ اسْمٌ مِن أسماءِ جَهَنَّمَ، يُقال: سَعرْتُ النَّارَ، إذا ألهَبْتَها، وأصلُ (سعر): يدُلُّ على اشتِعالِ الشَّيءِ واتِّقادِه وارتِفاعِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: ومِن النَّاسِ مَن يجادِلُ في دينِ اللهِ وفي قُدرته تعالى على البَعثِ، مِن غيرِ علمٍ، ويتَّبِعُ كُلَّ شَيطانٍ طاغٍ مُتَمَرِّدٍ على اللهِ ورُسُلِه. قضى اللهُ وقدَّر أنَّ ذلك الشَّيْطانَ يُضِلُّ كُلَّ مَن اتَّبَعه، ولا يَهديه إلى الحَقِّ، بل يَسوقُه إلى عذابِ جَهنَّمَ المُوقَدةِ؛ جَزاءَ اتِّباعِه إيَّاه.

تفسير الآيتين:

 

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى بيَّن أنَّه معَ هذا التحذيرِ الشَّديدِ بذِكرِ زلزلةِ الساعةِ وشدائدِها، فإنَّ مِن الناسِ مَن يجادلُ في الله بغيرِ علمٍ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أهوالَ يَومِ القيامةِ؛ ذكَرَ مَن غَفَل عن الجزاءِ في ذلك اليومِ، وكذَّبَ به .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

أي: ومِنَ النَّاسِ صِنفٌ يجادِلُ في شأنِ اللهِ وفي دينِه بجَهلٍ، من غيرِ علمٍ صحيحٍ، جدلًا ناشئًا عن سوءِ نظرٍ، وسوءِ تفكيرٍ لإحقاقِ الباطلِ وإبطالِ الحقِّ، فينكرُ وحدانيَّةَ اللهِ وقدرتَه على إحياءِ الموتَى، ويُكذِّبُ ما جاءَتْ به رسلُه .

وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ.

أي: ويتَّبِعُ الجاهِلُ في جِدالِه في اللهِ بلا عِلمٍ كُلَّ شَيطانٍ عاتٍ طاغٍ مِن شياطينِ الإنسِ والجِنِّ، مُتجَرِّدٍ مِنَ الخيرِ، مُتمَرِّدٍ على اللهِ، فيَقبَلُ وَسوَسَته، وينقادُ للعَمَلِ بها بلا تَفكيرٍ ولا ترَدُّدٍ .

كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4).

أي: قضَى اللهُ على الشَّيطانِ المتَمَرِّدِ وقدَّر أنَّ مَنِ اتَّخَذه وليًّا فأقبَلَ عليه واتَّبَعَه؛ فإنَّ الشَّيطانَ يُضِلُّه في الدُّنيا عن الحَقِّ، ويَدُلُّه إلى طريقِ النَّارِ المُوقَدةِ ويَدْعوه إليها، فيَسوقُه إلى عَذابِها بما يُزَيِّنُه له مِنَ الباطِلِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ذَمٌّ لكلِّ مَن جادلَ في اللهِ بغَيرِ عِلمٍ، وهو دليلٌ على أنَّه جائزٌ بالعِلمِ، كما فَعَلَ إبراهيمُ بقَومِه

، فهذه الآيةُ بمَفهومِها تدُلُّ على جوازِ المجادلةِ الحَقَّةِ؛ لأنَّ تخصيصَ المجادلةِ مع عدَمِ العلمِ بالدَّلائِلِ يدُلُّ على أنَّ المجادلةَ مع العلمِ جائزةٌ، فالمجادَلةُ الباطلةُ هي المرادُ مِن قَولِه: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف: 58] ، والمجادلةُ الحقَّةُ هي المرادُ مِن قَولِه: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

 

[النحل: 125].

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ بَيَّنَ سُبحانَه حالَ مَن يُجادِلُ في الدِّينِ بلا عِلمٍ، والعِلمُ: هو ما بَعَث اللهُ به رَسولَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو: السُّلطانُ، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر: 56] ، فمَن تكَلَّمَ في الدِّينِ بغَيرِ ما بَعَث اللهُ به رَسولَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان متكَلِّمًا بغيرِ عِلمٍ

.

2- قال اللهُ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ هذا الذي يُجادِلُ في اللهِ قد جمَعَ بين ضَلالِه بنَفْسِه، وتصَدِّيهِ إلى إضلالِ النَّاسِ، وهو مُتَّبِعٌ ومُقَلِّدٌ لكُلِّ شَيطانٍ مَريدٍ، ظُلُماتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ! ويدخُلُ في هذا جُمهورُ أهلِ الكُفرِ والبِدَعِ؛ فإنَّ أكثَرَهم مُقَلِّدةٌ، يجادِلونَ بغيرِ عِلمٍ .

3- قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ هذا حالُ أهلِ الضَّلالِ والبِدَعِ؛ المُعرِضينَ عن الحَقِّ، المتَّبِعينَ للباطِلِ، يَترُكونَ ما أنزَلَه اللهُ على رَسولِه مِنَ الحَقِّ المُبينِ، ويتَّبِعونَ أقوالَ رُؤوسِ الضَّلالةِ؛ الدُّعاةِ إلى البِدَعِ بالأهواءِ والآراءِ .

4- قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ الكِتابةُ في هذه الآيةِ هي كِتابةٌ كَونيَّةٌ، ويُقابِلُها الكِتابةُ الشَّرعيَّةُ الأَمريَّةِ؛ كقَولِه تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183] ، فالأُولى كِتابةٌ بمعنى القَدَرِ، والثَّانيةُ كِتابةٌ بمَعنى الأَمْرِ .

5- عن مُضارِبِ بنِ إبراهيمَ، قال: (سألتُ الحُسَينَ بنَ الفَضلِ، فقُلتُ: إنَّك تُخرِجُ أمثالَ العَرَبِ والعَجَمِ مِنَ القُرآنِ، فهل تجِدُ في كتابِ اللهِ: «مَن أعان ظالِمًا سُلِّطَ عليه»؟ قال: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) .

6- قَولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ؛ إذ هو يقولُ جلَّ جَلالُه نصًّا مِن غَيرِ تأويلٍ: إنَّ الشَّيطانَ يُضِلُّ وَلِيَّه، ويَهدِيه إلى عذابِ السَّعيرِ بما كتَبَه عليه مِن ذلك

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ

- قولُه: وَمِنَ النَّاسِ  ... كَلامٌ مُبتدأٌ جِيءَ به بعدَ بَيانِ عَظيمِ شأْنِ السَّاعةِ المُنبئةِ عن البعثِ؛ بَيانًا لحالِ بَعضِ المُنكِرينَ لها

.

2- قَولُه تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ

- قولُه: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ فيه التَّعبيرُ بلفْظِ الهِدايةِ على سَبيلِ التَّهكُّمِ . ولمَّا كان الضَّلالُ مُشتهِرًا في معنى البُعْدِ عن الخيرِ والصَّلاح،ِ لم يُحْتَجْ في هذه الآيةِ إلى ذِكْرِ مُتعلِّقِ فِعْلِ يُضِلُّهُ؛ لظُهورِ المعنى. وذُكِرَ مُتعلِّقُ فِعْلِ يَهْدِيه، وهو: إلى عَذَابِ السَّعِيرِ؛ لأنَّ تَعلُّقَه به غريبٌ؛ إذِ الشَّأْنُ أنْ يكونَ الهُدى إلى ما يَنفَعُ، لا إلى ما يَضُرُّ ويُعذِّبُ .

================

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (5-7)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ

غريب الكلمات :

 

رَيْبٍ: الرَّيبُ: الشَّكُّ، أو هو الشَّكُّ معَ الخَوفِ، ومعَ تُهمةِ المشكوكِ فيه، وتوهُّمُ أمْرٍ ما بالشَّيءِ، والرَّيبُ مصدرُ رابني الشيءُ: إذا حصَل فيه الرِّيبةُ، وهي قلقُ النفْسِ واضطرابُها

.

نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: هي المنيُّ، وقيل: الماءُ الصَّافي ، وقيل: الماءُ القليلُ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ .

عَلَقَةٍ: العَلَقةُ: الدَّمُ الجامِدُ، وأصلُ (علق): يدُلُّ على تعلُّقِ شَيءٍ بشَيءٍ .

مُضْغَةٍ: المُضْغةُ: القِطعةُ الصَّغيرةُ مِن اللَّحمِ قَدْرَ ما يُمضَغُ، وأصلُها: مِن المَضْغِ .

مُخَلَّقَةٍ: أي: مخلوقةٍ تامَّةِ الخَلقِ، وأصلُ (خلق): يدلُّ على تقديرِ الشَّيءِ .

وَنُقِرُّ: أي: نُثبِّتُ، وأصلُه يدُلُّ على التمَكُّنِ .

لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ: أي: سِنَّ الفُتُوَّةِ واستِجماعِ القُوى، وأصلُه مِنَ الشِّدَّةِ والقُوَّةِ والجَلادةِ، وقيلَ: أصلُه الارتفاعُ؛ مِن: شَدَّ النَّهارُ، إذا ارْتفَع .

أَرْذَلِ الْعُمُرِ: أي: أرْدَئِه، وهو الهَرَمُ والخَرَفُ؛ لأنَّ الهَرَمَ أسوأُ العُمُرِ وشَرُّه، والأرذَلُ مِن كُلِّ شَيءٍ: الرَّديءُ منه .

هَامِدَةً: أي: مَيْتةً يابِسةً، لا نباتَ فيها، وأصلُ (همد): يدُلُّ على خُمودِ شَيءٍ .

اهْتَزَّتْ: أي: تحرَّكَت بالنَّباتِ عندَ وقوعِ الماءِ عليها، وأصلُ (هزز): يدُلُّ على اضطرابٍ في شَيءٍ وحَركةٍ .

وَرَبَتْ: أي: انتَفَخَت وعَلَت وزادت، وأصلُ (ربا): يدُلُّ على الزِّيادةِ والنَّماءِ والعُلُوِّ .

زَوْجٍ بَهِيجٍ: أي: جِنسٍ وصِنفٍ حَسَنٍ، والبَهيجُ بمعنى المُبهِجِ، وهو الحَسَنُ الصُّورةِ الذي تُمتَّعُ العَينُ برُؤيتِه؛ مِن البَهجةِ: أي: حُسنِ الشَّيءِ ونَضارَتِه، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارَنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: يا أيُّها النَّاسُ، إنْ كُنتُم في شَكٍّ مِن أنَّ اللهَ يُحيي الموتى، فإنَّا خلَقْنا أباكم آدَمَ مِن تُرابٍ، ثمَّ تناسَلَت ذُرِّيَّتُه مِن مَنِيٍّ، فيتحَوَّلُ بقُدرةِ اللهِ إلى عَلَقةٍ، وهي قِطعةُ دَمٍ حمراءُ جامِدةٌ تَعلَقُ برَحِمِ المرأةِ، ثمَّ إلى مُضغةٍ -وهي قِطعةُ لَحمٍ صَغيرةٌ قَدْرَ ما يُمضَغُ-، مخلَّقةٍ وغَيرِ مُخلَّقةٍ؛ لنبيِّنَ لكم تَمامَ قُدرَتِنا. ونُبقي في الأرحامِ ما نشاءُ مِن الأجنَّةِ إلى وَقتِ ولادتِه، ثم نخرِجُكم مِن بطونِ أمَّهاتِكم أطفالًا صِغارًا، ثم تَكبَرُون حتى تَبلُغوا الأشُدَّ، وهو وَقتُ اكتِمالِ القُوَّةِ والعَقلِ، ومِنكم مَن يَموتُ قبْلَ ذلك، ومِنكم مَن يَكبَرُ حتى يبلُغَ سِنَّ الهَرَمِ وضَعْفِ العَقلِ، فلا يعلَمُ هذا المعمَّرُ شَيئًا مِمَّا كان يَعلَمُه قبْلَ ذلك!

وترى الأرضَ يابِسةً مَيْتةً لا نباتَ فيها، فإذا أنزَلْنا عليها الماءَ تحَرَّكَت بالنَّباتِ وارتفَعَت وانتفَخَت، وأنبَتَت مِن كلِّ نَوعٍ مِن أنواعِ النَّباتِ الحَسَنِ الذي يَسُرُّ النَّاظِرينَ. ذلك المذكورُ مِمَّا تقدَّمَ مِن آياتِ قُدرةِ اللهِ تعالى؛ لِتَعلَموا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى هو الحقُّ، الذي لا تَنبغي العبادةُ إلَّا له، وأنَّه يُحيي الموتى، وهو قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ.

تفسير الآيات:

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا حكى اللهُ سُبحانَه عن الكافِرينَ الجِدالَ بغَيرِ العِلمِ في إثباتِ الحَشرِ والنَّشرِ، وذَمَّهم عليه، أورَدَ الدَّلالةَ على صِحَّةِ ذلك

؛ فقال تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ.

أي: يا أيُّها النَّاسُ، إنْ كُنتُم في شَكٍّ واشتِباهٍ مِن قُدرَتي على بَعْثِكم بعدَ مَوتِكم، فتَذَكَّروا أنَّني خلَقْتُ أباكم آدَمَ مِن ترابٍ؛ فالذي قدَرَ على خَلْقِكم أوَّلًا قادِرٌ على خَلْقِكم ثانيًا .

ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.

أي: ثمَّ خَلَقْناكم -يا بَني آدَمَ- مِن مَنِيٍّ .

كما قال تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 37-40] .

ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.

أي: ثمَّ خَلَقْناكم مِن قِطعةِ دَمٍ حَمراءَ جامِدةٍ تَعلَقُ برَحِمِ المرأةِ .

ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.

أي: ثمَّ خَلَقْناكم مِن قِطعةِ لَحمٍ صَغيرةٍ بمِقدارِ ما يُمضَغُ، مخلَّقةٍ وغيرِ مخلَّقةٍ .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حَدَّثنا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الصَّادِقُ المصدوقُ، قال: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلْقُه في بَطنِ أمِّه أربعينَ يَومًا، ثمَّ يكونُ عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضغةً مِثلَ ذلك، ثم يَبعَثُ اللهُ ملَكًا فيُؤمَرُ بأربَعِ كَلِماتٍ، ويُقالُ له: اكتُبْ عَمَلَه، ورِزْقَه، وأجَلَه، وشَقِيٌّ أو سَعيدٌ، ثم يُنفَخُ فيه الرُّوحُ )) .

لِنُبَيِّنَ لَكُمْ.

أي: لنُعَرِّفَكم بابتداءِ خَلْقِكم، ونُظهِرَ لكم قُدرَتَنا .

وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

أي: ونُثبِتُ في أرحامِ الأمَّهاتِ ما نشاءُ إبقاءَه مِن الأجِنَّةِ إلى الوَقتِ الذي قدَّرْناه للوِلادةِ .

ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا.

أي: ثمَّ نُخرِجُكم مِن بُطونِ أمَّهاتِكم -إذا بلَغْتُمُ الأجَلَ الذي قدَّرْناه لخُروجِكم منها- أطفالًا .

ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ.

أي: ثمَّ لِتَبلُغوا بالتَّدريجِ كَمالَ قُوَّتِكم وعُقولِكم .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر: 67].

وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا.

أي: ومِنكم -أيُّها النَّاسُ- مَن يموتُ قَبلَ أن يبلُغَ أشُدَّه، ومنكم مَن يُؤخَّرُ مَوتُه إلى أن يَبلُغَ أخَسَّ العُمُرِ وأدْوَنَه، فيَصيرُ ضَعيفًا في بَدَنِه وعَقْلِه، لا علمَ له ولا فَهمَ، بعد أن كان قَوِيًّا ذا فَهمٍ وعِلمٍ بالأشياءِ !

كما قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [النحل: 70] .

وقال سُبحانَه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] .

ثمَّ ذكَر برهانًا قاطعًا آخرَ على البعثِ ، فقال:

وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ.

أي: وتَرى الأرضَ يابِسةً قاحِلةً ساكِنةً سُكونَ الأمواتِ، لا نباتَ فيها ولا زَرْعَ، فإذا أنزَلْنا عليها الماءَ تحَرَّكَتْ بالنَّباتِ ، وارتفَعَت وانتفَخَت .

كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .

وقال سُبحانه: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9-11] .

وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

أي: وأخرَجَت الأرضُ بذلك الماءِ مِن كُلِّ صِنفٍ حَسَنٍ يَسُرُّ النَّاظرينَ مِن أصنافِ النَّباتاتِ والزُّروعِ والثِّمارِ .

كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل: 60] .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا قَرَّر اللهُ سُبحانَه الدَّليلَينِ السَّابِقَينِ، رَتَّب عليهما ما هو المَطلوبُ والنَّتيجةُ .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.

أي: ذلك الذي ذكَرْنا لكم -أيُّها النَّاسُ- مِن أطوارِ خَلْقِكم، وإحياءِ الأرضِ بالماءِ بعدَ مَوتِها؛ لِتَعلَموا بأنَّ الذي قدَرَ على فِعلِ ذلك هو الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه، الذي يَستَحِقُّ العِبادةَ وَحْدَه؛ فعِبادتُه حَقٌّ، وعِبادةُ ما سِواهُ باطِلةٌ .

وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى.

أي: ولِتَعلَموا بأنَّ الذي قَدَرَ على تلك الأشياءِ العَجيبةِ قادِرٌ على إحياءِ الموتَى .

وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أي: وأنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قادِرٌ لا يُعجِزُه شَيءٌ مِنَ البَعثِ وغَيرِه .

وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7).

وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا.

أي: ولِتُوقنوا بأنَّ القيامةَ قادِمةٌ، لا شَكَّ ولا اشتِباهَ في وقوعِها .

وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.

أي: وأنَّ اللهَ يُحيي الموتى مِن قُبورِهم، فيُخرِجُهم إلى مَوقِفِ الحِسابِ؛ لِيُجازِيَهم بأعمالِهم؛ خَيرِها، وشَرِّها

 

.

الفوائد التربوية :

 

إذا تأمَّلتَ ما دَعَا اللهُ سُبحانَه في كتابِه عِبادَه إلى الفِكرِ فيه، أوقَعَك على العِلمِ به سُبحانَه وتعالى وبوَحدانيَّتِه، وصِفاتِ كَمالِه ونُعوتِ جَلالِه؛ من عُمومِ قُدرتِه وعِلمِه، وكَمالِ حِكمتِه ورَحمتِه، وإحسانِه وبِرِّه، ولُطْفِه وعَدْلِه، ورِضاهُ وغَضَبِه، وثوابِه وعِقابِه؛ فبهذا تعَرَّف إلى عبادِه، وندَبَهم إلى التفَكُّرِ في آياتِه، ونذكُرُ لذلك أمثِلةً مِمَّا ذكَرَها اللهُ سُبحانَه في كتابِه، يُستَدَلُّ بها على غَيرِها؛ فمن ذلك: خَلقُ الإنسانِ، وقد نَدَبَ سُبحانَه إلى التفَكُّرِ فيه والنَّظَرِ، في غيرِ مَوضِعٍ مِن كِتابِه؛ كقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج: 5] ، وقال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: 5] ، وقَولِه تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ

 

[الذاريات: 21].

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، في جَعلِ كُلِّ واحِدةٍ مِن هذه المراتِبِ مَبدأً لخَلقِهم لا لخَلقِ ما بَعدَها مِنَ المراتِبِ -كما في قَولِه تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون: 14] - مزيدُ دَلالةٍ على عَظيمِ قُدرَتِه تعالى، وكَسرٌ لِسَورةِ استِبعادِهم

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ استدلَّ به مَن قال باستواءِ غيرِ المُخَلَّقةِ مع المخَلَّقةِ في إثباتِ الولَدِ، وانقضاءِ العِدَّةِ، ووجوبِ الغُرَّةِ ؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ أنَّ غيرَ المخلَّقةِ لها حُكمُ المخَلَّقةِ ، وهذا على أحدِ الأقوالِ في معنى الآيةِ.

3- إذا قيل: ما وجهُ الإفرادِ في قَولِه: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا مع أنَّ المعنى نخرِجُكم أطفالًا؟

فالجوابُ من أوجهٍ:

منها: أنَّ من أساليبِ اللُّغةِ العربيةِ التي نزَل بها القرآنُ أنَّ المفردَ إذا كان اسمَ جِنسٍ، يكثُرُ إطلاقُه مرادًا به الجَمعُ معَ تنكيرِه -كما في هذه الآية- فمِن أمثلتِه في القرآنِ قَولُه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54] أي: وأنهارٍ، بدليلِ قولِه تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ [محمد: 15] ؛ وقولُه: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74] أي: أئمَّةً، وقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء: 4] أي: أنفُسًا، وقولُه تعالى: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] أي: رُفَقاءَ، وقولُه تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] أي: مظاهِرونَ .

ومنها: أنَّه أفرده؛ لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ مِثلُ عَدلٍ، فيستوي فيه الواحِدُ وغيرُه.

ومنها: أنَّه أفرده باعتبارِ كلِّ واحدٍ منهم، أي: يُخرِجُ كُلَّ واحدٍ منكم طِفلًا .

4- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، جُعِلَ بُلوغُ الأشُدِّ عِلَّةً؛ لأنَّه أقْوى أطوارِ الإنسانِ، وأجْلَى مَظاهِرِ مَواهِبِه في الجِسْمِ والعقلِ، وهو الجانِبُ الأهَمُّ، كما أومَأَ إلى ذلك قولُه بعْدَ هذا: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، فجعَلَ (الأشُدَّ) كأنَّه الغايةُ المقصودةُ مِن تَطويرِه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا فيه سؤالٌ: كيفَ قال: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، معَ أنَّه يعلَمُ بعضَ الأشياءِ كالطِّفلِ؟ الجواب: المرادُ أنَّه يزولُ عَقلُه، فيصيرُ كأنَّه لا يَعلمُ شيئًا؛ لأنَّ مِثلَ ذلك قد يُذكَرُ في النفيِ لأجلِ المبالَغةِ .

6- في قولِه تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا جُعِلَ انتفاءُ عِلْمِ الإنسانِ عندَ أرذَلِ العُمرِ عِلَّةً لِرَدِّه إلى أرذَلِ العُمرِ، باعتبارِ أنَّه عِلَّةٌ غائيَّةٌ لذلك؛ لأنَّه ممَّا اقتضَتْهُ حِكْمةُ اللهِ في نِظامِ الخَلْقِ؛ فكان حُصولُه مَقصودًا عندَ رَدِّ الإنسانِ إلى أرذَلِ العُمرِ، فإنَّ ضَعْفَ القُوى الجِسميَّةِ يَستتبِعُ ضَعْفَ القُوى العَقليَّةِ .

7- قولُه: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ارتقاءٌ في الاستدلالِ على الإحياءِ بعْدَ الموتِ بقياسِ التَّمثيلِ ؛ لأنَّه استدلالٌ بحالةٍ مُشاهَدةٍ؛ فلذلك افتُتِحَ بفِعْلِ الرُّؤيةِ، بخلافِ الاستدلالِ بخَلْقِ الإنسانِ؛ فإنَّ مَبدأَهُ غيرُ مُشاهَدٍ، فقيل في شأْنِه: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الآيةَ. ومَحلُّ الاستدلالِ مِن قولِه تعالى: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ؛ فهو مُناسِبٌ قولَه في الاستدلالِ الأوَّلِ: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ؛ فهُمودُ الأرضِ بمَنزِلةِ مَوتِ الإنسانِ، واهتزازُها وإنباتُها بعْدَ ذلك يُماثِلُ الإحياءَ بعْدَ الموتِ .

8- في قولِه تعالى مِن أوَّلِ سُورةِ الحجِّ إلى قولِه: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ خَمْسُ نَتائِجَ، تُسْتَنْتَجُ مِن عَشْرِ مُقدِّماتٍ:

أولًا: قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، ثبَتَ عندنا بالخبرِ المتواتِرِ أنَّه سُبحانَه أخبَرَ بزلزلةِ السَّاعةِ مُعظِّمًا لها، وذلك مقطوعٌ بصِحَّتِه؛ لأنَّه خبَرٌ أخبَرَ به مَن ثبَتَ صِدقُه عمَّن ثبَتَتْ قُدرتُه، فهو حَقٌّ، ولا يُخبِرُ بالحقِّ عمَّا سيكونُ إلَّا الحقُّ؛ فاللهُ هو الحقُّ.

ثانيًا: أخبَرَ سُبحانَه أنَّه يُحْيي الموتى؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ عن أهْوالِ السَّاعةِ بما أخبَرَ، وحُصولُ فائدةِ هذا الخبرِ مَوقوفةٌ على إحياءِ الموتى لِيُشاهِدوا تلك الأهوالَ، وقد ثبَتَ أنَّه قادرٌ على كلِّ شَيءٍ، ومن هذه الأشياءِ إحياءُ الموتى.

ثالثًا: أخبَرَ أنَّه على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ؛ لأنَّه أخبَرَ أنَّه مَن يَتَّبِعِ الشَّياطينَ ومَن يُجادِلْ فيه بغيرِ علْمٍ يُذِقْهُ عذابَ السَّعيرِ، ولا يَقدِرُ على ذلك إلَّا مَن هو على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ.

رابعًا: أخبَرَ أنَّ السَّاعةَ آتيةٌ لا رَيبَ فيها؛ لأنَّه أخبَرَ بالخبرِ الصَّادقِ أنَّه خلَقَ الإنسانَ مِن تُرابٍ إلى قولِه: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، ومَن خلَقَ الإنسانَ على ما أخبَرَ به، فأوجَدَهُ بالخلْقِ ثمَّ أعدَمَهُ بالموتِ، ثمَّ يُعِيده بالبعثِ، وكذلك فِعْلُه في الأرضِ المواتِ، وصدَقَ خَبرُه في ذلك كلِّه بدَلالةِ الواقعِ الشَّاهدِ على المُتوقَّعِ الغائبِ حتَّى انقلَبَ الخبَرُ عِيانًا؛ صدَقَ خبَرُهُ في الإتيانِ بالسَّاعةِ.

خامسًا: لا تأتي السَّاعةُ إلَّا ببَعثِ مَن في القُبورِ، وهو سُبحانَه يَبعَثُ مَن في القُبورِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ

- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ التَّعريفُ في النَّاسُ للعَهْدِ، والمعهودُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

.

- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ التَّعبيرُ عن اعتقادِهم في حَقِّه بالرَّيبِ مع التَّنكيرِ المُنْبئِ عن القلَّةِ، معَ أنَّهم جازِمونَ باستحالتِه، وإيرادُ كلمةِ الشَّكِّ مع تَقرُّرِ حالِهم في ذلك، وإيثارُ ما عليهِ النَّظمُ الكريمُ عَلى أنْ يُقالَ: (إنِ ارتبْتُم في البعثِ)؛ إمَّا للإيذانِ بأنَّ أقْصى ما يُمكِنُ صُدورُه عنهم -وإنْ كانوا في غايةِ ما يكونُ من المُكابَرةِ والعِنادِ- هو الارتيابُ في شأْنِه، وأمَّا الجزمُ المذكورُ فخارِجٌ مِن دائرةِ الاحتمالِ، كما أنَّ تَنكيرَه وتَصديرَه بكلمةِ الشَّكِّ؛ للإشعارِ بأنَّ حَقَّه أنْ يكونَ ضَعيفًا مَشكوكَ الوُقوعِ، وإمَّا للتَّنبيهِ على أنَّ جَزْمَهم ذلك بمَنزِلةِ الرَّيبِ الضَّعيفِ؛ لكَمالِ وُضوحِ دَلائلِ الإعجازِ ونِهايةِ قُوَّتِها، وإنَّما لم يقُلْ: (وإنِ ارتبْتُم في البعثِ...)؛ للمُبالغةِ في تَنزيهِ الإيمانِ بالبَعثِ عن شائبةِ وُقوعِ الرَّيبِ فيه، والإشعارِ بأنَّ ذلك إنْ وقَعَ فمِن جِهَتِهم لا مِن جِهَتِه العاليةِ، واعتبارُ استقرارِهم فيه وإحاطتُه بهم لا يُنافي اعتبارَ ضَعْفِه وقِلَّتِه؛ لِمَا أنَّ ما يَقْتضيه ذلك هو دوامُ مُلابسَتِهم به، لا قُوَّتُه وكَثرتُه .

- قولُه: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ  ... عُطِفَتِ النُّطفةُ بـ (ثُمَّ)؛ لأنَّ الَّذي خُلِقَ من تُرابٍ هو أصْلُ النَّوعِ، وهو آدمُ عليه السَّلامُ، وسُلِّطَ الفِعلُ عليهم من حيث هُم مِن ذُرِّيتِه، وخُلِقتْ زوجُه حواءُ مِنه، ثمَّ كُوِّنَت في آدَمَ وزَوْجِه قُوَّةُ التَّناسُلِ؛ فصار الخلْقُ منَ النُّطفةِ؛ فـ (ثُمَّ) الَّتي عُطِفَ بها ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ عاطفةٌ مُفرداتٍ؛ فهي للتَّراخي الحقيقيِّ. و(مِن) المُكرَّرةِ أربَعَ مرَّاتٍ هنا ابتدائيَّةٌ، وتَكريرُها تَوكيدٌ .

- وعبَّرَ بقولِه: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مع المُضْغةِ؛ لمَّا كان الإنسانُ فيه أعضاءٌ مُتباينةٌ، وكلُّ واحدٍ منها مُختصٌّ بخَلْقٍ، حسُنَ تَضعيفُ الفِعْلِ؛ لأنَّ فيه خلْقًا كثيرةً .

- وفي قولِه: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ كان مُقْتضى التَّرتيبِ السَّابقِ المَبْنيِّ على التَّدرُّجِ مِن المبادئِ البعيدةِ إلى القريبةِ: أنْ يُقدَّمَ غيرُ المُخلَّقةِ على المُخلَّقةِ، وإنَّما أُخِّرَت عنها؛ لأنَّ المُخلَّقةَ أدخَلُ في الاستدلالِ، وذكَرَ بعْدَه غيرَ المُخلَّقةِ؛ لأنَّه إكمالٌ للدَّليلِ، وتَنبيهٌ على أنَّ تَخليقَها نشَأَ عن عدَمٍ؛ فكِلَا الحالينِ دليلٌ على القُدرةِ على الإنشاءِ، وهو المَقصودُ مِن الكَلامِ؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، أي: لنُظْهِرَ لكم -إذا تأملتُم- دليلًا واضحًا على إمكانِ الإحياءِ بعْدَ الموتِ .

- قولُه: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وُرودُ الفِعْلِ غيرَ مُعَدًّى إلى المُبَيَّنِ: إعلامٌ بأنَّ أفعالَه هذه يَتبيَّنُ بها مِن قُدرتِهِ وعِلْمِه ما لا يَكْتنِهُه الذِّكْرُ، ولا يُحِيطُ به الوصْفُ . وقيل: لِنُبيِّنَ أمْرَ البعثِ، فهو اعتراضٌ بينَ الكلامينِ . ولمَّا اشتمَلتْ تلك الأطوارُ السَّابقةُ على احتقارِ المُنكَّرِ مِن كَونِه نُطفةً وعَلَقةً ومُضغةً؛ أُبْرِزَ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ؛ تَنبيهًا على اختصامِه مع احتقارِه . وقيل: حُذِفَ مفعولُ لِنُبَيِّنَ؛ إشارةً إلى أنَّه يَدخُلُ فيه كلُّ ما يُمكِنُ أنْ يُحيطَ به العقولُ .

- وتَقديمُ التَّبْيينِ على ما بعدَهُ مع أنَّ حُصولَه بالفِعْلِ بعْدَ الكلِّ؛ للإيذانِ بأنَّه غايةُ الغاياتِ، ومَقصودٌ بالذَّاتِ . وأيضًا لمَّا كانت دَلالةُ الأوَّلِ عَلى كَمالِ قُدرتِه تعالى على جَميعِ المقدُوراتِ -الَّتي مِنْ جُملتِها البَعْثُ المَبْحوثُ عنه- أجْلى وأظهَرَ؛ قدَّم قولَه تعالى: لِنُبَيِّنَ على الإقرارِ والإخراجِ .

- قولُه: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ حالِهم بعْدَ تَمامِ خلْقِهم . أو وَنُقِرُّ عطْفٌ على جُملةِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، وعُدِلَ عن فِعْلِ المُضِيِّ إلى الفِعْلِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على استِحضارِ تلك الحالةِ؛ لِمَا فيها مِن مُشابَهةِ استقرارِ الأجسادِ في الأجداثِ، ثمَّ إخراجِها منها بالبَعْثِ، كما يَخرُجُ الطِّفلُ مِن قَرارةِ الرَّحمِ مع تَفاوُتِ القرارِ؛ فمِنَ الأجِنَّةِ ما يَبْقى سِتَّةَ أشهُرٍ، ومنها ما يَزيدُ على ذلك، وهو الَّذي أفادَهُ إجمالُ قولِه تعالى: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. والاستدلالُ في هذا كلِّه بأنَّه إيجادٌ بعْدَ العدَمِ، وإعدامٌ بعْدَ الوُجودِ؛ لتَبْيينِ إمكانِ البعثِ بالنَّظيرِ وبالضِّدِّ .

- وعُطِفَت جُملةُ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا بحَرْفِ (ثمَّ)؛ للدَّلالةِ على التَّراخي الرُّتبيِّ؛ فإنَّ إخراجَ الجنينِ هو المقصودُ . ويجوزُ أنْ تكونَ (ثم) في الموضعَينِ -ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ- للتراخي الزَّمَني، على اعتبار أنَّ بلوغَ الأشُدِّ متراخٍ زمنًا عن إخراجِهم طفلًا، وهو -أي: إخراجُهم طفلًا- متراخٍ عن إقرارِهم في الأرحامِ، لكنَّ الأنسبَ للمقامِ أنْ تكونَ للتراخي الرُّتبيِّ .

- قولُه: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ الأشُدُّ: كَمالُ القُوَّةِ والعَقْلِ والتَّمييزِ، وهو مِن ألْفاظِ الجُموعِ الَّتي لم يُسْتعمَلْ لها واحدٌ -على قولٍ مِن الأقوالِ-، وكأنَّها شِدَّةٌ في غيرِ شَيءٍ واحدٍ؛ فبُنِيَت لذلك على لفْظِ الجَمْعِ .

- وإيثارُ البُلوغِ مُسنَدًا إلى المُخاطَبينَ لِتَبْلُغُوا على التَّبليغِ مُسنَدًا إليه تعالى (لِنُبلِّغَكم)، كالأفعالِ السَّابقةِ (خَلَقْنَاكُمْ- لِنُبَيِّنَ- نُقِرُّ- نُخْرِجُكُمْ)؛ لأنَّ لِتَبْلُغُوا هو المُناسِبُ لبَيانِ حالِ اتِّصافِهم بالكَمالِ، واستقلالِهم بمَبْدئيَّةِ الآثارِ والأفعالِ .

- وإعادةُ اللَّامِ هاهنا في لِتَبْلُغُوا مع تَجْريدِ الأوَّلَينِ عنها (نُقِرُّ، نُخرِجُكم)؛ للإشعارِ بأصالتِه في الغَرضيَّةِ بالنِّسبةِ إليهما؛ إذْ عليه يَدورُ التَّكليفُ المُؤدِّي إلى السَّعادةِ والشَّقاوةِ .

- وقوله: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ وقَعَ في سُورةِ (غافرٍ): ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا [غافر: 67] ، فعُطِفَ طورُ الشَّيخوخةِ على طَورِ الأشُدِّ، باعتبارِ أنَّ الشَّيخوخةَ مَقصِدٌ للأحياءِ؛ لحُبِّهم التَّعميرَ، وتلك الآيةُ ورَدَتْ مَورِدَ الامتنانِ؛ فذكَرَ فيها الطَّورَ الَّذي يَتملَّى المَرْءُ فيه بالحياةِ، ولم يُذْكَرْ هنا في آيةِ سُورةِ (الحجِّ)؛ لأنَّها وردَتْ مَورِدَ الاستدلالِ على الإحياءِ بعْدَ العدَمِ؛ فلم يُذْكَرْ فيها من الأطوارِ إلَّا ما فيه ازديادُ القُوَّةِ ونَماءُ الحياةِ دونَ الشَّيخوخةِ القريبةِ مِن الاضمحلالِ، ولأنَّ المُخاطبينَ بها فَريقٌ مُعيَّنٌ مِن المُشركينَ كانوا في طَورِ الأشُدِّ، وقد نُبِّهوا عَقِبَ ذلك إلى أنَّ منهم نفَرًا يُرَدُّونَ إلى أرذَلِ العُمرِ -وهو طَورُ الشَّيخوخةِ- بقولِه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ .

- وجِيءَ بقولِه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى على وَجْهِ الاعتراضِ؛ استقراءً لأحوالِ الأطوارِ الدَّالَّةِ على عَظيمِ القُدرةِ والحِكْمةِ الإلهيَّةِ، مع التَّنبيهِ على تَخلُّلِ الوُجودِ والعدمِ أطوارَ الإنسانِ بَدْءًا ونِهايةً، كما يَقْتضيه مَقامُ الاستدلالِ على البَعْثِ .

- قولُه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ هو عديلُ قولِه تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وسكَتَ عن ذِكْرِ الموتِ بعْدَ أرذَلِ العُمرِ؛ لأنَّه مَعلومٌ بطريقةِ لَحْنِ الخِطابِ ؛ فأصْلُ الكلامِ: (ومنكم مَن يُرَدُّ إلى أرذَلِ العُمرِ ثُمَّ يُتوفَّى)، فحُذِفَت جُملةُ (ثُمَّ يُتوفَّى)؛ لدَلالةِ الجُملةِ المذكورةِ عليها .

- قولُه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ فيه إيرادُ (التَّوفِّي) و(الرَّدِّ) على صِيغَةِ المَبْنيِّ للمفعولِ؛ للجَرْيِ على سَننِ الكِبْرياءِ؛ لتَعيُّنِ الفاعلِ .

- قولُه: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا عُبِّرَ بـ شَيْئًا؛ مُبالَغةً في انتقاصِ عِلْمِه، وانتكاسِ حالِه ؛ فقد جاءت نَكِرةً لإفادةِ العُمومِ .

- و(مِن) في قولِه: مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا للتَّأكيدِ .

- وعُطِفَ قولُه: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً على قولِه: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ؛ لكونِ الدَّلائلِ الآفاقيَّةِ مُرتبِطةً بالأنْفُسيَّةِ، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] ، ومُشتبِكةً بعْضُها مع بعْضٍ، خُصوصًا دَلالةَ إحياءِ الأرضِ بعْدَ مَوتِها، وكانت أنْموذجًا للبعْثِ والنَّشرِ .

- قولُه: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فيه الإتيانُ بالفِعْلِ على صِيغَةِ المُضارِعِ وَتَرَى؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ .

- قولُه: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ سِيقَ هذا الوصْفُ إدماجًا للامتنانِ في أثناءِ الاستدلالِ؛ امتنانًا بجَمالِ صُورةِ الأرضِ المُنْبِتةِ؛ لأنَّ كونَه بَهيجًا لا دخْلَ له في الاستدلالِ، فهو امتنانٌ مَحْضٌ .

- وأيضًا مِن فُنونِ البلاغةِ الَّتي اشتَمَلَ عليها قولُه تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ: العدولُ عن لَفْظيِ الحَركةِ والسُّكونِ إلى أردافِهما من لَفظيِ (الهُمودِ) و(الاهتِزازِ)؛ لِمَا في لَفظيِ الإردافِ من المُلاءَمةِ للمعنى المُرادِ؛ لأنَّ الهُمودَ يُرادُ به الموتُ، والأرضُ في حالِ عَطَلِها مِن السَّقْيِ والنَّباتِ مواتٌ؛ فكان العُدولُ إلى لفْظِ (الهُمودِ) المُعبَّرِ به عن الموتِ أَولى من لفْظِ (السُّكونِ)، والاهتزازُ مُشعِرٌ بالعطاءِ كاهتزازِ المَمدوحِ للمدْحِ؛ فلأجْلِ ذلك عُدِلَ عن لفْظِ الحركةِ العامِّ إلى لَفظِ الحركةِ الخاصِّ وهو الاهتزازُ؛ لِمَا يُشعِرُ أنَّ الأرضَ ستُعْطي عندَ سَقْيِها ما يُرْضِي مِن نَباتِها بتَنزُّلِ السَّقْيِ لها مَنزِلةَ ما يَسُرُّها؛ فاهتزَّتْ لتَشعُرَ بالعطاءِ؛ فظهَرَتْ فائدةُ العُدولِ إلى لفْظِ الإردافِ. ومنها: حُسْنُ التَّرتيبِ؛ حيث تقدَّمَ لفْظُ (الاهتزازِ) على لَفْظِ (الرُّبُوِّ)، ولَفظُ (الرُّبُوِّ) على (الإنباتِ)؛ لأنَّ الماءَ إذا نزَلَ على الأرضِ فرَّقَ أجزاءَها ودخَلَ في خِلالِها، وتَفريقُ أجزاءِ الجَماداتِ هو حركَتُها حالةَ تفرُّقِ الاتِّصالِ؛ لأنَّ انقسامَ الشَّيءِ يدُلُّ على انتقالِ قِسْمَيه أو أحَدِهما عن حَيِّزِه، ولا معنى للحركةِ إلَّا هذا؛ فالاهتزازُ يجِبُ أنْ يُذْكَرَ عَقِيبَ السَّقْيِ، كما جاء (الرُّبُوُّ) بعْدَ (الاهتزازِ)؛ فإنَّ التُّرابَ إذا دخَلَهُ الماءُ ارتَفَعَ بالنِّسبةِ إلى حالِه قبْلَ ذلك، وهذا هو الرُّبُوُّ بعَينِه؛ فحصَلَ حُسنُ الترتيبِ مع حُسنِ النَّسقِ .

2- قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَلامٌ مُستأنَفٌ جِيءَ به إثْرَ تَحقيقِ حَقِّيَّةِ البعثِ، وإقامةِ البُرهانِ عليه مِن العالَمينِ الإنسانيِّ والنَّباتيِّ؛ لبَيانِ أنَّ ذلك مِن آثارِ أُلوهيَّتِه تعالى وأحكامِ شُؤونِه الذَّاتيَّةِ والوصفيَّةِ والفِعْليَّةِ . وهو فَذلكةٌ لِمَا تقدَّمَ؛ فالجُملةُ تَذييلٌ .

- وذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ مِن خلْقِ الإنسانِ على أطوارٍ مُختلفةٍ، وإحياءِ الأرضِ بعْدَ مَوتِها، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنزِلَتِه في الكَمالِ .

- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ فيه قَصرٌ إضافيٌّ ، أي: دونَ غَيرِه مِن مَعبوداتِكم؛ فإنَّها لا وُجودَ لها .

- وفي قولِه: وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى تَخصيصُ إحياءِ الموتى بالذِّكْرِ مع كَونِه من جُملةِ الأشياءِ المقدورِ عليها؛ للتَّصريحِ بما فيه النِّزاعُ، والدَّفعِ في نُحورِ المُنكِرينَ. وتَقديمُه؛ لإبرازِ الاعتناءِ به .

3- قولُه تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ تَوكيدٌ لقولِه: وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى .

- قولُه: وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا فيه إيثارُ صِيغةِ الفاعلِ آَتِيَةٌ على الفِعلِ؛ للدَّلالةِ على تَحقيقِ إتيانِها وتَقرُّرِه الْبتَّةَ؛ لاقتضاءِ الحِكْمةِ إيَّاهُ لا مَحالةَ .

-  وصِيغةُ نَفْيِ الجِنْسِ على سَبيلِ التَّنصيصِ في قوله تعالى: لَا رَيْبَ فِيهَا صِيغةُ تأكيدٍ .

=================

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (8-10)

ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ

غريب الكلمات:

 

ثَانِيَ عِطْفِهِ: أي: لاوِيًا عُنُقَه تَكَبُّرًا، والثَّنْيُ: لَيُّ الشَّيءِ، والعِطْفُ: الجانِبُ، وعِطْفا الرَّجُلِ: جانِباه عن يَمينٍ وشِمالٍ مِنْ لَدُنْ رأسِه إلى وَرِكِه، وهو المَوضِعُ الذي يَعطِفُه الإنسانُ، أي: يَلويه ويُميلُه عندَ الإعراضِ عن الشَّيءِ

.

خِزْيٌ: أي: هوانٌ، وهلاكٌ، وأصلُ الخِزي: الإبعادُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ومِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ رُسُلَ اللهِ وأتباعَهم في شأنِ اللهِ تعالى بغيرِ عِلمٍ ولا دَلالةٍ صَحيحةٍ، ولا كتابٍ مِن اللهِ فيه بُرهانٌ وحُجَّةٌ واضِحةٌ، لاويًا جانِبَه وعُنُقَه، متكبِّرًا مُعرِضًا عن الحَقِّ؛ لِيَصُدَّ عن دينِ اللهِ، فله خِزيٌ في الدُّنيا وذِلَّةٌ، ونذيقُه يومَ القيامةِ عذابُ النَّارِ. ويُقالُ له: ذلك العَذابُ بسَبَبِ ما فَعَلْتَ مِنَ المعاصي، واكتسَبْتَ مِنَ الآثامِ، واللهُ ليس بظلَّامٍ للعبيدِ، فلا يعَذِّبُ أحَدًا بغيرِ ذَنبٍ.

تفسير الآيات:

 

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى حالَ الضُّلَّالِ الجُهَّالِ المقَلِّدينَ، في قَولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ؛ ذكَرَ في هذه حالَ الدُّعاةِ إلى الضَّلالِ مِن رُؤوسِ الكُفرِ والبِدَعِ، فقال

:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

أي: ومِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ رُسُلَ اللهِ وأتباعَهم في شأنِ اللهِ وتوحيدِه وقدرتِه بجَهلٍ، مِن غَيرِ عِلمٍ صَحيحٍ .

وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ.

أي: ويُجادِلُ في اللهِ بمُجَرَّدِ رأيِه وهواهُ، بغيرِ دَلالةٍ صَحيحةٍ يَهتَدي بها للصَّوابِ، ولا كِتابٍ إلهيٍّ نيِّرٍ بيِّنِ الحُجَّةِ يُنيرُ عن حُجَّتِه ورأيِه، وإنَّما يقولُ ما يقولُ مِنَ الجَهلِ بمجرَّدِ ظُنونِه .

ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9).

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: لِيُضِلَّ قراءتانِ:

1- قِراءةُ لِيَضِلَّ بفَتحِ الياءِ، أي: ليَضِلَّ هو .

2- قراءةُ لِيُضِلَّ بضم الياءِ، أي: ليُضِلَّ غَيرَه .

ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

أي: يجادِلُ بالباطِلِ لاوِيًا جانِبَه وعُنُقَه؛ إعراضًا وتكبُّرًا عن قَبولِ الحَقِّ، واحتِقارًا لِداعيه؛ لِيَصُدَّ عن دينِ اللهِ وشرعِه .

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر: 56] .

لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ.

أي: لذلك المُجادِلِ في اللهِ بالباطِلِ ذُلٌّ ومَهانةٌ في الدُّنيا .

وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ.

أي: ونُذيقُه يومَ القِيامةِ ألَمَ عَذابِ النَّارِ المُحرِقةِ .

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10).

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ.

أي: يُقالُ له حينَ يذوقُ عَذابَ النَّارِ يَومَ القيامةِ: هذا العَذابُ الواقِعُ بك بسَبَبِ ما قَدَّمَتْه يداك في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والمعاصي .

وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

أي: وفعَلْنا ذلك؛ لأنَّ اللهَ ليس بِذِي ظُلمٍ للعِبادِ، فلم يكُنْ لِيُعَذِّبَهم بغيرِ ذَنبٍ اقتَرَفوه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ يدُلُّ على أنَّ الجِدالَ مع العِلمِ والهُدى والكِتابِ المُنيرِ حَقٌّ حَسَنٌ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ هذا من آياتِ اللهِ العَجيبةِ؛ فإنَّك لا تجِدُ داعِيًا مِن دُعاةِ الكُفرِ والضَّلالِ إلَّا وله مِن المَقتِ بينَ العالَمينَ، واللَّعنةِ والبُغضِ والذَّمِّ- ما هو حقيقٌ به، وكُلٌّ بحَسَبِ حالِه .

3- قال الله تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ الكَريمةِ أنَّ مَن ثَنَى عِطْفَه استِكبارًا عن الحَقِّ وإعراضًا عنه، عامَلَه اللهُ بنَقيضِ قَصْدِه، فأذَلَّه وأهانه، وذلك الذُّلُّ والإهانةُ نَقيضُ ما كان يؤَمِّلُه مِن الكِبرِ والعَظَمةِ ، فلمَّا استكبَر عن آياتِ الله لقَّاه اللهُ المذلَّةَ في الدُّنيا، وعاقَبه فيها قبْلَ الآخرةِ؛ لأنَّها أكبرُ همِّه، ومبلغُ علمِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ رَتَّبَ سُبحانَه هذه الأمورَ الثَّلاثةَ أحسَنَ ترتيبٍ؛ فبدأ بالأعَمِّ، وهو العلمُ، وأخبَرَ أنَّه لا علمَ عندَ المُعارِضِ لآياتِه بعَقلِه، ثمَّ انتقَلَ منه إلى ما هو أخَصُّ، وهو الهُدى، ثمَّ انتقَلَ إلى ما هو أخَصُّ، وهو الكِتابُ المُبينُ؛ فإنَّ العلمَ أعَمُّ مِمَّا يُدرَكُ بالعَقلِ والسَّمعِ والفِطرةِ، وأخَصُّ منه الهُدى الذي لا يُدرَكُ إلَّا مِن جهةِ الرُّسُلِ، وأخَصُّ منه الكِتابُ الذي أنزلَه اللهُ على رَسولِه؛ فإنَّ الهدى قد يَكونُ كِتابًا وقد يكونُ سُنَّةً

.

2- ذَكَر الله سُبحانَه التَّفصيلَ في مُجادَلةِ المتبوعِ الدَّاعي، وأنَّها: فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ، واكتفَى في ذِكْرِ التابعِ -في قوله سُبحانَه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ- بنفيِ العلمِ، المستلزمِ لنفيِ هذه الثلاثةِ؛ فإنَّ مجادلةَ المتبوع أصلٌ؛ وهو أقعدُ بها مِن مجادلةِ التَّابعِ، ومصدرُها كِبْرٌ، ومصدرُ مجادلةِ التَّابعِ ضلالٌ وتقليدٌ؛ فذَكَرَ حالَ المتبوعِ على التفصيلِ؛ ولهذا ذَكَرَ فسادَ قصدِه وعِلْمِه، وذَكَر مِن عقوبتِه أَشَدَّ ممَّا ذَكَرَ مِن عقوبةِ التَّابعِ، وهذا وأمثالُه مِن أسرارِ القرآنِ التي حرَّمَها اللهُ على مَن عارضَ بينَه وبينَ العقلِ، وقَدَّمَ العقلَ عليه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، أي: بعَمَلِك، ولكِنَّه جرت عادةُ العَرَبِ أن تُضيفَ الأعمالَ إلى اليَدِ؛ لأنَّها آلةُ أكثَرِ العَمَلِ، فبها يُزاوَلُ أكثرُ الأعمالِ، فغلبَتْ على غيرِها ، ولكونِ مباشرةِ المعاصي تكونُ بها في الغالبِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ كُرِّرَ ذِكْرُ المُجادَلةِ؛ وقد سبَق قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3] ؛ وذلك مُبالَغةً في الذَّمِّ، ولكونِ كلِّ واحدةٍ اشتمَلَتْ على زِيادةٍ ليست في الأُخرى

. أو أنَّهما في الدعاةِ المضلِّينَ، واعتُبِر تغايرُ أوصافِهم فيها، وعليه؛ فلا تَكرارَ . وقيل: الأوَّلُ في المُقلِّدينَ ، وهذا في المُقلَّدينَ .

- قولُه: وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ والمُنِيرُ: المُبيِّنُ للحقِّ؛ شُبِّهَ بالمصباحِ المُضِيءِ في اللَّيلِ .

2- قَولُه تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ

- قولُه: ثَانِيَ عِطْفِهِ كِنايةٌ عن الكِبْرياءِ والجَبروتِ؛ لأنَّ ذا الجَبروتِ لا تَعطُّفَ له ولا رَحمةَ؛ كأنَّه قِيلَ: مِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ في اللهِ مُتجبِّرًا في نَفْسِه، ولا يَعْطِفُ على أحدٍ. وقيل: مُعرِضًا عن الحقِّ؛ استخفافًا به . أو هو تَمثيلٌ للتَّكبُّرِ والخُيلاءِ .

- وإفرادُ الضَّميرِ في قولِه: عِطْفِهِ وما ذُكِرَ بعْدَه (لِيُضِلَّ - لَهُ - وَنُذُيقُهُ)؛ مُراعاةً لِلَفْظِ (مَن)، وإنْ كان معنَى تلك الضَّمائرِ الجَمْعَ .

- وقولُه: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعليلٌ للمُجادَلةِ. وعلى قِراءةِ لِيَضِلَّ فيكونُ غرَضُه مِن جِدالِه الضَّلالَ عن سَبيلِ اللهِ؛ وعُلِّلَ به؛ لأنَّه لمَّا أدَّى جِدالُه إلى الضَّلالِ، جُعِلَ كأنَّه غرَضُه، ولمَّا كان الهُدى مُمْكِنًا له، فترَكَه وأعرَضَ عنه، وأقبَلَ على الجِدالِ بالباطلِ؛ جُعِلَ كالخارجِ مِن الهُدى إلى الضَّلالِ .

- وجُملةُ: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ مُستأْنَفةٌ، مَسوقةٌ لبَيانِ نَتيجةِ ما سلَكَه مِنَ الطَّريقةِ .

3- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ

- قولُه: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ فيه الْتفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ، والالْتفاتُ لتأْكيدِ الوعيدِ، وتَشديدِ التَّهديدِ، أو على إرادةِ قَولٍ مَحذوفٍ، أي: يُقالُ له يومَ القيامةِ .

- والتَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه مِن معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ بكَونِه في الغايةِ القاصيةِ مِن الهولِ والفَظاعةِ .

- وجُملةُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اعتراضٌ تَذييليٌّ، مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَها .

- وجاءت صِيغَةُ المُبالَغةِ بِظَلَّامٍ -مع أنَّ نفْيَ المبالغةِ لا يَستلزمُ نفْيَ الفِعلِ مِن أصلِه، والمرادَ بنَفْي المبالغةِ هو نفيُ الظُّلْمِ مِن أصلِه-؛ لكَثرةِ العَبيدِ؛ فاللهُ جلَّ وعلَا نفَى ظُلْمَه للعبيدِ، والعبيدُ في غايةِ الكثرةِ، والظُّلمُ المنفيُّ عنهم تَستلزِمُ كَثْرتُهم كَثْرتَه؛ فناسَبَ ذلك الإتيانُ بصِيغةِ المبالَغةِ؛ للدَّلالةِ على كَثرةِ المنفيِّ التابعةِ لكَثرةِ العبيدِ المنفيِّ عنهم الظُّلمُ؛ إذ لو وقَع على كلِّ عبدٍ ظُلمٌ، ولو قليلًا، كان مجموعُ ذلك الظُّلمِ في غايةِ الكَثرةِ؛ فالمرادُ بذلك نفْيُ أصْلِ الظُّلمِ عن كُلِّ عَبدٍ مِن أولئك العَبيدِ، الذين هم في غايةِ الكثرة، سُبحانَه وتعالى عن أنْ يَظلِمَ أحدًا شيئًا .

وقيل: نفيُ صِيغةِ المبالغةِ إذا دلَّتْ أدلَّةٌ مُنفصِلةٌ على أنَّ المُرادَ به نفيُ أصْلِ الفِعلِ؛ فلا إشكالَ؛ لقِيامِ الدليلِ على المرادِ، والآياتُ الدالَّةُ على نفْيِ الظُّلمِ مِن أصلِه عن اللهِ تعالى كثيرةٌ معروفةٌ؛ كقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ... [النساء: 40] ، وقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] ، وغيرِ ذلك من الآياتِ. أو: يكون المسوِّغُ لصِيغةِ المبالغةِ أنَّ عذابَه تعالَى بالِغٌ مِن العِظَمِ والشِّدَّةِ أنَّه لولا استحقاقُ المعذَّبِينَ لذلك العَذابِ بكُفرِهم ومَعاصيهم - لكان مُعذِّبُهم به ظلَّامًا بليغَ الظُّلمِ مُتفاقِمَه؛ سُبحانَه وتعالى عن ذلِك عُلوًّا كَبيرًا. أو: يكون المرادُ بالنفيِ في قوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نفيَ نِسبةِ الظُّلمِ إليه؛ لأنَّ صِيغةَ (فَعَّال) تُستعمَل مُرادًا بها النِّسبةُ؛ فتُغني عن ياءِ النَّسبِ؛ فقولُه تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، أي: وما رَبُّكَ بذِي ظُلمٍ للعَبيدِ . وقيل غيرُ ذلك .

- و(العبيد) ذُكِر هنا في معنى مسكنتِهم، وقلَّةِ قدرتِهم؛ فلذلك جاءَت هذه الصيغةُ .

================

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (11-13)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات :

 

عَلَى حَرْفٍ: أي: على شَكٍّ، والحَرفُ: الطَّرَفُ والجانِبُ، نحو حَرفِ الجبلِ الذي عليه القائمُ غيرُ مستقرٍّ، وأصلُ (حرف): يدلُّ على حَدِّ الشَّيءِ

.

فِتْنَةٌ: أي: ابتلاءٌ واختبارٌ بمكروهٍ يُصيبُه في أهلِه أو مالِه أو نفْسِه، وأصْلُ (فتن): يدُلُّ على اختِبارٍ وابتِلاءٍ .

انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ: أي: ارتَدَّ ورجَعَ عن دينِه إلى الكُفرِ، ويُطلَقُ الانقِلابُ كثيرًا على الانصرافِ منِ الجِهةِ التي أتاها إلى الجِهةِ التي جاء منها، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على رَدِّ شَيءٍ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ .

الْمَوْلَى: أي: الوَليُّ النَّاصِرُ، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ .

الْعَشِيرُ: أي: الصَّاحِبُ المُخالِطُ، وأصلُ (عشر): يدُلُّ على مُداخَلةٍ ومُخالَطةٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ

جملةُ يَدْعُو مُستأنفةٌ، ولَمَنْ ضَرُّهُ اللامُ زائدةٌ في المفعولِ للتأكيدِ، و(مَن) اسمٌ موصولٌ في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به، أي: يدعو مَنْ ضرُّه أقرَبُ، وضَرُّهُ أَقْرَبُ مبتدأٌ وخبَرٌ. ويؤيِّدُ هذا الوجهَ قراءةُ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ: (يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ)، وجملةُ ضَرُّهُ أَقْرَبُ صِلةُ (مَن) لا محَلَّ لها. وقيلَ: اللَّامُ في لَمَنْ للابتِداءِ مُزَحْلقةٌ عن محَلِّها الأصليِّ، وهي تُفيدُ تأكيدَ مَضمونِ الجُملةِ الواقِعةِ بَعدَها، وقُدِّمَت مِن تأخيرٍ؛ إذ حَقُّها أن تدخُلَ على صِلَةِ (مَنْ) الموصولةِ، والأصلُ: يدعو مَن لَضَرُّه أقرَبُ مِن نَفعِه. واللَّامُ في لَبِئْسَ واقعةٌ في جوابِ قَسَمٍ مُقَدَّر. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ومِنَ النَّاسِ مَن يَعبدُ الله على شَكٍّ وترَدُّدٍ، فإنْ أصابه خيرٌ مِن صِحَّةٍ وسَعَةٍ وغَيرِهما، استمَرَّ على عبادتِه، وإنْ حصَلَ له ابتِلاءٌ بمَكروهٍ وشِدَّةٍ، رجَعَ عن دينِه، فهو بذلك قد خَسِرَ الدُّنيا؛ إذ لم يَظفَرْ بحاجَتِه منها، وحُرِمَ الطُّمأنينةَ ومُوالاةَ المُسلِمينَ، وخَسِرَ الآخِرةَ بدُخولِه النَّارَ، وذلك خُسرانٌ بيِّنٌ واضِحٌ.

يَدْعو ذلك المرتَدُّ آلِهةً مِن دُونِ اللهِ لا تضُرُّه ولا تنفَعُه، ذلك هو الضَّلالُ البَعيدُ عن الحَقِّ. يدعو مَن ضَرَرُه المحقَّقُ أقرَبُ مِن نَفْعِه، قَبُحَ ذلك المعبودُ نَصيرًا، وقَبُحَ عَشيرًا ومُصاحِبًا!

تفسير الآيات:

 

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المُظهِرينَ للشِّركِ المُجادِلينَ فيه؛ عقَّبَه بذِكرِ المُنافِقينَ

.

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى قِسْمَيِ المصارِحينَ بالكُفرِ الكثيفِ والأكثَفِ صريحًا، وأفهَمَ المؤمِنَ المُخلِصَ؛ عطَفَ على ذلك المُذبذَبَ .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ.

سَبَبُ النُّزولِ:

عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ: (كان الرَّجُلُ يَقدَمُ المدينةَ، فإنْ وَلَدَت امرأتُه غُلامًا، ونُتِجَت خَيلُه، قال: هذا دِينٌ صالِحٌ. وإنْ لم تَلِدِ امرأتُه، ولم تُنتَجْ خَيلُه، قال: هذا دينُ سَوْءٍ!) .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ.

أي: ومِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ على شكٍّ ؛ فلم يَدخُلِ الإيمانُ قَلْبَه على نحوٍ يَقينيٍّ، بل هو في شَكٍّ وقَلَقٍ وترَدُّدٍ في دينِ اللهِ .

فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ.

أي: فإنْ أصابَه خَيرٌ -كصِحَّةٍ، ورَخاءِ مَعيشةٍ، ورِزقٍ هَنيءٍ- ولم يقَعْ له مِنَ المكارِهِ شَيءٌ؛ رَضِيَ عن الإسلامِ، واستقَرَّ وثَبَتَ على عبادةِ اللهِ !

وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ.

أي: وإن أصابَتْه مِحنةٌ وإنْ قَلَّتْ -كبَلاءٍ في بَدَنِه أو أهلِه، أو ضيقٍ في مَعيشَتِه- ارتدَّ فرَجَع إلى الوجهِ الَّذي كانَ عليه مِن الكفرِ !

كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت: 10-11].

وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ أعرابيًّا بايَعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الإسلامِ، فأصاب الأعرابيَّ وَعْكٌ بالمدينةِ، فأتى الأعرابيُّ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أقِلْني بَيعَتي ، فأبى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ جاءَه، فقال: أقِلْني بَيعَتي، فأبى، ثمَّ جاءَه فقال: أقِلْني بيعَتي، فأبى، فخرجَ الأعرابيُّ، فقال رَسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّما المدينةُ كالكِيرِ؛ تَنفي خَبَثَها، ويَنصَعُ طَيِّبُها ) .

خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ.

أي: خَسِرَ هذا المُنقَلِبُ على وَجهِه خيرَ دُنياه، فلم يَظفَرْ بحاجَتِه منها، وحُرِمَ الطُّمَأنينةَ وثَناءَ المُسلِمينَ ومُوالاتَهم، وخَسِرَ خَيرَ آخِرتِه بدُخولِ النارِ، والحِرمانِ مِن الجَنَّةِ !

ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

أي: خَسارَتُه لِدُنياه وأُخراه هي الخَسارةُ العَظيمةُ البَيِّنةُ التي لا تَخفَى .

يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12).

يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ.

أي: يدعو ذلك المرتَدُّ عن دينِ اللهِ آلِهةً سوى الله لا تضُرُّه ولا تَنفَعُه بذاتِها مُطلَقًا بأيِّ وَجهٍ مِن وُجوهِ الضُّرِّ أو النَّفعِ .

ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ .

أي: دُعاءُ غيرِ اللهِ هو الذَّهابُ البَعيدُ عن الحَقِّ .

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

بعْدَ أن بيَّن لهم أنَّهم يعبدونَ ما لا غَناءَ لهم فيه، زاد فبيَّن أنَّهم يعبُدونَ ما فيه ضُرٌّ، فمضمونُ الجُملةِ ارتقاءٌ في تضليلِ عابدي الأصنامِ، وموضِعُ الارتقاءِ هو مضمونُ جملةِ مَا لَا يَضُرُّهُ [الحج: 12] ، كأنَّه قيل: ما لا يضُرُّه، بل ما ينجَرُّ له منه ضُرٌّ .

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.

أي: يَدعو المُشرِكُ مَخلوقًا ضَرَرُ عبادتِه أقرَبُ إليه مِن نَفعِها .

لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ.

أي: لَبِئسَ النَّاصِرُ هذا المعبودُ مِن دُونِ اللهِ! ولَبِئسَ المُعاشِرُ والمصاحِبُ هو؛ فإنَّه لا يَنصُرُ عابِدَه، ولا يجلِبُ له خيرًا ولا نَفعًا

 

!

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ هذا بخِلافِ الرَّاسِخِ في إيمانِه؛ فإنَّه إن أصابَتْه سَرَّاءُ شكَر، وإنْ أصابَتْه ضَرَّاءُ حَمِدَ وصَبَر؛ فكُلُّ قَضاءِ اللهِ له خيرٌ

.

2- قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وقال أيضًا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ؛ فلا بُدَّ مِن أذًى لكلِّ مَن كان في الدُّنيا، فإنْ لم يَصبِرْ على الأذَى في طاعةِ اللهِ، بلِ اختارَ المعصيةَ؛ كان ما يَحصُلُ له مِن الشرِّ أعظمَ ممَّا فرَّ منه بكثيرٍ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49] . ومَنِ احتَملَ الهوانَ والأذى في طاعةِ اللهِ على الكَرامةِ والعِزِّ في مَعصيةِ اللهِ -كما فعَلَ يُوسُفُ عليه السلامُ وغيرُه مِن الأنبياءِ والصَّالحينَ- كانتْ العاقبةُ له في الدُّنيا والآخِرَةِ، وكان ما حصَل له مِن الأذَى قد انقَلَب نعيمًا وسرورًا، كما أنَّ ما يَحصُلُ لأربابِ الذُّنوبِ مِن التنعُّمِ بالذُّنوبِ يَنقلِبُ حُزنًا وثُبورًا .

3- العَبدُ على الحَقيقةِ مَن قام بعبوديَّةِ اللهِ على اختِلافِ الأحوالِ، وأمَّا عَبدُ السَّرَّاءِ والعافيةِ الذي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، فليس مِن عَبيدِه الذين اختارَهم لعُبوديَّتِه؛ فلا رَيبَ أنَّ الإيمانَ الذى يَثبُتُ على محَلِّ الابتِلاءِ والعافيةِ هو الإيمانُ النَّافِعُ وَقتَ الحاجةِ، وأمَّا إيمانُ العافيةِ فلا يكادُ يَصحَبُ العَبدَ، ويُبلِّغُه مَنازِلَ المُؤمِنينَ، وإنَّما يَصحَبُه إيمانٌ يَثبُتُ على البلاءِ والعافيةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- إنْ قِيلَ: إنَّ الله تعالى قال: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، ومُقابِلُ الخيرِ هو الشَّرُّ، فلماذا قال: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، ولم يقُلْ: (وإنْ أصابَه شَرٌّ انقلَبَ على وجهِه)؟

فالجوابُ: لأنَّ ما يَنفِرُ عنه الطبعُ ليس شرًّا في نفْسِه، بل هو سَببُ القُربةِ ورفعِ الدَّرجةِ بشرطِ التَّسليمِ والرِّضا بالقضاءِ

، وأيضًا فلَمَّا كانتِ الشِّدَّةُ ليستْ بقبيحةٍ، لم يقُلْ تعالى: (وإنْ أصابَه شَرٌّ)، بلْ وصَفَه بما لا يُفيدُ فيه القُبحَ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ فيه سُؤالٌ: كيفَ قال: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، والخيرُ أيضًا فِتنةٌ؛ لأنَّه امتحانٌ، وقال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35]  ؟

الجوابُ: أنَّ مِثلَ هذا كثيرٌ في اللُّغةِ؛ لأنَّ النِّعمةَ بلاءٌ وابتلاءٌ، لقولِه: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ [الفجر: 15] ، ولكن إنَّما يُطلقُ اسمُ (البَلاء) على ما يَثقُلُ على الطَّبعِ، والمنافقُ ليس عِندَه الخيرُ إلَّا الخيرُ الدُّنيويُّ، وليس عِندَه الشرُّ إلَّا الشرُّ الدُّنيويُّ؛ لأنَّه لا دِينَ له؛ فلذلك وردتِ الآيةُ على ما يَعتقِدونَه، وإنْ كان الخيرُ كلُّه فِتنةً، لكنْ أكثرُ ما يُستعمَلُ فيما يَشتدُّ ويَثقُلُ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ فيه سؤالٌ: إذا كانتِ الآيةُ في المنافِقِ؛ فمَا معنى قولِه: انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وهو في الحقيقةِ لم يُسلِمْ حتى يَنقلِبَ ويرتدَّ؟

والجوابُ: أنَّ المرادَ أنَّه أظهرَ بلسانِه خِلافَ ما كان أَظْهَره، فصارَ يَذُمُّ الدِّينَ عِندَ الشِّدَّةِ، وكان مِن قَبلُ يَمْدَحُه، وذلك انقلابٌ في الحقيقةِ .

