السبت، 20 يناير 2024

22.سورة الحج مدنية 78.

 

سورةُ الحَجِّ{22.سورة الحج مدنية 78.}

مقدمة السورة

أسماء السورة:

 

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسورةِ (الحَجِّ)

فعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((في سُورةِ الحَجِّ سَجدتانِ)) .

وعن عبدِ الله بنِ ثعلبةَ: (أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضي اللَّه عنه صلَّى بهم بالجابيةِ ، فقرأ سورةَ الحجِّ، فسجَد فيها سَجْدتينِ)

فضائل السورة وخصائصها:

 

فُضِّلَت هذه السُّورةُ على سائِرِ السُّوَرِ بسَجدَتينِ:

كما دلَّ على ذلك قولُ ابنِ عباسٍ، وفعلُ عُمرَ -فيما تقدَّم- رضي الله عنهم أجمعينَ

بيان المكي والمدني:

 

اختلف العُلَماءُ في هذه السُّورةِ على أقوال:

الأوَّل: أنَّها مَدَنيَّةٌ

الثاني: أنَّها مكِّيَّةٌ .

الثَّالث: أنَّها مختلِطةٌ

 

.

مقاصد السورة:

 

مِن أهَمِّ مقاصِدِ سُورةِ الحَجِّ:

بَيانُ التَّوحيدِ، وإقامةُ الأدلةِ عليه، وإثباتُ البَعثِ

 

.

موضوعات السورة:

 

مِن أهَمِّ الموضوعاتِ التي اشتَمَلت عليها السُّورةُ:

1- افتُتِحَت السُّورةُ بالأمرِ بتقوى اللهِ، والحَديثِ عن أهوالِ القيامةِ، وأحوالِ النَّاسِ فيه.

2- بيانُ الأدِلَّةِ على أنَّ البَعثَ حَقٌّ.

3- ذِكرُ جِدالِ المُشرِكينَ، وعِبادةِ المُنافِقينَ.

4- بَيانُ حُكمِ اللهِ بين العِبادِ، والفَصلِ بينهم، وأنَّ كُلَّ شَيءٍ في الكَونِ يَسجُدُ لله، وأنَّ كَثيرًا مِنَ النَّاسِ حَقَّ عليه العَذابُ.

5- عَقْدُ مُقارَنةٍ بين خَصمَينِ اختَصَموا في رَبِّهم مِنَ المُؤمِنينَ والكافِرينَ، مع بيانِ عاقِبةِ كُلٍّ منهما.

6- الحَديثُ عن فريضةِ الحَجِّ وما جَعَل اللهُ فيه من المنافِعِ، وصَدِّ المُشرِكينَ عن المسجدِ الحَرامِ.

7- التَّحذيرُ مِنَ الشِّركِ.

8- الإذْنُ للمُسلِمينَ بالقِتالِ، وضَمانُ النَّصرِ والتَّمكينِ في الأرضِ لهم.

9- تَسليةُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا أصابه مِن تكذيبٍ.

10- عَرضُ نماذِجَ مِن تكذيبِ المكَذِّبينَ مِن قَبلُ، ومِن مَصارِعِ المكَذِّبينَ ومَشاهِدِ القُرى المُدَمَّرةِ على الظَّالِمينَ.

11- عَرضُ طَرَفٍ مِن كَيدِ الشَّيطانِ للرُّسُلِ والنبيِّينَ في دَعوتِهم، وتثبيتِ اللهِ لِدَعوتِه، وإحكامِه لآياتِه.

12- التَّذكيرُ بألوانٍ مِن نِعَمِ اللهِ تعالى على الخَلقِ، وأنَّ الله اصطفى خَلْقًا مِنَ الملائِكةِ جعَلَهم رُسُلًا إلى النَّاسِ.

13- تَوجيهُ بَعضِ الإرشاداتِ إلى المؤمِنينَ بعِبادتِه سُبحانَه، وفِعلِ الخَيراتِ، والجِهادِ، وإقامةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والاعتِصامِ باللهِ.

==============

 

سورةُ الحَجِّ

 

 

الحج

سورة الحج مدنية | رقم السورة: 22 - عدد آياتها : 78 عدد كلماتها : 1,279 - اسمها بالانجليزي : The Pilgrimage

سورة الحج مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ (1) يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ (2) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيۡطَٰنٖ مَّرِيدٖ (3) كُتِبَ عَلَيۡهِ أَنَّهُۥ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُۥ يُضِلُّهُۥ وَيَهۡدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ (4) يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ (5) ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّهُۥ يُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَأَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ (6) وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٞ لَّا رَيۡبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡعَثُ مَن فِي ٱلۡقُبُورِ (7) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ (8) ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ (9) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ (10) وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَيۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦۖ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةَۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِينُ (11) يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُۥ وَمَا لَا يَنفَعُهُۥۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلَٰلُ ٱلۡبَعِيدُ (12) يَدۡعُواْ لَمَن ضَرُّهُۥٓ أَقۡرَبُ مِن نَّفۡعِهِۦۚ لَبِئۡسَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَلَبِئۡسَ ٱلۡعَشِيرُ (13) إِنَّ ٱللَّهَ يُدۡخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ فَلۡيَمۡدُدۡ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لۡيَقۡطَعۡ فَلۡيَنظُرۡ هَلۡ يُذۡهِبَنَّ كَيۡدُهُۥ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يُرِيدُ (16) إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّٰبِـِٔينَ وَٱلنَّصَٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡصِلُ بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ (17) أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَسۡجُدُۤ لَهُۥۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ وَٱلۡجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ وَكَثِيرٞ مِّنَ ٱلنَّاسِۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيۡهِ ٱلۡعَذَابُۗ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ۩ (18) ۞هَٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمۡۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ يُصَبُّ مِن فَوۡقِ رُءُوسِهِمُ ٱلۡحَمِيمُ (19) يُصۡهَرُ بِهِۦ مَا فِي بُطُونِهِمۡ وَٱلۡجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَٰمِعُ مِنۡ حَدِيدٖ (21) كُلَّمَآ أَرَادُوٓاْ أَن يَخۡرُجُواْ مِنۡهَا مِنۡ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ (22) إِنَّ ٱللَّهَ يُدۡخِلُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَلُؤۡلُؤٗاۖ وَلِبَاسُهُمۡ فِيهَا حَرِيرٞ (23) وَهُدُوٓاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ وَهُدُوٓاْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡحَمِيدِ (24) إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلۡنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلۡعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلۡبَادِۚ وَمَن يُرِدۡ فِيهِ بِإِلۡحَادِۭ بِظُلۡمٖ نُّذِقۡهُ مِنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ (25) وَإِذۡ بَوَّأۡنَا لِإِبۡرَٰهِيمَ مَكَانَ ٱلۡبَيۡتِ أَن لَّا تُشۡرِكۡ بِي شَيۡـٔٗا وَطَهِّرۡ بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡقَآئِمِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٖ (27) لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۖ فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡبَآئِسَ ٱلۡفَقِيرَ (28) ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ (29) ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ حُرُمَٰتِ ٱللَّهِ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّهُۥ عِندَ رَبِّهِۦۗ وَأُحِلَّتۡ لَكُمُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ إِلَّا مَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡۖ فَٱجۡتَنِبُواْ ٱلرِّجۡسَ مِنَ ٱلۡأَوۡثَٰنِ وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ (30) حُنَفَآءَ لِلَّهِ غَيۡرَ مُشۡرِكِينَ بِهِۦۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخۡطَفُهُ ٱلطَّيۡرُ أَوۡ تَهۡوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٖ سَحِيقٖ (31) ذَٰلِكَۖ وَمَن يُعَظِّمۡ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقۡوَى ٱلۡقُلُوبِ (32) لَكُمۡ فِيهَا مَنَٰفِعُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى ٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكٗا لِّيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّنۢ بَهِيمَةِ ٱلۡأَنۡعَٰمِۗ فَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ فَلَهُۥٓ أَسۡلِمُواْۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُخۡبِتِينَ (34) ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَٱلصَّٰبِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمۡ وَٱلۡمُقِيمِي ٱلصَّلَوٰةِ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ (35) وَٱلۡبُدۡنَ جَعَلۡنَٰهَا لَكُم مِّن شَعَٰٓئِرِ ٱللَّهِ لَكُمۡ فِيهَا خَيۡرٞۖ فَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَا صَوَآفَّۖ فَإِذَا وَجَبَتۡ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنۡهَا وَأَطۡعِمُواْ ٱلۡقَانِعَ وَٱلۡمُعۡتَرَّۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرۡنَٰهَا لَكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ (36) لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَآؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقۡوَىٰ مِنكُمۡۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمۡ لِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُحۡسِنِينَ (37) ۞إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٖ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ (39) ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ (41) وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدۡ كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحٖ وَعَادٞ وَثَمُودُ (42) وَقَوۡمُ إِبۡرَٰهِيمَ وَقَوۡمُ لُوطٖ (43) وَأَصۡحَٰبُ مَدۡيَنَۖ وَكُذِّبَ مُوسَىٰۖ فَأَمۡلَيۡتُ لِلۡكَٰفِرِينَ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرٖ مُّعَطَّلَةٖ وَقَصۡرٖ مَّشِيدٍ (45) أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ (46) وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلۡعَذَابِ وَلَن يُخۡلِفَ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۚ وَإِنَّ يَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةٖ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّن مِّن قَرۡيَةٍ أَمۡلَيۡتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٞ ثُمَّ أَخَذۡتُهَا وَإِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ (48) قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَآ أَنَا۠ لَكُمۡ نَذِيرٞ مُّبِينٞ (49) فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ (50) وَٱلَّذِينَ سَعَوۡاْ فِيٓ ءَايَٰتِنَا مُعَٰجِزِينَ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ (51) وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٖ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّآ إِذَا تَمَنَّىٰٓ أَلۡقَى ٱلشَّيۡطَٰنُ فِيٓ أُمۡنِيَّتِهِۦ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ ثُمَّ يُحۡكِمُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ (52) لِّيَجۡعَلَ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ فِتۡنَةٗ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَفِي شِقَاقِۭ بَعِيدٖ (53) وَلِيَعۡلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤۡمِنُواْ بِهِۦ فَتُخۡبِتَ لَهُۥ قُلُوبُهُمۡۗ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ (54) وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرۡيَةٖ مِّنۡهُ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةً أَوۡ يَأۡتِيَهُمۡ عَذَابُ يَوۡمٍ عَقِيمٍ (55) ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَئِذٖ لِّلَّهِ يَحۡكُمُ بَيۡنَهُمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ (56) وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ (57) وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوٓاْ أَوۡ مَاتُواْ لَيَرۡزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ رِزۡقًا حَسَنٗاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيۡرُ ٱلرَّٰزِقِينَ (58) لَيُدۡخِلَنَّهُم مُّدۡخَلٗا يَرۡضَوۡنَهُۥۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٞ (59) ۞ذَٰلِكَۖ وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيۡهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ (60) ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٞ (61) ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلۡبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ (62) أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَتُصۡبِحُ ٱلۡأَرۡضُ مُخۡضَرَّةًۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٞ (63) لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡغَنِيُّ ٱلۡحَمِيدُ (64) أَلَمۡ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡفُلۡكَ تَجۡرِي فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦ وَيُمۡسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ (65) وَهُوَ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاكُمۡ ثُمَّ يُمِيتُكُمۡ ثُمَّ يُحۡيِيكُمۡۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَكَفُورٞ (66) لِّكُلِّ أُمَّةٖ جَعَلۡنَا مَنسَكًا هُمۡ نَاسِكُوهُۖ فَلَا يُنَٰزِعُنَّكَ فِي ٱلۡأَمۡرِۚ وَٱدۡعُ إِلَىٰ رَبِّكَۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدٗى مُّسۡتَقِيمٖ (67) وَإِن جَٰدَلُوكَ فَقُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا تَعۡمَلُونَ (68) ٱللَّهُ يَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ (69) أَلَمۡ تَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَٰبٍۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ (70) وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَمَا لَيۡسَ لَهُم بِهِۦ عِلۡمٞۗ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٖ (71) وَإِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَٰتٖ تَعۡرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡمُنكَرَۖ يَكَادُونَ يَسۡطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتۡلُونَ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَاۗ قُلۡ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرّٖ مِّن ذَٰلِكُمُۚ ٱلنَّارُ وَعَدَهَا ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ (72) يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٞ فَٱسۡتَمِعُواْ لَهُۥٓۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ وَإِن يَسۡلُبۡهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيۡـٔٗا لَّا يَسۡتَنقِذُوهُ مِنۡهُۚ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلۡمَطۡلُوبُ (73) مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) ٱللَّهُ يَصۡطَفِي مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلٗا وَمِنَ ٱلنَّاسِۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٞ (75) يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ (76) يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱرۡكَعُواْ وَٱسۡجُدُواْۤ وَٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمۡ وَٱفۡعَلُواْ ٱلۡخَيۡرَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ۩ (77) وَجَٰهِدُواْ فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمۡ إِبۡرَٰهِيمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُواْ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِيرُ (78)

 

الآيتان (1-2)

بسم الله الرحمن الرحيم

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٞ (1) يَوۡمَ تَرَوۡنَهَا تَذۡهَلُ كُلُّ مُرۡضِعَةٍ عَمَّآ أَرۡضَعَتۡ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمۡلٍ حَمۡلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَٰرَىٰ وَمَا هُم بِسُكَٰرَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٞ (2)

غريب الكلمات:

 

زَلْزَلَةَ: الزَّلزَلةُ: الحَرَكةُ الشَّديدةُ، واضْطِرابُ الأرْضِ، وأصلُها مِن: زَلَّ عن الموضِعِ، أي: زال عنه وتحَرَّكَ

.