4- ذَكرَ اللهُ تعالى في آياتِ هذه السورةِ ثَلاثةَ أصنافٍ: صِنفٌ يُجادِلُ في اللهِ بغَيرِ عِلمٍ، ويَتَّبِعُ كلَّ شيطانٍ مَريدٍ، مكتوبٍ عليه إضلالُ مَن تَولَّاه، وهذه حالُ المتَّبِعِ لِمَن يُضلُّه. وصِنفٌ يُجادِلُ في اللهِ بغَيرِ عِلمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنيرٍ، ثانِيَ عِطْفِه ليُضِلَّ عن سَبيلِ اللهِ، وهذه حالُ المتبوعِ المُستكبِرِ الضالِّ عن سبيلِ اللهِ. ثُمَّ ذَكَر حالَ مَن يَعبُدُ اللهَ على حَرْفٍ، وهذه حالُ المتَّبعِ لهواهُ، الذي إنْ حصَلَ له ما يَهواه مِن الدُّنيا عبَدَ اللهَ، وإنْ أصابَه ما يُمتَحَنُ به في دُنياهُ ارتدَّ عن دِينِه؛ فهذه حالُ مَن كان مريضًا في إرادتِه وقصْدِه، وهي حالُ أهلِ الشَّهواتِ والأهواءِ .

5- كلُّ مَن يملِكُ الضُّرَّ والنفعَ فإنَّه هو المعبودُ حقًّا، والمعبودُ لا بدَّ أن يكونَ مالكًا للنفعِ والضَّررِ؛ ولهذا أنكَر الله تعالى على مَن عبَد مِن دونِه ما لا يملكُ ضرًّا ولا نفعًا، وذلك كثيرٌ في القرآنِ، ومِن ذلك قولُه تعالى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ فيه سؤالٌ: الضَّرَرُ والنَّفعُ مَنفيَّانِ عن الأصنامِ، مُثبَتانِ لها في الآيتَينِ، وهذا قد يُتوَهَّمُ أنَّه تناقُضٌ؟

وللعُلماءِ أوْجُهٌ في الجوابِ عن ذلِك:

منها: أنَّ الأصنامَ لا تَضرُّ ولا تَنفعُ بأنفُسِها، ولكنْ عِبادتُها نُسِب الضَّرَرُ إليها، كقولِه: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] ، أضافَ الإضلالَ إليهم؛ إذ كانوا سَببَ الضلالِ؛ فكذا هنا: نفْيُ الضررِ عنهم؛ لكونِها ليستْ فاعلةً، ثم أضافَه إليها؛ لكونِها سَببَ الضَّررِ .

ومنها: أنَّ الأصنامَ في الحقيقةِ لا تَضرُّ ولا تَنفَعُ، بيَّن ذلك في الآيةِ الأولى، ثم أثْبَتَ لها الضرَّ والنفعَ في الثانيةِ على طريقِ التَّسليمِ؛ أي: ولو سَلَّمْنا كونَها ضارَّةً نافعةً، لكان ضَرُّها أكثرَ مِن نفْعِها .

ومنها: أنَّ المنفيَّ هو فِعلُهم، بقولِه: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ، والمُثبَتَ اسمٌ مضافٌ إليه، فإنَّه لم يقُلْ: (يَضرُّ أعظمَ ممَّا يَنفَعُ)؛ بل قال: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، والشَّيءُ يُضافُ إلى الشَّيءِ بأدْنَى مُلابسةٍ؛ فلا يجبُ أنْ يكونَ الضَّرُّ والنَّفعُ المُضافانِ مِن بابِ إضافةِ المصدرِ إلى الفاعِلِ، بل قد يُضافُ المصدرُ مِن جِهةِ كونِه اسمًا، كما تُضافُ سائرُ الأسماءِ، وقدْ يُضافُ إلى مَحلِّه وزَمانِه ومكانِه وسَببِ حُدوثِه وإنْ لم يكُنْ فاعلًا؛ كقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سبأ: 33] ، ولا ريبَ أنَّ بينَ المعبودِ مِن دُونِ اللهِ وبين ضَرَرِ عابدِيه تعلُّقًا يَقتضي الإضافةَ، كأنَّه قيل: لَمَنْ شَرُّهُ أقربُ مِن خيَرِه، وخَسارتُه أقربُ مِن رِبحِه. فهكذا المدعوُّ المعبودُ مِن دونِ اللهِ الذي لم يَأمُرْ بعِبادةِ نفْسِه؛ إمَّا لكونِه جَمادًا، وإمَّا لكونِه عبدًا مُطيعًا للهِ مِن الملائكةِ والأنبياءِ والصَّالحينَ مِن الإنسِ والجِنِّ؛ فما يُدْعَى مِن دُونِ اللهِ هو لا يَنفعُ ولا يَضرُّ، لكنْ هو السَّببُ في دُعاءِ الداعي له، وعِبادتِه إيَّاه، وعِبادةُ ذاك ودُعاؤُه هو الذي ضَرَّه؛ فهذا الضَّرُّ المضافُ إليه غيرُ الضَّرِّ المنفيِّ عنه ؛ فلمَّا كان الضَّرُّ الحاصلُ من الأصنامِ ليس ضَرًّا ناشئًا عن فِعلِها، بل هو ضَرٌّ مُلابِسٌ لها، أَثبَتَ الضرَّ بطريقِ الإضافةِ للضميرِ دون طريقِ الإسنادِ؛ إذ قال تعالى: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، ولم يقُلْ: (لَمَن يَضرُّ ولا يَنفَعُ)؛ لأنَّ الإضافةَ أوسعُ مِن الإسنادِ؛ فلمْ يَحصُلْ تَنافٍ بين قولِه: مَا لَا يَضُرُّهُ [الحج: 12] ، وقولِه: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الحج: 13]

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ مثَلٌ لكونِهم على قلَقٍ واضطرابٍ في دِينِهم، لا على سُكونٍ وطُمأْنينةٍ، بتَمثيلِ حالِ المُتردِّدِ في عَمَلِه يُريدُ تَجرِبةَ عاقِبَتِه، بحالِ مَن يَمْشي على حَرفِ جبَلٍ أو حَرفِ وادٍ، فهو مُتهيِّئٌ لأنْ يَزِلَّ عنه إلى أسفَلِه، فيَنقلِبَ

، والحَرفُ هنا كِنايةٌ عن المقصدِ .

- وقولُه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ كالتَّوضيحِ والبَيانِ للجُملةِ السَّابقةِ، وتَكريرُ معنى الخُسرانِ والتَّصويرِ؛ لأنَّ فائدةَ البدَلِ التَّفسيرُ والتَّوكيدُ .

- وجُملةُ: ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ مُعترِضةٌ بين جُملةِ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وجُملةِ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ. والإتيانُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ؛ لزِيادةِ تَمييزِ المُسنَدِ إليه أتَمَّ تَمييزٍ؛ لتَقريرِ مَدلولِه في الأذهانِ .

- والتَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه مِن معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ بكونِه في غايةِ ما يَكونُ .

- والقصْرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ المُسنَدِ الْخُسْرَانُ قَصرٌ ادِّعائيٌّ ، والمقصودُ منه: تَحقيقُ الخبَرِ، ونَفْيُ الشَّكِّ في وُقوعِه. وضَميرُ الفصْلِ أكَّدَ معنى القصْرِ؛ فأفادَ تَقويةَ الخبرِ المقصورِ .

2- قَولُه تعالى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ

- قولُه: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ استئنافٌ مُبيِّنٌ لعِظَمِ الخُسرانِ .

- وفي تَقديمِ الضَّرِّ على النَّفعِ: إشارةٌ إلى أنَّه تَملَّصَ مِن الإسلامِ تَجنُّبًا للضَّرِّ؛ لتَوهُّمِه أنَّ ما لَحِقَه مِن الضَّرِّ بسبَبِ الإسلامِ وبسَببِ غضَبِ الأصنامِ عليه، فعاد إلى عِبادةِ الأصنامِ حاسِبًا أنَّها لا تضُرُّه. وفي هذا الإيماءِ تَهكُّمٌ به، يَظهَرُ بتَعقيبِه بـ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ .

- قولُه: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ فيه الإتيانُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ؛ لزيادةِ تَمييزِ المُسنَدِ إليه أتَمَّ تَمييزٍ؛ لتَقريرِ مَدْلولِه في الأذهانِ. والقَصرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ المُسنَدِ الضَّلَالُ قَصرٌ ادِّعائيٌّ، والمقصودُ منه: تَحقيقُ الخبرِ، ونَفْيُ الشَّكِّ في وُقوعِه. وضَميرُ الفصْلِ أكَّدَ معنى القَصرِ؛ فأفاد تَقويةَ الخبَرِ المقصورِ .

3- قولُه تعالى: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ مآلِ دُعائِه المذكورِ، وتَقريرِ كَونِه ضَلالًا بعيدًا، مع إزاحةِ ما عسَى يُتَوهَّمُ مِن نَفْيِ الضَّررِ عن مَعبودِه بطريقِ المُباشَرةِ، ونَفْيِه عنه بطَريقِ التَّسبُّبِ أيضًا. ويجوزُ أنْ يكونَ الفِعْلُ يَدْعُو الثَّاني إعادةً للأوَّلِ، لا تأكيدًا له فقط، بل وتَمهيدًا لِمَا بعْدَه من بَيانِ سُوءِ حالِ مَعبودِه إثْرَ بَيانِ سُوءِ حالِ عبادتِه، بقولِه تعالى: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ؛ كأنَّه قِيلَ من جِهَتِه تعالى بعْدَ ذِكْرِ عبادتِه لِمَا لا يَضُرُّه ولا ينفَعُه: (يَدْعو ذلك)، ثمَّ قيلَ: (لمَن ضَرُّه أقرَبُ مِن نَفعِهِ واللهِ لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العَشيرُ)؛ فكلمةُ (مَن) وصِيغةُ التَّفضيلِ أَقْرَبُ للتَّهكُّمِ به .

- قولُه: لَمَنْ ضَرُّهُ اللَّامُ للابتداءِ -على قولٍ-، وهي تُفِيدُ تأْكيدَ مَضمونِ الجُملةِ الواقعةِ بعْدَها، فلامُ الابتداءِ تُفِيدُ مُفادَ (إنَّ) مِن التَّأكيدِ .

- قولُه: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فيه إيثارُ (مَن) على (مَا)، مع كونِ مَعبودِه جَمادًا، وإيرادُ صِيغَةِ التَّفضيلِ أَقْرَبُ مع خُلُوِّه عن النَّفعِ بالمرَّةِ؛ للمُبالَغةِ في تَقبيحِ حالِه، والإمعانِ في ذَمِّه . وكونُه أقرَبَ مِن النَّفعِ كِنايةٌ عن تَمحُّضِه للضَّرِّ، وانتفاءِ النَّفعِ منه؛ لأنَّ الشَّيءَ الأقرَبَ حاصِلٌ قبْلَ البعيدِ؛ فيَقْتضي ألَّا يَحصُلَ معه إلَّا الضَّرُّ .

=============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (14-17)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غريب الكلمات :

 

بِسَبَبٍ: أي: بحَبلٍ، وأصلُ (سبب): يدُلُّ على طولٍ وامتِدادٍ

.

وَالصَّابِئِينَ: جمْعُ صابئٍ، ويُقالُ لكلِّ خارجٍ مِن دِينٍ إلى دينٍ آخرَ، والصابئونَ فِرقٌ؛ منها: الصابئةُ الحُنفاءُ، ومنها صابئةٌ مشركونَ، ومنها صابئةٌ فلاسفةٌ، إلى غيرِ ذلك، وأصلُ (صبأ): يدُلُّ على خروجٍ وبُروزٍ، يُقالُ: صبأَتِ النُّجُومُ؛ إذا خرَجتْ مِن مطالعِها .

وَالْمَجُوسَ: هم أهلُ دينٍ يُثبِتُ إلَهَينِ: إلهًا للخَيرِ، وإلهًا للشَّرِّ، وهم أهلُ فارسَ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: إنَّ اللهَ يُدخِلُ الذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، وعَمِلوا الصَّالحاتِ، جَنَّاتٍ تَجري مِن تَحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ، إنَّ اللهَ يَفعَلُ ما يريدُ. مَن كان يعتَقِدُ أنَّ اللهَ تعالى لن ينصُرَ رَسولَه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّنيا وفي الآخرةِ، فلْيَمدُدْ حَبلًا إلى سَقفِ بَيتِه، ولْيَخنُقْ به نَفْسَه، ثمَّ لْيَنظُرْ: هل يُذْهِبنَّ ذلك ما يجِدُ في نَفسِه مِن الغَيظِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى ناصِرٌ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُتِمُّ نُورِه لا محالةَ.

وكما بَيَّنَ اللهُ تعالى الآياتِ السَّابِقةَ وأوضَحَها، أنزَلَ القُرآنَ آياتُه واضِحةٌ في لَفظِها ومَعناها؛ ولأنَّ اللهَ يَهدي بهذا القُرآنِ إلى الحَقِّ مَن يريدُ هِدايَتَه، أنزَلَه آياتٍ بَيِّناتٍ.

إنَّ الذين آمَنوا باللهِ ورُسُلِه، واليَهودَ والصَّابئينَ والنَّصارى والمجوسَ والذين أشرَكوا؛ إنَّ الله يَفصِلُ بينهم جميعًا يومَ القيامةِ، فيُدخِلُ المُؤمِنينَ الجَنَّةَ، ويُدخِلُ الكافرينَ النَّارَ، إنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ شَهيدٌ، لا يخفى عليه شَيءٌ سُبحانَه.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ سُبحانَه في الآيةِ السَّابِقةِ حالَ عِبادةِ المُنافِقينَ وحالَ مَعبودِهم؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ صِفةَ عِبادةِ المُؤمِنينَ وصِفةَ مَعبودِهم

.

وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى المجادِلَ بالباطِلِ، وأنَّه على قِسمَينِ: مُقلِّد، وداعٍ؛ ذَكَر أنَّ المُتسمِّيَ بالإيمانِ أيضًا على قِسمَينِ: قِسْمٌ لم يَدخُلِ الإيمانُ قلبَه. والقِسمُ الثاني: المؤمِنُ حقيقةً، وهو الذي صدَّق ما معه من الإيمانِ بالأعمالِ الصَّالحةِ، فأخْبَر تعالى أنَّه يُدخِلُ أصحابَ هذا القسمِ جَنَّاتٍ تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ .

وأيضًا لَمَّا ذَكَر أنَّ الأصنامَ لا تَنفَعُ مَن عبَدَها، قابَلَ ذلك بأنَّ اللهَ يَنفَعُ مَن عَبَدَه بأعظمِ النَّفعِ، وهو دُخولُ الجَنَّةِ .

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

أي: إنَّ اللهَ يُدخِلُ يومَ القيامةِ الذين آمَنوا بكُلِّ ما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ- جَناتٍ تَجري الأنهارُ مِن تَحتِ أشجارِها وقُصورِها .

إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.

أي: إنَّ اللهَ يَفعَلُ كُلَّ ما يُريدُ فِعلَه مِن نَفعٍ أو ضُرٍّ دونَ مُمانِعٍ، ويَحكُمُ في خَلقِه في الدُّنيا والآخرةِ بما يَشاءُ، ومِن ذلك إيصالُ أهلِ الجَنَّةِ إليها .

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15).

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ.

أي: مَن كان يَظُنُّ أنَّ اللهَ ليس بناصرٍ رَسولَه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّنيا والآخرةِ، فلْيُعَلِّقْ حَبلًا في سقفِ بيتِه، ويَشُدَّه في عُنُقِه .

كما قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران: 119] .

وقال سُبحانَه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] .

ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ.

أي: ثُمَّ لْيَختَنِقْ بالحَبلِ، فلْيَنظُرْ حينَها: هل يُذهِبَنَّ صَنيعُه هذا ما يَغيظُه؟! كلَّا، لا يُغْني ذلك عنه شيئًا، وإنما يقَعُ ضَرَرُ كَيدِه على نفْسِه، واللهُ مُتِمُّ نُورِه، وناصرٌ نبيَّه .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16).

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.

أي: وكما بَيَّنَّا لكم الآياتِ السَّابِقةَ وأوضَحْناها، كذلك أنزَلْنا القُرآنَ كُلَّه آياتٍ واضِحاتِ الدَّلالةِ .

وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ.

أي: ولأنَّ اللهَ يَهدي بهذا القُرآنِ إلى الحَقِّ مَن يريدُ هِدايَتَه، أنزَلَه آياتٍ بَيِّناتٍ .

كما قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] .

وقال سُبحانه: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] .

وقال عزَّ وجَلَّ: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16] .

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَر قَبْلُ أنَّ اللهَ يَهدي مَن يُريدُ؛ عقَّبَ ذلك ببيانِ مَن يَهدِيه ومَن لا يَهديه؛ لأنَّ ما قَبْلَه يَقتضي أنَّ مَن لا يُريدُ هِدايتَه لا يَهديه، فدَلَّ إثباتُ الهِدايةِ لِمَن يُريدُ على نَفْيِها عمَّن لا يُريدُ .

وأيضًا لَمَّا اشتَمَلت الآياتُ السَّابِقةُ على بيانِ أحوالِ المترَدِّدينَ في قَبولِ الإسلامِ، كان ذلك مَثارًا لأنْ يُتساءَلَ عن أحوالِ الفِرَقِ بَعضِهم مع بَعضٍ في مُختَلفِ الأديانِ، وأن يُسألَ عن الدِّينِ الحَقِّ؛ لأنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَدَّعي أنَّها على الحَقِّ وغَيرَها على الباطِلِ، وتجادِلُ في ذلك، فبَيَّنَت هذه الآيةُ أنَّ الفَصلَ بينَ أهلِ الأديانِ فيما اختَصَموا فيه يكونُ يومَ القيامةِ؛ إذ لم تُفِدْهمُ الحُجَجُ في الدُّنيا .

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

أي: إنَّ المُؤمِنينَ باللهِ ورُسُلِه، واليَهودَ، والصَّابِئينَ ، والنَّصارى، والمجوسَ، والمُشرِكينَ باللهِ- إنَّ اللهَ يَحكُمُ بينهم يومَ القيامةِ، ويُجازي كُلًّا بعَمَلِه؛ فيُدخِلُ المُؤمِنينَ منهم الجنَّةَ، ويُدخِلُ الكافرينَ النَّارَ .

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

أي: إنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ مِن أعمالِ هؤلاء الأصنافِ، وغَيرِ ذلك مِن الأشياءِ كُلِّها- شَهيدٌ لا يخفى عليه شَيءٌ

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ هذه الآيةُ الكَريمةُ فيها مِنَ الوَعدِ والبِشارةِ بنَصرِ اللهِ لدِينِه ولِرَسولِه وعبادِه المُؤمِنينَ ما لا يَخفَى، ومِن تَأيِيسِ الكافرينَ الذين يُريدونَ أن يُطفِئوا نورَ اللهِ بأفواهِهم، واللهُ مُتِمُّ نُورِه، ولو كَرِهَ الكافِرونَ

.

2-  قَولُ اللهِ تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ فيه أنَّ اللهَ فَصَّلَ في هذا القُرآنِ ما فَصَّلَ، وجعَلَه آياتٍ بَيِّناتٍ واضحاتٍ، دالَّاتٍ على جَميعِ المطالِبِ والمسائِلِ النَّافِعةِ، ولكِنَّ الهِدايةَ بيَدِ اللهِ، فمَن أراد اللهُ هدايَتَه، اهتَدَى بهذا القُرآنِ، وجعَلَه إمامًا له وقُدوةً، واستضاءَ بنُورِه، ومَن لم يُرِدِ اللهُ هِدايَتَه، فلو جاءَتْه كُلُّ آيةٍ ما آمَنَ، ولم ينفَعْه القُرآنُ شَيئًا، بل يكونُ حُجَّةً عليه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ الإرادةُ في هذه الآيةِ هي إرادةٌ كونيَّةٌ -وهي التي بمعنى المَشيئةِ-، ويُقابِلُها الإرادةُ الشَّرعيَّةُ -وهي التي بمعنى المحبَّةِ-، كما في قَولِه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ

[البقرة: 185] .

2- قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، وفي سُورة (البَقرةِ) و(المائدةِ) ذكَرَ أربعةَ أصنافٍ: المُسلمينَ، والذين هادُوا، والنَّصارى، والصَّابئِينَ، ثمَّ قال: مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] ؛ فذَكَر سِتَّ أُممٍ، مِنهم: اثنتانِ شَقِيَّتانِ، وأربعٌ منهم مُنقسِمةٌ إلى شَقيٍّ وسعيدٍ، وحيثُ وعَدَ أهلَ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ منهم بالأجْرِ ذَكَرَهم أربعَ أُممٍ لَيس إلَّا؛ ففي آيةِ الفَصلِ بينَ الأممِ أَدخلَ معهم الأُمَّتَينِ، وفي آيةِ الوَعدِ بالجزاءِ لم يُدخِلْها معهم؛ فعُلِمَ أنَّ الصابئينَ فيهم المؤمنُ والكافرُ، والشَّقيُّ والسَّعيدُ .

3- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ذكَرَ المِلَلَ السِّتَّ؛ ليُبَيِّنَ أنَّه يَفصِلُ بيْنهم يومَ القيامةِ، ولم يُثْنِ عليهم، فلم يُثْنِ سُبحانَه على أحدٍ مِنَ المجوسِ والمُشرِكينَ، كما أثنى على بَعضِ الصَّابِئينَ واليَهودِ والنَّصارى في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] ، وهذا مما استدَلَّ به جمهورُ العُلَماءِ على أنَّ المجوسَ لَيسُوا أهلَ كِتابٍ، فلا تُباحُ ذَبائِحُهم، ولا نِكاحُ نِسائِهم؛ إذ لو كانوا أهلَ كتابٍ لكان فيهم مَن يُثني اللهُ عليه، كما كان في اليَهودِ والنَّصارى

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ استئنافٌ جِيءَ به لبَيانِ كَمالِ حُسْنِ حالِ المُؤمنينَ العابدينَ له تعالى، وأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يتفضَّلُ عليهم بما لا غايةَ وراءَهُ مِن أجَلِّ المنافعِ، وأعظمِ الخيراتِ

.

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ تَذييلٌ للكلامِ المُتقدِّمِ، وهو اعتراضٌ بينَ الجُمَلِ المُلْتَئمِ منها الغرَضُ. وفي الجُملةِ أيضًا معنى التَّعليلِ الإجماليِّ لاختلافِ أحوالِ النَّاسِ في الدُّنيا والآخرةِ .

2- قولُه تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ في الكلامِ اختصارٌ، والمعنى: إنَّ اللهَ ناصِرٌ رسولَه في الدُّنيا والآخرةِ؛ فمَن كان يَظُنُّ مِن حاسِديهِ وأعادِيهِ أنَّ اللهَ يَفعَلُ خِلافَ ذلك ويَطمَعُ فيه، ويَغِيظُه أنَّه يَظفَرُ بمَطلوبِه؛ فلْيستقْصِ وُسْعَه ولْيستفرِغْ مَجهودَه في إزالةِ ما يَغيظُه، بأنْ يَفعَلَ ما يفعَلُ مَن بلَغَ منه الغيظُ كلَّ مَبلغٍ، حتَّى مَدَّ حبْلًا إلى سماءِ بَيتِه فاخْتنَقَ، فلْينظُرْ ولْيصوِّرْ في نَفْسِه أنَّه إنْ فعَلَ ذلك، هل يُذهِبُ نَصْرَ اللهِ الَّذي يَغِيظُه ؟

- وفي قولِه: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ تَوبيخٌ، وهذا على جِهَةِ المثَلِ السَّائرِ: (دُونَك الحبْلَ فاختَنِقْ)، وسَمَّى الاختناقَ قطْعًا؛ لأنَّ المُختنِقَ يَقطَعُ نفَسَهُ بحبْسِ مَجاريه، أي: كَنَّى عن الاختناقِ بالقطْعِ؛ فإنَّه لازِمُه، كما تقولُ العربُ: قُطِعَ فُلانٌ؛ إذا اختنَقَ. ولأنَّ المُختنِقَ يمُدُّ السَّببَ إلى السَّقفِ، ثمَّ يَقطَعُ نفَسَهُ من الأرضِ حتَّى يَختنِقَ. وسَمَّى فِعْلَه كيدًا؛ لأنَّه وضَعَه مَوضِعَ الكيدِ، حيث لم يَقدِرْ على غيرِه. أو على سَبيلِ الاستهزاءِ؛ لأنَّه لم يَكِدْ به مَحسودَهُ، إنَّما كاد به نفْسَه .

- وقد فُسِّرَ النَّصرُ بالرِّزقِ؛ فعلى هذا فالكلامُ تامٌّ ولم يَدخُلْه الاختصارُ، والضَّميرُ في يَنْصُرَهُ لكلِّ أحدٍ، وهو راجعٌ إلى (مَنْ)؛ وحينئذٍ تكونُ الآيةُ مُتَّصِلةً بقولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، ويكونُ قولُه: يَدْعُو إلى آخِرِ الآياتِ مُعترِضةً مُؤكِّدةً لِمَعنى تَجهيلِهم، وأنَّ اللهَ هو القابِضُ الباسِطُ، وهو الضَّارُّ النَّافعُ وحْدَه ، وذلك على أحدِ الأوجُهِ في التفسيرِ.

- ويحتملُ أنْ يكونَ مَوقِعُ هذه الآيةِ استئنافًا ابتدائيًّا، أُرِيدَ به ذِكْرُ فَريقٍ ثالثٍ غيرِ الفريقينِ المُتقدِّمَينِ. ويحتملُ أنْ يكونَ مَوقِعُها تذييلًا لقولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج: 11] الآيةَ، بعْدَ أنِ اعتُرِضَ بين تلك الجُملةِ وبين هاتِه بجُمَلٍ أُخرى، فيكونُ المُرادُ: أنَّ الفريقَ الَّذين يَعبدونَ اللهَ على حَرفٍ والمُخبَرَ عنهم بقولِه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ [الحج: 11] ، هم قومٌ يَظنُّونَ أنَّ اللهَ لا يَنصُرُهم في الدُّنيا ولا في الآخرةِ إنْ بَقُوا على الإسلامِ. وعُلِّقَ فِعْلُ لَنْ يَنْصُرَهُ بالمجرورِ بقولِه: فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ؛ إيماءً إلى كَونِه مُتعلَّقَ الخُسرانِ في قولِه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ [الحج: 11] ، ولم تُورَدْ فيه جُملةُ (ومِن النَّاسِ) كما أُورِدَتْ في ذِكْرِ الفريقينِ السَّابقينِ، ويكونُ المقصودُ من الآيةِ تَهديدَ هذا الفريقِ؛ فيكونُ التَّعبيرُ عن هذا الفريقِ بقولِه: مَنْ كَانَ يَظُنُّ ... إلخ، إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ؛ فإنَّ مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُؤْتَى بضَميرِ ذلك الفريقِ، فيُقالُ بعْدَ قولِه: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الحج: 14] : فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ... إلخ، عائدًا الضَّميرُ المُستتِرُ في قولِه: فَلْيَمْدُدْ على مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج: 11] . والعُدولُ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ لوَجْهينِ؛ أحدُهما: بُعْدُ مُعادِ الضَّميرِ، وثانيهما: التَّنبيهُ على أنَّ عِبادتَه اللهَ على حَرفٍ ناشئةٌ عن ظَنِّه أنْ لنْ يَنصُرَه اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ إنْ صَمَّمَ على الاستمرارِ في اتِّباعِ الإسلامِ؛ لأنَّه غيرُ واثقٍ بوعْدِ النَّصرِ للمُسلمينَ. والآيةُ -على هذا المعنَى في التفسيرِ- فيها إيجازٌ بَديعٌ؛ شُبِّهَت حالةُ استبطانِ هذا الفريقِ الكُفْرَ وإظهارِهم الإسلامَ على حَنَقٍ، أو حالةُ تَردُّدِهم بين البَقاءِ في المُسلمينَ وبين الرُّجوعِ إلى الكُفَّارِ، بحالةِ المُغْتاظِ ممَّا صنَعَ، فقيل لهم: عليكم أنْ تَفْعلوا ما يَفعَلُه أمثالُكم ممَّن ملَأَهمُ الغيظُ، وضاقت عليهم سُبُلُ الانفراجِ، فامْدُدوا حبْلًا بأقْصى ما يُمَدُّ إليه حبْلٌ، وتَعلَّقوا به في أعْلى مكانٍ، ثمَّ قَطِّعُوهُ؛ تَخِرُّوا إلى الأرضِ -وذلك على قولٍ في التفسيرِ-، وذلك تَهكُّمٌ بهم في أنَّهم لا يَجِدون غِنًى في شَيءٍ مِن أفعالِهم، وإنذارٌ باستمرارِ فِتْنتِهم في الدُّنيا، مع الخُسرانِ في الآخرةِ .

- وقيل: مَفعولُ لِيَقْطَعْ مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ المَقامِ عليه. والتَّقديرُ: ثمَّ لْيَقْطَعْه، أي: لِيَقطَعَ السَّببَ، وهو الحبلُ. والأمْرُ في قولِه: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ للتَّعجيزِ؛ فيُعْلَمُ أنَّ تَعليقَ الجوابِ على حُصولِ شَرْطٍ لا يقَعُ .

- والاستفهامُ في قولِه: هَلْ يُذْهِبَنَّ ... استفهامٌ إنكاريٌّ .

3- قَولُه تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ

- قولُه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ شَبَّهَ ذلك التَّبْيينَ بنفْسِه؛ كِنايةً عن بُلوغِه الغايةَ في جِنْسِه، بحيث لا يُلْحَقُ بأوضَحَ منه، والجُملةُ مَعطوفةٌ على الجُمَلِ الَّتي قبْلَها عطْفَ غرَضٍ على غرَضٍ، والمُناسَبةُ ظاهرةٌ؛ فهي استئنافٌ ابتدائيٌّ .

- قولُه: وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ تَعليلٌ لكونِ القُرآنِ بَيانًا، ومُعَلَّلُه مَحذوفٌ يدُلُّ عليه المذكورُ .

4- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فَذلكةٌ لِمَا تقدَّمَ؛ حيث بيَّنَتْ هذه الآيةُ أنَّ الفصلَ بينَ أهْلِ الأديانِ فيما اختَصَموا فيه يكونُ يومَ القيامةِ؛ إذ لم تُفِدْهمُ الحُجَجُ في الدُّنيا. وهذا الكلامُ بما فيه مِن إجمالٍ هو جارٍ مَجْرى التَّفويضِ، ومِثْلُه يكونُ كِنايةً عن تَصويبِ المُتكلِّمِ طَريقتَه، وتَخْطئتِه طَريقةَ خَصْمِه؛ لأنَّ مثْلَ ذلك التَّفويضِ للهِ لا يكونُ إلَّا مِن الواثقِ بأنَّه على الحقِّ، وذلك مِن قَبِيلِ الكِنايةِ التَّعريضيَّةِ .

- وفي قولِه: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا... إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُدْخِلَت (إنَّ) على كلِّ واحدٍ من جُزأيِ الجُملةِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ والتَّوكيدِ. وحسَّنَ دُخولَ (إنَّ) على الجُملةِ الواقعةِ خبرًا طولُ الفَصْلِ بينهما بالمعاطيفِ، وكونُ خبَرِها جُملةً .

- وقدَّمَ الصَّابئينَ على النَّصارى؛ لتَقدُّمِ زَمانِهم .

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا... فيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث زاد في هذه الآيةِ ذِكْرَ المجوسِ والمُشرِكينَ، ولم يذكُرْهما في آيةِ (البقرةِ): إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ [البقرة: 62] ، وآيةِ (المائدةِ): إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ [المائدة: 69] ؛ لأنَّ الآيتينِ المُتقدِّمتينِ كانتا في مَساقِ بَيانِ فضْلِ التَّوحيدِ والإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ في كلِّ زمانٍ، وفي كلِّ أُمَّةٍ. وزِيدَ في هذه السُّورة ذِكْرُ المجوسِ والمُشرِكينَ؛ لأنَّ هذه الآيةَ مَسوقةٌ لبَيانِ التَّفويضِ إلى اللهِ في الحُكْمِ بين أهْلِ المِلَلِ، فالمجوسُ والمُشرِكونَ ليسوا من أهْلِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ ، فذكَر المللَ الستَّ هنا؛ ليبينَ أنَّه يفصلُ بينَهم يومَ القيامةِ، أما في سورة (البقرةِ) و(المائدةِ) فذكَرَ أربعةَ أصنافٍ: المُسلمينَ، والذين هادُوا، والنَّصارى، والصَّابئِينَ، ثمَّ قال: مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] ؛ فدَلَّ على أنَّ هذه الأربعةَ منهم مَن آمَنَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا، وأولئك هم السُّعَداءُ في الآخرةِ، بخلافِ مَن لم يكُنْ مِن هؤلاء مؤمِنًا باللهِ واليومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا، وبخلافِ مَن كان مِن المجوسِ والمُشرِكينَ؛ فهؤلاء كلُّهم لم يُذكَرْ منهم سعيدٌ في الآخرةِ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للإعلامِ بإحاطةِ عِلْمِ اللهِ بأحوالِهم واختلافِهم، والصَّحيحِ مِن أقوالِهم ، وهو تَعليلٌ لِمَا قبْلَه .

- وأيضًا في قولِه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ناسَبَ الخَتْمُ بقولِه: شَهِيدٌ الفصلَ بين الفِرَقِ

==============

 

سورةُ الحَجِّ

الآية (18)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

 

حَقَّ: أي: وجَب ولَزِمَ، والحَقُّ في أصلِه: المطابقةُ والموافقةُ، وأصلُ (حَقق): يَدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول الله تعالى: ألم تعلَمْ أنَّ اللهَ سُبحانَه يَسجُدُ له خاضِعًا مُنقادًا مَن في السَّمَواتِ مِنَ الملائكةِ، ومَنْ في الأرضِ مِن المَخلوقاتِ، والشَّمسُ والقَمَرُ، والنُّجومُ والجِبالُ، والشَّجَرُ والدوابُّ؟ ويَسجُدُ له طاعةً واختيارًا كثيرٌ مِن النَّاسِ، وهم المؤمِنونَ، وكثيرٌ مِن النَّاسِ حَقَّ عليه العذابُ فهو مَهِينٌ، وأيُّ إنسانٍ يُهِنْه اللهُ، فليس له أحَدٌ يُكرِمُه؛ إنَّ اللهَ يَفعَلُ في خَلْقِه ما يشاءُ وَفْقَ حِكمَتِه.

تفسير الآية:

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

بعد أن أبان اللهُ عزَّ وجلَّ فيما سلف أنَّه يَقضي بين أربابِ الفِرَقِ السَّالفةِ يومَ القيامةِ، وهو شهيدٌ على أقوالِهم وأفعالِهم- أردَفَ هذا ببيانِ أنَّه ما كان ينبغي لهم أن يختَلِفوا، ألَا يَرَوْنَ أنَّ جميعَ العوالمِ العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ: كبيرَها وصغيرَها، شَمسَها وقمَرَها ونجومَها، وجبالَها وحيوانَها ونباتَها- خاضِعةٌ لجَبَروتِه، مُسخَّرةٌ لقُدرتِه

؟!

وأيضًا فهي مرتبطةٌ بمعنى قَولِه: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ إلى قوله: لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الحج: 12-13] ارتباطَ الدَّليلِ بالمطلوبِ؛ فإنَّ دلائلَ أحوالِ المخلوقاتِ كُلِّها -عاقِلِها وجمادِها- شاهدةٌ بتفرُّدِ اللهِ بالإلهيَّةِ، وفي تلك الدَّلالةِ شَهادةٌ على بطلانِ دعوةِ مَن يدعو مِن دونِ اللهِ ما لا يضُرُّه وما لا ينفَعُه .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ.

أي: ألم تعلَمْ أنَّ اللهَ يَسجُدُ له مَن في السَّمَواتِ مِن الملائكةِ، ومَن في الأرضِ مِن الخلقِ مِن الجنِّ وغيرِهم ، والشَّمسُ والقَمَرُ والنُّجومُ في السَّماءِ، والجِبالُ والشَّجَرُ والدوابُّ في الأرضِ ؟

كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ [الرعد: 15] .

وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل: 48-49] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن: 6].

وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي ذَرٍّ حينَ غَرَبتِ الشَّمسُ: ((أتدري أين تذهَبُ؟ قُلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: فإنَّها تذهَبُ حتى تسجُدَ تحتَ العَرشِ، فتَستَأذِنُ، فيُؤْذَنُ لها، ويُوشِكُ أن تَسجُدَ فلا يُقبَلُ منها، وتَستأذِنُ فلا يُؤْذَنُ لها، يُقالُ لها: ارجِعي مِن حَيثُ جِئْتِ، فتَطلُعُ مِن مَغرِبِها، فذلك قَولُه تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 38] )) .

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.

أي: وكثيرٌ مِن النَّاسِ -وهم المُؤمِنونَ- يَسجُدونَ لله طَوعًا مُختارينَ عابدِينَ .

وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.

أي: وكثيرٌ مِن النَّاسِ -وهم الكافِرونَ- وَجَب عليهم عذابُ اللهِ؛ لامتِناعِهم عن السُّجودِ للهِ عن طواعِيَةٍ واختيارٍ .

وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ .

أي: ومَن يُهِنْهُ اللهُ فلا يَقدِرُ أحَدٌ أن يُكرِمَه .

إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

أي: وذلك لأنَّ اللهَ يَفعَلُ في خَلْقِه ما يَشاءُ، فيُسعِدُ ويُكرِمُ مَن يشاءُ، ويُشقي ويُهينُ مَن يَشاءُ؛ فالخَلقُ خَلقُه، والأمرُ أمرُه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فإذا كانت المخلوقاتُ كُلُّها ساجِدةً لِرَبِّها، خاضِعةً لِعَظَمتِه، مُستكينةً لعِزَّتِه، عانيةً لِسُلطانِه؛ دَلَّ على أنَّه وَحْدَه الرَّبُّ المعبودُ، والمَلِكُ المَحمودُ، وأنَّ مَن عَدَل عنه إلى عبادةِ سِواه، فقد ضَلَّ ضَلالًا بعيدًا، وخَسِرَ خُسرانًا مُبِينًا

.

2- قال ابن الجوزي: (نظرتُ في قولِ الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، ثم قال: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ... فرأيتُ الجماداتِ كُلَّها قد وُصِفَت بالسجودِ، واستثنى مِن العقلاءِ، فذكرتُ قَولَ بَعضِهم:

ما جحَد الصامتُ مَن أنشَأه ... ومِن ذَوي النُّطقِ أتَى الجُحودُ

فقلتُ: إنَّ هذه لقدرةٌ عظيمةٌ؛ يوهَبُ عَقلٌ للشَّخصِ، ثمَّ تُسلَبُ فائدتُه! وإنَّ هذا لأقوى دليلٍ على قادرٍ قاهرٍ، وإلَّا فكيف يَحسُنُ من عاقلٍ ألَّا يعرِفَ بوجودِه وجودَ مَن أوجدَه؟! وكيف يَنحِتُ صنمًا بيدِه ثم يَعبُدُه؟! غيرَ أنَّ الحقَّ سُبحانَه وتعالى وهَب لأقوامٍ مِن العقلِ ما يُثبِتُ عليهم الحُجَّةَ، وأعمَى قلوبَهم كما شاء عن المحجَّةِ) .

3- قاعِدةٌ شَريفةٌ: النَّاسُ قِسمانِ: عِليَةٌ وسَفِلةٌ؛ فالعِلْيةُ: مَن عرَفَ الطَّريقَ إلى رَبِّه وسَلَكها قاصِدًا الوُصولَ إليه، وهذا هو الكريمُ على رَبِّه. والسَّفِلَةُ: مَن لم يَعرِفِ الطَّريقَ إلى رَبِّه، ولم يتعَرَّفْها، فهذا هو اللَّئيمُ الذى قال الله تعالى فيه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ .

4- المعصيةُ سَبَبٌ لِهَوانِ العَبدِ على رَبِّه، وسُقوطِه مِن عَينِه؛ قال الحَسَنُ البَصريُّ: (هانُوا عليه فعَصَوه، ولو عَزُّوا عليه لعَصَمَهم!)، وإذا هان العبدُ على اللهِ لم يُكرِمْه أحدٌ، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، وإنْ عَظَّمَهم النَّاسُ في

الظَّاهِرِ؛ لحاجَتِهم إليهم، أو خوفًا مِن شَرِّهم، فهم في قُلوبِهم أحقَرُ شَيءٍ وأهوَنُه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فيه سؤالٌ: أنَّ قَولَه: أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ لَفظُه لَفظُ العُمومِ، فيَدخُلُ فيه النَّاسُ، فلِمَ قال مرَّةً أُخرى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؟

الجوابُ: أنَّه لو اقتَصَر على ما تقَدَّمَ، لأوهَمَ أنَّ كُلَّ النَّاسِ يَسجُدونَ، كما أنَّ كُلَّ الملائكةِ يَسجُدونَ، فبيَّنَ أنَّ كثيرًا منهم يَسجُدونَ طَوعًا دُونَ كثيرٍ منهم، فإنَّه يمتَنِعُ عن ذلك، وهم الذين حَقَّ عليهم العَذابُ

.

2- لا يجوزُ تَسميةُ بعضِ الزُّهورِ بـ «عَبَّادِ الشَّمسِ»؛ لأنَّ الأشجارَ لا تَعبُدُ الشَّمسَ، إنَّما تَعبُدُ اللهَ عزَّ وجَلَّ، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ، وإنما يُقال عبارةٌ أُخرى ليس فيها ذِكْرُ العبوديَّةِ، كمُراقِبةِ الشَّمسِ، ونحو ذلك مِن العباراتِ .

3- قال الله تعالى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ الإهانةُ إذلالٌ وتَحقيرٌ وخِزيٌ، وذلك قَدْرٌ زائِدٌ على ألَمِ العَذابِ؛ فقد يُعَذَّبُ الرَّجُلُ الكريمُ ولا يُهانُ

 

.

بلاغة الآية:

 

قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بَيانٌ لِمَا يُوجِبُ الفصْلَ المذكورَ مِنْ أعمالِ الفِرَقِ المذكورةِ، مع الإشارةِ إلى كَيفيَّتِه وكَونِه بطَريقِ التَّعذيبِ والإثابةِ، والإكرامِ والإهانةِ

. أو هي جُملةٌ مُستأنَفةٌ لابتداءِ استِدلالٍ على انفرادِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ. وما وقَعَ بين هاتينِ الجُملتينِ استِطرادٌ واعتراضٌ .

- والاستفهامُ في قولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ استفهامٌ إنكاريٌّ، والخِطابُ لغيرِ مُعيَّنٍ. ويَجوزُ أنْ يكونَ الخِطابُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والاستفهامُ تَقريريًّا . والمُرادُ بالرُّؤيةِ العِلْمُ؛ عبَّرَ عنه بها إشعارًا بظُهورِ المعلومِ .

- قولُه: أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ (مَن) يجوزُ أنْ يعُمَّ أُولي العَقْلِ وغيرَهم على التَّغليبِ؛ فيكونُ قولُه: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ إفرادًا لها بالذِّكْرِ؛ لشُهرتِها، واستبعادِ ذلك منها. أو جُعِلَتْ خاصَّةً بالعُقلاءِ؛ لعدَمِ شُمولِ سُجودِ الطَّاعةِ لكُلِّهم . وقيل: إنَّما ذكَر هذه على التنصيصِ؛ لأنَّها قد عُبِدت مِن دونِ الله، فبيَّن أنَّها تسجُدُ لخالقِها، وأنَّها مربوبةٌ مسخَّرةٌ .

- قولُه: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِن بابِ عطْفِ الخاصِّ على العامِّ مِن حيثُ الفِعْلُ والفاعلُ؛ تَشريفًا لعبادِهِ الصَّالحينَ .

- قولُه: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ جُملةُ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ مُكنًّى بها عن تَرْكِ السُّجودِ للهِ، أي: حَقَّ عليهمُ العذابُ؛ لأنَّهم لم يَسْجُدوا للهِ .

- والآيةُ مِن الاحتباكِ : فإثباتُ السُّجودِ في الأوَّلِ دليلٌ على انتفائِه في الثاني، وذِكرُ العذابِ في الثاني دليلٌ على حذفِ الثَّوابِ في الأوَّلِ .

- وقولُه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ تَذييلٌ لقولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ . والتَّعبيرُ بالفِعْلِ المُضارِعِ ﮏ مُؤذِنٌ بأنَّ إيثارَ المُضارِعِ في الآيةِ للاستمرارِ، لا لِمُطلَقِ الإخبارِ .

- ولَمَّا عُلِمَ بقولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ ... أنَّ الكُلَّ جارُونَ معَ الإرادةِ، مُنقادُونَ أتمَّ انقيادٍ تحتَ طوعِ المشيئةِ، وأنَّه إنَّما جُعِلَ الأمرُ والنهيُ للمُكلَّفينَ سببًا لإسعادِ السَّعيدِ منهم، وإشقاءِ الشقيِّ؛ لإقامةِ الحُجَّةِ عليهم على ما يَتعارفونَه مِن أحوالِهم فيما بينهم؛ كان المعنى: فمَن يُكرِمِ اللهُ بتوفيقِه لامتِثالِ أمْرِه فما له مِن مُهينٍ؛ فعُطِفَ عليه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، ولعلَّه إنَّما ذَكَره وطوَى الأوَّلَ؛ لأنَّ السِّياقَ لإظهارِ القُدرةِ، وإظهارُها في الإهانةِ أتمُّ، مع أنَّ أصلَ السِّياقِ للتَّهديدِ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ في مَحلِّ العِلَّةِ للجُملتينِ المُعترضتينِ؛ لأنَّ وُجودَ حَرْفِ التَّوكيدِ في أوَّلِ الجُملةِ معَ عدَمِ المُنكِرِ يُمحِّضُ حَرْفَ التَّوكيدِ إلى إفادةِ الاهتمامِ، فنشَأَ مِن ذلك معنى السَّببيَّةِ والتَّعليلِ، فتُغْني (إنَّ) غَناءَ حَرْفِ التَّعليلِ أو السَّببيَّةِ .

 

-------------

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (19-22)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات :

 

الْحَمِيمُ: أي: الماءُ الشَّديدُ الحَرارةِ، وأصلُ (حمم): يَدُلُّ على الحَرارةِ

.

يُصْهَرُ: أي: يُذابُ، والصَّهرُ: إذابةُ الشَّحمِ، وأصلُ (صهر): يدُلُّ على إذابةِ شَيءٍ .

مَقَامِعُ: أي: سياطٌ ومَطارِقُ ومَرازِبُ، مِن قَولِهم: قَمَعْتُ رأسَه: إذا ضَرَبْتَه ضَربًا عنيفًا، وأصلُ (قمع): يدُلُّ على إذلالٍ وقَهرٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: هذان فَريقانِ اختَلَفوا في شأنِ رَبِّهم وتوحيدِه: أهلُ الإيمانِ وأهلُ الكُفرِ؛ فالذين كَفَروا جُعِلَت لهم ثيابٌ مِن نارٍ يَلْبَسونَها، يُصَبُّ على رُؤوسِهم الماءُ المُتناهي في حَرِّه، يُذابُ بهذا الحَميمِ المصبوبِ فَوقَ رُؤوسِ الكُفَّارِ ما في بُطونِهم والجلودُ، وتَضرِبُهم الملائِكةُ على رُؤوسِهم بمَطارِقَ مِن حَديدٍ، كُلَّما حاولوا الخروجَ مِنَ النَّارِ؛ لشِدَّةِ غَمِّهم وكَرْبِهم، أُعيدُوا فيها، وقيلَ لهم: ذُوقُوا عذابَ النَّارِ المُحرِقةِ.

تفسير الآيات :

 

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذكَر تعالى أهلَ السعادةِ وأهلَ الشقاوةِ؛ ذكَر ما دار بينَهم مِن الخصومةِ في دينِه

.

وأيضًا لَمَّا كان قَولُه تعالى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج: ١٨] يُثيرُ سُؤالَ مَن يَسألُ عن بَعضِ تَفصيلِ صِفَةِ العَذابِ الذي حَقَّ على كثيرٍ مِنَ النَّاسِ الذين لم يَسجُدوا لله تعالى؛ جاءت هذه الجُملةُ لِتَفصيلِ ذلك .

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ.

أي: هذان فَريقانِ اختَلَفوا في شأنِ رَبِّهم وتوحيدِه ودينِه، وتعادَوْا وتحارَبوا: المُؤمِنونَ والكافِرونَ؛ فالمُؤمِنونَ يُريدونَ نُصرةَ دينِ اللهِ، وإعلاءَ كَلِمتِه، والكافِرونَ يُريدونَ إطفاءَ نُورِ الإيمانِ، وقَمْعَ الحَقِّ، وإظهارَ الباطِلِ .

عن قَيسِ بنِ عَبَّادٍ، قال: (سَمِعْتُ أبا ذَرٍّ يُقسِمُ قَسَمًا: إنَّ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إنَّها نَزَلت في الذين بَرَزوا يومَ بَدرٍ: حَمزةُ وعَلِيٌّ وعُبَيدةُ بنُ الحارِثِ، وعُتَبةُ وشَيبةُ ابنا ربيعةَ، والوليدُ بنُ عُتبةَ) .

وعن قَيسِ بنِ عَبَّادٍ، عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه أنَّه قال: (أنا أوَّلُ مَن يجثو بينَ يدَيِ الرَّحمنِ للخُصومةِ يومَ القيامةِ)، وقال قيسُ بنُ عَبَّادٍ: وفيهم أُنزِلَت: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ، قال: (هم الذين تبارَزوا يومَ بَدرٍ: حمزةُ وعَليٌّ وعُبَيدةُ -أو أبو عبيدةَ بنُ الحارثِ-، وشَيبةُ بنُ رَبيعةَ، وعُتْبةُ بنُ رَبيعةَ، والوَليدُ بنُ عُتبةَ) .

فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ.

أي: فالذين كَفَروا بالله فُصِّلَت لهم ثِيابٌ مِن نارٍ، فيَعُمُّ العذابُ أجسادَهم .

كما قال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 49-50].

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ.

أي: يُصَبُّ على رُؤوسِ الكُفَّارِ الماءُ المُغْلَى الشَّديدُ الحَرارةِ .

كما قال تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان: 47-48] .

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لمَّا ذكَرَ ما يُعذَّبُ به الجَسدُ ظاهِرُه وما يُصَبُّ على الرَّأسِ؛ ذكَرَ ما يَصِلُ إلى باطنِ المُعذَّبِ .

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20).

أي: يُذابُ بالحَميمِ المصبوبِ فَوقَ رُؤوسِ الكُفَّارِ ما في بُطونِهم -مِنَ اللَّحمِ والشَّحمِ، والأمعاءِ والأحشاءِ -، والجلودُ .

وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21).

أي: وللكُفَّارِ في جهَنَّمَ مَرازِبُ ومَطارِقُ مِن حَديدِ، تَضرِبُهم وتَدفَعُهم بها خَزَنةُ النَّارِ مِن الملائِكةِ .

كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22).

كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا.

أي: كُلَّما أراد هؤلاءِ الكُفَّارُ أن يَخرُجوا مِنَ النَّارِ بسَبَبِ ما نالهم فيها مِنْ غَمٍّ، أُعيدُوا في النَّارِ مرَّةً أُخرى .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 36-37] .

وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.

أي: ويُقالُ لهؤلاء الكافرينَ: ذوقوا عَذابَ النَّارِ المُحرِقَ للقُلوبِ والأبدانِ

 

.

كما قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] .

الفوائد التربوية :

 

حَذَّرَنا اللهُ تعالى في كتابِه مِن النَّارِ، وأخبَرَنا عن أنواعِ عَذابِها بما تتفَطَّرُ منه الأكبادُ، وتتفَجَّرُ منه القُلوبُ؛ حَذَّرَنا منها وأخبَرَنا عن أنواعِ عَذابِها؛ رحمةً بنا؛ لنزدادَ حَذَرًا وخَوفًا، ومن ذلك قولُه تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال تعالى: اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ والاختِصامُ يَشمَلُ ما وقع أحيانًا مِن التَّحاوُرِ الحقيقيِّ بين أهلِ الأديانِ المذكورةِ، والمعنويَّ؛ فإنَّ اعتِقادَ كُلٍّ مِن الفريقَينِ بحَقِّيَّةِ ما هو عليه وبُطلانِ ما عليه صاحِبُه، وبناءَ أقوالِه وأفعالِه عليه: خُصومةٌ للفَريقِ الآخَرِ، وإنْ لم يَجْرِ بينهما التَّحاوُرُ والِخصامُ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قَولُه تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ

- قولُه: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ يُثِيرُ سُؤالَ مَن يسأَلُ عن بَعضِ تَفصيلِ صِفَةِ العذابِ الَّذي حَقَّ على كَثيرٍ مِن النَّاسِ الَّذينَ لم يَسْجُدوا للهِ تعالى؛ فجاءت هذه الجُملةُ لتَفصيلِ ذلك. واسمُ الإشارةِ هَذَانِ مُشيرٌ إلى ما يُفِيدُه قولُه تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، والإشارةُ إلى ما يُسْتَفادُ مِن الكلامِ بتَنزيلِه مَنزِلةَ ما يُشاهَدُ بالعينِ

.

- قولُه: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في قولِه: هَذَانِ تَعيينٌ لطَرَفيِ الخِصامِ، وإزاحةٌ لِمَا عسى يَتبادَرُ إلى الوهْمِ مِن كَونِه بينَ كلِّ واحدةٍ من الفِرَقِ السِّتِّ وبين البواقي، وتَحريرٌ لِمَحلِّه، أي: فريقُ المُؤمِنينَ وفريقُ الكَفَرةِ المُقسَّمِ إلى الفِرَقِ الخَمْسِ . وأُتِيَ باسمِ الإشارةِ الموضوعِ للمُثنَّى هَذَانِ؛ لمُراعاةِ تَثنيةِ اللَّفظِ، وأُتِيَ بضَميرِ الجماعةِ اخْتَصَمُوا؛ لِمُراعاةِ العدَدِ .

- قولُه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ تَفصيلٌ لِمَا أُجْمِلَ في قولِه تعالى: يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

- قولُه: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ تَعبيرٌ بَليغٌ، كأنَّ الله تعالى يُقدِّرُ لهم نِيرانًا على مقاديرِ جُثَثِهم، تَشتمِلُ عليهم كما تُقطَّعُ الثِّيابُ الملبوسةُ .

- وأيضًا قولُه: قُطِّعَتْ فيه مُبالغةُ القَطْعِ، وصِيغَت صِيغةَ الشِّدَّةِ في القَطْعِ؛ للإشارةِ إلى السُّرعةِ في إعدادِ ذلك لهم .

- جاء قولُه: قُطِّعَتْ بلفْظِ الماضي؛ لأنَّ ما كان مِن أخبارِ الآخرةِ؛ فالموعودُ منه كالواقِعِ المُحقَّقِ .

- قولُه: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث إنَّه لمَّا ذكَرَ ما يُصَبُّ على رُؤوسِهم؛ إذ يَظهَرُ في المعروفِ أنَّ الثَّوبَ إنَّما يُغطَّى به الجسَدُ دونَ الرَّأسِ؛ فذكَرَ ما يُصِيبُ الرَّأسَ منَ العذابِ .

- وفائدةُ زِيادةِ (مِنْ) في قولِه تعالى: مِنْ فَوْقِ: أنَّها لابتِداءِ الغايةِ في أوَّلِ أمكنةِ الفوقيَّةِ، والحميمُ إذا صُبَّ فوقَهم عن بُعْدٍ، فإنَّه يُدرِكُه الهواءُ، فيَنقُصُ مِن حرارتِه، فإذا صُبَّ فوقَ رُؤوسِهم بالقُرْبِ نزَلَ كما هو؛ فأفادت زِيادةُ (مِن) أنَّه يُصَبُّ فوقَ رُؤوسِهم مِن أقرَبِ أمكنةِ الفوقيَّةِ إليهم حتَّى لَا يَنتقِصَ مِن حرارتِه شَيءٌ .

- وفي الكلامِ تَقسيمٌ وجَمْعٌ وتَفريقٌ؛ فالتَّقسيمُ: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ... إلى قولِه: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، والجَمْعُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إلى قولِه تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] ، والتَّفريقُ: قولُه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الحج: 23] ، ورُوعِيَ فيه معنى قولِه تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] ؛ لأنَّه حينَ ذكَرَ فريقَ الكُفَّارِ ما أسنَدَ جزاءَهم إلى اللهِ تعالى، وحين ذكَرَ جزاءَ المُؤمِنينَ أتَى باسْمِه الجامِعِ (الله)، وصَدَّرَ الجُملةَ بـ (إنَّ)، وفصَلَها للاستئنافِ؛ ليكونَ أدَلَّ على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ، وذيَّلَ الكلامَ بقولِه: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ. وأمَّا تَوسيطُ قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ ... الآيةَ؛ فلِلتَّفريعِ على اختلافِ الكَفرةِ، واستبعادِه معَ وُجودِ هذه الآياتِ الصَّارفةِ .

2- قولُه تعالى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ

- أُخِّرَ قولُه: وَالْجُلُودُ؛ إمَّا لمُراعاةِ الفواصلِ، أو للإشعارِ بغايةِ شِدَّةِ الحرارةِ، بإيهامِ أنَّ تأْثيرَها في الباطِنِ أقدَمُ مِن تأْثيرِها في الظَّاهرِ، مع أنَّ مُلابستَها على العكْسِ .

3- قَولُه تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

- قولُه: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ لأنَّ الإعادةَ والرَّدَّ لا يكونُ إلَّا بعْدَ الخُروجِ؛ فالتَّقديرُ: كلَّما أرادوا أنْ يَخرُجوا منها مِن غَمٍّ، فخَرَجوا؛ أُعِيدوا فيها . وفائدةُ الحذْفِ: الإشعارُ بسُرعةِ تَعلُّقِ الإرادةِ بالإعادةِ، وأنَّه حين تَعلَّقَت إرادتُهم بالخُروجِ، حصَلَ وتَرتَّبَ عليه الإعادةُ، كأنَّ إرادةَ الخُروجِ نفْسُ الخُروجِ، فأُعِيدوا بلا مُكْثٍ .

- قولُه: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ هذا القولُ إهانةٌ لهم؛ فإنَّهم قد عَلِموا أنَّهم يَذوقونَه .

- قولُه: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ تَقديرُه: وقيل لهم: ذُوقُوا، كما في السَّجدةِ: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ

 

[السجدة: 20] .

 

============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (23-25)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ

غريب الكلمات:

 

أَسَاوِرَ: جمعُ أَسْوِرَةٍ، وأسْوِرَةٌ جَمعُ سِوارٍ، والسِّوارُ: هو الذي يُلبَسُ في المِعصَم مِن ذَهَبٍ، وهو اسمٌ مُعَرَّبٌ عن الفارسيَّةِ

.

الْعَاكِفُ: أي: المُقيمُ المُلازِمُ، والعُكوفُ: الإقبالُ على الشَّيءِ ومُلازَمتُه على سَبيلِ التَّعظيمِ له، وأصلُ (عكف): يدُلُّ على الإقبالِ والحَبسِ .

وَالْبَادِ: أي: الطَّارِئُ مِنَ البَدوِ، وأصلُ (بدو): يدلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ، وسُمِّيَ خِلافُ الحَضَرِ بَدْوًا مِن هذا؛ لأنَّهم في بَرازٍ مِن الأرضِ، وليسُوا في قُرًى تَستُرُهم أبنِيَتُها .

بِإِلْحَادٍ: أي: ظُلمٍ ومَيلٍ عن الحَقِّ، وأصلُ (لحد): يدُلُّ على مَيلٍ عن استِقامةٍ

 

.

مشكل الإعراب :

 

1-  يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا

قَولُه: وَلُؤْلُؤًا بالنَّصبِ، وفيه أوجُهٌ، أوَّلُها: أنَّه مَعطوفٌ على مَوضِعِ الجارِّ والمجرورِ مِنْ أَسَاوِرَ؛ لأنَّ مَوضِعَهما نصبٌ. والثَّاني: أنَّه مَنصوبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه الأوَّلُ، أي: ويُحَلَّونَ لُؤلؤًا. الثَّالثُ: أنَّه مَعطوفٌ على أَسَاوِرَ ومِنْ زائِدةٌ فيه عند الأخفَشِ، ويَدُلُّ عليه قولُه تعالى: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان: 21] .

وقُرِئَ وَلُؤْلُؤًا بالجَرِّ عَطفًا على ذَهَبٍ، ثمَّ يحتَمِلُ أمرينِ؛ أحدُهما: أن يكونَ لهم أساوِرُ مِن ذَهَبٍ وأساوِرُ مِن لُؤلؤٍ، ويَحتَمِلُ أن تكونَ الأساوِرُ مُرَكَّبةً مِن الأمرَينِ معًا: الذَّهَبِ المُرَصَّعِ باللُّؤلؤِ. وقيل: مَجرورٌ عَطفًا على لَفظِ أَسَاوِرَ

.

2- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

قَولُه: جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ: سَوَاءً مَفعولٌ به ثانٍ لـ (جعَلْنا)، ولِلنَّاسِ متعَلِّقٌ بـ (جَعَل)، والْعَاكِفُ فاعِلٌ بـ سَوَاءً؛ لأنَّه مصَدَرٌ بمعنى اسمِ الفاعِلِ، والمعنى: جعَلْناه مُستَويًا فيه العاكِفُ والبادِي. وإنْ قُلْنا (جعل) يتعدَّى لواحدٍ، كانت سَوَاءً حالًا مِن هاءِ جَعَلْنَاهُ. وقُرِئَ سَوَاءٌ بالرَّفعِ، على أنَّه خبَرٌ مُقَدَّمٌ، والْعَاكِفُ مُبتدأٌ مؤخَّرٌ، والجُملةُ في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ ثانٍ لـ (جعل)، أو حالٌ مِن الهاءِ. وخبَرُ إِنَّ محذوفٌ، تقديرُه: (نُذيقُهم مِن عَذابٍ أليمٍ)؛ لأنَّ قَولَه: نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ يَدُلُّ عليه.

وقَولُه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ: بِإِلْحَادٍ جارٌّ ومَجرورٌ مُتعَلِّقٌ بـ يُرِدْ، وقد ضُمِّنَ يُرِدْ معنى (يَهُمُّ) أو (يتلبَّسُ)؛ فلذلك تعدَّى بالباءِ. وقيل: بِإِلْحَادٍ مَفعولٌ به لـ يُرِدْ، والباءُ زائِدةٌ في المفعولِ للتَّأكيدِ، أي: ومَن يُرد فِيهِ إلحادًا بظُلمٍ. وبِظُلْمٍ مُتعَلِّقٌ بـ يُرِدْ، والباءُ فيه للسَّبَبيَّةِ. وقيلَ غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: إنَّ اللهَ تعالى يُدخِلُ أهلَ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ جَنَّاتٍ تجري مِن تحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ، يُزَيَّنونَ فيها بأساوِرِ الذَّهَبِ وباللُّؤلؤِ، ولِباسُهم في الجنَّةِ الحَريرُ، رِجالًا ونساءً. وهداهم اللهُ إلى طَيِّبِ القَولِ، وهداهم إلى طَريقِ اللهِ المحمودِ في أسمائِه وصِفاتِه.

إنَّ الذين كَفَروا بالله، ويَمنَعونَ غَيرَهم مِنَ الدُّخولِ في دينِ اللهِ، ومِن المَسجِدِ الحرامِ -الذي جعَلْناه لجَميعِ المُؤمِنينَ سواءً المُقيمُ فيه والقادِمُ إليه- نذيقُهم مِن عذابٍ أليمٍ مُوجِعٍ، ومَن يُرِدْ في المَسجِدِ الحَرامِ الميْلَ عن الحَقِّ فيرتكِبْ ظُلمًا -وهو قاصِدٌ لذلك- نُذِقْه مِن عذابٍ أليمٍ مُوجِعٍ.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما لأحَدِ الخَصْمَينِ، وهم الكافِرونَ؛ أتبَعَه ما للآخَرِ، وهم المُؤمِنونَ

.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

أي: إنَّ اللهَ يُدخِلُ الذين آمَنوا بكُلِّ ما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ- جناتٍ تَجري الأنهارُ مِن تَحتِ أشجارِها وقُصورِها .

يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: وَلُؤْلُؤًا قِراءتانِ:

1- قِراءةُ وَلُؤْلُؤًا بالنَّصبِ على معنى: ويُحَلَّونَ لُولُؤًا .

2- قِراءةُ وَلُؤْلُؤٍ بالجَرِّ على معنى: يُحَلَّونَ أساوِرَ مِن ذَهَبٍ وأساوِرَ مِن لُؤلُؤٍ، أو على معنى: يحلَّونَ أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ولُؤلؤٍ، أي: يكونُ السِّوارُ الواحِدُ مُكَوَّنًا مِنَ الذَّهَبِ واللُّؤلؤِ معًا .

يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا.

أي: يُحَلِّي اللهُ المُؤمِنينَ في الجنَّةِ -رِجالًا ونساءً- أساوِرَ مِن ذَهَبٍ، ويُحلَّونَ فيها لُؤلؤًا .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ خليلي صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((تَبلُغُ الحِليةُ مِن المُؤمِنِ حَيثُ يَبلُغُ الوُضوءُ)) .

وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ.

أي: ولِباسُ المُؤمِنينَ في الجنَّةِ ثِيابٌ مِن حَريرٍ .

عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لا تلبَسوا الحريرَ؛ فإنَّه مَن لَبِسَه في الدُّنيا، لم يَلبَسْه في الآخِرةِ )) .

وعن حُذيفةَ بنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا تَلبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ، ولا تَشرَبوا في آنيةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ولا تأكُلوا في صِحافِها؛ فإنَّها لهم في الدُّنيا، ولنا في الآخِرةِ )) .

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24).

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ.

أي: وهدى اللهُ المُؤمِنينَ إلى الأقوالِ الطيِّبةِ .

وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ.

أي: وهَدى المؤمِنينَ إلى طريقِ اللهِ المحمودِ في أسمائِه وصِفاتِه .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى بعدَ أن فَصَل بينَ الكُفَّارِ والمؤمنينَ؛ ذكَرَ عِظَمَ حُرمةِ البَيتِ، وعِظَمَ كُفرِ هؤلاء .

وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى ما للفَريقَينِ، وتَضَمَّنَ هذا البيانُ ما للفريقِ الثَّاني مِن أعمالٍ دالَّةٍ على صِدقِ إيمانِهم؛ كرَّرَ ذِكرَ الفريقِ الأوَّلِ؛ لبيانِ ما يَدلُّ على استمرارِ كُفرِهم، ويُؤكِّدُ بيانَ جزائِهم؛ فقال :

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ.

أي: إنَّ الذين كَفَروا باللهِ، ويَمنَعونَ النَّاسَ مِن الدُّخولِ في دينِه، ومِنَ المَسجِدِ الحرامِ -الذي ليس مِلكًا لهم ولا لآبائِهم، بل جعَلْناه للمُؤمِنينَ كافةً سَواءً المُقيمُ منهم فيه والقادِمُ إليه، فهم يسْتَوون في تعظيمِه وأحقيَّةِ أداءِ العباداتِ وإقامةِ الشَّعائِرِ فيه - أولئك الذين كَفَروا نُذيقُهم مِن عذابٍ مُؤلمٍ مُوجِعٍ .

كما قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح: 25] .

وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.

أي: ومَنْ يَهُمَّ أن يَميلَ ويَحيدَ في المَسجِدِ الحَرامِ عن الحَقِّ، ويَنحَرِفَ عن الاستِقامةِ بارتِكابِ ظُلمٍ -وهو قاصِدٌ لذلك- نُذِقْه مِن عذابٍ مُؤلِمٍ مُوجِعٍ .

عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يغزو جَيشٌ الكَعبةَ، فإذا كانوا ببَيداءَ مِن الأرضِ يُخسَفُ بأوَّلِهم وآخِرِهم. قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، كيف يُخسَفُ بأوَّلِهم وآخِرِهم، وفيهم أسواقُهم ومَن ليس منهم؟ قال: يُخسَفُ بأوَّلِهم وآخِرِهم، ثُمَّ يُبعَثونَ على نيَّاتِهم ))

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصالحُ مبنيٌّ على الإيمانِ، فعملٌ بلا إيمانٍ لا فائدةَ منه، فالمنافقون يعملون، ويذكرون الله، ويُصَلُّون، ويتصدَّقون، ولكن ليس عندَهم إيمانٌ؛ فلا ينفعُهم؛ ولهذا يقدِّمُ الله عزَّ وجلَّ الإيمانَ على العملِ الصالحِ

.

2- الإيمانُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن عملٍ، والعملُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن إيمانٍ، فلا يستحقُّ الجنةَ إلَّا مَن جمَع بينَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ؛ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ، وإذا ذُكِر ثوابُ الجنةِ مقيَّدًا أو معلَّقًا بالإيمانِ وحْدَه، فالمرادُ بذلك الإيمانُ المتضمِّنُ للعملِ الصالحِ .

3- العملُ لا ينفعُ صاحبَه إلَّا إذا كان صالحًا؛ قال تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصالحُ هو: الخالصُ الصوابُ؛ أي: ما ابتُغِي به وجهُ الله، وكان على شريعةِ الله .

4- قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فيه أنَّ الأعمالَ بالنيَّاتِ، والأُمورَ بمقاصدِها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ وهذا على سَبيلِ العُمومِ؛ فإنَّنا نَشهَدُ لكُلِّ مُؤمِنٍ عاملٍ للصَّالحاتِ أنَّه سيَدخُلُ الجنَّةَ، لكِنْ لا نُطَبِّقُ الشَّهادةَ هذه على جميعِ أفرادِ العُمومِ، بمعنى: أن نَخُصَّ واحِدًا بعَينِه إلَّا مَن شَهِدَ اللهُ له بذلك، أو شَهِدَ له رَسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم، أو أجمَعَت عليه الأمَّةُ

.

2- قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فيه الردُّ على الجبريةِ؛ إذ أضاف العملَ إليهم، والجبريةُ يقولونَ: إنَّ الإنسانَ لا يعملُ، ولا يضافُ العملُ إليه إلا مجازًا، وأنَّ عملَه ليس باختيارِه ولا بقصدِه .

3- قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ في هذه الآيةِ الكَريمةِ وُجوبُ احتِرامِ الحَرَمِ، وشِدَّةِ تَعظيمِه، والتَّحذيرُ مِن إرادةِ المعاصي فيه وفِعْلِها ، فالسَّيِّئةُ في الحَرَمِ أعظَمُ منها في غَيرِه، والهَمُّ بها فيه مأخوذٌ به . فمِن خَواصِّ الحَرَمِ أنَّه يُعاقَبُ فيه على الهَمِّ بالسَّيِّئاتِ، وإنْ لم يفعَلْها، فتأمَّلْ كيف عَدَّى فِعْلَ الإرادةِ هاهنا بالباءِ، فقال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ، ولا يُقالُ: «أردتُ بكذا» إِلَّا لَمَّا ضُمِّنَ معنى فِعْلِ «هَمَّ»؛ فإنَّه يُقالُ: «همَمَتُ بكذا»، فتَوعَّدَ مَن هَمَّ بأنْ يَظلِمَ فيه بأنْ يُذيقَه العذابَ الأليمَ .

4- المَعصِيةُ في مكانٍ فاضلٍ أعظَمُ مِنَ المَعصيةِ في مكانٍ مَفضولٍ؛ ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ .

5- إنْ قال قائِلٌ: وهل تُضاعَفُ السَّيِّئاتُ في الأمكِنةِ الفاضِلةِ والأزمِنةِ الفاضِلةِ؟

فالجوابُ: أمَّا في الكَّمِّيةِ فلا تُضاعَفُ؛ لِقَولِه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160] ، وهذه الآيةُ مَكِّيَّةٌ؛ لأنَّها مِن سورةِ (الأنعامِ)، وكُلُّها مكِّيَّةٌ، لكِنْ قد تُضاعَفُ السَّيِّئةُ في مكَّةَ مِن حَيثُ الكَيفيَّةُ، بمعنى أنَّ العقوبةَ تكونُ أشدَّ وأوجعَ؛ لِقَولِه تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ .

6- قال الله تعالى في الحَرَمِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فسَمَّى اللهُ المعاصِيَ والظُّلْمَ إلحادًا؛ لأنَّها مَيلٌ عمَّا يَجِبُ أن يكونَ عليه الإنسانُ؛ إذ الواجِبُ عليه السَّيرُ على صِراطِ اللهِ تعالى، ومَن خالَفَ فقد ألحَدَ .

7- يَقولُ اللهُ تبارك وتعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، ويَقولُ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يَرويه عن رَبِّه تبارك وتعالى في آخِرِ الحَديثِ: ((وإنْ همَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها كتَبَها اللهُ تعالى عِندَه حَسَنةً كامِلةً)) ، كيف نجمَعُ بين الآيةِ والحَديثِ؟

الجوابُ: الجَمعُ بينَ الآيةِ والحديثِ مِن أحَدِ وَجهَينِ:

الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ قَولَه تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ، أي: مَن يَهُمَّ فيَفعَلْ؛ لِقَولِ الله تبارك وتعالى في سورةِ (الأنعامِ)، وهي مَكِّيَّةٌ: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160] ، ولم يَقُلْ: ومَن هَمَّ، بل قال: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ [الأنعام:160] ، فيكونُ المعنى: مَن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظُلْمٍ ويَفعَلْ. وعلى هذا؛ فلا تعارُضَ.

الوَجهُ الثَّاني: أن يُقالَ: إنَّ قَولَه: ((ومَن همَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها كُتِبَت له حَسَنةٌ) ) هذا في غيرِ مكَّةَ، وتكونُ مكَّةُ مُستَثناةً مِن ذلك، أي: أنَّه يُؤاخَذُ الإنسانُ فيها بالهَمِّ، وفي غَيرِها لا يؤاخَذُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ غُيِّرَ الأسلوبُ فيها بإسنادِ الإدخالِ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يكونَ هذا الكلامُ معطوفًا بالواوِ على جُملةِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج: 19] ، بأنْ يُقالَ: والَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ يُدخِلُهم اللهُ جنَّاتٍ... إلى آخِرِه؛ فعُدِلَ عن ذلك الأسلوبِ إلى هذا النَّظمِ؛ لاسترعاءِ الأسماعِ إلى هذا الكلامِ إذ جاء مُبْتَدَأً به، مُسْتقِلًّا، مُفتتَحًا بحَرفِ التَّأكيدِ، ومُتوَّجًا باسمِ الجلالةِ؛ إيذانًا بكَمالِ مُباينةِ حالِهم لحالِ الكَفرةِ، وإظهارًا لمَزيدِ العنايةِ بأمْرِ المُؤمِنينَ، ودَلالةً على تَحقُّقِ مَضمونِ الكلامِ

.

- وكرَّرَ قولَه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ؛ لأنَّه لمَّا ذكَرَ حُكْمَ أحدِ الخَصمينِ، وهو فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ، لم يكُنْ بُدٌّ مِن ذِكْرِ حُكْمِ الخَصمِ الآخرِ؛ لِمُقارَنتِه له، وإنْ تقدَّمَ ذِكْرُه .

- في قولِه: أَسَاوِرَ أُشِيرَ بجمْعِ الجَمْعِ إلى التَّكثيرِ .

- و(مِن) في قولِه: مِنْ أَسَاوِرَ على القولِ بأنَّها زائدةٌ للتَّوكيدِ؛ فوَجْهُه: أنَّه لمَّا لم يُعْهَدْ تَحليةُ الرِّجالِ بالأساورِ، كان الخبَرُ عنهم بأنَّهم يُحلَّونَ أساورَ مُعرّضًا للتَّردُّدِ في إرادةِ الحقيقةِ؛ فجِيءَ بالمُؤكِّدِ لإفادةِ المَعْنى الحقيقيِّ .

- وقولُه: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ غُيِّرَ أُسلوبُ الكلامِ فيه، حيث عُبِّرَ بالجُملةِ الاسميَّةِ بعْدَ التَّعبيرِ بالفعليَّةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الحريرَ ثِيابُهم المُعتادةُ، أو للمُحافَظةِ على هَيئةِ الفواصلِ .

وقيل: غُيِّرَ الأُسلوبُ للإيذانِ بأنَّ ثُبوتَ اللِّباسِ لهم أمْرٌ مُحقَّقٌ غَنِيٌّ عن البَيانِ؛ إذ لا يُمكِنُ عَراؤُهم عنه، وإنَّما المُحتاجُ إلى البَيانِ أنَّ لِباسَهم ماذا بخِلافِ الأساورِ واللُّؤلؤِ؛ فإنَّها ليستْ مِن اللَّوازمِ الضَّروريَّةِ؛ فجعَلَ بَيانَ تَحلِيَتِهم بها مَقصودًا بالذَّاتِ، ولعلَّ هذا هو الباعثُ إلى تَقديمِ بَيانِ التَّحليةِ على بَيانِ حالِ اللِّباسِ .

وقيل: لمَّا كانتِ التَّحليةُ غيرَ اللِّباسِ، جِيءَ باسمِ اللِّباسِ بعْدَ يُحَلَّوْنَ بصِيغَةِ الاسمِ دونَ (يَلْبَسون)؛ لتَحصيلِ الدَّلالةِ على الثَّباتِ والاستمرارِ، كما دلَّتْ صِيغَةُ يُحَلَّوْنَ على أنَّ التَّحليةَ مُتجدِّدةٌ بأصنافٍ وألْوانٍ مُختلفةٍ، ومِن عُمومِ الصِّيغتينِ يُفْهَمُ تَحقُّقُ مِثْلِها في الجانبِ الآخَرِ؛ فيكونُ في الكلامِ احتباكٌ ؛ كأنَّه قيل: يُحلَّون بها، وحِلْيَتُهم مِن أساوِرَ مِن ذهَبٍ، ولِباسُهم فيها حَريرٌ يَلْبَسونه .

2- قَولُه تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ

- جُملةُ: وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ مُعترِضةٌ، وهي كالتَّكملةِ لوصْفِ حُسْنِ حالِهم لمُناسَبةِ ذِكْرِ الهدايةِ في قولِه: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ . وشُبِّهَ الإسلامُ بالصِّراطِ؛ لأنَّه مُوصِلٌ إلى رِضا اللهِ ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

- وقولُه: الْحَمِيدِ، قيل: أي: المحمودِ نفْسُه أو عاقبتُه، وهو الجنَّةُ؛ فوَجْهُ تأْخيرِ هذه الهدايةِ لرِعايةِ الفواصلِ. وقيل: المُرادُ بالحميدِ: الحَقُّ المُستحِقُّ لِذَاتِه لغايةِ الحمْدِ، وهو اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وصِراطُه الإسلامُ، ووَجْهُ التَّأخيرِ حينئذٍ: أنَّ ذِكْرَ الحمْدِ يَسْتدعِي ذِكْرَ المحمودِ . ويجوزُ أنْ يكونَ الْحَمِيدِ صِفَةً لـ صِرَاطِ، أي: المحمودُ لسالِكِه. فإضافةُ صراطٍ إليه مِن إضافةِ الموصوفِ إلى الصِّفةِ، والصِّراطُ المحمودُ هو صراطُ دينِ الله، وفي هذه الجُملةِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ: إيماءٌ إلى سَببِ استحقاقِ تلك النِّعمِ، وأنَّه الهدايةُ السَّابقةُ إلى دِينِ اللهِ في الحياةِ الدُّنيا ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

3- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ هذا مُقابِلُ قولِه: وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج: 24] بالنِّسبةِ إلى أحوالِ المُشركينَ؛ إذ لم يَسبِقْ لقولِه ذلك مُقابِلٌ في الأحوالِ المذكورةِ في آيةِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج: 19]؛ فمَوقِعُ هذه الجُملةِ الاستئنافُ البَيانِيُّ. وفيه مع هذه المُناسَبةِ لِمَا قبْلَه: تَخلُّصٌ بَديعٌ إلى ما بعْدَه؛ مِن بَيانِ حَقِّ المُسلمينَ في المسجِدِ الحرامِ، وتَهويلِ أمْرِ الإلحادِ فيه، والتَّنويهِ به، وتَنزيهِه عن أنْ يكونَ مأْوًى للشِّرْكِ ورِجْسِ الظُّلمِ والعُدوانِ .

- وقولُه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... فيه تأْكيدُ الخبَرِ بحَرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ به. وصِيغةُ الماضي كَفَرُوا؛ لأنَّ ذلك الفِعْلَ صار كاللَّقبِ لهم، مثْلُ قولِه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا [الحج: 23].

- وقولُه: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والصَّدُّ عن المسجِدِ الحرامِ ممَّا شَمِلَه الصَّدُّ عن سَبيلِ اللهِ؛ فخُصَّ بالذِّكْرِ للاهتمامِ به، ولِيُنْتقَلَ منه إلى التَّنويهِ بالمسجِدِ الحرامِ، وذِكْرِ بِنائِه، وشَرْعِ الحجِّ له مِن عَهْدِ إبراهيمَ .

- والفِعْلُ المُضارِعُ وَيَصُدُّونَ يُرادُ به استمرارُ الصَّدِّ منهم، وتَكرُّرُ ذلك منهم، وأنَّه دأْبُهم؛ ولذلك حسُنَ عطْفُه على الماضي كَفَرُوا .

- وفي التَّعقيبِ بقولِه تعالى: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ عطْفًا على سَبِيلِ اللَّهِ على مِنوالِ العطْفِ السَّابقِ: تَتميمٌ ومُبالَغةٌ .

- وفائدةُ وصْفِ المسجِدِ الحرامِ بقولِه: الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ زيادةُ التَّشنيعِ للصَّادِّينَ عنه ، وللإيماءِ إلى عِلَّةِ مُؤاخذةِ المُشركينَ بصَدِّهم عنه لأجْلِ أنَّهم خالَفوا ما أراد اللهُ منه؛ فإنَّه جعَلَهُ للنَّاسِ كلِّهم، يَسْتوي في أحَقِّيَّةِ التَّعبُّدِ به العاكِفُ فيه، أي: المُستقِرُّ في المسجِدِ، والبادي، أي: البعيدُ عنه إذا دخلَهُ .

- وفي قولِه: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ لم يُبيِّنِ الاستواءَ في ماذا؛ لظُهورِ أنَّ الاستواءَ فيه بصِفَةِ كونِه مَسجدًا إنَّما هي في العبادةِ المقصودةِ منه . والعاكِفُ: هو المُلازِمُ له في أحوالٍ كثيرةٍ، قيل: هو كِنايةٌ عن السَّاكنِ بمكَّةَ، وفي ذِكْرِ العُكوفِ تَعريضٌ بأنَّهم لا يَستحِقُّون بسُكْنى مكَّةَ مَزيَّةً على غيرِهم، وبأنَّهم حين يَمْنعون الخارجينَ عن مكَّةَ مِنَ الدُّخولِ للكعبةِ قد ظَلَموهم باستئثارِهم بمكَّةَ .

- قولُه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ تَذييلٌ للجُملةِ السَّابقةِ؛ لِمَا في (مَن) الشَّرطيَّةِ مِن العُمومِ .

- والباءُ في بِإِلْحَادٍ زائدةٌ للتَّوكيدِ، كما في قولِه: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] ، أي: مَن يُرِدْ إلحادًا وبُعْدًا عن الحقِّ والاستقامةِ، وذلك صَدُّهم عن زِيارتِه، على قولٍ في التفسيرِ. والباء في بِظُلْمٍ للملابسةِ . وقيل: ضُمِّنَ معنى فِعْلِ «هَمَّ»؛ فإنَّه يُقالُ: «همَمَتُ بكذا» .

============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (26-29)

ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ

غريب الكلمات:

 

بَوَّأْنَا: أي: هَيَّأْنا وبَيَّنَّا وعَرَّفْنا، وأصلُه مِن المَباءةِ: وهي مَنزِلُ القَومِ في كُلِّ مَوضِعٍ

.

رِجَالًا: جمعُ راجِلٍ، أي: مُشاةً، يُقالُ للماشي بالرِّجْل: رَجِلٌ وراجِلٌ، وهو مشتقٌّ من الرِّجْلِ .

ضَامِرٍ: الضَّامِرُ: البَعيرُ المهزولُ الَّذي أتْعَبه السَّفرُ، أو هو كلُّ ما يُركبُ مِن فرَسٍ وناقةٍ وغيرِ ذلك، وقيل: الخَفيفُ اللَّحمِ مِن الأعمالِ لا مِنَ الهُزالِ، وأصلُ (ضمر): يدُلُّ على دِقَّةٍ في الشَّيءِ .

فَجٍّ عَمِيقٍ: أي: مَسلَكٍ بَعيدٍ، والفَجُّ: الشَّقُّ بينَ جَبَلينِ، ويُستعمَلُ في الطَّريقِ الواسِعِ، وأصلُ (فجج): يدُلُّ على تفَتُّحٍ وانفِراجٍ، وأصلُ العُمْقِ: البعدُ سُفلًا .

بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ: أي: الإبلِ والبَقَرِ والغَنَمِ، والبهيمَةُ: مَا استَبْهم عن الجوابِ: أي: استَغْلَق، وما لا نطقَ له؛ وذلك لِما في صوتِه مِن الإبهامِ، وقيل: سُمِّيت بذلك لأنَّها أُبْهِمتْ عن أن تُميِّزَ، وأصلُ (بهم): أن يبقَى الشيءُ لا يُعرَفُ المأتَى إليه، وأصلُ (نعم): يدلُّ على تَرفُّهٍ، وطِيبِ عَيشٍ، وصلاحٍ .

الْبَائِسَ: أي: الذي اشتَدَّتْ حاجتُه وساءَتْ حالُه وافتقَرَ، والبُؤسُ: شِدَّةُ الفَقرِ، يقالُ: بَئِسَ الرَّجُلُ بُؤْسًا: إذا اشتَدَّتْ حاجَتُه، فهو بائِسٌ، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما ضارَعَها .

لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ: أي: لِيُزيلوا أدرانَهم وأوساخَهم، والتَّفَثُ في المَناسِكِ: ما كان مِن نَحوِ قَصِّ الأظفارِ والشَّارِبِ، وحَلْقِ الرَّأسِ والعانةِ، ورَمْيِ الجِمارِ، ونَحْرِ البُدنِ، وأشباهِ ذلك، وأصلُه: يدلُّ على الوَسَخِ .

بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ: أي: بَيتِ اللهِ الحَرامِ، وسُمِّي عَتيقًا؛ لأنَّه أقدَمُ بيتٍ للعبادةِ في الأرضِ، أو لأنَّ اللهَ تعالى أعتَقَه مِن الجَبابرةِ فلم يَظهَرْ عليه جبَّارٌ قَطُّـ، وقِيل غيرُ ذلك، وأصلُ (عتق): يدُلُّ على الحُرِّيَّةِ والقِدَمِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- إذ بَيَّنَّا لإبراهيمَ عليه السَّلامُ مكانَ البَيتِ، وهيَّأْناه له، وقُلْنا له: لا تُشرِكْ بالله شَيئًا في عبادَتِه، وطَهِّرْ -يا إبراهيمُ- بَيتيَ للطَّائِفينَ حَوْلَه، وللقائِمينَ في صلاتِهم، والرَّاكِعينَ السَّاجِدينَ، بتَنزيهِه مِنَ الشِّركِ والكُفرِ، والبِدَعِ والمعاصي، والقبائِحِ وجَميعِ النَّجاساتِ الحسِّيَّةِ والمَعنَويَّةِ.

وأعلِمْ -يا إبراهيمُ- النَّاسَ بوُجوبِ الحَجِّ عليهم، يأتوك مُلَبِّينَ نِداءَك على مُختَلِفِ أحوالِهم، مُشاةً ورُكبانًا على الرَّواحِلِ التي هُزِلَت أبدانُها مِن طُولِ السَّفَرِ ومَشقَّتِه، تأتي هذه الرَّواحِلُ مِن كُلِّ طَريقٍ بعيدٍ؛ لِيَحضُرَ الحُجَّاجُ منافِعَ لهم في أمورِ دينِهم ودُنياهم، ولِيَذكُروا اسمَ اللهِ في أيَّامِ عشرِ ذي الحجَّةِ على ما رزَقَهم مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ.

فكُلوا مِن هذه الذَّبائِحِ، وأطعِموا منها الفَقيرَ الذي اشتَدَّ فَقرُه، ثُمَّ لْيُكمِلِ الحُجَّاجُ ما بَقِيَ عليهم مِن النُّسُكِ، بإحلالِهم وخُروجِهم مِن إحرامِهم، وذلك بإزالةِ ما تراكَمَ مِن وسَخٍ في أبدانِهم، وقَصِّ أظفارِهم، وحَلْقِ شَعرِهم- ولْيُوفُوا بما أوجَبوه على أنفُسِهم في الحَجِّ، ولْيَطَّوَّفوا بالبَيتِ العَتيقِ القديمِ.

تفسير الآيات:

 

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ الكُفَّارِ، وصَدَّهم عن المَسجِدِ الحرامِ، وتوعَّدَ فيه مَن أراد فيه بإلحادٍ؛ ذكَرَ حالَ أبيهم إبراهيمَ، وتَوبيخَهم على سُلوكِهم غيرَ طَريقِه مِن كُفرِهم باتِّخاذِ الأصنامِ، وامتِنانَه عليهم بإيفادِ العالَمِ إليهم

.

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حينَ هَيَّأْنا لإبراهيمَ مَكانَ الكَعبةِ، وأنزَلْناه فيه، وعرَّفْناه بالموضِعِ الذي يَبني فيه الكَعبةَ، وقُلْنا له: لا تُشرِكْ بالله شَيئًا في عبادَتِه، وأخلِصْ أعمالَك كُلَّها للهِ وَحْدَه، وابنِ هذا البَيتَ على اسْم اللهِ وَحْدَه .

كما قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران: 96-97] .

وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.

أي: وطَهِّرْ -يا إبراهيمُ- بَيتيَ للطَّائِفينَ حَوْلَه، وللقائِمينَ في صلاتِهم، والرَّاكِعينَ السَّاجِدينَ في صَلاتِهم عِندَه، بتَنزيهِه مِن كُلِّ ما لا يَليقُ به مِنَ الشِّركِ والكُفرِ، والبِدَعِ والمعاصي، والقبائِحِ وجَميعِ النَّجاساتِ الحسِّيَّةِ والمَعنَويَّةِ .

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27).

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا.

أي: وأَعْلِمْ -يا إبراهيمُ - النَّاسَ بوُجوبِ الحَجِّ عليهم، ونادِ فيهم أنْ حُجُّوا أيُّها النَّاسُ بيتَ اللهِ؛ يأتُوا إليك مُشاةً على أرجُلِهم، مُلَبِّينَ نداءَك، حاجِّينَ بَيتَ اللهِ الحرامِ .

وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.

أي: وراكِبينَ على الرَّواحِلِ التي هُزِلَت أبدانُها مِن طُولِ السَّفَرِ ومَشقَّتِه ، والتي تأتي مِن كُلِّ طَريقٍ ومَكانٍ واسِعٍ بَعيدٍ .

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالحَجِّ في قَولِه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ؛ ذكَرَ حِكمةَ ذلك الأمرِ، فقال :

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ.

أي: لأجْلِ أن يَحضُرَ الحُجَّاجُ، فيُحَصِّلوا مَصالِحَ كَثيرةً لهم مِن أمورِ دينِهم ودُنياهم وآخِرَتِهم .

كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 198-199] .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حَجَّ هذا البَيتَ، فلم يَرْفُثْ ، ولم يَفسُقْ ؛ رجَعَ كيَومَ ولَدَتْه أُمُّه ) .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((العُمرةُ إلى العُمرةِ كفَّارةٌ لِما بيْنهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ )) .

وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.

أي: ولِيذكُرَ الحُجَّاجُ اسمَ اللهِ في أيَّامِ عشرِ ذي الحجَّةِ على ما رزَقَهم مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ .

فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.

أي: فكُلوا مِنَ الأنعامِ التي ذكَرْتُم اسمَ اللهِ عليها، وأطعِموا منها مَن ساءت حالُه فاشتَدَّ به الفَقرُ، وضَرَّ به الجوعُ، فلا شيءَ له يُذهبُ جوعَه، ويرفعُ عنه ضرَّه .

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29).

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ.

أي: ثُمَّ لْيُكمِلِ الحُجَّاجُ ما بَقِيَ عليهم مِن مناسِكِ حَجِّهم؛ كرَمْيِ الجِمارِ، وحَلْقِ الرُّؤوسِ، ونَتفِ الآباطِ، وحلقِ العانةِ، والأخذِ مِن الشَّوارِبِ، وقَصِّ الأظفارِ، والطَّوافِ بالبَيتِ، وإزالةِ وَسخِ الأبدانِ .

وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ.

أي: ولْيُوفِ الحُجَّاجُ بما أوجَبوه على أنفُسِهم في الحَجِّ .

وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.

أي: ولْيَطُفِ الحُجَّاجُ طَوافَ الإفاضةِ ببَيتِ الله العتيقِ ؛ الكعبةِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

ينبغي للإنسانِ أنْ يَستَحضِرَ أنَّه في مجيئِه إلى مكَّةَ وإحرامِه، أنَّه إنما يفعَلُ ذلك تلبيةً لدُعاءِ الله؛ قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فالأذانُ بأمْرِ الله يُعتبرُ أذانًا مِن اللهِ، فإذا كان اللهُ هو الذي أذَّنَ، فأنا أجيبُه وأقولُ: «لَبَّيك اللهُمَّ لَبَّيك»

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- عُلِّقت القلوبُ على محبَّةِ الكعبةِ: البيتِ الحرامِ، حتى استطاب المحبُّونَ في الوصولِ إليها هجرَ الأوطانِ والأحبابِ، ولَذَّ لهم فيها السَّفرُ الذي هو قطعةٌ مِن العذاب، فركِبوا الأخطارَ، وجابُوا المفاوِزَ والقِفارَ، واحتملوا في الوصولِ غايةَ المشاقِّ، ولو أمكنهم لسَعَوا إليها على الجفونِ والأحداقِ:

نعمْ أسعَى إليكَ على جُفوني          وإنْ بَعُدت لمسراكَ الطريقُ

وسِرُّ هذه المحبَّةِ هي إضافةُ الرَّبِّ سُبحانَه له إلى نَفْسِه بقَولِه: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ

؛ فقد أضافه الرحمنُ إلى نفْسِه، ولتَعظُمَ محبَّتُه في القلوب، وليكونَ أعظمَ لتطهيرِه وتعظيمِه؛ لكونِه بيتَ الرَّبِّ، للطائفينَ به، والعاكفينَ عنده، المقيمينَ لعبادةٍ من العباداتِ؛ مِن ذكرٍ، وقراءةٍ، وتعلُّمِ عِلمٍ وتعليمِه، وغير ذلك من أنواعِ القُرَبِ .

2- قال الله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فقَرَن الطَّوافَ بالصَّلاةِ؛ لأنَّهما لا يُشرَعانِ إلَّا مُختَصَّينِ بالبَيتِ؛ فالطَّوافُ عندَه، والصَّلاةُ إليه في غالِبِ الأحوالِ، إلَّا ما استُثنيَ مِن الصَّلاةِ عندَ اشتِباهِ القِبلةِ، وفي الحَربِ، وفي النَّافلةِ في السَّفَرِ. والله أعلَمُ .

3- قال الله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ يُؤخَذُ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ: أنَّه لا يَجوزُ أن يُترَكَ عند بَيتِ اللهِ الحَرامِ قَذَرٌ مِنَ الأقذارِ، ولا نَجَسٌ مِنَ الأنجاسِ المعنويَّةِ ولا الحِسِّيَّةِ، فلا يُترَكُ فيه أحَدٌ يَرتَكِبُ ما لا يُرضي اللهَ، ولا أحَدٌ يُلَوِّثُه بقَذَرٍ مِن النَّجاساتِ . فقوله: وَطَهِّرْ يَعُمُّ تطهيرَه مِن النَّجاسةِ الحِسِّيَّةِ، ومِن الكُفرِ والمعاصي والأصنامِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ عطْفُ وَأَذِّنْ على وَطَهِّرْ بَيْتِيَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ مِن إكرامِ الزَّائِرِ: تَنظيفَ المَنزِلِ، وأنَّ ذلك يكونُ قَبلَ نُزولِ الزَّائِرِ بالمكانِ .

5- في قَولِه تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ دَلالةٌ على اشتِراطِ طَهارةِ ثَوبِ المصَلِّي لِصِحَّةِ صَلاتِه؛ فإنَّه إذا أَمَرَ اللهُ تعالى بتطهيرِ المَحَلِّ -وهو مُنفَصِلٌ عن المصَلِّي- فاللِّباسُ الذي هو مُتَّصِلٌ به يكونُ الأمرُ بتطهيرِه مِن بابِ أَولَى .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ جملةُ يَأْتُوكَ جوابٌ للأمرِ، جعَلَ التأذينَ سَبَبًا للإتيانِ؛ تَحقيقًا لتَيسيرِ اللهِ الحَجَّ على النَّاسِ، فدَلَّ جوابُ الأمرِ على أنَّ اللهَ ضَمِنَ له استجابةَ نِدائِه .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ فيه جوازُ المَشيِ والرُّكوبِ في الحَجِّ .

8- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ استَدلَّ بعضُهم على تفضيلِ حَجِّ الرَّاجِلِ على الرَّاكِبِ بتَقديمِ الله تعالى رِجَالًا على كُلِّ ضَامِرٍ، وأنَّ ذلك دلَّ على أنَّ حَجَّ الرَّاجِلِ أفضَلُ مِن حَجِّ الراكبِ .

9- قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ إنَّما قال: يَأْتُوكَ وإن كانوا يأتونَ الكَعبةَ؛ لأنَّ المناديَ إبراهيمُ، فمَن أتَى الكَعبةَ حاجًّا، فكأنَّما أتى إبراهيمَ؛ لأنَّه أجاب نِداءَه، وفيه تَشريفُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ . وقيل: تعليقُ فعل يَأْتُوكَ بضميرِ خطابِ إبراهيمَ، فيه دلالةٌ على أنَّه كان -في حياتِه- يحضرُ موسمَ الحجِّ كلَّ عامٍ، يبلِّغ للناسِ التوحيدَ، وقواعدَ الحنيفيةِ .

10- قَولُه تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ قد يُؤخَذُ منه بدَلالةِ الإيماءِ : الوعدُ بفتوحاتٍ شاملةٍ لمناطقَ شاسعةٍ؛ لأنَّ الإتيانَ مِنْ كلِّ فَجٍّ عميقٍ، يَدُلُّ على الإتيانِ إلى الحجِّ مِنْ بعيدٍ، والإتيانُ إلى الحجِّ يَدُلُّ على الإسلامِ، وبالتَّالي يَدُلُّ على مجيءِ المسلمينَ مِنْ بعيدٍ، وهو مَحَلُّ الاستدلالِ. والله تعالَى أعلمُ .

11- قولُه: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ الفجُّ: الشَّقُّ بين جَبلينِ تَسيرُ فيه الرِّكَابُ؛ فغَلَبَ الفَجُّ على الطَّريقِ لأنَّ أكثَرَ الطُّرقِ المُؤدِّيةِ إلى مكَّةَ تُسلَكُ بين الجبالِ .

12- قال الله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة: 203] ، فائِدةُ قَولِه: مَعْلُومَاتٍ وَمَعْدُودَاتٍ التَّحريضُ على هذه الأيامِ، وعلى اغتِنامِ فَضْلِها، أي: لَيسَت كغَيرِها، فكأنَّه قال: هي مَخصوصاتٌ؛ فلْتُغتَنَمْ . وقيل: إنَّ سَببَ تَسميتِها مَعلوماتٍ: الحِرصُ على عِلمِها بحِسابِها؛ لأنَّ وقتَ الحَجِّ في آخِرِها، وكثرةُ ذِكرِ اللهِ تعالى فيها بالتلبيةِ والتكبيرِ ؛ ففي التعبيرِ بالعِلمِ إشارةٌ إلى وجوبِ استفراغِ الجُهدِ، بعدَ القطعِ بأنَّ الشهرَ ذو الحُجَّةِ اسمًا ومُسمًّى في تحريرِ أوَّلِه، وهذا على أنَّ المرادَ بـ (المعلومات) العشرُ مِن ذي الحجَّةِ. وأمَّا أيَّامُ التَّشريقِ، فإنَّها لَمَّا كانتْ مبنِيَّةً على العِلمِ بأمْرِ الشهرِ الذي أُمِرَ به هنا، فأنتجَ العِلمَ بيومِ العيدِ، لم يُحتَجْ في أمرِها إلى غيرِ العَدِّ؛ فلذا عبَّرَ عنها به دون العِلمِ .

13- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ فيه إشارةٌ إلى أنَّ المرادَ به الإكثارُ؛ إذ مُطلَقُ الذِّكرِ مَندوبٌ إليه في كُلِّ وَقتٍ .

14- في قوله تعالى: عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ دَلالةٌ على أنَّه يُشتَرَطُ في الأُضحِيَّةِ أنْ تكونَ مِن بهيمةِ الأنعامِ -وهي: الإبلُ والبَقَرُ والغَنَمُ- فلو ضَحَّى الإنسانُ بحيوانٍ آخَرَ أغلى منها، لم يُجْزِه، وكذلك الهديُ الذي نصَّ الشرعُ على كونِه مِن بهيمةِ الأنعامِ، كما في قولِه تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196] ، وقولِه: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ البقرة: 196].

15- في قَولِه تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ دَلالةٌ على إباحة الأكلِ مِن الهَدْي كلِّه -تطوعِه وفرضِه-؛ إذْ مَخْرَجُ الإباحةِ في الأكلِ عامٌّ، فمَن خصَّ منه شيئًا فعليه أنْ يأتيَ بالبرهانِ .

16- في قَولِه تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ دَلالةٌ على أنَّ المرادَ بالأيَّامِ المعلوماتِ: ما قَبْلَ يومِ النَّحْرِ -وهو عشرُ ذي الحِجَّةِ-؛ وذلك لأنَّه سُبحانه جَعَلَ هذا كلَّه بعد ذِكْرِه في الأيَّامِ المعلوماتِ، وقَضاءُ التَّفَثِ -وهو شَعَثُ الحَجِّ وغُبارُه ونَصَبُه- والطوافُ بالبيتِ؛ إنَّما يكونُ في يومِ النَّحْرِ وما بعدَه، ولا يكونُ قبْلَه، وقد جَعَلَ اللهُ سُبحانَه هذا مرَتَّبًا على ذِكْرِه في الأيَّامِ المعلوماتِ بلَفظةِ «ثُمَّ» .

17- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ فيه دَليلٌ على أنَّ النَّذرَ كان مشروعًا في شريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ .

18- في قَولِه تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ دَلالةٌ على أنَّ الوفاءَ بالنَّذرِ عِبادةٌ؛ لأنَّ قولَه: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أمرٌ، والأمرُ بوفائِه يدُلُّ على أنَّه عِبادةٌ؛ لأنَّ العِبادةَ ما أُمِرَ به شَرعًا .

19- قَولُه تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ يدُلُّ على وُجوبِ الإيفاءِ بالنَّذرِ؛ فصيغةُ الأمرِ تَقتَضي الوُجوبَ -على الأصَحِّ- إلَّا لدَليلٍ صارفٍ عنه . ففيه دليلٌ على وُجوبِ إخراجِ النَّذْرِ إن كان دمًا أو هَدْيًا أو غيرَه، ويدُلُّ ذلك على أنَّ النَّذرَ لا يجوزُ أن يُأكَلَ منه وفاءً بالنَّذرِ، وكذلك جزاءُ الصَّيدِ، وفِديةُ الأذى؛ لأنَّ المطلوبَ أن يأتيَ به كامِلًا مِن غيرِ نَقصِ لحمٍ ولا غيرِه .

20- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ استُدِلَّ به على أنَّ الطَّوافَ لا يجوزُ داخِلَ البَيتِ، ولا في شَيءٍ مِن هَوائِه ، وأنَّه يَجِبُ الطَّوافُ مِنْ وَراءِ الحِجْرِ؛ لأنَّه مِنْ أصلِ البيتِ الَّذي بناه إبراهيمُ، وإنْ كانت قُرَيْشٌ قد أخْرَجوه مِنَ البيتِ، حِينَ قَصُرَتْ بهم النَّفَقَةُ؛ ولهذا طافَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّم مِنْ وراءِ الحِجْرِ، وأخبرَ أنَّ الحِجْرَ مِنَ البيتِ، ولم يَسْتَلِمِ الرُّكنيْنِ الشَّامِيَّيْنِ؛ لأنَّهما لم يُتَمَّما على قواعِدِ إبراهِيمَ العتيقَةِ .

21- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هذا أمرٌ بالطَّوافِ خُصوصًا، بعدَ الأمرِ بالمناسِكِ عُمومًا؛ لِفَضلِه وشَرَفِه، ولِكَونِه المقصودَ، وما قَبْلَه وسائِلُ إليه، ولعَلَّه -واللهُ أعلَمُ أيضًا- لفائدةٍ أُخرى، وهي: أنَّ الطَّوافَ مَشروعٌ كُلَّ وَقتٍ، وسواءٌ كان تابِعًا لنُسُكٍ أم مُستَقِلًّا بنَفْسِه .

22- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ دَلَّ على لُزومِ طَوافِ الإفاضَةِ، وأنَّه لا صِحَّةَ للحجِّ بِدونِه .

23- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ختَمَ خِطابَ إبراهيمَ بالأمرِ بالطَّوافِ بالبَيتِ؛ إيذانًا بأنَّهم كانوا يَجعَلونَ آخِرَ أعمالِ الحَجِّ الطَّوافَ بالبيتِ، وهو المُسمَّى في الإسلامِ طَوافَ الإفاضةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

- عَطْفٌ على جُملةِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ عطْفَ قِصَّةٍ على قِصَّةٍ. ويُعْلَمُ منها تَعليلُ الجُملةِ المعطوفةِ عليها، بأنَّ المُلحِدَ في المسجِدِ الحرامِ قد خالَفَ بإلحادِه فيه ما أرادَهُ اللهُ مِن تَطهيرِه حينَ أمَرَ ببِنائِه، والتَّخلُّصُ من ذلك إلى إثباتِ ظُلْمِ المُشركينَ وكُفرانِهم نِعمةَ اللهِ في إقامةِ المسجِدِ الحرامِ وتَشريعِ الحجِّ

.

- قولُه: وَإِذْ بَوَّأْنَا (إذ) مَنصوبٌ بفِعْلٍ مُقدَّرٍ، أي: اذكُرْ ذلك الوقْتَ العظيمَ، وعُرِفَ معنى تَعظيمِه مِن إضافةِ اسمِ الزَّمانِ إلى الجُملةِ الفِعليَّةِ دونَ المصدرِ؛ فصار بما يدُلُّ عليه الفِعْلُ منَ التَّجدُّدِ كأنَّه زمَنٌ حاضرٌ .

وتَوجيهُ الأمرِ بالذِّكرِ إلى الوقْتِ، مع أنَّ المقصودَ تَذكيرُ ما وقَعَ فيه من الحوادثِ؛ للمُبالَغةِ في إيجابِ ذِكْرِها؛ لِمَا أنَّ إيجابَ ذِكْرِ الوقْتِ إيجابٌ لذِكْرِ ما وقَعَ فيه بالطَّريقِ البُرهانيِّ، ولأنَّ الوقتَ مُشتمِلٌ عليها، فإذا استُحضِر كانت حاضرةً بتَفاصيلِها كأنَّها مُشاهَدةٌ عِيانًا .

- واللَّامُ في لِإِبْرَاهِيمَ لامُ العِلَّةِ؛ لأنَّ (إبراهيمَ) مفعولٌ أوَّلُ لـ بَوَّأْنَا الَّذي هو مِن باب (أعطى)؛ فاللَّامُ مِثْلُها في قولِهم: (شكرْتُ لك)، أي: شكرْتُك لأجْلِك. وفي ذِكْرِ اللَّامِ في مثْلِه ضَربٌ من العِنايةِ والتَّكرمةِ .

- وقولُه: مَكَانَ الْبَيْتِ فيه إيجازٌ في الكلامِ، كأنَّه قيل: وإذ أعطيناهُ مكانًا لِيَتَّخِذَ فيه بَيتًا، فقال: مَكَانَ الْبَيْتِ؛ لأنَّ هذا حكايةٌ عن قِصَّةٍ مَعروفةٍ لهم، وسبَقَ ذِكْرُها فيما نزَلَ قبْلَ هذه الآيةِ مِن القُرآنِ. والبيتُ مَعروفٌ معهودٌ عند نُزولِ القُرآنِ؛ فلذلك عُرِّفَ بلامِ العهْدِ، ولولا هذه النُّكتةُ لكان ذِكْرُ (مكان) حشْوًا .

- قولُه: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ إضافةُ البيتِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ تَشريفٌ للبَيتِ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ دلَّ عليه بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ، والتَّقديرُ: وأمَرْناهُ ببِناءِ البيتِ في ذلك المكانِ، وبعْدَ أنْ بَناهُ قُلْنا: لا تُشْرِكْ بي شيئًا، وطَهِّرْ بَيتي .

- قولُه: وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فيه التَّعبيرُ عن الصَّلاةِ بأركانِها؛ ولعلَّ ذلك للدَّلالةِ على أنَّ كلَّ واحدٍ منها مُستقِلٌّ باقتضاءِ ذلك؛ فكيف وقد اجتمَعَتْ ؟!

- ولمْ يَعطِفِ السُّجودَ؛ لأنَّه مِن جِنسِ الرُّكوعِ في الخُضوعِ، ويجوزُ أن يكونَ (القائِمينَ) بمعنى المُقيمين، و(الطَّائِفينَ) بمعنى الطَّارئينَ، فيكونَ المرادُ بالرُّكعِ السُّجودِ فقط المُصَلِّينَ .

2- قَولُه تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ

- قولُه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا مُضاعفةُ الحُروفِ في قولِه: وَأَذِّنْ مُشعِرٌ بتَكريرِ الفِعْلِ، أي: أكثِرِ الإخبارَ بالشَّيءِ .

- الألِفُ واللَّامُ في النَّاسِ للجِنْسِ؛ فيَعُمُّ كلَّ البشَرِ .

- قولُه: رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ الواوُ واوُ التَّقسيمِ الَّتي بمعنى (أو)؛ إذ معنى العَطْفِ هنا على اعتبارِ التَّوزيعِ بين راجلٍ وراكبٍ، والمقصودُ منه استيعابُ أحوالِ الآتِينَ؛ تَحقيقًا للوعْدِ بتَيسيرِ الإتيانِ المُشارِ إليه بجَعْلِ إتيانِهم جوابًا للأمْرِ. وقُدِّمَ قولُه: رِجَالًا؛ لكونِ هذه الحالِ أغرَبَ، ثمَّ ذُكِرَ بعْدَه وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ؛ تَكملةً لتَعميمِ الأحوالِ؛ إذ إتيانُ النَّاسِ لا يَعْدو أحَدَ هذينِ الوصفينِ . وقيل: تقديمُ الرِّجالُ على الرُّكبانِ فيه فائدةٌ جليلةٌ؛ وهي: أنَّ اللهَ تعالى شَرَط في الحجِّ الاستطاعةَ -ولا بُدَّ مِن السَّفَرِ إليه لغالِبِ النَّاسِ- فذَكَر نوعَيِ الحُجَّاجِ؛ لِقَطْعِ تَوَهُّمِ مَن يظنُّ أنَّه لا يجِبُ إلَّا على راكِبٍ، وقَدَّمَ الرِّجالَ؛ اهتِمامًا بهذا المعنى وتأكيدًا. ومِن النَّاسِ مَن يقولُ: قدَّمَهم جَبْرًا لهم؛ لأنَّ نفوسَ الرُّكْبانِ تَزدَريهم وتوَبِّخُهم، وتقولُ: «إنَّ اللهَ تعالى لم يكتُبْه عليكم، ولم يُرِدْه منكم!»، وربَّما توَهَّموا أنَّه غيرُ نافعٍ لهم، فبدأ به؛ جَبْرًا لهم ورحمةً .

- وكلمةُ (كلِّ) في قولِه: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ مُستعمَلةٌ في الكثرةِ، أي: وعلى رواحِلَ كثيرةٍ .

- قولُه: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ الضَّامِرُ: البعيرُ المهزولُ الَّذي أتعبَه السَّفرُ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ فوصَفَها اللهُ تعالى بالمآلِ الَّذي انتهَتْ عليه إلى مَكَّةَ، وذكَرَ سبَبَ الضُّمورِ، فقال: يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أي: أثَّرَ فيها طولُ السَّفرِ، ورَدَّ الضَّميرَ إلى الإبلِ؛ تَكرِمةً لها؛ لقَصْدِها الحجَّ مع أربابِها، كما قال: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا [العاديات: 1] في خَيلِ الجِهادِ؛ تَكرِمةً لها حين سعَتْ في سَبيلِ اللهِ .

- قَولُه: يَأْتِينَ يجوزُ أن يكونَ صِفةً لـ كُلِّ ضَامِرٍ؛ لأنَّ لفظَ (كل) صيَّرَه في معنى الجمعِ، وإذ هو جَمْعٌ لِما لا يَعقِلُ فحقُّه التأنيثُ، وإنما أُسندَ الإتيانُ إلى الرواحِلِ دون النَّاسِ فلم يقُل: (يأتون)؛ لأنَّ الرواحِلَ هي سببُ إتيان الناسِ مِن بُعدٍ لِمن لا يستطيعُ السَّفَرَ على رجلَيه. ويجوزُ أن تُجعَلَ جملةُ يَأْتِينَ حالًا ثانيةً من ضَميرِ الجَمعِ في يَأْتُوكَ؛ لأنَّ الحالَ الأُولَى تَضمَّنتْ معنى التَّنويعِ والتَّصنيفِ؛ فصارَ المعنى: يَأتوكَ جماعاتٍ، فلمَّا تُؤوِّلَ ذلك بمعنى الجماعاتِ جرَى عليهم الفِعلُ بضَميرِ التأنيثِ، وهذا الوجهُ يَتضمَّنُ زِيادةَ التَّعجيبِ مِن تيسيرِ الحَجِّ حتَّى على المُشاةِ . وقيل: يَأْتِينَ فَجمَع؛ لأنَّه أُريدَ بكُلِّ ضامرٍ النوقُ، ومعنى الكلِّ الجَمعُ؛ فلذلك قِيل: يَأْتِينَ .

3- قَولُه تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ

- قولُه: لِيَشْهَدُوا يَتعلَّقُ بقولِه: يَأْتُوكَ؛ فهو عِلَّةٌ لإتيانِهم الَّذي هو مُسبَّبٌ على التَّأذينِ بالحجِّ، فآلَ إلى كونِه عِلَّةً في التَّأذينِ بالحجِّ .

- قولُه: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ أي: لِيَحضُروا، فيُحَصِّلوا منافِعَ لهم؛ فكَنَّى بشُهودِ المنافعِ عن نَيلِها. ولا يُعْرَفُ ما وعَدَهم اللهُ على ذلك بالتَّعيينِ .

- ونكَّرَ المنافِعَ؛ لأنَّه أراد منافِعَ مُختصَّةً بهذه العبادةِ دِينيَّةً ودُنيويَّةً لا تُوجَدُ في غيرِها من العباداتِ؛ فدَلَّ التَّنكيرُ فيها على تَفخيمِ المنافِعِ وتَكثيرِها، بحيثُ لا توجَدُ في غيرِها .

- وفي قولِه: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ كنَّى عن النَّحرِ والذَّبحِ بذِكْرِ اسمِ اللهِ، وفيه تَنبيهٌ على أنَّ الغرَضَ الأصلِيَّ فيما يُتقرَّبُ به إلى اللهِ أنْ يُذكَرَ اسْمُه، وقد حسَّنَ الكلامَ تَحسينًا بَيِّنًا: أنْ جُمِعَ بين قولِه: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وقولِه: عَلَى مَا رَزَقَهُمْ؛ فجُمِعَ بين ذِكْرِ الرَّازقِ والمرزوقِ على طَريقةِ التَّعليلِ، وذلك أنْ رُتِّبَ ذِكْرُ اسمِ اللهِ على الوصْفِ المُناسِبِ، هو كونُه رِزقًا منه، ولو قيل: (لِيَنْحَروا في أيَّامٍ مَعلوماتٍ بَهيمةَ الأنعامِ)، لم يُرَ شَيءٌ من ذلك الحُسْنِ والرَّوعةِ. ومع هذه النُّكتةِ الجليلةِ رُوعِيَ فيه معنى الإجمالِ والتَّفصيلِ .

- وفي جَعْلِ قولِه: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ غايةً للإتيانِ: إيذانٌ بأنَّه الغايةُ القُصوى دونَ غيرِه .

- وأيضًا في قولِه: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عُلِّقَ الفِعْلُ بالمرزوقِ وبُيِّنَ بالبهيمةِ؛ تَحريضًا على التَّقرُّبِ، وتَنبيهًا على الذِّكْرِ . وأُدْمِجَ في هذا الحُكْمِ الامتنانُ بأنَّ اللهَ رزَقَهم تلك الأنعامَ، وهذا تَعريضٌ بطلَبِ الشُّكرِ على هذا الرِّزقِ بالإخلاصِ للهِ في العبادةِ، وإطعامِ المَحاويجِ من عِبادِ اللهِ مِن لُحومِها، وفي ذلك سَدٌّ لحاجةِ الفُقراءِ بتَزويدِهم ما يَكْفيهم لعامِهم؛ ولذلك فُرِّعَ عليه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ .

- قولُه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ الأمْرُ بالأكْلِ منها يحتملُ أنْ يكونَ أمْرَ وُجوبٍ في شَريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ فيكونَ الخِطابُ في قولِه: فَكُلُوا لإبراهيمَ ومَن معه. وقد عُدِلَ عن الغَيبةِ الواقعةِ في ضَمائرِ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، إلى الخِطابِ بذلك في قولِه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ ... إلخ، على طَريقةِ الالتفاتِ، أو على تَقديرِ قولٍ مَحذوفٍ مأْمورٍ به إبراهيمُ عليه السَّلامُ، وفي حِكايةِ هذا تَعريضٌ بالرَّدِّ على أهْلِ الجاهليَّةِ؛ إذ كانوا يَمْنعون الأكلَ مِنَ الهَدايا، ثمَّ عاد الأُسلوبُ إلى الغَيبةِ في قولِه: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ. ويحتملُ أنْ تكونَ جُملةُ فَكُلُوا مِنْهَا ... إلخ، مُعترِضةً مُفرَّعةً على خِطابِ إبراهيمَ ومَن معه تَفريعَ الخبَرِ على الخبَرِ؛ تَحذيرًا مِن أنْ يُمنَعَ الأكْلُ مِن بَعْضِها . وقيل: التفتَ إلى الإقبالِ عليهم، وفي ذلك حَثٌّ على التقَرُّبِ بالضَّحايا والهدايا .

- وفي قولِه: الْبَائِسَ الْفَقِيرَ لم يُعْطَفْ أحَدُ الوَصفينِ على الآخَرِ؛ لأنَّه كالبَيانِ له، وإنَّما ذُكِرَ البائسُ مع أنَّ الفَقيرَ مُغْنٍ عنه؛ لتَرقيقِ أفئدةِ النَّاسِ على الفقيرِ بتَذكيرِهم أنَّه في بُؤْسٍ؛ لأنَّ وَصْفَ (فقير) -لشُيوعِ تَداوُلِه على الألسُنِ- صار كاللَّقبِ غيرَ مُشعِرٍ بمعنى الحاجةِ، وقد حصَلَ من ذِكْرِ الوصفينِ التَّأكيدُ. وقيل: البائسُ الَّذي ظهَرَ بُؤْسُه في ثِيابِه وفي وَجْهِه، والفقيرُ: الَّذي تكونُ ثِيابُه نَقيَّةً ووَجْهُه وَجْهَ غَنِيٍّ؛ فعلى هذا التَّفسيرِ يكونُ البائسُ هو المُسكينَ ، ويكونُ ذِكْرُ الوَصفينِ لقَصدِ استيعابِ أحوالِ المُحتاجينَ .

- وكرَّرَ قولَه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ في قولِه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج: 36] ؛ لأنَّ الأوَّلَ مُرتَّبٌ على ذَبْحِ بَهيمةِ الأنعامِ الشَّاملةِ للبُدْنِ والبقرِ والغَنمِ، والثَّانِيَ مُرتَّبٌ على ذَبْحِ البُدْنِ خاصَّةً، وإنْ وافقَهُ في حُكْمِ ذَبْحِ الآخرينَ .

4- قَولُه تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ

- قولُه: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ (ثمَّ) هنا عطَفَتْ جُملةً على جُملةٍ؛ فهي للتَّراخي الرُّتبيِّ لا الزَّمنيِّ؛ فتُفِيدُ أنَّ المعطوفَ بها أهَمُّ في الغرَضِ المسوقِ إليه الكلامُ مِن المعطوفِ عليه، وذلك في الوَفاءِ بالنَّذرِ والطَّوافِ بالبيتِ العتيقِ ظاهرٌ؛ إذ هما نُسكانِ أهَمُّ مِن نَحْرِ الهَدايا .

- وفي قولِه: بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ شَبَّهَ البيتَ بالعبْدِ العتيقِ في أنَّه لا مِلْكَ لأحدٍ عليه -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، وفيه تَعريضٌ بالمُشركينَ؛ إذ كانوا يَمْنعونَ منه مَن يَشاؤونَ حتَّى جَعَلوا بابَه مُرتفِعًا بدونِ درَجٍ؛ لئلَّا يَدخُلَه إلَّا مَن شاؤوا

 

.

===============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (30-33)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ

غريب الكلمات:

 

الرِّجْسَ: هو اسمٌ لكُلِّ ما استُقذِرَ مِن عَمَلٍ، وكُلُّ قَذَرٍ رِجسٌ، وأصلُه يدُلُّ على الخُبثِ والقَذارةِ

.

الزُّورِ: أي: الكَذِبِ والفِرْيَةِ على اللهِ، وأصلُ (زور): يدُلُّ على المَيلِ والعُدولِ .

حُنَفَاءَ: جمعُ حَنيفٍ، وهو المُقبلُ على اللهِ، المُعرضُ عمَّا سِواه، وقيل: الحنيفُ: هو المسلمُ المستقيمُ ، وقيل: المائلُ عن الشركِ والدِّينِ الباطلِ إلى التوحيدِ، والدِّينِ الحقِّ المستقيمِ، وأصلُ الحنفِ: الميلُ عن الشيءِ بالإقبالِ على آخَرَ، فالحنفُ ميلٌ عن الضلالةِ إلى الاستقامةِ، وأصلُه ميلٌ في إبهاميِ القدمينِ، كل واحدةٍ على صاحبتِها .

خَرَّ: أي: سَقَط على وَجهِه، وأصلُه يدُلُّ على اضطرابٍ وسُقوطٍ مع صَوتٍ .

سَحِيقٍ: أي: بَعيدٍ، وأصلُ (سحق): يدُلُّ على بُعدٍ .

شَعَائِرَ: جمْعُ شَعيرَةٍ، وهي ما جعَله اللهُ تعالى عَلَمًا لطاعتِه، وأصل (شعر): هنا يدلُّ على عِلْمٍ وعَلَمٍ .

مَحِلُّهَا: المَحِلُّ: الموضِع الذي يَحلُّ فيه نَحْر الهدْي، وقيل: هو وَقتُ النَّحْرِ ومكانُه، وأصلُ (حلل): فَتْحُ الشَّيْءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ذلك الذي أمَرَ اللهُ به مِن قَضاءِ التَّفَثِ والوَفاءِ بالنُّذورِ والطَّوافِ بالبَيتِ: هو ما أوجَبَه اللهُ عليكم؛ فعَظِّموه، ومَن يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ -ومنها مَناسِكُه- بأدائِها كامِلةً خالِصةً لله؛ فهو خيرٌ له في الدُّنيا والآخرةِ. وأحلَّ اللهُ لكم أكلَ الأنعامِ إلَّا ما حرَّمه فيما يُتلَى عليكم في القُرآنِ مِنَ المَيتةِ وغَيرِها، فاجتَنِبوه، وابتَعِدوا عن عِبادةِ الأصنامِ؛ فإنَّها قَذَرٌ، وعَنِ كُلَّ قَولٍ باطِلٍ، مُستَقيمينَ للهِ على إخلاصِ العَمَلِ له، مُقبِلينَ عليه بعِبادتِه وَحْدَه وإفرادِه بالطَّاعةِ، مُعرِضينَ عَمَّا سِواه بنَبذِ الشِّركِ؛ فإنَّه مَن يُشرِكْ بالله شَيئًا فمَثَلُه -في بُعْدِه عن الهُدى، وفي هلاكِه وسُقوطِه مِن رَفيعِ الإيمانِ إلى حَضيضِ الكُفرِ، وتخَطُّفِ الشَّياطينِ له مِن كُلِّ جانبٍ- كمَثَلِ مَن سَقَط مِنَ السَّماءِ؛ فإمَّا أن تخطَفَه الطَّيرُ فتُقَطِّعَ أعضاءَه، وإمَّا أن تُلقيَ الرِّيحُ أوصالَه المُمَزَّقةَ في مَوضِعٍ بَعيدِ العُمقِ.

ذلك ما أمَرَ اللهُ به مِن تَوحيدِه وإخلاصِ العبادةِ له، ومَن يَمتَثِلْ أمْرَ اللهِ ويُعَظِّمْ مَعالِمَ الدِّينِ، ومنها الهدايا، وذلك باستِحسانِها واستِسْمانِها وتَكميلِها مِن كُلِّ وَجهٍ؛ فهذا التَّعظيمُ مِن أفعالِ أصحابِ القُلوبِ المتَّصِفةِ بتَقوى اللهِ وخَشيَتِه.

لكم في هذه الهَدايا منافِعُ تَنتَفِعونَ بها مِنَ الصُّوفِ واللَّبَنِ والرُّكوبِ وغيرِ ذلك ممَّا لا يَضُرُّها، إلى وَقتِ ذَبحِها عندَ بُلوغِها البَيتَ العَتيقَ.

تفسير الآيات:

 

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30).

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ.

أي: ذلك الذي أمَرَ اللهُ به مِن قَضاءِ التَّفَثِ والوَفاءِ بالنُّذورِ والطَّوافِ بالبَيتِ العَتيقِ: هو ما أوجَبَه اللهُ عليكم -أيُّها النَّاسُ- في حَجِّكم؛ فعَظِّموه، ومَن يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ، فيَجتَنِبْ ما أمَرَه اللهُ باجتِنابِه؛ تَعظيمًا منه لحُدودِ اللهِ أن يُواقِعَها أو يَستَحِلَّها- فهو خَيرٌ له عِندَ رَبِّه في دِينِه ودُنياهُ وآخِرَتِه

.

وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.

أي: وأَحَلَّ اللهُ لكم -أيُّها النَّاسُ- الإبِلَ والبَقَرَ والغَنَمَ أن تأكُلوها إذا ذكَّيتُموها، إلَّا ما يُتلى عليكم تحريمُه في القُرآنِ؛ كالمَيْتةِ، والدَّمِ، ولَحمِ الخِنزيرِ، وما أُهِلَّ لِغَيرِ اللهِ به .

كما قال تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 145] .

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ.

مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:

لَمَّا حَثَّ على تَعظيمِ حُرُماتِ اللهِ، وذكَرَ أنَّ تَعظيمَها خَيرٌ لِمُعَظِّمِها عندَ اللهِ؛ أتبَعَه الأمرَ باجتِنابِ الأوثانِ وقَولِ الزُّورِ؛ لأنَّ تَوحيدَ اللهِ ونَفْيَ الشُّركاءِ عنه، وصِدْقَ القَولِ؛ أعظَمُ الحُرُماتِ .

وأيضًا لما أفْهَم قولُه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حلَّ السوائبِ وما معها، وتحريمَ المذبوحِ للأنصابِ، وكان سببُ ذلك كلِّه الأوثانَ؛ سبَّب عنه قولَه :

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ.

أي: فاجتَنِبوا -أيُّها النَّاسُ- عِبادةَ الأصنامِ؛ فإنَّها قَذَرٌ، ومِن ذلك الذَّبحُ إليها وعِندَها .

وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.

أي: واجتَنِبوا -أيُّها النَّاسُ- كُلَّ قَولٍ باطِلٍ مائلٍ عن سَبيلِ الحَقِّ والاستِقامةِ، ومِن ذلك القَولُ على اللهِ بلا عِلمٍ؛ كتَحريمِ أكْلِ ما أحَلَّه اللهُ، أو تَحليلِ ما حرَّمَه .

كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] .

وقال عزَّ وجلَّ: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 143-145] .

وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72] .

وعن أبي بَكرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألَا أنَبِّئُكم بأكبَرِ الكبائِرِ -ثلاثًا-؟ قالوا: بلى يا رَسولَ اللهِ، قال: الإشراكُ باللهِ، وعُقوقُ الوالِدَينِ. وجلس وكان متَّكِئًا، فقال: ألَا وقَولُ الزُّورِ، قال: فما زال يُكرِّرُها حتى قُلْنا: ليتَه سَكَت )) .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن لم يَدَعْ قَولَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طَعامَه وشَرابَه)) .

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31).

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ.

أي: مُستقيمينَ لِلَّهِ على إخلاصِ التَّوحيدِ له، وإفرادِ الطَّاعةِ والعبادةِ له، مائِلينَ عن الباطِلِ إلى الحَقِّ، وعن الشِّركِ إلى التَّوحيدِ، مُقبِلينَ على اللهِ، مُعرِضينَ عن عبادةِ ما سِواه سُبحانَه .

كما قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] .

وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ.

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى باجتِنابِ عِبادةِ الأوثانِ وقَولِ الزُّورِ؛ ضَرَب مثلًا للمُشرِكِ، فقال :

وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ.

أي: ومَن يُشرِكْ باللهِ شَيئًا في عبادتِه، فمَثَلُه في هلاكِه وضَلالِه عن الهُدى والحَقِّ، وبُعدِه مِن ربِّه؛ كمَن سَقَط مِن السَّماءِ إلى الأرضِ، فتمَزَّقَ جَسَدُه، فتُقَطِّعُه النُّسورُ سَريعًا، وتَستَلِبُ لَحمَه، فتأكُلُه ويتفَرَّقُ في حواصِلِها .

أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ.

أي: أو تُلقِي الرِّيحُ أوصالَه المُمَزَّقةَ في مَوضِعٍ بَعيدِ العُمقِ؛ لِشِدَّةِ هُبوبِها .

عن البَراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((... وإنَّ العَبدَ الكافِرَ إذا كان في انقِطاعٍ مِن الدُّنيا وإقبالٍ مِن الآخرةِ، نزل إليه مِنَ السَّماءِ مَلائِكةٌ سُودُ الوُجوهِ، معهم المُسوحُ ، فيَجلِسونَ منه مَدَّ البَصَرِ ، ثمَّ يَجِيءُ مَلَكُ المَوتِ، حتى يجلِسَ عندَ رأسِه، فيقولُ: أيَّتُها النَّفسُ الخبيثةُ، اخرُجي إلى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وغَضَبٍ، فتفَرَّقُ في جَسَدِه، فيَنتَزِعُها كما يُنتَزَعُ السَّفُّودُ مِن الصُّوفِ المَبلولِ ! فيأخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عَينٍ حتى يجعَلوها في تِلكَ المُسوحِ، ويَخرُجُ منها كأنتَنِ رِيحِ جيفةٍ وُجِدَت على وَجهِ الأرضِ! فيَصعَدونَ بها، فلا يَمُرُّونَ بها على ملأٍ مِنَ المَلائِكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخَبيثُ؟! فيقولونَ: فلانُ بنُ فُلانٍ، بأقبَحِ أسمائِه التي كان يُسمَّى بها في الدُّنيا، حتى يُنتَهى به إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيُستَفتَحُ له فلا يُفتَحُ له، ثمَّ قرأ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40] ، فيقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: اكتُبُوا كِتابَه في سِجِّينٍ في الأرضِ السُّفلَى، فتُطرَحُ رُوحُه طَرحًا، ثمَّ قرأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] ...)) الحديثَ .

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32).

أي: هذا الذي ذكرتُ لكم وأمرْتُكم به؛ مِن اجتِنابِ الرِّجسِ مِنَ الأوثانِ، واجتِنابِ قَولِ الزُّورِ، والالتِزامِ بتَوحيدِ اللهِ: مِن تَعظيمِ شَعائِرِه ، ومَن يُعَظِّمْ أعلامَ الدِّينِ الظَّاهرةَ، ومنها الهدايا، بإجلالِها والقيامِ بها، واستِسمانِها وتَكميلِها مِن كُلِّ وَجهٍ؛ فإنَّه يُبَرهِنُ بذلك على تَقواهُ وصِحَّةِ إيمانِه؛ فتَعظيمُها تابِعٌ لِتَعظيمِ اللهِ وإجلالِه، وتَعظيمُها مِن فِعلِ المتَّقينَ أصحابِ القُلوبِ المُخلِصةِ الوَجِلةِ مِن خَشيةِ اللهِ .

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33).

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

أي: لكم -أيُّها الحُجَّاجُ- في البُدْنِ والهَدايا مَنافِعُ؛ مِن لَبَنِها وصُوفِها وأوبارِها وأشعارِها، ورُكوبِها وغيرِ ذلك، إلى وَقتِ نَحْرِها .

ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.

أي: ثمَّ يَحِلُّ نَحرُ تلك البُدْنِ عندَ بُلوغِها البَيتَ العَتيقَ

 

.

كما قال تعالى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة: 196] .

وقال سُبحانَه: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] .

الفوائد التربوية:

 

1- تَعظيمُ حُرُماتِ اللهِ مِنَ الأمورِ المَحبوبةِ لله، المقَرِّبةِ إليه، التي مَن عَظَّمَها وأجَلَّها أثابَه اللهُ ثوابًا جَزيلًا، وكانت خيرًا له في دِينِه ودُنياه وأُخراهُ عِندَ رَبِّه؛ قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ

.

2- أساسُ الطَّريقِ إلى اللهِ هو الصِّدقُ والإخلاصُ، وقد جمَعَ اللهُ بينهما في قَولِه تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ، ونُصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعُ الأمَّةِ: دالٌّ على ذلك في مواضِعَ؛ كقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] ، وقَولِه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ الزمر: 32]. وكذلك يَقرِنُ اللهُ بينَ الكَذِبِ والشِّركِ، ومِن ذلك قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الأعراف: 152].

3- قال الله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ فالإيمانُ بمَنزِلةِ السَّماءِ؛ مَحفوظةً مَرفوعةً، ومَن تَرَك الإيمانَ بمَنزِلةِ السَّاقِطِ منَ السَّماءِ عُرْضةٌ للآفاتِ والبَلِيَّاتِ، فإمَّا أن تَخطَفَه الطَّيرُ فتُقَطِّعَه أعضاءً، أوْ تَهوِيَ به الرِّيحُ في مَكانٍ بَعيدٍ، كذلك المُشرِكُ؛ إذا تَرَك الاعتِصامَ بالإيمانِ تخَطَّفَتْه الشَّياطينُ مِن كُلِّ جانبٍ ومَزَّقوه، وأذهبوا عليه دِينَه ودُنياه !

4- التَّقوى أصلُها في القَلبِ، كما قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ؛ لذا ذُكِرَت القلوبُ؛ لأنَّها مَراكِزُ التَّقوى التي إذا ثَبَتَت فيها وتمَكَّنَت، ظهَرَ أثَرُها في سائِرِ الأعضاءِ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ فيه أنَّ تَعظيمَ شَعائِرِ اللهِ صادِرٌ مِن تَقوى القُلوبِ، فالمُعَظِّمُ لها يُبَرهِنُ على تقواهُ وصِحَّةِ إيمانِه؛ لأنَّ تعظيمَها تابِعٌ لِتَعظيمِ اللهِ وإجلالِه .

6- قال تعالَى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ فالمقصودُ تَقْوَى القلوبِ لِلَّهِ، وهو عبادَتُها له وحْدَه دونَ ما سِواهُ بغايَةِ العبودِيَّةِ له، وهذا مما يُبيِّنُ أنَّ عبادةَ القلوبِ هي الأصلُ، كما قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ في الجسدِ مُضْغةً إذا صَلَحت صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدت فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي ال قلبُ))

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ جَمَع الشِّركَ وقَولَ الزُّورِ في سِلكٍ واحدٍ؛ لأنَّ الشِّركَ مِن بابِ الزُّورِ؛ لأنَّ المُشرِكَ زاعِمٌ أنَّ الوَثَنَ تَحِقُّ له العِبادةُ، فكأنَّه قال: فاجتَنِبوا عِبادةَ الأوثانِ التي هي رأسُ الزُّورِ، واجتَنِبوا قَولَ الزُّورِ كُلَّه، ولا تَقرَبوا منه شَيئًا؛ لِتَماديه في القُبحِ والسَّماجةِ، وما ظَنُّك بشَيءٍ مِن قَبيلِه عِبادةُ الأوثانِ

؟!

2- قَولُ اللهِ تعالى: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فيه تَشريعٌ لإباحةِ الانتِفاعِ بالهَدايا انتِفاعًا لا يُتلِفُها، وهو رَدٌّ على المُشرِكينَ؛ إذ كانوا إذا قَلَّدوا الهَدْيَ وأشعَروه، حَظَروا الانتفاعَ به؛ مِن رُكوبِه، وحَمْلٍ عليه، وشُربِ لَبَنِه، وغيرِ ذلك ، فالآيةُ فيها دلالةٌ على أنَّ البُدْنَ إذا جُعِلَتْ شعائرَ لم يَحْرُمِ الانتفاعُ في الظَّهرِ والدَّرِّ إلى أنْ تُنْحَرَ .

3- قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ هذا دَليلٌ على أنَّ الزيادةَ في السِّمَنِ، وكَثرةَ الثَّمَنِ في البُدْنِ: أفضَلُ مِن تكثيرِ اللَّحمِ بعَدَدِ المهازيلِ !

4- في قَولِه تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ دَلالةٌ على أنَّ اسمَ البيتِ غَلَبَ على الحَرَمِ كلِّه فسُمِّيَ به؛ لأنَّ العِلْمَ يُحيطُ أنَّ الشَّعائِرَ لا تُنحَرُ عندَ البَيتِ نَفْسِه، إنَّما مَناحِرُها أرضُ مِنًى .

5- مِمَّا يُحمَدُ به المَسجِدُ عِتْقُه، وكان السَّلَفُ يَرَونَ العَتيقَ أفضَلَ مِنَ الجَديدِ؛ لأنَّ العَتيقَ أبعَدُ عن أن يكونَ بُنِيَ ضِرارًا، مِنَ الجَديدِ الذي يُخافُ ذلك فيه؛ ولهذا قال تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وقال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ؛ فإنَّ قِدَمَه يَقتَضي كثرةَ العِبادةِ فيه أيضًا، وذلك يقتَضي زيادةَ فَضْلِه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ

- قولُه: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ اسمُ الإشارةِ مُستعمَلٌ هنا للفصْلِ بينَ كلامينِ، أو بين وَجْهينِ مِن كلامٍ واحدٍ، والقصْدُ منه: التَّنبيهُ على الاهتمامِ بما سيُذْكَرُ بعْدَه. وهو مِن أساليبِ الاقتضابِ في الانتقالِ. وأُوثِرَ في الآيةِ اسْمُ إشارةِ البعيدِ ذَلِكَ؛ للدَّلالةِ على بُعْدِ المَنزِلَةِ؛ كِنايةً عن تَعظيمِ مَضمونِ ما قبْلَه؛ فاسمُ الإشارةِ مُبتدأٌ حُذِفَ خبَرُه لظُهورِ تَقديرِه، أي: ذلك بَيانٌ، ونحوُه. وهو كما يُقدِّمُ الكاتِبُ جُملةً مِن كتابِه في بَعضِ الأغراضِ، فإذا أراد الخوضَ في غَرضٍ آخرَ، قال: هذا وقد كان كذا وكذا

.

- وجُملةُ: وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ... إلخ مُعترِضةٌ عطفًا على جُملةِ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ [الحج: 26] ؛ عطْفَ الغرَضِ على الغرضِ. وهو انتقالٌ إلى بَيانِ ما يجِبُ الحِفاظُ عليه مِن الحنيفيَّةِ، والتَّنبيهِ إلى أنَّ الإسلامَ بُنِيَ على أساسِها. والكلامُ مُوجَّهٌ إلى المُسلمينَ؛ تَنبيهًا لهم على أنَّ تلك الحُرماتِ لم يُعطِّلِ الإسلامُ حُرْمَتَها؛ فيكونُ الانتقالُ من غرَضٍ إلى غرَضٍ، ومِن مُخاطَبٍ إلى مُخاطَبٍ آخَرَ؛ فإنَّ المُسلمينَ كانوا يَعْتَمِرون ويَحجُّون قبْلَ إيجابِ الحجِّ عليهم .

- قولُه: عِنْدَ رَبِّهِ فيه التَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِ (مَن)؛ لتَشريفِه والإشعارِ بعِلَّةِ الحُكْمِ .

- وجُملةُ: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ اعتراضٌ جِيءَ به؛ تَقريرًا لِمَا قبْلَه مِن الأمْرِ بالأكْلِ والإطعامِ، ودَفْعًا لِمَا عسى يُتوهَّمُ أنَّ الإحرامَ يُحرِّمُه كما يُحرِّمُ الصَّيدَ .

- وجِيءَ بالمُضارِعِ في قولِه: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ؛ ليَشمَلَ ما نزَلَ مِن القُرآنِ في ذلك ممَّا سبَقَ نُزولَ سُورةِ (الحجِّ) بأنَّه تُلِيَ فيما مَضى ولم يَزَلْ يُتْلى. وقيل: وليَشمَلَ أيضًا ما عسى أنْ يَنزِلَ مِن بعْدُ، مِثْلُ قولِه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ الآيةَ [لمائدة: 103].

- وقولُه: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ غايةُ المُبالَغةِ في النَّهيِ عن تَعظيمِها، والتَّنفيرِ عن عِبادتِها ، والفاءُ في فَاجْتَنِبُوا للتَّفريعِ، وهي جُملةٌ مُعترِضةٌ؛ للتَّصريحِ بالأمْرِ باجتنابِ ما ليس مِن حُرماتِ اللهِ. والأمْرُ باجْتنابِ الأوثانِ مُسْتعمَلٌ في طلَبِ الدَّوامِ، كما في قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 136].

- ووَصَفَ الأوثانَ بـ(الرِّجْسِ) وهو رِجْسٌ مَعنوِيٌّ؛ لكونِ اعتقادِ إلَهيَّتِها في النُّفوسِ بمَنزِلةِ تَعلُّقِ الخَبثِ بالأجسادِ؛ فإطْلاقُ الرِّجسِ عليها تَشبيهٌ بَليغٌ، وحين بيَّنَه بقولِه: مِنَ الْأَوْثَانِ عُلِمَ منه تَشبيهُ الأوثانِ به، وهو مِن التَّشبيهِ الواقِعِ على طَريقِ التَّجريدِ ؛ فجُرِّدَ مِن الرِّجْسِ شَيءٌ يُسمَّى وثَنًا، وهو هو .

- قولُه: مِنَ الْأَوْثَانِ بَيانٌ للرِّجْسِ وتَمييزٌ له؛ لأنَّ الرِّجْسَ مُبْهَمٌ يَتناوَلُ غيرَ شَيءٍ، كأنَّه قيل: فاجْتَنِبوا الرِّجسَ الَّذي هو الأوثانُ؛ فالرِّجْسُ أعَمُّ أُرِيدَ به هنا بعْضُ أنواعِه .

- قولُه: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تَعميمٌ بعْدَ تَخصيصٍ؛ فإنَّ عِبادةَ الأوثانِ رأْسُ الزُّورِ، كأنَّه لمَّا حَثَّ على تَعظيمِ الحُرماتِ أتْبَعَه ذلك؛ رَدًّا لِمَا كانت الكَفرةُ عليه مِن تَحريمِ البحائرِ والسَّوائبِ، وتَعظيمِ الأوثانِ، والافتراءِ على اللهِ تعالى بأنَّه حكَمَ بذلك .

- قولُه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، وقولُه: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ تَعريضٌ وإيماءٌ إلى بَيانِ نَوعينِ مِن قبائحِ المُشركينَ؛ أحدُهما: تَحريمُهم السَّوائِبَ والحامِيَ والوصيلةَ، وتَحليلُ الميتةِ والدَّمِ وغيرِهما. وثانيهما: عُكوفُهم على عِبادةِ الأوثانِ، فأَتى بهما تَخصيصًا بعْدَ تَعميمٍ؛ ليُؤْذِنَ بأنَّهما مِن أعظَمِ أنواعِ المُحرَّماتِ، ثمَّ ضَمَّ مع عِبادةِ الأوثانِ قولَ الزُّورِ، ولم يَعْطِفْ عليه، بل أعاد الفِعْلَ؛ ليَكونَ مُستقِلًّا في الاجتنابِ عنهُ، وما اكْتَفى بذلك، بل جعَلَ التَّعريفَ للجِنْسِ؛ ليَكونَ مِن بابِ عَطْفِ العامِّ على الخاصِّ .

2- قَولُه تعالى: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ

- قولُه: حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ زاد معنى حُنَفَاءَ بيانًا بقولِه: غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ .

- قولُه: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ ... جُملةٌ مُبتدأةٌ مُؤكِّدةٌ لِمَا قبْلَها مِن الاجتنابِ عن الإشراكِ، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ (الله) في مَقامِ الإضمارِ؛ لإظهارِ حالِ قُبْحِ الإشراكِ .

- قولُه: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ يَجوزُ في هذا التَّشبيهِ أنْ يكونَ مِن المُركَّبِ والمُفرَّقِ؛ فإنَّ كان تَشبيهًا مُركَّبًا، فكأنَّه قال: مَن أشرَكَ باللهِ فقد أهلَكَ نفْسَه إهلاكًا ليس بعْدَه نِهايةٌ؛ فيكونُ قد شَبَّهَ مَن أشرَكَ باللهِ وعبَدَ معه غيرَه برجُلٍ قد تَسبَّبَ إلى هَلاكِ نَفْسِه هَلاكًا لا يُرْجى معه نَجاةٌ، بأنْ صَوَّرَ حالَهُ بصُورةِ حالِ مَن خَرَّ مِن السَّماءِ، فاختطَفَتْهُ الطَّيرُ، فتَفرَّقَ مُزَعًا في حواصِلِها، أو عصَفَتْ به الرِّيحُ حتَّى هوَتْ به في بعضِ المطارِحِ البعيدةِ، وعلى هذا لا تَنظُر إلى كلِّ فَرْدٍ من أفرادِ المُشبَّهِ ومُقابِلِه مِن المُشبَّهِ به. وإنْ كان مُفرَّقًا: فقد شَبَّهَ الإيمانَ في عُلُوِّه بالسَّماءِ، والَّذي ترَكَ الإيمانَ وأشرَكَ باللهِ بالسَّاقطِ مِن السَّماءِ، والأهواءَ الَّتي تتوزَّعُ أفكارَهُ بالطَّيرِ المُختطِفةِ، والشَّيطانَ الَّذي يُطوِّحُ به في وادي الضَّلالةِ بالرِّيحِ الَّتي تَهْوِي بما عصَفَتْ به في بعْضِ المهاوي المُتلِفَةِ؛ فيُقابَلُ كلُّ واحدٍ مِن أجزاءِ المُمثَّلِ بالمُمثَّلِ به، وعلى هذا فيكونُ قد شَبَّهَ الإيمانَ والتَّوحيدَ في عُلُوِّه وسَعَتِه وشَرَفِه بالسَّماءِ الَّتي هي مصْعَدُه ومَهْبَطُه؛ فمنها هبَطَ إلى الأرضِ، وإليها يَصعَدُ منها، وشَبَّهَ تارِكَ الإيمانِ والتَّوحيدِ بالسَّاقطِ مِن السَّماءِ إلى أسفَلِ سافِلينَ، مِن حيثُ التَّضييقُ الشَّديدُ والآلامُ المُتراكِمةُ، والطَّيرُ الَّتي تتَخطَّفُ أعضاءَهُ وتُمزِّقُه كلَّ مُمزَّقٍ، هي الشَّياطينُ الَّتي يُرسِلُها اللهُ سُبحانَه وتعالى عليه وتَؤزُّهُ أزًّا، وتُزعِجُه وتَدفَعُه إلى مَظانِّ هَلاكِهِ؛ فكلُّ شَيطانٍ له مُزْعَةٌ مِن دِينِه وقَلْبِه، كما أنَّ لكلِّ طَيرٍ مُزْعةً مِن لَحمِه وأعضائِه، والرِّيحُ الَّتي تَهْوِي به في مَكانٍ سَحيقٍ هو هواهُ الَّذي حمَلَهُ على إلْقاءِ نَفْسِه في أسفَلِ مَكانٍ وأبعَدِه مِن السَّماءِ .

- وقيل: شَبَّهَ الإيمانَ بالسَّماءِ؛ لعُلُوِّه، والإشراكَ بالسُّقوطِ منها؛ فالمُشرِكُ ساقِطٌ مِن أَوْجِ الإيمانِ إلى حَضيضِ الكُفْرِ، وهذا السُّقوطُ إنْ كان في حَقِّ المُرتَدِّ فظاهِرٌ، وهو في حَقِّ غيرِه باعتبارِ الفطرةِ؛ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ؛ فإنَّ الأهواءَ المُرْدِيةَ تُوَزِّعُ أفكارَهُ، وفي ذلك تَشبيهُ الأفكارِ المُوَزَّعةِ بخَطْفِ جَوارحِ الطَّيرِ .

- وقولُه: أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ (أو) للتَّخييرِ في نَتيجةِ التَّشبيهِ، أو للتَّنويعِ؛ أشارتِ الآيةُ إلى أنَّ الكافرينَ قِسمانِ: قِسْمٌ شِرْكُه ذَبْذبةٌ وشَكٌّ؛ فهذا مُشبَّهٌ بمَن اختطَفَتْه الطَّيرُ، فلا يَستولي طائرٌ على مُزْعةٍ منه إلَّا انتهَبَها منه آخَرُ، فكذلك المُذَبذَبُ؛ متى لاحَ له خَيالٌ اتَّبَعَه وترَكَ ما كان عليه. وقِسْمٌ مُصمِّمٌ على الكُفْرِ، مُستقِرٌّ فيه، فهو مُشبَّهٌ بمَن ألْقَتْه الرِّيحُ في وادٍ سَحيقٍ، وهو إيماءٌ إلى أنَّ مِن المُشركينَ مَن شِرْكُه لا يُرْجَى منه خلاصٌ، كالَّذي تَخطَّفَتْه الطَّيرُ، ومنهم مَن شِرْكُه قد يَخلُصُ منه بالتَّوبةِ، إلَّا أنَّ تَوبَتَهُ أمْرٌ بَعيدٌ عسيرُ الحُصولِ؛ فالتَّشبيهُ مُركَّبٌ تَمثيليٌّ .

- قولُه: فَتَخْطَفُهُ فيه التَّعبيرُ بمُضاعَفِ (خطَفَ) -على قراءةِ فتحِ الخاءِ وتشديدِ الطاءِ المفتوحةِ -؛ للمُبالَغةِ . وفي إيثارِ المُضارِع فَتَخْطَفُهُ إشعارٌ باستحضارِ تلك الحالةِ العجيبةِ في مشاهَدةِ المُخاطَبِ؛ تَعجيبًا له .

3- قَولُه تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ

- قولُه: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ تَكريرٌ لنَظيرِه السَّابقِ؛ ولكنْ مَضمونُ جُملةِ: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ... أخَصُّ مِن مَضمونِ جُملةِ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ...، وذُكِرَ الأخَصُّ بعْدَ الأعمِّ؛ للاهتمامِ .

- قولُه: فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ على القولِ بأنَّ (مِن) للتَّبعيضِ، فيكونُ فيه إيجازٌ بالحذْفِ، أي: فإنَّ تَعظيمَها مِن أفعالِ ذَوي تَقْوى القُلوبِ. وإنْ جُعِلَت (مِن) للابتداءِ، لم يُحْتَجْ إلى إضمارِ (أفعال)، ولا (ذوي)؛ إذ المعنى: فإنَّ تَعظيمَها ناشِئٌ مِن تَقْوى القُلوبِ ، ولأنَّ المُنافِقَ يُظهِرُ التَّقوى وقَلْبُه خالٍ عنها، فلا يكونُ مُجِدًّا في أداءِ الطَّاعاتِ، والمُخلِصُ التَّقوى للهِ في قَلْبِه، فيُبالِغُ في أدائِها على سَبيلِ الإخلاصِ .

4- قَولُه تعالى: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ

- قولُه: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي: إلى مَوضِعِ النَّحرِ، فذكَرَ البيتَ؛ لأنَّه أشرَفُ الحرَمِ، وهو المقصودُ بالهدْيِ وغيرِه . وفيه: كِنايةٌ عن نِهايةِ أمْرِها، ونِهايةُ أمْرِها النَّحرُ أو الذَّبحُ .

- ولمَّا كانت هذه المنافعُ دُنيويَّةً، وكانت مَنفعةُ نَحْرِها إذا أُهْدِيَت دِينيَّةً؛ أشار إلى تَعظيمِ الثَّاني بأداةِ التَّراخي، فقال: ثُمَّ مَحِلُّهَا .

- وقد جاء في قولِه تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ باعتبارِ مَبدأِ هذه الآياتِ، وهو قولُه تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ

 

[الحج: 26].

============================

 

سورةُ الحَجِّ

الآيتان (34-35)

ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ

غريب الكلمات:

 

مَنْسَكًا: أي: إراقةَ الدِّماءِ، وذَبْحَ القَرابينِ؛ مِن نَسَك يَنْسُكُ: إذا ذبحَ القُربانَ، أو هو الموضعُ الَّذي يُنْسَكُ للَّهِ فيه، ويُتَقَرَّبُ إليه فيه، أو: العيدُ، وأصلُ (نسك): يدُلُّ على عبادةٍ وتقَرُّبٍ إلى اللهِ تعالى

.

الْمُخْبِتِينَ: أي: المُتواضِعينَ المُذعِنينَ له بالعُبوديَّةِ، والإخباتُ سكونُ الجوارحِ على وجهِ التواضعِ والخشوعِ لله، وأصلُ (خبت): يدُلُّ على خُشوعٍ .

وَجِلَتْ: أي: خَافَتْ، والوجلُ خوفٌ مقرونٌ بهيبةٍ ومحبةٍ، وقيل: الوَجَلُ: استِشعارُ الخَوفِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ولِكُلِّ جَماعةٍ مُؤمِنةٍ سَلَفَت جعَلْنا لها مَناسِكَ مِنَ الذَّبحِ وإراقةِ الدِّماءِ؛ لِيَذكُروا اسمَ اللهِ تعالى عند ذَبحِ ما رزَقَهم مِن هذه الأنعامِ، ويَشكُروا له. فإلهُكم -أيُّها النَّاسُ- الذي يَستَحِقُّ العِبادةَ إلهٌ واحِدٌ هو اللهُ؛ فانقادوا لأمْرِه بالطَّاعةِ، واخضَعوا لحُكمِه. وبشِّر -أيُّها النبيُّ- المتواضِعينَ الخاضِعينَ لرَبِّهم بخَيرَيِ الدُّنيا والآخرةِ، وهم الذين إذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَه خَشَعَت قلوبُهم وخضَعَت؛ خوفًا مِن عِقابِه؛ والصَّابِرون على ما يقَعُ عليهم مِن أصنافِ البَلاءِ وأنواعِ الأذى، والمُؤَدُّونَ الصَّلاةَ تامَّةً، وهم مع ذلك يُنفِقونَ مِمَّا رزَقَهم اللهُ تعالى.

تفسير الآيتين:

 

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا جَعَلَ المشرِكونَ لأصنامِهم مَناسِكَ تُشابِهُ مناسكَ الحَجِّ، وجعَلوا لها مَواقيتَ ومَذابحَ، ذَكَّرَهم اللهُ تعالى بأنَّه ما جَعَلَ لكلِّ أُمَّةٍ إلَّا مَنسَكًا واحدًا للقُربانِ إلى اللهِ تعالى، الذي رَزَقَ الناسَ الأنعامَ التي يَتقرَّبون إليه منها؛ فلا يَحِقُّ أنْ يُجعَلَ لغيرِ اللهِ مَنْسَكٌ

.

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.

أي: وكلُّ جَماعةٍ مُؤمِنةٍ ممَّن قَبْلَكم شرَعْنَا لهم التقرُّبَ إلى اللهِ بالذَّبحِ وإراقةِ الدِّماءِ؛ لِيَذكُروا اسمَ اللهِ وَحْدَه عندَ نَحرِ ما رزَقَهم مِنَ الإبِلِ أو البَقَرِ أو الغَنَمِ، ويجعَلوا نَسيكَتَهم لِوَجهِه .

فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا.

مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:

في مُناسَبتِها لِمَا قَبْلَها وجهانِ:

أحدُهما: أنَّه لَمَّا ذَكَرَ الأُممَ المتقدِّمةَ خاطبَها بقولِه: فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، أي: هو الذي شرَعَ المناسكَ لكم، ولِمَن تَقدَّم قَبْلَكم.

والثاني: أنَّه إشارةٌ إلى الذَّبائحِ، أي: إلهُكُم إلهٌ واحدٌ؛ فلا تَذْبحوا تَقرُّبًا لغَيرِه .

فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا .

أي: فمَعبودُكم الذي يَستَحِقُّ العِبادةَ مَعبودٌ واحِدٌ لا شَريكَ له؛ فله وَحْدَه أخلِصوا عِباداتِكم، وانقادُوا له بالطَّاعةِ، واخضَعوا لحُكمِه .

كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .

وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.

أي: وبَشِّرْ -يا مُحمَّدُ- بخَيرَيِ الدُّنيا والآخرةِ الخاضِعينَ الخاشِعينَ المُتواضِعينَ المُطمَئِنِّينَ لله، المُنيبينَ إليه .

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35).

الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.

أي: الذين خَشَعَت قلوبُهم لذِكْرِ اللهِ، وخضَعَت مِن خَشيَتِه؛ خَوفًا مِن عِقابِه وسَخَطِه .

كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] .

وقال سُبحانَه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر: 23] .

وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ.

أي: والصَّابِرينَ على ما يقَعُ عليهم مِن أصنافِ البَلاءِ وأنواعِ الأذى والمصائِبِ، فلا يَجري منهم التسَخُّطُ على ذلك .

كما قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155-157] .

وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ.

أي: والمُؤَدِّينَ الصَّلاةَ كامِلةً مُستقيمةً ظاهِرًا وباطِنًا، فيُحافِظونَ على أوقاتِها وواجباتِها، ويؤَدُّونَها على الوَجهِ الذي أمَرَ اللهُ به .

كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ... وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون: 1-9] .

وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ.

أي: ويُنفِقونَ مِمَّا آتَيناهم مِن رِزقٍ

 

.

كما قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274] .

وقال سُبحانَه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 2-4] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 21-24] .

وقال الله سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 29-30] .

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أتبَعَ صِفةَ المُخبِتينَ بأربَعِ صِفاتٍ؛ وهي: وَجَلُ القُلوبِ عندَ ذِكرِ اللهِ، والصَّبرُ على الأذى في سَبيلِه، وإقامةُ الصَّلاةِ، والإنفاقُ، وكُلُّ هذه الصِّفاتِ الأربَعِ مَظاهِرُ للتَّواضُعِ، فليس المقصودُ مَن جَمَع تلك الصِّفاتِ؛ لأنَّ بَعضَ المُؤمِنينَ لا يَجِدُ ما يُنفِقُ منه، وإنما المقصودُ مَن لم يُخِلَّ بواحدةٍ منها عندَ إمكانِها

.

2- قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وصَفَهم تعالى بالخَوفِ والوَجَلِ عندَ ذِكرِ اللهِ؛ وذلك لقُوَّةِ يَقينِهم، ومُراعاتِهم لرَبِّهم، وكأنَّهم بينَ يَدَيه .

3- قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ هذه الآيةُ نظيرُ قَولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] ، وقَولِه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] ، فهذه حالةُ العارفينَ باللهِ، الخائِفينَ مِن سَطْوتِه وعُقوبتِه، لا كما يفعَلُه جُهَّالُ العَوامِّ، والمُبتَدِعةُ الطَّغامُ، مِن الزَّعيقِ والزَّئير، ومِن النُّهاقِ الذي يُشبِهُ نُهاقَ الحَمير، فيُقالُ لِمَن تعاطى ذلك وزعَمَ أنَّ ذلك وَجْدٌ وخُشوعٌ: إنَّك لم تبلُغْ أن تساوِيَ حالَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا حالَ أصحابِه في المَعرفةِ باللهِ تعالى، والخَوفِ منه، والتَّعظيمِ لجَلالِه، ومع ذلك فكانت حالُهم عند المواعِظِ الفَهمَ عن اللهِ، والبُكاءَ خَوفًا مِنَ الله، وكذلك وصَفَ اللهُ تعالى أحوالَ أهلِ المَعرفةِ عندَ سَماعِ ذِكرِه وتلاوةِ كِتابِه، ومَن لم يكُنْ كذلك فليس على هَدْيِهم ولا على طريقَتِهم؛ قال الله تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83] ، فهذا وَصْفُ حالِهم، وحِكايةُ مَقالِهم؛ فمَن كان مُستَنًّا فلْيَستَنَّ، ومَن تعاطى أحوالَ المجانينِ والجُنونِ، فهو مِن أخَسِّهم حالًا، والجُنُون فُنُون

 

!!

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا فيه أنَّه وإنِ اختَلَفَت أجناسُ الشَّرائِعِ، فكُلُّها مُتَّفِقةٌ على هذا الأصلِ، وهو أُلوهيَّةُ اللهِ، وإفرادُه بالعُبوديَّةِ، وتَركُ الشِّركِ به؛ ولهذا قال تعالى: فَلَهُ أَسْلِمُوا

.

2- قال الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ في هذه الآيةِ دَليلٌ على أنَّ الذَّبائحَ التي يُتقَرَّبُ بها ليست مِن خَصائِصِ هذه الأمَّةِ، بل كانت لكُلِّ أمَّةٍ، وعلى أنَّ الضَّحايا لم تَزَلْ مِنَ الأنعامِ، وأنَّ التَّسميةَ على الذَّبحِ كانت مَشروعةً ، فالذَّبحُ تقَرُّبًا إلى اللهِ تعالى مَشروعٌ في كُلِّ مِلَّةٍ لِكُلِّ أُمَّةٍ، وهو بُرهانٌ بَيِّنٌ على أنَّه عِبادةٌ ومَصلَحةٌ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ وأُمَّةٍ .

3- قال الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا في هذا دَليلٌ على أنَّ ذَبْحَ الأُضحِيَّةِ وذِكْرَ اسمِ اللهِ عليها عِبادةٌ مَقصودةٌ بذاتِها، وأنَّها مِن توحيدِ اللهِ وتمامِ الاستِسلامِ له، ورُبَّما كان هذا المقصودُ أعظَمَ بكَثيرٍ مِن مُجَرَّدِ انتِفاعِ الفَقيرِ بها .

4- قَولُ اللهِ تعالى: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فيه تَنبيهٌ على أنَّ القُربانَ يَجِبُ أن يكونَ مِنَ الأنعامِ .

5- قَال اللهُ تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ناسَبَ تَبشيرُ مَن اتَّصَف بالإخباتِ هنا؛ لأنَّ أفعالَ الحَجِّ؛ مِن نَزعِ الثِّيابِ، والتجَرُّدِ مِنَ المَخيطِ، وكَشْفِ الرَّأسِ، والترَدُّدِ في تلك المواضِعِ الغَبرةِ المُحَجَّرةِ، والتلبُّسِ بأفعالٍ شاقَّةٍ لا يَعلَمُ مَعناها إلَّا اللهُ تعالى- مُؤْذِنٌ بالاستِسلامِ المَحْضِ، والتَّواضُعِ المُفرِطِ؛ حيثُ يَخرُجُ الإنسانُ عن مألوفِه إلى أفعالٍ غَريبةٍ؛ ولذلك وصَفَهم بالإخباتِ والوَجَلِ إذا ذُكِرَ اللهُ تعالى، والصَّبرِ على ما أصابَهم مِنَ المشاقِّ، وإقامةِ الصَّلواتِ في مواضِعَ لا يُقيمُها إلَّا المُؤمِنونَ المُصطَفَونَ، والإنفاقِ مِمَّا رزَقَهم، ومنها الهَدايا التي يُغالونَ فيها .

6- قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ اعلَمْ أنَّ وَجَلَ القُلوبِ عِندَ ذِكرِ اللهِ -أي: خَوْفَها مِنَ اللهِ عندَ سَماعِ ذِكرِه- لا يُنافي ما ذكَرَه جلَّ وعلا مِن أنَّ المُؤمِنينَ تَطمَئِنُّ قُلوبُهم بذِكرِ اللهِ، كما في قَولِه تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] ، ووَجهُ الجَمعِ بينَ الثَّناءِ عليهم بالوَجَلِ -الذي هو الخَوفُ عِندَ ذِكرِه جَلَّ وعلا- معَ الثَّناءِ عليهم بالطُّمَأنينةِ بذِكرِه، والخَوفُ والطُّمَأنينةُ مُتَنافيانِ: هو أنَّ الطُّمَأنينةَ بذِكرِ اللهِ تكونُ بانشراحِ الصَّدرِ بمَعرفةِ التَّوحيدِ، وصِدْقِ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فطُمَأنينَتُهم بذلك قَويَّةٌ؛ لأنَّها لم تتطَرَّقْها الشُّكوكُ ولا الشُّبَهُ- والوَجَلَ عِندَ ذِكرِ الله تعالى يكونُ بسَبَبِ خَوفِ الزَّيغِ عن الهُدى، وعَدَمِ تقَبُّلِ الأعمالِ، كما قال تعالى عنِ الرَّاسِخينَ في العِلمِ: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران: 8] ، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60] ، وقال تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23].

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ عبَّر بالوصفِ دُون الفِعلِ (أقاموا)؛ إشارةً إلى أنَّه لا يُقيمُها على الوجهِ المشروعِ مع تِلك المشاقِّ والشواغِلِ إلَّا الأراسخُ في حُبِّها؛ فهُم -لِمَا تمكَّن مِن حُبِّها في قُلوبِهم، والخوفِ مِن الغَفلةِ عنها- كأنَّهم دائمًا في صَلاةٍ

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ

- قولُه: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ على الفِعْلِ جَعَلْنَا؛ للتَّخصيصِ

.

- قولُه: لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ علَّلَ الجَعْلَ به؛ تَنبيهًا على أنَّ المقصودَ الأصليَّ مِن المناسِكِ تَذكُّرُ المعبودِ .

- قولُه: فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا الفاءُ في فَإِلَهُكُمْ لتَرتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها؛ فإنَّ جَعْلَه تعالى لكلِّ أُمَّةٍ مِن الأُمَمِ مَنْسكًا ممَّا يدُلُّ على وَحدانيَّتِه تعالى. وإنَّما قيل: إِلَهٌ وَاحِدٌ، ولم يقُلْ: (واحدٌ)؛ لِمَا أنَّ المُرادَ بَيانُ أنَّه تعالى واحدٌ في ذاتِه، كما أنَّه واحدٌ في إلِهيَّتِه للكلِّ . وهذا التَّفريعُ الأوَّلُ تَمهيدٌ للتَّفريعِ الَّذي عَقِبَهُ وهو المقصودُ، فوقَعَ في النَّظمِ تَغييرٌ بتَقديمٍ وتأْخيرٍ، وأصْلُ النَّظمِ: فلِلَّهِ أسْلِموا؛ لأنَّ إلِهَكَم إلهٌ واحدٌ .

- وفي قولِه: فَلَهُ أَسْلِمُوا تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ (له) على الأمْرِ أَسْلِمُوا؛ للحصْرِ، أي: أسْلِموا له لا لغَيرِه .

- قولُه: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ اعتراضٌ بينَ سَوقِ المِنَنِ، والخِطابُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، وناسَبَ تَبشيرُ مَنِ اتَّصَفَ بالإخباتِ هنا؛ لأنَّ أفعالَ الحجِّ مُؤْذِنةٌ بالاستسلامِ المَحضِ، والتَّواضُعِ المُفرِطِ .

2- قوله تعالى: الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ

- قولُه: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فيه تقديمُ المفعولِ (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) على الفِعلِ يُنْفِقُونَ؛ للاهتمامِ به، وللدَّلالةِ على كونِه أهمَّ، ولإفادةِ الاختصاصِ، ولتناسبِ رُؤوسِ الآيِ .

===========

 

سورةُ الحَجِّ

الآيتان (36-37)

ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ

غريب الكلمات :

 

وَالْبُدْنَ: أي: الإِبِلَ، وقيل: الإبلَ والبقرَ، جَمعُ بَدَنةٍ، وسُمِّيَتْ بذلك؛ لِعِظَمِ بَدَنِها وضخامتِها، وهو اسمٌ مَأخوذٌ مِن البَدانةِ، وهي: عِظَمُ الجُثَّةِ والسِّمَنُ

.

صَوَافَّ: أي: قائِماتٍ قد صُفَّت قَوائِمُها في حالِ نَحْرِها، وأصلُها مِنَ الصَفِّ، وهو جَعْلُ الأجسامِ يلي أحَدُها الآخَرَ على مِنهاجٍ واحِدٍ، وأصلُ (صفف): يدُلُّ على استواءٍ في الشَّيءِ، وتساوٍ بينَ شيئيْنِ في المقَرِّ .

وَجَبَتْ: أي: وقَعَت وسَقَطت، وأصلُ (وجب): يدُلُّ على سُقوطِ الشَّيءِ ووقُوعِه .

الْقَانِعَ: أي: السَّائِلَ الذي يَتعرَّضُ لِما في أيدِي النَّاسِ، مِن: قَنَعَ يقْنَع قُنُوعًا: أي: ذلَّ للسُّؤالِ، فهو مِن القُنُوعِ، بمعنى: المسألةِ، وقيل: القُنوعُ بمعنى القَناعةِ -أي: الرِّضا بالقَليلِ، مِن: قَنِعَ .

وَالْمُعْتَرَّ: أي: المُتعَرِّضَ للنَّوالِ مِن غَيرِ طَلَبٍ ولا سُؤالٍ، يقالُ: اعْتَرَّني وعَرَّني، وعَراني واعْتَراني، أي: ألَمَّ بك لتعطيَه ولا يسألُ، وقيل: هو الذي يُطيفُ بك يَطلُبُ ما عِندَك، سألَك أو سكَت عن السُّؤالِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وجعَلْنا لكم الإبِلَ الضِّخامَ مِن شَعائِرِ الدِّينِ الظَّاهِرةِ؛ لتتقَرَّبوا بها إلى اللهِ، وفي حكمِها البقرُ. لكم فيها -أيُّها المتَقَرِّبونَ- خيرٌ في الدُّنيا، وأجرٌ في الآخِرةِ، فاذكُروا اسمَ اللهِ عِندَ نَحْرِكم الإبِلَ، وهي قائِمةٌ قد صُفَّت قَوائِمُها، فإذا سقَطَت على الأرضِ جُنوبُها، فكُلوا مِن لَحمِها، وأطعِمُوا منها الفَقيرَ السَّائِلَ بتذَلُّلٍ، والمتعرِّضَ للعَطاءِ دونَ سُؤالٍ، هكذا سخَّر اللهُ البُدْنَ لكم؛ لعَلَّكم تَشكُرونَ اللهَ على تَسخيرِها لكم.

لن ينالَ اللهَ مِن لحومِ هذه الذَّبائِحِ ولا مِن دمائِها شَيءٌ، ولكِنْ ينالُه الإخلاصُ فيها، وأن يَكونَ القَصدُ بها وَجهَ اللهِ وَحْدَه، كذلك ذلَّلَها لكم -أيُّها المتقَرِّبونَ- لتُعَظِّموا اللهَ، وتَشكُروا له على ما هَداكم مِنَ الحَقِّ؛ فإنَّه أهلٌ لذلك. وبشِّرْ -يا مُحمَّدُ- المُحسِنينَ بعبادةِ اللهِ وَحْدَه، والمُحسِنينَ إلى خَلْقِه؛ بكُلِّ خَيرٍ وفَلاحٍ في الدُّنيا والآخرةِ.

تفسير الآيتين:

 

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا قَدَّم اللهُ سُبحانَه الحَثَّ على التقَرُّبِ بالأنعامِ كُلِّها، وكانت الإبِلُ أعظَمَها خَلْقًا، وأجَلَّها في أنفُسِهم أمْرًا؛ خصَّها بالذِّكرِ

.

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ.

أي: والإبِلَ الضِّخامَ العِظامَ الأجسامِ -وفي حُكمِها البقرُ- جعَلْناها لكم -أيُّها النَّاسُ- مِن أعلامِ دِينِ اللهِ الظَّاهِرةِ التي يُتعبَّدُ ويُتقرَّبُ بها إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فشُرِعَ سَوقُها إلى البَيتِ، وتَقليدُها وإشعارُها، وتعظيمُها، ونَحْرُها والإطعامُ منها .

لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ.

أي: لكم في الإبِلِ مَنافِعُ في الدُّنيا، وأجرٌ في الآخِرةِ .

فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ.

أي: فاذكُروا اسمَ اللهِ عِندَ نَحْرِكم الإبِلَ، وهي قائِمةٌ قد صُفَّت قَوائِمُها .

عن زيادِ بنِ جُبَيرٍ، ((أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أتَى على رَجُلٍ وهو يَنحَرُ بَدَنَتَه بارِكةً، فقال: ابعَثْها قِيامًا مُقَيَّدةً؛ سُنَّةَ نَبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) .

فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا .

أي: فإذا سَقَطت الإبِلُ بعد نَحْرِها، ووقَعَت جُنوبُها على الأرضِ، فكُلوا مِن لَحمِها .

وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ.

أي: وأطعِموا منها القانِعَ، وهو: الفَقيرُ السَّائِلُ بتذَلُّلٍ، وأطعِموا منها المُعْتَرَّ، وهو: الذي يأتي مُتَعَرِّضًا للنَّوالِ مِن غَيرِ طَلَبٍ ولا سُؤالٍ .

كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

أي: مِثلَ ذلك التَّسخيرِ العَجيبِ الذي تُشاهِدونَه ذَلَّلْنا لكم الإبِلَ -أيُّها النَّاسُ- ومكَّنَّاكم مِن التصَرُّفِ فيها، فتَنتَفِعونَ برُكوبِها والشُّربِ والأكلِ منها؛ لِتَشكُروا اللهَ على نِعمةِ تَسخيرِها لكم .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [يس: 71-73] .

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37).

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا.

أي: لن يَصِلَ إلى اللهِ شَيءٌ مِن لحومِ بُدْنِكم، ولا دِمائِها المُهراقةِ، ولم يَشرَعْ ذَبحَها لذلك؛ فهو غنيٌّ عنكم وعنها .

وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ.

أي: ولكِنَّ الذي يَصِلُ إلى اللهِ ويَبلُغُه: تَقواكم وإخلاصُكم العمَلَ له وَحْدَه، فيتقَبَّلُه منكم، ويُثيبُكم عليه إنِ اتَّقَيتُموه فيما تَذبَحونَه مِنَ البُدْنِ، وأرَدْتُم بذلك وَجْهَه وَحْدَه، لا فَخرًا ولا رياءً، ولا سُمعةً ولا مُجَرَّدَ عادةٍ؛ وعَظَّمتُم بها حُرُماتِه، وعَمِلتُم فيها بما أمَرَكم به؛ فليس المقصودُ مُجَرَّدَ ذَبحِها فحَسْبُ .

كما قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى صُوَرِكم وأموالِكم، ولكِنْ يَنظُرُ إلى قُلوبِكم وأعمالِكم )) .

كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ .

أي: هكذا سخَّرَ اللهُ لكم البُدْنَ؛ كي تَعرِفوا عظَمَتَه باقتدارِه على ما لا يَقدِرُ عليه سِواه، فتُوَحِّدُوه بالكِبرياءِ؛ شُكرًا له في مقابِلِ تَوفيقِه إيَّاكم لِدينِكم، وللنُّسُكِ في حَجِّكم .

وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.

أي: وبَشِّرْ -يا مُحمَّدُ- المُحسِنينَ في عبادةِ اللهِ، وفي مُعامَلتِهم لعبادِ اللهِ، بالسَّعادةِ في الدُّنيا والآخرةِ

 

.

كما قال تعالى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 58] .

وقال سُبحانَه: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] .

وقال تبارك وتعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] .

وقال عزَّ مِن قائِلٍ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وقال عزَّ وجَلَّ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60].

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ مَنَّ سُبحانَه علينا بتَذليلِها وتَمكينِنا مِن تَصريفِها، وهي أعظَمُ مِنَّا أبدانًا، وأقوى منا أعضاءً؛ ذلك لِيَعلَمَ العَبدُ أنَّ الأمورَ ليست على ما يَظهَرُ إلى العَبدِ مِن التَّدبيرِ، وإنَّما هي بحَسَبِ ما يُريدُها العزيزُ القَديرُ، فيَغلِبُ الصَّغيرُ الكبيرَ؛ لِيَعلَمَ الخَلقُ أنَّ الغالِبَ هو اللهُ الواحِدُ القَهَّارُ فَوقَ عِبادِه

، فالرجُلُ الواحدُ يأخُذُ العدَدَ منها ويَسوقُها مُنقادةً، ويؤلِمُها بالإشعارِ ثمَّ بالطَّعنِ، ولولا أنَّ الله أودع في طباعِها هذا الانقيادَ، لَما كانت أعجَزَ مِن بعضِ الوحوشِ التي هي أضعَفُ منها، فتنفِرُ مِن الإنسانِ ولا تُسخَّرُ له !

2- قَولُ الله تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ في هذا حَثٌّ وتَرغيبٌ على الإخلاصِ في النَّحرِ، وأن يكونَ القَصدُ وَجهَ اللهِ وَحْدَه، لا فَخرًا ولا رياءً، ولا سُمعةً ولا مُجَرَّدَ عادةٍ، وهكذا سائِرُ العباداتِ، إن لم يقتَرِنْ بها الإخلاصُ وتقوى اللهِ، كانت كالقُشورِ التي لا لُبَّ فيها، والجَسَدِ الذي لا رُوحَ فيه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ هذا دليلٌ على أنَّ الشَّعائِرَ عامٌّ في جميعِ أعلامِ الدِّينِ الظَّاهِرةِ، وقد أخبَرَ تعالى أنَّ مِن جُملةِ شَعائِرِه البُدْنَ

.

2- في قَولِه تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ دَلالةٌ على جوازِ رُكوبِ البُدْنِ؛ لِعُمومِ قَولِه تعالى: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ .

3- عن مالكِ بنِ أنسٍ، قال: (حجَّ سعيدُ بنُ المُسَيِّبِ، وحجَّ معه ابنُ حرملةَ، فاشترى سعيدٌ كبشًا فضحَّى به، واشترَى ابنُ حرملةَ بَدَنةً بستةِ دنانيرَ، فنحَرها، فقال له سعيدٌ: أمَا كانَ لك فينا أُسوةٌ؟ فقال: إنِّي سمعت الله يقول: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، فأحببتُ أن آخُذَ الخيرَ مِن حيثُ دلَّني الله عليه. فأعجب ذلك ابنَ المسيِّبِ منه! وجعَل يحدِّثُ بها عنه) .

4- قَولُ اللهِ تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فيه استِحبابُ نَحرِ الإبِلِ قِيامًا ، فقوله: صَوَافَّ يعني: قائمةً قد صُفَّتْ قوائمُها؛ فدلَّ ذلك على أنَّ الإبلَ تُنحَرُ قائمةً .

5- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فيه أنَّ البُدْنَ تُنحَرُ قائِمةً ، فقولُه: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا أي: سقَطتْ، وهو يُشعِرُ بكونِها كانت قائمةً .

6- في قَولِه تعالى: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ بدأ سُبحانَه بذِكْرِ الأكلِ، وهذا يَدُلُّ على أنَّه ليس المقصودُ بالأُضحِيَّةِ الصَّدَقةَ بها، ولكنَّ المقصودَ التَّعَبُّدُ لله تعالى بنَحْرِها؛ تعظيمًا له جلَّ وعلا .

7- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا أي: سَقَطت على الأرضِ، والقَصدُ مِن هذا التَّوقيتِ المُبادَرةُ بالانتِفاعِ بها؛ إسراعًا إلى الخَيرِ الحاصِلِ مِن ذلك في الدُّنيا بإطعامِ الفُقَراءِ وأكلِ أصحابِها منها؛ فإنَّه يُستحَبُّ أن يكونَ فُطورُ الحاجِّ يَومَ النَّحرِ مِن هَدْيِه، وكذلك الخَيرُ الحاصِلُ مِن ثوابِ الآخرةِ .

8- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ استُنبِطَ مِن الآيةِ: أنَّها تُجَزَّأُ ثلاثةَ أثلاثٍ؛ فيأكُلُ ثُلُثًا، ويُهدِي ثُلثًا، ويتصَدَّقُ بثُلُثٍ ؛ لأنه جعلها بين ثلاثةٍ؛ فدَلَّ على أنَّها بيْنهم أثلاثًا .

9- قَولُ اللهِ تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ فيه رَدٌّ لِما اعتادَه بعضُ النَّاسِ مِن لَطخِ البُيوتِ بدِماءِ الأضاحيِّ .

10- الأُضحِيَّةُ لا يُرادُ بها مُجَرَّدُ الصَّدَقةِ بلَحْمِها، أو الانتِفاعِ به؛ لِقَولِ الله تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا، ولكِنْ أهَمُّ شَيءٍ فيها هو التقَرُّبُ إلى اللهِ بالذَّبحِ .

11- قَولُ اللهِ تعالى: كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ فيه أنَّه يُستَحَبُّ أن يُضَمَّ إلى التَّسميةِ التَّكبيرُ عِندَ الذَّبحِ، فقد ذكَر سبحانَه في الآيةِ السابقةِ ذِكرَ اسمِه عليها، فقال: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ، وذكَر هنا التكبيرَ؛ فيُستحَبُّ الجمعُ بينهما

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

- قولُه: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فيه الاقتصارُ على البُدْنِ الخاصِّ بالإبِلِ؛ لأنَّها أفضَلُ في الهَدْيِ

.

- قولُه: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ جُملةٌ مُستأْنَفةٌ مُقرِّرةٌ لِمَا قبْلَها ، وكلمةُ لَكُمْ فيها امتنانٌ على النَّاسِ، وتَقديمُها على المُبتدأِ خَيْرٌ؛ لِيتأتَّى كونُ المُبتدَأِ نَكِرةً؛ لِيُفيدَ تَنوينُه التَّعظيمَ، وتَقديمُ فِيهَا على مُتعلَّقِه وهو خَيْرٌ؛ للاهتمامِ بما تَجمَعُه وتَحْتوي عليه مِن الفوائدِ .

- وإضافةُ الشَّعائرِ في قولِه: مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ؛ تَعظيمٌ لها .

- قولُه: كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ استئنافٌ؛ للامتنانِ بما خلَقَ مِن المخلوقاتِ لنَفْعِ النَّاسِ . وفي قولِه: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تَعريضٌ بالمُشركينَ؛ إذ وَضَعوا الشِّرْكَ مَوضِعَ الشُّكرِ .

2- قَولُه تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ

- قولُه: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا تَعليلٌ لجُملةِ: كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ، أي: دَلَّ على أنَّا سَخَّرناها لكم لِتَشْكُروني: أنَّه لا انتفاعَ للهِ بشَيءٍ مِن لُحومِها ولا دِمائِها .

- ولَمَّا كان السياقُ للحَثِّ على التَّقريبِ له سُبحانَه، كان تقديمُ اسمِه على الفاعِلِ أنسَبَ للإسراعِ بنفي ما قد يُتوهَّمُ مِن لَحاقِ نفعٍ أو ضُرٍّ، فقال معبِّرًا بالاسمِ العلَمِ الذي حمى عن الشَّرِكةِ بكُلِّ اعتبارٍ: اللَّهَ .

- قولُه: وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ (مِن) ابتدائيَّةٌ، وعُبِّرَ بلفْظِ التَّقْوَى مِنْكُمْ دونَ: (تَقْواكم) أو (التَّقوى)، مُجرَّدًا مع كونِ المعدولِ عنه أوجَزَ؛ لأنَّ في هذا الإطنابِ زِيادةَ مَعنًى مِن البلاغةِ .

- قولُه: كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ كرَّرَ تَذكيرَ النِّعمةِ بالتَّسخيرِ، ثمَّ قال: لِتَشْكُروا اللهَ على هِدايَتِه إيَّاكم لِأَعْلامِ دِينِه ومَناسِكِ حَجِّه، بأنْ تُكبِّروا وتُهَلِّلوا، فاختصَرَ الكلامَ بأنْ ضَمَّنَ التَّكبيرَ معنى الشُّكرِ وعَدَّاهُ تَعْديتَه، فصارَ مدلولُ الجُملتينِ مُترادِفًا؛ فوقَعَ التَّأكيدُ . وإنَّما حسُنَ تَسميةُ الشُّكرِ بالتَّكبيرِ؛ لأنَّ التَّكبيرَ على هِدايةِ اللهِ تعالى المكلَّفَ لِأعْلامِ الدِّينِ ومَناسِكِ الحجِّ: هو النِّداءُ على الجميلِ بسَببِ إحسانِه، وليس معنى الشُّكرِ اللِّسانيِّ إلَّا هذا، فوَضْعُ التَّكبيرِ هاهنا مَوضِعَ الشُّكرِ، كوضْعِ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في قولِه تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج: 28] مَوضِعَ (يَنحَروا)؛ للإيذانِ بأنَّ المقصودَ الأوَّلِيَّ مِن شَرعيَّةِ الأحكامِ التَّوحيدُ وذِكْرُ اللهِ تعالى وحْدَه وتَشْييدُه، وأنَّ رأْسَ الشُّكرِ هو الذِّكْرُ باللِّسانِ .

- قولُه: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ الخِطابُ للمُسلمينَ، وتَغيِيرُ الأُسلوبِ تَخريجٌ على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ بالإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم قدِ اهتَدَوا وعَمِلوا بالاهتداءِ، فأحْسَنوا .

===========

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (38-41)

ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ

غريب الكلمات:

 

خَوَّانٍ: أي: مُبالِغٍ في الخيانةِ بالإصرارِ عليها، والخِيانةُ: مُخالفةُ الحَقِّ بنَقضِ العَهدِ، وأصلُ (خون): يدُلُّ على نُقصانِ الوَفاءِ

.

صَوَامِعُ: أي: مَنازِلُ الرُّهبانِ، جَمعُ صَومَعةٍ، وهي كلُّ بناءٍ مُتَصَمِّعِ الرَّأسِ، أي: متلاصقِه، وسُمِّيَت صومعةً؛ لانضمامِ طرَفَيْها، أو لأنَّها دقيقةُ الرَّأْسِ، وأصلُ (صمع): يدُلُّ على لَطافةٍ في الشَّيءِ وتَضامٍّ .

وَبِيَعٌ: أي: كنائِسُ النَّصارى، جَمعُ بِيعَةٍ، ولا يُعرَفُ أصلُ اشتِقاقِها، ولعَلَّها مُعَرَّبةٌ عن لُغةٍ أُخرى، قيل: هي الفارسيةُ .

وَصَلَوَاتٌ: أي: كَنائِسُ اليَهودِ، وهي بالعِبرانيَّةِ صَلُوتَا، وقيل: مواضعُ صلواتٍ، ويُسمَّى موضعُ العبادةِ الصَّلاةَ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ

الَّذِينَ أُخْرِجُوا: الَّذِينَ في محلِّ جرٍّ نعتٌ للمَوصولِ الأوَّلِ في قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ، أو بدلٌ منه. ويجوزُ أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على المَدحِ، وأن يكونَ في محلِّ رفعٍ على إضمارِ مُبتدأٍ.

إِلَّا أَنْ يَقُولُوا المصدَرُ المؤوَّلُ مَنصوبٌ على الاستثناءِ المُنقَطِعِ، وهذا ممَّا يُجْمِعُ العربُ على نصبِه؛ لأنَّه مُنقَطِعٌ لا يمكنُ تَوَجُّهُ العاملِ إليه؛ لأنَّك لو قلتَ: (الذين أُخْرِجوا مِنْ ديارِهم إلَّا أَنْ يقولوا ربُّنا اللهُ) لم يَصحَّ. وقيل: إنَّ الاستثناءَ مُتَّصِلٌ مِن عُمومِ الحَقِّ، فـ أَنْ يَقُولُوا في مَوْضِع جَرٍّ على البَدَلِ مِن حَقٍّ؛ لِما في (غَيْرِ) من معنى النَّفي، والمعنى: أُخرِجُوا بلا حَقٍّ إلَّا بِقَولِهم رَبُّنا اللهُ، أي: أُخرِجوا بغيرِ مُوجِبٍ سِوى التَّوحيدِ الذي ينبغي أن يكونَ مُوجِبَ الإقرارِ والتَّمكينِ، لا الإخراجِ والتَّسييرِ. وهذا مِن تأكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّهُ، ويُسمَّى عند أهلِ البَديعِ: تأكيدَ المَدحِ بما يُشبِهُ الذَّمَّ، ومِثلُه قَولُه تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: 59] ، أي: لا تَجِدونَ شَيئًا تَنقِمونَه غيرَ ما ذُكِرَ، وكُلُّ ذلك ليس حقيقًا بأن يُنقَمَ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: إنَّ اللهَ تعالى يَدفَعُ عن المُؤمِنينَ عُدوانَ الكُفَّارِ، وكَيدَ الأشرارِ؛ لأنَّه عَزَّ وجَلَّ لا يُحِبُّ كُلَّ خوَّانٍ لأمانةِ رَبِّه، جَحودٍ لنِعمَتِه.

أَذِنَ اللهُ للمُسلِمينَ في القِتالِ؛ بسَبَبِ ما وقَعَ عليهم مِن الظُّلْمِ والعُدوانِ، وإنَّ اللهَ تعالى قادِرٌ على نَصرِهم، وإذلالِ عَدوِّهم؛ الذين أخرَجَهم الكُفَّارُ ظُلمًا مِن ديارِهم، لا لِشَيءٍ فَعَلوه إلَّا لأنَّهم أسلَموا وقالوا: ربُّنا اللهُ وَحْدَه. ولولا ما شَرَعَه اللهُ مِن دَفْعِ المُشرِكينَ بالمُجاهِدينَ بتشريع الجهادِ، لَخُرِّبَت الأرضُ، وهُدِّمَت فيها أماكِنُ العِبادةِ؛ مِن معابدِ الرُّهبانِ، ومعابدِ النَّصارى، ومَعابِدِ اليَهودِ، ومساجِدِ المُسلِمينَ التي يُصَلُّونَ فيها، ويَذكُرونَ اسمَ اللهِ فيها كثيرًا.

ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يجاهِدُ في سَبيلِه؛ لِتَكونَ كَلِمتُه هي العُليا؛ إنَّ اللهَ لَقَويٌّ لا يُغالَبُ، عزيزٌ لا يُرامُ.

الذينَ إنْ مكَّنَّاهم في الأرضِ، واستَخْلَفْناهم فيها، وأظهَرْناهم على عَدُوِّهم؛ أقاموا الصَّلاةَ، وأخرَجوا زكاةَ أموالِهم إلى أهلِها، وأمَروا بالمعروفِ، ونَهَوا عن المنكَرِ، ولله وَحْدَه مَصيرُ الأمورِ كُلِّها.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى جُملةً مِمَّا يُفعَلُ في الحَجِّ، وكان المُشرِكونَ قد صَدُّوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عام الحُدَيبيَةِ، وآذَوا مَن كان بمكَّةَ مِن المُؤمِنينَ- أنزل اللهُ تعالى هذه الآياتِ مُبَشِّرةً المُؤمِنينَ بدَفْعِه تعالى عنهم، ومُشيرةً إلى نَصرِهم، وإذْنِه لهم في القِتالِ، وتَمكينِهم في الأرضِ برَدِّهم إلى ديارِهم، وفَتْحِ مَكَّةَ، وأنَّ عاقبةَ الأمورِ راجِعةٌ إلى اللهِ تعالى

.

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ يَدْفَعُ مِن دَفَع يَدفَعُ، والفِعلُ مِن طَرَفِه وَحْدَه .

2- قراءة يُدَافِعُ مِن دافَع يُدافِعُ، وهو بمعنى دفَعَ، وإن كان مِنَ المُفاعَلةِ، مِثلُ: عاقَبْتُ اللِّصَّ، وعافاه اللهُ. وقيل: على معنى تكَرُّرِ الفِعلِ؛ أي: يدفَعُ مَرَّةً بعدَ مَرَّةٍ .

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا.

أي: إنَّ اللهَ يدْفَعُ شرَّ الكُفَّارِ وكَيدَ المُشرِكينَ عن عبادِه المُؤمِنينَ، فيُنَجِّيهم، ويَحفَظُهم، ويَنصُرُهم .

كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر: 51] .

إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ.

أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مَن يَخونُ أمانَتَه فيَبخَسُ حُقوقَ اللهِ عليه، ويُخالِفُ أمْرَه ونَهْيَه، ويَخونُ حُقوقَ عِبادِه فيَنقُضُ العَهدَ الذي بينه وبينَهم، ويَجحَدُ نِعَمَ اللهِ عليه، ولا يَشكُرُه عليها .

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39).

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ يُقَاتَلُونَ على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه؛ أي: يقاتِلُهم الكُفَّارُ .

2- قراءةُ يُقَاتِلُونَ بإسنادِ الفِعلِ إلى الفاعِلِ؛ أي: هم يُقاتِلون الكفَّارَ الذين بَدؤُوهم بالقتالِ .

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.

أي: أَذِنَ اللهُ للمُؤمِنينَ في قِتالِ الكُفَّارِ الذين يُقاتِلونَهم؛ وذلك بسَبَبِ ظُلمِهم لهم، بمُحارَبتِهم في دِينِهم وأذِيَّتِهم، وإخراجِهم مِن ديارِهم .

وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.

أي: وإنَّ اللهَ على نَصرِ المُؤمِنينَ على أعدائِهم لقدِيرٌ، ولو بغيرِ قِتالٍ .

كما قال الله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4].

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّن الله تعالى أنَّ المؤمنينَ إنما أُذِن لهم في القتالِ لأجْلِ أنَّهم ظُلِموا؛ بيَّن تعالى ظُلمَهم لهم بهذينِ الوجهينِ: أحدُهما: أنَّهم أخرجوهم من ديارِهم، والثاني: أنَّهم أخرجوهم بسبَبِ أنَّهم قالوا: رَبُّنَا اللَّهُ ، فقال:

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ.

أي: الذين أخرَجَهم الكُفَّارُ ظُلمًا مِن دِيارِهم بغيرِ حَقٍّ يُوجِبُ ذلك، وما كان لهم ذَنبٌ يَنقِم عليهم أعداؤُهم بسَبَبِه إلَّا أنَّهم قالوا ربُّنا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له!

كما قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة: 1] .

وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ.

أي: ولولا كَفُّ اللهِ المُشرِكينَ بالمُجاهِدينَ المُوحِّدينَ، وشَرْعُه جهادَهم، لهدَّمَ المُشرِكونَ مَواضِعَ العِبادةِ التي اتُّخِذَت قبْلَ الإسلامِ مِن أتباعِ الأديانِ السَّماويَّةِ قبْلَ تَحريفِها وتَبديلِها، فأذِنَ للمُسلِمينَ بالقِتالِ كما أذِنَ لأُمَمِ التَّوحيدِ مِن قَبلِهم؛ لكيلا يطغَى عليهم المُشرِكونَ، ولولا ذلك لهَدَّموا المعابِدَ الصَّغيرةَ التي للرُّهبانِ .

كما قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251].

وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا.

أي: ولهَدَّمَ المُشرِكونَ معابِدَ كَبيرةً للنَّصارى، وكنائِسَ لليَهودِ، ومساجدَ للمُسلِمينَ، يُذكَرُ فيها اسمُ اللهِ كَثيرًا .

وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.

أي: ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يجاهِدُ في سَبيلِه؛ لِتَكونَ كَلِمتُه هي العُليا .

كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7] .

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.

أي: إنَّ اللهَ لقَوِيٌّ كاملُ القوةِ، عزيزٌ منيعٌ، غالبٌ لا يُغلَبُ ولا يُقهَرُ، ومَن كان القويُّ العزيزُ ناصِرَه، فهو المنصورُ ولو كان هو الأضعَفَ، وعَدُوُّه هو المقهورُ ولو كان هو الأقوى .

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وصَفَ اللهُ سُبحانه نفْسَه بما يقتضي تمكينَ مَنصورِه الذي يَنصُرُه؛ وصَفَهم بما يُبَيِّنُ أنَّ قتالَهم له لا لهم، بعْدَ أن وصَفَهم بأنَّهم أُوذوا بالإخراجِ مِن الدِّيارِ، الذي يعادِلُ القَتلَ، فقال :

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ.

أي: الذين إنْ وَطَّنَّا لهم في البلادِ فقَهَروا المُشرِكينَ، وصارت لهم السُّلطةُ والغَلَبةُ والمُلْكُ، أقاموا الصَّلاةَ بحُدودِها وأركانِها وشُروطِها وواجباتِها، وأعطَوا زكاةَ الأموالِ لِمُستَحقِّيها .

وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ.

أي: وأمَروا النَّاسَ بالإيمانِ وتَوحيدِ اللهِ وطاعتِه، ونَهَوهم عن الكُفرِ والشِّركِ به ومَعصِيتِه .

وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.

أي: وإلى الله وَحْدَه تَرجِعُ أمورُ الخَلقِ، وتَصيرُ إليه سُبحانَه

 

.

كما قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ * كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ * لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آل عمران: 109-111] .

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا هذا إخبارٌ ووَعدٌ وبِشارةٌ مِن اللهِ للذين آمنوا، وكُلُّ مُؤمِنٍ له مِن هذه المدافَعةِ والفَضيلةِ بحَسَبِ إيمانِه، فمُستَقِلٌّ ومُستَكثِرٌ

، فبحَسَبِ إيمانِه يكونُ دِفاعُ اللهِ عنه؛ فإنْ كَمَل إيمانُه كان دَفْعُ اللهِ عنه أتمَّ دَفعٍ، وإنْ مَزَج مُزِجَ له، وإن كان مرَّةً ومرَّةً فاللهُ له مرَّةً ومرَّةً، كما قال بَعضُ السَّلَفِ: مَن أقبَلَ على اللهِ بكُلِّيَّتِه أقبل اللهُ عليه جُملةً، ومن أعرَضَ عن الله بكُلِّيَّتِه أعرضَ اللهُ عنه جملةً، ومن كان مرَّةً ومرَّةً فاللهُ له مرَّةً ومرَّةً .

2- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ فيه إشارةٌ إلى أنَّ مَن أخلَصَ لله، صوَّبَ النَّاسُ إليه سِهامَ مَكرِهم، ولم يَدَعوا في أذاهُ شَيئًا مِن جُهدِهم .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فيه التَّنبيهُ على الشُّكرِ على نِعمةِ النَّصرِ، بأن يأتُوا بما أمَرَ اللهُ به مِن أصولِ الإسلامِ؛ فإنَّ بذلك دوامَ نَصرِهم، وانتِظامَ عَقدِ جماعتِهم، والسَّلامةَ مِن اختلالِ أمرِهم، فإن حادُوا عن ذلك فقد فرَّطوا في ضَمانِ نَصرِهم، وأمْرُهم إلى اللهِ؛ فأمَّا إقامةُ الصَّلاةِ فلِدَلالتِها على القيامِ بالدِّينِ وتجديدٍ لِمَفعولِه في النفوسِ، وأمَّا إيتاءُ الزَّكاةِ فلِيَكونَ أفرادُ الأمَّةِ مُتقاربينَ في نظامِ مَعاشِهم، وأمَّا الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ فلِتَنفيذِ قوانينِ الإسلامِ بين سائِرِ الأمَّةِ مِن تلقاءِ أنفُسِهم .

4- في قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ بيانُ شُروطِ النَّصرِ وأسبابِه، فإذا تمَّت هذه الأسبابُ حَصَل النَّصرُ، أمَّا إذا تخَلَّف واحِدٌ منها فإنَّه يَفوتُ النَّصرُ بقَدرِ ما تخَلَّفَ .

5- في قَولِه تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ دَليلٌ على وُجوبِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ؛ لأنَّ نُصرةَ اللهِ -لا محالةَ- نُصرةُ دينِه؛ إذ هو جلَّ وتعالى قَوِيٌّ عزيزٌ -كما قال- لا يُرامُ، فإنَّما الواجِبُ على أهل دينِه نُصرةُ دينِه الذي شرعَه لهم، ولا وصولَ إليه إلَّا بإيجابِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ؛ إذ لو كانا غيرَ مفترَضينِ لَوَسِعَ القعودُ عنهما، وارتفعتِ المآثِمُ في تضييعِهما مِن أجل أنَّ أحدًا لا يُجبَرُ على عَمَلِ تَطَوُّعٍ، ولا يُحرجُ بتَركِه، وفي ذلك زوالُ النُّصرةِ عن دينِ الله، ودخولُ الوَهَن عليه، وسببُه قعودُ الآمِرينَ بالمعروفِ والنَّاهينَ عن المُنكَرِ عنه، وهم قادِرونَ على التَّغييرِ، فلم يَجُزْ أن يُسَمَّى نهوضُهم إليه تطَوُّعًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا وجهُ المُفاعَلةِ (المُدافَعة): أنَّ الكُفَّارَ يَستعمِلون كُلَّ ما في إمكانِهم لإضرارِهم بالمؤمِنينَ، وإيذائِهم، واللهُ جلَّ وعلا يَدْفَعُ كَيدَهم عن المُؤمنين؛ فكان دَفْعُه جلَّ وعلا لقُوَّةٍ عَظيمةٍ، أهلُها في طُغيانٍ شَديدٍ، يُحاولونَ إلحاقَ الضَّرَرِ بالمُؤمنَينَ، وبهذا الاعتبارِ كان التعبيرُ بالمفاعلةِ في قوله: يُدَافِعُ، وإنْ كان جلَّ وعلا قادرًا على إهلاكِهم، ودفْعِ شَرِّهم عن عِبادِه المُؤمنِينَ

.

2- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (الخَوَّان) و(الكَفور) كِلاهما صِيغةُ مُبالَغةٍ، والمُقرَّرُ في عِلمِ العَربيَّةِ: أنَّ نفْيَ المُبالغةِ في الفِعلِ لا يَستلزمُ نفْيَ أصْلِ الفِعلِ؛ فلو قُلتَ: زيدٌ ليسَ بقَتَّالٍ للرِّجالِ، فقدْ نَفيتَ مُبالَغتَه في قتْلِهم، ولم يَستلزمْ ذلك أنَّه لم يَحصُلْ منه قتْلٌ لبعضِهم، ولكنَّه لم يُبالِغْ في القَتْلِ؛ وعلى هذه القاعدةِ العربيَّةِ المعروفةِ: فإنَّ الآيةَ قدْ صرَّحتْ بأنَّ اللهَ لا يُحبُّ المُبالِغينَ في الكُفرِ والمُبالِغينَ في الخِيانةِ، ولم تَتعرَّضْ لِمَنْ يتَّصِفْ بمُطلَقِ الخِيانةِ ومُطلقِ الكُفرِ مِن غَيرِ مُبالَغةٍ فيهما، ولا شكَّ أنَّ اللهَ يُبغِضُ الخائنَ مُطلقًا، والكافِرَ مُطلقًا، وقدْ أوْضَح -جلَّ وعلا- ذلك في بعضِ المواضِعِ، فقال في الخائِنِ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [الأنفال: 58] ، وقال في الكافِرِ: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 32].

3- قَولُ اللهِ تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فيه سؤالٌ: أنَّ هذه الآيةَ الكَريمةَ تَدُلُّ على أنَّ قِتالَ الكُفَّارِ مَأذونٌ فيه لا واجِبٌ، وقد جاءت آياتٌ تَدُلُّ على وجوبِه؛ كقَولِ الله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] ، وقَولِه تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ؟

الجَوابُ ظاهِرٌ: وهو أنَّه تعالى أَذِنَ فيه أولًا مِن غيرِ إيجابٍ، ثمَّ أوجَبَ بعد ذلك، ويدُلُّ لهذا ما قاله ابنُ عَبَّاسٍ، وعُروةُ بنُ الزُّبَيرِ، وزَيدُ بنُ أسلَمَ، ومُقاتِلُ بنُ حَيَّانَ، وقَتادةُ، ومجاهِدٌ، والضَّحَّاكُ، وغَيرُ واحدٍ -كما نقَلَه عنهم ابنُ كَثيرٍ وغَيرُه- مِن أنَّ آيةَ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ هي أوَّلُ آيةٍ نَزَلت في الجِهادِ، والعِلمُ عندَ اللهِ تعالى .

4- إنَّ اللهَ تبارك وتعالى لعِظَمِ حِكمتِه في التَّشريعِ إذا أراد أن يُشَرِّعَ أمرًا شاقًّا على النُّفوسِ كان تَشريعُه على سبيلِ التَّدريجِ؛ لأنَّ إلزامَه بَغتةً في وقتٍ واحدٍ مِن غيرِ تدريجٍ: فيه مشقَّةٌ عظيمةٌ على الذين كُلِّفوا به. قالوا: فمِن ذلك الجِهادُ؛ فإنَّه أمرٌ شاقٌّ على النُّفوسِ؛ لِما فيه من تعريضِها لأسبابِ الموتِ، ومع تعريضِ النُّفوسِ فيه لأعظَمِ أسبابِ الموتِ فإنَّه يُنفَقُ فيه المالُ أيضًا، كما قال تعالى: وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] ، قالوا: ولَمَّا كان الجِهادُ فيه هذا مِن المشَقَّةِ، وأراد اللهُ تَشريعَه، شَرَعه تدريجًا، فأذِنَ فيه أوَّلًا مِن غيرِ إيجابٍ، بقَولِه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا الآية [الحج: 39] ، ثمَّ لَمَّا استأنَسَت به نفوسُهم بسَبَبِ الإذنِ فيه أوجب عليهم قتالَ مَن قاتَلَهم دونَ مَن لم يُقاتِلْهم، بقَولِه: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا [البقرة: 190] ، وهذا تدريجٌ مِن الإذنِ إلى نوعٍ خاصٍّ مِن الإيجابِ، ثمَّ لَمَّا استأنَسَت نفوسُهم بإيجابِه في الجُملةِ أوجَبَه عليهم إيجابًا عامًّا جازِمًا في آياتٍ مِن كِتابِه؛ كقَولِه تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة: 5] ، وقَولِه تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] ، وقَولِه تعالى: تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16] ... إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ .

5- قولُه تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ يُشيرُ إلى مَعنيَينِ:

أحدُهما: أنَّ فيه الإشارةَ إلى وعْدِه للنبيِّ وأصحابِه بالنَّصرِ على أعدائِهم، كما قال قَبْلَه قريبًا: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا [الحج: 38] .

والمعنى الثاني: أنَّ اللهَ قادِرٌ على أنْ يَنصُرَ المُسلِمينَ على الكافِرينَ مِن غَيرِ قِتالٍ؛ لقُدرتِه على إهلاكِهم بما شاءَ، ونُصرةِ المُسلِمينَ عليهم بإهلاكِه إيَّاهم، ولكنَّه شرَع الجِهادَ لحِكَمٍ؛ منها: اختبارُ الصادِقِ في إيمانِه، وغيرِ الصادِقِ فيه. ومنها: تَسهيلُ نَيلِ فَضلِ الشَّهادةِ في سَبيلِ اللهِ بقَتْلِ الكُفَّارِ لشُهداءِ المُسلِمينَ، ولولا ذلك لَمَا حصَّلَ أحدٌ فضْلَ الشهادةِ في سَبيلِ اللهِ، إلى غيرِ ذلك .

6- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ يدُلُّ على حِكمةِ الجِهادِ، وأنَّ المَقصودَ منه إقامةُ دِينِ اللهِ، وذَبُّ الكُفَّارِ المُؤذِينَ للمُؤمِنينَ، البادِئينَ لهم بالاعتِداءِ، عن ظُلمِهم واعتِدائِهم- والتمَكُّنُ مِن عِبادةِ الله، وإقامةُ الشَّرائعِ الظَّاهِرةِ .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ فيه تَحريضٌ على القِتالِ المأذونِ فيه قَبْلُ، وأنَّه تعالى أجرى العادةَ بذلك في الأُمَمِ الماضيةِ، بأن ينتَظِمَ به الأمرُ، وتَقومَ الشَّرائِعُ، وتُصانَ المتعَبَّداتُ مِنَ الهَدمِ، وأهلُها مِن القَتلِ والشَّتاتِ .

8- قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا فلولا مُدافَعةُ اللهِ النَّاسَ بَعضَهم ببَعضٍ بأسبابٍ مُتعدِّدةٍ، وطُرُقٍ مُتنَوِّعةٍ قَدَريَّةٍ وشَرعيَّةٍ، وأعظَمُها وأجَلُّها وأزكاها الجِهادُ في سَبيلِه- لاستولى الكُفَّارُ الظَّالِمون، ومَحَقوا أديانَ الرُّسُلِ، فقَتَلوا المؤمِنينَ بهم، وهَدَّموا مَعابِدَهم، ولكِنَّ ألطافَ اللهِ عظيمةٌ، وأياديَه جَسيمةٌ، وبهذا وشِبْهِه يُعرَفُ حِكمةُ الجِهادِ الدِّينيِّ، وأنَّه مِن الضَّروريَّاتِ، لا كقِتالِ الظَّلَمةِ المبنيِّ على العَداواتِ والجَشَعِ، والظُّلمِ والاستِعبادِ للخَلْقِ، بل الجِهادُ الإسلاميُّ مَرماه وغَرَضُه الوحيدُ إقامةُ العَدلِ، وحُصولُ الرَّحمةِ، واستِعبادُ الخَلقِ لخالِقِهم، وأداءُ الحُقوقِ كُلِّها، ونَصرُ المظلومينَ، وقَمعُ الظَّالِمين، ونَشرُ الصَّلاحِ والإصلاحِ المُطلَقِ بكُلِّ وَجهٍ واعتِبارٍ، وهو مِن أعظَمِ محاسِنِ دينِ الإسلامِ .

9- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا دَلالةٌ على أنَّ مِن الفَسادِ في الأرضِ هَدْمَ بيوتِ العبادةِ؛ لقوله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [البقرة: 251] ، فما في آيةِ (الحجِّ) هنا تفسيرٌ لقولِه تعالى في سورةِ (البقرة): لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ؛ أو هو ذكرٌ لنوعٍ مِن الفسادِ . وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ هذه المواضعَ المذكورةَ لا يجوزُ أن تُهْدَمَ على مَن كانَ له ذِمَّةٌ أو عهدٌ مِن الكفَّارِ .

10- قولُه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ لقائلٍ أنْ يقولَ: أيُّ مِنَّةٍ على المؤمنينَ في حِفظِ الصَّوامعِ والبِيَعِ والصَّلَوَاتِ عن الهَدْمِ، حتَّى امتنَّ عليهم بذلك؟!

فالجواب: المِنَّةُ عليهم فيها أنَّ الصَّوامعَ والبِيَعَ في حَرسهِم وحِفظهم؛ لأنَّ أهلَهما مُحترَمون. أو المرادُ لهدِّمتْ صوامعُ وبِيعٌ في زَمَن عيسى عليه السَّلام، وكَنائِسُ في زمَن موسى عليه السَّلام، ومَساجِدُ في زَمنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فالامتنانُ على أهلِ الأديانِ الثلاثةِ، لا على المؤمنين خاصَّةً .

11- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا فلولَا دفْعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببَعضٍ، لاسْتولَى الكُفَّارُ على المُسلِمينَ، فخرَّبوا مَعابِدَهم، وفَتنوهم عن دِينِهم؛ فدلَّ هذا على أنَّ مما شُرعِ له الجِهادُ دَفْعَ الصائِلِ والمُؤذِي، ودَلَّ ذلك على أنَّ البُلدانَ التي حَصَلتْ فيها الطُّمأنينةُ بعِبادةِ الله، وعَمَرتْ مَساجِدُها، وأُقيِمَت فيها شَعائِرُ الدينِ كُلُّها؛ مِن فَضائِلِ المجاهِدينَ، وببَركتِهم دَفَعَ اللهُ عنها الكافِرينَ .

12- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا لم يَذكُرْ بُيوتَ الشِّركِ، كبُيوتِ الأصنامِ والمَشاهِدِ، ولا ذكَرَ بُيوتَ النَّارِ؛ لأنَّ الصَّوامِعَ والبِيَعَ لأهلِ الكتابِ، فالممدوحُ من ذلك ما كان مبنيًّا قبل النَّسخِ والتَّبديلِ، كما أثنى على اليَهودِ والنَّصارى والصَّابِئينَ الذين كانوا قبْلَ النَّسخِ والتَّبديلِ يُؤمِنونَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ ويَعمَلونَ صالِحًا، بخلافِ بُيوتِ الأصنامِ وبُيوتِ النَّارِ، وبُيوتِ الصَّابئةِ المُشرِكينَ .

13- الجِهادُ أمرٌ مُتقَدِّمٌ في الأُمَمِ، وبه صَلَحَت الشَّرائِعُ، واجتَمَعت المتعَبَّداتُ؛ قال الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ .

14- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فيه تَرغيبٌ في الجهادِ مِن حَيثُ وَعَدَهم النَّصرَ .

15- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فيه أخذُ العَهدِ على مَن مكَّنَه اللهُ أن يَفعَلَ ما رُتِّبَ على التَّمكينِ في الآيةِ .

16- في قَولِه تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ دلالةٌ على أنَّ إقامةَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ مِن أسبابِ النَّصرِ .

17- الحُكمُ بغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ مِن أعظَمِ أسبابِ تَغييرِ الدُّوَلِ، ومَن أراد اللهُ سَعادتَه جعَلَه يَعتَبِرُ بما أصاب غَيرَه، فيَسلُكُ مَسلَكَ مَن أيَّدَه اللهُ ونصَرَه، ويجتَنِبُ مَسلَكَ مَن خذَلَه اللهُ وأهانَه؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ في كتابه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، فقد وعَدَ اللهُ بنَصرِ مَن يَنصُرُه، ونَصْرُه هو نَصرُ كِتابِه ودِينِه ورَسولِه، لا نَصرُ مَن يَحكُمُ بغَيرِ ما أنزَلَ اللهُ، ويتكَلَّمُ بما لا يعلَمُ .

18- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ ...  دَليلٌ على أنَّه لا وَعْدَ مِن اللهِ بالنَّصرِ إلَّا مع إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ؛ فالذين يُمكِّنُ اللهُ لهم في الأرضِ ويَجعَلُ الكَلِمةَ فيها والسُّلطانَ لهم، ومع ذلك لا يُقيمونَ الصَّلاةَ ولا يُؤتُونَ الزَّكاةَ، ولا يأمُرونَ بالمَعروفِ ولا يَنهَونَ عن المُنكَرِ- فليس لهم وَعدٌ مِنَ اللهِ بالنَّصرِ؛ لأنَّهم ليسوا مِن حِزبِه، ولا مِن أوليائِه الذين وعَدَهم بالنَّصرِ، بل هم حِزبُ الشَّيطانِ وأولياؤُه !

19- قال الله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ هذه الآياتُ تدُلُّ على صِحَّةِ خِلافةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ؛ لأنَّ اللهَ نَصَرَهم على أعدائِهم، لأنَّهم نَصَروه فأقاموا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ، وأمَروا بالمعروفِ ونَهَوا عن المُنكَرِ، وقد مَكَّنَ لهم واستخلَفَهم في الأرضِ، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الآيةَ [النور: 55] ، والحَقُّ أنَّ الآياتِ المذكورةَ تَشمَلُ أصحابَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُلَّ مَن قام بنُصرةِ دِينِ اللهِ على الوَجهِ الأكمَلِ .

20- قال تعالى: وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ جَمَعتِ الآيةُ بينَ الأمْرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ -مع أنَّ كلًّا منهما آيلٌ إلى الآخَرِ- باعتبارِ أوَّلِ ما تَتوجَّهُ إليه نُفوسُ النَّاسِ عندَ مُشاهدَةِ الأعمالِ، ولِتَكونَ مَعرفةُ المعروفِ دَليلًا على إنكارِ المُنكَرِ وبالعكسِ؛ إذ بضِدِّها تَتمايَزُ الأشياءُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا استئنافٌ بَيانيٌّ، جوابًا لسُؤالٍ يَخطُرُ في نُفوسِ المُؤمنينَ، ينشَأُ مِن قولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الآيةَ. والكلامُ مُوجَّهٌ إلى المُؤمنينَ؛ ولذلك فافتِتاحُه بحَرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ) إمَّا لمُجرَّدِ تَحقيقِ الخبرِ، وإمَّا لِتَنزيلِ غيرِ المُتردِّدِ مَنزِلةَ المُتردِّدِ؛ لشِدَّةِ انتظارِهم النَّصرَ واستبطائِهم إيَّاهُ، والتَّعبيرُ بالموصولِ الَّذِينَ آَمَنُوا؛ لِمَا فيه مِن الإيماءِ إلى وَجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وأنَّ دِفاعَ اللهِ عنهم لأجْلِ إيمانِهم

.

- وفي قولِه: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا لم يَذكُرْ تعالى ما يَدفَعُه عنهم؛ لِيَكونَ أفخَمَ وأعظَمَ وأعمَّ . أو حُذِفَ مَفعولُ يُدَافِعُ؛ لدَلالةِ المَقامِ، أي: يُدافِعُ الكافرينَ الخائنينَ .

- وصِيغةُ المُفاعَلةِ يُدَافِعُ إمَّا للمُبالَغةِ، أو الدَّلالةِ على تَكرُّرِ الدَّفعِ؛ فإنَّها قد تُجرَّدُ عن وُقوعِ الفِعْلِ المُتكرِّرِ مِن الجانبَينِ؛ فيَبْقَى تَكرُّرُه كما في المُمارَسةِ، أي: يُبالِغُ في دَفْعِ غائلةِ المُشركينَ وضَرَرِهم الَّذي مِن جُملَتِه الصَّدُّ عَن سَبِيلِ اللهِ مُبالَغةَ مَن يُغالبُ فيه، أو يَدفَعُها عنهم مَرَّةً بعْدَ أُخرَى حسبما تَجدَّدَ منهم القصْدُ إلى الإضرارِ بالمُسلمينَ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ تَعليلٌ لِمَا في ضِمْنِ الوعدِ الكريمِ من الوعيدِ للمُشركينَ، وإيذانٌ بأنَّ دَفْعَهم بطَريقِ القَهْرِ والخِزْيِ .

- وأفادتْ (كل) في سِياقِ النَّفْيِ عُمومَ نَفْيِ مَحبَّةِ اللهِ عن جَميعِ الكافرينَ .

- وصِيغَةُ المُبالَغةِ في خَوَّانٍ كَفُورٍ؛ لبَيانِ أنَّهم كذلك، لا لتَقييدِ البُغْضِ بغايةِ الخِيانةِ والكُفْرِ، أو للمُبالَغةِ في نَفْيِ المَحبَّةِ على اعتبارِ النَّفْيِ أوَّلًا، وإيرادِ معنى المُبالَغةِ ثانيًا .

وقيل: أَتى بالصِّفتَينِ على صيغة المُبالغةِ؛ لأنَّ نقائصَ الإنسانِ لا يُمكِنُه أنْ يَفعلَها خاليةً عن المبالَغةِ؛ لأنَّه يَخونُ نفْسَه بالعَزمِ أوَّلًا، والفِعلِ ثانيًا، وغَيْرَه مِنَ الخَلْقِ ثالثًا، وكذا يَخون ربَّه سُبحانَه، وهكذا في الكُفرِ وغَيرِه، ولَمَّا كانت الخيانةُ مَنبَعَ النَّقائصِ، كانت المبالَغةُ فيها أَكثَرَ .

2- قولُه تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ فالمأْذونُ فيه مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ المذكورِ عليه؛ فإنَّ مُقاتَلةَ المُشركينَ إيَّاهُم دَالَّةٌ على مُقاتلَتِهم إيَّاهم دَلالةً نَيِّرةً .

- قولُه: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وَعْدٌ لهم بالنَّصرِ، وتأْكيدٌ لِمَا مَرَّ من العِدَةِ الكريمةِ بالدَّفعِ، وتَصريحٌ بأنَّ المُرادَ به ليس مُجرَّدَ تَخليصِهم مِن أيدي المُشركينَ، بل تَغليبُهم وإظْهارُهم عليهم. والإخبارُ بقُدرتِه تعالى على نَصْرِهم واردٌ على سَننِ الكِبرياءِ، وتأْكيدُه بكلمةِ التَّحقيقِ (إنَّ) واللَّامِ في لَقَدِيرٌ؛ لِمَزيدِ تَحقيقِ مَضمونِه، وزِيادةِ تَوطينِ نُفوسِ المُؤمنينَ، أو تَعريضٌ بتَنزيلِهم مَنزِلةَ المُتردِّدِ في ذلك؛ لأنَّهم استبْطَؤوا النَّصرَ . وأصْلُ الكلامِ: (قاتِلوا الَّذين ظَلَموكم، وإنيِّ أنصُرُكم الْبَتَّةَ)؛ فعُدِلَ إلى لفْظِ العَظمةِ والكِبْرياءِ بقولِه: أُذِنَ؛ لِمَا عُلِمَ أنَّ الآذِنَ في مِثْلِ هذا الخِطابِ مَن هو. وقيل في جانبِ المَظلومِ: لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ، كأنَّه لا يُرِيدُ المُخاطَبينَ، يعني: لِمَن هذا شأْنُه وعادتُه .

3- قَولُه تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

- قولُه: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ الاستثناءُ فيه مُنْقطِعٌ، بمعنى: لكنْ أُخْرِجوا بقولِهم: ربُّنا اللهُ. أو هو مِن بابِ تَعقيبِ المَدْحِ بما يُشْبِهُ الذَّمَّ؛ فيُسْتفادُ مِن ذلك تأْكيدُ عدَمِ الحقِّ عليهم بسبَبِ استِقراءِ ما قد يُتخيَّلُ أنَّه حَقٌّ عليهم. وهذا مِن تأْكيدِ الشَّيءِ بما يُوهِمُ نَقْضَه .

- قولُه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ اعتراضٌ بين جُملةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج: 39] إلخ، وبينَ قولِه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ... [الحج: 41] إلخ؛ فالواوُ في قولِه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ... اعتراضيَّةٌ، وتُسمَّى واوَ الاستئنافِ، ومُفادُ هذه الجُملةِ: تَعليلُ مَضمونِ جُملةِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ إلخ؛ فتكونُ هذه الجُملةُ تَذييلًا لجُملةِ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ .

- قولُه: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ... ذِكْرُ الصَّوامعِ والبِيَعِ إدماجٌ ؛ لِيَنْتَبِهوا إلى تأْييدِ المُسلمينَ؛ فالتَّعريفُ في (النَّاس) تَعريفُ العهْدِ، أي: النَّاسَ الَّذين يَتقاتلونَ، وهم المُسلمونَ ومُشرِكو أهْلِ مكَّةَ. ويجوزُ أنْ يكونَ المُرادُ: لولا ما سبَقَ قبْلَ الإسلامِ مِن إذْنِ اللهِ لِأُمَمِ التَّوحيدِ بقِتالِ أهْلِ الشِّركِ، لَمَحَقَ المُشرِكونَ معالِمَ التَّوحيدِ؛ فتكونَ هذه الجُملةُ تَذييلًا لجُملةِ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 39] ، أي: أُذِنَ للمُسلمينَ بالقِتالِ كما أُذِنَ لِأُمَمٍ قبْلَهم؛ لكَيْلا يَطْغى عليهم المُشرِكون كما طَغَوا على مَن قبْلَهم حين لم يأذَنِ اللهُ لهم بالقتالِ؛ فالتَّعريفُ في (النَّاس) تَعريفُ الجِنْسِ .

- قولُه: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا لمَّا كانتِ المواضِعُ كثيرةً ناسَبَ مَجِيءُ التَّضعيفِ لَهُدِّمَتْ؛ لكَثرةِ المواضِعِ؛ فتَكرَّرَ الهَدْمُ لتَكثيرِها، والأظهَرُ أنَّه قُصِدَ بها المُبالَغةُ في ذِكْرِ المُتعبَّداتِ . أو للمُبالَغةِ في الهَدْمِ، أي: لَهُدِّمَت هَدْمًا ناشِئًا عن غَيظٍ بحيث لا يُبْقُون لها أثَرًا .

- وفيه تَرتيبٌ حَسنٌ؛ حيث قُدِّمَ الصَّوامِعُ في الذِّكْرِ على ما بعْدَه؛ لأنَّ صَوامِعَ الرُّهبانِ كانت أكثَرَ في بلادِ العرَبِ مِن غَيرِها، وكانت أشهَرَ عنْدَهم؛ لأنَّهم كانوا يَهْتَدون بأضوائِها في أسفارِهم، ويأْوونَ إليها، وتَعقيبُها بذِكْرِ البِيَعِ للمُناسَبةِ؛ إذ هي مَعابِدُ النَّصارى مِثْلُ الصَّوامعِ. وأمَّا ذِكْرُ الصَّلواتِ بعْدَهما؛ فلأنَّه قد تهيَّأَ المَقامُ لذِكْرِها. وتأْخيرُ المساجِدِ: إمَّا لأجْلِ قِدَمِ تلك وحُدوثِ هذه، وإمَّا لانتقالٍ مِن شَريفٍ إلى أشرَفَ، وإمَّا لأنَّها أعَمُّ، وشأْنُ العُمومِ أنْ يُعَقَّبُ به الخُصوصُ؛ إكْمالًا للفائدةِ .

- قولُه: وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا خُصَّتِ المساجِدُ بالصِّفةِ المادحةِ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا؛ دَلالةً على فَضْلِها وفَضْلِ أهْلِها ، وهذا على القولِ بأنَّ الضميرَ في فِيهَا يرجِعُ إلى (مَسَاجِدُ).

- قولُه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ فيه تأكيدٌ لِمَا وعَدَهُ مِن إظهارِ أوليائِه وإعلاءِ كَلِمَتِهم ؛ حيث أُكِّدَ بلامِ القَسَمِ ونُونِ التَّوكيدِ في وَلَيَنْصُرَنَّ. وهذه الجُملةُ تَذييلٌ؛ لِمَا فيها مِن العُمومِ الشَّاملِ للمُسلمينَ الَّذين أخرَجَهم المُشرِكون .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعليلٌ لجُملةِ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، أي: كان نَصْرُهم مَضْمونًا؛ لأنَّ ناصِرَهم قَديرٌ على ذلك بالقُوَّةِ والعِزَّةِ .

4- قَولُه تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ

- قولُه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ بَدلٌ مِن الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وما بَينهما اعتراضٌ؛ فالمُرادُ مِن الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الحج: 41] : المهاجِرونَ. ويجوزُ أنْ يكونَ بَدلًا مِن (مَن) الموصولةِ في قولِه: مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج: 40] ؛ فيكون المُرادُ: كلَّ مَن نَصَرَ الدِّينَ مِن أجيالِ المُسلمينَ، أي: مكَّنَّاهم بالنَّصرِ الموعودِ به إنْ نَصَروا دِينَ اللهِ. وعلى الاحتمالينِ فالكلامُ مَسوقٌ للتَّنبيهِ على الشُّكرِ على نِعمةِ النَّصرِ بأنْ يأْتوا بما أمَرَ اللهُ به مِن أُصولِ الإسلامِ؛ فإنَّ بذلك دوامَ نَصْرِهم .

- قولُه: وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ تَقديمُ المجرورِ هنا؛ للاهتمامِ، والتَّنبيهِ على أنَّ ما هو للهِ فهو يُصرِّفُه كيف يشاءُ. وفيه: تأْنيسٌ للمُهاجرينَ؛ لِئلَّا يَسْتبطِئوا النَّصرَ . وفيه كذلك: تأكيدٌ لِمَا وعَدَه سبحانه مِن إظهارِ أوليائِه، وإعلاءِ كَلِمَتِهم .

=======

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (42-45)

ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ

غريب الكلمات:

 

فَأَمْلَيْتُ: أي: أمهَلْتُ وأطَلْتُ لهم المُدَّةَ، وأصلُ الإملاءِ: يدُلُّ على امتِدادِ زَمانٍ أو غَيرِه

.

نَكِيرِ: أي: نَكالي وعِقابي وانتِصاري لرُسُلي، وأصلُ (نكر): يدُلُّ على خِلافِ المعرفةِ .

خَاوِيَةٌ: أي: خاليةٌ ساقِطةٌ، وأصلُ (خوي): يدُلُّ على الخُلوِّ والسُّقوطِ .

عُرُوشِهَا: أي: سُقوفِها، وأصلُ (عرش): يدُلُّ على الارتِفاعِ في شَيءٍ مَبنيٍّ .

مُعَطَّلَةٍ: أي: مَتروكةٍ على هيئَتِها، وأصلُ (عطل): يدُلُّ على خُلوٍّ وفَراغٍ .

مَشِيدٍ: أي: مُطَوَّلٍ مُرتَفِعٍ؛ مِن قَولِهم: شاد بناءَه: إذا رفَعَه. وقيل: مُجَصَّص؛ مِنَ الشِّيدِ، وهو الْجِصُّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: وإنْ يكَذِّبْك قَومُك -يا مُحمَّدُ- فقد كَذَّب مِن قَبلِهم قَومُ نُوحٍ، وعادٌ، وثمودُ، وقَومُ إبراهيمَ، وقَومُ لُوطٍ، وأصحابُ «مَدْينَ» الذين كذَّبوا شُعَيبًا، وكذَّب فِرعَونُ وقَومُه موسى، فأمهَلْتُ هؤلاء الكافرينَ ثمَّ أخَذْتُهم بالعَذابِ، فكيف كانت مُعاقَبتي لهم؟

فكثيرٌ مِن القُرى الظَّالِمةِ بكُفرِها أهلَكْنا أهلَها؛ فديارُهم مُهَدَّمةٌ خَلَتْ مِن سُكَّانِها، وآبارُها مُعطَّلةٌ لا يُستَقى منها، وقُصورُها العاليةُ المُزَخرفةُ خَلَت مِن سُكَّانِها ولم تدفَعْ عن أهلِها سُوءَ العَذابِ!

تفسير الآيات :

 

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى -فيما تقَدَّمَ- إخراجَ الكُفَّارِ المؤمِنينَ مِن ديارِهم بغَيرِ حَقٍّ، وأذِنَ في مُقاتَلتِهم، وضَمِنَ للرَّسولِ والمُؤمِنينَ النُّصرةَ، وبيَّنَ أنَّ لله عاقِبةَ الأمورِ- أردَفَه بما يجري مَجرى التَّسليةِ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّبرِ على ما هم عليه مِن أذيَّتِه وأذيَّةِ المُؤمِنينَ بالتَّكذيبِ وغَيرِه

.

وأيضًا لَمَّا نعَى اللهُ تعالى على المشركينَ مَساويَهم في شؤونِ الدينِ بإشراكِهم، وإنكارِهم البعثَ، وصَدِّهم عن الإسلامِ وعن المسجِدِ الحرامِ، وما ناسب ذلك في غرَضِه مِن إخراجِ أهلِه منه- عطَفَ هنا إلى ضلالِهم بتكذيبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقصدَ مِن ذلك تسليةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتمثيلَهم بأمثالِ الأمَمِ التي استأصلها اللهُ، وتهديدَهم بالمصيرِ إلى مصيرِهم .

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42).

أي: وإن يُكذِّبْك -يا مُحَمَّدُ- قَومُك المُشرِكونَ على ما جِئْتَهم به مِنَ الحَقِّ، فذلك سنَّةُ إخوانِهم مِن الأُمَمِ الخاليةِ المكذِّبةِ لرُسُلِ اللهِ، ولستَ بأوَّلِ رَسولٍ كُذِّبَ؛ فقد كذَّبَت قَبلَ قَومِك قومُ نوحٍ، وعادٌ: قومُ هودٍ، وثمودُ: قومُ صالحٍ .

كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] .

وقال سُبحانَه: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123] .

وقال تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 141] .

وقال عز وجل: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] .

وقال عز مِنْ قائل: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 12-14] .

وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43).

أي: وكذَّب قَبلَ قَومِك -يا مُحَمَّدُ- قومُ إبراهيمَ، وقومُ لوطٍ .

كما قال تعالى: وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ [الأنعام: 80] .

وقال سُبحانَه: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 160] .

وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44).

وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ.

أي: وكذَّب قومُ شُعَيبٍ .

كما قال تعالى: كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 176] .

وَكُذِّبَ مُوسَى.

أي: وكذَّب فِرعَونُ وقَومُه رسولَهم مُوسى .

كما قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 41-42].

وقال سُبحانَه: وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [الحاقة: 9-10] .

فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ.

أي: فأمهَلْتُ الكافِرينَ فلمْ أُعاجِلْهم بالعُقوبةِ لَمَّا كَذَّبوا رسُلَهم، ثمَّ أخَذْتُهم بالعذابِ في الوقتِ المحدَّدِ لإهلاكِهم .

كما قال تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [الرعد: 32] .

وقال عزَّ وجلَّ: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40] .

وعن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملِي للظَّالِمِ حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه. قال: ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] )) .

فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ.

أي: فانظُرْ -يا مُحَمَّدُ- كيف كانت مُعاقَبتي لهم؟ فلْيَعتَبِرْ بذلك هؤلاء المكَذِّبونَ مِن قَومِك أن يُصيبَهم ما أصاب أولئكَ؛ فإنَّهم ليسوا خَيرًا منهم !

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى حالَ قَومٍ مِنَ المُكَذِّبينَ، وأنَّه عجَّلَ إهلاكَهم؛ أتبَعَه بما دلَّ على أنَّ لذلك أمثالًا، وإن لم يُذكَرْ مُفَصَّلًا .

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا.

أي: فكثيرٌ مِنَ القُرى أهلَكْنا أهلَها بالعَذابِ الشَّديدِ؛ بسَبَبِ ظُلمِهم، فصارت بيوتُهم مُهَدَّمةً قد سقَطَت جُدرانُها فَوقَ سُقوفِها .

وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ.

أي: وكثيرٌ مِن الآبارِ الصَّالِحةِ للانتِفاعِ عَطَّلْناها بإهلاكِ أهلِها ووارِدِيها، فلا يُستقَى منها مع بقاءِ بِنائِها وفَوَرانِ مائِها! وكثيرٌ مِن القُصورِ العاليةِ المجصَّصةِ المَنيعةِ المُحكَمةِ خَلت من سُكَّانِها بعد هَلاكِهم، فغَدَت مُوحِشةً، بعد أن كانت بأهلِها عامِرةً ومُؤنسةً

 

!

كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق: 8-9] .

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى دَلالةٌ على أنَّ المُغتَمَّ بالشَّيءِ قد يتسَلَّى بأنْ يكونَ له في مُصيبتِه شَريكٌ، ألا ترى إلى اللهِ جَلَّ جَلالُه كيف عَزَّى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمُشاركةِ مَن مضى قَبْلَه مِن الأنبياءِ في تكذيبِ قَومِهم إيَّاهم، واحتِمالِ مَضَضِه وأذاهم؛ فدَلَّ على أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغَيرَه من الأنبياءِ صَلواتُ اللهِ عليهم كانوا يغتَمُّونَ مِن تَكذيبِ قَومِهم إيَّاهم

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ مُناسَبةُ اختيارِ النَّكيرِ في هذه الآيةِ دُونَ العَذابِ ونَحوِه: أنَّه وقع بعد التَّنويهِ بالنَّهيِ عن المُنكَرِ؛ ليُنَبِّهَ المُسلِمينَ على أن يَبذُلوا في تَغييرِ المُنكَرِ مُنتَهى استِطاعتِهم؛ فإنَّ الله عاقَبَ على المُنكَرِ بأشَدِّ العِقابِ، فعلى المؤمنينَ الائتِساءُ بصُنعِ اللهِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ مُناسَبةُ عَدِّ قَومِ إبراهيمَ هنا في عدادِ الأقوامِ الَّذين أخَذَهم اللهُ دونَ الآياتِ الأُخرى الَّتي ذُكِرَ فيها مَن أُخِذُوا مِن الأقوامِ: أنَّ قَومَ إبراهيمَ أتَمُّ شَبَهًا بمُشركي قُريشٍ في أنَّهم كَذَّبوا رَسولَهم وآذَوهُ، وألْجؤوهُ إلى الخُروجِ مِن مَوطنِه وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] ؛ فكان ذِكْرُ إلْجاءِ قُريشٍ المُؤمِنينَ إلى الخُروجِ مِن مَوطنِهم في قولِه: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج: 40] مُناسَبةً لذِكْرِ قَومِ إبراهيمَ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَكُذِّبَ مُوسَى فيه سُؤالٌ: لِمَ قال: وَكُذِّبَ مُوسَى، ولم يَقُلْ: (قَومُ موسى) عَطفًا على قَوْمُ نُوحٍ؟

الجوابُ مِن أوجهٍ:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ مُوسى عليه السَّلامُ ما كَذَّبَه قَومُه بنو إسرائيلَ، وإنَّما كذَّبَه غَيرُ قَومِه، وهم القِبطُ.

الوجهُ الثَّاني: أنَّ الإبهامَ في بناءِ الفِعلِ للمَفعولِ؛ للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ، أي: وكُذِّبَ مُوسى أيضًا، مع وُضوحِ آياتِه، وعِظَمِ مُعجِزاتِه، فما ظَنُّك بغَيرِه ؟! للإيذانِ بأنَّ تكذيبَهم له كان في غَايةِ الشَّناعةِ؛ لكونِ آياتِه في كَمالِ الوُضوحِ؛ فتَكذيبُه كان أشنَعَ، وآياتُه كانت أعظَمَ.

الوجهُ الثالثُ: أنَّه لمَّا صَدَّرَ الكلامَ بحِكايةِ تَكذيبِهم، ثمَّ عدَّدَ أصنافَ المُكذِّبينَ وطوائفَهم، ولم يَنْتَهِ إلى مُوسى إلَّا بعْدَ طُولِ الكلامِ؛ حسُنَ تَكريرُه؛ لِيَلِيَ قوله: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ، فيَتَّصِل المُسبَّبُ بالسَّببِ .

3- في قوله تعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ دَلالةٌ على أنَّ الإملاءَ للكافرينَ مَكْرٌ بهم واستِدراجٌ، وهو رَدٌّ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فيه سؤالٌ: إن قيلَ: كيف يُوصَفُ ما يُنزِلُه بالكُفَّارِ مِن الهَلاكِ بالعذابِ المُعَجَّلِ بأنَّه نَكيرٌ؟

الجوابُ: إذا كان رادِعًا لغَيرِه، وصادِعًا له عن مِثلِ ما أوجَبَ ذلك، صار نكيرًا .

5- قال الله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ إذا قيل: إنَّ قَولَه تعالى: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يدُلُّ على تهَدُّمِ أبنِيَةِ أهلِها، وسُقوطِها، وقَولَه تعالى: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ يدُلُّ على بقاءِ أبنِيَتِها قائِمةً مَشيدَةً، فكيف الجَمعُ بينهما؟

فالجوابُ: أنَّ قُصورَ القُرى التي أهلَكَها اللهُ، وَقْتَ نُزولِ هذه الآيةِ منها ما هو مُتهَدِّمٌ، كما دَلَّ عليه قَولُه تعالى: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، ومنها ما هو قائِمٌ باقٍ على بنائِه، كما دَلَّ عليه قَولُه تعالى: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، ويدُلُّ على هذا الجَمعِ قولُه جَلَّ وعلا: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [هود: 100] ، فصَرَّحَ في هذه الآيةِ بأنَّ منها قائِمًا، ومنها حَصيدًا؛ فالقائِمُ هو الذي لم يَتهَدَّمْ، والحَصيدُ هو الذي تهَدَّمَ، وتفَرَّقَت أنقاضُه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ تَسليةٌ لرَسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، مُتضمَّنةٌ للوعْدِ الكريمِ بإهلاكِ مَن يُعادِيه مِن الكَفرةِ، وتَعيينٌ لكَيفيَّةِ نَصْرِه تعالى له الموعودِ بقولِه تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ. وعبَّرَ بصِيغَةِ المُضارِعِ في الشَّرطِ يُكَذِّبُوكَ مع تَحقُّقِ التَّكذيبِ؛ لِمَا أنَّ المقصودَ تَسليتُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا يَترتَّبُ على التَّكذيبِ مِن الحُزنِ المُتوقَّعِ

.

- وجَوابُ الشَّرطِ مَحذوفٌ، دَلَّ عليه قولُه: فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...؛ إذِ التَّقديرُ: فلا عجَبَ في تَكذيبِهم، أو فلا غَضاضةَ عليك في تَكذيبِ قَومِك إيَّاك؛ فإنَّ تلك عادةُ أمثالِهم .

2- قَولُه تعالى: وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ

- قولُه: وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ إذِ التَّقديرُ: رُسُلَهم، أي: كذَّبتْ قبلَهم قومُ نوح وعادٌ وثمودُ وأصحابُ مدْينَ رسلَهم ممَّن ذُكِرَ وممن لم يُذكَرْ؛ وإنَّما حُذِفَ لكَمالِ ظُهورِ المُرادِ، أو لأنَّ المُرادَ نفْسُ الفِعْلِ، أي: فعَلَتِ التَّكذيبَ قومُ نُوحٍ... إلى آخِرِه .

- وإنَّما لم يُعبَّرْ عنهم بـ(قَوم شُعيبٍ)، وعُبِّرَ عنهم بقولِه: وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ؛ لئلَّا يَتكرَّرَ لفْظُ (قوم) أكثَرَ مِن ثلاثِ مَرَّاتٍ .

- قولُه: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ، أي: فأمليْتُ لهم؛ فوضَعَ الظَّاهِرَ مَوضِعَ الضَّميرِ؛ لذَمِّهم بالكُفْرِ، والتَّصريحِ بمُكذِّبِي مُوسى عليه السَّلامُ، حيث لم يُذْكَروا فيما قبْلُ صَريحًا، وللإيماءِ إلى أنَّ عِلَّةَ الإملاءِ لهم ثمَّ أَخْذِهم هو الكُفْرُ بالرُّسلِ؛ تَعريضًا بالنِّذارةِ لمُشرِكي قُريشٍ . والأخْذُ كِنايةٌ عن العِقابِ والإهلاكِ .

- والفاءُ في فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ للتَّعقيبِ؛ دَلالةً على أنَّ تَقديرَ هَلاكِهم حاصِلٌ مِن وَقْتِ تَكذيبِهم، وإنَّما أُخِّرَ لهم، وهو تَعقيبٌ مُوزَّعٌ؛ فلكلِّ قَومٍ من هؤلاء تَعقيبُ إملائِه، والأخْذُ حاصِلٌ بعْدَ الإملاءِ بمُهلةٍ؛ فلذلك عُطِفَ فِعْلُه بحَرفِ المُهْلَةِ ثُمَّ .

- والاستفهامُ في قولِه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ استفهامٌ إنْكاريٌّ، معناهُ التَّقريرُ، وهو حمْلُ المُخاطَبِ على الإقرارِ بما يَعرِفُه ويُماري فيه، ويَلْجَأُ إلى المُكابَرةِ والسَّفسطةِ في مُخالَفَتِه . وقيل: استفهامٌ تَعجُّبِيٌّ، أي: فاعْجَبْ مِن نَكِيري كيف حصَلَ. ووَجْهُ التَّعجُّبِ منه: أنَّهم أُبْدِلوا بالنِّعمةِ مِحْنةً، وبالحياةِ هَلاكًا، وبالعمارةِ خَرابًا؛ فهو عِبرةٌ لغَيرِهم. وعُطِفَتْ جُملةُ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ بالفاءِ؛ لأنَّ حَقَّ ذلك الاستفهامِ أنْ يَحصُلَ عندَ ذِكْرِ ذلك الأخْذِ .

3- قَولُه تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ

- قولُه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا (فكأيِّنْ) تَقْتضي التَّكثيرَ . وتَفرَّعَ ذِكْرُ جُملةِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ على جُملةِ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 44] ؛ فعُطِفَتْ عليها بفاءِ التَّفريعِ -والتَّعقيبُ في الذِّكْرِ لا في الوُجودِ-؛ لأنَّ الإملاءَ لكَثيرٍ مِن القُرى، ثمَّ أخْذَها بعدَ الإملاءِ لها: يُبيِّنُ كيفيَّةَ نَكيرِ اللهِ وغضَبِه على القُرى الظَّالمةِ ويُفسِّرُه؛ فناسَبَ أنْ يُذكَرَ التَّفسيرُ عَقِبَ المُفسَّرِ بحَرفِ التَّفريعِ، ثمَّ هو يُفِيدُ بما ذُكِرَ فيه مِن اسْمِ كَثرةِ العدَدِ شُمولًا للأقوامِ الَّذين ذُكِروا مِن قبْلُ في قولِه: فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [الحج: 42] إلى آخِرِه، فيَكونُ لتلك الجُملةِ بمَنزِلَةِ التَّذييلِ .

- قولُه: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أي: كمْ قَريةٍ أهْلَكْنا؟! وكم بِئْرٍ عطَّلْنا عن سُقاتِها؟! وقَصْرٍ مَشيدٍ أخليناهُ عن ساكِنِيه؟! فتُرِكَ ذلك؛ لدَلالةِ مُعَطَّلَةٍ عليه .

- وفي قولِه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال ذلك هنا، وقال بَعدُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ مُوافقةً لِمَا قبْلَهما؛ إذْ ما هنا تقدَّمَه معنى الإِهلاكِ بقولِه: فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي: أهلَكْتُهم، وما بعْدُ تقدَّمَه وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ، وهو يدُلُّ على أنَّ العذابَ لم يأْتِهم في الوقْتِ؛ فحسُنَ ذِكْرُ الإهلاكِ في الأوَّلِ، والإملاءِ -أي: التَّأخير- في الثَّاني .

- ومِن المُناسَبةِ أيضًا قولُه هنا: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، فوصَفَ القَصْرَ بـ مَشِيدٍ، ولم يُوصَفْ بـ (مُشَيَّد) كما في قولِه: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] . ووَجْهُه: أنَّ ذلك جمْعٌ ناسَبَ التَّكثيرَ فيه، وهذا مُفْرَدٌ. وأيضًا مَشِيدٍ فاصلةُ آيةٍ .

============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (46-48)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى ذِكرُه: أفلم يَسِرِ المُكَذِّبونَ مِن قُرَيشٍ في الأرضِ؛ لِيُشاهِدوا آثارَ المُهلَكِينَ، فتكونَ لهم قلوبٌ واعِيةٌ يَعقِلونَ بها فيتفَكَّرون ويَعتَبِرون، أو تكونَ لهم آذانٌ يَسمَعون بها سَماعَ تدبُّرٍ فيتَّعِظونَ؟! فإنَّ العمى ليس عَمى البَصَرِ، وإنَّما العَمى المُهْلِكُ لصاحبِه هو عَمى البَصيرةِ عن إدراكِ الحَقِّ والاعتِبارِ.

ويَستَعجِلُك -يا مُحَمَّدُ- كفَّارُ قُرَيشٍ بالعَذابِ الذي أنذَرْتَهم به جَزاءَ كُفرِهم، ولن يُخلِفَ اللهُ ما وعَدَهم به مِنَ العَذابِ، فلا بدَّ مِن وُقوعِه، وإنَّ يَومًا عِندَ اللهِ كمِقدارِ ألْفِ سَنةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مِن سِنِي الدُّنيا.

وكثيرٌ مِن القُرى كانت ظالِمةً بإصرارِ أهلِها على الكُفرِ، فأمهَلْتُهم ولم أعاجِلْهم بالعُقوبةِ فاغتَرُّوا، ثمَّ أخَذْتُهم بعَذابي في الدُّنيا، وإليَّ مَرجِعُهم بعدَ هَلاكِهم، فأُعَذِّبُهم بما يَستَحِقُّونَ.

تفسير الآيات:

 

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى مَن كذَّبَ الرُّسُلَ مِن الأُمَمِ الخاليةِ، وكان عِندَ العَرَبِ أشياءُ مِن أحوالِهم يَنقُلونَها، وهم عارِفونَ ببِلادِهم، وكثيرًا ما يَمُرُّونَ على كثيرٍ منها- قال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا، فاحتَمَلَ أن يكونَ حَثًّا على السَّفَرِ لِيُشاهِدوا مصارِعَ الكُفَّارِ فيَعتَبِروا، أو يكونوا قد سافَروا وشاهَدوا فلم يَعتَبِروا، فجُعِلوا كأنْ لم يُسافِروا ولم يَرَوا

!

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا.

أي: أفلمْ يَسِرْ كُفَّارُ قُرَيشٍ في الأرضِ؛ لِيَنظُروا آثارَ الأُمَمِ المُكَذِّبةِ مِن قَبلِهم، فيتسَبَّبَ عن ذلك أن تكونَ لهم قلوبٌ واعِيةٌ يَعقِلونَ بها ما رأَوه في الآياتِ المَرئِيَّاتِ مِنَ الدَّلالةِ على وَحدانيَّةِ اللهِ تعالى، وقُدرَتِه وغيرِ ذلك، فيتَفَكَّروا ويتَّعِظوا قبْلَ أن يَحُلَّ بهم ما أصاب أولئكَ القَومَ ؟!

كما قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [غافر: 82] .

وقال سُبحانَه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [مُحَمَّد: 10].

أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا.

أي: أو يتسبَّبَ عن سَيرِهم ورُؤيَتِهم آثارَ مَن سَبَقَهم مِن أُمَمِ الكُفرِ أن تكونَ لهم آذانٌ واعِيةٌ يَسمعَونَ بها سَماعَ تَدَبُّرٍ وعِظَةٍ، فيُمَيِّزوا بين الحَقِّ والباطِلِ، ويَعرِفوا أخبارَ الأُمَمِ الماضيةِ، وسَبَبَ هلاكِهم، فيَحذَروا أن يُصيبَهم مِثلُ ما أصابَهم ؟!

فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.

أي: لا تَعمى أبصارُ الكُفَّارِ؛ فأَعيُنُهم مُبصِرةٌ يَرَونَ بها المَرئيَّاتِ، ولكِنَّ قُلوبَهم هي التي تَعمَى عن رُؤيةِ الحَقائِقِ وإدراكِها، والانتِفاعِ بها، فهذا هو العمَى المُهلِكُ لصاحِبِه .

كما قال تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] .

وقال سُبحانَه: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء: 72] .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذكر سبحانَه أنَّ المُشرِكينَ كَذَّبوا رسولَه، وبالَغوا في تكذيبِه، وسلَّاه على ذلك بأنَّك لستَ ببِدْعٍ فى الرسُلِ؛ فكثيرٌ مِمَّن قبلَك منهم قد كُذِّبوا وأُوذُوا، فلا تبتَئِسْ بما يفعلونَ، واصبِرْ على ما تدعو إليه، ولا يضيرَنَّك ما يأتونَ وما يَذَرونَ- قفَّى على ذلك ببيانِ أنَّهم لاستهزائِهم به وشديدِ تَكذيبِهم كانوا يَستَعجِلونَه العذابَ .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ.

أي: ويَستَعجِلُك الكُفَّارُ -يا مُحَمَّدُ- بنُزولِ عَذابِ اللهِ عليهم جَزاءَ شِرْكِهم به، واللهُ لن يُخلِفَ ما وعَدَ به مِن ذلك، وهو واقِعٌ بهم حَتْمًا في وَقتِه المَحَدَّدِ .

كما قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] .

وقال سُبحانَه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 53-54] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ص: 16] .

وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ.

أي: هُم يَستَعجِلونكَ بالعذابِ، ولكنَّ اللهَ تعالى حليمٌ لا يَعجَلُ به؛ فإنَّ مِقدارَ ألْفِ سَنةٍ عِندَ خَلْقِه كيَومٍ واحدٍ عِندَه، فالطَّويلُ عِندَهم مِنَ الزَّمنِ قَصيرٌ عِندَه، وليس عذابُهم عِندَه ببعيدٍ، فلا بدَّ مِن وُقوعِه لا مَحالةَ، فهو على الانتقامِ قادرٌ، لا يَفوتُه شَيءٌ، ولا فَرْقَ بيْن وُقوعِ ما يَستَعجِلون به مِنَ العذابِ وتأخُّرِه في القُدرةِ، إلَّا أنَّه تَفضَّلَ بالإمهالِ؛ فلذلك لا يَعجَلُ بعقوبةِ مَن أرادَ عقوبتَه حتَّى يَبلُغَ غايةَ مُدَّتِه وإنْ تَطاوَلُوها، واستَبطَؤوا نُزولَ العذابِ، فإنَّ اللهَ يُمهِلُ المُدَدَ الطَّويلةَ ولا يُهمِلُ، حتَّى إذا أَخَذَ الظَّالِمينَ بعذابِه لمْ يُفْلِتْهُم .

كما قال تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 5] .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَدخُلُ فُقَراءُ المُسلمينَ الجَنَّةَ قَبلَ أغنيائِهم بنصفِ يومٍ، وهو خَمسُ مئةِ عامٍ)) .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

أنَّها عطْفٌ على جملةِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [الحج: 47] ، أو على جملةِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج: 47] ؛ باعتِبارِ ما تَضمَّنَه استعجالُهم بالعذاب مِنَ التَّعريضِ بأنَّهم آيسون منه؛ لتأخُّرِ وُقوعِه، فذُكِّروا بأنَّ أُمَمًا كثيرةً أُمهِلَتْ، ثمَّ حلَّ بها العذابُ .

وأيضًا لَمَّا دَلَّلَ اللهُ تعالى على نصْرِ أوليائِه، وقَسْرِ أعدائِه، بشَهادةِ تلك القُرى، وخَتَمَ بالتَّعجيبِ مِن استعجالِهم، مع ما شاهَدوا مِن إهلاكِ أمثالِهم، وأَعلَمَهم ما هو عليه مِنَ الأناةِ، واتِّساعِ العظَمةِ، وكِبَرِ المِقدارِ، عَطَفَ على فَكَأَيِّنْ -مُحذِّرًا مِن نَكالِه، بَعدَ طَويلِ إمهالِه- قولَه :

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48).

أي: وكَثيرٌ مِن القُرى أمهَلْتُ أهلَها، ولم أُعاجِلْهم بالعُقوبةِ، مع ظُلمِهم بالشِّركِ والعِصيانِ، ثُمَّ عاقَبْتُهم في الدُّنيا، ومَرجِعُهم في الآخرةِ إليَّ، فأُعَذِّبُهم فيها أيضًا؛ فلْيَحذَرْ هؤلاء الظَّالِمونَ مِن ذلك، ولا يَغتَرُّوا بإمهالِ اللهِ لهم

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 25-26] .

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ المقصودُ منه ذِكرُ ما يتكامَلُ به ذلك الاعتِبارُ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ لها حَظٌّ عَظيمٌ في الاعتِبارِ، وكذلك استِماعُ الأخبارِ فيه مَدخَلٌ، ولكِنْ لا يَكمُلُ هذان الأمرانِ إلَّا بتدَبُّرِ القَلبِ؛ لأنَّ مَن عايَن وسَمِع، ثمَّ لم يتدبَّرْ ولم يَعتَبِرْ، لم ينتَفِعْ البتَّةَ، ولو تفكَّرَ فيما سَمِعَ لانتفَعَ؛ فلهذا قال: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

.

2- القَلبُ مِن شَأنهِ أن يُبصِرَ؛ فإنَّ بَصَرَه هو البَصَرُ، وعَماه هو العَمى، كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ، وعن قَتادَةَ في قولِه: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ قالَ: (ما هذه الأبصارُ التي في الرؤوسِ؛ فإنَّها جعَلها الله منفعةً وبلغةً، وأمَّا البصرُ النافعُ فهو في القلبِ) .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، فسَتَرجِعُ إلى اللهِ فيُعَذِّبُها بذُنوبِها؛ فلْيَحذَرِ الظَّالِمونَ مِن حُلولِ عِقابِ اللهِ، ولا يغتَرُّوا بالإمهالِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا يدلُّ على أنَّ محلَّ العقلِ والفَهمِ في القلبِ

، فقد أضاف العقلَ إلى القلبِ؛ لأنَّه محلُّه، كما أنَّ السمعَ محلُّه الأذنُ ، ولا يُنكَرُ أنَّ للدماغِ اتِّصالًا بالقلبِ يُوجِبُ فسادَ العقلِ متى اختلَّ الدماغُ .

2- قال تعالى لمُكَذِّبي الرُّسُلِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، ذكَر ذلك بعدَ قَولِه تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 42-45] ، ثمَّ قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ الآيةَ، ثمَّ قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، فذكَرَ إهلاكَ مَن أهلَكَ، وإملاءَه لِمَن أملَى؛ لئلَّا يغتَرَّ المغتَرُّ فيقولَ: نحن لم يُهلِكْنا !

3- قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، وِزانُ هذه الآيةِ وِزانُ قولِه آنِفًا: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ [الحج: 45] إلخ، إلَّا أنَّ الأُولى قُصِد منها كثرةُ الأُمَمِ التي أُهلِكَتْ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ مِن ذِكرِ قَومِ نوحٍ ومَن عُطِف عليهم أنَّ الهلاكَ لمْ يَتجاوَزْهم؛ ولذلك اقتُصِر فيها على ذِكرِ الإهلاكِ دون الإمهالِ. وهذه الآيةُ القصدُ منها التَّذكيرُ بأنَّ تأخيرَ الوعيدِ لا يقتَضي إبطالَه؛ ولذلك اقتُصِر فيها على ذِكرِ الإمهالِ، ثمَّ الأخذِ بَعدَه المناسبِ للإملاءِ، مِن حيثُ إنَّه دُخولٌ في القبضةِ بَعدَ بُعْدِه عنها .

4- مَن نظَرَ إلى الأشياءِ بغَيرِ قَلبٍ، أو استمَعَ إلى كَلِماتِ أهلِ العِلمِ بغَيرِ قَلبٍ؛ فإنَّه لا يَعقِلُ شَيئًا؛ فمدارُ الأمرِ على القَلبِ، وعند هذا تَستبينُ الحِكمةُ في قَولِه تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، حتى لم يذكُرْ هنا العينَ، كما في آياتٍ أُخرى، كقَولِه تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف: 179] ؛ وذلك لأنَّ سِياقَ الكَلامِ هنا في أمورٍ غائبةٍ وحِكمةٍ مَعقولةٍ مِن عواقِبِ الأمورِ لا مجالَ لنَظَرِ العَينِ فيها، ومِثلُه قَولُه تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ [الفرقان: 44].

5- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ فيه سؤالٌ: ظاهِرُ هذه الآيةِ أنَّ الأبصارَ لا تَعمى، وقد جاءت آياتٌ أُخَرُ تدُلُّ على عَمى الأبصارِ؛ كقَولِه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: 23] ، وكقَولِه تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ [النور:61] ؟

الجوابُ: أنَّ التَّمييزَ بينَ الحَقِّ والباطِلِ، وبين الضَّارِّ والنَّافِعِ، وبين القَبيحِ والحَسَنِ، لَمَّا كان كُلُّه بالبصائرِ لا بالأبصارِ، صار العَمى الحقيقيُّ هو عمَى البصائِرِ لا عمَى الأبصارِ، فصِحَّةُ العَينَينِ لا تُفيدُ معَ عَدَمِ العَقلِ كما هو ضروريٌّ، وقَولُه: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ يعني بصائِرَهم، أو أعمى أبصارَهم عن الحَقِّ، وإن رأت غَيرَه .

6- قولُه تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فيه أنَّ الوعدَ يُطْلَقُ في الخيرِ والشَّرِّ؛ لأنَّ ظاهرَ الآيةِ الذي لا يَجوزُ العُدولُ عنه: ولن يُخلِفَ اللهُ وعْدَه في حُلولِ العذابِ الذي يَستَعجِلونك به لهم؛ لأنَّه مُقترنٌ بقولِه: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ، فتَعلُّقُه به هو الظَّاهرُ، وقد أُطلِق الوعدُ في القرآنِ على التَّوعُّدِ بالنَّارِ والعذابِ، كقولِه تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج: 72].

7- قولُه تعالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ مِقدارَ اليومِ عندَ اللَّهِ ألْفُ سنَةٍ، وكذلك قولُه تعالَى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 5] . وقدْ جاءَتْ آيةٌ أخرَى تدُلُّ على خلافِ ذلك، هي قولُه تعالَى في سورةِ (المعارج): تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ الآيةَ [المعارج: 4] .

وللجمعِ بيْنَهما وجهانِ:

الوجهُ الأوَّلُ: أن يومَ الألْفِ في سُورةِ (السجدة) هو مِقدارُ سَيرِ الأمْرِ وعُروجِه إليه تعالى، ويومَ الألْفِ في سُورةِ (الحجِّ) هو أحَدُ الأيَّامِ السِّتَّةِ الَّتي خلَقَ اللهُ فيها السَّمواتِ، ويومَ الخمسينَ ألْفًا في سورة (المعارج) هو يومُ القيامةِ .

الوجهُ الثاني: أنَّ المُرادَ بها جَميعِها يوم القيامةِ، وأنَّ الاختلافَ باعتبارِ حالِ المُؤمِن والكافِرِ، بدليلِ قولِه: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ

 

[المدثر: 9-10].

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

- قولُه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ على القولِ بأنَّ الفاءَ عطْفٌ على الكلامِ السَّابقِ؛ فالهمزةُ دخَلَتْ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه لمَزيدِ الإنكارِ، أي: كأيِّنْ مِن قَريةٍ أهْكَلْناها فهي ظالمةٌ، فلم يَسِيروا في الأرضِ، فيَعْتَبِروا

.

- والاستفهامُ في أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ تَعجُّبيٌّ مِن حالِهم في عدَمِ الاعتبارِ بمَصارِعِ الأُمَمِ المُكذِّبةِ لأنبيائِها، والتَّعجُّبُ مُتعلِّقٌ بمَن سافَروا منهم ورَأَوا شيئًا مِن تلك القُرى المُهْلَكةِ وبمَن لم يُسافِروا؛ فإنَّ شأْنَ المُسافرينَ أنْ يُخبِروا القاعدينَ بعجائبِ ما شاهَدوهُ في أسفارِهم، كما يُشِيرُ إليه قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ؛ فالمقصودُ بالتَّعجُّبِ هو حالُ الَّذين سارُوا في الأرضِ، ولكنْ جُعِل الاستفهامُ داخِلًا على نَفْيِ السَّيرِ؛ لأنَّ سيرَ السَّائرينَ منهم لمَّا لم يُفِدْهم عِبْرةً وذِكْرَى جُعِلَ كالعدَمِ؛ فكان التَّعجُّبُ مِن انتفائِه؛ فالكلامُ جارٍ على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ .

- قولُه: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ... في ذِكْرِ الآذانِ اكتفاءٌ عن ذِكْرِ الأبصارِ؛ إذ يُعْلَمُ أنَّ القُلوبَ الَّتي تَعقِلُ إنَّما طَريقُ عِلْمِها مُشاهَدةُ آثارِ العذابِ والاستئصالِ، كما أشار إليه قولُه بعْدَ ذلك: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ . وقيل: لأنَّ سِياقَ الكَلامِ هنا في أمورٍ غائبةٍ وحِكمةٍ مَعقولةٍ مِن عواقِبِ الأمورِ، لا مجالَ لنَظَرِ العَينِ فيها .

- والفاءُ في جُملةِ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ تَفريعٌ على جَوابِ النَّفيِ في قولِه: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا، وفَذْلَكةٌ للكلامِ السَّابقِ، وتَذييلٌ له بما في هذه الجُملةِ من العُمومِ. وحَرْفُ التَّوكيدِ (إنَّ) لغَرابةِ الحُكْمِ، لا لأنَّه ممَّا يُشَكُّ فيه .

- والقَصرُ المُستفادُ مِن النَّفيِ وحَرفِ الاستدراكِ (لكنْ) في قولِه: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ قَصرٌ ادِّعائيٌّ ؛ للمُبالَغةِ بجَعْلِ فَقْدِ حاسَّةِ البصَرِ المُسمَّى بالعَمى كأنَّه غيرُ عَمًى، وجَعْلِ عدَمِ الاهتداءِ إلى دَلالةِ المُبْصَراتِ مع سَلامةِ حاسَّةِ البصرِ هو العَمى؛ مُبالَغةً في استحقاقِه لهذا الاسمِ .

- وقولُه: الَّتِي فِي الصُّدُورِ صِفَةٌ لـ الْقُلُوبُ، تُفِيدُ تَوكيدًا لِلَفْظِ القُلوبِ؛ فهو لزِيادةِ التَّقريرِ والتَّشخيصِ، ويُفِيدُ هذا الوصْفُ -وراءَ التَّوكيدِ- تَعريضًا بالقومِ المُتحدَّثِ عنهم بأنَّهم لم يَنتفِعوا بأفئدتِهم مع شِدَّةِ اتِّصالِها بهم؛ إذ هي قارَّةٌ في صُدورِهم .

2- قولُه تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ عطْفٌ على جُملةِ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ... [الحج: 42] عَطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ؛ فإنَّ مِن تَكذيبِهم أنَّهم كذَّبوا بالوعيدِ، وقالوا: لو كان محمَّدٌ صادِقًا في وَعيدِه لعُجِّلَ لنا وَعيدُه؛ فكانوا يَسألونَه التَّعجيلَ بنُزولِ العذابِ استهزاءً .

- وحُكِيَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بصِيغَةِ المُضارِعِ؛ للإشارةِ إلى تَكريرِهم ذلك تَجْديدًا منهم للاستهزاءِ، وتَهكُّمًا وإنكارًا على المُسلمينَ. والخِطابُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمقصودُ: إبلاغُه إيَّاهم .

- قولُه: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فيه تأْنيسٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُؤمنينَ؛ لئلَّا يَستبْطِئوه . وأضاف الوعْدَ إليه تعالى؛ لأنَّ رسولَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو المُخبِرُ به عن اللهِ تعالى . قيل: المُرادُ بوَعْدِه تعالى ما جُعِل لهَلاكِ كلِّ أُمَّةٍ مِن مَوعدٍ مُعيَّنٍ وأجَلٍ مُسمًّى، كما في قولِه تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ [العنكبوت: 53] ؛ فتكونُ الجُملةُ الأُولى مُبيِّنةً لبُطلانِ الاستعجالِ به ببَيانِ استحالةِ مَجيئِه قبْلَ وَقْتِه الموعودِ، والجُملةُ الأخيرةُ بَيانًا لبُطلانِه ببَيانِ ابتنائِه على استطالةِ ما هو قَصيرٌ عندَهُ تعالى؛ فلا يكونُ في النَّظمِ الكريمِ حينئذٍ تَعرُّضٌ لإنكارِهم الَّذي دَسُّوه تحتَ الاستعجالِ، بل يكونُ الجوابُ مَبْنيًّا على ظاهرِ مَقالِهم، ويُكْتَفى في رَدِّ إنكارِهم ببَيانِ عاقبةِ مَن قَبْلَهم مِن أمثالِهم .

- قولُه: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ عَطْفٌ على جُملةِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ؛ فإنَّ اللهَ تَوعَّدَهم بالعذابِ، وهو صادِقٌ على عَذابِ الدُّنيا والآخرةِ، وهم إنَّما استَعْجَلوا عذابَ الدُّنيا تَهكُّمًا وكِنايةً عن إيقانِهم بعدَمِ وُقوعِه بلازمٍ واحدٍ، وإيماءً إلى عدَمِ وُقوعِ عَذابِ الآخرةِ بلازمَينِ؛ فرَدَّ اللهُ عليهم رَدًّا عامًّا بقولِه: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، وكان ذلك تَثبيتًا للمُؤمنينَ، ثمَّ أعقَبَه بإنذارِهم بأنَّ عذابَ الآخرةِ لا يفلِتونَ منه أيضًا، وهو أشَدُّ العذابِ؛ فقولُه: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بالوعيدِ، وهذا اليومُ هو يومُ القيامةِ ، على قولٍ في التفسيرِ.

- والخِطابُ في قولِه: مِمَّا تَعُدُّونَ على القولِ بأنَّه خِطابٌ للَّذين يَستعجِلون العذابَ؛ فيكونُ فيه الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ .

3- قولُه تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ عطَفَ هذه الجُملةَ بالواوِ؛ بينما عطَفَ الجُملةَ الأُولى بالفاءِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا؛ لأنَّ الأُولى بدَلٌ مِن قولِه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، وهذه الجُملةُ وَكَأَيِّنْ ... في حُكْمِ ما تقدَّمَها مِن الجُملتينِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ؛ لبَيانِ أنَّ المُتوعَّدَ به يَحِيقُ بهم لا مَحالةَ، وأنَّ تأْخيرَه لِعادَتِه تعالى .

- قولُه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا أي: وكم مِن أهْلِ قَريةٍ، فحُذِفَ المُضافُ، وأُقِيمَ المُضافُ إليه مُقامَهُ، وأرجَعَ الضَّمائرَ (لها- وهي - ظالمة- أخذتها) والأحكامَ إلى القريةِ؛ مُبالَغةً في التَّعميمِ والتَّهويلِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث تكرَّرَ التَّكثيرُ بـ(كأيِّن) في القُرى؛ لإفادةِ مَعنًى غيرِ ما جاءت له الأُولى؛ لأنَّه ذكَرَ فيها القُرى الَّتي أهْلَكَها دونَ إملاءٍ وتأْخيرٍ، بل أعقَبَ الإهلاكُ التَّذكيرَ، وهذه الآيةُ لمَّا كان تعالى قد أمهَلَ قُريشًا حتَّى استعجَلَتْ بالعذابِ، جاءت بالإهلاكِ بعْدَ الإملاءِ؛ تَنبيهًا على أنَّ قُريشًا وإنْ أمْلى تعالى لهم وأمْهَلَهم فإنَّه لا بُدَّ مِن عَذابِهم، فلا يَفْرَحوا بتأْخيرِ العَذابِ عنهم .

- وجُملةُ: أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ حاليَّةٌ مُفِيدةٌ لكَمالِ حِلْمِه تعالى، ومُشعِرةٌ بطَريقِ التَّعريضِ بظُلْمِ المُستعجِلينَ .

- قولُه: وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه، ومُصرِّحٌ بما أفادهُ ذلك بطَريقِ التَّعريضِ مِن أنَّ مآلَ أمْرِ المُستعجِلينَ أيضًا ما ذُكِرَ مِن الأخْذِ الوَبيلِ .

- وتَقديمُ المَجرورِ (إليَّ) للحَصرِ الحقيقيِّ، أي: لا يَصيرُ النَّاسُ إلَّا إلى اللهِ، وهو يَقْتضي أنَّ المصيرَ إليه كائنٌ لا مَحالةَ؛ فهو كِنايةٌ عن عدَمِ الإفلاتِ .

=============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (49-51)

ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

غريب الكلمات :

 

سَعَوْا: السَّعْيُ: المشيُ السَّريعُ، ويُستعمَلُ للجِدِّ في الأمرِ، خيرًا كان أو شرًّا، يُقالُ: سعَى في الأمرِ: إذا جَدَّ فيه لقصدِ إصلاحِه أو إفسادِه .

مُعَاجِزِينَ: أي: مُشاقِّينَ مُعانِدينَ مُغالِبينَ، ومعنى المعاجَزةِ في اللُّغةِ: مُحاولةُ عَجْزِ المغالَبِ، يُريدُ كُلُّ واحدٍ أن يُظهِرَ عَجْزَ صَاحِبِه، وأصلُ (عجز): يدُلُّ على ضَعفٍ .

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: قُلْ -يا مُحَمَّدُ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّما أنا مُنذِرٌ لكم واضِحُ النِّذارةِ، فالذينَ آمَنوا باللهِ ورَسولِه، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ؛ لهم عِندَ اللهِ مَغفِرةٌ لذُنوبِهم، ورِزقٌ حَسَنٌ، والذينَ سَعَوا في الكَيدِ لإبطالِ آياتِ القُرآنِ مُعانِدينَ، ظانِّينَ أنَّهم يُعجِزونَ اللهَ، أولئك هم أهلُ النَّارِ.

تفسير الآيات:

 

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا كان الاستِعجالُ لا يُطلَبُ مِنَ الرَّسولِ، وإنَّما يُطلَبُ مِنَ المُرسِلِ؛ أمَرَه اللهُ تعالى بأن يُديمَ لهم التَّخويفَ والإنذارَ، بقَوِله تعالى :

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49).

أي: قُلْ -يا مُحَمَّدُ-: يا أيُّها النَّاسُ ، إنَّما أنا لكم نَذيرٌ واضِحُ النِّذارةِ، أُخَوِّفُكم عذابَ اللهِ، ولا أملِكُ تَعجيلَ العَذابِ عن وَقتِه ولا تأخيرَه، وليس عليَّ حِسابُكم .

كما قال تعالى: إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ [ص: 70] .

فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه يَجِبُ أن يقولَ للكافِرينَ: أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ؛ أردَفَ ذلك بأنْ أمَرَه بوَعْدِهم ووَعيدِهم؛ لأنَّ الرَّجُلَ إنَّما يكونُ مُنذِرًا بذِكرِ الوَعدِ للمُطيعينَ، والوَعيدِ للعاصينَ .

فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50).

أي: فالذين آمَنوا بكُلِّ ما وجب عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ؛ لهم مِنَ اللهِ سَترٌ لذُنوبِهم، وتَجاوُزٌ عن مُؤاخَذتِهم بها، ولهم رِزْقٌ حَسَنٌ .

كما قال تعالى: ... لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [سبأ: 4] .

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51).

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قِراءةُ مُعَجِّزِينَ بتشديدِ الجِيمِ، قيل معناه: مُبَطِّئينَ مُثَبِّطينَ، أي: يُثَبِّطونَ النَّاسَ عن اتِّباعِ الحَقِّ. وقيل: معناه: يَنسُبونَ المؤمنينَ إلى العَجزِ .

2- قِراءةُ مُعَاجِزِينَ بالتَّخفيفِ والألف، قيل: معناه: مُعانِدينَ. وقيل: معناه: ظانِّينَ أنَّهم يَغلِبونَ الرَّسولَ وأتباعَه. وقيل معناه: يَحسَبونَ أنَّهم يَفوتونَنا لإنكارِهم البَعثَ والثَّوابَ والعِقابَ، فلا نَقدِرُ على إعادتِهم ومُعاقَبَتِهم !

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51).

أي: والذينَ سَعَوْا فِي إبطالِ آياتِ القُرآنِ ورَدِّها، مُعانِدينَ ومُشاقِّينَ لله وظانِّينَ أنَّهم يُعجِزونَ اللهَ فلا يَقدِرُ عليهم، أو يَغلِبونَ أولياءَه فلا يَنصُرُهم؛ أولئك في الآخرةِ سُكَّانُ الجَحيمِ .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [سبأ: 5] .

وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [سبأ: 38] .

وقال عزَّ وجلَّ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [العنكبوت: 4] .

الفوائد التربوية :

 

1- قال اللهُ تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنَّ العملَ لا ينفعُ إلَّا إذا كان صالحًا، والصالحُ ما تضمَّن شيئينِ: الإخلاصَ لله، واتِّباعَ شريعتِه .

2- قَولُ اللهِ تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يُبَيِّنُ أنَّ مَن جمَعَ بينَ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، فاللهُ تعالى يجمَعُ له بينَ المَغفِرةِ والرِّزقِ الكَريمِ .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فيه سؤالٌ: إنْ قيل: إنَّ النبيَّ -عليه السَّلامُ- في هذه الآيةِ بَشَّرَ المؤمِنين أوَّلًا، وأَنذَرَ الكافرين ثانيًا، فكان القياسُ أنْ يُقالَ: قُلْ يا أيُّها النَّاسُ إنَّما أنا لكم بَشيرٌ ونَذيرٌ؟

والجواب مِن عِدَّةِ أوجُهٍ:

منها: أنه عبَّرَ بقولِه: إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ولم يقُلْ: (إنَّما أنا لكم بَشيرٌ ونَذيرٌ) مع أنَّه ذكَرَ الفريقينِ بعْدَهُ؛ لأنَّ الحديثَ مَسوقٌ إلى المُشركينَ. ويَا أَيُّهَا النَّاسُ نِداءٌ لهم، وهم الَّذين قِيلَ فيهم: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، ووُصِفُوا بالاستعجالِ. وإنَّما ذُكِرَ المُؤمِنون هنا وما أعَدَّ اللهُ لهم مِن الثَّوابِ؛ ليُغاظَ المُشرِكون بذلك، ولِيُحرِّضَهم على نَيلِ هذه الرُّتبةِ الجليلةِ. ومنها: أنَّ فيه إيجازًا بالحَذْفِ، والتَّقديرُ: بَشيرٌ ونَذيرٌ .

ومنها: أنَّه يَحتمِل أنَّ الآيةَ واردةٌ لبَيانِ ما يَترتَّبُ على الإنذارِ؛ مِن انتفاعِ مَن قَبِلَه، وهَلاكِ مَن رَدَّهُ، فكأنَّه قيل: أنذِرْ -يا محمَّدُ- هؤلاء الكَفَرةَ وبالِغْ فيه؛ فمَن قَبِلَ منك وآمَنَ فلهُ الثَّوابُ، ومَن دام على ما كان في إبطالِ ما جِئْتَ به وسَعى فيه، فقد أدَّيْتَ حَقَّك؛ فقاتِلْهم ليُعَذِّبَهم اللهُ تعالى في الدُّنيا بالقتْلِ، وفي الآخرةِ بالجحيمِ؛ فلا يكونُ ذِكْرُ المُؤمنينَ لاغتمامِهم .