تَذْهَلُ: أي: تَنسَى وتَترُكُ، والذُّهولُ: نِسيانُ ما مِن شَأنِه ألَّا يُنسَى؛ لوجودِ مُقتَضى تذَكُّرِه، وأصلُ (ذهل): يدُلُّ على شُغلٍ عن شَيءٍ بذُعرٍ أو غَيرِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: يا أيُّها النَّاسُ، اتَّقُوا رَبَّكم، واحذَروا عِقابَه، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيهِ، إنَّ ما يَحدُثُ يوم القيامةِ مِن أهوالٍ عظيمةٍ شَيءٌ عَظيمٌ، يومَ تَرَونَ زلزلةَ السَّاعةِ تَنسى المرضِعةُ رَضيعَها الذي ألقَمَتْه ثَدْيَها، وتشتغِلُ عنه؛ لِمَا نَزَل بها مِنَ الكربِ، وتُسْقِطُ الحامِلُ حَمْلَها مِنَ الرُّعبِ، وتَغيبُ عُقولُ النَّاسِ، فيَصيرون كالسُّكارى؛ مِن شِدَّةِ الهَولِ والفَزَعِ، ولَيسُوا بسُكارى مِن الخَمرِ، ولكِنَّ شِدَّةَ العذابِ أفقَدَتْهم عُقولَهم وإدراكَهم!

تفسير الآيتين:

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1).

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ.

أي: يا أيُّها النَّاسُ، اتَّقُوا رَبَّكم الذي خلَقَكم، والذي يرزُقُكم ويدَبِّرُ أمورَكم، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نواهيه

.

إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ.

أي: اتَّقُوا اللهَ؛ لأنَّ أمامَكم أهوالًا عَظيمةً، يَحصُلُ منها رُعبٌ هائِلٌ، وفَزَعٌ كَبيرٌ يومَ القيامةِ، ولا نجاةَ مِن ذلك إلَّا بتَقواهُ سُبحانَه .

عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يقولُ اللهُ تعالى: يا آدَمُ. فيقولُ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ ، والخَيرُ في يَدَيكَ! فيقولُ: أخرِجْ بَعْثَ النَّارِ . قال: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قال: مِن كُلِّ ألفٍ تِسعَ مئةٍ وتِسعةً وتِسعينَ. فعِندَه يَشيبُ الصَّغيرُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وأيُّنا ذلك الواحِدُ؟! قال: أبشِروا؛ فإنَّ منكم رجُلًا، ومِن يأجُوجَ ومَأجوجَ ألْفًا. ثمَّ قال: والَّذي نَفْسي بيَدِه، إنِّي أَرْجو أنْ تَكونوا رُبُعَ أهلِ الجَنَّةِ. فكبَّرْنا! فقال: أَرْجو أنْ تَكونوا ثُلُثَ أهلِ الجَنِّةِ. فكبَّرْنا! فقال: أَرْجو أنْ تَكونوا نِصْفَ أهلِ الجَنَّةِ. فكبَّرْنا! فقال: ما أنتُم في النَّاسِ إلَّا كالشَّعرةِ السَّوداءِ في جِلدِ ثَورٍ أبيضَ، أو كشَعرةٍ بَيضاءَ في جِلدِ ثَورٍ أسوَدَ!)) .

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2).

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ.

أي: يومَ تَرَونَ زلزلةَ السَّاعةِ -أيُّها النَّاسُ- تَشْتغِلُ كُلُّ مُرضِعةٍ حِينَها عمَّن تُرضِعُه، وتَغفُلُ عنه حائِرةً مَدهوشةً، قد اشتدَّ بها الكَربُ؛ مِن هَولِ ما تراهُ .

وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا.

أي: وتُسقِطُ كُلُّ امرأةٍ حاملٍ جَنينَها الذي في بَطنِها قَبلَ تمامِه؛ لشِدَّةِ الكَربِ والفَزَعِ والهَولِ .

وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى.

أي: وترى النَّاسَ تَحسَبُهم سُكارى قد دَهِشَت عقولُهم، وغابت أذهانُهم؛ مِن شِدَّةِ الفَزَعِ والكَربِ والهَولِ، ولَيسُوا بسُكارى حقيقةً مِن شُربِ الخَمرِ !

وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.

أي: ولكِنَّ الذي أوجَبَ لهم هذه الحالةَ خَوفُهم مِن شِدَّةِ عذابِ اللهِ الذي رأوْهُ، فأذهَبَ هَولُه عُقولَهم، وأفرَغَ قُلوبَهم، ومَلَأها فَزَعًا ورُعبًا !

الفوائد التربوية :

 

قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ يخاطِبُ اللهَ النَّاسَ كافَّةً بأن يتَّقوا رَبَّهم الذي ربَّاهم بالنِّعَمِ الظَّاهرةِ والباطنةِ، فحقيقٌ بهم أن يتَّقوه بتركِ الشِّركِ والفُسوقِ والعصيانِ، ويمتَثِلوا أوامِرَه مهما استطاعوا، ثمَّ ذكَر ما يُعينُهم على التقوى، ويحَذِّرُهم مِن تركِها، وهو الإخبارُ بأهوالِ القيامةِ، فقال تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فحقيقٌ بالعاقِلِ الذي يعرِفُ أنَّ هذا أمامَه أن يُعِدَّ له عُدَّتَه، وألَّا يُلهِيَه الأملُ فيترُكَ العمَلَ، وأن تكونَ تقوَى اللهِ شِعارَه، وخوفُه دِثارَه

، ومحبَّةُ اللهِ وذِكرُه رُوحَ أعمالِه ، فعِظَمُ الهولِ يومَ القيامةِ موجِبٌ واضحٌ لِلاستعدادِ لذلك الهولِ بالعملِ الصَّالحِ في دارِ الدُّنيا قبلَ تَعَذُّرِ الإمكانِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- من أسرارِ بلاغةِ القُرآنِ: أنَّه تعالى جعل الافتتاحَ بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ لسورتين في القرآن: إحداهما: سورةُ النساءِ، وهي السُّورةُ الرَّابعةُ مِن النِّصفِ الأوَّلِ مِن القرآنِ، وعلَّل الأمرَ بالتَّقوى فيها بما يدُلُّ على معرفةِ المبدأِ بأنَّه خلق الخَلْقَ من نفْسٍ واحدةٍ، وهذا يدُلُّ على كمالِ قُدرةِ الخالقِ، وكمالِ عِلمِه وحكمتِه. والثانيةُ: سورةُ الحجِّ، وهي الرابعةُ أيضًا مِن النِّصفِ الثَّاني مِن القرآنِ، وعلَّلَ الأمرَ بالتَّقوى فيها بما يدُلُّ على معرفةِ المعادِ، فجعلَ صدْرَ هاتين السورتينِ دليلًا على معرفةِ المبدأِ والمعادِ، وقدَّم السُّورةَ الدالَّةَ على المبدأِ على السُّورةِ الدالَّةِ على المعادِ، وهذا سِرٌّ عظيمٌ

! وهذا على القولِ بأنَّ ترتيبَ السُّوَرِ توقيفيٌّ.

2- قال الله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تسميةُ الزَّلزلةِ بـ «شيء» إمَّا لأنَّها حاصلةٌ مُتيقَّنٌ وقوعُها، فيُستسهَلُ لذلك أن تسمَّى شيئًا، وهي معدومةٌ؛ إذ اليقينُ يُشبِهُ الموجوداتِ. وإمَّا على المآلِ، أي: هي إذا وقعت شيءٌ عظيمٌ، وكأنَّه لم يُطلِقِ الاسمَ الآنَ، بل المعنى: أنَّها إذا كانت فهي إذَنْ شيءٌ عظيمٌ؛ ولذلك تَذهَلُ المراضِعُ، وتَسكَرُ النَّاسُ .

3- في قَولِه تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى دَلالةٌ على إجازةِ المُبالغةِ في الأشياءِ، حتى يُسمَّى بأضدادِها، كما يُقالُ: «فلانٌ ميتٌ» إذا كان بليدًا في أمْرِه خاليًا مِن المنافِعِ، و«فلانٌ شيطانٌ» إذا كان داهيةً، وأشباه ذلك، ألَا تراه قال: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، ثمَّ قال: وَمَا هُمْ بِسُكَارَى يعني -واللهُ أعلَمُ- مِن الشَّرابِ، ولكنْ مِن غَلبةِ الفَزَعِ لِمَا عايَنوا مِن الزَّلزَلةِ .

4- قد يكونُ سَبَبُ السُّكرِ مِن الأَلَم، كما يكونُ من اللَّذَّةِ، كما قال تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، فَأخبَرَ أنَّهم يُرَونَ سُكارى وما هم بسُكارى

 

!

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ

- قولُه: اتَّقُوا رَبَّكُمْ في التَّعبيرِ عن الذَّاتِ العَلِيَّةِ بصِفَةِ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضَميرِ المُخاطبينَ: إيماءٌ إلى استحقاقِه أنْ يُتَّقى؛ لِعَظمتِه بالخالِقيَّةِ، وإلى جَدارةِ النَّاسِ بأنْ يَتقُّوه؛ لأنَّه بصِفَةِ تَدبيرِ الرُّبوبِيَّةِ لا يأمُرُ ولا يَنْهى إلَّا لمُراعاةِ مَصالحِ النَّاسِ، ودَرْءِ المفاسِدِ عنهم

.

- قولُه: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تَعليلٌ للأمْرِ بالتَّقوى، كما يُفِيدُه حَرفُ التَّوكيدِ (إنَّ) الواقِعُ في مَقامِ خِطابٍ لا تَردُّدَ للسَّامِعِ فيه، والتَّعليلُ يَقْتضي أنَّ لِزَلزلةِ السَّاعةِ أثرًا في الأمْرِ بالتَّقوى؛ وهو أنَّه وقْتٌ لحُصولِ الجزاءِ على التَّقوى وعلى العصيانِ، وذلك على وَجْهِ الإجمالِ المُفصَّلِ بما بعْدَه في وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ .

- والإتيانُ بلفْظِ شَيْءٌ؛ للتَّهويلِ بتَوغُّلِه في التَّنكيرِ، وللإيذانِ بأنَّ العُقولَ قاصِرةٌ عنْ إدراكِ كُنْهِها، والعِبارةَ ضَيِّقةٌ لا تُحِيطُ بها إلَّا على وَجْهِ الإبهامِ .

2- قولُه تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ تَمثيلٌ لبَيانِ شِدَّةِ الأمرِ وتَفاقُمِه .

- قولُه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ ... بَيانٌ لجُملةِ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ؛ لأنَّ ما ذُكِرَ يُبيِّنُ معنَى كونِها شيئًا عظيمًا، وهو أنَّه عظيمٌ في الشَّرِّ والرُّعبِ .

- وتَقديمُ يَوْمَ على عامِلِه تَرَوْنَهَا؛ للاهتمامِ بالتَّوقيتِ بذلك اليومِ، وتوقُّعِ رُؤيتِه لكلِّ مُخاطَبٍ مِنَ النَّاسِ، وأصْلُ نظْمِ الجُملةِ: تَذهَلُ كلُّ مُرضعةٍ عمَّا أرضعَتْ يومَ تَرونَ زَلزلةَ السَّاعةِ .

- وذكَرَ لفْظَ الذُّهولِ في قولِه: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا دُونَ النِّسيانِ؛ لأنَّ الذُّهولَ أدَلُّ على شِدَّةِ التَّشاغُلِ. وأطلَقَ ذُهولَ المُرضِعِ وذاتِ الحمْلِ، وأُرِيدَ ذُهولُ كلِّ ذي عِلْقٍ نَفيسٍ عن عِلْقِه على طَريقةِ الكِنايةِ. وزِيادةُ كلمةِ كُلُّ؛ للدَّلالةِ على أنَّ هذا الذُّهولَ يَعْتري كلَّ مُرضِعٍ، وليس هو لبَعضِ المراضِعِ باحتِمالِ ضَعفٍ في ذاكرتِها، وهي كِنايةٌ عن تَعميمِ هذا الهولِ لكلِّ النَّاسِ، وهذا مِن بَديعِ الكِنايةِ عن شِدَّةِ ذلك الهولِ؛ لأنَّ استلزامَ ذُهولِ المُرضِعِ عن رَضيعِها لشِدَّةِ الهولِ يَستلزِمُ شِدَّةَ الهولِ لغَيرِها بطَريقِ الأَولى؛ فهو لُزومٌ بدرجةٍ ثانيةٍ، وهذا النَّوعُ مِن الكِنايةِ يُسمَّى الإيماءَ . وقولُه: وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا هو كِنايةٌ أيضًا كقولِه: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ .

- وقيل: مُرْضِعَةٍ دونَ (مُرضِع)؛ لأنَّ المُرضِعةَ: الَّتي هي في حالِ الإرضاعِ مُلْقِمةٌ ثَدْيَها الصَّبِيَّ. والمُرضِعُ: الَّتي شأْنُها أنْ تُرضِعَ وإنْ لم تُباشِرِ الإرضاعَ في حالِ وَصْفِها به؛ فمِن شأنِ العربِ إذا ذَكرتِ الأوصافَ المختصَّةَ بالإناثِ فأرادتِ المباشرةَ بالفِعلِ أدْخلتْ عليها التاءَ، وإذا أرادتْ مُطلَقَ الوَصفِ والنَّسَبَ جَرَّدتْها من التاءِ، فإنْ قالوا: هي مُرضِعٌ -يُريدون أنَّها ذاتُ رَضاعٍ- جَرَّدوه مِن التاءِ. وإن قالوا: هي مُرضعةٌ بمعنى أنَّها تَفعَلُ الرَّضاعَ، أي: تُلقِمُ الولدَ الثديَ، قالوا: هي مرضعةٌ -بالتَّاءِ-. فقيل هنا: مُرْضِعَةٍ؛ ليدُلَّ على أنَّ ذلك الهولَ إذا فُوجِئَتْ به هذه وقد ألْقَمَتِ الرَّضيعَ ثَدْيَها نزعَتْهُ عن فِيهِ؛ لِمَا يَلْحَقُها مِن الدَّهشةِ، وهو تصويرٌ بليغٌ يدُلُّ على شِدَّةِ الهولِ؛ لأنَّه لا يُتصوَّرُ في الشفقةِ والحنوِّ أعظمُ حالًا مِن تلك المرضعةِ التي ألْقَمتْ حبيبَها الثديَ؛ فهي تتدفَّقُ حنانًا، ومع ذلك تذهَلُ عنه إذا رأتْ تلك الأهوالَ؛ لشِدَّتِها وعظَمتِها، وعلى هذا فقولُه تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ أبلغُ مِن (مُرضِع) في هذا المقام؛ فإنَّ المرأةَ قد تذهَلُ عن الرضيعِ إذا كان غيرَ مُباشِرٍ للرَّضاعةِ، فإذا الْتقَمَ الثديَ واشتغلتْ برَضاعِه لم تذهَلْ عنه إلَّا لأمرٍ أعظمَ عندَها مِن اشتغالِها بالرَّضاعِ .