ومنها: أنَّ النِّذارةَ هي المقصودُ الأَعظَمُ مِنَ الدَّعوةِ؛ لأنَّه لا يُقدِمُ عليها إلَّا المؤَيَّدون برُوحٍ مِنَ الله .

2- السَّعْيُ يُطْلَقُ على العملِ في الأمرِ لإفسادِه وإصلاحِه، ومِن استعمالِه في الإفسادِ قولُه تعالَى هنا: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا، ومِنْ إطلاقِ السَّعيِ في العملِ للإصلاحِ قولُه تعالَى: إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان: 22] ، وقولُه: وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى الآيةَ [عبس: 8-9] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ. ومِن إطلاقِ السَّعيِ على الخيرِ والشَّرِّ مَعًا قولُه تعالَى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إلى قولِه: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 4-11].

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ

- قولُه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ استِئنافٌ، وافتِتاحُه بـ قُلْ؛ للاهتمامِ به، وافتتاحُ المَقولِ بنِداءِ النَّاسِ؛ لِلَفْتِ ألْبابِهم إلى الكَلامِ. وفيه تَثبيتٌ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وتَسليةٌ له فيما يَلْقاهُ منهم .

- وقَصْرُ النَّبيِّ على صِفَةِ النِّذارةِ في قولِه: إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ قَصْرٌ إضافيٌّ، أي: لسْتُ طالِبًا نِكايَتَكم، ولا تَزلُّفًا إليكم؛ فمَن آمَن فلِنفْسِه، ومَن عَمِيَ فعليها .

2- قولُه تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فرَّعَ على الأمْرِ بالقولِ تَقْسيمَ النَّاسِ في تَلقِّي هذا الإنذارِ المأْمورِ الرَّسولُ بتَبْليغِه إلى مُصدِّقٍ ومُكذِّبٍ؛ لِبَيانِ حالِ كِلَا الفريقينِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ تَرغيبًا في الحالةِ الحُسْنى، وتَحذيرًا مِن الحالةِ السُّوأَى .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ قال هنا: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وقال بَعْدَه بآياتٍ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ[الحج: 56]؛ فاختلَفَ الجزاءُ مع اتِّفاقِ وَصْفِهم بالإيمانِ وعمَلِ الصَّالحاتِ؛ فوقَعَ في الأوَّلِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وفي الثَّاني: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ؛ قيل: ووَجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ الأُولى إخبارٌ لهم عندَ دُعائِهم قبْلَ أنْ يُؤمِنوا، ولَمَّا ذَكَرَ في الآيةِ الأُولى حالَهم في الدَّارِ الأُخرى بعْدَ انصرامِ الدُّنيا، وحُصولِ اتِّصافِهم بالإيمانِ وأعمالِ الطَّاعاتِ، أُخْبِروا فيها بالحاصلِ مِن المَغفرةِ، وبُيِّنَ لهم الرِّزقُ الكريمُ، وأنَّه نَعيمُ الجنَّةِ والخُلودُ الأبدِيُّ فيها؛ فالآيةُ الأُولى تَضمَّنَت وَعْدَهم إنْ آمَنُوا، وذلك عندَ دُعائِهم إلى الإيمانِ، ثمَّ أُخْبِروا ثانيًا بالحاصِلِ لهم؛ بَيانًا لِمَضمونِ البِشارةِ الأُولى، وإخْبارًا لهم بغايةِ الجَزاءِ؛ فالآيةُ الثَّانيةُ بَيانٌ وتَفصيلٌ لِمَا أُجْمِلَ في الأُولى، مُرَتَّبٌ عليه وآتٍ بعْدَه بما يجِبُ فيما يأْتي فيه الإجمالُ والتَّفصيلُ، فكأنَّهم قالوا: ما الرِّزقُ الكريمُ؟ فقيل لهم: جنَّاتُ النَّعيمِ؛ فورَدَ كلٌّ مِن الآيتينِ على ما يُناسِبُ ويُلائِمُ .

3- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ

- قولُه: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا أي: والَّذين استمَرُّوا على الكُفْرِ، وعبَّر عن الاستمرارِ بالسَّعيِ في الآياتِ؛ لأنَّه أخَصُّ مِن الكُفْرِ، وذلك حالُ المُشركينَ المُتحدَّثِ عنهم. والكلامُ تَمثيلٌ؛ شُبِّهَت هَيئةُ تَفنُّنِهم في التَّكذيبِ بالقُرآنِ، وتَطلُّبِ المعاذيرِ لنَقضِ دَلائلِه مِن قولِهم: هو سِحرٌ، هو شِعرٌ، هو أساطيرُ الأوَّلينَ، هو قولُ مَجنونٍ، وتَعرُّضِهم بالمُجادَلاتِ والمُناقَضاتِ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بهَيئةِ السَّاعي في طَريقٍ يُسابِقُ غيرَه؛ ليَفُوزَ بالوُصولِ .

- قولُه: فِي آَيَاتِنَا في تَقديمِ المجرورِ المُؤْذِنِ بالاهتمامِ بنِذارتِهم: إشارةٌ إلى أنَّهم مُشرِفون على شَرٍّ عظيمٍ؛ فهم أحْرِياءُ بالنِّذارةِ .

- قولُه: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فيه التَّصديرُ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المُخبَرَ عنهم جَديرونَ بما سيَرِدُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ مِن الحُكْمِ؛ لأجْلِ ما ذُكِرَ قبْلَه مِن الأوصافِ .

============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (52-54)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات:

 

تَمَنَّى: أي: تلا القُرآنَ وقَرَأَه، وأُمْنِيَّتِهِ: أي: تِلاوَتِه، وأصلُ (مني): يدُلُّ على تَقديرِ شَيءٍ؛ لأنَّ القِراءةَ تَقديرٌ ووَضعُ كلِّ آيةٍ مَوضِعَها. وقيل: تَمَنَّى مِنَ التَّمَنِّي المعروفِ

.

فَيَنْسَخُ : أي: يُبطِلُ ويُزيلُ، وأصلُ النَّسخِ: يدُلُّ على إزالةِ شَيءٍ بشَيءٍ يتعَقَّبُه .

يُحْكِمُ أي: يخلِّصُ أو يُثبِتُ، وأصلُ (حكم): هو المنعُ .

فَتُخْبِتَ: أي: تَخضَعَ وتَلِينَ، وأصلُ (خبت): يدُلُّ على خُشوعٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: وما أرسَلْنا مِن قَبْلِك -يا مُحمَّدُ - مِن رَسولٍ ولا نَبِيٍّ إلَّا إذا قرأ وتلا ألقَى الشَّيطانُ في قِراءَتِه الشُّبَهَ والوَساوسَ؛ لِيَصُدَّ النَّاسَ عن اتِّباعِ ما يَقرَؤُه ويَتلُوه، لكِنَّ اللهَ يُبطِلُ كَيدَ الشَّيطانِ، فيُزيلُ وَساوِسَه، ويُثبتُ آياتِه الواضِحاتِ في مَبانيها ومَعانيها، واللهُ عَليمٌ حَكيمٌ.

وهذا الفِعلُ مِنَ الشَّيطانِ جعَلَه اللهُ فتنةً للذينَ في قُلوبِهم شَكٌّ ونِفاقٌ، ولِقُساةِ القُلوبِ مِن المُشرِكينَ الذين لا يُؤثِّرُ فيهم زَجرٌ، وإنَّ الظَّالِمينَ مِن هؤلاء وأولئكَ في عداوةٍ شَديدةٍ لله ورَسولِه، وخِلافٍ للحَقِّ بَعيدٍ عن الصَّوابِ؛ ولِيَعلَمَ أهلُ العِلمِ الذين يُفَرِّقونَ بعِلمِهم بين الحَقِّ والباطلِ أنَّ القُرآنَ الكريمَ هو الحَقُّ النَّازِلُ مِن عندِ اللهِ عليك، لا شُبهةَ فيه، ولا سَبيلَ للشَّيطانِ إليه، فيَزدادَ به إيمانُهم، وتَخضَعَ له قلوبُهم، وإنَّ اللهَ لهادي الذين آمَنوا به وبرَسولِه إلى طَريقِ الحَقِّ الواضِحِ، وهو الإسلامُ، يُنقِذُهم به من الضَّلالِ.

تفسير الآيات:

 

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52).

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.

أي: وما أرسَلْنا مِن قَبْلِك -يا مُحمَّدُ- مِن رَسولٍ ولا نبيٍّ إلا إذا تلا وقرَأ

ألقَى الشَّيطانُ في قراءتِه الشُّبَهَ والوَساوِسَ؛ لِيَصُدَّ النَّاسَ عن اتِّباعِ ما يَقرَؤُه ويَتْلوه .

فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ.

أي: فيُذهِبُ اللهُ ويُزيلُ ما يُلقيه الشَّيطانُ مِن الباطِلِ في قراءةِ نَبيِّه، ولا يتأثَّرُ بباطِلِه المُؤمِنونَ .

ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ.

أي: ثمَّ يُخَلِّصُ اللهُ آياتِ كِتابِه مِنَ الباطلِ الذي ألقاه الشَّيطانُ، ويَحفَظُها ويُبَيِّنُها، ويُظهِرُ أنَّها وحيٌ مُنَزَّلٌ منه بحَقٍّ .

وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

أي: واللهُ عَليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، فيَعلَمُ ما يكونُ مِن الأمورِ، وما يَحدُثُ في خَلْقِه، ومِن جملةِ ذلك عِلمُه بما يُوحيه إلى نبيِّه، وبقَصدِ الشَّيطانِ؛ حَكيمٌ في كُلِّ ما يفعَلُه، يضَعُ كُلَّ شَيءٍ في مَوضِعِه الصَّحيحِ اللائِقِ به، ومِن جُملةِ ذلك حِكمَتُه في تمكينِ الشَّيطانِ مِن إلقاءِ الباطِلِ، ومِن حِكمَتِه أنَّه لا يَدَعُه حتى يَكشِفَه ويُزيلَه .

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانَه ما حكَمَ به مِن تمكينِ الشَّيطانِ مِن هذا الإلقاءِ؛ ذكَرَ العِلَّةَ في ذلك، فقال :

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ.

أي: مِن كَمالِ حِكمَتِه سُبحانَه أنْ مكَّن الشَّيطانَ مِن الإلقاءِ المَذكورِ؛ ليَجعَلَ إلقاءَه فِتنةً للذينَ في قُلوبِهم شَكٌّ ونفاقٌ، ولأصحابِ القُلوبِ القاسيةِ التي لا تَلينُ للحقِّ، ولا تَرْجِعُ إلى الصَّوابِ، وهم المشركونَ .

كما قال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26] .

وقال سُبحانَه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام: 112-113] .

وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.

أي: وإنَّ هذَينِ الفريقَينِ لَفي خِلافٍ ومُعانَدةٍ لأمرِ اللهِ، وضَلالٍ بَعيدٍ عن الحقِّ والصَّوابِ؛ بسَبَبِ ظُلمِهم .

كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176] .

وقال سُبحانَه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] .

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54).

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ.

أي: ولِيَعلَمَ الذين آتاهم اللهُ العِلمَ النَّافِعَ الذي يُفَرِّقونَ به بينَ الحَقِّ والباطِلِ أنَّ ما أنزَلَه اللهُ هو الحَقُّ لا غيرُه مِمَّا ألقاه الشَّيطانُ، فيُؤمِنوا بالقُرآنِ، ويَعمَلوا به، ويَزدادوا هُدًى .

فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ.

أي: فتَخضَعَ وتَلينَ قلوبُهم للحَقِّ الذي جاء مِن عِندِ اللهِ، وتَطمَئِنَّ به، وتُذعِنَ إليه وتُقِرَّ .

وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.

أي: وإنَّ اللهَ لَمُرشِدُ المؤمِنينَ إلى طريقِ الحَقِّ، ومُوَفِّقُهم لاتِّباعِه واجتِنابِ الباطِلِ، فلا يَضُرُّهم كَيدُ الشَّيطانِ وإلقاؤُه الباطِلَ

 

.

كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] .

وقال سُبحانَه: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال اللهُ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، في هذه الآيةِ أَخبَر اللهُ سُبحانَه أنَّه ما أَرسَلَ مِن رسولٍ ولا نبيٍّ إلَّا إذا تَمنَّى أَلقى الشَّيطانُ في أُمنيَّتِه، أي: إذا تَلَا أَلقى الشَّيطانُ في تِلاوتِه، فإذا كان هذا فِعْلَ الشَّيطانِ مع الرُّسُلِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فكيف بغَيرِهم؟! ولهذا يُغَلِّطُ القارئَ تارةً، ويُخَبِّطُ عليه القِراءةَ ويُشَوِّشُها عليه؛ فيُخَبِّطُ عليه لسانَه، أو يُشَوِّشُ عليه ذِهنَه وقلبَه، فإذا حَضَرَ عِندَ القِراءةِ لمْ يَعْدَمْ منه القارئُ هذا أو هذا، وربَّما جمَعَهما له؛ فكان مِن أهمِّ الأمورِ: الاستعاذةُ باللهِ تعالى منه عِندَ القِراءةِ

.

2- قد ذكر سُبحانَه أنواعَ القُلوبِ في قَولِه تعالى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ؛ فذكَرَ القَلبَ المَريضَ، وهو الضَّعيفُ المُنحَلُّ الذي لا تَثبُتُ فيه صورةُ الحَقِّ، والقَلبَ القاسِيَ اليابِسَ الذي لا يَقبَلُها ولا تَنطَبِعُ فيه؛ فهذان القَلبانِ شَقِيَّانِ مُعَذَّبانِ، ثمَّ ذكَرَ القَلبَ المُخبِتَ المُطمَئِنَّ إليه، وهو الذي ينتَفِعُ بالقُرآنِ ويزكو به ، فجَعَل اللهُ سُبحانَه وتعالى القلوبَ في هذه الآياتِ ثلاثةً: قلبَينِ مَفْتونَينِ، وقلْبًا ناجيًا؛ فالمَفْتونانِ: القلبُ الذي فيه مرَضٌ، والقلبُ القاسي. والناجي: القلبُ المؤْمِنُ المُخْبِتُ إلى ربِّه، وهو المُطْمَئنُّ إليه، الخاضعُ له، المُستسلِمُ المُنقادُ.

وذلك أنَّ القلبَ وغَيرَه مِنَ الأعضاءِ يُرادُ منه أنْ يَكونَ صحيحًا سليمًا لا آفةَ به، يَتأتَّى منه ما هُيِّئ له وخُلِق لأجْلِه. وخُروجُه عن الاستقامةِ إمَّا ليُبْسِه وقَساوتِه، وعدمِ التَّأتِّي لِما يُرادُ منه، كاليَدِ الشَّلَّاءِ، واللِّسانِ الأخرسِ، والعَينِ التي لا تُبصِرُ شيئًا، وإمَّا بمرضٍ وآفةٍ فيه تَمنَعُه مِن كمالِ هذه الأفعالِ ووُقوعِها على السَّدادِ؛ فلذلك انقسمَتِ القلوبُ إلى هذه الأقسامِ الثَّلاثةِ.

فالقلبُ الصَّحيحُ السَّليمُ: ليس بيْنه وبيْن قَبولِ الحقِّ ومَحبَّتِه وإيثارِه سِوى إدراكِه، فهو صحيحُ الإدراكِ للحقِّ، تامُّ الانقيادِ والقَبولِ له.

والقلبُ المَيِّتُ القاسي: لا يَقْبَلُه، ولا يَنقادُ له.

والقلبُ المريضُ: إنْ غَلَبَ عليه مرَضُه التَحَقَ بالمَيِّتِ القاسي، وإنْ غَلبَتْ عليه صِحَّتُه التَحَقَ بالسَّليمِ.

فما يُلقيه الشَّيطانُ في الأسماعِ مِنَ الألفاظِ، وفي القلوبِ مِنَ الشُّبَهِ والشُّكوكِ: فيه فِتنةٌ لهذَينِ القلبَينِ، وقوَّةٌ للقلبِ الحيِّ السَّليمِ؛ لأنَّه يَرُدُّ ذلك ويَكرَهُه ويُبغِضُه، ويَعلَمُ أنَّ الحقَّ في خلافِه، فيُخبِتُ للحقِّ قلْبُه، ويَطمئنُّ ويَنقادُ، ويَعلمُ بُطلانَ ما ألْقاه الشَّيطانُ؛ فيَزدادُ إيمانًا بالحقِّ ومحبَّةً له، وكُفرًا بالباطل وكَراهةً له. فلا يَزالُ القلبُ المَفتونُ في مِرْيةٍ مِن إلقاءِ الشَّيطانِ، وأمَّا القلبُ الصَّحيحُ السَّليمُ فلا يَضُرُّه ما يُلقيه الشَّيطانُ أبدًا

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ دالٌّ على أَنَّ للنَّبيِّ معنًى غيرَ معنَى الرَّسولِ، وليس مرادفًا له؛ وذلك لعطفِه عليه

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فيه عِصمةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما استقَرَّ تَبليغُه مِن الرِّسالةِ، باتِّفاقِ المُؤمِنينَ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ هذه الآيةُ لا تعارُضَ بيْنها وبين الآيةِ المصَرِّحةِ بأنَّ الشَّيطانَ لا سُلطانَ له على عبادِ الله المؤمِنينَ المتوكِّلينَ، ومعلومٌ أنَّ خيارَهم الأنبياءُ، كقوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 99-100] ، وقولِه تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر: 42] ، وقَولِه تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82-83] ، وقولِه تعالى: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] . ووجهُ كونِ الآياتِ لا تعارُضَ بينها: أنَّ سُلطانَ الشَّيطانِ المنفيَّ عن المؤمنينَ المتوكِّلينَ في معناهُ وجهانِ للعلماءِ:

الأول: الحُجَّةُ الواضِحةُ، وعليه فلا إشكالَ؛ إذ لا حُجَّةَ مع الشيطانِ البتَّةَ، كما اعترف به فيما ذَكَر اللهُ عنه في قولِه: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] .

الثاني: أنَّ معناه: لا تَسلُّطَ له عليهم بإيقاعِهم في ذنْبٍ يَهلِكونَ به، ولا يتوبونَ منه، فلا يُنافي هذا ما وقَع مِن آدَمَ وحوَّاءَ وغيرِهما؛ فإنَّه ذنْبٌ مغفورٌ؛ لوقوعِ التوبة منه، فإلقاءُ الشَّيطانِ في أمنيةِ النبيِّ -سواءٌ فسَّرناها بالقراءةِ، أو التمنِّي لإيمانِ أمَّتِه- لا يتضَمَّنُ سُلطانًا للشيطانِ على النبيِّ، بل من جنسِ الوسوسةِ وإلقاءِ الشُّبَهِ لصَدِّ النَّاسِ عن الحَقِّ، كقَولِه: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النمل: 24].

4- في قَولِه: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ دليلٌ على أنَّ العِلمَ يدُلُّ على الإيمانِ، ليس أنَّ أهلَ العِلمِ ارتَفَعوا عن دَرجةِ الإيمانِ -كما يتوهَّمُه طائفةٌ مِنَ المتكَلِّمةِ- بل معهم العِلمُ والإيمانُ، كما قال تعالى: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [النساء: 162] ، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ [الروم: 56] الآيةَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

- القصْرُ المُستفادُ مِن النَّفيِ والاستثناءِ في قولِه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى قَصْرُ مَوصوفٍ على صِفَةٍ، وهو قَصْرٌ إضافيٌّ، أي: دونَ أنْ نُرسِلَ أحدًا منهم في حالِ الخُلُوِّ مِن إلْقاءِ الشَّيطانِ ومَكْرِه

.

- و(مِن) في قولِه: مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ زائدةٌ، تُفِيدُ استغراقَ الجِنْسِ؛ فأفادَ أنَّ ذلك لم يَعْدُ أحدًا مِن الأنبياءِ والرُّسلِ .

- قَولُه: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ مَفعولُ أَلْقَى مَحذوفٌ دَلَّ عليه المَقامُ؛ لأنَّ الشَّيطانَ إنَّما يُلْقِي الشَّرَّ والفسادَ، فإسنادُ التَّمنِّي إلى الأنبياءِ دَلَّ على أنَّه تَمنِّي الهُدى والصَّلاحِ -وذلك على أحدِ القولينِ في معنَى التمنِّي-، وإسنادُ الإلْقاءِ إلى الشَّيطانِ دَلَّ على أنَّه إلْقاءُ الضَّلالِ والفسادِ .

- قولُه: فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ في كِلْتا الجُملتينِ إيجازٌ بالحَذْفِ، أي: يَنسَخُ آثارَ ما يُلْقِي الشَّيطانُ، ويُحكِمُ آثارَ آياتِه . والإتيانُ بصِيغَةِ المُضارِعِ في الفِعْلينِ (فَيَنْسَخُ - يُحْكِمُ)؛ للدَّلالةِ على الاستِمرارِ التَّجدُّديِّ .

- وفي قولِه: ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ إظهارٌ لِلَفْظِ الجَلالةِ في مَوقِعِ الإضمارِ؛ لزيادةِ التَّقريرِ، والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ مِن مُوجِباتِ إحكامِ آياتِه الباهرةِ .

- و(ثمَّ) في قولِه: ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ للتَّرتيبِ الرُّتبيِّ؛ لأنَّ إحكامَ الآياتِ وتَقريرَها أهَمُّ مِن نَسْخِ ما يُلْقِي الشَّيطانُ؛ إذ بالإحكامِ يَتَّضِحُ الهُدى، ويَزدادُ ما يُلْقِيه الشَّيطانُ نَسْخًا .

- قولُه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ جُملةٌ مُعترِضةٌ ، وفيه أيضًا إظهارٌ لِلَفْظِ الجَلالةِ في مَقامِ الإضمارِ؛ لزيادةِ التَّقريرِ، والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ مِن مُوجِباتِ إحكامِ آياتِه الباهرةِ، ولتأْكيدِ استِقلالِ الاعتراضِ التَّذييليِّ .

2- قَولُه تعالى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ

- قولُه: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ عِلَّةٌ لتَمكينِ الشَّيطانِ مِن الإلْقاءِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ المُلْقى أمْرٌ ظاهِرٌ عرَفَه المُحِقُّ والمُبْطِلُ . وقيل: هي لامُ العاقِبةِ .

- قَولُه: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَه .

- وذِكْرُ الظَّالمينَ في وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ من الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ عِلَّةَ كَونِهم في شِقاقٍ بَعيدٍ هي ظُلْمُهم .

- قولُه: لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ في وَصْفِ الشِّقاقِ بالبعيدِ: مُبالَغةٌ في انتهائِه، وأنَّهم غيرُ مَرْجُوٍّ رَجْعَتُهم منه؛ فالبَعيدُ هنا مُستعمَلٌ في معنى: البالِغِ حَدًّا قَوِيًّا في حَقيقتِه؛ تَشبيهًا لانتشارِ الحقيقةِ فيه بانتشارِ المسافةِ في المكانِ البعيدِ، كما في قولِه تعالى: فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] ، أي: دُعاءٍ كَثيرٍ مُلِحٍّ .

3- قَولُه تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ

- قَولُه: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ اللامُ في وَلِيَعْلَمَ للتَّعليلِ، أي: يَنسَخُ اللهُ ما يُلْقي الشَّيطانُ؛ لإرادةِ أنْ يَعلَمَ المُؤمِنون أنَّه الحقُّ .

- والضَميرُ في أَنَّهُ الْحَقُّ عائدٌ إلى العِلْمِ الَّذي أُوتُوه، أي: لِيَزدادوا يَقينًا بأنَّ الوحيَ الَّذي أُوتُوه هو الحقُّ لا غيرُه؛ فالقَصرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ الجُزأينِ في أَنَّهُ الْحَقُّ قَصرٌ إضافيٌّ. ويَجوزُ أنْ يكونَ ضَميرُ أَنَّهُ عائدًا إلى ما تَقدَّمَ مِن قولِه: فَيَنْسَخُ اللَّهُ إلى قولِه: ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ، أي: أنَّ المذكورَ هو الحقُّ .

- قولُه: وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ الجُملةُ اعتراضٌ مُقرِّرٌ لِمَا قَبْلَه .

- وإظهارُ لفْظِ الَّذِينَ آَمَنُوا في مَقامِ ضَميرِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ؛ لِقَصْدِ مَدْحِهم بوَصفِ الإيمانِ، والإيماءِ إلى أنَّ إيمانَهم هو سبَبُ هَدْيِهم

 

.

=============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (55-57)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ

غريب الكلمات :

 

مِرْيَةٍ: أي: شكٍّ، وقيل: المِرْيةُ: التردُّدُ في الأمرِ، وهو أخصُّ مِن الشَّكِّ

.

بَغْتَةً: أي: فجأَةً، وكلُّ ما جاءَ فجأةً فقد بَغَتَ، يقال: قد بَغَتَه الأمرُ يَبْغَتُه بغْتًا وبَغتةً، إذَا أتاه فجأةً، وأصْلُ (بغت): مُفاجأةُ الشَّيءِ مِن حيث لا يحتسِبُ .

عَقِيمٍ : أي: لا خَيْرَ فيه للكافرينَ، كأنَّ ذلك اليومَ عليهم يومٌ لا ليلَ لهم بَعدَه؛ مِن العُقمِ: وهو القَطعُ والمَنعُ، يُقالُ: رجُلٌ عَقيمٌ: إذا مُنِعَ مِن الوَلَدِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: ولا يَزالُ الكافِرونَ المُكَذِّبونَ في شَكٍّ مِنَ القُرآنِ إلى أن تأتيَهم السَّاعةُ فَجأةً، وهم على تَكذيبِهم، أو يأتيَهم عذابُ يومٍ عقيمٍ.

المُلكُ والسُّلطانُ يومَ القيامةِ لله وَحْدَه، وهو سُبحانَه يقضي بين المُؤمِنينَ والكافرينَ؛ فالذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ، لهم النَّعيمُ الدَّائِمُ في الجَنَّاتِ، والذينَ كَفَروا باللهِ ورَسولِه وكذَّبوا بآياتِ القُرآنِ لهم عذابٌ مُخزٍ مُذِلٌّ في جَهنَّمَ.

تفسير الآيات:

 

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا بيَّن اللهُ سُبحانَه حالَ الكافِرينَ أوَّلًا، ثمَّ حالَ المؤمنين ثانيًا، عاد إلى شرْحِ حالِ الكافرينَ مرَّةً أخرى

.

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ.

أي: ولا يَزالُ الذين كَفَروا في شَكٍّ ورَيبٍ مِنَ القُرآنِ؛ لإعراضِهم وعنادِهم .

حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ.

أي: هم مُستَمِرُّونَ على تلك الحالِ إلى أن يأتيَهم يومُ القيامةِ فَجأةً، أو يأتيَهم عذابُ يَومٍ عقيمٍ .

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

بعدَ أن بيَّن سبحانَه حالَ الفريقينِ فى الدُّنيا؛ أرشَد إلى حالِهم فى الآخرةِ .

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.

أي: السُّلطانُ يومَ القيامةِ لله وَحْدَه، لا مُنازِعَ له فيه، يَحكُمُ فيه بالعَدلِ بينَ عِبادِه المُؤمِنينَ والكافرينَ .

كما قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] .

وقال سُبحانَه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان: 26] .

وقال عزَّ وجَلَّ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .

فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

أي: فالذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه وما جاء به مِن عندِ اللهِ تعالى، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ؛ يكونونَ يَومَ القيامةِ في جنَّاتِ النَّعيمِ، يَتنَعَّمونَ فيها بأرواحِهم وأبدانِهم .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ ثوابَ المُؤمِنينَ العامِلينَ للصَّالحاتِ؛ ثَنَّى بذِكرِ مَن يُقابِلُهم .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57).

أي: والذينَ كَفَروا باللهِ ورَسولِه وكذَّبوا بآياتِ القُرآنِ، فأولئك لهم يَومَ القيامةِ عَذابٌ مُخْزٍ ومُذِلٌّ في النَّارِ؛ جزاءً لهم على استِكبارِهم عن الحَقِّ، واستِهانتِهم بآياتِ اللهِ ورُسُلِه

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] .

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله عزَّ وجلَّ: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصالحُ مبنيٌّ على الإيمانِ، فعملٌ بلا إيمانٍ لا فائدةَ منه، فالمنافقون يَعملون، ويَذْكرون الله، ويُصَلُّون، ويتصدَّقون، ولكن ليس عندَهم إيمانٌ؛ فلا ينفعُهم، ولهذا يقدِّمُ الله عزَّ وجلَّ الإيمانَ على العملِ الصالحِ

.

2- الإيمانُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن عملٍ، والعملُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن إيمانٍ، فلا يستحقُّ الجنةَ إلَّا مَن جمَع بينَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ؛ قال تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وإذا ذُكِر ثوابُ الجنةِ مقيَّدًا أو معلَّقًا بالإيمانِ وحْدَه، فالمرادُ بذلك الإيمانُ المتضمِّنُ للعملِ الصالحِ .

3- العملُ لا ينفعُ صاحبَه إلَّا إذا كان صالحًا؛ قال تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصالحُ هو: الخالصُ الصوابُ؛ أي: ما ابتُغِي به وجهُ الله، وكان على شريعةِ الله

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- لَمَّا ذكَرَ عزَّ وجَلَّ أهلَ الإيمانِ وثوابَهم، ذكَرَ أصحابَ الشِّمالِ بعد ذلك، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ؛ لأنَّ القُرآنَ مَثانٍ، تُثَنَّى فيه الأمورُ والمعاني؛ ولهذا تجِدُ القُرآنَ الكريمَ في الغالبِ إذا ذكَرَ اللهُ الجنَّةَ ذكَرَ النَّارَ، وإذا ذكَرَ أولياءَ اللهِ ذكَرَ أعداءَ الله، والحِكمةُ مِن ذلك ألَّا يَمَلَّ الإنسانُ؛ لأنَّه كُلَّما تَنقَّلَ المعنى إلى معنًى آخَرَ نَشِطَ الإنسانُ، وحِكمةٌ أُخرى: أن يكونَ الإنسانُ سائرًا إلى الله، أي: مُتعَبِّدًا إلى الله بين الخَوفِ والرَّجاءِ؛ لأنَّه إذا مَرَّت به صفاتُ المؤمِنينَ قَوِيَ جانِبُ الرَّجاءِ، وإذا ذُكِرَت أحوالُ الكافِرينَ غَلَب جانِبُ الخَوفِ

.

2- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا الكُفرُ قد يَصحَبُه التَّكذيبُ وقد لا يَصحَبُه؛ ولهذا أحيانًا يَذكُرُ اللهُ الكُفرَ فقط، مِثلُ قَولِه تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131] ، وأحيانًا يَذكُرُ التَّكذيبَ فقط، قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر: 32] ، وأحيانًا يَقرِنُ بينهما كما هنا؛ وذلك لأنَّ كُلًّا منهما قد يكونُ وَحْدَه مُوجِبًا للخُلودِ في النَّارِ، فإذا اجتَمَعا جميعًا صار ذلك أشَدَّ وأعظَمَ. والعياذُ باللهِ .

3- لم يَجِئْ إعدادُ العذابِ المُهينِ في القُرآنِ إلَّا في حَقِّ الكُفَّارِ، كقَولِه تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 37] ، وقَولِه: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 102] ، وقَولِه: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة: 90] ، وقَولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الحج: 57] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، وأمَّا العذابُ العظيمُ فقد جاء وعيدًا للمُؤمِنينَ في قَولِه: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68] ، وقَولِه: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 14] ، وفي المحارِبِ: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ المائدة: 33].

4- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً يدُلُّ على أنَّ الأعصارَ إلى قيامِ السَّاعةِ لا تخلو مِمَّن هذا وَصْفُه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ خَصَّ في هذه الآيةِ الكافرينَ بالقُرآنِ بعْدَ أنَّ عَمَّهم مع جُملةِ الكافرينَ بالرُّسلِ؛ فخَصَّهم بأنَّهم يَستمِرُّ شَكُّهم فيما جاء به محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَتردَّدونَ في الإقدامِ على الإسلامِ إلى أنْ يُحالَ بينهم وبينه بحُلولِ السَّاعةِ بَغتةً، أو بحُلولِ عَذابِ يومٍ عقيمٍ

.

- قولُه: الَّذِينَ كَفَرُوا فيه وَضْعُ المُظْهَرِ مَوضِعَ المُضْمَرِ، أي: لا يَزالونَ في مِرْيةٍ، وهم الشَّاكُّون الَّذين في قُلوبهم مَرضٌ .

- قولُه: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ المُرادُ به السَّاعةُ، كأنَّه قيل: أو يأْتِيَهم عَذابُها، فوُضِعَ ذلك مَوضِعَ ضَميرِها؛ لمَزيدِ التَّهويلِ . وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.

2- قَولُه تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ

- قولُه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ استئنافٌ بَيانِيٌّ؛ فقد آذَنَتِ الغايةُ الَّتي في قولِه: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الحج: 55] أنَّ ذلك وَقْتُ زَوالِ مِرْيةِ الَّذين كَفَروا، فكان ذلك مَنشَأَ سُؤالِ سائلٍ عن صُورةِ زَوالِ المِرْيَةِ، وعن ماذا يَلْقَونه عندَ زَوالِها؟ فكان المَقامُ أنْ يُجابَ السُّؤالُ بجُملةِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، إلى آخِرِ ما فيها من التَّفصيلِ .

- والتَّعريفُ في الْمُلْكُ تَعريفُ الجِنْسِ؛ فدَلَّتْ جُملةُ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ على أنَّ ماهيَّةَ المُلْكِ مَقصورةٌ يَومَئذٍ على الكونِ مُلْكًا للهِ، أي: لا مُلْكَ لغَيرِه يومَئذٍ .

- والمقصودُ بالكَلامِ هو جُملةُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ؛ إذ هم البدلُ. وإنَّما قُدِّمَت جُملةُ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ؛ تَمهيدًا لها، ولِيَقَعَ البَيانُ بالبَدلِ بعْدَ الإبهامِ الَّذي في المُبْدَلِ منه . وقيل: جُملةُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ مُستأْنَفةٌ، وقعَتْ جَوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ من الإخبارِ بكَونِ المُلْكِ يَومئذٍ للهِ؛ كأنَّه قيل: فماذا يُصْنَعُ بهم حينئذٍ؟ فقيل: يَحكُمُ بين فريقيِ المؤمنينَ به والمُمارينَ فيه بالمُجازاةِ .

- قولُه: فَالَّذِينَ آَمَنُوا ... إلخ تَفسيرٌ للحُكمِ المذكورِ، وتَفصيلٌ له .

3- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ

- قولُه: فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ فيه التَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ (أُولَئِكَ) وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنزِلَتِهم في الشَّرِّ والفسادِ ، وللتَّنبيهِ على أنَّهم استحَقُّوا العذابَ المُهينَ؛ لأجْلِ ما تقدَّمَ مِن صِفَتِهم بالكُفْرِ والتَّكذيبِ بالآياتِ .

- وتَصديرُ الخبرِ بالفاءِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ تَعذيبَ الكُفَّارِ بسبَبِ أعمالِهم السَّيِّئةِ . وقيل: قُرِنَ فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ بالفاءِ؛ لِمَا تَضمَّنَه التَّقسيمُ مِن معنى حَرفِ التَّفصيلِ وهو (أمَّا)، كأنَّه قيل: وأمَّا الَّذين كَفَروا... لأنَّه لمَّا تقدَّمَ ثَوابُ الَّذين آمَنوا، كان المَقامُ مُثيرًا لسُؤالِ مَن يَترقَّبُ مُقابَلةَ ثَوابِ المُؤمِنين بعِقابِ الكافرينَ، وتلك المُقابَلةُ مِن مَواقِعِ حَرفِ التَّفصيلِ .

- وعَطَف التَّكذيبَ على الكُفرِ وهو نَوعٌ منه، في قَولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا؛ لأنَّه أشَدُّ، فالذي يَكفُرُ ولم يُكَذِّبْ أهوَنُ مِن الذي يَكفُرُ ويُكَذِّبُ؛ فعَطفُ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا على كَفَرُوا مِن بابِ عَطفِ الخاصِّ على العامِّ، كعَطفِ الرُّوحِ على الملائِكةِ، وهو منهم، قال الله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر: 4] ، والرُّوحُ جبريلُ عليه السَّلامُ، وهو مِن الملائِكةُ .

- وفي قولِه: عَذَابٌ مُهِينٌ قابَلَ النَّعيمَ بالعذابِ، ووصَفَهُ بالمُهينِ مُبالَغةً فيه ؛ فـ مُهِينٌ مُؤكِّدةٌ لِمَا أفادَهُ التَّنوينُ مِن الفَخامَةِ، وفيه مِن المُبالَغةِ مِن وُجوهٍ شَتَّى ما لا يَخْفَى .

===========

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (58-60)

ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ

غريب الكلمات:

 

مُدْخَلًا: أي: الجنةَ، والمُدخلُ: مكانٌ أو مصدرُ (أدْخَل) أي: إدخالًا، يُقالُ: أدخلتُه مُدْخَلًا، وهذا مُدْخلُه، أي: المكانُ الذي يدخلُ منه وقتَ إدخالِه، والدُّخولُ: نقيضُ الخروجِ، ويُستعمَلُ ذلك في المكانِ، والزَّمانِ، والأعمالِ

.

بُغِيَ عَلَيْهِ: أي: ظُلِم، وتُعُدِّي عليه، يُقالُ بَغَى الجرحُ: تجاوَز الحدَّ في فسادِه، وأصلُ (بغي): هنا جِنسٌ مِن الفسادِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: والذين خَرَجوا مِن دِيارِهم طَلَبًا لرِضا اللهِ، ونُصرةً لدِينِه، ثم قُتِلوا أو ماتوا؛ لَيَرزُقَنَّهم اللهُ رِزقًا كريمًا حَسَنًا، وإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لَهُو خَيرُ الرَّازِقينَ؛ لَيُدخِلَنَّهم اللهُ المُدْخَلَ الذي يُحبُّونَه وهو الجنَّةُ، وإنَّ اللهَ لَعليمٌ بمَن يَخرُجُ في سَبيلِه، ومَن يَخرُجُ طَلَبًا للدُّنيا، حَليمٌ بمن عصاه، فلا يُعاجِلُهم بالعُقوبةِ.

ذلك، ومَن عاقَبَ مِن العِبادِ مَن اعتَدَى عليه بمِثلِ اعتِدائِه، بالعَدلِ دُونَ زِيادةٍ، ثمَّ ظُلِمَ بالمُعاوَدةِ إلى عُقوبتِه؛ فإنَّ اللهَ يَنصُرُه على مَن ظَلَمَه، إنَّ اللهَ لعَفُوٌّ غَفورٌ.

تفسير الآيات:

 

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ المُلْكَ له يومَ القيامةِ، وأنَّه يَحكُمُ بينهم، ويُدخِلُ المُؤمِنينَ الجَنَّاتِ؛ أتبَعَه بذِكرِ وَعْدِه الكريمِ للمُهاجِرينَ، مُفرِدًا لهم بالذِّكرِ

.

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا.

أي: والذين فارَقوا دِيارَهم وأهلِيهم؛ طلبًا لرِضا اللهِ وطاعَتِه، ثُمَّ قُتِلوا أو ماتوا دُونَ قَتلٍ؛ فإنَّ اللهَ سيُثيبُهم رِزقًا كَريمًا .

كما قال تعالى: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] .

وقال سُبحانَه: فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران: 195] .

وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] .

وعن سَلمانَ الفارسيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((رِباطُ يَومٍ ولَيلةٍ خَيرٌ مِن صِيامِ شَهرٍ وقِيامِه، وإنْ مات جرى عليه عَمَلُه الذي كان يَعمَلُه، وأُجرِيَ عليه رِزقُه، وأَمِنَ الفَتَّانَ ) .

وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ .

أي: وإنَّ اللهَ لَهُو أفضَلُ مَن يَرزُقُ عِبادَه، ويُعطيهم مِن فَضْلِه .

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّه لَمَّا كان الرِّزقُ لا يَتِمُّ إلَّا بحُسنِ الدَّارِ، وكان ذلك مِن أفضَلِ الرِّزقِ؛ قال دالًّا على خِتامِ التي قَبلُ :

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ.

أي: ليُدخِلَنَّ اللهُ المُهاجِرينَ -الذين قُتِلوا أو ماتوا في سَبيلِه- الجنَّةَ، فيَرضَونَ بذلك، ولا يَبغُونَ بها بَدَلًا؛ جزاءً لهم على خُروجِهم مِن ديارِهم وأوطانِهم في سَبيلِه .

وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ.

أي: وإنَّ اللهَ لَعليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه بنِيَّةِ مَن يُهاجِرُ ويُجاهِدُ، حَليمٌ لا يُعاجِلُ بالعُقوبةِ مَن عصاه مِن خَلْقِه، بل يُواصِلُ لهم مِن رِزْقِه، ويَمنَحُهم مِن فَضْلِه .

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ثوابَ مَن هاجَرَ وقُتِلَ أو ماتَ في سَبيلِ اللهِ؛ أخبَرَ أنَّه لا يَدَعُ نُصرَتَهم في الدُّنيا على مَن بغَى عليهم .

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ.

أي: ذلك ومَن عاقَبَ مِن العِبادِ مَن اعتَدَى عليه بمِثلِ اعتِدائِه بالعَدلِ دُونَ زِيادةٍ، ثمَّ ظُلِمَ بالمُعاوَدةِ إلى عُقوبتِه؛ فإنَّ اللهَ يَنصُرُه على مَن ظَلَمَه .

إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.

أي: إنَّ اللهَ كَثيرُ العَفوِ والغُفرانِ لعِبادِه المُؤمِنينَ

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال اللهُ تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ يَجوزُ لمَن جُنيَ عليه وظُلِمَ مُقابلةُ الجاني بمِثْلِ جِنايتِه، فإنْ فَعَل ذلك فليس عليه سَبيلٌ، وليس بمَلومٍ، فإنْ بُغِيَ عليه بَعدَ هذا فإنَّ اللهَ يَنصُرُه؛ لأنَّه مَظلومٌ، فلا يَجوزُ أنْ يُبغَى عليه بسبَبِ أنَّه استَوْفَى حقَّه. وإذا كان المُجازي غَيرَه بإساءتِه إذا ظُلِم بَعدَ ذلك نَصَرَه اللهُ، فالَّذي بالأصلِ لمْ يُعاقِبْ أَحدًا إذا ظُلِم وجُنِيَ عليه؛ فالنَّصرُ إليه أَقرَبُ

.

2- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فمُعامَلتُه لعِبادِه في جميعِ الأوقاتِ بالعَفوِ والمغفرةِ، فيَنبَغي لكم أيُّها المَظلومون المَجنيُّ عليهم، أنْ تَعفوا وتَصفَحوا وتَغفِروا؛ ليُعامِلَكمُ اللهُ كما تُعامِلون عِبادَه فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ

 

[الشورى: 40].

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا، وإنَّما سَوَّى بينَ مَن قُتِلَ في الجهادِ ومَن مات حَتْفَ أنْفِه في الوعْدِ؛ لاستوائِهما في القَصدِ وأصْلِ العمَلِ

، وقد استدلَّ به فَضالةُ بنُ عبيدٍ الأنصاريُّ الصحابيُّ على أنَّ المقتولَ والميِّتَ في سبيلِ الله سواءٌ في الفضلِ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا هذه بِشارةٌ كُبرى لِمن هاجَرَ في سَبيلِ اللهِ، فخرَجَ مِن دارِه ووَطنِه وأولادِه ومالِه؛ ابتغاءَ وَجهِ اللهِ، ونُصرةً لدينِ اللهِ، فهذا قد وجب أجرُه على اللهِ، سواءٌ مات على فِراشِه، أو قُتِلَ مُجاهِدًا في سَبيلِ اللهِ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا، فيه التعبيرُ بأداةِ التَّراخي ثُمَّ؛ إشارةً إلى طولِ العمرِ، وعلوِّ الرُّتبةِ بسببِ الهجرةِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، فيه سؤالٌ: إنْ قيل: الرَّازق في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى، فكيف قال: لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ؟

والجوابُ على ذلك مِن وُجوهٍ:

الأوَّلُ: أنَّ صِيغةَ التَّفْضيلِ في قولِه: لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ نظرًا إلى أنَّ بعضَ المخلوقينَ يَرْزُقُ بعضَهم، كقولِه تعالَى: وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ [النساء: 5] ، وقولِه تعالَى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ الآيةَ [البقرة: 233] ، ولا شَكَّ أنَّ فضلَ رِزْقِ اللَّهِ خلقَه على رِزْقِ بعضِ خلقِه بعضَهم، كفضلِ ذاتِه وسائِرِ صفاتِه على ذواتِ خلقِه وصفاتِهم؛ فرَزْق اللهِ لخَلْقِه ليس كَرَزْق الناسِ بعضِهِم لبعضٍ، فبيْن الفِعلِ والفِعلِ مِنَ المُنافاةِ كمِثلِ ما بيْن الذَّاتِ والذَّاتِ .

الثاني: أنَ يَكونَ المرادُ: أنَّه الأصلُ في الرِّزقِ، وغَيرُه إنَّما يَرزُقُ بما تَقدَّمَ مِنَ الرِّزقِ مِن جِهةِ اللهِ تعالى.

الثالثُ: أنَّ غَيرَه إنَّما يَرزُقُ لو حَصَل في قلْبِه إرادةُ ذلك الفعلِ، وتلك الإرادةُ مِنَ اللهِ؛ فالرَّازقُ في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى.

الرابعُ: أنَّ الغَيرَ إذا رَزقَ، فلولا أنَّ اللهَ تعالى أَعطى ذلك الإنسانَ أنواعَ الحَواسِّ، وأَعطاهُ السَّلامةَ والصِّحَّةَ والقدرةَ على الانتِفاعِ بذلك الرِّزقِ، لَما أَمكَنه الانتِفاعُ به، ورِزقُ الغَيرِ لا بدَّ وأنْ يَكونَ مَسبوقًا برِزقِ اللهِ، ومَلحوقًا به؛ حتَّى يَحصُلَ الانتِفاعُ. وأمَّا رِزقُ اللهِ تعالى فإنَّه لا حاجةَ به إلى رِزقِ غَيرِه؛ فثَبَتَ أنَّه سُبحانَه خَيرُ الرَّازقين. وقيل غَيرُ ذلك .

5- قولُه تعالى: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا فيه وَصْفُ الرِّزقِ بالحُسْنِ؛ لإفادةِ أنَّه يُرْضيهم بحيث لا يَتطلَّبون غيرَه؛ لأنَّه لا أحسَنَ منه .

6- تَغييرُ أُسلوبِ الجَمْعِ الَّذي في قولِه: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ... إلى أُسلوبِ الإفرادِ في قولِه: وَمَنْ عَاقَبَ؛ للإشارةِ إلى إرادةِ العُمومِ مِن هذا الكلامِ؛ لِيَكونَ بمَنزِلَةِ القاعدةِ الكُلِّيَّةِ لسُنَّةٍ مِن سُنَنِ اللهِ تعالى في الأُمَمِ، ولمَّا أتى في الصِّلةِ هنا بفِعْلِ عَاقَبَ، مع قَصدِ شُمولِ عُمومِ الصِّلةِ للَّذينَ أُذِنَ لهم بأنَّهم ظُلِموا؛ عَلِمَ السَّامِعُ أنَّ القِتالَ المأْذونَ لهم به قِتالُ جَزاءٍ على ظُلْمٍ سابقٍ، وفي ذلك تَحديدٌ لقانونِ العِقابِ: أنْ يكونَ مُماثِلًا للعُدْوانِ المَجْزِيِّ عليه، أي: ألَّا يكونَ أشَدَّ منه .

7- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ كان هذا شَرعًا لأصولِ الدِّفاعِ عن جماعةِ المُسلِمينَ، وأمَّا آياتُ التَّرغيبِ في العَفوِ فليس هذا مقامَ تَنزيلِها، وإنَّما هي في شَرعِ مُعاملاتِ الأمَّةِ بَعضِها مع بَعضٍ، وقد أكَّدَ لهم اللهُ نَصْرَه إن هم امتَثَلوا لِما أُذِنوا به، وعاقَبوا بمِثلِ ما عُوقِبوا به .

8- قولُه تعالى: وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ سُمِّيَ الابتداءُ بالعِقابِ الَّذي هو الجزاءُ؛ لأنَّه سبَبٌ وذاك مُسبَّبٌ عنه، كما يَحمِلون النَّظيرَ على النَّظيرِ، والنَّقيضَ على النَّقيضِ للمُلابَسةِ . وقيل: سُمِّي جَزاءُ العُقوبةِ عُقوبةً؛ لاستِواءِ الفِعلَينِ في جِنسِ المَكروهِ، كقَولِه تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] ، فالأوَّلُ سَيئةٌ، والمُجازاةُ عليها سُمِّيَت سَيِّئةً بأنَّها وقَعَت إساءةً بالمَفعولِ به؛ لأنَّه فعَلَ به ما يَسوؤُه . وسُمِّيَ اعتداءُ المُشرِكين على المُؤمِنين عِقابًا؛ لأنَّ الَّذي دفَعَ المُعتدِينَ إلى الاعتداءِ قَصْدُ العِقابِ على خُروجِهم عن دِينِ الشِّركِ، ونَبْذِ عِبادةِ أصنامِهم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ

- قولُه: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا جُملةٌ ابتدائيَّةٌ لابتداءِ معنًى آخَرَ

. وفيها تَخصيصٌ للَّذين هاجَروا في سَبيلِ اللهِ بالذِّكْرِ؛ تَنويهًا بشأْنِ الهجرةِ ، وتَفخيمًا لشأنِ المهاجرينَ .

- وجُملةُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ اعتراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه. وصَريحُ هذه الجُملةِ: الثَّناءُ على اللهِ. وكِنايتُها: التَّعريضُ بأنَّ الرِّزقَ الَّذي يَرزُقُهم اللهُ هو خيرُ الأرزاقِ؛ لصُدورِه مِن خَيرِ الرَّازقينَ. وأُكِّدَتِ الجُملةُ بحَرفِ التَّوكيدِ (إنَّ)، ولامِهِ، وضَميرِ الفصلِ (هو)؛ تَصويرًا لعَظَمةِ رِزْقِ اللهِ تعالى .

2- قَولُه تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ

- قولُه: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ بدَلُ اشتمالٍ مِن قولِه: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ؛ لأنَّ كَرامةَ المَنزِلِ مِن جُملةِ الإحسانِ في العطاءِ، بل هي أبهَجُ لَدى أهْلِ الهِمَمِ؛ ولذلك وُصِفَ المدْخَلُ بـ يَرْضَوْنَهُ. أو استئنافٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِه .

- وجُملةُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ تَذييلٌ، أي: عليمٌ بما تَجشَّموهُ مِن المَشاقِّ في شأْنِ هِجْرَتِهم مِن دِيارِهم وأهْلِهم وأموالِهم، وهو حليمٌ بهم فيما لاقَوهُ، فهو يُجازِيهم بما لَقُوهُ مِن أجْلِه .

3- قَولُه تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

- قولُه: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ذَلِكَ خبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، أي: الأمْرُ ذلك، وهي جُملةٌ لتَقريرِ ما قبْلَه، والتَّنبيهِ على أنَّ ما بعْدَه كَلامٌ مُستأنَفٌ . وأيضًا اسمُ الإشارةِ ذَلِكَ للفصْلِ بين الكلامينِ؛ لَفْتًا لأذهانِ السَّامعينَ إلى ما سيَجِيءُ من الكَلامِ. وجُملةُ وَمَنْ عَاقَبَ ... مَعطوفةٌ على جُملةِ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... [الحج: 58] ، والغرَضُ منها التَّهيئةُ للجهادِ، والوعْدُ بالنَّصرِ الَّذي أُشِيرَ إليه سابقًا بقولِه تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، إلى قولِه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 39-40] ؛ فإنَّه قد جاء مُعترِضًا في خِلالِ النَّعيِ على تَكذيبِ المُكذِّبين وكُفْرِهم النِّعَمَ، فأُكْمِلَ الغرَضُ الأوَّلُ بما فيه مِن انتقالاتٍ، ثمَّ عُطِفَ الكلامُ إلى الغرَضِ الَّذي جَرَتْ منه لَمحةٌ؛ فعاد الكلامُ هنا إلى الوعْدِ بنَصرِ اللهِ القومَ المُعْتَدى عليهم، كما وعَدَهم بأنْ يُدخِلَهم في الآخرةِ مُدخَلًا يَرضَونَه .

- و(ثمَّ) مِن قولِه: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ عَطْفٌ على جُملةِ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ؛ فـ(ثمَّ) للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ فإنَّ البَغْيَ عليه أهَمُّ مِن كَونِه عاقَبَ بمِثْلِ ما عُوقِبَ به؛ إذ كان مَبْدوءًا بالظُّلْمِ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تَعليلٌ للاقتصارِ على الإذنِ في العِقابِ بالمُماثَلةِ في وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ دونَ الزِّيادةِ في الانتقامِ. ويَجوزُ أنْ يكونَ تَعليلًا للوعْدِ بجَزاءِ المُهاجِرينَ؛ اتِّباعًا للتَّعليلِ في وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ؛ لأنَّ الكلامَ مُستمِرٌّ في شأْنِهم .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث طابَقَ ذِكْرُ العَفُوِّ الغفورِ هذا الموضِعَ، ووَجْهُ تَعلُّقِ قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ بما تقدَّمَ: أنَّ اللهَ تعالى ندَبَ المُعاقِبَ إلى العَفْوِ عن الجاني، والعَفْوُ عن الجاني مَندوبٌ إليه، ومُستوجِبٌ عندَ اللهِ المدْحَ إنْ آثَرَ ما نُدِبَ إليه وملَكَ سَبيلَ التَّنزيهِ؛ فحينَ لم يُؤثِرْ ذلك وانتصَرَ وعاقَبَ، ولم يَنظُرْ في قولِه: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة: 237] ؛ فإنَّ اللهَ لعَفُوٌّ غفورٌ، أي: لا يَلومُه على تَركِ ما بعَثَهُ عليه، وهو ضامِنٌ لنَصرِهِ في كرَّتِه الثَّانيةِ مِن إخلالِه بالعَفْوِ وانتقامِه مِن الباغي عليه؛ فلمَّا لم يأْتِ بهذا المَندوبِ فهو نَوعُ إساءةٍ، فكأنَّه سُبحانَه قال: إنِّي قد عفَوتُ عن هذه الإساءةِ وغفَرْتُها؛ فإنِّي أنا الَّذي أذِنْتُ لك فيه. ويَجوزُ أنَّه سُبحانَه وإنْ ضَمِنَ له النَّصرَ على الباغي، لكنَّه عرَّضَ مع ذلك بما كان أَولى به مِن العَفْوِ والمغفرةِ؛ فلَوَّحَ بذِكْرِ هاتينِ الصِّفتينِ؛ ففي ذِكرِهما إشعار بأنَّ العفوَ أفضلُ مِن العقوبةِ فكأنَّه حضٌّ على العفوِ، فلمَّا قال: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ، اتَّجَهَ لسائلٍ أنْ يَسألَ: لماذا يَنصُرُهُ؟ قال: لأنَّ اللهَ عَفُوٌّ غفورٌ، وكان من الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: (إنَّ اللهَ يَنصُرُ المَظْلومين)؛ فعرَّضَ بهاتينِ الصِّفتينِ على سَبيلِ الكِنايةِ التَّلويحيَّةِ؛ لأنَّه أشار إلى المطلوبِ مِن بُعْدٍ. أو دَلَّ بذِكْرِ العَفْوِ والمغفرةِ على أنَّه قادِرٌ على العُقوبةِ؛ لأنَّه لا يُوصَفُ بالعفْوِ إلَّا القادرُ على ضِدِّه .

============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيتان (61-62)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

 

يُولِجُ: أي: يُدخِلُ، وأصلُ (ولج): يدُلُّ على دُخولِ شَيءٍ [967] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 103)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 161)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/142)، ((المفردات)) للراغب (ص: 882، 883))، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 120). .

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ذلك النَّصرُ المَذكورُ كائِنٌ بسَبَبِ أنَّه سُبحانَه قادِرٌ لا يَعجِزُ عن نُصرةِ مَن شاء نُصرَتَه، ومِن قُدرتِه أنَّه يُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهارِ، ويُدخِلُ النَّهارَ في اللَّيلِ، فيَزيدُ في أحَدِهما ما يَنقُصُه مِنَ الآخَرِ، وبالعَكسِ، وأنَّ اللهَ سَميعٌ لكُلِّ صَوتٍ، بصيرٌ بكُلِّ فِعلٍ، لا يخفى عليه شَيءٌ. ذلك بأنَّ اللهَ هو الإلهُ الحَقُّ الذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له، وأنَّ ما يَعبُدُه المُشرِكونَ مِن دُونِه مِنَ الأصنامِ والأندادِ هو الباطِلُ الذي لا يَنفَعُ ولا يَضُرُّ، وأنَّ اللهَ هو العليُّ الكبيرُ.

تفسير الآيتين:

 

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

تعَلُّقُ هذه الآيةِ بما قَبلَها مِن ثلاثةِ أوجهٍ:

الأوَّل: ذَلِكَ أي: ذلك النَّصرُ بسَبَبِ أنَّه قادِرٌ، ومِن آياتِ قُدرتِه البالغةِ كَونُه خالِقًا لِلَّيلِ والنَّهارِ، ومتصَرِّفًا فيهما؛ فوجَبَ أن يكونَ قادِرًا عالِمًا بما يَجري فيهما، وإذا كان كذلك كان قادِرًا على النَّصرِ مُصيبًا فيه.

الثاني: المرادُ أنَّه سُبحانَه مع ذلك النَّصرِ يُنعِمُ في الدُّنيا بما يَفعَلُه مِن تعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وولوجِ أحَدِهما في الآخَرِ [968] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/245). .

الثالث: أنَّه لَمَّا ختَمَ بهَذينِ الوَصفَينِ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، ذكَرَ مِنَ الدَّليلِ عليهما أمرًا جامِعًا للمَصالحِ، عامًّا للخلائِقِ، يكونُ فيه وبه الإحسانُ بالخَلقِ والرِّزقِ؛ فقال [969] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/80). :

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ.

أي: ذلك النَّصرُ المَذكورُ [970] ممَّن اختار أنَّ الإشارةَ بـ ذَلِكَ إشارةٌ إلى نَصرِ المَظلومِ على الظَّالمِ، المذكورِ في الآياتِ السَّابقةِ: ابنُ جرير، وابن الجوزي، والرسعني، والرازي، والقرطبي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/621)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/248)، ((تفسير الرسعني)) (5/87)، ((تفسير الرازي)) (23/245)، ((تفسير القرطبي)) (12/90)، ((تفسير الشوكاني)) (3/550)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/315). وقيل: المرادُ بالإشارةِ: مَعرِفةُ اتِّصافِه سُبحانَه بالوَصفَينِ المَذكورينِ في الآيةِ السَّابقةِ: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وممَّن قال بهذا المعنى: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/80). وقيل: المرادُ: ذلك الذي شرَعَ لكم تلك الأحكامَ الحَسَنةَ العادِلةَ، هو حَسَنُ التصَرُّفِ في تقديرِه وتَدبيرِه، الذي يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ. وممن قال بهذا المعنى: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 543). واختار الشنقيطيُّ أنَّ الإشارةَ ترجِعُ لقولِه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الحج: 56] ، إلى ما ذَكَره مِن نُصرةِ المظلومِ، أي: ذلك المذكورُ مِن كونِ الملكِ له وحْدَه يومَ القيامةِ، وأنَّه الحاكمُ وحْدَه بيْن خَلْقِه، وأنَّه المُدخِلُ الصَّالحين جنَّاتِ النَّعيمِ، والمُعذِّبُ الَّذين كفَروا العذابَ المُهينَ، والنَّاصرُ مَن بُغيَ عليه مِن عِبادِه المؤمِنين؛ بسببِ أنَّه القادرُ على كلِّ شَيءٍ، ومِن أدلَّةِ ذلك: أنَّه يولِجُ الليلَ في النهارِ... إلخ. يُنظر: ((أضواء البيان)) (5/293). كائِنٌ بسَبَبِ أنَّه سُبحانَه قادِرٌ لا يَعجِزُ عن نُصرةِ مَن شاء نُصرَتَه، ومِن علاماتِ قُدرتِه الباهِرةِ أنَّه يُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهارِ، ويُدخِلُ النَّهارَ في اللَّيلِ، فيَزيدُ في أحَدِهما ما يَنقُصُه مِنَ الآخَرِ، وبالعَكسِ؛ فتارةً يَطولُ النَّهارُ ويَقصُرُ اللَّيلُ، وتارةً يكونُ بعَكسِ ذلك [971] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/621)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449)، ((تفسير الشوكاني)) (3/550)، ((تفسير السعدي)) (ص: 543)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/293). وممَّن اختار المعنى المذكورَ لإيلاجِ كلٍّ مِن اللَّيلِ والنَّهارِ في الآخَرِ: ابنُ جرير، وابن كثير، والشوكاني، والسعدي، واستظهره الشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المراد: إدخالُ ظُلْمةِ هذا في مكانِ ضياءِ ذاك بغيبوبةِ الشَّمسِ، وضياءِ ذاك في مكانِ ظُلمةِ هذا بطُلوعِها. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: الزمخشريُّ، وابن جزي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/167، 168)، ((تفسير ابن جزي)) (2/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/315). .

وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.

أي: وذلك أيضًا بسَبَبِ أنَّه سَميعٌ لِما يقولُ عِبادُه، بَصيرٌ بأحوالِهم وأعمالِهم، حافِظٌ لكُلِّ ذلك، ثمَّ يجازيهم جَميعًا على ما قالوا وما عَمِلوا [972] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/621)، ((تفسير القرطبي)) (12/90)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449). قال البِقاعي: (وَأَنَّ اللَّهَ بجَلالِه وعظَمتِه سَمِيعٌ لِما يُمكِن أنْ يُسمع، بَصِيرٌ أي: مُبصِرٌ عالِم لِما يُمكِنُ أنْ يُبصَر، دائمُ الاتِّصافِ بذلك، فهو غَيرُ مُحتاجٍ إلى سُكونِ اللَّيلِ ليَسمعَ، ولا لضياءِ النَّهارِ ليُبصِرَ... وهو لتَمامِ قُدرتِه وعِلمِه لا يَخافُ في عَفْوِه غائلةً، ولا يُمكِنُ أنْ يَفوتَه أمْرٌ). ((نظم الدرر)) (13/80). .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ ذلك الوَصفَ الَّذي تَقدَّمَ ذِكرُه مِنَ القدرةِ على هذه الأمورِ إنَّما حَصَل لأجْلِ أنَّ اللهَ هو الحقُّ؛ فلا جَرَمَ أتَى بالوعدِ والوعيدِ [973] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/246). ، فلمَّا وصَف نفْسَه سُبحانَه بما ليس لغيرِه؛ علَّله بقولِه [974] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/80). :

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.

أي: ذلك الفِعلُ الذي فعَل -مِن إيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ، وإيلاجِ النَّهارِ في اللَّيلِ-، واتِّصافُه سبحانَه بكمالِ القدرةِ وتمامِ العلمِ؛ بسَبَبِ أنَّ اللهَ هو الإلهُ الحَقُّ الثَّابِتُ الإلهيَّةِ، الذي يَستحِقُّ العِبادةَ وَحْدَه دونَ ما سِواه [975] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/622)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/81)، ((تفسير الشوكاني)) (3/550)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/293). قال القرطبيُّ: (قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي: ذو الحقِّ، فدِينُه الحقُّ، وعِبادتُه حقٌّ. والمؤْمِنون يستحقُّون منه النَّصرَ بحُكمِ وعْدِه الحقِّ). ((تفسير القرطبي)) (12/91). .

وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ.

أي: وأنَّ ما يَدْعوه المُشرِكونَ مِن دُونِ اللهِ مِن الأصنامِ وغَيرِها: هو الباطلُ الذي لا يَنفَعُ ولا يَستَحِقُّ العِبادةَ [976] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/622)، ((تفسير القرطبي)) (12/91)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449). قال ابن تيميَّة: (الآلهةُ مَوجودةٌ، ولكِنْ عِبادتُها ودعاؤُها باطِلٌ لا ينفَعُ، والمقصودُ منها لا يَحصُلُ؛ فهو باطِلٌ، واعتِقادُ ألوهيَّتِها باطِلٌ، أي: غيرُ مُطابقٍ، واتِّصافُها بالإلهيَّةِ في أنفُسِها باطِلٌ لا بمعنى أنَّه معدومٌ). ((مجموع الفتاوى)) (5/516). وقال أيضًا: (هو مِن جِهةِ كَونِه مَعبودًا: باطِلٌ لا يُنتَفَعُ به، ولا يحصُلُ لعابِدِه مَقصودُ العبادةِ، وإنْ كان مِن جهةٍ أخرى هو شَمسٌ وقَمرٌ يُنتفَعُ بضيائِه ونُورِه، وهو يَسجُدُ لله ويُسَبِّحُه). ((الرد على الإخنائي)) (ص: 493). .

وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.

أي: وأنَّ اللهَ هو العالي على كُلِّ شَيءٍ بذاتِه وقَهرِه وقَدْرِه، الكبيرُ في ذاتِه وأسمائِه وصفاتِه، وكلُّ شَيءٍ دُونَه [977] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/622)، ((تفسير البغوي)) (3/349، 350)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/293). .

كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] .

وقال سُبحانَه: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9] .

الفوائد التربوية:

 

مِن أسماءِ اللهِ تعالى (السَّميعُ البَصيرُ): يَسمَعُ كُلَّ شَيءٍ، ويرى كُلَّ شَيءٍ، لا يخفى عليه دَبيبُ النَّملةِ السَّوداءِ، على الصَّخرةِ الصَّمَّاءِ، في اللَّيلةِ الظَّلماءِ؛ إنْ جهَرْتَ بقَولِك سَمِعَه، وإن أسرَرْتَ به لصاحِبِك سَمِعَه، وإن أخفَيتَه في نَفْسِك سَمِعَه، وأبلَغُ من ذلك أنَّه يَعلَمُ ما تُوسوِسُ به نَفْسُك وإن لم تَنطِقْ به! وإذا آمَنَ الإنسانُ بهذه الصِّفةِ العَظيمةِ -صِفةِ السَّمعِ- فإنَّ إيمانَه بذلك يقتَضي ألَّا يُسمِعَ اللهَ تعالى ما يكونُ سَببًا لغَضَبِه على عَبدِه.

وهو سُبحانَه البَصيرُ: فإنْ فعَلْتَ فِعلًا ظاهِرًا رآك، وإن فعَلْتَ فِعلًا باطِنًا ولو في جَوفِ بَيتٍ مُظلمٍ رآك، وإن تحرَّكْتَ بجَميعِ بدَنِك رآك، وإن حرَّكْتَ عُضوًا مِن أعضائِك رآك، وأبلَغُ مِن ذلك أنَّه يَعلَمُ خائِنةَ الأعيُنِ وما تُخفي الصُّدُورُ [978] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (6/172). ! فإذا آمَنَ العَبدُ بذلك انبَعَث منه قُوَّةُ الحياءِ، فيَسْتَحِي مِن رَبِّه أن يرَاهُ على مَا يَكرَهُ، أو يَسمَعَ منه ما يَكرَهُ، أو يُخفيَ في سَريرتِه ما يَمقُتُه عليه؛ فتبقى حَرَكاتُه وأقوالُه وخواطِرُه مَوزونةً بميزانِ الشَّرعِ، غيرَ مُهمَلةٍ ولا مُرسَلةٍ تحت حُكمِ الطَّبيعةِ والهَوى [979] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 70). .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فيه سُؤالٌ: أيُّ تعَلُّقٍ لقَولِه: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بما تقَدَّمَ؟

الجوابُ: المرادُ أنَّه كما يَقدِرُ على ما لا يَقدِرُ عليه غَيرُه، فكذلك يُدرِكُ المَسموعَ والمُبصَرَ، ولا يجوزُ المنعُ عليه، ويكونُ ذلك كالتَّحذيرِ مِنَ الإقدامِ على ما لا يجوزُ في المَسموعِ والمُبصَرِ [980] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/246). . وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ عَطفَ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ على السَّبَبِ؛ للإشارةِ إلى عِلمِ اللهِ بالأحوالِ كُلِّها؛ فهو يَنصُرُ مَن يَنصُرُه بعِلمِه وحِكمَتِه، ويَعِدُ بالنَّصرِ مَن عَلِمَ أنَّه ناصِرُه لا محالةَ، فلا يَصدُرُ منه شَيءٌ إلَّا عن حِكمةٍ [981] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/316). .

2- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ دَلالةٌ على أنَّ الحقَّ مِن أسماءِ الله الحُسنى [982] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 143). .

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ذَلِكَ إشارةٌ إلى الكَلامِ السَّابقِ الدَّالِّ على تَكفُّلِ النَّصرِ؛ فإنَّ النَّصرَ يَقْتضي تَغليبَ أحَدِ الضِّدَّينِ على ضِدِّهِ، وإقحامِ الجيشِ في الجيشِ الآخَرِ في المَلْحمةِ، فضَرَب له مثَلًا بتَغليبِ مُدَّةِ النَّهارِ على مُدَّةِ اللَّيلِ في بَعْضِ السَّنةِ، وتَغليبِ مُدَّةِ اللَّيلِ على مُدَّةِ النَّهارِ في بَعضِها؛ لِمَا تَقرَّرَ مِن اشتهارِ التَّضادِّ بينَ اللَّيلِ والنَّهارِ. ويجوزُ أنْ يكونَ اسمُ الإشارةِ تَكريرًا لشَبِيهِه السَّابقِ؛ لقَصرِ تَوكيدِه؛ لأنَّه مُتَّصِلٌ به؛ لأنَّ جُملةَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ... إلخ، مُرتبِطةٌ بجُملةِ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ  ... إلخ [983] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/316). . وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلُوِّ رُتْبَةِ ذلك النَّصرِ [984] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/117). .

- والجَمْعُ بين ذِكْرِ إيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ وإيلاجِ النَّهارِ في اللَّيلِ؛ للإشارةِ إلى تقلُّبِ أحوالِ الزَّمانِ؛ فقد يَصِيرُ المغلوبُ غالِبًا، ويَصيرُ ذلك الغالِبُ مَغلوبًا، مع ما فيه مِن التَّنبيهِ على تَمامِ القُدرةِ بحيث تَتعلَّقُ بالأفعالِ المُتضادَّةِ، ولا تَلزَمُ طَريقةً واحدةٍ كقُدرةِ الصُّنَّاعِ من البشَرِ. وفيه: إدماجُ التَّنبيهِ بأنَّ العذابَ الَّذي استبطأَهُ المُشرِكون مَنوطٌ بحُلولِ أجَلِه، وما الأجَلُ إلَّا إيلاجُ ليلٍ في نَهارٍ، ونَهارٍ في لَيلٍ. وفي ذِكْرِ اللَّيلِ والنَّهارِ في هذا المَقامِ: إدماجُ تَشبيهِ الكُفْرِ باللَّيلِ، والإسلامِ بالنَّهارِ؛ لأنَّ الكُفْرَ ضَلالةُ اعتقادٍ، فصاحِبُه مِثْلُ الَّذي يَمْشي في ظُلمةٍ، ولأنَّ الإيمانَ نُورٌ يَتجلَّى به الحقُّ والاعتقادُ الصَّحيحُ، فصاحِبُه كالَّذي يَمْشي في النَّهارِ، ففي هذا إيماءٌ إلى أنَّ الإيلاجَ المقصودَ هو ظُهورُ النَّهارِ بعْدَ ظُلمةِ اللَّيلِ، أي: ظُهورُ الدِّينِ الحقِّ بعْدَ ظُلمةِ الإشراكِ؛ ولذلك ابتُدِئَ في الآيةِ بإيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ، أي: دُخولِ ظُلمةِ اللَّيلِ تحْتَ ضَوءِ النَّهارِ. وقولُه: وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ تَتميمٌ [985] التَّتميم: من أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التتميمِ قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51) و(1/240، 241). ؛ لإظهارِ صَلاحيَّةِ القُدرةِ الإلهيَّةِ [986] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/315، 316). .

- وقولُه: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مِن بابِ التَّكميلِ [987] التكميلُ هو الاحتراسُ، والفَرقُ بينه وبين التَّتميم: أنَّ الاحتراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التتميم فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بيْنهما إذَنْ هي التباينُ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51) و(1/240، 241). ، إذا كان المعنى: ذلك النَّصرُ بسبَبِ أنَّه قادِرٌ، ومِن آياتِ قُدرتِه البالغةِ أنَّه يُولِجُ اللَّيْلَ... أو مِن بابِ التَّتميمِ، إذا كان المعنى: ذلك بسبَبِ أنَّه خالِقُ اللَّيلِ والنَّهارِ [988] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/520). .

2- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ

- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ذَلِكَ إشارةٌ إلى الاتِّصافِ بما ذُكِرَ مِن كَمالِ القُدرةِ والعِلْمِ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلُوِّ رُتْبَتِه [989] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/117). .

- والقَصرُ المُسْتفادُ مِن ضَميرِ الفَصلِ في قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ قَصرٌ حَقيقيٌّ. وأمَّا القَصرُ في وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ؛ فهو قَصرٌ ادِّعائيٌّ لعدَمِ الاعتدادِ بباطِلٍ غَيرِها، حتَّى كأنَّه ليس من الباطلِ. وهذا مُبالَغةٌ في تَحقيرِ أصنامِهم [990] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/316). .

- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ، وقال في سُورةِ لُقمانَ: وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ [لقمان:30] ؛ فخُصَّتْ سُورةُ الحجِّ بالتَّوكيدِ بضَميرِ الفَصلِ، ولم يُؤْتَ به في سُورةِ لُقمانَ. ووَجْهُه: أنَّ ما في سُورةِ الحجِّ وقَعَ بعْدَ عشْرِ آياتٍ، كلُّ آيةٍ مُؤكَّدةٌ مرَّةً أو مرَّتينِ [991] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص:930، 931)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 182)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/327)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 386). . وقيل: وَجْهُ ذلك: أنَّه لمَّا تقدَّمَ في هذه السُّورة ذِكْرُ اللهِ سُبحانَه وذِكْرُ الشَّيطانِ، أكَّدَهما؛ فإنَّه خبَرٌ وقَعَ بين خَبرينِ، ولم يَتقدَّمْ في لُقمانَ ذِكْرُ الشَّيطانِ؛ فأُكِّدَ ذِكْرُ اللهِ تعالى، وأُهْمِلَ ذِكْرُ الشَّيطانِ، وهذه دَقيقةٌ [992] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 183). .

وقيل: وَجْهُ ذلك: أنَّه لم يتقدَّمْ هنا من الدَّليلِ على بُطلانِ الأوثانِ مِثْلُ ما ذَكَرَه في لُقمانَ لداعي الحالِ إلى التَّأكيدِ بضَميرِ الفَصلِ؛ فقال: هُوَ الْبَاطِلُ؛ لأنَّه مُمكِنٌ وُجودُه وعدَمُه، فليس له مِن ذاتِه إلَّا العدَمُ كغيرِه من المُمْكِناتِ [993] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/80). .

=============

فقرة مكررة

 

سورةُ الحَجِّ

الآيتان (61-62)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

 

يُولِجُ: أي: يُدخِلُ، وأصلُ (ولج): يدُلُّ على دُخولِ شَيءٍ .

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ذلك النَّصرُ المَذكورُ كائِنٌ بسَبَبِ أنَّه سُبحانَه قادِرٌ لا يَعجِزُ عن نُصرةِ مَن شاء نُصرَتَه، ومِن قُدرتِه أنَّه يُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهارِ، ويُدخِلُ النَّهارَ في اللَّيلِ، فيَزيدُ في أحَدِهما ما يَنقُصُه مِنَ الآخَرِ، وبالعَكسِ، وأنَّ اللهَ سَميعٌ لكُلِّ صَوتٍ، بصيرٌ بكُلِّ فِعلٍ، لا يخفى عليه شَيءٌ. ذلك بأنَّ اللهَ هو الإلهُ الحَقُّ الذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له، وأنَّ ما يَعبُدُه المُشرِكونَ مِن دُونِه مِنَ الأصنامِ والأندادِ هو الباطِلُ الذي لا يَنفَعُ ولا يَضُرُّ، وأنَّ اللهَ هو العليُّ الكبيرُ.

تفسير الآيتين:

 

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

تعَلُّقُ هذه الآيةِ بما قَبلَها مِن ثلاثةِ أوجهٍ:

الأوَّل: ذَلِكَ أي: ذلك النَّصرُ بسَبَبِ أنَّه قادِرٌ، ومِن آياتِ قُدرتِه البالغةِ كَونُه خالِقًا لِلَّيلِ والنَّهارِ، ومتصَرِّفًا فيهما؛ فوجَبَ أن يكونَ قادِرًا عالِمًا بما يَجري فيهما، وإذا كان كذلك كان قادِرًا على النَّصرِ مُصيبًا فيه.

الثاني: المرادُ أنَّه سُبحانَه مع ذلك النَّصرِ يُنعِمُ في الدُّنيا بما يَفعَلُه مِن تعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وولوجِ أحَدِهما في الآخَرِ .

الثالث: أنَّه لَمَّا ختَمَ بهَذينِ الوَصفَينِ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، ذكَرَ مِنَ الدَّليلِ عليهما أمرًا جامِعًا للمَصالحِ، عامًّا للخلائِقِ، يكونُ فيه وبه الإحسانُ بالخَلقِ والرِّزقِ؛ فقال :

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ.

أي: ذلك النَّصرُ المَذكورُ كائِنٌ بسَبَبِ أنَّه سُبحانَه قادِرٌ لا يَعجِزُ عن نُصرةِ مَن شاء نُصرَتَه، ومِن علاماتِ قُدرتِه الباهِرةِ أنَّه يُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهارِ، ويُدخِلُ النَّهارَ في اللَّيلِ، فيَزيدُ في أحَدِهما ما يَنقُصُه مِنَ الآخَرِ، وبالعَكسِ؛ فتارةً يَطولُ النَّهارُ ويَقصُرُ اللَّيلُ، وتارةً يكونُ بعَكسِ ذلك .

وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.

أي: وذلك أيضًا بسَبَبِ أنَّه سَميعٌ لِما يقولُ عِبادُه، بَصيرٌ بأحوالِهم وأعمالِهم، حافِظٌ لكُلِّ ذلك، ثمَّ يجازيهم جَميعًا على ما قالوا وما عَمِلوا .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ ذلك الوَصفَ الَّذي تَقدَّمَ ذِكرُه مِنَ القدرةِ على هذه الأمورِ إنَّما حَصَل لأجْلِ أنَّ اللهَ هو الحقُّ؛ فلا جَرَمَ أتَى بالوعدِ والوعيدِ ، فلمَّا وصَف نفْسَه سُبحانَه بما ليس لغيرِه؛ علَّله بقولِه :

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.

أي: ذلك الفِعلُ الذي فعَل -مِن إيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ، وإيلاجِ النَّهارِ في اللَّيلِ-، واتِّصافُه سبحانَه بكمالِ القدرةِ وتمامِ العلمِ؛ بسَبَبِ أنَّ اللهَ هو الإلهُ الحَقُّ الثَّابِتُ الإلهيَّةِ، الذي يَستحِقُّ العِبادةَ وَحْدَه دونَ ما سِواه .

وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ.

أي: وأنَّ ما يَدْعوه المُشرِكونَ مِن دُونِ اللهِ مِن الأصنامِ وغَيرِها: هو الباطلُ الذي لا يَنفَعُ ولا يَستَحِقُّ العِبادةَ .

وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.

أي: وأنَّ اللهَ هو العالي على كُلِّ شَيءٍ بذاتِه وقَهرِه وقَدْرِه، الكبيرُ في ذاتِه وأسمائِه وصفاتِه، وكلُّ شَيءٍ دُونَه .

كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] .

وقال سُبحانَه: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9] .

الفوائد التربوية:

 

مِن أسماءِ اللهِ تعالى (السَّميعُ البَصيرُ): يَسمَعُ كُلَّ شَيءٍ، ويرى كُلَّ شَيءٍ، لا يخفى عليه دَبيبُ النَّملةِ السَّوداءِ، على الصَّخرةِ الصَّمَّاءِ، في اللَّيلةِ الظَّلماءِ؛ إنْ جهَرْتَ بقَولِك سَمِعَه، وإن أسرَرْتَ به لصاحِبِك سَمِعَه، وإن أخفَيتَه في نَفْسِك سَمِعَه، وأبلَغُ من ذلك أنَّه يَعلَمُ ما تُوسوِسُ به نَفْسُك وإن لم تَنطِقْ به! وإذا آمَنَ الإنسانُ بهذه الصِّفةِ العَظيمةِ -صِفةِ السَّمعِ- فإنَّ إيمانَه بذلك يقتَضي ألَّا يُسمِعَ اللهَ تعالى ما يكونُ سَببًا لغَضَبِه على عَبدِه.

وهو سُبحانَه البَصيرُ: فإنْ فعَلْتَ فِعلًا ظاهِرًا رآك، وإن فعَلْتَ فِعلًا باطِنًا ولو في جَوفِ بَيتٍ مُظلمٍ رآك، وإن تحرَّكْتَ بجَميعِ بدَنِك رآك، وإن حرَّكْتَ عُضوًا مِن أعضائِك رآك، وأبلَغُ مِن ذلك أنَّه يَعلَمُ خائِنةَ الأعيُنِ وما تُخفي الصُّدُورُ ! فإذا آمَنَ العَبدُ بذلك انبَعَث منه قُوَّةُ الحياءِ، فيَسْتَحِي مِن رَبِّه أن يرَاهُ على مَا يَكرَهُ، أو يَسمَعَ منه ما يَكرَهُ، أو يُخفيَ في سَريرتِه ما يَمقُتُه عليه؛ فتبقى حَرَكاتُه وأقوالُه وخواطِرُه مَوزونةً بميزانِ الشَّرعِ، غيرَ مُهمَلةٍ ولا مُرسَلةٍ تحت حُكمِ الطَّبيعةِ والهَوى .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فيه سُؤالٌ: أيُّ تعَلُّقٍ لقَولِه: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بما تقَدَّمَ؟

الجوابُ: المرادُ أنَّه كما يَقدِرُ على ما لا يَقدِرُ عليه غَيرُه، فكذلك يُدرِكُ المَسموعَ والمُبصَرَ، ولا يجوزُ المنعُ عليه، ويكونُ ذلك كالتَّحذيرِ مِنَ الإقدامِ على ما لا يجوزُ في المَسموعِ والمُبصَرِ . وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ عَطفَ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ على السَّبَبِ؛ للإشارةِ إلى عِلمِ اللهِ بالأحوالِ كُلِّها؛ فهو يَنصُرُ مَن يَنصُرُه بعِلمِه وحِكمَتِه، ويَعِدُ بالنَّصرِ مَن عَلِمَ أنَّه ناصِرُه لا محالةَ، فلا يَصدُرُ منه شَيءٌ إلَّا عن حِكمةٍ .

2- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ دَلالةٌ على أنَّ الحقَّ مِن أسماءِ الله الحُسنى .

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ذَلِكَ إشارةٌ إلى الكَلامِ السَّابقِ الدَّالِّ على تَكفُّلِ النَّصرِ؛ فإنَّ النَّصرَ يَقْتضي تَغليبَ أحَدِ الضِّدَّينِ على ضِدِّهِ، وإقحامِ الجيشِ في الجيشِ الآخَرِ في المَلْحمةِ، فضَرَب له مثَلًا بتَغليبِ مُدَّةِ النَّهارِ على مُدَّةِ اللَّيلِ في بَعْضِ السَّنةِ، وتَغليبِ مُدَّةِ اللَّيلِ على مُدَّةِ النَّهارِ في بَعضِها؛ لِمَا تَقرَّرَ مِن اشتهارِ التَّضادِّ بينَ اللَّيلِ والنَّهارِ. ويجوزُ أنْ يكونَ اسمُ الإشارةِ تَكريرًا لشَبِيهِه السَّابقِ؛ لقَصرِ تَوكيدِه؛ لأنَّه مُتَّصِلٌ به؛ لأنَّ جُملةَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ... إلخ، مُرتبِطةٌ بجُملةِ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ  ... إلخ . وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلُوِّ رُتْبَةِ ذلك النَّصرِ .

- والجَمْعُ بين ذِكْرِ إيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ وإيلاجِ النَّهارِ في اللَّيلِ؛ للإشارةِ إلى تقلُّبِ أحوالِ الزَّمانِ؛ فقد يَصِيرُ المغلوبُ غالِبًا، ويَصيرُ ذلك الغالِبُ مَغلوبًا، مع ما فيه مِن التَّنبيهِ على تَمامِ القُدرةِ بحيث تَتعلَّقُ بالأفعالِ المُتضادَّةِ، ولا تَلزَمُ طَريقةً واحدةٍ كقُدرةِ الصُّنَّاعِ من البشَرِ. وفيه: إدماجُ التَّنبيهِ بأنَّ العذابَ الَّذي استبطأَهُ المُشرِكون مَنوطٌ بحُلولِ أجَلِه، وما الأجَلُ إلَّا إيلاجُ ليلٍ في نَهارٍ، ونَهارٍ في لَيلٍ. وفي ذِكْرِ اللَّيلِ والنَّهارِ في هذا المَقامِ: إدماجُ تَشبيهِ الكُفْرِ باللَّيلِ، والإسلامِ بالنَّهارِ؛ لأنَّ الكُفْرَ ضَلالةُ اعتقادٍ، فصاحِبُه مِثْلُ الَّذي يَمْشي في ظُلمةٍ، ولأنَّ الإيمانَ نُورٌ يَتجلَّى به الحقُّ والاعتقادُ الصَّحيحُ، فصاحِبُه كالَّذي يَمْشي في النَّهارِ، ففي هذا إيماءٌ إلى أنَّ الإيلاجَ المقصودَ هو ظُهورُ النَّهارِ بعْدَ ظُلمةِ اللَّيلِ، أي: ظُهورُ الدِّينِ الحقِّ بعْدَ ظُلمةِ الإشراكِ؛ ولذلك ابتُدِئَ في الآيةِ بإيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ، أي: دُخولِ ظُلمةِ اللَّيلِ تحْتَ ضَوءِ النَّهارِ. وقولُه: وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ تَتميمٌ ؛ لإظهارِ صَلاحيَّةِ القُدرةِ الإلهيَّةِ .

- وقولُه: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مِن بابِ التَّكميلِ ، إذا كان المعنى: ذلك النَّصرُ بسبَبِ أنَّه قادِرٌ، ومِن آياتِ قُدرتِه البالغةِ أنَّه يُولِجُ اللَّيْلَ... أو مِن بابِ التَّتميمِ، إذا كان المعنى: ذلك بسبَبِ أنَّه خالِقُ اللَّيلِ والنَّهارِ .

2- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ

- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ذَلِكَ إشارةٌ إلى الاتِّصافِ بما ذُكِرَ مِن كَمالِ القُدرةِ والعِلْمِ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلُوِّ رُتْبَتِه .

- والقَصرُ المُسْتفادُ مِن ضَميرِ الفَصلِ في قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ قَصرٌ حَقيقيٌّ. وأمَّا القَصرُ في وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ؛ فهو قَصرٌ ادِّعائيٌّ لعدَمِ الاعتدادِ بباطِلٍ غَيرِها، حتَّى كأنَّه ليس من الباطلِ. وهذا مُبالَغةٌ في تَحقيرِ أصنامِهم .

- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ، وقال في سُورةِ لُقمانَ: وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ [لقمان:30] ؛ فخُصَّتْ سُورةُ الحجِّ بالتَّوكيدِ بضَميرِ الفَصلِ، ولم يُؤْتَ به في سُورةِ لُقمانَ. ووَجْهُه: أنَّ ما في سُورةِ الحجِّ وقَعَ بعْدَ عشْرِ آياتٍ، كلُّ آيةٍ مُؤكَّدةٌ مرَّةً أو مرَّتينِ . وقيل: وَجْهُ ذلك: أنَّه لمَّا تقدَّمَ في هذه السُّورة ذِكْرُ اللهِ سُبحانَه وذِكْرُ الشَّيطانِ، أكَّدَهما؛ فإنَّه خبَرٌ وقَعَ بين خَبرينِ، ولم يَتقدَّمْ في لُقمانَ ذِكْرُ الشَّيطانِ؛ فأُكِّدَ ذِكْرُ اللهِ تعالى، وأُهْمِلَ ذِكْرُ الشَّيطانِ، وهذه دَقيقةٌ .

وقيل: وَجْهُ ذلك: أنَّه لم يتقدَّمْ هنا من الدَّليلِ على بُطلانِ الأوثانِ مِثْلُ ما ذَكَرَه في لُقمانَ لداعي الحالِ إلى التَّأكيدِ بضَميرِ الفَصلِ؛ فقال: هُوَ الْبَاطِلُ؛ لأنَّه مُمكِنٌ وُجودُه وعدَمُه، فليس له مِن ذاتِه إلَّا العدَمُ كغيرِه من المُمْكِناتِ .

=============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (63-69)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ

غريب الكلمات:

 

وَالْفُلْكَ: أي: السُّفنَ، وواحدُه وجمْعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ (الفلك): الاستدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفن سُمِّيت فُلكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ

.

لَرَءُوفٌ: أي: شديدُ الرَّحمةِ، أو ذو رحمةٍ واسعةٍ، والرَّأفةُ أعلَى معاني الرَّحمةِ، وأصلُ (رأف): يدلُّ على رِقَّةٍ ورَحمةٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: لقد رأيتَ ببَصَرِك وعَلِمْتَ ببَصيرتِك -أيُّها المُخاطَبُ- أنَّ اللهَ أنزل مِنَ السَّماءِ مَطَرًا، فتُصبِحُ الأرضُ مُخضَرَّةً بما يَنبُتُ فيها مِنَ النَّباتِ، إنَّ اللهَ لَطيفٌ بعبادِه، ومِن لطفِه استخراجُ النَّباتِ مِنَ الأرضِ بذلك الماءِ، خَبيرٌ، ومن خبرتِه أنَّه لا تخفَى عليه الحَبَّةُ التي في باطِنِ الأرضِ، فيَسوقُ إليها الماءَ لتنبُتَ.

لله سُبحانَه وتعالى ما في السَّمَواتِ والأرض؛ خَلْقًا ومُلْكًا وعُبوديَّةً، كلٌّ مُحتاجٌ إلى تَدبيرِه وإفضالِه، إنَّ اللهَ لَهُو الغنيُّ المحمودُ في كُلِّ حالٍ.

ألم تَرَ أنَّ الله تعالى ذلَّل لكم جميعَ ما في الأرضِ، كالحَيَواناتِ والأشجارِ والأنهارِ، وسهَّل لكم أنواعَ الانتِفاعِ بها، وذلَّل لكم السُّفُنَ تَجري في البَحرِ بقُدرتِه وأمْرِه، فتَحمِلُكم مع أمتِعَتِكم إلى حيثُ تشاؤون مِن البلادِ والأماكِنِ، ويُمسِكُ السَّماءَ فيَحفَظُها؛ حتى لا تقَعَ على الأرضِ فيَهلِكَ مَنْ عليها، إلَّا بإذنِه سُبحانَه بذلك؟ إنَّ اللهَ بالنَّاسِ لرَؤوفٌ رَحيمٌ.

وهو اللهُ تعالى الذي أحياكم بأن أوجَدَكم مِنَ العَدَمِ، ثمَّ يُميتُكم عند انقِضاءِ أعمارِكم، ثمَّ يُحييكم بالبَعثِ؛ لِمُحاسبتِكم على أعمالِكم، إنَّ الإنسانَ لَجحودٌ لِما ظهَرَ مِنَ الآياتِ الدَّالَّةِ على قُدرةِ اللهِ ووحدانيَّتِه، جَحودٌ لنِعَمِ اللهِ فلا يَشكُرُ.

لكُلِّ أمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ جعَلْنا شريعةً، فهُم عامِلونَ بها، فلا يُجادِلُنَّك -يا مُحمَّدُ- في شَريعتِك، وادْعُ إلى توحيدِ رَبِّك وإخلاصِ العبادةِ له واتِّباعِ أمْرِه؛ إنَّك لعلى طَريقٍ قَويمٍ لا اعوِجاجَ فيه.

وإنْ أصرَّ كُفَّارُ قَومِك على مُجادَلتِك بالباطِلِ فيما تدعوهم إليه، فلا تُجادِلْهم، بل قُلْ لهم: اللهُ أعلَمُ بما تَعمَلونَه مِنَ الكُفرِ والتَّكذيبِ؛ فهم معانِدونَ مُكابِرونَ. اللهُ يَقضي ويَفصِلُ بيْنكم يومَ القيامةِ فيما كُنتُم فيه تَختَلِفونَ مِن أمرِ دينِكم.

تفسير الآيات:

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما دَلَّ على قُدرتِه الباهرةِ مِن إيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ والنَّهارِ في اللَّيلِ، وهما أمْرانِ مُشاهَدانِ: مجيءُ الظُّلمةِ والنُّورِ- ذكَرَ أيضًا ما هو مُشاهَدٌ مِن العالَمِ العُلويِّ والعالَمِ السُّفليِّ، وهو: نُزولُ المطَرِ، وإنباتُ الأرضِ. وإنزالُ المطَرِ واخضِرارُ الأرضِ مَرئيَّانِ

.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً.

أي: ألمْ تَرَ أنَّ اللهَ أنزَلَ المطَرَ مِنَ السَّماءِ، فتَصيرُ به الأرضُ اليابِسةُ خَضراءَ بالنَّباتِ .

كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .

وقال سُبحانَه: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9-11] .

إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.

أي: إنَّ اللهَ لَطيفٌ في فِعلِ ما يشاءُ، ومِن ذلك إنباتُ الأرضِ بالماءِ، خَبيرٌ يَعلَمُ خَفايا كُلِّ شَيءٍ، ومن ذلك أنَّه لا تخفَى عليه الحَبَّةُ التي في باطِنِ الأرضِ، فيَسوقُ إليها الماءَ بلُطفِه لِيُنبِتَها به .

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64).

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.

أي: لله وَحْدَه مُلكُ جَميعِ ما في السَّمَوات ومُلكُ جَميعِ ما في الأرضِ مِنَ الخَلقِ؛ فكُلُّهم عَبيدُه، وتحتَ تَدبيرِه، لا شَريكَ له في ذلك .

وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.

أي: وإنَّ اللهَ لَهُو الغنيُّ عن كُلِّ ما سِواه، المحمودُ في أسمائِه وصِفاتِه وأفعالِه .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65).

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ.

أي: ألم تَرَ أنَّ اللهَ ذلَّل لكم جميعَ ما في الأرضِ، كالحَيَواناتِ والأشجارِ والأنهارِ، وسهَّل لكم أنواعَ الانتِفاعِ بها .

وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ.

أي: وذلَّل لكم السُّفُنَ تجري في البِحارِ بقُدرتِه وتَيسيرِه، فتَحمِلُكم وتَحمِلُ بَضائِعَكم مِن مَوضِعٍ إلى آخَرَ .

وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.

أي: ويُمسِكُ اللهُ السَّماءَ بقُدرتِه؛ كيْ لا تَسقُطَ على الأرضِ فيَهلِكَ مَن فيها، إلَّا إذا أذِنَ اللهُ لها بالوُقوعِ، فتَقَعُ بإذنِه .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 41] .

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ.

أي: إنَّ اللهَ بالنَّاسِ لَذُو رأفةٍ ورَحمةٍ، ومِن رأفتِه ورَحمتِه بهم سَخَّر لهم جميعَ تلك الأشياءِ .

وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

بعد أن ذكَرَ سُبحانَه -فيما سلف- عظيمَ قدرتِه وبالِغَ حِكمتِه فى ولوجِ اللَّيلِ فى النَّهارِ والنَّهارِ فى اللَّيلِ، ونبَّه بذلك على سابِغِ نِعَمِه على عبادِه؛ أردَف ذلك بذِكرِ أنواعٍ أُخرى مِن الدَّلائِلِ على قدرتِه، فقال :

وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.

أي: واللهُ هو الذي أحياكم وأوجَدَكم مِنَ العَدَمِ، ثُمَّ يُميتُكم عندَ انقضاءِ آجالِكم، ثمَّ يُحييكم يومَ القيامةِ للحِسابِ والجَزاءِ .

كما قال تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [الجاثية: 26] .

إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ.

أي: إنَّ الإنسانَ لَجَحودٌ لآياتِ اللهِ فلا يُؤمِنُ بها، جَحودٌ لنِعَمِ اللهِ فلا يَشكُرُ اللهَ عليها، ولا يُخلِصُ عِبادَتَه له وَحْدَه !

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا قدَّمَ اللهُ تعالى ذِكْرَ نِعَمِه، وبيَّنَ أنَّه رَؤوفٌ رَحيمٌ بعِبادِه، وإن كان منهم مَن يَكفُرُ ولا يَشكُرُ؛ أتبَعَه بذِكرِ نِعَمِه بما كَلَّف؛ فقال :

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ.

أي: لكلِّ جماعةٍ مُؤمِنةٍ ممَّن قَبْلَكم وضَعْنا شريعةً، هم عاملونَ بها .

فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ.

أي: فلا يُجادِلُنَّك -يا مُحمَّدُ- فيما شرَعَ اللهُ لك .

كما قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ [الروم: 60] .

وقال سُبحانَه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 18] .

وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ.

أي: وادْعُ -يا مُحمَّدُ- إلى عبادةِ رَبِّك وَحْدَه، والإيمانِ به، واتِّباعِ شَريعَتِه .

كما قال تعالى: وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص: 87] .

إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ.

أي: داوِمْ على هذه الدَّعوةِ ولا يَثنِينَّك عنها شَيءٌ؛ فإنَّك على طريقٍ مُستقيمٍ لا عِوَجَ فيه، مُوصلٍ إلى المَقصودِ .

وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68).

أي: وإنْ جادَلَك كُفَّارُ قَومِك -يا مُحمَّدُ- فقُلْ لهم: اللهُ أعلَمُ بما تَعمَلونَه مِنَ الكُفرِ والتَّكذيبِ، وهو مُجازيكم على ذلك، ففَوِّضْ أمْرَهم إلى اللهِ، وأعرِضْ عنهم، ولا تُجادِلْهم .

كما قال تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] .

وقال سُبحانَه وتعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأحقاف: 8] .

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإعراضِ عن الكافِرينَ، وكان ذلك شَديدًا على النَّفْسِ؛ لِتَشَوُّفِها إلى النُّصرةِ- رجَّاه في ذلك؛ فقال :

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69).

أي: اللهُ يَقضي ويَفصِلُ بينكم يومَ القيامةِ فيما كُنتُم فيه تَختَلِفونَ مِن أمرِ دينِكم، ويتبَيَّنُ حِينَئذٍ المُحِقُّ مِن المُبطِلِ

 

.

كما قال الله تعالى: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ هذا حَثٌّ منه تعالى وترغيبٌ في النَّظَرِ إلى آياتِه الدَّالَّاتِ على وحدانيَّتِه

.

2- الإنسانُ مأمورٌ بالدَّعوةِ إلى الخَيرِ -أي: الدَّعوةِ إلى الله عزَّ وجلَّ- كما في قَولِه تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ .

3- قال الله تعالى: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في هذه الآيةِ أدَبٌ حَسَنٌ عَلَّمَه اللهُ عِبادَه في الرَّدِّ على مَن جادَلَ تعنُّتًا ومِراءً: ألَّا يُجابَ ولا يُناظَرَ، ويُدفَعَ بهذا القَولِ الذي عَلَّمَه اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- إنْ قيل: ما وجْهُ الرَّفعِ في قوله: فَتُصْبِحُ، مع أنَّ قَبلَها استِفهامًا؟

والجوابُ: أنَّ الرَّفعَ في قولِه: فَتُصْبِحُ؛ لأنَّه ليس مُسبَّبًا عن الرُّؤيةِ التي هي موضعُ الاستِفهامِ، وإنما هو مُسبَّبُ الإنزالِ في قولِه: أَنْزَلَ، والإنزالُ الذي هو سببُ إِصباحِ الأرضِ مُخضرَّةً ليس فيه استِفهامٌ، ومعلومٌ أنَّ الفاءَ التي يُنصَبُ بَعدَها المضارعُ إنْ حُذفَتْ جازَ جعْلُ مَدخولِها جزاءً للشَّرطِ، ولا يُمكنُ أنْ تقولَ هنا: إنْ ترَ أنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، تُصبِحِ الأرضُ مُخضرَّةً؛ لأنَّ الرُّؤيةَ لا أَثَرَ لها الْبتَّةَ في اخضِرارِ الأرضِ، بل سببُه إنزالُ الماءِ، لا رؤْيةُ إنزالِه

.

2- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ استوعَبَت الآيةُ العوالِمَ الثَّلاثةَ: البَرَّ، والبَحرَ، والجَوَّ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ قال: بِأَمْرِهِ؛ لأنَّه سُبحانَه لَمَّا كان المُجريَ لها بالرِّياحِ، نسَبَ ذلك إلى أمْرِه توَسُّعًا؛ لأنَّ ذلك يفيدُ تَعظيمَه بأكثَرَ مِمَّا يُفيدُ لو أضافَه إلى فِعلِه؛ بِناءً على عادةِ المُلوكِ في مِثلِ هذه اللَّفظةِ .

4- قال الله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ هذه الآيةُ تدُلُّ دَلالةً قاطِعةً لا تَقبَلُ الشَّكَّ على أنَّ السَّمَواتِ أجرامٌ مَحسوسةٌ حَقيقيَّةٌ .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ هذا كما قد يُعَدِّدُ المَرءُ نِعَمَه على وَلَدِه، ثمَّ يقولُ: إنَّ الوَلَدَ لكَفورٌ لنِعَمِ الوالِدِ؛ زَجرًا له عن الكُفرانِ، وبَعثًا له على الشُّكرِ؛ فلذلك أورد تعالى ذلك في الكُفَّارِ، فبيَّنَ أنَّهم دفعوا هذه النِّعَمَ، وكَفَروا بها، وجَهِلوا خالِقَها، مع وضوحِ أمْرِها !

6- سَبيلُ اللهِ وصِراطُه المُستَقيمُ هو الذي كان عليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَحابتُه، بدَليلِ قَولِه عَزَّ وجَلَّ: يس * وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يس: 1-4] ، وقال تعالى: إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ، وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] ، فمَنِ اتَّبع رسولَ اللهِ صلَّى الله تعالى عليه وآله وسلَّم فى قولِه وفعلِه فهو على صِراطِ الله المستقيمِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ استئنافٌ ابْتِدائيٌّ؛ انتقالٌ إلى التَّذكيرِ بنِعَمِ اللهِ تعالى. والمقصودُ: التَّعريضُ بشُكْرِ اللهِ على نِعَمِه، وألَّا يَعْبُدوا غيرَه، كما دَلَّ عليه التَّذييلُ عَقِبَ تَعدادِ هذه النِّعَمِ بـ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ. وفي ذلك كلِّه: إدماجُ الاستدلالِ على انفرادِه بالخَلقِ والتَّدبيرِ، فهو الرَّبُّ الحقُّ المُستحِقُّ للعِبادةِ

.

- والاستفهامُ في قولِه: أَلَمْ تَرَ تَقريريٌّ . وقيل: الاستفهامُ إنكاريٌّ، وإنَّما حُكِيَ الفِعْلُ المُستفهَمُ عنه الإنكاريُّ مُقترِنًا بحَرفِ (لم) الَّذي يُخلِّصُه إلى المُضِيِّ، وحُكِيَ مُتعلَّقُه -وهو الإنزالُ- بصِيغَةِ الماضي كذلك في قولِه: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، ولم يُراعَ فيهما معنى تَجدُّدِ ذلك؛ لأنَّ مَوقِعَ إنكارِ عدَمِ العِلْمِ بذلك هو كونُه أمْرًا مُتقرِّرًا ماضيًا لا يُدَّعى جَهْلُه .

- قولُه: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فيه التَّعبيرُ عن مَصيرِ الأرضِ خَضراءَ بصِيغةِ (تُصْبِحُ مُخْضرَّة) -مع أنَّ ذلك مُفرَّعٌ على فِعْلِ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً الَّذي هو بصِيغةِ الماضي-؛ لأنَّه قُصِدَ مِن المُضارِعِ استحضارُ تلك الصُّورةِ العجيبةِ الحَسَنةِ، ولإفادةِ بَقاءِ أثَرِ إنزالِ المطَرِ زمانًا بعْدَ زَمانٍ ، والفاءُ هاهنا للتعقيب، وتعقيبُ كلِّ شيءٍ بحسَبِه ؛ فمعلومٌ أنَّ النباتَ يَخرُجُ بعدَ نُزولِ المطرِ بمُدَّةٍ، كما في قولِه تعالى: فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون: 14] وبينهما أربعونَ يومًا.

- وخُصَّ (تُصبِحُ) دون سائِرِ أوقاتِ النَّهارِ؛ لأنَّ رُؤيةَ الأشياءِ المحبوبةِ أوَّلَ النَّهارِ أبهَجُ وأسَرُّ للرَّائي .

- وإذا كان الاخضِرارُ مُتأخِّرًا عن إنزالِ المطَرِ؛ فثَمَّ جُمَلٌ مَحذوفةٌ، والتَّقديرُ: فتَهتزُّ وتَرْبو، فتُصبِحُ؛ يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ .

- وعبَّرَ عنِ النَّباتِ -الَّذي هو مُقْتضى الشُّكرِ؛ لِمَا فيه من إقامةِ أقواتِ النَّاسِ والبهائمِ- بذِكْرِ لَونِه الأخضرِ؛ لأنَّ ذلك اللَّونَ مُمتِعٌ للأبصارِ؛ فهو أيضًا مُوجِبُ شُكْرٍ على ما خلَقَ اللهُ مِن جَمالِ المصنوعاتِ في المَرْأى، كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ [النحل: 6].

- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ تَعليلٌ للإنزالِ ، ووَجْهُ تَعلُّقِه بما تقدَّمَ: أنَّه أراد أنَّه رحيمٌ بعِبادِه، ولِرَحمتِه فعَلَ ذلك حتَّى عظُمَ انتفاعُهم به؛ لأنَّ الأرضَ إذا أصبَحَتْ مُخضرَّةً، والسَّماءَ إذا أمطَرَتْ، كان ذلك سبَبًا لعَيشِ الحيواناتِ على اختلافِها أجمَعَ. ومعنى خَبِيرٌ أنَّه عالِمٌ بمَقاديرِ مَصالحِهم، فيَفعَلُ على قَدْرِ ذلك مِن دونِ زِيادةٍ ونُقْصانٍ. وقيل: وَجْهُه: أنَّه أراد أنَّه لَطيفٌ بأرزاقِ عِبادِه، خَبيرٌ بما في قُلوبِهم من القُنوطِ. وقيل: لَطيفٌ في أفعالِه، خبيرٌ بأعمالِ خَلْقِه. وقيل: لَطيفٌ باستخراجِ النَّبتِ، خَبيرٌ بكيفيَّةِ خَلْقِه .

2- قولُه تعالى: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فُصِلَت هذه الجُملةُ ولم تُعْطَفْ على الَّتي قبْلَها مع اتِّحادِهما في الغرَضِ؛ لأنَّ هذه تَتنزَّلُ مِن الأُولى مَنزِلَةَ التَّذييلِ بالعُمومِ الشَّاملِ لِمَا تَضمَّنَته الجُملةُ الَّتي قبْلَها، ولأنَّ هذه لا تَتضمَّنُ تَذكيرًا بنِعمةٍ .

- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ للدَّلالةِ على القَصرِ، أي: له ذلك لا لغَيرِه مِن أصنامِكم، هذا على جَعْلِ القَصرِ إضافيًّا. أو لعدَمِ الاعتدادِ بغِنَى غيرِه ومَحموديَّتِه، إنْ جُعِلَ القَصرُ ادِّعائيًّا .

- وفي قولِه: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ نَبَّهَ بوَصْفِ الغِنَى على أنَّه غيرُ مُفتقِرٍ إلى غيرِه؛ تَنبيهًا على أنَّ افتقارَ الأصنامِ إلى مَن يَصنَعُها، ومَن يَنقُلُها مِن مكانٍ إلى آخَرَ، ومَن يَنفُضُ عنها القَتامَ -أي: الغُبارَ- والقذَرَ: دَليلٌ على انتفاءِ الإلهيَّةِ عنها. وأمَّا وَصْفُ الْحَمِيدُ فذِكْرُه لِمُزاوَجةِ وَصْفِ الغِنَى؛ لأنَّ الغَنِيَّ مُفِيضٌ على النَّاسِ، فهُم يَحمَدونَه. وفي ضَميرِ الفَصلِ (هو) إفادةُ أنَّه المُختَصُّ بوَصْفِ الغِنَى دونَ الأصنامِ، وبأنَّه المُختَصُّ بالمَحْموديَّةِ؛ فإنَّ العرَبَ لم يَكونوا يُوجِّهونَ الحمْدَ لغَيرِ اللهِ تعالى. وأُكِّدَ الحَصرُ بحَرفِ التَّوكيدِ وبلامِ الابتداءِ (إنَّ - لهو)؛ تَحقيقًا لِنِسبةِ القَصرِ إلى المقصورِ، وهذا التَّأكيدُ لِتَنزيلِ تَحقُّقِهم اختصاصَه بالغِنَى أو المَحْموديَّةِ مَنزِلةَ الشَّكِّ أو الإنكارِ؛ لأنَّهم لم يَجْرُوا على موجَبِ عِلْمِهم حين عَبَدوا غيرَه، وإنَّما يُعبَدُ مَن وَصْفُه الغِنَى .

- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، بإعادةِ (ما)، وأدخَلَ اللَّامَ على قولِه: (هو)، بخِلافِ آيةِ سُورةِ لُقمانَ: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان: 26] ؛ ووَجْهُ ذلك: إفادةُ التَّوكيدِ المُحتاجِ إليه هنا في سُورةِ الحجِّ؛ فلا تَدخُلُ اللَّامُ الخبَرَ لغيرِ ذلك، وتَكرارُ الموصولِ أيضًا لذلك؛ فدخَلَتا في آيةِ هذه السُّورة بعْدَ عشْرِ آياتٍ، كلُّ آيةٍ مُؤكَّدةٍ مرَّةً أو مرَّتينِ، وخالَفَتِ الَّتي في سُورةِ لُقمانَ تلك بمَوقِعِها، فلم تُؤكَّدْ كما أُكِّدَتِ الأُولى لذلك .

3- قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ مُستأنَفٌ استئنافًا ابتِدائيًّا. والاستفهامُ إنكاريٌّ. وهذا مِن نسَقِ التَّذكيرِ بنِعَمِ اللهِ، واقِعٌ مَوقِعَ قولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج: 63] ؛ فهو مِن عِدادِ الامتنانِ والاستدلالِ؛ فكان كالتَّكريرِ للغرَضِ؛ ولذلك فُصِلَتِ الجُملةُ ولم تُعْطَفْ. وهذا تَذكيرٌ بنِعمةِ تَسخيرِ الحيوانِ وغيرِه، وفيه: إدماجُ الاستدلالِ على انفرادِه بالتَّسخيرِ والتَّقديرِ، فهو الرَّبُّ الحقُّ .

- قولُه: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ لَكُمْ على المفعولِ الصَّريحِ مَا؛ للاهتمامِ بالمُقدَّمِ؛ لتَعجيلِ المَسرَّةِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ .

- وفي قولِه: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ نَبَّهَ على تَسخيرِ الفُلْكِ وإنْ كانت مُندرِجةً في عُمومِ (ما)؛ تَنبيهًا على غَرابةِ تَسخيرِها، وكثرةِ مَنافِعِها . وخُصَّ الجَريانُ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ ذلك الجرْيَ في البحرِ هو مَظهَرُ التَّسخيرِ؛ إذ لولا الإلهامُ إلى صُنْعِها على الصِّفةِ المعلومةِ لكان حَظُّها مِن البحرِ الغرَقَ .

- قولُه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ مُناسَبةُ عَطْفِ إمساكِ السَّمواتِ على تَسخيرِ ما في الأرضِ وتَسخيرِ الفُلْكِ: أنَّ إمساكَ السَّماءِ عن أنْ تقَعَ على الأرضِ ضَرْبٌ من التَّسخيرِ؛ لِمَا في عَظمةِ المخلوقاتِ السَّماويَّةِ مِن مُقتضياتِ تَغلُّبِها على المخلوقاتِ الأرضيَّةِ وحَطْمِها إيَّاها، لولا ما قدَّرَ اللهُ تعالى لكلِّ نَوعٍ منها مِن سُننٍ ونُظُمٍ تَمنَعُ مِن تسلُّطِ بَعضِها على بَعضٍ .

- ولَفْظُ السَّماءِ في قولِه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ يجوزُ أنْ يكونَ بمعنى (ما قابَلَ الأرضَ) في اصطلاحِ النَّاسِ؛ فيكونَ كُلًّا شامِلًا للعوالِمِ العُلويَّةِ كلِّها الَّتي لا نُحِيطُ بها عِلْمًا؛ كالكواكبِ السَّيَّارةِ، وما اللهُ أعلَمُ به، وما يَكشِفُه للنَّاسِ في مُتعاقَبِ الأزمانِ. ويكونَ وُقوعُها على الأرضِ بمعنى الخُرورِ والسُّقوطِ؛ فيكونَ قولُه: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ امتنانًا على النَّاسِ بالسَّلامةِ ممَّا يُفْسِدُ حَياتَهم، ويكونَ قولُه: إِلَّا بِإِذْنِهِ احتراسًا؛ جمْعًا بين الامتنانِ والتَّخويفِ؛ لِيَكونَ النَّاسُ شاكِرينَ مُستزِيدينَ مِن النِّعَمِ، خائفينَ مِن غضَبِ رَبِّهم أنْ يأذَنَ لبعضِ السَّماءِ بالوُقوعِ على الأرضِ.

ويَجوزُ أنْ يكونَ لفْظُ السَّماءِ قد أُطلِقَ على جَميعِ الموجوداتِ العُلويَّةِ الَّتي يَشمَلُها لفْظُ السَّماءِ، الَّذي هو ما علا الأرضَ، فأُطْلِقَ على ما يَحْويهِ، كما يُطلَقُ لفْظُ الأرضِ على سُكَّانِها؛ فاللهُ يُمسِكُ ما في السَّمواتِ مِن الشُّهُبِ ومِن كُريَّاتِ الأثيرِ والزَّمهريرِ عن اختراقِ كُرَةِ الهواءِ، ويُمْسِكُ ما فيها من القُوى -كالمطَرِ والبَرَدِ، والثَّلجِ والصَّواعقِ- مِن الوُقوعِ على الأرضِ والتَّحكُّكِ بها إلَّا بإذنِ اللهِ فيما اعتادَ النَّاسُ إذْنَه به؛ مِن وُقوعِ المطَرِ والثَّلجِ والصَّواعقِ والشُّهبِ، وما لم يَعتادُوهُ مِن تَساقُطِ الكواكبِ؛ فيكونُ مَوقِعُ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ بعْدَ قولِه تعالى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ كمَوقِعِ قولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 12-13] . ويكونُ في قولِه: إِلَّا بِإِذْنِهِ إدماجٌ بَين الامتنانِ والتَّخويفِ؛ فإنَّ مِن الإذنِ بالوُقوعِ على الأرضِ ما هو مَرغوبٌ للنَّاسِ، ومنه ما هو مَكروهٌ .

- ومَوقِعُ قولِه: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ مَوقِعُ التَّعليلِ للتَّسخيرِ والإمساكِ؛ لأنَّ في جَميعِ ذلك رأفةً بالنَّاسِ بتَيسيرِ مَنافِعِهم الَّذي في ضِمْنِه دَفْعُ الضُّرِّ عنهم .

- قولُه: لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ الجَمْعُ بين هاتينِ الصِّفتينِ يُفِيدُ ما تختَصُّ به كلُّ صِفَةٍ منهما، ويُؤكِّدُ ما تَجتمعانِ عليه .

4- قَولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ

- جُملةُ: وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ عَطفٌ على جُملةِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ [الحج: 65] ؛ لأنَّ صَدْرَ هذه مِن جُملةِ النِّعَمِ؛ فناسَبَ أنْ تُعطَفَ على سابِقَتِها المُتضمَّنةِ امتنانًا واستدلالًا كذلك .

- قولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ الجُملةُ تَذييلٌ يَجمَعُ المَقصدَ مِن تَعدادِ نِعَمِ المُنعِمِ بجلائلِ النِّعَمِ المُقتضيةِ انفرادَهُ باستحقاقِ الشُّكرِ، واعترافَ الخَلقِ له بوَحدانِيَّةِ الرُّبوبيَّةِ. وتَوكيدُ الخبَرِ بحَرفِ (إنَّ)؛ لِتَنزيلِهم مَنزِلَةَ المُنكِرِ أنَّهم كُفراءُ .

- وفي قولِه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ وَصْفٌ للجِنْسِ بوَصْفِ بَعْضِ أفرادِهِ؛ فالتَّعريفُ في الْإِنْسَانَ تَعريفُ الاستغراقِ العُرْفيِّ المُؤْذِنِ بأكثَرِ أفرادِ الجِنْسِ؛ مِن بابِ قولِهم: جمَعَ الأميرُ الصَّاغةَ، أي: صاغَةَ بَلَدِه، وقوله تعالى: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 38] ، وقد كان أكثَرُ العرَبِ يومئذٍ مُنكرينَ للبَعْثِ. أو أُرِيدَ بالإنسانِ خُصوصُ المُشرِكِ، كقولِه تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66] . والكَفُورُ مُبالَغةٌ في الكافِرِ؛ لأنَّ كُفْرَهم كان عن تَعنُّتٍ ومُكابَرةٍ. ويَجوزُ كونُ الكَفُورِ مأْخوذًا مِن كُفْرِ النِّعمةِ، وتكونُ المُبالَغةُ باعتبارِ آثارِ الغَفلةِ عن الشُّكرِ، وحينَئذٍ يكونُ الاستغراقُ حَقيقيًّا .

5- قَولُه تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ

- قولُه: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ كَلامٌ مُستأْنَفٌ؛ جِيءَ به لِزَجْرِ مُعاصرِيه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أهْلِ الأديانِ الأخرى عن مُنازَعتِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ببَيانِ حالِ ما تَمسَّكُوا به مِن الشَّرائعِ، وإظْهارِ خَطَئِهم في النَّظرِ. وقولُه: هُمْ نَاسِكُوهُ صِفَةٌ لـ مَنْسَكًا، مُؤكِّدةٌ للقَصرِ المُستفادِ من تَقديمِ الجارِّ والمَجرورِ على الفِعْلِ .

- والفاءُ في قولِه: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ لِتَرتيبِ النَّهيِ أو مُوجِبِه على ما قبْلَها؛ فإنَّ تَعيينَه تعالى لكلِّ أُمَّةٍ مِن الأُمَمِ الَّتي مِن جُمْلَتِهم هذه الأُمَّةُ شريعةً مُستقِلَّةً، بحيث لا تَتخطَّى أُمَّةٌ منهم شريعتَها المُعيَّنةَ لها: مُوجِبٌ لطاعةِ هؤلاء لرَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعدَمِ مُنازعتِهم إيَّاهُ في أمْرِ الدِّينِ. والنَّهيُ إمَّا على حَقيقتِه، أو كِنايةٌ عن نَهْيِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الالتفاتِ إلى نِزاعِهم للنَّبيِّ على زَعْمِهم المَذكورِ، وإنَّما أُسْنِدَ الفِعْلُ هنا لضَميرِ المُشرَكين يُنَازِعُنَّكَ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ مُبالَغةً في نَهْيِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن مُنازَعتِه إيَّاهم الَّتي تُفْضي إلى مُنازَعتِهم إيَّاهُ؛ فيكونُ النَّهْيُ عن مُنازَعتِه إيَّاهم كإثباتِ الشَّيءِ بدَليلِه .

- وقولُه: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ عَطفٌ على جُملةِ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ؛ عُطِفَ على انتهاءِ المُنازَعةِ في الدِّينِ أمْرٌ بالدَّوامِ على الدَّعوةِ، وعدَمِ الاكتفاءِ بظُهورِ الحُجَّةِ؛ لأنَّ المُكابَرةَ تُجافي الاقتناعَ، ولأنَّ في الدَّوامِ على الدَّعوةِ فوائدَ للنَّاسِ أجمعينَ. وفي حَذْفِ مَفعولِ (ادْعُ) إيذانٌ بالتَّعميمِ .

- قولُه: إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ تَعليلٌ للدَّوامِ على الدَّعوةِ، وأنَّها قائمةٌ مَقامَ فاءِ التَّعليلِ، لا لِرَدِّ الشَّكِّ .

- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث جاءت هذه الآيةُ غيرَ مَعطوفةٍ، وجاءت نَظيرتُها مَعطوفةً بالواوِ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ [الحج: 34] ؛ ووَجْهُه: أنَّ تلك وقَعَتْ مع ما يُدانِيها ويُناسِبُها مِن الآياتِ الواردةِ في أمْرِ النَّسائكِ؛ فعُطِفَت على أخَواتِها، وأمَّا هذه فواقعةٌ مع أباعِدَ عن مَعناها؛ فلم تَجْدِ مَعْطفًا . وقيل: إنَّ هذه الآيةَ تَقْدِمَةُ نَهْيِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عمَّا يُوجِبُ مُنازَعةَ القومِ، وتَسليةٌ له، وتَعظيمٌ لأمْرِه، حيثُ جُعِل أمْرُه نُسُكًا ودِينًا. وأمَّا اتِّصالُه بما سبَقَ مِن الآياتِ؛ فإنَّ قولَه تعالى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ يُوجِبُ القَلْعَ عن إنذارِ القومِ، والإياسَ منهم ومُتاركَتَهم، والآياتُ المُتخلِّلةُ كالتَّأكيدِ لِمَعنى التَّسليةِ؛ فجِيءَ بقولِه: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ تَحريضًا له صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على التَّأسِّي بالأنبياءِ السَّابقةِ في مُتارَكةِ القومِ، والإمساكِ عن مُجادَلَتِهم بعْدَ الْيأسِ مِن إيمانِهم؛ فالرَّبطُ على طَريقةِ الاستئنافِ، وهو أقْوى مِن الرَّبْطِ اللَّفظيِّ . وهذا مُتَّصِلٌ في المعنى بقولِه: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ [الحج: 34] الآيةَ. وقد فصَلَ بين الكلامينِ ما اقْتَضى الحالُ استطرادَهُ؛ مِن قولِه: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا [الحج: 37-38] ، إلى هنا، فعاد الكلامُ إلى الغرَضِ الَّذي في قولِه: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الحج: 34] الآيةَ؛ لِيُبْنى عليه قولُه: فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ؛ فهذا استِدْلالٌ على تَوحيدِ اللهِ تعالى بما سبَقَ مِن الشَّرائعِ لِقَصْدِ إبطالِ تَعدُّدِ الآلهةِ، بأنَّ اللهَ ما جعَلَ لأهْلِ كلِّ مِلَّةٍ سبَقَتْ إلَّا مَنْسكًا واحِدًا يَتقرَّبونَ فيه إلى اللهِ؛ لأنَّ المُتقرَّبَ إليه واحدٌ. وقد جعَلَ المُشرِكون مَناسِكَ كثيرةً، فلكلِّ صَنَمٍ بَيتٌ يُذبَحُ فيه؛ فالجُملةُ استئنافٌ. والمُناسَبةُ ظاهرةٌ؛ ولذلك فُصِلَتِ الجُملةُ ولم تُعْطَفْ كما عُطِفَت نَظيرتُها المُتقدِّمةُ .

6- قولُه تعالى: وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ

- قولُه: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فيه تَفويضُ أمْرِهم إلى اللهِ تعالى، وهو كِنايةٌ عن قَطْعِ المُجادَلةِ معهم، وإدماجٌ بتَعريضٍ بالوعيدِ والإنذارِ بكَلامٍ مُوجَّهٍ صالِحٍ لِمَا يَتظاهَرون به مِن تطلُّبِ الحُجَّةِ ، فهو وَعيدٌ وإنْذارٌ؛ ولكنْ برِفْقٍ ولِينٍ .

==============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (70-72)

ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ

غريب الكلمات:

 

سُلْطَانًا: أي: حُجَّةً، وأصْلُ السُّلطانِ: القُوَّةُ والقَهرُ

.

يَسْطُونَ: أي: يَبطِشونَ ويَقَعونَ، والسَّطوةُ: البَطشُ برَفعِ اليَدِ، وأصلُ (سطو): يدُلُّ على القَهرِ والعُلوِّ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: قد علمْتَ -أيُّها الرَّسولُ- أنَّ اللهَ يَعلَمُ ما في السَّماءِ والأرضِ عِلمًا كامِلًا قد أثبَتَه في اللَّوحِ المَحفوظِ، إنَّ ذلك أمرٌ سَهلٌ على اللهِ الذي لا يُعجِزُه شَيءٌ.

ويَعبُدُ كُفَّارُ قُرَيشٍ آلِهةً لم يُنَزِّلِ اللهُ حُجَّةً على صِحَّةِ عبادتِها، ولا عِلمَ لهم فيما اختَلَقوه وافتَرَوه على اللهِ، وما للمُشرِكينَ ناصِرٌ يَنصُرُهم ويَدفَعُ عنهم عَذابَ الله.

وإذا تُتلى آياتُ القُرآنِ الواضِحةُ على هؤلاءِ المُشرِكينَ، ترى الكَراهةَ ظاهِرةً على وُجوهِهم، يَكادونَ يَبطِشونَ بالمُؤمِنينَ الذين يَدْعونَهم إلى اللهِ تعالى ويتلونَ عليهم آياتِه. قُلْ لهم -يا مُحمَّدُ: أفلا أخبِرُكم بما هو أشَدُّ شَرًّا عليكم مِمَّا سَمِعتُموه مِنَ القُرآنِ؟ النَّارُ أعدَّها اللهُ للكافرينَ في الآخرةِ، وبِئسَ المكانُ الذي يَصيرونَ إليه!

تفسير الآيات:

 

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا قال الله تعالى مِن قَبلُ: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الحج: 69] ؛ أتبَعَه بما به يُعلَمُ أنَّه سُبحانَه عالِمٌ بما يَستَحِقُّه كُلُّ أحدٍ منهم، فيقَعُ الحُكمُ منه بيْنهم بالعَدلِ لا بالجَورِ، فقال لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم

:

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.

أي: ألم تعلَمْ -يا مُحمَّدُ- أنَّ اللهَ يَعلَمُ كُلَّ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ، ويَعلَمُ أعمالَ عِبادِه واختلافَهم، فمُجازيهم على ذلك ؟

إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ.

أي: إنَّ عِلمَ اللهِ بكلِّ ما يكونُ في السَّماءِ والأرضِ قد أثبَتَه اللهُ في اللَّوحِ المَحفوظِ .

كما قال تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53].

وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كتَبَ اللهُ مَقاديرَ الخَلائِقِ قَبلَ أن يَخلُقَ السَّمَواتِ والأرضَ بخَمسينَ ألْفَ سَنةٍ )) .

إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.

أي: إنَّ إحاطةَ عِلمِ الله بجميعِ ذلك وكتابتَه في كتابٍ هَيِّنٌ سَهلٌ على اللهِ .

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71).

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا.

أي: ويَعبُدُ المُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ أصنامًا لم يُنَزِّلِ اللهُ على رُسُلِه حُجَّةً على صِحَّةِ عبادتِها !

كما قال تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] .

وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.

أي: وليس للمُشرِكينَ عِلمٌ يَقينيٌّ بجَوازِ وصِحَّةِ عِبادةِ الأصنامِ، وإنَّما يَعبُدونَها تقليدًا لآبائِهم !

كما قال تعالى: وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [يونس: 66] .

وقال سُبحانَه: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم: 23] .

وقال تبارك وتعالى: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 28] .

وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ.

أي: وما للمُشرِكينَ بسَبَبِ ظُلمِهم مِن ناصرٍ يَنصُرُهم ويُنقِذُهم مِن عذابِ اللهِ، ويَدفَعُ عنهم عِقابَه .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَر الله تعالى اعترافَ الكافرينَ بما لا يُعرَفُ بنقلٍ ولا عقلٍ؛ ذكَر إنكارَهم لِمَا لا يصحُّ أن يُنكرَ، فقال :

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ.

أي: وإذا تُتلى على المُشرِكينَ آياتُ القُرآنِ، والحالُ أنَّها واضِحاتُ الحُجَجِ والدَّلالةِ على توحيدِ اللهِ، وصِدقِ رَسولِه، تتبَيَّنُ في وجوهِهم الغَمَّ والكراهيَةَ، والعُبوسَ والغَضَبَ !

يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا.

أي: يَكادُ المُشرِكونَ يَبطِشونَ بالذينَ يَتلونَ عليهم القُرآنَ، ويَبْسُطونَ إليهم أيدِيَهم وألسِنَتَهم بالسُّوءِ؛ لشِدَّةِ كراهتِهم وبُغضِهم آياتِ اللهِ وما فيها مِنَ الدَّعوةِ إلى الحَقِّ .

كما قال تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] .

وقال سُبحانَه: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 78] .

قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا.

أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: أفأُخبِرُكم بما هو أشَدُّ عليكم وأكرَهُ إليكم مِمَّا سَمِعتُموه مِنَ القُرآنِ؟ هو النَّارُ التي وعَدَها اللهُ الكُفَّارَ يومَ القيامةِ !

وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

أي: وبِئسَ المكانُ الذي يصيرُ إليه هؤلاء المُشرِكونَ يومَ القيامةِ: النَّارُ

 

!

الفوائد التربوية:

 

قَولُه تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فيه عُمومُ عِلمِ اللهِ. والآياتُ في العِلمِ مُتنَوِّعةٌ؛ تارةً تكونُ مُجمَلةً، وتارةً تكونُ مُفصَّلةً، وتارةً تكونُ فيما يتعَلَّقُ بفِعلِ الإنسانِ، وتارةً تكونُ فيما يتعَلَّقُ بفِعلِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ صِفةَ العِلمِ متَّى آمَنَ بها الإنسانُ أوجَبَ له ذلك أمْرَينِ:

الأمرُ الأوَّلُ: الهُروبُ مِن مَعصيةِ اللهِ، فلا يَجِدُه اللهُ عزَّ وجَلَّ حيث نهاه.

الأمرُ الثَّاني: الرَّغبةُ في طاعةِ اللهِ، فلا يَفقِدُه حيثُ أمَرَه

؛ لأنَّك متى عَلِمْتَ أنَّ اللهَ عالمٌ بك فإنَّ ذلك يُوجِبُ لك مُراقبةَ اللهِ سُبحانَه؛ فلا يَفقِدُك حيثُ أمَرَك، ولا يَجِدُك حيثُ نهاك

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ دَلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى كَتَب في اللَّوحِ المَحفوظِ ما هو كائنٌ إلى يَومِ القِيامةِ

.

2- قَولُه تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ فيه إثباتُ العِلمِ وإثباتُ الكِتابةِ، وهما المَرتبتانِ الأُولى والثَّانيةُ مِن مراتِبِ الإيمانِ بالقَدَرِ، وأمَّا المرتبةُ الثَّالِثةُ: فهي المَشيئةُ. والمَرتبةُ الرَّابِعةُ: هي الخَلقُ .

3- قال تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ فاللهُ سُبحانَه قد عَلِمَ قَبلَ أنْ يُوجِدَ عِبادَه أحوالَهم، وما هُم عامِلون، وما هُم إليه صائِرون، ثمَّ أَخرجَهم إلى هذه الدَّارِ؛ ليَظهَرَ مَعلومُه الذي عَلِمَه فيهم كما عَلِمَه، وابتَلاهُم مِنَ الأمرِ والنَّهيِ والخَيرِ والشَّرِّ بما أَظهَر مَعلومَه، فاستَحقُّوا المدحَ والذَّمَّ، والثَّوابَ والعِقابَ بما قام بهم مِنَ الأفعال والصِّفاتِ المُطابقةِ للعِلمِ السَّابقِ، ولمْ يَكونوا يَستحِقُّون ذلك وهي في عِلمِه قَبْلَ أنْ يَعمَلوها، فأَرسَلَ رُسُلَه، وأَنزل كُتُبَه، وشَرَع شرائعَه؛ إعذارًا إليهم، وإقامةً للحُجَّةِ عليهم؛ لئلَّا يقولوا: كيف تُعاقِبُنا على عِلمِكَ فينا، وهذا لا يَدخُلُ تحتَ كَسْبِنا وقُدرتِنا؟! فلمَّا ظَهَر عِلمُه فيهم بأفعالهم، حَصَل العِقابُ على مَعلومِه الذي أَظهَرَه الابتلاءُ والاختبارُ، وكما ابتلاهُم بأمْرِه ونَهْيِه ابتلاهُم بما زَيَّنَ لهم مِن الدنيا، وبما ركَّب فيهم مِنَ الشَّهواتِ؛ فذلك ابتلاءٌ بشَرْعِه وأمْرِه، وهذا ابتلاءٌ بقَضائِه وقدَرِه .

4- الدِّينُ الذي نزَلَ به الوحيُ هو الدِّينُ الذي شَرَعه اللهُ عزَّ وجَلَّ، وأهلُ الضَّلالِ يَتَّبِعونَ دِينًا ليس مُوافقًا للشَّرعِ المُنزَّلِ، ولا لهم به عِلمٌ، بل يَتَّبعونَ أهواءَهم وما يَذوقونَه ويَجِدونه في أَنفُسِهم بغيرِ شرْعٍ ولا عِلمٍ؛ ولهذا كان شُيوخُ أهلِ المَعرفةِ يُوصونَ باتِّباعِ الشَّرعِ والعِلمِ، ويذُمُّونَ أهلَ العباداتِ الذينَ لا يتَّبِعونَ الشَّرعَ والعِلمَ، كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ .

5- قال الله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا فيه دَليلٌ على أنَّ أهلَ الباطِلِ تَضيقُ صُدورُهم مِن الحَقِّ ، وهكذا ترى أهلَ البِدَعِ المُضِلَّةِ: إذا سَمِعَ الواحِدُ منهم ما يتلوه العالِمُ عليهم من آياتِ الكِتابِ العَزيزِ أو مِنَ السُّنَّةِ الصَّحيحةِ مُخالِفًا لِما اعتَقَده مِن الباطِلِ والضَّلالةِ، رأيتَ في وَجْهِه مِن المُنكَرِ ما لو تمكَّنَ مِن أن يَسطوَ بذلك العالِمِ لفَعَل به ما لا يَفعَلُه بالمُشرِكينَ! واللهُ ناصِرٌ الحَقَّ، ومُظهِرٌ الدِّينَ، وداحِضٌ الباطِلَ، ودامِغٌ البِدَعَ، وحافِظٌ المُتكَلِّمينَ بما أخَذه عليهم، المُبَيِّنينَ للنَّاسِ ما نُزِّلَ إليهم، وهو حَسْبُنا ونِعْمَ الوَكيلُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ

- قولُه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ استئنافٌ؛ لِزَيادةِ تَحقيقِ التَّأييدِ الَّذي تَضمَّنَه قولُه: اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أي: فهو لا يَفوتُه شَيءٌ مِن أعمالِكم؛ فيُجازي كُلًّا على حِسابِ عَمَلِه؛ فالكَلامُ كِنايةٌ عن جَزاءِ كلٍّ بما يَلِيقُ به. والاستفهامُ أَلَمْ تَعْلَمْ تَقريريٌّ، أي: إنَّك تَعلَمُ ذلك، وهذا الكَلامُ كِنايةٌ عنِ التَّسليةِ، أي: فلا تضِقْ صَدْرًا ممَّا تُلاقِيه منهم

.

- وقولُه: إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ بَيانٌ للجُملةِ قبْلَها، أي: يَعلَمُ ما في السَّماءِ والأرضِ عِلْمًا مُفصَّلًا لا يَختلِفُ .

- قولُه: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قيل: هذا بَيانٌ لمَضمونِ الاستفهامِ من الكِنايةِ عن الجزاءِ. واسمُ الإشارةِ ذَلِكَ عائدٌ إلى مَضمونِ الاستفهامِ من الكِنايةِ؛ فتَأويلُه بالمذكورِ. ويَجوزُ أنْ تَكونَ بَيانًا لجُملةِ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ويكونَ اسمُ الإشارةِ ذَلِكَ عائدًا إلى العِلْمِ المأخوذِ مِن فِعْلِ يَعْلَمُ، أي: أنَّ عِلْمَ اللهِ بما في السَّماءِ والأرضِ للهِ حاصِلٌ دونَ اكتسابٍ؛ لأنَّ عِلْمَه ذاتيٌّ لا يَحتاجُ إلى مُطالَعةٍ وبَحْثٍ .

- قولُه: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فيه تَقديمُ المجرورِ عَلَى اللَّهِ على مُتعلَّقِه وهو يَسِيرٌ؛ للاهتمامِ بذِكْرِه؛ للدَّلالةِ على إمكانِه في جانِبِ عِلْمِ اللهِ تعالى .

2- قَولُه تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ

- قولُه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ يَجوزُ أنْ يكونَ الواوُ حَرفَ عطْفٍ، وتكونَ الجُملةُ مَعطوفةً على الجُملةِ السَّابقةِ بما تفرَّعَ عليها عطْفَ غرَضٍ على غرَضٍ. ويجوزُ أنْ يكونَ الواوُ للحالِ، والجُملةُ بعْدَها حالًا منَ الضَّميرِ المرفوعِ في قولِه: جَادَلُوكَ [الحج: 68] ، والمعنى: جادَلوك في الدِّينِ، مُستمرِّينَ على عِبادةِ ما لا يَستحِقُّ العِبادةَ بَعْدما رأَوا مِن الدَّلائلِ، وتَتضمَّنُ الحالُ تعجُّبًا مِن شأْنِهم في مُكابَرتِهم وإصرارِهم .

- وعبَّرَ بالفِعْلِ المُضارِعِ (يَعْبُدُونَ) المُفيدِ للتَّجدُّدِ؛ لأنَّ في الدَّلائلِ الَّتي تَحُفُّ بهم، والَّتي ذُكِّروا ببَعضِها في الآياتِ الماضيةِ: ما هو كافٍ لإقلاعِهم عن عِبادةِ الأصنامِ، لو كانوا يُريدونَ الحقَّ .

- قولُه: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فيه تَقديمُ انتفاءِ الدَّليلِ النقليِّ، وهو قولُه: مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا على انتفاءِ الدَّليلِ العقليِّ، وهو قولُه: وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ؛ لأنَّ الدَّليلَ النقليَّ أهَمُّ .