- قولُه: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ (ما) في قولِه: عَمَّا مَوصولةٌ، والإتيانُ بالموصولِ وصِلَتِه عَمَّا أَرْضَعَتْ في تَعريفِ المَذهولِ عنه دونَ أنْ يقولَ: (عنِ ابْنِها)؛ للدَّلالةِ على أنَّها تَذهَلُ عن شَيءٍ هو نُصْبُ عَينِها، وهي في عمَلٍ مُتعلِّقٍ به، وهو الإرضاعُ؛ زِيادةً في التَّكنِّي عن شِدَّةِ الهولِ. وقيل: إنَّ (مَا) مَصدريَّةٌ، أي: تَذهلُ عنْ إرضاعِها، والأوَّلُ أدَلُّ على شِدَّةِ الهولِ، وكَمالِ الانزعاجِ .

- والتَّعبيرُ بـ ذَاتِ حَمْلٍ دونَ التَّعبيرِ (بحامِلٍ)؛ لأنَّه الجاري في الاستِعمالِ في الأكثرِ، مع ما في هذه الإضافةِ مِنَ التَّنبيهِ على شِدَّةِ اتِّصالِ الحمْلِ بالحاملِ؛ فيدُلُّ على أنَّ وَضْعَها إيَّاهُ لسبَبٍ مُفظعٍ . وأيضًا في عُدولِه سُبحانَه عن (كُلِّ حَامِلٍ) سِرٌّ بديعٌ؛ فإنَّ الحامِلَ قد تُطْلَقُ على المُهيَّأةِ للحمْلِ، وعلى مَن هي في أوَّلِ حَمْلِها ومبادئِه، فإذا قيل: (ذاتُ حمْلٍ) لم يكُنْ إلَّا لمَن ظهَرَ حمْلُها وصلَحَ للوضْعِ كاملًا أو سِقطًا، كما يُقالُ: (ذاتُ ولَدٍ)، فأَتَى في المُرضعةِ بالتَّاءِ التي تُحقِّقُ فِعلَ الرَّضاعةِ دونَ التَّهيُّؤِ لها، وأتى في الحامِلِ بالسَّببِ الَّذي يُحقِّقُ وُجودَ الحمْلِ، وقَبولَه للوضْعِ .

- قولُه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا... وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى فيه الاختلافُ بالجَمْعيَّةِ والإفرادِ؛ لأنَّ المَرئِيَّ في الأوَّلِ هي الزَّلزلةُ الَّتي يُشاهِدُها الجميعُ، وفي الثَّاني حالُ مَن عدا المُخاطَبِ منهم؛ فلا بُدَّ من إفرادِ المُخاطَبِ على وَجْهٍ يعُمُّ كلَّ واحدٍ منهم؛ لكنْ مِن غيرِ اعتِبارِ اتِّصافِه بتلك الحالةِ؛ فإنَّ المُرادَ بَيانُ تأثيرِ الزَّلزلةِ في المَرئيِّ لا في الرَّائي باختلافِ مَشاعِرِه، كأنَّه قيلَ: ويَصيرُ النَّاسُ سُكارى... إلخ. وإنَّما أُوثِرَ عليه ما جاء في التَّنزيلِ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى؛ للإيذانِ بكَمالِ ظُهورِ تلك الحالةِ فيهم، وبُلوغِها من الجلاءِ إلى حَدٍّ لا يَكادُ يَخْفى على أحدٍ . والمُرادُ مِنَ الأوَّلِ التَّهديدُ بالوُقوعِ، ومن الثَّاني التَّعجُّبُ مِن حالِهم . وقيل: الخِطابُ في وَتَرَى النَّاسَ لغيرِ مُعيَّنٍ، وهو كلُّ مَن تتأَتَّى منه الرُّؤيةُ مِن النَّاسِ؛ فهو مُساوٍ في المعنى للخِطابِ الَّذي في قولِه: يَوْمَ تَرَوْنَهَا، وإنَّما أُوثِرَ الإفرادُ هنا للتَّفنُّنِ؛ كَراهيةَ إعادةِ الجمْعِ . وقيل: قولُه تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَهَا وبَعْدَه: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى مُحَوَّلٌ على (أيَّها المُخاطَبُ)، أي: لو حضَرْتَ أيُّها المُخاطَبُ لرَأيتَه بهذه الصِّفةِ .

- وعُدِلَ عن فِعلِ المُضِيِّ إلى المُضارِعِ في قولِه: وَتَرَى؛ لاستحضارِ الحالةِ، والتَّعجيبِ منها .

- قولُه: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وُصِفَ النَّاسُ بذلك على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ، وقولُه بعْدَه: وَمَا هُمْ بِسُكَارَى قَرينةٌ على قَصْدِ التَّشبيهِ؛ فنَفى عنهم الحقيقةَ -وهي السُّكْرُ مِن الخمْرِ؛ وذلك لِمَا هُم فيه مِن الحيرةِ وتَخليطِ العقْلِ .

- قولُه: وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ استدراكٌ لِمَا تقدَّمَ مِن الحالةِ اللَّيِّنةِ، وهو الذُّهولُ والوضْعُ ورُؤيةُ النَّاسِ أشباهَ السُّكارى؛ وكأنَّه قيل: وهذه أحوالٌ هيِّنةٌ، ولكنَّ عذابَ اللهِ شَديدٌ، وليس بَهيِّنٍ ولا لَيِّنٍ .

===========

 

سورةُ الحَجِّ

الآيتان (3-4)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

 

مَرِيدٍ: أي: مُتَمَرِّدٍ خارجٍ عن الطَّاعةِ، مُتجرِّدٍ للفَسادِ، وأصلُ (مرد): يدُلُّ على تجريدِ الشَّيءِ مِن قِشرِه، أو ما يَعلوه مِن شَعرِه

.

السَّعِيرِ: السعيرُ اسْمٌ مِن أسماءِ جَهَنَّمَ، يُقال: سَعرْتُ النَّارَ، إذا ألهَبْتَها، وأصلُ (سعر): يدُلُّ على اشتِعالِ الشَّيءِ واتِّقادِه وارتِفاعِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ اللهُ تعالى: ومِن النَّاسِ مَن يجادِلُ في دينِ اللهِ وفي قُدرته تعالى على البَعثِ، مِن غيرِ علمٍ، ويتَّبِعُ كُلَّ شَيطانٍ طاغٍ مُتَمَرِّدٍ على اللهِ ورُسُلِه. قضى اللهُ وقدَّر أنَّ ذلك الشَّيْطانَ يُضِلُّ كُلَّ مَن اتَّبَعه، ولا يَهديه إلى الحَقِّ، بل يَسوقُه إلى عذابِ جَهنَّمَ المُوقَدةِ؛ جَزاءَ اتِّباعِه إيَّاه.

تفسير الآيتين:

 

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ الله تعالى بيَّن أنَّه معَ هذا التحذيرِ الشَّديدِ بذِكرِ زلزلةِ الساعةِ وشدائدِها، فإنَّ مِن الناسِ مَن يجادلُ في الله بغيرِ علمٍ

.

وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أهوالَ يَومِ القيامةِ؛ ذكَرَ مَن غَفَل عن الجزاءِ في ذلك اليومِ، وكذَّبَ به .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

أي: ومِنَ النَّاسِ صِنفٌ يجادِلُ في شأنِ اللهِ وفي دينِه بجَهلٍ، من غيرِ علمٍ صحيحٍ، جدلًا ناشئًا عن سوءِ نظرٍ، وسوءِ تفكيرٍ لإحقاقِ الباطلِ وإبطالِ الحقِّ، فينكرُ وحدانيَّةَ اللهِ وقدرتَه على إحياءِ الموتَى، ويُكذِّبُ ما جاءَتْ به رسلُه .

وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ.

أي: ويتَّبِعُ الجاهِلُ في جِدالِه في اللهِ بلا عِلمٍ كُلَّ شَيطانٍ عاتٍ طاغٍ مِن شياطينِ الإنسِ والجِنِّ، مُتجَرِّدٍ مِنَ الخيرِ، مُتمَرِّدٍ على اللهِ، فيَقبَلُ وَسوَسَته، وينقادُ للعَمَلِ بها بلا تَفكيرٍ ولا ترَدُّدٍ .

كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4).

أي: قضَى اللهُ على الشَّيطانِ المتَمَرِّدِ وقدَّر أنَّ مَنِ اتَّخَذه وليًّا فأقبَلَ عليه واتَّبَعَه؛ فإنَّ الشَّيطانَ يُضِلُّه في الدُّنيا عن الحَقِّ، ويَدُلُّه إلى طريقِ النَّارِ المُوقَدةِ ويَدْعوه إليها، فيَسوقُه إلى عَذابِها بما يُزَيِّنُه له مِنَ الباطِلِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ذَمٌّ لكلِّ مَن جادلَ في اللهِ بغَيرِ عِلمٍ، وهو دليلٌ على أنَّه جائزٌ بالعِلمِ، كما فَعَلَ إبراهيمُ بقَومِه

، فهذه الآيةُ بمَفهومِها تدُلُّ على جوازِ المجادلةِ الحَقَّةِ؛ لأنَّ تخصيصَ المجادلةِ مع عدَمِ العلمِ بالدَّلائِلِ يدُلُّ على أنَّ المجادلةَ مع العلمِ جائزةٌ، فالمجادَلةُ الباطلةُ هي المرادُ مِن قَولِه: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف: 58] ، والمجادلةُ الحقَّةُ هي المرادُ مِن قَولِه: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

 

[النحل: 125].

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ بَيَّنَ سُبحانَه حالَ مَن يُجادِلُ في الدِّينِ بلا عِلمٍ، والعِلمُ: هو ما بَعَث اللهُ به رَسولَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو: السُّلطانُ، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ [غافر: 56] ، فمَن تكَلَّمَ في الدِّينِ بغَيرِ ما بَعَث اللهُ به رَسولَه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان متكَلِّمًا بغيرِ عِلمٍ

.

2- قال اللهُ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ هذا الذي يُجادِلُ في اللهِ قد جمَعَ بين ضَلالِه بنَفْسِه، وتصَدِّيهِ إلى إضلالِ النَّاسِ، وهو مُتَّبِعٌ ومُقَلِّدٌ لكُلِّ شَيطانٍ مَريدٍ، ظُلُماتٌ بَعضُها فَوقَ بَعضٍ! ويدخُلُ في هذا جُمهورُ أهلِ الكُفرِ والبِدَعِ؛ فإنَّ أكثَرَهم مُقَلِّدةٌ، يجادِلونَ بغيرِ عِلمٍ .

3- قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ هذا حالُ أهلِ الضَّلالِ والبِدَعِ؛ المُعرِضينَ عن الحَقِّ، المتَّبِعينَ للباطِلِ، يَترُكونَ ما أنزَلَه اللهُ على رَسولِه مِنَ الحَقِّ المُبينِ، ويتَّبِعونَ أقوالَ رُؤوسِ الضَّلالةِ؛ الدُّعاةِ إلى البِدَعِ بالأهواءِ والآراءِ .

4- قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ الكِتابةُ في هذه الآيةِ هي كِتابةٌ كَونيَّةٌ، ويُقابِلُها الكِتابةُ الشَّرعيَّةُ الأَمريَّةِ؛ كقَولِه تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183] ، فالأُولى كِتابةٌ بمعنى القَدَرِ، والثَّانيةُ كِتابةٌ بمَعنى الأَمْرِ .

5- عن مُضارِبِ بنِ إبراهيمَ، قال: (سألتُ الحُسَينَ بنَ الفَضلِ، فقُلتُ: إنَّك تُخرِجُ أمثالَ العَرَبِ والعَجَمِ مِنَ القُرآنِ، فهل تجِدُ في كتابِ اللهِ: «مَن أعان ظالِمًا سُلِّطَ عليه»؟ قال: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) .

6- قَولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ؛ إذ هو يقولُ جلَّ جَلالُه نصًّا مِن غَيرِ تأويلٍ: إنَّ الشَّيطانَ يُضِلُّ وَلِيَّه، ويَهدِيه إلى عذابِ السَّعيرِ بما كتَبَه عليه مِن ذلك

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قَولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ

- قولُه: وَمِنَ النَّاسِ  ... كَلامٌ مُبتدأٌ جِيءَ به بعدَ بَيانِ عَظيمِ شأْنِ السَّاعةِ المُنبئةِ عن البعثِ؛ بَيانًا لحالِ بَعضِ المُنكِرينَ لها

.

2- قَولُه تعالى: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ

- قولُه: وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ فيه التَّعبيرُ بلفْظِ الهِدايةِ على سَبيلِ التَّهكُّمِ . ولمَّا كان الضَّلالُ مُشتهِرًا في معنى البُعْدِ عن الخيرِ والصَّلاح،ِ لم يُحْتَجْ في هذه الآيةِ إلى ذِكْرِ مُتعلِّقِ فِعْلِ يُضِلُّهُ؛ لظُهورِ المعنى. وذُكِرَ مُتعلِّقُ فِعْلِ يَهْدِيه، وهو: إلى عَذَابِ السَّعِيرِ؛ لأنَّ تَعلُّقَه به غريبٌ؛ إذِ الشَّأْنُ أنْ يكونَ الهُدى إلى ما يَنفَعُ، لا إلى ما يَضُرُّ ويُعذِّبُ .

================

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (5-7)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ

غريب الكلمات :

 

رَيْبٍ: الرَّيبُ: الشَّكُّ، أو هو الشَّكُّ معَ الخَوفِ، ومعَ تُهمةِ المشكوكِ فيه، وتوهُّمُ أمْرٍ ما بالشَّيءِ، والرَّيبُ مصدرُ رابني الشيءُ: إذا حصَل فيه الرِّيبةُ، وهي قلقُ النفْسِ واضطرابُها

.

نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: هي المنيُّ، وقيل: الماءُ الصَّافي ، وقيل: الماءُ القليلُ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ .

عَلَقَةٍ: العَلَقةُ: الدَّمُ الجامِدُ، وأصلُ (علق): يدُلُّ على تعلُّقِ شَيءٍ بشَيءٍ .

مُضْغَةٍ: المُضْغةُ: القِطعةُ الصَّغيرةُ مِن اللَّحمِ قَدْرَ ما يُمضَغُ، وأصلُها: مِن المَضْغِ .

مُخَلَّقَةٍ: أي: مخلوقةٍ تامَّةِ الخَلقِ، وأصلُ (خلق): يدلُّ على تقديرِ الشَّيءِ .

وَنُقِرُّ: أي: نُثبِّتُ، وأصلُه يدُلُّ على التمَكُّنِ .

لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ: أي: سِنَّ الفُتُوَّةِ واستِجماعِ القُوى، وأصلُه مِنَ الشِّدَّةِ والقُوَّةِ والجَلادةِ، وقيلَ: أصلُه الارتفاعُ؛ مِن: شَدَّ النَّهارُ، إذا ارْتفَع .

أَرْذَلِ الْعُمُرِ: أي: أرْدَئِه، وهو الهَرَمُ والخَرَفُ؛ لأنَّ الهَرَمَ أسوأُ العُمُرِ وشَرُّه، والأرذَلُ مِن كُلِّ شَيءٍ: الرَّديءُ منه .

هَامِدَةً: أي: مَيْتةً يابِسةً، لا نباتَ فيها، وأصلُ (همد): يدُلُّ على خُمودِ شَيءٍ .

اهْتَزَّتْ: أي: تحرَّكَت بالنَّباتِ عندَ وقوعِ الماءِ عليها، وأصلُ (هزز): يدُلُّ على اضطرابٍ في شَيءٍ وحَركةٍ .

وَرَبَتْ: أي: انتَفَخَت وعَلَت وزادت، وأصلُ (ربا): يدُلُّ على الزِّيادةِ والنَّماءِ والعُلُوِّ .

زَوْجٍ بَهِيجٍ: أي: جِنسٍ وصِنفٍ حَسَنٍ، والبَهيجُ بمعنى المُبهِجِ، وهو الحَسَنُ الصُّورةِ الذي تُمتَّعُ العَينُ برُؤيتِه؛ مِن البَهجةِ: أي: حُسنِ الشَّيءِ ونَضارَتِه، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارَنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: يا أيُّها النَّاسُ، إنْ كُنتُم في شَكٍّ مِن أنَّ اللهَ يُحيي الموتى، فإنَّا خلَقْنا أباكم آدَمَ مِن تُرابٍ، ثمَّ تناسَلَت ذُرِّيَّتُه مِن مَنِيٍّ، فيتحَوَّلُ بقُدرةِ اللهِ إلى عَلَقةٍ، وهي قِطعةُ دَمٍ حمراءُ جامِدةٌ تَعلَقُ برَحِمِ المرأةِ، ثمَّ إلى مُضغةٍ -وهي قِطعةُ لَحمٍ صَغيرةٌ قَدْرَ ما يُمضَغُ-، مخلَّقةٍ وغَيرِ مُخلَّقةٍ؛ لنبيِّنَ لكم تَمامَ قُدرَتِنا. ونُبقي في الأرحامِ ما نشاءُ مِن الأجنَّةِ إلى وَقتِ ولادتِه، ثم نخرِجُكم مِن بطونِ أمَّهاتِكم أطفالًا صِغارًا، ثم تَكبَرُون حتى تَبلُغوا الأشُدَّ، وهو وَقتُ اكتِمالِ القُوَّةِ والعَقلِ، ومِنكم مَن يَموتُ قبْلَ ذلك، ومِنكم مَن يَكبَرُ حتى يبلُغَ سِنَّ الهَرَمِ وضَعْفِ العَقلِ، فلا يعلَمُ هذا المعمَّرُ شَيئًا مِمَّا كان يَعلَمُه قبْلَ ذلك!

وترى الأرضَ يابِسةً مَيْتةً لا نباتَ فيها، فإذا أنزَلْنا عليها الماءَ تحَرَّكَت بالنَّباتِ وارتفَعَت وانتفَخَت، وأنبَتَت مِن كلِّ نَوعٍ مِن أنواعِ النَّباتِ الحَسَنِ الذي يَسُرُّ النَّاظِرينَ. ذلك المذكورُ مِمَّا تقدَّمَ مِن آياتِ قُدرةِ اللهِ تعالى؛ لِتَعلَموا أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى هو الحقُّ، الذي لا تَنبغي العبادةُ إلَّا له، وأنَّه يُحيي الموتى، وهو قادِرٌ على كُلِّ شَيءٍ.

تفسير الآيات:

 

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا حكى اللهُ سُبحانَه عن الكافِرينَ الجِدالَ بغَيرِ العِلمِ في إثباتِ الحَشرِ والنَّشرِ، وذَمَّهم عليه، أورَدَ الدَّلالةَ على صِحَّةِ ذلك

؛ فقال تعالى:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ.

أي: يا أيُّها النَّاسُ، إنْ كُنتُم في شَكٍّ واشتِباهٍ مِن قُدرَتي على بَعْثِكم بعدَ مَوتِكم، فتَذَكَّروا أنَّني خلَقْتُ أباكم آدَمَ مِن ترابٍ؛ فالذي قدَرَ على خَلْقِكم أوَّلًا قادِرٌ على خَلْقِكم ثانيًا .

ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.

أي: ثمَّ خَلَقْناكم -يا بَني آدَمَ- مِن مَنِيٍّ .

كما قال تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 37-40] .

ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.

أي: ثمَّ خَلَقْناكم مِن قِطعةِ دَمٍ حَمراءَ جامِدةٍ تَعلَقُ برَحِمِ المرأةِ .

ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.

أي: ثمَّ خَلَقْناكم مِن قِطعةِ لَحمٍ صَغيرةٍ بمِقدارِ ما يُمضَغُ، مخلَّقةٍ وغيرِ مخلَّقةٍ .

عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حَدَّثنا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو الصَّادِقُ المصدوقُ، قال: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلْقُه في بَطنِ أمِّه أربعينَ يَومًا، ثمَّ يكونُ عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضغةً مِثلَ ذلك، ثم يَبعَثُ اللهُ ملَكًا فيُؤمَرُ بأربَعِ كَلِماتٍ، ويُقالُ له: اكتُبْ عَمَلَه، ورِزْقَه، وأجَلَه، وشَقِيٌّ أو سَعيدٌ، ثم يُنفَخُ فيه الرُّوحُ )) .

لِنُبَيِّنَ لَكُمْ.

أي: لنُعَرِّفَكم بابتداءِ خَلْقِكم، ونُظهِرَ لكم قُدرَتَنا .

وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

أي: ونُثبِتُ في أرحامِ الأمَّهاتِ ما نشاءُ إبقاءَه مِن الأجِنَّةِ إلى الوَقتِ الذي قدَّرْناه للوِلادةِ .

ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا.

أي: ثمَّ نُخرِجُكم مِن بُطونِ أمَّهاتِكم -إذا بلَغْتُمُ الأجَلَ الذي قدَّرْناه لخُروجِكم منها- أطفالًا .

ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ.

أي: ثمَّ لِتَبلُغوا بالتَّدريجِ كَمالَ قُوَّتِكم وعُقولِكم .

كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر: 67].

وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا.

أي: ومِنكم -أيُّها النَّاسُ- مَن يموتُ قَبلَ أن يبلُغَ أشُدَّه، ومنكم مَن يُؤخَّرُ مَوتُه إلى أن يَبلُغَ أخَسَّ العُمُرِ وأدْوَنَه، فيَصيرُ ضَعيفًا في بَدَنِه وعَقْلِه، لا علمَ له ولا فَهمَ، بعد أن كان قَوِيًّا ذا فَهمٍ وعِلمٍ بالأشياءِ !

كما قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [النحل: 70] .

وقال سُبحانَه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] .

ثمَّ ذكَر برهانًا قاطعًا آخرَ على البعثِ ، فقال:

وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ.

أي: وتَرى الأرضَ يابِسةً قاحِلةً ساكِنةً سُكونَ الأمواتِ، لا نباتَ فيها ولا زَرْعَ، فإذا أنزَلْنا عليها الماءَ تحَرَّكَتْ بالنَّباتِ ، وارتفَعَت وانتفَخَت .

كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت: 39] .

وقال سُبحانه: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ [ق: 9-11] .

وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.

أي: وأخرَجَت الأرضُ بذلك الماءِ مِن كُلِّ صِنفٍ حَسَنٍ يَسُرُّ النَّاظرينَ مِن أصنافِ النَّباتاتِ والزُّروعِ والثِّمارِ .

كما قال تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا [النمل: 60] .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا قَرَّر اللهُ سُبحانَه الدَّليلَينِ السَّابِقَينِ، رَتَّب عليهما ما هو المَطلوبُ والنَّتيجةُ .

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.

أي: ذلك الذي ذكَرْنا لكم -أيُّها النَّاسُ- مِن أطوارِ خَلْقِكم، وإحياءِ الأرضِ بالماءِ بعدَ مَوتِها؛ لِتَعلَموا بأنَّ الذي قدَرَ على فِعلِ ذلك هو الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه، الذي يَستَحِقُّ العِبادةَ وَحْدَه؛ فعِبادتُه حَقٌّ، وعِبادةُ ما سِواهُ باطِلةٌ .

وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى.

أي: ولِتَعلَموا بأنَّ الذي قَدَرَ على تلك الأشياءِ العَجيبةِ قادِرٌ على إحياءِ الموتَى .

وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

أي: وأنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قادِرٌ لا يُعجِزُه شَيءٌ مِنَ البَعثِ وغَيرِه .

وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7).

وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا.

أي: ولِتُوقنوا بأنَّ القيامةَ قادِمةٌ، لا شَكَّ ولا اشتِباهَ في وقوعِها .

وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ.

أي: وأنَّ اللهَ يُحيي الموتى مِن قُبورِهم، فيُخرِجُهم إلى مَوقِفِ الحِسابِ؛ لِيُجازِيَهم بأعمالِهم؛ خَيرِها، وشَرِّها

 

.

الفوائد التربوية :

 

إذا تأمَّلتَ ما دَعَا اللهُ سُبحانَه في كتابِه عِبادَه إلى الفِكرِ فيه، أوقَعَك على العِلمِ به سُبحانَه وتعالى وبوَحدانيَّتِه، وصِفاتِ كَمالِه ونُعوتِ جَلالِه؛ من عُمومِ قُدرتِه وعِلمِه، وكَمالِ حِكمتِه ورَحمتِه، وإحسانِه وبِرِّه، ولُطْفِه وعَدْلِه، ورِضاهُ وغَضَبِه، وثوابِه وعِقابِه؛ فبهذا تعَرَّف إلى عبادِه، وندَبَهم إلى التفَكُّرِ في آياتِه، ونذكُرُ لذلك أمثِلةً مِمَّا ذكَرَها اللهُ سُبحانَه في كتابِه، يُستَدَلُّ بها على غَيرِها؛ فمن ذلك: خَلقُ الإنسانِ، وقد نَدَبَ سُبحانَه إلى التفَكُّرِ فيه والنَّظَرِ، في غيرِ مَوضِعٍ مِن كِتابِه؛ كقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج: 5] ، وقال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: 5] ، وقَولِه تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ

 

[الذاريات: 21].

الفوائد العلمية واللطائف :

 

1- قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، في جَعلِ كُلِّ واحِدةٍ مِن هذه المراتِبِ مَبدأً لخَلقِهم لا لخَلقِ ما بَعدَها مِنَ المراتِبِ -كما في قَولِه تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون: 14] - مزيدُ دَلالةٍ على عَظيمِ قُدرَتِه تعالى، وكَسرٌ لِسَورةِ استِبعادِهم

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ استدلَّ به مَن قال باستواءِ غيرِ المُخَلَّقةِ مع المخَلَّقةِ في إثباتِ الولَدِ، وانقضاءِ العِدَّةِ، ووجوبِ الغُرَّةِ ؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ أنَّ غيرَ المخلَّقةِ لها حُكمُ المخَلَّقةِ ، وهذا على أحدِ الأقوالِ في معنى الآيةِ.

3- إذا قيل: ما وجهُ الإفرادِ في قَولِه: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا مع أنَّ المعنى نخرِجُكم أطفالًا؟

فالجوابُ من أوجهٍ:

منها: أنَّ من أساليبِ اللُّغةِ العربيةِ التي نزَل بها القرآنُ أنَّ المفردَ إذا كان اسمَ جِنسٍ، يكثُرُ إطلاقُه مرادًا به الجَمعُ معَ تنكيرِه -كما في هذه الآية- فمِن أمثلتِه في القرآنِ قَولُه تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54] أي: وأنهارٍ، بدليلِ قولِه تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ [محمد: 15] ؛ وقولُه: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74] أي: أئمَّةً، وقوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء: 4] أي: أنفُسًا، وقولُه تعالى: وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] أي: رُفَقاءَ، وقولُه تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] أي: مظاهِرونَ .

ومنها: أنَّه أفرده؛ لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ مِثلُ عَدلٍ، فيستوي فيه الواحِدُ وغيرُه.

ومنها: أنَّه أفرده باعتبارِ كلِّ واحدٍ منهم، أي: يُخرِجُ كُلَّ واحدٍ منكم طِفلًا .

4- قَولُ اللهِ تعالى: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، جُعِلَ بُلوغُ الأشُدِّ عِلَّةً؛ لأنَّه أقْوى أطوارِ الإنسانِ، وأجْلَى مَظاهِرِ مَواهِبِه في الجِسْمِ والعقلِ، وهو الجانِبُ الأهَمُّ، كما أومَأَ إلى ذلك قولُه بعْدَ هذا: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، فجعَلَ (الأشُدَّ) كأنَّه الغايةُ المقصودةُ مِن تَطويرِه .

5- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا فيه سؤالٌ: كيفَ قال: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، معَ أنَّه يعلَمُ بعضَ الأشياءِ كالطِّفلِ؟ الجواب: المرادُ أنَّه يزولُ عَقلُه، فيصيرُ كأنَّه لا يَعلمُ شيئًا؛ لأنَّ مِثلَ ذلك قد يُذكَرُ في النفيِ لأجلِ المبالَغةِ .

6- في قولِه تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا جُعِلَ انتفاءُ عِلْمِ الإنسانِ عندَ أرذَلِ العُمرِ عِلَّةً لِرَدِّه إلى أرذَلِ العُمرِ، باعتبارِ أنَّه عِلَّةٌ غائيَّةٌ لذلك؛ لأنَّه ممَّا اقتضَتْهُ حِكْمةُ اللهِ في نِظامِ الخَلْقِ؛ فكان حُصولُه مَقصودًا عندَ رَدِّ الإنسانِ إلى أرذَلِ العُمرِ، فإنَّ ضَعْفَ القُوى الجِسميَّةِ يَستتبِعُ ضَعْفَ القُوى العَقليَّةِ .