- والمُرادُ بالظَّالمينَ في قولِه: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ المُشرِكونَ المُتحدَّثُ عنهم؛ فهو مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ سبَبَ انتفاءِ النَّصيرِ لهم هو ظُلْمُهم، أي: كُفْرُهم. وقد أفاد ذلك ذَهابَ عِبادَتِهم الأصنامَ باطِلًا؛ لأنَّهم عَبَدوها رجاءَ النَّصرِ. ويُفِيدُ بعُمومِه أنَّ الأصنامَ لا تَنصُرُهم؛ فأغْنى عن مَوصولٍ ثالثٍ هو مِن صفاتِ الأصنامِ، كأنَّه قِيلَ: وما لا يَنصُرُهم، كقولِه تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ [الأعراف: 197].

- وأيضًا في قولِه: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ معنى التَّتميمِ والتَّنزُّلِ؛ إذِ المعنى: ليس لهم دَليلٌ قاطعٌ على صِحَّةِ ما هم فيه، ولا لهم أيضًا ما يَصِحُّ عندَ الضَّرورةِ أنْ يُتمسَّكَ به، ولا لهم ذُو شَوكةٍ يَقهَرُ النَّاسَ بالتَّعدِّي والظُّلْمِ الصِّرْفِ على عِبادةِ ما يَدْعُون .

3- قَولُه تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ

- قولُه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ عَطْفٌ على وَيَعْبُدُونَ؛ لِبَيانِ جُرْمٍ آخَرَ مِن أجرامِهم مع جُرْمِ عِبادةِ الأصنامِ، وهو جُرْمُ تَكذيبِ الرَّسولِ والتَّكذيبِ بالقُرآنِ، وما بيْنهما اعتراضٌ .

- وفي قولِه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا إيثارُ صِيغَةِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على الاستمرارِ التَّجدُّديِّ .

- وتَقييدُ الآياتِ بوَصْفِ البيِّناتِ؛ لِتَفظيعِ إنكارِهم إيَّاها؛ إذ ليس فيها ما يُعْذَرُ به مُنكِروها .

- قولُه: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ التَّعبيرُ بـ الَّذِينَ كَفَرُوا إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، ومُقْتَضى الظَّاهرِ أنْ يكونَ (تَعرِفُ في وُجوهِهم)، أي: وُجوهِ الَّذين يَعْبُدون مِن دونِ اللهِ ما لم يُنزِّلْ به سُلْطانًا؛ فخُولِفَ مُقْتضى الظَّاهرِ، فقال: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ للتَّسجيلِ عليهم بالإيماءِ إلى أنَّ عِلَّةَ ذلك هو ما يُبْطِنونه مِن الكُفْرِ .

- وأيضًا في قولِه: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا كِنايةٌ عن امتلاءِ نُفوسِهم مِن الإنكارِ والغَيظِ حتَّى تَجاوَزَ أثَرُه بَواطِنَهم؛ فظهَر على وُجوهِهم، ولأجْلِ هذه الكِنايةِ عُدِلَ عن التَّصريحِ بنحْوِ: (اشتَدَّ غَيظُهم)، أو (يَكادُون يَتميَّزون غَيظًا) .

- قولُه: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَعيدٌ وتَقريعٌ ، وهو استئنافٌ ابتدائيٌّ يُفيدُ زِيادةَ إغاظَتِهم، بأنْ أمَرَ اللهُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَتْلُوَ عليهم ما يُفِيدُ أنَّهم صائِرونَ إلى النَّارِ. والتَّفريعُ بالفاءِ ناشِئٌ مِن ظُهورِ أثَرِ المُنكَرِ على وُجوهِهم، فجُعِل دَلالةُ مَلامِحِهم بمَنزِلَةِ دَلالةِ الألفاظِ، ففُرِّعَ عليها ما هو جَوابٌ عن كلامٍ، فيَزيدُهم غَيظًا. ويَجوزُ كونُ التَّفريعِ على التِّلاوةِ المأخوذةِ من قولِه: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا، أي: اتْلُ عليهم الآياتِ المَنْذِرةَ والمُبيِّنةَ لِكُفْرِهم، وفُرِّعَ عليها وَعيدُهم بالنَّارِ، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في الاستئذانِ، وهو استئذانٌ تَهكُّمِيٌّ؛ لأنَّه قد نبَّأَهم بذلك دونَ أنْ يَنتظِرَ جَوابَهم .

- قولُه: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا النَّارُ خبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه قولُه: بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ، والتَّقديرُ: شَرٌّ مِن ذلِكُم النَّارُ، والجُملةُ استئنافٌ بَيانيٌّ، أي: إنْ سألْتُم عن الَّذي هو أشَدُّ شَرًّا، فاعْلَموا أنَّه النَّارُ. وجُملةُ وَعَدَهَا اللَّهُ حالٌ مِن النَّارُ، أو هي استئنافٌ . أو جوابُ سائلٍ قال: ما هو؟ ويجوزُ أن يكونَ مبتدأً، خبرُه: وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا .

- والتَّعبيرُ عنهم بـ الَّذِينَ كَفَرُوا في قولِه: وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، أي: وعَدَها اللهُ إيَّاكم لِكُفْرِكم .

- قولُه: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، أي: بِئْسَ مَصيرُهم هي؛ فحَرْفُ التَّعريفِ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه؛ فتكونُ الجُملةُ إنشاءَ ذَمٍّ مَعطوفةً على جُملةِ الحالِ على تَقديرِ القولِ. ويجوزُ أنْ يكونَ التَّعريفُ للجِنْسِ، فيُفِيدَ العُمومَ، أي: بِئْسَ المصيرُ هي لِمَن صار إليها؛ فتكونَ الجُملةُ تَذييلًا؛ لِمَا فيها مِن عُمومِ الحُكْمِ للمُخاطبينَ وغيرِهم، وتكونُ الواوُ اعتراضيَّةً تَذييليَّةً .

===========

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (73-76)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ

غريب الكلمات:

 

يَسْلُبْهُمُ: أي: يختَطِفْ منهم، والسَّلبُ: نَزعُ الشَّيءِ مِن الغَيرِ على القَهْرِ، وأصلُ (سلب): يدُلُّ على أخذِ الشَّيءِ بخِفَّةٍ واختِطافٍ

.

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: أي: ما أجلُّوا اللهَ حَقَّ إجلالِه، ولا عَظَّموه حقَّ تَعظيمِه، ولا عَرَفوه حقَّ مَعرِفتِه. والقَدْرُ: العَظَمةُ. يُقالُ لكُلِّ مَن عَرَف شَيئًا: هو يَقدُرُ قَدْرَه. وإذا لم يَعرِفْه بصِفاتِه: لا يَقدُرُ قَدْرَه، وحَقَّ قَدْرِهِ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، أي: ما قدَروا اللهَ قَدْرَه الحَقَّ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ وكُنْهِه .

يَصْطَفِي: أي: يَختارُ ويُخْلِصُ، والاصطِفاءُ: تَناوُلُ صَفْوِ الشَّيءِ، وتخيُّرُ الأصفَى، وأصلُ (صفو): يدُلُّ على خُلوصٍ مِن كُلِّ شَوبٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: يا أيُّها النَّاسُ، ضُرِبَ مَثَلٌ فاستَمِعوا له وتدَبَّروه: إنَّ الأصنامَ والأندادَ التي تَعبُدونَها مِن دُونِ اللهِ لن تَقدِرَ مُجتَمِعةً على خَلقِ ذُبابةٍ واحدةٍ، ولا تَقدِرُ أن تَستخلِصَ ما يَسلُبُه الذُّبابُ ممَّا عليها مِن طِيبٍ أو طَعامٍ ونحوِه، ضَعُفَ الطَّالِبُ -الذي هو المعبودُ مِن دُونِ اللهِ- أن يَستَنقِذَ ما أخَذَه الذُّبابُ منه، وضَعُفَ المطلوبُ الذي هو الذُّبابُ، وضَعُفَ العابِدُ لغير الله، وضعُف معبودُه، فكيف تُتَّخَذُ هذه الأصنامُ والأندادُ آلِهةً، وهي بهذا العَجزِ التامِّ والهوانِ؟!

هؤلاءِ المُشرِكونَ لم يُعَظِّموا اللهَ حَقَّ تَعظيمِه؛ إذ جعَلوا له شُرَكاءَ، وهو القَويُّ العزيزُ.

اللهُ سُبحانَه وتعالى يختارُ مِنَ المَلائِكةِ رُسُلًا إلى أنبيائِه، ويَختارُ مِنَ النَّاسِ رُسُلًا لتبليغِ رِسالاتِه إلى الخَلقِ، إنَّ اللهَ سَميعٌ لكُلِّ شَيءٍ، ومن ذلك سماعُه لأقوالِ عِبادِه، بصيرٌ بجَميعِ الأشياءِ، وبمَن يختارُه للرِّسالةِ مِن خَلْقِه، وهو سُبحانَه يَعلَمُ ما بيْن أيدِي الرُّسُلِ مِنَ الملائكةِ والنَّاسِ، وما خَلْفَهم، وإلى الله وَحْدَه تُرجَعُ الأمورُ.

تفسير الآيات:

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ الكُفَّارَ يَعبُدونَ ما لا دَليلَ على عبادتِه لا مِن سَمعٍ ولا مِن عَقلٍ، ويَترُكون عبادةَ مَن خلَقَهم؛ ذكَرَ ما عليه مَعبوداتُهم مِن انتِفاءِ القُدرةِ على خَلقِ أقَلِّ الأشياءِ، بل على رَدِّ ما أخَذَه ذلك الأقَلُّ منه، وفي ذلك تجهيلٌ عَظيمٌ لهم؛ حيثُ عَبَدوا مَن هذه صِفَتُه

.

وأيضًا فإنَّه أُعقِبَت تضاعيفُ الحُجَج والمواعِظِ والإنذاراتِ التي اشتَمَلت عليها السُّورةُ مِمَّا فيه مَقنَعٌ للعِلمِ بأنَّ إلهَ النَّاسِ واحِدٌ، وأنَّ ما يُعبَدُ من دونِه باطِلٌ- أُعقِبَت تلك كُلُّها بمَثَلٍ جامعٍ لوَصفِ حالِ تلك المعبوداتِ وعابديها .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.

أي: يا أيُّها النَّاسُ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا للآلِهةِ التي يَعبُدُها المُشرِكونَ، فأنصِتُوا لهذا المَثَلِ، وتفهَّموا ما احتَوى عليه .

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.

أي: إنَّ الذين تَعبُدونَ مِن دُونِ اللهِ مِنَ الأصنامِ وغَيرِها، لن يَقدِروا على خَلقِ ذُبابةٍ واحِدةٍ، ولو تَعاونوا جميعًا على ذلك .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: 20] .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((قال اللهُ عزَّ وجلَّ: ومَن أظلَمُ مِمَّن ذهَبَ يَخلُقُ كخَلْقي، فلْيَخلُقوا ذَرَّةً، أو لِيَخلُقوا حَبَّةً أو شَعيرةً!)) .

وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.

أي: وإنْ يَختَطِفِ الذُّبابُ ويَختَلِسْ مِنَ الأصنامِ شَيئًا ممَّا عليها مِن طِيبٍ أو مما يُجعَلُ لها مِن طَعامٍ ونحوِه، لا تَستطِعِ الأصنامُ أن تَرُدَّ ما استَلَبَه الذُّبابُ، مع ضَعفِه وحَقارتِه !

ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.

أي: ضعُفَت الآلِهةُ المعبودةُ مِن دُونِ اللهِ -كالأصنامِ- وعَجَزت عن استِنقاذِ ما يَسلُبُه الذُّبابُ منها، وضعُفَ الذُّبابُ، وضَعُفَ العابِدُ لغير الله، وضعُف معبودُه، فكيف يَعبُدُ المُشرِكونَ ما لا قُدرةَ له على خَلقِ ذُبابٍ، ولا على رَدِّ ما استَلَبَه منه ؟!

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74).

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.

أي: ما عظَّمَ المُشرِكونَ اللهَ حَقَّ تَعظيمِه، ولا عَرَفوا صفاتِ كَمالِه حينَ جَعَلوا الأصنامَ الضَّعيفةَ شُرَكاءَ له، فلم يُخلِصوا له العِبادةَ !

كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] .

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.

أي: إنَّ اللهَ لَقَويٌّ قادِرٌ على خَلْقِ ما يَشاءُ، مَنيعٌ في مُلكِه، غالِبٌ وقاهِرٌ لكُلِّ شَيءٍ، لا يَقدِرُ شَيءٌ دُونَه أن يَسلُبَه مِن مُلكِه شَيئًا، وليس كآلهَتِكم -أيُّها المُشرِكونَ- التي لا تَقدِرُ على خَلقِ ذبابٍ، ولا على الامتناعِ منه إذا استَلَبها شيئًا، فكيف تَدْعُونها مِن دونِ الله ؟!

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا قَدَّمَ اللهُ سُبحانَه ما يتعَلَّقُ بالإلهيَّاتِ، ذكَرَ هاهنا ما يتعَلَّقُ بالنبُوَّاتِ .

وأيضًا لَمَّا نَصَب اللهُ تعالى الدَّليلَ على أنَّ ما دعاه المُشرِكونَ لا يَصلُحُ أن يكونَ شَيءٌ منه إلهًا، بعد أن أخبَرَ أنَّه لم يُنَزِّلْ إليهم حُجَّةً بعِبادتِهم لهم، وخَتَم بما له سُبحانَه مِن وَصفَيِ القُوَّةِ والعِزَّةِ، بعد أن أثبَتَ أنَّ له المُلكَ كُلَّه؛ تلا ذلك بدَليلِه الذي تَقتَضيه سَعةُ المُلكِ وقُوَّةُ السُّلطانِ مِن إنزالِ الحُجَجِ على ألسِنَةِ الرُّسُلِ بأوامِرِه ونواهيه، المُوجِبِ لإخلاصِ العبادةِ له، المُقتَضي لِتَعذيبِ تارِكِها؛ فقال تعالى :

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.

أي: اللهُ يَختارُ مِنَ المَلائِكةِ رُسُلًا، كالذينَ يُرسِلُهم إلى أنبيائِه ومَن شاء مِن عِبادِه، ويَختارُ مِن النَّاسِ أيضًا رُسُلًا يُبَلِّغونهم وَحْيَه .

كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] .

وقال عزَّ وجلَّ: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] .

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.

أي: إنَّ اللهَ سَميعٌ لكُلِّ شَيءٍ، بصيرٌ بكلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك سَماعُه لأقوالِ عِبادِه، ورُؤيتُه لهم، فهو يَعلَمُ مَن يَستَحِقُّ مِن خَلْقِه اصطِفاءَه لرِسالتِه؛ فاختيارُه لهم عن عِلمٍ منه بأنَّهم أهلٌ لهذه الرِّسالةِ .

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76).

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.

أي: يَعلَمُ اللهُ ما بين أيدِي الرُّسُلِ مِنَ الملائكةِ والنَّاسِ، وما خَلْفَهم .

وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.

أي: وإلى اللهِ وَحْدَه لا إلى غَيرِه تُرجَعُ جَميعُ أمورِ عِبادِه، فيَحكُمُ بيْنهم يومَ القيامةِ، ويُجازيهم على ذلك

 

.

كما قال تعالى في خاتمةِ سورةِ هُودٍ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، أي: تدَبَّروه حَقَّ تَدَبُّره؛ لأنَّ نَفْسَ السَّماعِ لا يَنفَعُ، وإنَّما ينفَعُ التدَبُّرُ

.

2- قد ذكَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى هذه الكَلِمةَ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في ثلاثِة مواضِعَ؛ لِيُثبِتَ عَظَمتَه في نَفْسِه، وما يَستَحِقُّه مِنَ الصِّفاتِ، ولِيُثبِتَ وَحدانيَّتَه وأنَّه لا يستَحِقُّ العبادةَ إلَّا هو، ولِيُثبِتَ ما أنزَلَه على رُسُلِه، فقال هنا في سورةِ الحجِّ: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، وقال في الزُّمَر: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر: 67] ، وقال في الأنعامِ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] . وفي المواضِعِ الثَّلاثةِ ذَمَّ الذين ما قَدَروه حَقَّ قَدْرِه مِنَ الكُفَّارِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه يجِبُ على المؤمِنِ أن يَقدُرَ اللهَ حَقَّ قَدرِه، كما يجِبُ عليه أن يتَّقِيَه حَقَّ تُقاتِه، وأن يجاهِدَ فيه حَقَّ جِهادِه؛ قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج: 78] ، وقال: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: 102].

3- قَولُه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ إشارةٌ إلى العِلمِ التَّامِّ، وقَولُه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ إشارةٌ إلى القُدرةِ التَّامَّةِ والتفَرُّدِ بالإلهيَّةِ والحُكمِ، ومجموعُهما يتضَمَّنُ نهايةَ الزَّجرِ عن الإقدامِ على المَعصيةِ .

4- قال تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فلم يَقْدُرِ اللهَ حَقَّ قَدْرِه مَن هان عليه أمرُه فعَصاه، ونهيُه فارتَكَبه، وحَقُّه فضَيَّعه، وذِكْرُه فأهْمَله، وغَفَل قلبُه عنه، وكان هواه آثَرَ عندَه مِن طَلَبِ رضاه، وطاعةُ المخلوقِ أهمَّ مِن طاعتِه، فللَّهِ الفضْلَةُ مِن قلبِه وقولِه وعملِه، هواه المقدَّمُ في ذلك لأنَّه المهمُّ عندَه، يَسْتَخِفُّ بنظَرِ اللَّهِ إليه، واطِّلاعِه عليه بكلِّ قَلْبِه وجوارِحِه، ويَسْتَحي مِن النَّاسِ ولا يَسْتحي مِن اللَّهِ، ويخشَى النَّاسَ ولا يخشَى اللَّهَ، ويعامِلُ الخلقَ بأفضلِ ما يَقْدِرُ عليه، وإنْ عامَل اللَّهَ عامَله بأهونِ ما عندَه وأحقرِه، وإنْ قامَ في خدمةِ مَن يُحِبُّه مِن البشرِ قامَ بالجدِّ والاجتهادِ وبذلِ النَّصيحةِ، وقد أفْرَغ له قلبَه وجوارِحَه، وقَدَّمَه على الكثيرِ مِن مصالِحِه، حتَّى إذا قامَ في حقِّ رَبِّه -إنْ ساعَد القَدَرُ- قامَ قيامًا لا يَرْضاه مخلوقٌ مِن مخلوقٍ مِثْلِه، وبَذَل له مِن مالِه ما يستَحي أنْ يُواجِهَ به مخلوقًا مِثْلَه، فهل قَدَر اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه مَن هذا وصْفُه

 

؟

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ... فتأمَّلْ هذا المَثَلَ الذي أمَرَ النَّاسَ كُلَّهم باستماعِه؛ فمَن لم يَستَمِعْه فقد عصى أمْرَه: كيف تضَمَّنَ إبطالَ الشِّركِ وأسبابِه بأصَحِّ بُرهانٍ في أوجَزِ عِبارةٍ وأحسَنِها وأحلاها؟ وأسْجَلَ على جميعِ آلهةِ المُشرِكينَ أنَّهم لو اجتَمَعوا كُلُّهم في صعيدٍ واحدٍ وساعَدَ بعضُهم بعضًا وعاوَنَه بأبلَغِ المعاوَنةِ لعَجَزوا عن خَلْقِ ذُبابٍ واحدٍ! ثمَّ بيَّن ضَعْفَهم وعَجْزَهم عن استِنقاذِ ما يَسلُبُهم الذُّبابُ إيَّاه حين يَسقُطُ عليهم! فأيُّ إلهٍ أضعَفُ مِن هذا الإلهِ المطلوبِ، ومِن عابِدِه الطَّالِبِ نَفْعَه وخَيْرَه -على قَولٍ في التَّفسيرِ-؟! فهل قَدَر القَويَّ العزيزَ حَقَّ قَدْرِه مَن أشرَكَ معه آلِهةً هذا شأنُها؟! فأقام سُبحانَه حُجَّةَ التَّوحيدِ، وبَيَّن إفكَ أهلِ الشِّركِ والإلحادِ بأعذَبِ ألفاظٍ وأحسَنِها، لم يَستكْرِهْها غُموضٌ، ولم يَشِنْها تطويلٌ، ولم يَعِبْها تقصيرٌ، ولم تُزْرِ بها زيادةٌ ولا نَقصٌ، بل بلَغَت في الحُسنِ والفَصاحةِ والبَيانِ والإيجازِ ما لا يَتوهَّمُ مُتوهِّمٌ ولا يَظُنُّ ظانٌّ أن يكونَ أبلَغُ في معناها منها، وتحتَها من المعنى الجَليلِ القَدْرِ العظيمِ الشَّرَفِ البالِغِ في النَّفْعِ ما هو أجَلُّ مِن الألفاظِ

.

2- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ دَلالةٌ على عِلمِه سُبحانَه بالمُستَحيلِ .

3- قَولُه تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ أي: الصَّنَمُ بطَلَبِ ما سُلِبَ منه وَالْمَطْلُوبُ الذُّبابُ بما سَلَب -على قَولٍ في التَّفسيرِ- وهذا كالتَّسويةِ بينهم وبين الذُّبابِ في الضَّعفِ، ولو حقَّقْتَ وجَدْتَ الطَّالِبَ أضعَفَ وأضعَفَ؛ فإنَّ الذُّبابَ حيوانٌ وهو جمادٌ، وهو غالِبٌ وذاك مغلوبٌ .

4- قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، فكلمةُ (مِن) للتَّبعيضِ، وقال تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ [فاطر: 1] ؛ فهنا جَعَل المَلائكةَ كلَّهم رُسُلًا؟

والجوابُ عن ذلك: أنَّ الملَكَ في اللُّغة: هو حاملُ الأَلُوكةِ؛ وهي الرِّسالة. فاسمُ الملائكةِ والملَكِ يَتضمَّنُ أنَّهم رُسُلُ اللهِ. أمَّا قوله: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ فالمرادُ به الذين يُرسِلُهم بالوحيِ؛ كما قال: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] .

وأمَّا عُمومُ الملائكةِ: فإنَّ إرسالَها لِتَفعلَ فِعلًا، لا لتُبلِّغَ رسالةً، فالملائكةُ رُسُلُ اللهِ في تنفيذِ أمْرِه الكَونيِّ الذي يُدبِّرُ به السَّمواتِ والأرضَ، كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61] ، وكما قال: بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80]   . وقيل غيرُ ذلك .

5- قولُه تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ فيه: تَقريرٌ للنُّبوَّةِ ، ورَدٌّ لِمَا أنْكَروهُ مِن أنْ يكونَ الرَّسولُ مِن البشَرِ، وبَيانُ أنَّ رُسلَ اللهِ على ضَربينِ: ملائكةٍ، وبشَرٍ .

6- قولُه تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا فيه: تَزييفٌ لقولِهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، و: الملائكةُ بَناتُ اللهِ تعالى، ونحْوِ ذلك !

7- قولُه تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وهذا نظيرُ قولِه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [القصص: 68-69] ، ونظيرُ قولِه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] فأخبَر في ذلك كلِّه عن علمِه المتضمِّنِ لتخصيصِه محالَّ اختيارِه بما خصَّصها به، لعلمِه بأنَّها تصلحُ له دونَ غيرِها، فتدبَّرِ السِّياقَ في هذه الآياتِ تجِدْه متضمِّنًا لهذا المعنى، زائدًا عليه، واللهُ أعلمُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ

- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ في افتتاحِ السُّورة بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وتَنْهيتِها بمِثْلِ ذلك: شَبَهٌ بِرَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ، وممَّا يَزِيدُه حُسْنًا: أنْ يكونَ العَجُزُ جامِعًا لِمَا في الصَّدرِ وما بَعْده؛ حتَّى يكونَ كالنَّتيجةِ للاستدلالِ، والخُلاصةِ للخُطبةِ، والحَوصلةِ للدَّرسِ

.

- وبُنِيَ فِعْلُ ضُرِبَ بصِيغةِ النَّائبِ، فلم يُذْكَرْ له فاعِلٌ، بعَكْسِ ما في المواضعِ الأُخرى الَّتي صُرِّحَ فيها بفاعِلِ ضَرْبِ المثَلِ، نحوُ قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [البقرة: 26] ، وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا [النحل: 75] ؛ إذ أُسْنِدَ في تلك المواضعِ وغَيرِها ضَرْبُ المثَلِ إلى اللهِ، ونحوُ قولِه: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل: 74] ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس: 78] ؛ إذ أُسْنِدَ ضَرْبُ المثَلِ إلى المُشرِكين؛ لأنَّ المقصودَ هنا نَسْجُ التَّركيبِ على إيجازٍ صالحٍ لإفادةِ احتمالينِ: أحدِهما: أنْ يُقدَّرَ الفاعِلُ اللهَ تعالى، وأنْ يكونَ المثَلُ تَشبيهًا تَمثيليًّا، أي: أوضَحَ اللهُ تَمثيلًا يُوضِّحُ حالَ الأصنامِ في فَرطِ العَجْزِ عن إيجادِ أضعَفِ المخلوقاتِ، كما هو مُشاهَدٌ لكلِّ أحدٍ. والثَّاني: أنْ يُقدَّرَ الفاعِلُ المُشرِكينَ، ويكونُ المثَلُ بمعنى المُماثِلِ، أي: جَعَلوا أصنامَهم مُماثِلةً للهِ تعالى في الإلهيَّةِ، وفُرِّعَ على ذلك المعنى مِن الإيجازِ قولُه: فَاسْتَمِعُوا لَهُ؛ لاسترعاءِ الأسماعِ إلى مُفادِ هذا المثَلِ ممَّا يُبْطِلُ دَعْوى الشَّركةِ للهِ في الإلهيَّةِ، أي: استَمِعوا استماعَ تَدبُّرٍ؛ فصِيغَةُ الأمْرِ في فَاسْتَمِعُوا لَهُ مُستعمَلةٌ في التَّحريضِ على الاحتمالِ الأوَّلِ، وفي التَّعجيبِ على الاحتمالِ الثَّاني .

- واسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الماضي في ضُرِبَ مع أنَّه لَمَّا يُقَلْ؛ لِتَقريبِ زمَنِ الماضي من الحالِ، وذلك تَنبيهٌ للسَّامعينَ بأنْ يَتهَيَّؤوا لِتَلقِّي هذا المثَلِ؛ لِمَا هو مَعروفٌ لَدى البُلغاءِ مِن استشرافِهم للأمثالِ ومَواقِعِها . وقيل: اسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الماضي معَ أنَّ الله تعالى هو المتكلِّمُ بهذا الكلامِ ابتداءً؛ لأنَّ ما أُورِد مِن الوصفِ كان معلومًا مِن قَبْلُ، فجاز ذلك فيه، ويكونُ ذِكرُه بمنزلةِ إعادةِ أمرٍ قد تقدَّم .

- وقولُه: ضُرِبَ مَثَلٌ مُجمَلٌ بُيِّنَ بقولِه: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وقولُه: فَاسْتَمِعُوا لَهُ تَقريرٌ لِمَا يُرادُ مِن الإبهامِ والتَّبيينِ؛ مِن تَوخِّي التَّفطُّنِ لِمَا يُتْلى بعْدَ المُجمَلِ، وتَطلُّبِ إلْقاءِ الذِّهنِ، ويُؤيِّدُه تَصدُّرُ الآيةِ بقولِه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وتَذييلُ المثَلِ بقولِه تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وتَعليلُه بقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ .

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ بَيانٌ لـ مَثَلٌ؛ فإنَّ المثَلَ في مَعنى القولِ، فصَحَّ بَيانُه بهذا الكلامِ . وقيل: بَيانٌ للمَثلِ وتَفسيرٌ له، على أنَّ ضارِبَ المثَلِ هو اللهُ، وتَعليلٌ لبُطلانِ جَعْلِهم الأصنامَ مِثْلَ اللهِ سُبحانه في استحقاقِ العِبادةِ، على تَفسيرِ المَثلِ بالمُماثِلِ .

- وفي جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا أُكِّدَ إثباتُ الخبَرِ بحَرفِ تَوكيدِ الإثباتِ وهو (إنَّ)، وأُكِّدَ ما فيه مِن النَّفيِ بحَرفِ تَوكيدِ النَّفيِ (لن)؛ لِتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلةَ المُنكِرينَ لِمَضمونِ الخبَرِ؛ لأنَّ جَعْلَهم الأصنامَ آلهةً يَقْتضي إثباتَهم الخَلْقَ إليها، وقد نُفِيَ عنها الخَلقُ في المُستقبَلِ؛ لأنَّه أظهَرُ في إفْحامِ الَّذين ادَّعَوا لها الإلهيَّةَ؛ لأنَّ نَفْيَ أنْ تَخلُقَ في المُستقبَلِ يَقْتَضي نَفْيَ ذلك في الماضي بالأحْرى؛ لأنَّ الَّذي يَفعَلُ شيئًا يكونُ فِعْلُه مِن بَعْدُ أيسَرَ عليه .

- وخُصَّ الذبابُ؛ لأربعةِ أمورٍ تخصُّه: لمهانتِه، وضَعفِه، ولاستقذارِه، وكثرتِه .

- قولُه: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ جوابُ (لو) محذوفٌ؛ لدلالةِ ما قبلَه عليه، والجملةُ معطوفةٌ على شرطيةٍ أُخرى محذوفةٍ؛ ثقةً بدلالةِ هذه عليها، أي: لو لم يجتَمِعوا عليه لن يخلقُوه، ولو اجتمعُوا له لن يخلقُوه، وهما في موضعِ الحالِ، كأنَّه قيل: لن يخلقوا ذبابًا على كلِّ حالٍ .

- وقيل: قولُه: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ حالٌ؛ جِيءَ به للمُبالَغةِ، أي: لا يَقدِرونَ على خَلْقِه مُجْتَمعينَ له، مُتعاونينَ عليه؛ فكيف إذا كانوا مُنفَرِدينَ ؟!

- والاستنقاذُ في قولِه: لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مُبالَغةٌ في الإنقاذِ، مثْلُ الاستحياءِ، والاستجابةِ .

- وقولُه: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ تَذييلٌ وفَذْلكةٌ للغرَضِ مِن التَّمثيلِ، أي: ضعُفَ الدَّاعي والمَدْعُوُّ، إشارةً إلى إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ ... إلخ، أي: ضَعُفْتُم أنتم في دَعوتِهم آلهةً، وضَعُفَتِ الأصنامُ عن صِفاتِ الإلهِ -وذلك على قولٍ في التفسيرِ-. وهذه الجُملةُ كَلامٌ أُرْسِلَ مثَلًا، وذلك مِن بَلاغةِ الكلامِ . وقيل: معناهُ التَّعجُّبُ، أي: ما أضعَفَ الطَّالِبَ والمطلوبَ !

- والتَّشبيهُ في هذه الآيةِ ضِمْنِيٌّ خَفِيٌّ، يُنْبِئُ عنه قولُه: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وقولُه: لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ؛ فشُبِّهَتِ الأصنامُ المُتعدِّدةُ المُتفرِّقةُ في قَبائلِ العربِ -وفي مكَّةَ بالخُصوصِ- بعُظماءَ، أي: عندَ عابِدِيها، وشُبِّهَتْ هَيئتُها في العَجْزِ بهَيئةِ ناسٍ تَعذَّرَ عليهم خَلْقُ أضعَفِ المخلوقاتِ، وهو الذُّبابُ، بَلْهَ المخلوقاتِ العظيمةِ كالسَّمواتِ والأرضِ، وقد دَلَّ إسنادُ نَفْيِ الخَلْقِ إليهم على تَشبيهِهم بذَوي الإرادةِ؛ لأنَّ نَفْيَ الخَلْقِ يَقْتَضي مُحاولةَ إيجادِه، ولو فُرِضَ أنَّ الذُّبابَ سَلَبَهم شيئًا لم يَسْتَطيعوا أخْذَه منه، ودَليلُ ذلك مُشاهَدةُ عدَمِ تَحرُّكِهم، فكما عجَزَتْ عن إيجادِ أضعَفِ الخَلْقِ، وعن دَفْعِ أضعَفِ المخلوقاتِ عنها؛ فكيف تُوسَمُ بالإلهيَّةِ؟! ورُمِزَ إلى الهيئةِ المُشبَّهِ بها بذِكْرِ لوازمِ أركانِ التَّشبيهِ مِن قولِه: لَنْ يَخْلُقُوا، وقولِه: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا إلى آخِرِه؛ لا جرَمَ حصَلَ تَشبيهُ هَيئةِ الأصنامِ في عَجْزِها بما دونَ هَيئةِ أضعَفِ المخلوقاتِ .

- وفي الآيةِ ما يُعرَفُ بسَلامةِ الاختِراعِ؛ وهو اختراعُ القائِلِ معنًى لم يُسْبَقْ إليه؛ فقولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا الآيةَ، مِن أبلَغِ ما أنزَلَ اللهُ في تَجْهيلِ الكافرينَ وتَقريعِهم والاستِخفافِ بعُقولِهم؛ لِغَرابةِ التَّمثيلِ الَّذي تضمَّنَ الإفراطَ في المُبالَغةِ مع كونِها مُلازِمةً للحقِّ والواقعِ؛ فقدِ اقتصَرَ سُبحانَه على ذِكْرِ أضعَفِ المخلوقاتِ وأقَلِّها سَلْبًا لِمَا تَسلُبُه، وتَعجيزِ كلِّ مَن دُونَه عن خَلْقِ مِثْلِه، مع التَّضافُرِ والاجتماعِ، ثمَّ عدَلَ عن رُتْبةِ الخَلْقِ -لِمَا فيه مِن تَعجيزٍ- إلى استِنقاذِ النَّزْرِ القليلِ الَّذي يَسلُبُه الذُّبابُ؛ فقد تدرَّجَ في النُّزولِ على ما تَقْتضيه خُطَّةُ البَلاغةِ في التَّرتيبِ. ولم يُسْمَعْ مثْلُ هذا التَّمثيلِ في بابِه لأحدٍ قبْلَ نُزولِ الكتابِ العزيزِ .

2- قولُه تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعليلٌ لِمَا قبْلَها مِن نَفْيِ مَعرِفَتِهم له تعالى . وهو أيضًا تَذييلٌ للمثَلِ بأنَّ عِبادَتَهم الأصنامَ مع اللهِ استخفافٌ بحَقِّ إلهيَّتِه تعالى .

- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعليلٌ لِمَضمونِ الجُملةِ قبْلَها؛ فإنَّ ما أشْرَكوهم مع اللهِ في العِبادةِ كلُّ ضَعيفٍ ذَليلٍ، فما قَدَروهُ حَقَّ قَدْرِه؛ لأنَّه قَوِيٌّ عَزيزٌ، فكيف يُشارِكُه الضَّعيفُ الذَّليلُ؟! والعُدولُ عن أنْ يُقالَ: (ما قدَرْتُم اللهَ حقَّ قَدْرِه) إلى أُسلوبِ الغَيبةِ: الْتِفاتٌ؛ تَعريضًا بهم بأنَّهم لَيسوا أهْلًا للمُخاطَبةِ تَوبيخًا لهم، وبذلك يَندمِجُ في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَهديدٌ لهم بأنَّه يَنتقِمُ منهم على وَقاحَتِهم. وتَوكيدُ الجُملةِ بحَرفِ التَّوكيدِ ولامِ الابتداءِ، مع أنَّ مَضمونَها ممَّا لا يُخْتَلَفُ فيه؛ لِتَنزيلِ عِلْمِهم بذلك مَنزِلةَ الإنكارِ؛ لأنَّهم لم يَجْرُوا على موجَبِ العِلْمِ حين أشْرَكوا مع القوِيِّ العزيزِ ضُعفاءَ أذِلَّةً .

- وأيضًا في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ وَضْعُ اسْمِه الأعظمِ (الله) الجامِعِ لأسمائِه الحُسْنى مَوضِعَ الضَّميرِ؛ تَقريرًا للقُوَّةِ الكاملةِ، والعِزَّةِ القاهرةِ، أو هو بمَنزِلَةِ اسمِ الإشارةِ المُؤْذِنِ بأنَّ ما بَعْدَه جديرٌ بمَن قبْلَه؛ لاتِّصافِه بتلك الصِّفاتِ الفائقةِ .

3- قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ

- جُملةُ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ استئنافٌ ابتدائيٌّ، وتَقديمُ المُسنَدِ إليه -وهو اسمُ الجَلالةِ- على الخبَرِ الفِعْليِّ في قولِه: اللَّهُ يَصْطَفِي؛ لإفادةِ الاختصاصِ، أي: اللهُ وحْدَه هو الَّذي يَصْطفي لا أنتم تَصْطَفون وتَنْسِبون إليه. والإظهارُ في مَقامِ الإضمارِ هنا حيث لم يقُلْ: (هو يَصْطَفي من الملائكةِ رُسلًا)؛ لأنَّ اسْمَ الجَلالةِ أصْلُه الإلهُ، أي: الإلهُ المعروفُ الَّذي لا إلهَ غيرُه، فاشْتِقاقُه مُشيرٌ إلى أنَّ مُسمَّاهُ جامِعٌ كلَّ الصِّفاتِ العُلى؛ تَقريرًا للقُوَّةِ الكاملةِ، والعِزَّةِ القاهرةِ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تَعليلٌ لمَضمونِ جُملةِ اللَّهُ يَصْطَفِي؛ لأنَّ المُحيطَ عِلْمُه بالأشياءِ هو الَّذي يَختَصُّ بالاصطفاءِ. وفيه: كِنايةٌ عن عُمومِ العِلْمِ بالأشياءِ بحسَبِ المُتعارَفِ في المعلوماتِ أنَّها لا تَعْدُو المسموعاتِ والمُبْصَراتِ .

4- قولُه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ جُملةٌ مُقرِّرةٌ لِمَضمونِ قولِه: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، وفائدتُها -زيادةً على التَّقريرِ-: أنَّها تَعريضٌ بوُجوبِ مُراقَبَتِهم ربَّهم في السِّرِّ والعلانيةِ؛ لأنَّه لا تَخْفى عليه خافيةٌ .

- وفي قولِه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ بُنِيَ فِعْلُ تُرْجَعُ إلى النَّائبِ؛ لظُهورِ مَن هو فاعِلُ الإرجاعِ؛ فإنَّه لا يَلِيقُ إلَّا باللهِ تعالى، فهو يُمْهِلُ النَّاسَ في الدُّنيا، وهو تُرْجَعُ الأُمورُ إليه يومَ القيامةِ .

- وتَقديمُ المجرورِ وَإِلَى اللَّهِ على الفِعْلِ تُرْجَعُ؛ لإفادةِ الحصْرِ الحقيقيِّ، أي: إلى اللهِ لا إلى غيرِه يَرجِعُ الجَزاءُ؛ لأنَّه مَلِكُ يومِ الدِّينِ .

- والتَّعريفُ في الْأُمُورُ للاستغراقِ، أي: كلُّ أمْرٍ. وذلك جَمْعٌ بينَ البِشارةِ والنِّذارةِ؛ تَبعًا لِمَا قبْلَه مِن قولِه: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ

 

.

=============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيتان (77-78)

ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ

غريب الكلمات:

 

اجْتَبَاكُمْ: أي: اختَاركم واصطَفاكم واستخلَصَكم، وأصلُ (جبي): يدُلُّ على الجَمعِ على طَريقِ الاصطِفاءِ

.

مِلَّةَ: أي: دِينَ وطَريقةَ، وإنَّما سُمِّيَ الدِّينُ مِلَّةً؛ لأنَّه يُمَلُّ، أي: يُملَى على المَدعُوِّ إليه، فالمِلَّةُ تُبنَى على مَسموعٍ ومتلوٍّ .

وَاعْتَصِمُوا: أي: استَمسِكوا وامتنِعوا، وأصلُ العَصْمِ: المنعُ، فكلُّ مانعٍ شيئًا فهو عاصِمُه، والمُمتنِعُ به مُعتصِمٌ به، يُقال: عَصَمَه الطَّعامُ؛ أي: مَنعَه مِن الجوع، وأصلُ (عصم) أيضًا: يَدُلُّ على إمساكٍ ومُلازمةٍ، والمعنَى في ذلك كُلِّه معنًى واحِدٌ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ

في نَصبِ مِلَّةَ أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّها مَنصوبةٌ على المصدريَّةِ بفِعلٍ دلَّ عليه ما قَبْلَه مِن نَفيِ الحَرَجِ بعد حَذفِ مُضافٍ، أي: وسَّعَ دينَكم تَوسِعةَ مِلَّةِ أبيكم، ثم حُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. الثَّاني: أنَّها مَنصوبةٌ على الاختِصاصِ بتَقديرِ أعني أو أخُصُّ. الثالثُ: أنَّها مَنصوبةٌ على الإغراءِ بتَقديرِ: (اتَّبِعوا) أو (الزَمُوا)؛ لأنَّ الكلامَ قَبْلَه أمْرٌ، فكأنَّه قيل: اركَعوا واسجُدوا، والزَموا مِلَّةَ أبيكم إبراهيمَ. الرَّابِعُ: أنَّها مَنصوبةٌ بنَزعِ الخافِضِ، أي: كمِلَّةِ أبيكم، فلَمَّا حُذِفَ حَرفُ الجَرِّ نُصِبَ، وتقديرُه: وسَّعَ عليكم في الدِّينِ كمِلَّةِ أبيكم؛ لِأَنَّ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يدُلُّ على وسَّعَ عليكم

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: يا أيُّها الذينَ آمَنوا، اركَعوا واسجُدوا في صَلاتِكم، واعبُدوا ربَّكم وَحْدَه لا شَريكَ له، وافعَلوا الخيرَ؛ لِتُفلِحوا، وجاهِدوا لله ومِن أجْلِه أنفُسَكم، وجاهِدوا الشَّيطانَ والكفَّارَ وأهلَ الظُّلمِ والزَّيغِ والهوَى جهادًا خالصًا لوجهِ الله، هو اصطفاكم لحَملِ هذا الدِّينِ ونَصْرِه، وقد مَنَّ عليكم بأنْ جعَلَ شريعتَكم سَمْحةً، فما جعَل عليكم مِن ضِيقٍ وعُسرٍ في دِينِ الإسلامِ، بل وَسَّع دينَكم كمِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ.

وقد سَمَّاكم اللهُ المُسلِمينَ مِن قبْلُ في الكتُبِ المنزَّلةِ السَّابقةِ، وفي هذا القُرآنِ، وقد اختَصَّكم بهذا الفَضلِ والاجتباءِ؛ ليكونَ خاتَمُ الرُّسُلِ مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شاهِدًا عليكم بأنَّه بلَّغكم رِسالةَ رَبِّه، وتكونوا شُهَداءَ على الأُمَمِ أنَّ رُسُلَهم قد بلَّغَتْهم؛ فعليكم أن تَشكُروا هذه النعمةَ بأداءِ الصَّلاةِ بأركانِها وحُدودِها، وإخراجِ الزَّكاةِ المَفروضةِ، وأن تَلجَؤوا إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، وتتوكَّلوا عليه في جَميعِ أمورِكم؛ فهو نِعْمَ المَولى، ونِعْمَ النَّصيرُ.

تفسير الآيتين:

 

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تَكلَّم اللهُ سبحانه في الإلهيَّاتِ، ثُمَّ في النُّبوَّاتِ؛ أتْبعَه بالكلامِ في الشَّرائعِ

.

وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أنَّه اصطفى رُسلًا مِن البَشرِ إلى الخَلقِ؛ أمرَهم بإقامةِ ما جاءتْ به الرُّسُلُ مِن التكاليفِ .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ.

أي: يا أيُّها الذينَ آمَنوا، اركَعوا واسجُدوا لله في صَلاتِكم، وذِلُّوا واخضَعوا لرَبِّكم بطاعتِه، مُخلِصينَ له في عبادتِه .

وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.

أي: وافعَلوا -أيُّها المُؤمِنونَ- أنواعَ الخَيراتِ مِمَّا أمَرَكم اللهُ به؛ لعَلَّكم تفوزونَ بما تَرغَبونَ فيه في الدُّنيا والآخِرةِ، وتنجَوْنَ ممَّا ترهبونَه .

كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] .

وقال الله عزَّ وجَلَّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل: 5-7] .

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا كان الجِهادُ أساسَ العِبادةِ، وهو -مع كَونِه حقيقةً في قِتالِ الكُفَّارِ- صالِحٌ لأنْ يَعُمَّ كُلَّ أمرٍ بمَعروفٍ ونَهيٍ عن مُنكَرٍ؛ بالمالِ والنَّفسِ، بالقَولِ والفِعلِ، بالسَّيفِ وغَيرِه، وكُلَّ اجتِهادٍ في تهذيبِ النَّفسِ وإخلاصِ العَمَلِ- ختَمَ به، فقال تعالى :

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ.

أي: جاهِدوا -للهِ ومِن أجْلِه- أنفُسَكم، وجاهِدوا الشَّيطانَ والكفَّارَ وأهلَ الظُّلمِ والزَّيغِ والهوَى جهادًا خالصًا لوجهِ الله؛ بأموالِكم وأنفُسِكم وألسِنَتِكم، مُستَفرغينَ فيه طاقتَكم .

كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] .

وعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((جاهِدوا المُشرِكينَ بأموالِكم وأنفُسِكم وألسِنَتِكم )) .

وعن فَضالةَ بنِ عُبَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المجاهِدُ مَن جاهَدَ نَفسَه)) .

هُوَ اجْتَبَاكُمْ.

أي: اللهُ هو الذي اختاركم -أيُّها المُؤمِنونَ- لاتِّباعِ دينِه، ونَصْرِه، والجِهادِ في سَبيلِه .

كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 110] .

وعن أبي عِنَبةَ الخَوْلانيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يَزالُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ يَغرِسُ في هذا الدِّينِ بغَرسٍ يَستَعمِلُهم في طاعتِه)) .

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.

أي: وما جعل اللهُ عليكم -أيُّها المُؤمِنونَ- مِن ضِيقٍ وعُسرٍ ومشقَّةٍ في دِينِ الإسلامِ، بل يسَّرَ لكم هذا الدِّينَ غايةَ التيسيرِ .

كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .

وقال عزَّ وجَلَّ: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: 28] .

وقال تبارك وتعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة: 6] .

وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((لَمَّا نزَلَت هذه الآيةُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] ، قال: دخَلَ قُلوبَهم منها شَيءٌ لم يَدخُلْ قُلوبَهم مِن شَيءٍ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: سَمِعْنا، وأطَعْنا، وسَلَّمْنا. قال: فألقى اللهُ الإيمانَ في قُلوبِهم، فأنزل اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] ، قال: قد فعَلْتُ، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة: 286] ، قال: قد فعَلْتُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا [البقرة: 286] ، قال: قد فعَلْتُ)) .

وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قيل لِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّ الأديانِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قال: الحَنيفيَّةُ السَّمْحةُ)) .

مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.

أي: وما جعَلَ عليكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ، بل وسَّعه كمِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 135] .

وقال سُبحانَه: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: 95] .

وقال عزَّ وجلَّ: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 123] .

هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا.

أي: اللهُ سمَّاكم المُسلِمينَ مِن قَبلِ نُزولِ القُرآنِ في كُتُبِ الأنبياءِ السَّابقةِ، وسمَّاكم المُسلِمينَ أيضًا في هذا القُرآنِ .

كما قال تعالى: قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136] .

وقال سُبحانَه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] .

وعن الحارِثِ الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((... ومَن دعا بِدَعوى الجاهليَّةِ، فهو مِن جُثا جَهنَّمَ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وإنْ صام وإن صلَّى؟ قال: وإن صام وإن صَلَّى وزعَمَ أنَّه مُسلِمٌ، فادْعُوا المُسلِمينَ بأسمائِهم؛ بما سَمَّاهم اللهُ عَزَّ وجَلَّ: المُسلِمينَ المُؤمِنينَ عبادَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ)) .

لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ.

أي: اجتَباكم اللهُ وفضَّلَكم، ونَوَّهَ باسمِكم؛ لِيَكونَ الرَّسولُ -الذي هو خَيرُكم- شَهيدًا عليكم يومَ القيامةِ أنَّه قد بلَّغكم رسالةَ ربِّه ، وتكونوا شُهَداءَ على جَميعِ الأُمَمِ أنَّ رُسُلَهم قد بلَّغُوهم ما أرسَلَهم اللهُ به .

كما قال سُبحانَه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُدعَى نوحٌ يَومَ القيامةِ، فيَقولُ: لبَّيكَ وسَعْديكَ يا رَبِّ، فيقولُ: هل بلَّغْتَ؟ فيقولُ: نعَمْ، فيُقالُ لأُمَّتِه: هل بلَّغَكم؟ فيقولونُ: ما أتانا مِن نَذيرٍ! فيقولُ: مَن يَشهَدُ لك؟ فيقولُ: مُحمَّدٌ وأمَّتُه. فتَشهَدونَ أنَّه قد بلَّغَ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] )) .

فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ.

أي: قابِلُوا تلك النِّعمةَ العَظيمةَ بالقيامِ بشُكرِها، فأقيمُوا -أيُّها المُسلِمونَ- الصَّلاةَ للهِ بحُدودِها وأركانِها، وأعطُوا زَكاةَ أموالِكم لِمُستحقِّيها .

وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ.

أي: وثِقُوا باللهِ وتوَكَّلوا عليه في جَميعِ أمورِكم، واعمَلوا بوَحْيِه وتمَسَّكوا به؛ لأنَّه وليُّكم وحافِظُكم، ومُدَبِّرُ أمورِكم، وناصِرُكم على أعدائِكم .

كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران: 101] .

وقال سُبحانَه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] .

فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.

أي: فنِعْم المَولى هو سُبْحانَه، ونِعْمَ النَّاصِرُ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ فيه أمرٌ بإسداءِ الخَيرِ إلى النَّاسِ مِنَ الزَّكاةِ، وحُسنِ المُعامَلةِ؛ كصِلةِ الرَّحِمِ، والأمرِ بالمَعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وسائِرِ مَكارِمِ الأخلاقِ، وهذا مُجمَلٌ بيَّنَتْه وبيَّنَت مراتِبَه أدِلَّةٌ أُخرى

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (لعلَّ) كَلِمةُ تَرَجٍّ تُشعِرُ بأنَّ الإنسانَ قَلَّما يخلو في أداءِ فَريضةٍ مِن تَقصيرٍ، وليس هو على يقينٍ مِن أنَّ الذي أتى به مَقبولٌ عندَ اللهِ، والعواقِبُ مَستورةٌ، وكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له .

3- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ علَّق تعالى الفَلاحَ على هذه الأمورِ، فلا طريقَ للفَلاحِ سوِى الإخلاصِ في عبادةِ الخالِقِ، والسَّعيِ في نَفعِ عَبيدِه، فمن وُفِّقَ لذلك فله القِدْحُ المُعَلَّى مِنَ السَّعادةِ والنَّجاحِ والفَلاحِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ باستِفراغِ الطَّاقةِ في إيقاع كلِّ ما أَمَر به مِنَ الجهادِ للعدوِّ والنَّفْسِ على الوجْهِ الَّذي أَمَر به، مِنَ الحجِّ والغَزوِ وغَيرِهما، جهادًا يَليقُ بما أَفهَمَتْه الإضافةُ إلى ضَميرِه سبحانه مِنَ الإخلاصِ والقوَّةِ .

5- قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فمتى اعتصَمْتُم به سُبحانَه تولَّاكم ونصَرَكم على أنفُسِكم وعلى الشَّيطانِ، وهما العدوَّانِ اللَّذانِ لا يُفارِقانِ العبدَ، وعداوتُهما أضَرُّ مِن عَداوةِ العَدُوِّ الخارجِ؛ فالنَّصرُ على هذا العدوِّ أهمُّ، والعَبدُ إليه أحوَجُ، وكمالُ النُّصرةِ على العَدُوِّ بحَسَبِ كَمالِ الاعتصامِ باللهِ .

6- قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ، والاعتِصامُ به نوعانِ: اعتِصامُ توكُّلٍ واستعانةٍ، وتَفويضٍ ولَجَأٍ وعِياذٍ، وإسلامُ النَّفْسِ إليه، والاستِسلامُ له سُبحانَه. والثاني: اعتِصامٌ بوَحْيِه، وهو تحكيمُه دونَ آراءِ الرِّجالِ ومقاييسِهم ومَعقولاتِهم، وأذواقِهم وكُشوفاتِهم ومَواجيدِهم، فمَن لم يكُنْ كذلك فهو مُنسَلٌّ مِن هذا الاعتصامِ؛ فالدِّينُ كُلُّه في الاعتصامِ به وبحَبلِه؛ عِلمًا وعمَلًا، وإخلاصًا واستِعانةً، ومُتابعةً واستِمرارًا على ذلك إلى يومِ القيامةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تخصيصُ المُؤمِنينَ بالذِّكرِ لا يدُلُّ على نَفيِ ذلك عمَّا عداهم، بل قد دَلَّت هذه الآيةُ على كَونِهم على التَّخصيصِ مأمورينَ بهذه الأشياءِ، ودَلَّت سائِرُ الآياتِ على كَونِ الكُلِّ مأمورينَ بها. ويُمكِنُ أن يُقالَ: فائِدةُ التَّخصيصِ أنَّه لَمَّا جاء الخِطابُ العامُّ مَرَّةً بعدَ أخرى، ثمَّ إنَّه ما قَبِلَه إلَّا المُؤمِنونَ، خَصَّهم اللهُ تعالى بهذا الخِطابِ؛ لِيَكونَ ذلك كالتَّحريضِ لهم على المُواظَبةِ على قَبولِه، وكالتَّشريفِ لهم في ذلك الإقرارِ والتَّخصيصِ

.

2- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا دلالةٌ على أنَّ الركوعَ ركنٌ في الصلاةِ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى أَمَرَ بالركوعِ، ومِن المعلومِ أنَّه لا يُشرَعُ لنا أنْ نركعَ ركوعًا مجرَّدًا، وإذا لم يُشرعْ لنا الرُّكوعُ المجرَّدُ وَجَب حَمْلُ الآيةِ على الرُّكوع الذي في الصلاةِ .

3- تَضمَّنَ قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ذِكْرَ الواجِباتِ والمُستحبَّاتِ كلِّها؛ توَحيدًا، وصلاةً وزكاةً، وحَجًّا وصِيامًا، فيدخُلُ في قَولِه: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كلُّ واجِبٍ ومُستحَبٍّ، فخَصَّصَ في هذه الآيةِ وعمَّمَ، ثمَّ قال: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، فهذه الآيةُ وما بَعْدَها لم تَترُكْ خَيرًا إلَّا جمعَتْه؛ ولا شَرًّا إلَّا نفَتْه .

4- إنَّ حَقَّ تُقاتِه وحَقَّ جِهادِه سُبحانَه في قَولِه تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران: 102] ، وقَولِه: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هو ما يُطيقُه كلُّ عَبْدٍ في نَفْسِه، وذلك يختَلِفُ باختِلافِ أحوالِ المكلَّفينَ في القُدرةِ والعَجزِ، والعِلمِ والجَهلِ؛ فحَقُّ التَّقوى وحقُّ الجِهادِ بالنِّسبةِ إلى القادِرِ المتمَكِّنِ العالِم شَيءٌ، وبالنِّسبةِ إلى العاجِزِ الجاهِلِ الضَّعيفِ شَيءٌ، وتأمَّلْ كيف عَقَّبَ الأمرَ بذلك بقَولِه تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، والحَرَجُ: الضِّيقُ، بل جَعَلَه واسِعًا يَسَعُ كلَّ أَحَدٍ !

5- عن الحَسَنِ رَضِي اللهُ عنه: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، قال: (إنَّ الرجُلَ لَيُجاهِدُ في اللَّهِ حقَّ جِهادِه وما ضَرَب بسيفٍ) .

6- قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ يُؤخَذُ مِن هذه الآيةِ قاعِدةٌ شَرعيَّةٌ، وهي أنَّ (المشقَّةَ تَجلِبُ التَّيسيرَ)، و(الضَّروراتُ تُبيحُ المحظوراتِ)، فيَدخُلُ في ذلك مِنَ الأحكامِ الفَرعيَّةِ شَيءٌ كثيرٌ مَعروفٌ في كُتُبِ الأحكامِ .

7- قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، ورفعُ الحرَجِ إنَّما هو لِمَنِ استقامَ على مِنهاجِ الشَّرْعِ، وأمَّا السَّلَّابَةُ وَالسُّرَّاقُ وأصحابُ الحُدودِ فعليهم الحَرَجُ، وهم جاعِلوه على أنفسِهم بمُفارَقَتِهم الدِّينَ .

8- قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، فقد أخبَرَ أنَّه ما جَعَلَ علينا في الدِّينِ مِن حَرَجٍ، ونفاه نفيًا عامًّا مؤكَّدًا، فمَنِ اعتقدَ أنَّ فيما أمَرَ اللهُ به مِثقالَ ذرَّةٍ مِن حَرَجٍ، فقد كَذَّبَ اللهَ ورَسولَه، فكيف بمَن اعتقدَ أنَّ المأمورَ به قد يكونُ فَسادًا وضَررًا لا مَنفعةَ فيه ولا مَصلحةَ لنا؟! ولهذا لَمَّا لم يكُنْ فيما أمَرَ اللهُ ورَسولُه حَرَجٌ علينا، لم يكُنِ الحَرَجُ من ذلك إلَّا مِن النَّفاقِ، كما قال تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] ، وقال الله تعالى فيما أمَرَ به مِن الصِّيامِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ، فإذا كان لا يُريدُ فيما أمَرَنا به ما يَعسُرُ علينا، فكيف يريدُ ما يكونُ ضَررًا وفَسادًا لنا بما أمَرَنا به إذا أطعناه فيه !!

9- قوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فيه بيانُ أنَّ هذه الحنيفِيَّةَ السَّمحةَ الَّتي جاءَ بها نبيُّنا مُحَمَّدٌ صلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّم، أنَّها مَبْنِيَّةٌ على التَّخفيفِ والتَّيسيرِ، لا على الضِّيقِ والحرجِ، وقد رَفَعَ اللَّهُ فيها الآصارَ والأغلالَ الَّتي كانت على مَنْ قبْلَنا. وهذا المعنَى الَّذي تَضَمَّنَتْه هذه الآيةُ الكريمَةُ ذَكَره -جَلَّ وعَلا- في غيرِ هذا الموضعِ؛ كقولِه تعالَى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] ، وقولِه: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا النساء: 28].

10- قَولُ اللهِ تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ المقصودُ مِن ذِكرِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ التَّنبيهُ على أنَّ هذه التَّكاليفَ والشَّرائِعَ هي شَريعتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والعَرَبُ كانوا مُحبِّينَ لإبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّهم مِن أولادِه، فكان التَّنبيهُ على ذلك كالسَّبَبِ لصَيرورتِهم مُنقادينَ لِقَبولِ هذا الدِّينِ .

11- في قوله تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ دَلالةٌ على أنَّ اسمَ «الآباءِ» يَشمَلُ الأجدادَ؛ وإنْ عَلَوا .

12- قَولُ اللهِ تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ فيه سؤالٌ: أنَّ هذا يقتَضي أن تكونَ مِلَّةُ مُحمَّدٍ كمِلَّةِ إبراهيمَ -عليهما السَّلامُ- سواءً، فيكونَ الرَّسولُ ليس له شَرعٌ مَخصوصٌ، ويؤكِّدُه قَولُه تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [النحل: 123] ؟

والجوابُ: أنَّ هذا الكلامَ إنَّما وَقَع مع عَبَدةِ الأوثانِ، فكأنَّه تعالى قال: عبادةُ اللهِ وتَرْكُ الأوثانِ هي مِلَّةُ إبراهيمَ، فأمَّا تفاصيلُ الشَّرائعِ فلا تعَلُّقَ لها بهذا الموضِعِ .

وقيل: إنَّ الإسلامَ احْتَوى على دِينِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومَعلومٌ أنَّ للإسلامِ أحكامًا كثيرةً، ولكنَّه لَمَّا اشتمَلَ على ما لم يَشتمِلْ عليه غيرُه مِن الشَّرائعِ الأُخرى مِن دِينِ إبراهيمَ، جُعِلَ كأنَّه عَينُ مِلَّةِ إبراهيمَ .

13- قَولُ اللهِ تعالى: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ أُخِذَ منه ما يدُلُّ على أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ .

14- قَولُ اللهِ تعالى: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فيه دليلٌ على أنَّ شهادةَ غيرِ المسلمِ ليسَتْ مقبولةً

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث خُتِمَتِ السُّورة بالإقبالِ على خِطابِ المُؤمنينَ بما يُصلِحُ أعْمالَهم، ويُنَوِّهُ بشأْنِهم، بعْدَ استيفاءِ ما سِيقَ إلى المُشرِكينَ من الحُجَجِ والقوارِعِ والنِّداءِ على مَساوي أعمالِهم، حيث كان خِطابُ المُشرِكين فاتِحًا لهذه السُّورة، وشاغِلًا لمُعْظَمِها، عدا ما وقَعَ اعتراضًا في خلالِ ذلك، فقد خُوطِبَ المُشرِكون بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أربَعَ مرَّاتٍ. وفي هذا التَّرتيبِ إيماءٌ إلى أنَّ الاشتغالَ بإصلاحِ الاعتقادِ مُقدَّمٌ على الاشتغالِ بإصلاحِ الأعمالِ

.

- قولُه: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ فيه حُسْنُ تَرتيبٍ؛ حيث يَظهَرُ في هذا التَّرتيبِ أنَّهم أُمِرُوا أوَّلًا بالصَّلاةِ، وهي نَوعٌ من العِبادةِ، وثانِيًا بالعِبادةِ، وهي نَوعٌ من فِعْلِ الخيرِ، وثالِثًا بفِعْلِ الخيرِ، وهو أعَمُّ من العِبادةِ؛ فبدَأَ بخاصٍّ، ثمَّ بعامٍّ، ثمَّ بأعمَّ . وتَخصيصُ الصَّلاةِ بالذِّكْرِ قبْلَ الأمْرِ ببقيَّةِ العِباداتِ المَشمولةِ بقولِه: وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ: تَنبيهٌ على أنَّ الصَّلاةَ عِمادُ الدِّينِ .

2- قوله تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ

- قولُه: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ كان القِياسُ أنْ يُقالَ: (حَقَّ الجِهادِ فيه)، أو: (حَقَّ جِهادِكم فيه)؛ ووَجْهُ العُدولِ عن ذلك: أنَّ الإضافةَ تكونُ بأدْنى مُلابَسةٍ واختصاصٍ؛ فلمَّا كان الجِهادُ مُخْتَصًّا باللهِ، من حيث إنَّه مَفعولٌ لِوَجْهِه ومِن أجْلِه؛ صَحَّتْ إضافَتُه إليه، فقال: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ . أو التَّقديرُ: جِهادًا فيه حَقًّا خالِصًا لِوَجْهِه؛ فعُكِسَ، وأُضِيفَ الحَقُّ إلى الجِهادِ؛ مُبالَغةً .

- وجُملةُ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ إنْ حُمِلَتْ على أنَّها واقعةٌ مَوقِعَ العِلَّةِ لِمَا أُمِرُوا به، ابتداءً مِن قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا... [الحج: 77] إلخ، أي: لأنَّه لَمَّا اجْتَباكم، كان حَقيقًا بالشُّكرِ له بتلك الخِصالِ المأْمورِ بها، أي: هو اختارَكم لِتَلقِّي دِينِه ونَشْرِه ونَصْرِه على مُعانديهِ، فيَظهَرُ أنَّ هذا مُوجَّهٌ لأصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصالةً، ويُشارِكُهم فيه كلُّ مَن جاء بَعْدهم بحُكْمِ اتِّحادِ الوَصفِ في الأجيالِ، كما هو الشَّأنُ في مُخاطَباتِ التَّشريعِ. وإنْ حُمِلَ قولُه: هُوَ اجْتَبَاكُمْ على معنى التَّفضيلِ على الأُمَمِ، كان مَلحوظًا فيه تَفضيلُ مَجموعِ الأُمَّةِ على مَجْموعِ الأُمَمِ السَّابقةِ، الرَّاجِعِ إلى تَفضيلِ كلِّ طَبقةٍ مِن هذه الأُمَّةِ على الطَّبقةِ المُماثِلَةِ لها مِن الأُمَمِ السَّالفةِ. وأُعْقِبَ ذلك بتَفضيلِ هذا الدِّينِ المُستتبِعِ تَفضيلَ أهْلِه بأنْ جعَلَه دِينًا لا حرَجَ فيه؛ لأنَّ ذلك يُسهِّلُ العمَلَ به، مع حُصولِ مَقْصدِ الشَّريعةِ مِن العمَلِ، فيَسعَدُ أهْلُه بسُهولةِ امتثالِه .

- ولَفظةُ (هو) في قولِه: هُوَ اجْتَبَاكُمْ فيها تَفخيمٌ واختصاصٌ . والجملةُ فيها تأكيدٌ للأمرِ بالمجاهدةِ، أي: وجَب عليكم أن تُجاهِدوا؛ لأنَّ الله اختاركم له .

- وقولُه: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ عِلَّةٌ لِرَفْعِ الحرَجِ عن هذه الأُمَّةِ المرحومةِ .

- قولُه: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ فيه زِيادةٌ في التَّنويهِ بهذا الدِّينِ، وتَحضيضٌ على الأخْذِ به، بأنَّه اخْتُصَّ بأنَّه دِينٌ جاء به رسولانِ: إبراهيمُ، ومحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليهما وسلَّمَ، وهذا لم يَستتِبَّ لِدِينٍ آخَرَ، فمحملُ الكلامِ أنَّ هذا الدِّينَ دينُ إبراهيمَ، أيْ: أنَّ الإسلامَ احْتَوى على دينِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهذا على قولٍ في التفسيرِ.

ثمَّ إنْ كان الخِطابُ مُوجَّهًا إلى الَّذين صَحِبوا النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإضافةُ أُبُوَّةِ إبراهيمَ إليهم باعتبارِ غالِبِ الأُمَّةِ يومَئذٍ. وإنْ كان الخِطابُ لِعُمومِ المُسلمينَ، كانت إضافةُ أُبُوَّةِ إبراهيمَ لهم على معنى التَّشبيهِ في الحُرْمةِ واستحقاقِ التَّعظيمِ، كقولِه تعالى: وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ، ولأنَّه أبو النَّبيِّ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومحمَّدٌ له مَقامُ الأُبُوَّةِ للمُسلمينَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ الخِطابُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على طَريقةِ التَّعظيمِ؛ كأنَّه قال: مِلَّةَ أبيك إبراهيمَ، والضَّميرُ في هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ عائدٌ إلى الجَلالةِ كضَميرِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ؛ فتكون الجُملةُ استئنافًا ثانيًا، أي: هو اجْتَباكم وخَصَّكم بهذا الاسمِ الجليلِ، فلم يُعْطِه غيرَكم، ولا يعودُ إلى إبراهيمَ ؛ فالقاعدةُ: أنَّ الضمائرَ إذا تعاقبتْ فالأصلُ أنْ يتَّحدَ مَرجعُها؛ فتوحيدُ مرجِعِ الضمائرِ أَوْلَى مِن تَفريقِها؛ فالضمائرُ السابقةُ كلُّها ترجِعُ إلى اللهِ تعالى، وهذا أرجحُ مِن كونِ الضميرِ في الآيةِ يعودُ إلى إبراهيمَ عليه السلامُ باعتبارِ أنَّه أقربُ مذكورٍ .

- قولُه: وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قُدِّمَت شَهادةُ الرَّسولِ للأُمَّةِ هنا، وقُدِّمَت شَهادةُ الأُمَّةِ في سُورةِ (البقرةِ) في قولِه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّ الآيةَ هنا في سُورةِ (الحجِّ) في مَقامِ التَّنويهِ بالدِّينِ الَّذي جاء به الرَّسولُ؛ فالرَّسولُ هنا أسبَقُ إلى الحُضورِ؛ فكان ذِكْرُ شَهادتِه أهَمَّ، وأنَّ آيةَ البقرةِ صُدِّرَت بالثَّناءِ على الأُمَّةِ؛ فكان ذِكْرُ شَهادةِ الأُمَّةِ أهَمَّ .

- قولُه: فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ تَفريعٌ على جُملةِ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وما بَعْدها، أي: فاشْكُروا اللهَ بالدَّوامِ على إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والاعتصامِ باللهِ . وخَصَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالذِّكْرِ؛ لإنافَتِهما وفضْلِهما على غَيرِهما من العِباداتِ .

- قولُه: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ جُملةُ: هُوَ مَوْلَاكُمْ مُستأْنفةٌ مُعلِّلةٌ للأمْرِ بالاعتصامِ باللهِ، وفُرِّعَ عليها إنشاءُ الثَّناءِ على اللهِ بأنَّه (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)، أي: نِعْمَ المُدبِّرُ لِشُؤونِكم، ونِعْمَ النَّاصِرُ لكم. والنَّصِيرُ مُبالَغةٌ في النَّصرِ؛ أي: نِعْمَ المولى لكم، ونِعْمَ النَّصيرُ لكم، وهذا الإنشاءُ يَتضمَّنُ تَحقيقَ حُسْنِ ولايةِ اللهِ تعالى وحُسْنِ نَصْرِه، وبذلك الاعتبارِ حَسُنَ تَفريعُه على الأمْرِ بالاعتصامِ به، وهذا مِن بَراعةِ الخِتامِ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...