7- قولُه: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ارتقاءٌ في الاستدلالِ على الإحياءِ بعْدَ الموتِ بقياسِ التَّمثيلِ ؛ لأنَّه استدلالٌ بحالةٍ مُشاهَدةٍ؛ فلذلك افتُتِحَ بفِعْلِ الرُّؤيةِ، بخلافِ الاستدلالِ بخَلْقِ الإنسانِ؛ فإنَّ مَبدأَهُ غيرُ مُشاهَدٍ، فقيل في شأْنِه: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الآيةَ. ومَحلُّ الاستدلالِ مِن قولِه تعالى: فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ؛ فهو مُناسِبٌ قولَه في الاستدلالِ الأوَّلِ: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ؛ فهُمودُ الأرضِ بمَنزِلةِ مَوتِ الإنسانِ، واهتزازُها وإنباتُها بعْدَ ذلك يُماثِلُ الإحياءَ بعْدَ الموتِ .

8- في قولِه تعالى مِن أوَّلِ سُورةِ الحجِّ إلى قولِه: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ خَمْسُ نَتائِجَ، تُسْتَنْتَجُ مِن عَشْرِ مُقدِّماتٍ:

أولًا: قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، ثبَتَ عندنا بالخبرِ المتواتِرِ أنَّه سُبحانَه أخبَرَ بزلزلةِ السَّاعةِ مُعظِّمًا لها، وذلك مقطوعٌ بصِحَّتِه؛ لأنَّه خبَرٌ أخبَرَ به مَن ثبَتَ صِدقُه عمَّن ثبَتَتْ قُدرتُه، فهو حَقٌّ، ولا يُخبِرُ بالحقِّ عمَّا سيكونُ إلَّا الحقُّ؛ فاللهُ هو الحقُّ.

ثانيًا: أخبَرَ سُبحانَه أنَّه يُحْيي الموتى؛ لأنَّه تعالى أخبَرَ عن أهْوالِ السَّاعةِ بما أخبَرَ، وحُصولُ فائدةِ هذا الخبرِ مَوقوفةٌ على إحياءِ الموتى لِيُشاهِدوا تلك الأهوالَ، وقد ثبَتَ أنَّه قادرٌ على كلِّ شَيءٍ، ومن هذه الأشياءِ إحياءُ الموتى.

ثالثًا: أخبَرَ أنَّه على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ؛ لأنَّه أخبَرَ أنَّه مَن يَتَّبِعِ الشَّياطينَ ومَن يُجادِلْ فيه بغيرِ علْمٍ يُذِقْهُ عذابَ السَّعيرِ، ولا يَقدِرُ على ذلك إلَّا مَن هو على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ.

رابعًا: أخبَرَ أنَّ السَّاعةَ آتيةٌ لا رَيبَ فيها؛ لأنَّه أخبَرَ بالخبرِ الصَّادقِ أنَّه خلَقَ الإنسانَ مِن تُرابٍ إلى قولِه: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، ومَن خلَقَ الإنسانَ على ما أخبَرَ به، فأوجَدَهُ بالخلْقِ ثمَّ أعدَمَهُ بالموتِ، ثمَّ يُعِيده بالبعثِ، وكذلك فِعْلُه في الأرضِ المواتِ، وصدَقَ خَبرُه في ذلك كلِّه بدَلالةِ الواقعِ الشَّاهدِ على المُتوقَّعِ الغائبِ حتَّى انقلَبَ الخبَرُ عِيانًا؛ صدَقَ خبَرُهُ في الإتيانِ بالسَّاعةِ.

خامسًا: لا تأتي السَّاعةُ إلَّا ببَعثِ مَن في القُبورِ، وهو سُبحانَه يَبعَثُ مَن في القُبورِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ

- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ التَّعريفُ في النَّاسُ للعَهْدِ، والمعهودُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

.

- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ التَّعبيرُ عن اعتقادِهم في حَقِّه بالرَّيبِ مع التَّنكيرِ المُنْبئِ عن القلَّةِ، معَ أنَّهم جازِمونَ باستحالتِه، وإيرادُ كلمةِ الشَّكِّ مع تَقرُّرِ حالِهم في ذلك، وإيثارُ ما عليهِ النَّظمُ الكريمُ عَلى أنْ يُقالَ: (إنِ ارتبْتُم في البعثِ)؛ إمَّا للإيذانِ بأنَّ أقْصى ما يُمكِنُ صُدورُه عنهم -وإنْ كانوا في غايةِ ما يكونُ من المُكابَرةِ والعِنادِ- هو الارتيابُ في شأْنِه، وأمَّا الجزمُ المذكورُ فخارِجٌ مِن دائرةِ الاحتمالِ، كما أنَّ تَنكيرَه وتَصديرَه بكلمةِ الشَّكِّ؛ للإشعارِ بأنَّ حَقَّه أنْ يكونَ ضَعيفًا مَشكوكَ الوُقوعِ، وإمَّا للتَّنبيهِ على أنَّ جَزْمَهم ذلك بمَنزِلةِ الرَّيبِ الضَّعيفِ؛ لكَمالِ وُضوحِ دَلائلِ الإعجازِ ونِهايةِ قُوَّتِها، وإنَّما لم يقُلْ: (وإنِ ارتبْتُم في البعثِ...)؛ للمُبالغةِ في تَنزيهِ الإيمانِ بالبَعثِ عن شائبةِ وُقوعِ الرَّيبِ فيه، والإشعارِ بأنَّ ذلك إنْ وقَعَ فمِن جِهَتِهم لا مِن جِهَتِه العاليةِ، واعتبارُ استقرارِهم فيه وإحاطتُه بهم لا يُنافي اعتبارَ ضَعْفِه وقِلَّتِه؛ لِمَا أنَّ ما يَقْتضيه ذلك هو دوامُ مُلابسَتِهم به، لا قُوَّتُه وكَثرتُه .

- قولُه: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ  ... عُطِفَتِ النُّطفةُ بـ (ثُمَّ)؛ لأنَّ الَّذي خُلِقَ من تُرابٍ هو أصْلُ النَّوعِ، وهو آدمُ عليه السَّلامُ، وسُلِّطَ الفِعلُ عليهم من حيث هُم مِن ذُرِّيتِه، وخُلِقتْ زوجُه حواءُ مِنه، ثمَّ كُوِّنَت في آدَمَ وزَوْجِه قُوَّةُ التَّناسُلِ؛ فصار الخلْقُ منَ النُّطفةِ؛ فـ (ثُمَّ) الَّتي عُطِفَ بها ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ عاطفةٌ مُفرداتٍ؛ فهي للتَّراخي الحقيقيِّ. و(مِن) المُكرَّرةِ أربَعَ مرَّاتٍ هنا ابتدائيَّةٌ، وتَكريرُها تَوكيدٌ .

- وعبَّرَ بقولِه: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مع المُضْغةِ؛ لمَّا كان الإنسانُ فيه أعضاءٌ مُتباينةٌ، وكلُّ واحدٍ منها مُختصٌّ بخَلْقٍ، حسُنَ تَضعيفُ الفِعْلِ؛ لأنَّ فيه خلْقًا كثيرةً .

- وفي قولِه: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ كان مُقْتضى التَّرتيبِ السَّابقِ المَبْنيِّ على التَّدرُّجِ مِن المبادئِ البعيدةِ إلى القريبةِ: أنْ يُقدَّمَ غيرُ المُخلَّقةِ على المُخلَّقةِ، وإنَّما أُخِّرَت عنها؛ لأنَّ المُخلَّقةَ أدخَلُ في الاستدلالِ، وذكَرَ بعْدَه غيرَ المُخلَّقةِ؛ لأنَّه إكمالٌ للدَّليلِ، وتَنبيهٌ على أنَّ تَخليقَها نشَأَ عن عدَمٍ؛ فكِلَا الحالينِ دليلٌ على القُدرةِ على الإنشاءِ، وهو المَقصودُ مِن الكَلامِ؛ ولذلك عقَّبَ بقولِه: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، أي: لنُظْهِرَ لكم -إذا تأملتُم- دليلًا واضحًا على إمكانِ الإحياءِ بعْدَ الموتِ .

- قولُه: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وُرودُ الفِعْلِ غيرَ مُعَدًّى إلى المُبَيَّنِ: إعلامٌ بأنَّ أفعالَه هذه يَتبيَّنُ بها مِن قُدرتِهِ وعِلْمِه ما لا يَكْتنِهُه الذِّكْرُ، ولا يُحِيطُ به الوصْفُ . وقيل: لِنُبيِّنَ أمْرَ البعثِ، فهو اعتراضٌ بينَ الكلامينِ . ولمَّا اشتمَلتْ تلك الأطوارُ السَّابقةُ على احتقارِ المُنكَّرِ مِن كَونِه نُطفةً وعَلَقةً ومُضغةً؛ أُبْرِزَ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ؛ تَنبيهًا على اختصامِه مع احتقارِه . وقيل: حُذِفَ مفعولُ لِنُبَيِّنَ؛ إشارةً إلى أنَّه يَدخُلُ فيه كلُّ ما يُمكِنُ أنْ يُحيطَ به العقولُ .

- وتَقديمُ التَّبْيينِ على ما بعدَهُ مع أنَّ حُصولَه بالفِعْلِ بعْدَ الكلِّ؛ للإيذانِ بأنَّه غايةُ الغاياتِ، ومَقصودٌ بالذَّاتِ . وأيضًا لمَّا كانت دَلالةُ الأوَّلِ عَلى كَمالِ قُدرتِه تعالى على جَميعِ المقدُوراتِ -الَّتي مِنْ جُملتِها البَعْثُ المَبْحوثُ عنه- أجْلى وأظهَرَ؛ قدَّم قولَه تعالى: لِنُبَيِّنَ على الإقرارِ والإخراجِ .

- قولُه: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ حالِهم بعْدَ تَمامِ خلْقِهم . أو وَنُقِرُّ عطْفٌ على جُملةِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ، وعُدِلَ عن فِعْلِ المُضِيِّ إلى الفِعْلِ المُضارِعِ؛ للدَّلالةِ على استِحضارِ تلك الحالةِ؛ لِمَا فيها مِن مُشابَهةِ استقرارِ الأجسادِ في الأجداثِ، ثمَّ إخراجِها منها بالبَعْثِ، كما يَخرُجُ الطِّفلُ مِن قَرارةِ الرَّحمِ مع تَفاوُتِ القرارِ؛ فمِنَ الأجِنَّةِ ما يَبْقى سِتَّةَ أشهُرٍ، ومنها ما يَزيدُ على ذلك، وهو الَّذي أفادَهُ إجمالُ قولِه تعالى: إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى. والاستدلالُ في هذا كلِّه بأنَّه إيجادٌ بعْدَ العدَمِ، وإعدامٌ بعْدَ الوُجودِ؛ لتَبْيينِ إمكانِ البعثِ بالنَّظيرِ وبالضِّدِّ .

- وعُطِفَت جُملةُ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا بحَرْفِ (ثمَّ)؛ للدَّلالةِ على التَّراخي الرُّتبيِّ؛ فإنَّ إخراجَ الجنينِ هو المقصودُ . ويجوزُ أنْ تكونَ (ثم) في الموضعَينِ -ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا، ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ- للتراخي الزَّمَني، على اعتبار أنَّ بلوغَ الأشُدِّ متراخٍ زمنًا عن إخراجِهم طفلًا، وهو -أي: إخراجُهم طفلًا- متراخٍ عن إقرارِهم في الأرحامِ، لكنَّ الأنسبَ للمقامِ أنْ تكونَ للتراخي الرُّتبيِّ .

- قولُه: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ الأشُدُّ: كَمالُ القُوَّةِ والعَقْلِ والتَّمييزِ، وهو مِن ألْفاظِ الجُموعِ الَّتي لم يُسْتعمَلْ لها واحدٌ -على قولٍ مِن الأقوالِ-، وكأنَّها شِدَّةٌ في غيرِ شَيءٍ واحدٍ؛ فبُنِيَت لذلك على لفْظِ الجَمْعِ .

- وإيثارُ البُلوغِ مُسنَدًا إلى المُخاطَبينَ لِتَبْلُغُوا على التَّبليغِ مُسنَدًا إليه تعالى (لِنُبلِّغَكم)، كالأفعالِ السَّابقةِ (خَلَقْنَاكُمْ- لِنُبَيِّنَ- نُقِرُّ- نُخْرِجُكُمْ)؛ لأنَّ لِتَبْلُغُوا هو المُناسِبُ لبَيانِ حالِ اتِّصافِهم بالكَمالِ، واستقلالِهم بمَبْدئيَّةِ الآثارِ والأفعالِ .

- وإعادةُ اللَّامِ هاهنا في لِتَبْلُغُوا مع تَجْريدِ الأوَّلَينِ عنها (نُقِرُّ، نُخرِجُكم)؛ للإشعارِ بأصالتِه في الغَرضيَّةِ بالنِّسبةِ إليهما؛ إذْ عليه يَدورُ التَّكليفُ المُؤدِّي إلى السَّعادةِ والشَّقاوةِ .

- وقوله: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ وقَعَ في سُورةِ (غافرٍ): ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا [غافر: 67] ، فعُطِفَ طورُ الشَّيخوخةِ على طَورِ الأشُدِّ، باعتبارِ أنَّ الشَّيخوخةَ مَقصِدٌ للأحياءِ؛ لحُبِّهم التَّعميرَ، وتلك الآيةُ ورَدَتْ مَورِدَ الامتنانِ؛ فذكَرَ فيها الطَّورَ الَّذي يَتملَّى المَرْءُ فيه بالحياةِ، ولم يُذْكَرْ هنا في آيةِ سُورةِ (الحجِّ)؛ لأنَّها وردَتْ مَورِدَ الاستدلالِ على الإحياءِ بعْدَ العدَمِ؛ فلم يُذْكَرْ فيها من الأطوارِ إلَّا ما فيه ازديادُ القُوَّةِ ونَماءُ الحياةِ دونَ الشَّيخوخةِ القريبةِ مِن الاضمحلالِ، ولأنَّ المُخاطبينَ بها فَريقٌ مُعيَّنٌ مِن المُشركينَ كانوا في طَورِ الأشُدِّ، وقد نُبِّهوا عَقِبَ ذلك إلى أنَّ منهم نفَرًا يُرَدُّونَ إلى أرذَلِ العُمرِ -وهو طَورُ الشَّيخوخةِ- بقولِه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ .

- وجِيءَ بقولِه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى على وَجْهِ الاعتراضِ؛ استقراءً لأحوالِ الأطوارِ الدَّالَّةِ على عَظيمِ القُدرةِ والحِكْمةِ الإلهيَّةِ، مع التَّنبيهِ على تَخلُّلِ الوُجودِ والعدمِ أطوارَ الإنسانِ بَدْءًا ونِهايةً، كما يَقْتضيه مَقامُ الاستدلالِ على البَعْثِ .

- قولُه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ هو عديلُ قولِه تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وسكَتَ عن ذِكْرِ الموتِ بعْدَ أرذَلِ العُمرِ؛ لأنَّه مَعلومٌ بطريقةِ لَحْنِ الخِطابِ ؛ فأصْلُ الكلامِ: (ومنكم مَن يُرَدُّ إلى أرذَلِ العُمرِ ثُمَّ يُتوفَّى)، فحُذِفَت جُملةُ (ثُمَّ يُتوفَّى)؛ لدَلالةِ الجُملةِ المذكورةِ عليها .

- قولُه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ فيه إيرادُ (التَّوفِّي) و(الرَّدِّ) على صِيغَةِ المَبْنيِّ للمفعولِ؛ للجَرْيِ على سَننِ الكِبْرياءِ؛ لتَعيُّنِ الفاعلِ .

- قولُه: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا عُبِّرَ بـ شَيْئًا؛ مُبالَغةً في انتقاصِ عِلْمِه، وانتكاسِ حالِه ؛ فقد جاءت نَكِرةً لإفادةِ العُمومِ .

- و(مِن) في قولِه: مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا للتَّأكيدِ .

- وعُطِفَ قولُه: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً على قولِه: فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ؛ لكونِ الدَّلائلِ الآفاقيَّةِ مُرتبِطةً بالأنْفُسيَّةِ، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] ، ومُشتبِكةً بعْضُها مع بعْضٍ، خُصوصًا دَلالةَ إحياءِ الأرضِ بعْدَ مَوتِها، وكانت أنْموذجًا للبعْثِ والنَّشرِ .

- قولُه: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فيه الإتيانُ بالفِعْلِ على صِيغَةِ المُضارِعِ وَتَرَى؛ للدَّلالةِ على التَّجدُّدِ والاستمرارِ .

- قولُه: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ سِيقَ هذا الوصْفُ إدماجًا للامتنانِ في أثناءِ الاستدلالِ؛ امتنانًا بجَمالِ صُورةِ الأرضِ المُنْبِتةِ؛ لأنَّ كونَه بَهيجًا لا دخْلَ له في الاستدلالِ، فهو امتنانٌ مَحْضٌ .

- وأيضًا مِن فُنونِ البلاغةِ الَّتي اشتَمَلَ عليها قولُه تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ: العدولُ عن لَفْظيِ الحَركةِ والسُّكونِ إلى أردافِهما من لَفظيِ (الهُمودِ) و(الاهتِزازِ)؛ لِمَا في لَفظيِ الإردافِ من المُلاءَمةِ للمعنى المُرادِ؛ لأنَّ الهُمودَ يُرادُ به الموتُ، والأرضُ في حالِ عَطَلِها مِن السَّقْيِ والنَّباتِ مواتٌ؛ فكان العُدولُ إلى لفْظِ (الهُمودِ) المُعبَّرِ به عن الموتِ أَولى من لفْظِ (السُّكونِ)، والاهتزازُ مُشعِرٌ بالعطاءِ كاهتزازِ المَمدوحِ للمدْحِ؛ فلأجْلِ ذلك عُدِلَ عن لفْظِ الحركةِ العامِّ إلى لَفظِ الحركةِ الخاصِّ وهو الاهتزازُ؛ لِمَا يُشعِرُ أنَّ الأرضَ ستُعْطي عندَ سَقْيِها ما يُرْضِي مِن نَباتِها بتَنزُّلِ السَّقْيِ لها مَنزِلةَ ما يَسُرُّها؛ فاهتزَّتْ لتَشعُرَ بالعطاءِ؛ فظهَرَتْ فائدةُ العُدولِ إلى لفْظِ الإردافِ. ومنها: حُسْنُ التَّرتيبِ؛ حيث تقدَّمَ لفْظُ (الاهتزازِ) على لَفْظِ (الرُّبُوِّ)، ولَفظُ (الرُّبُوِّ) على (الإنباتِ)؛ لأنَّ الماءَ إذا نزَلَ على الأرضِ فرَّقَ أجزاءَها ودخَلَ في خِلالِها، وتَفريقُ أجزاءِ الجَماداتِ هو حركَتُها حالةَ تفرُّقِ الاتِّصالِ؛ لأنَّ انقسامَ الشَّيءِ يدُلُّ على انتقالِ قِسْمَيه أو أحَدِهما عن حَيِّزِه، ولا معنى للحركةِ إلَّا هذا؛ فالاهتزازُ يجِبُ أنْ يُذْكَرَ عَقِيبَ السَّقْيِ، كما جاء (الرُّبُوُّ) بعْدَ (الاهتزازِ)؛ فإنَّ التُّرابَ إذا دخَلَهُ الماءُ ارتَفَعَ بالنِّسبةِ إلى حالِه قبْلَ ذلك، وهذا هو الرُّبُوُّ بعَينِه؛ فحصَلَ حُسنُ الترتيبِ مع حُسنِ النَّسقِ .

2- قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَلامٌ مُستأنَفٌ جِيءَ به إثْرَ تَحقيقِ حَقِّيَّةِ البعثِ، وإقامةِ البُرهانِ عليه مِن العالَمينِ الإنسانيِّ والنَّباتيِّ؛ لبَيانِ أنَّ ذلك مِن آثارِ أُلوهيَّتِه تعالى وأحكامِ شُؤونِه الذَّاتيَّةِ والوصفيَّةِ والفِعْليَّةِ . وهو فَذلكةٌ لِمَا تقدَّمَ؛ فالجُملةُ تَذييلٌ .

- وذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ مِن خلْقِ الإنسانِ على أطوارٍ مُختلفةٍ، وإحياءِ الأرضِ بعْدَ مَوتِها، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنزِلَتِه في الكَمالِ .

- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ فيه قَصرٌ إضافيٌّ ، أي: دونَ غَيرِه مِن مَعبوداتِكم؛ فإنَّها لا وُجودَ لها .

- وفي قولِه: وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى تَخصيصُ إحياءِ الموتى بالذِّكْرِ مع كَونِه من جُملةِ الأشياءِ المقدورِ عليها؛ للتَّصريحِ بما فيه النِّزاعُ، والدَّفعِ في نُحورِ المُنكِرينَ. وتَقديمُه؛ لإبرازِ الاعتناءِ به .

3- قولُه تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ تَوكيدٌ لقولِه: وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى .

- قولُه: وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا فيه إيثارُ صِيغةِ الفاعلِ آَتِيَةٌ على الفِعلِ؛ للدَّلالةِ على تَحقيقِ إتيانِها وتَقرُّرِه الْبتَّةَ؛ لاقتضاءِ الحِكْمةِ إيَّاهُ لا مَحالةَ .

-  وصِيغةُ نَفْيِ الجِنْسِ على سَبيلِ التَّنصيصِ في قوله تعالى: لَا رَيْبَ فِيهَا صِيغةُ تأكيدٍ .

=================

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (8-10)

ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ

غريب الكلمات:

 

ثَانِيَ عِطْفِهِ: أي: لاوِيًا عُنُقَه تَكَبُّرًا، والثَّنْيُ: لَيُّ الشَّيءِ، والعِطْفُ: الجانِبُ، وعِطْفا الرَّجُلِ: جانِباه عن يَمينٍ وشِمالٍ مِنْ لَدُنْ رأسِه إلى وَرِكِه، وهو المَوضِعُ الذي يَعطِفُه الإنسانُ، أي: يَلويه ويُميلُه عندَ الإعراضِ عن الشَّيءِ

.

خِزْيٌ: أي: هوانٌ، وهلاكٌ، وأصلُ الخِزي: الإبعادُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: ومِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ رُسُلَ اللهِ وأتباعَهم في شأنِ اللهِ تعالى بغيرِ عِلمٍ ولا دَلالةٍ صَحيحةٍ، ولا كتابٍ مِن اللهِ فيه بُرهانٌ وحُجَّةٌ واضِحةٌ، لاويًا جانِبَه وعُنُقَه، متكبِّرًا مُعرِضًا عن الحَقِّ؛ لِيَصُدَّ عن دينِ اللهِ، فله خِزيٌ في الدُّنيا وذِلَّةٌ، ونذيقُه يومَ القيامةِ عذابُ النَّارِ. ويُقالُ له: ذلك العَذابُ بسَبَبِ ما فَعَلْتَ مِنَ المعاصي، واكتسَبْتَ مِنَ الآثامِ، واللهُ ليس بظلَّامٍ للعبيدِ، فلا يعَذِّبُ أحَدًا بغيرِ ذَنبٍ.

تفسير الآيات:

 

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ تعالى حالَ الضُّلَّالِ الجُهَّالِ المقَلِّدينَ، في قَولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ؛ ذكَرَ في هذه حالَ الدُّعاةِ إلى الضَّلالِ مِن رُؤوسِ الكُفرِ والبِدَعِ، فقال

:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.

أي: ومِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ رُسُلَ اللهِ وأتباعَهم في شأنِ اللهِ وتوحيدِه وقدرتِه بجَهلٍ، مِن غَيرِ عِلمٍ صَحيحٍ .

وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ.

أي: ويُجادِلُ في اللهِ بمُجَرَّدِ رأيِه وهواهُ، بغيرِ دَلالةٍ صَحيحةٍ يَهتَدي بها للصَّوابِ، ولا كِتابٍ إلهيٍّ نيِّرٍ بيِّنِ الحُجَّةِ يُنيرُ عن حُجَّتِه ورأيِه، وإنَّما يقولُ ما يقولُ مِنَ الجَهلِ بمجرَّدِ ظُنونِه .

ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9).

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: لِيُضِلَّ قراءتانِ:

1- قِراءةُ لِيَضِلَّ بفَتحِ الياءِ، أي: ليَضِلَّ هو .

2- قراءةُ لِيُضِلَّ بضم الياءِ، أي: ليُضِلَّ غَيرَه .

ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ

أي: يجادِلُ بالباطِلِ لاوِيًا جانِبَه وعُنُقَه؛ إعراضًا وتكبُّرًا عن قَبولِ الحَقِّ، واحتِقارًا لِداعيه؛ لِيَصُدَّ عن دينِ اللهِ وشرعِه .

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر: 56] .

لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ.

أي: لذلك المُجادِلِ في اللهِ بالباطِلِ ذُلٌّ ومَهانةٌ في الدُّنيا .

وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ.

أي: ونُذيقُه يومَ القِيامةِ ألَمَ عَذابِ النَّارِ المُحرِقةِ .

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10).

ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ.

أي: يُقالُ له حينَ يذوقُ عَذابَ النَّارِ يَومَ القيامةِ: هذا العَذابُ الواقِعُ بك بسَبَبِ ما قَدَّمَتْه يداك في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والمعاصي .

وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.

أي: وفعَلْنا ذلك؛ لأنَّ اللهَ ليس بِذِي ظُلمٍ للعِبادِ، فلم يكُنْ لِيُعَذِّبَهم بغيرِ ذَنبٍ اقتَرَفوه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ يدُلُّ على أنَّ الجِدالَ مع العِلمِ والهُدى والكِتابِ المُنيرِ حَقٌّ حَسَنٌ

.

2- قَولُ اللهِ تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ هذا من آياتِ اللهِ العَجيبةِ؛ فإنَّك لا تجِدُ داعِيًا مِن دُعاةِ الكُفرِ والضَّلالِ إلَّا وله مِن المَقتِ بينَ العالَمينَ، واللَّعنةِ والبُغضِ والذَّمِّ- ما هو حقيقٌ به، وكُلٌّ بحَسَبِ حالِه .

3- قال الله تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ يُفهَمُ مِن هذه الآيةِ الكَريمةِ أنَّ مَن ثَنَى عِطْفَه استِكبارًا عن الحَقِّ وإعراضًا عنه، عامَلَه اللهُ بنَقيضِ قَصْدِه، فأذَلَّه وأهانه، وذلك الذُّلُّ والإهانةُ نَقيضُ ما كان يؤَمِّلُه مِن الكِبرِ والعَظَمةِ ، فلمَّا استكبَر عن آياتِ الله لقَّاه اللهُ المذلَّةَ في الدُّنيا، وعاقَبه فيها قبْلَ الآخرةِ؛ لأنَّها أكبرُ همِّه، ومبلغُ علمِه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ رَتَّبَ سُبحانَه هذه الأمورَ الثَّلاثةَ أحسَنَ ترتيبٍ؛ فبدأ بالأعَمِّ، وهو العلمُ، وأخبَرَ أنَّه لا علمَ عندَ المُعارِضِ لآياتِه بعَقلِه، ثمَّ انتقَلَ منه إلى ما هو أخَصُّ، وهو الهُدى، ثمَّ انتقَلَ إلى ما هو أخَصُّ، وهو الكِتابُ المُبينُ؛ فإنَّ العلمَ أعَمُّ مِمَّا يُدرَكُ بالعَقلِ والسَّمعِ والفِطرةِ، وأخَصُّ منه الهُدى الذي لا يُدرَكُ إلَّا مِن جهةِ الرُّسُلِ، وأخَصُّ منه الكِتابُ الذي أنزلَه اللهُ على رَسولِه؛ فإنَّ الهدى قد يَكونُ كِتابًا وقد يكونُ سُنَّةً

.

2- ذَكَر الله سُبحانَه التَّفصيلَ في مُجادَلةِ المتبوعِ الدَّاعي، وأنَّها: فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ، واكتفَى في ذِكْرِ التابعِ -في قوله سُبحانَه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ- بنفيِ العلمِ، المستلزمِ لنفيِ هذه الثلاثةِ؛ فإنَّ مجادلةَ المتبوع أصلٌ؛ وهو أقعدُ بها مِن مجادلةِ التَّابعِ، ومصدرُها كِبْرٌ، ومصدرُ مجادلةِ التَّابعِ ضلالٌ وتقليدٌ؛ فذَكَرَ حالَ المتبوعِ على التفصيلِ؛ ولهذا ذَكَرَ فسادَ قصدِه وعِلْمِه، وذَكَر مِن عقوبتِه أَشَدَّ ممَّا ذَكَرَ مِن عقوبةِ التَّابعِ، وهذا وأمثالُه مِن أسرارِ القرآنِ التي حرَّمَها اللهُ على مَن عارضَ بينَه وبينَ العقلِ، وقَدَّمَ العقلَ عليه .

3- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، أي: بعَمَلِك، ولكِنَّه جرت عادةُ العَرَبِ أن تُضيفَ الأعمالَ إلى اليَدِ؛ لأنَّها آلةُ أكثَرِ العَمَلِ، فبها يُزاوَلُ أكثرُ الأعمالِ، فغلبَتْ على غيرِها ، ولكونِ مباشرةِ المعاصي تكونُ بها في الغالبِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ كُرِّرَ ذِكْرُ المُجادَلةِ؛ وقد سبَق قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ [الحج: 3] ؛ وذلك مُبالَغةً في الذَّمِّ، ولكونِ كلِّ واحدةٍ اشتمَلَتْ على زِيادةٍ ليست في الأُخرى

. أو أنَّهما في الدعاةِ المضلِّينَ، واعتُبِر تغايرُ أوصافِهم فيها، وعليه؛ فلا تَكرارَ . وقيل: الأوَّلُ في المُقلِّدينَ ، وهذا في المُقلَّدينَ .

- قولُه: وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ والمُنِيرُ: المُبيِّنُ للحقِّ؛ شُبِّهَ بالمصباحِ المُضِيءِ في اللَّيلِ .

2- قَولُه تعالى: ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ

- قولُه: ثَانِيَ عِطْفِهِ كِنايةٌ عن الكِبْرياءِ والجَبروتِ؛ لأنَّ ذا الجَبروتِ لا تَعطُّفَ له ولا رَحمةَ؛ كأنَّه قِيلَ: مِنَ النَّاسِ مَن يُجادِلُ في اللهِ مُتجبِّرًا في نَفْسِه، ولا يَعْطِفُ على أحدٍ. وقيل: مُعرِضًا عن الحقِّ؛ استخفافًا به . أو هو تَمثيلٌ للتَّكبُّرِ والخُيلاءِ .

- وإفرادُ الضَّميرِ في قولِه: عِطْفِهِ وما ذُكِرَ بعْدَه (لِيُضِلَّ - لَهُ - وَنُذُيقُهُ)؛ مُراعاةً لِلَفْظِ (مَن)، وإنْ كان معنَى تلك الضَّمائرِ الجَمْعَ .

- وقولُه: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعليلٌ للمُجادَلةِ. وعلى قِراءةِ لِيَضِلَّ فيكونُ غرَضُه مِن جِدالِه الضَّلالَ عن سَبيلِ اللهِ؛ وعُلِّلَ به؛ لأنَّه لمَّا أدَّى جِدالُه إلى الضَّلالِ، جُعِلَ كأنَّه غرَضُه، ولمَّا كان الهُدى مُمْكِنًا له، فترَكَه وأعرَضَ عنه، وأقبَلَ على الجِدالِ بالباطلِ؛ جُعِلَ كالخارجِ مِن الهُدى إلى الضَّلالِ .

- وجُملةُ: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ مُستأْنَفةٌ، مَسوقةٌ لبَيانِ نَتيجةِ ما سلَكَه مِنَ الطَّريقةِ .

3- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ

- قولُه: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ فيه الْتفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ، والالْتفاتُ لتأْكيدِ الوعيدِ، وتَشديدِ التَّهديدِ، أو على إرادةِ قَولٍ مَحذوفٍ، أي: يُقالُ له يومَ القيامةِ .

- والتَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه مِن معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ بكَونِه في الغايةِ القاصيةِ مِن الهولِ والفَظاعةِ .

- وجُملةُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اعتراضٌ تَذييليٌّ، مُقرِّرٌ لمَضمونِ ما قبْلَها .

- وجاءت صِيغَةُ المُبالَغةِ بِظَلَّامٍ -مع أنَّ نفْيَ المبالغةِ لا يَستلزمُ نفْيَ الفِعلِ مِن أصلِه، والمرادَ بنَفْي المبالغةِ هو نفيُ الظُّلْمِ مِن أصلِه-؛ لكَثرةِ العَبيدِ؛ فاللهُ جلَّ وعلَا نفَى ظُلْمَه للعبيدِ، والعبيدُ في غايةِ الكثرةِ، والظُّلمُ المنفيُّ عنهم تَستلزِمُ كَثْرتُهم كَثْرتَه؛ فناسَبَ ذلك الإتيانُ بصِيغةِ المبالَغةِ؛ للدَّلالةِ على كَثرةِ المنفيِّ التابعةِ لكَثرةِ العبيدِ المنفيِّ عنهم الظُّلمُ؛ إذ لو وقَع على كلِّ عبدٍ ظُلمٌ، ولو قليلًا، كان مجموعُ ذلك الظُّلمِ في غايةِ الكَثرةِ؛ فالمرادُ بذلك نفْيُ أصْلِ الظُّلمِ عن كُلِّ عَبدٍ مِن أولئك العَبيدِ، الذين هم في غايةِ الكثرة، سُبحانَه وتعالى عن أنْ يَظلِمَ أحدًا شيئًا .

وقيل: نفيُ صِيغةِ المبالغةِ إذا دلَّتْ أدلَّةٌ مُنفصِلةٌ على أنَّ المُرادَ به نفيُ أصْلِ الفِعلِ؛ فلا إشكالَ؛ لقِيامِ الدليلِ على المرادِ، والآياتُ الدالَّةُ على نفْيِ الظُّلمِ مِن أصلِه عن اللهِ تعالى كثيرةٌ معروفةٌ؛ كقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ... [النساء: 40] ، وقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] ، وغيرِ ذلك من الآياتِ. أو: يكون المسوِّغُ لصِيغةِ المبالغةِ أنَّ عذابَه تعالَى بالِغٌ مِن العِظَمِ والشِّدَّةِ أنَّه لولا استحقاقُ المعذَّبِينَ لذلك العَذابِ بكُفرِهم ومَعاصيهم - لكان مُعذِّبُهم به ظلَّامًا بليغَ الظُّلمِ مُتفاقِمَه؛ سُبحانَه وتعالى عن ذلِك عُلوًّا كَبيرًا. أو: يكون المرادُ بالنفيِ في قوله: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نفيَ نِسبةِ الظُّلمِ إليه؛ لأنَّ صِيغةَ (فَعَّال) تُستعمَل مُرادًا بها النِّسبةُ؛ فتُغني عن ياءِ النَّسبِ؛ فقولُه تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، أي: وما رَبُّكَ بذِي ظُلمٍ للعَبيدِ . وقيل غيرُ ذلك .

- و(العبيد) ذُكِر هنا في معنى مسكنتِهم، وقلَّةِ قدرتِهم؛ فلذلك جاءَت هذه الصيغةُ .

================

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (11-13)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات :

 

عَلَى حَرْفٍ: أي: على شَكٍّ، والحَرفُ: الطَّرَفُ والجانِبُ، نحو حَرفِ الجبلِ الذي عليه القائمُ غيرُ مستقرٍّ، وأصلُ (حرف): يدلُّ على حَدِّ الشَّيءِ

.

فِتْنَةٌ: أي: ابتلاءٌ واختبارٌ بمكروهٍ يُصيبُه في أهلِه أو مالِه أو نفْسِه، وأصْلُ (فتن): يدُلُّ على اختِبارٍ وابتِلاءٍ .

انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ: أي: ارتَدَّ ورجَعَ عن دينِه إلى الكُفرِ، ويُطلَقُ الانقِلابُ كثيرًا على الانصرافِ منِ الجِهةِ التي أتاها إلى الجِهةِ التي جاء منها، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على رَدِّ شَيءٍ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ .

الْمَوْلَى: أي: الوَليُّ النَّاصِرُ، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ .

الْعَشِيرُ: أي: الصَّاحِبُ المُخالِطُ، وأصلُ (عشر): يدُلُّ على مُداخَلةٍ ومُخالَطةٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

قَولُه تعالى: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ

جملةُ يَدْعُو مُستأنفةٌ، ولَمَنْ ضَرُّهُ اللامُ زائدةٌ في المفعولِ للتأكيدِ، و(مَن) اسمٌ موصولٌ في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به، أي: يدعو مَنْ ضرُّه أقرَبُ، وضَرُّهُ أَقْرَبُ مبتدأٌ وخبَرٌ. ويؤيِّدُ هذا الوجهَ قراءةُ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ: (يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ)، وجملةُ ضَرُّهُ أَقْرَبُ صِلةُ (مَن) لا محَلَّ لها. وقيلَ: اللَّامُ في لَمَنْ للابتِداءِ مُزَحْلقةٌ عن محَلِّها الأصليِّ، وهي تُفيدُ تأكيدَ مَضمونِ الجُملةِ الواقِعةِ بَعدَها، وقُدِّمَت مِن تأخيرٍ؛ إذ حَقُّها أن تدخُلَ على صِلَةِ (مَنْ) الموصولةِ، والأصلُ: يدعو مَن لَضَرُّه أقرَبُ مِن نَفعِه. واللَّامُ في لَبِئْسَ واقعةٌ في جوابِ قَسَمٍ مُقَدَّر. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: ومِنَ النَّاسِ مَن يَعبدُ الله على شَكٍّ وترَدُّدٍ، فإنْ أصابه خيرٌ مِن صِحَّةٍ وسَعَةٍ وغَيرِهما، استمَرَّ على عبادتِه، وإنْ حصَلَ له ابتِلاءٌ بمَكروهٍ وشِدَّةٍ، رجَعَ عن دينِه، فهو بذلك قد خَسِرَ الدُّنيا؛ إذ لم يَظفَرْ بحاجَتِه منها، وحُرِمَ الطُّمأنينةَ ومُوالاةَ المُسلِمينَ، وخَسِرَ الآخِرةَ بدُخولِه النَّارَ، وذلك خُسرانٌ بيِّنٌ واضِحٌ.

يَدْعو ذلك المرتَدُّ آلِهةً مِن دُونِ اللهِ لا تضُرُّه ولا تنفَعُه، ذلك هو الضَّلالُ البَعيدُ عن الحَقِّ. يدعو مَن ضَرَرُه المحقَّقُ أقرَبُ مِن نَفْعِه، قَبُحَ ذلك المعبودُ نَصيرًا، وقَبُحَ عَشيرًا ومُصاحِبًا!

تفسير الآيات:

 

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المُظهِرينَ للشِّركِ المُجادِلينَ فيه؛ عقَّبَه بذِكرِ المُنافِقينَ

.

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى قِسْمَيِ المصارِحينَ بالكُفرِ الكثيفِ والأكثَفِ صريحًا، وأفهَمَ المؤمِنَ المُخلِصَ؛ عطَفَ على ذلك المُذبذَبَ .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ.

سَبَبُ النُّزولِ:

عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ: (كان الرَّجُلُ يَقدَمُ المدينةَ، فإنْ وَلَدَت امرأتُه غُلامًا، ونُتِجَت خَيلُه، قال: هذا دِينٌ صالِحٌ. وإنْ لم تَلِدِ امرأتُه، ولم تُنتَجْ خَيلُه، قال: هذا دينُ سَوْءٍ!) .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ.

أي: ومِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ على شكٍّ ؛ فلم يَدخُلِ الإيمانُ قَلْبَه على نحوٍ يَقينيٍّ، بل هو في شَكٍّ وقَلَقٍ وترَدُّدٍ في دينِ اللهِ .

فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ.

أي: فإنْ أصابَه خَيرٌ -كصِحَّةٍ، ورَخاءِ مَعيشةٍ، ورِزقٍ هَنيءٍ- ولم يقَعْ له مِنَ المكارِهِ شَيءٌ؛ رَضِيَ عن الإسلامِ، واستقَرَّ وثَبَتَ على عبادةِ اللهِ !

وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ.

أي: وإن أصابَتْه مِحنةٌ وإنْ قَلَّتْ -كبَلاءٍ في بَدَنِه أو أهلِه، أو ضيقٍ في مَعيشَتِه- ارتدَّ فرَجَع إلى الوجهِ الَّذي كانَ عليه مِن الكفرِ !

كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت: 10-11].

وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ أعرابيًّا بايَعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الإسلامِ، فأصاب الأعرابيَّ وَعْكٌ بالمدينةِ، فأتى الأعرابيُّ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أقِلْني بَيعَتي ، فأبى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ جاءَه، فقال: أقِلْني بَيعَتي، فأبى، ثمَّ جاءَه فقال: أقِلْني بيعَتي، فأبى، فخرجَ الأعرابيُّ، فقال رَسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّما المدينةُ كالكِيرِ؛ تَنفي خَبَثَها، ويَنصَعُ طَيِّبُها ) .

خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ.

أي: خَسِرَ هذا المُنقَلِبُ على وَجهِه خيرَ دُنياه، فلم يَظفَرْ بحاجَتِه منها، وحُرِمَ الطُّمَأنينةَ وثَناءَ المُسلِمينَ ومُوالاتَهم، وخَسِرَ خَيرَ آخِرتِه بدُخولِ النارِ، والحِرمانِ مِن الجَنَّةِ !

ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.

أي: خَسارَتُه لِدُنياه وأُخراه هي الخَسارةُ العَظيمةُ البَيِّنةُ التي لا تَخفَى .

يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12).

يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ.

أي: يدعو ذلك المرتَدُّ عن دينِ اللهِ آلِهةً سوى الله لا تضُرُّه ولا تَنفَعُه بذاتِها مُطلَقًا بأيِّ وَجهٍ مِن وُجوهِ الضُّرِّ أو النَّفعِ .

ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ .

أي: دُعاءُ غيرِ اللهِ هو الذَّهابُ البَعيدُ عن الحَقِّ .

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

بعْدَ أن بيَّن لهم أنَّهم يعبدونَ ما لا غَناءَ لهم فيه، زاد فبيَّن أنَّهم يعبُدونَ ما فيه ضُرٌّ، فمضمونُ الجُملةِ ارتقاءٌ في تضليلِ عابدي الأصنامِ، وموضِعُ الارتقاءِ هو مضمونُ جملةِ مَا لَا يَضُرُّهُ [الحج: 12] ، كأنَّه قيل: ما لا يضُرُّه، بل ما ينجَرُّ له منه ضُرٌّ .

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.

أي: يَدعو المُشرِكُ مَخلوقًا ضَرَرُ عبادتِه أقرَبُ إليه مِن نَفعِها .

لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ.

أي: لَبِئسَ النَّاصِرُ هذا المعبودُ مِن دُونِ اللهِ! ولَبِئسَ المُعاشِرُ والمصاحِبُ هو؛ فإنَّه لا يَنصُرُ عابِدَه، ولا يجلِبُ له خيرًا ولا نَفعًا

 

!

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ هذا بخِلافِ الرَّاسِخِ في إيمانِه؛ فإنَّه إن أصابَتْه سَرَّاءُ شكَر، وإنْ أصابَتْه ضَرَّاءُ حَمِدَ وصَبَر؛ فكُلُّ قَضاءِ اللهِ له خيرٌ

.

2- قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وقال أيضًا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ؛ فلا بُدَّ مِن أذًى لكلِّ مَن كان في الدُّنيا، فإنْ لم يَصبِرْ على الأذَى في طاعةِ اللهِ، بلِ اختارَ المعصيةَ؛ كان ما يَحصُلُ له مِن الشرِّ أعظمَ ممَّا فرَّ منه بكثيرٍ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49] . ومَنِ احتَملَ الهوانَ والأذى في طاعةِ اللهِ على الكَرامةِ والعِزِّ في مَعصيةِ اللهِ -كما فعَلَ يُوسُفُ عليه السلامُ وغيرُه مِن الأنبياءِ والصَّالحينَ- كانتْ العاقبةُ له في الدُّنيا والآخِرَةِ، وكان ما حصَل له مِن الأذَى قد انقَلَب نعيمًا وسرورًا، كما أنَّ ما يَحصُلُ لأربابِ الذُّنوبِ مِن التنعُّمِ بالذُّنوبِ يَنقلِبُ حُزنًا وثُبورًا .

3- العَبدُ على الحَقيقةِ مَن قام بعبوديَّةِ اللهِ على اختِلافِ الأحوالِ، وأمَّا عَبدُ السَّرَّاءِ والعافيةِ الذي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، فليس مِن عَبيدِه الذين اختارَهم لعُبوديَّتِه؛ فلا رَيبَ أنَّ الإيمانَ الذى يَثبُتُ على محَلِّ الابتِلاءِ والعافيةِ هو الإيمانُ النَّافِعُ وَقتَ الحاجةِ، وأمَّا إيمانُ العافيةِ فلا يكادُ يَصحَبُ العَبدَ، ويُبلِّغُه مَنازِلَ المُؤمِنينَ، وإنَّما يَصحَبُه إيمانٌ يَثبُتُ على البلاءِ والعافيةِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- إنْ قِيلَ: إنَّ الله تعالى قال: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، ومُقابِلُ الخيرِ هو الشَّرُّ، فلماذا قال: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، ولم يقُلْ: (وإنْ أصابَه شَرٌّ انقلَبَ على وجهِه)؟

فالجوابُ: لأنَّ ما يَنفِرُ عنه الطبعُ ليس شرًّا في نفْسِه، بل هو سَببُ القُربةِ ورفعِ الدَّرجةِ بشرطِ التَّسليمِ والرِّضا بالقضاءِ

، وأيضًا فلَمَّا كانتِ الشِّدَّةُ ليستْ بقبيحةٍ، لم يقُلْ تعالى: (وإنْ أصابَه شَرٌّ)، بلْ وصَفَه بما لا يُفيدُ فيه القُبحَ .

2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ فيه سُؤالٌ: كيفَ قال: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، والخيرُ أيضًا فِتنةٌ؛ لأنَّه امتحانٌ، وقال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35]  ؟

الجوابُ: أنَّ مِثلَ هذا كثيرٌ في اللُّغةِ؛ لأنَّ النِّعمةَ بلاءٌ وابتلاءٌ، لقولِه: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ [الفجر: 15] ، ولكن إنَّما يُطلقُ اسمُ (البَلاء) على ما يَثقُلُ على الطَّبعِ، والمنافقُ ليس عِندَه الخيرُ إلَّا الخيرُ الدُّنيويُّ، وليس عِندَه الشرُّ إلَّا الشرُّ الدُّنيويُّ؛ لأنَّه لا دِينَ له؛ فلذلك وردتِ الآيةُ على ما يَعتقِدونَه، وإنْ كان الخيرُ كلُّه فِتنةً، لكنْ أكثرُ ما يُستعمَلُ فيما يَشتدُّ ويَثقُلُ .

3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ فيه سؤالٌ: إذا كانتِ الآيةُ في المنافِقِ؛ فمَا معنى قولِه: انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وهو في الحقيقةِ لم يُسلِمْ حتى يَنقلِبَ ويرتدَّ؟

والجوابُ: أنَّ المرادَ أنَّه أظهرَ بلسانِه خِلافَ ما كان أَظْهَره، فصارَ يَذُمُّ الدِّينَ عِندَ الشِّدَّةِ، وكان مِن قَبلُ يَمْدَحُه، وذلك انقلابٌ في الحقيقةِ .

4- ذَكرَ اللهُ تعالى في آياتِ هذه السورةِ ثَلاثةَ أصنافٍ: صِنفٌ يُجادِلُ في اللهِ بغَيرِ عِلمٍ، ويَتَّبِعُ كلَّ شيطانٍ مَريدٍ، مكتوبٍ عليه إضلالُ مَن تَولَّاه، وهذه حالُ المتَّبِعِ لِمَن يُضلُّه. وصِنفٌ يُجادِلُ في اللهِ بغَيرِ عِلمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنيرٍ، ثانِيَ عِطْفِه ليُضِلَّ عن سَبيلِ اللهِ، وهذه حالُ المتبوعِ المُستكبِرِ الضالِّ عن سبيلِ اللهِ. ثُمَّ ذَكَر حالَ مَن يَعبُدُ اللهَ على حَرْفٍ، وهذه حالُ المتَّبعِ لهواهُ، الذي إنْ حصَلَ له ما يَهواه مِن الدُّنيا عبَدَ اللهَ، وإنْ أصابَه ما يُمتَحَنُ به في دُنياهُ ارتدَّ عن دِينِه؛ فهذه حالُ مَن كان مريضًا في إرادتِه وقصْدِه، وهي حالُ أهلِ الشَّهواتِ والأهواءِ .

5- كلُّ مَن يملِكُ الضُّرَّ والنفعَ فإنَّه هو المعبودُ حقًّا، والمعبودُ لا بدَّ أن يكونَ مالكًا للنفعِ والضَّررِ؛ ولهذا أنكَر الله تعالى على مَن عبَد مِن دونِه ما لا يملكُ ضرًّا ولا نفعًا، وذلك كثيرٌ في القرآنِ، ومِن ذلك قولُه تعالى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ .

6- قَولُ اللهِ تعالى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ فيه سؤالٌ: الضَّرَرُ والنَّفعُ مَنفيَّانِ عن الأصنامِ، مُثبَتانِ لها في الآيتَينِ، وهذا قد يُتوَهَّمُ أنَّه تناقُضٌ؟

وللعُلماءِ أوْجُهٌ في الجوابِ عن ذلِك:

منها: أنَّ الأصنامَ لا تَضرُّ ولا تَنفعُ بأنفُسِها، ولكنْ عِبادتُها نُسِب الضَّرَرُ إليها، كقولِه: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] ، أضافَ الإضلالَ إليهم؛ إذ كانوا سَببَ الضلالِ؛ فكذا هنا: نفْيُ الضررِ عنهم؛ لكونِها ليستْ فاعلةً، ثم أضافَه إليها؛ لكونِها سَببَ الضَّررِ .

ومنها: أنَّ الأصنامَ في الحقيقةِ لا تَضرُّ ولا تَنفَعُ، بيَّن ذلك في الآيةِ الأولى، ثم أثْبَتَ لها الضرَّ والنفعَ في الثانيةِ على طريقِ التَّسليمِ؛ أي: ولو سَلَّمْنا كونَها ضارَّةً نافعةً، لكان ضَرُّها أكثرَ مِن نفْعِها .

ومنها: أنَّ المنفيَّ هو فِعلُهم، بقولِه: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ، والمُثبَتَ اسمٌ مضافٌ إليه، فإنَّه لم يقُلْ: (يَضرُّ أعظمَ ممَّا يَنفَعُ)؛ بل قال: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، والشَّيءُ يُضافُ إلى الشَّيءِ بأدْنَى مُلابسةٍ؛ فلا يجبُ أنْ يكونَ الضَّرُّ والنَّفعُ المُضافانِ مِن بابِ إضافةِ المصدرِ إلى الفاعِلِ، بل قد يُضافُ المصدرُ مِن جِهةِ كونِه اسمًا، كما تُضافُ سائرُ الأسماءِ، وقدْ يُضافُ إلى مَحلِّه وزَمانِه ومكانِه وسَببِ حُدوثِه وإنْ لم يكُنْ فاعلًا؛ كقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سبأ: 33] ، ولا ريبَ أنَّ بينَ المعبودِ مِن دُونِ اللهِ وبين ضَرَرِ عابدِيه تعلُّقًا يَقتضي الإضافةَ، كأنَّه قيل: لَمَنْ شَرُّهُ أقربُ مِن خيَرِه، وخَسارتُه أقربُ مِن رِبحِه. فهكذا المدعوُّ المعبودُ مِن دونِ اللهِ الذي لم يَأمُرْ بعِبادةِ نفْسِه؛ إمَّا لكونِه جَمادًا، وإمَّا لكونِه عبدًا مُطيعًا للهِ مِن الملائكةِ والأنبياءِ والصَّالحينَ مِن الإنسِ والجِنِّ؛ فما يُدْعَى مِن دُونِ اللهِ هو لا يَنفعُ ولا يَضرُّ، لكنْ هو السَّببُ في دُعاءِ الداعي له، وعِبادتِه إيَّاه، وعِبادةُ ذاك ودُعاؤُه هو الذي ضَرَّه؛ فهذا الضَّرُّ المضافُ إليه غيرُ الضَّرِّ المنفيِّ عنه ؛ فلمَّا كان الضَّرُّ الحاصلُ من الأصنامِ ليس ضَرًّا ناشئًا عن فِعلِها، بل هو ضَرٌّ مُلابِسٌ لها، أَثبَتَ الضرَّ بطريقِ الإضافةِ للضميرِ دون طريقِ الإسنادِ؛ إذ قال تعالى: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، ولم يقُلْ: (لَمَن يَضرُّ ولا يَنفَعُ)؛ لأنَّ الإضافةَ أوسعُ مِن الإسنادِ؛ فلمْ يَحصُلْ تَنافٍ بين قولِه: مَا لَا يَضُرُّهُ [الحج: 12] ، وقولِه: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ [الحج: 13]

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ مثَلٌ لكونِهم على قلَقٍ واضطرابٍ في دِينِهم، لا على سُكونٍ وطُمأْنينةٍ، بتَمثيلِ حالِ المُتردِّدِ في عَمَلِه يُريدُ تَجرِبةَ عاقِبَتِه، بحالِ مَن يَمْشي على حَرفِ جبَلٍ أو حَرفِ وادٍ، فهو مُتهيِّئٌ لأنْ يَزِلَّ عنه إلى أسفَلِه، فيَنقلِبَ

، والحَرفُ هنا كِنايةٌ عن المقصدِ .

- وقولُه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ كالتَّوضيحِ والبَيانِ للجُملةِ السَّابقةِ، وتَكريرُ معنى الخُسرانِ والتَّصويرِ؛ لأنَّ فائدةَ البدَلِ التَّفسيرُ والتَّوكيدُ .

- وجُملةُ: ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ مُعترِضةٌ بين جُملةِ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وجُملةِ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ. والإتيانُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ؛ لزِيادةِ تَمييزِ المُسنَدِ إليه أتَمَّ تَمييزٍ؛ لتَقريرِ مَدلولِه في الأذهانِ .

- والتَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه مِن معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ بكونِه في غايةِ ما يَكونُ .

- والقصْرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ المُسنَدِ الْخُسْرَانُ قَصرٌ ادِّعائيٌّ ، والمقصودُ منه: تَحقيقُ الخبَرِ، ونَفْيُ الشَّكِّ في وُقوعِه. وضَميرُ الفصْلِ أكَّدَ معنى القصْرِ؛ فأفادَ تَقويةَ الخبرِ المقصورِ .

2- قَولُه تعالى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ

- قولُه: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ استئنافٌ مُبيِّنٌ لعِظَمِ الخُسرانِ .

- وفي تَقديمِ الضَّرِّ على النَّفعِ: إشارةٌ إلى أنَّه تَملَّصَ مِن الإسلامِ تَجنُّبًا للضَّرِّ؛ لتَوهُّمِه أنَّ ما لَحِقَه مِن الضَّرِّ بسبَبِ الإسلامِ وبسَببِ غضَبِ الأصنامِ عليه، فعاد إلى عِبادةِ الأصنامِ حاسِبًا أنَّها لا تضُرُّه. وفي هذا الإيماءِ تَهكُّمٌ به، يَظهَرُ بتَعقيبِه بـ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ .

- قولُه: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ فيه الإتيانُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ؛ لزيادةِ تَمييزِ المُسنَدِ إليه أتَمَّ تَمييزٍ؛ لتَقريرِ مَدْلولِه في الأذهانِ. والقَصرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ المُسنَدِ الضَّلَالُ قَصرٌ ادِّعائيٌّ، والمقصودُ منه: تَحقيقُ الخبرِ، ونَفْيُ الشَّكِّ في وُقوعِه. وضَميرُ الفصْلِ أكَّدَ معنى القَصرِ؛ فأفاد تَقويةَ الخبَرِ المقصورِ .

3- قولُه تعالى: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ مآلِ دُعائِه المذكورِ، وتَقريرِ كَونِه ضَلالًا بعيدًا، مع إزاحةِ ما عسَى يُتَوهَّمُ مِن نَفْيِ الضَّررِ عن مَعبودِه بطريقِ المُباشَرةِ، ونَفْيِه عنه بطَريقِ التَّسبُّبِ أيضًا. ويجوزُ أنْ يكونَ الفِعْلُ يَدْعُو الثَّاني إعادةً للأوَّلِ، لا تأكيدًا له فقط، بل وتَمهيدًا لِمَا بعْدَه من بَيانِ سُوءِ حالِ مَعبودِه إثْرَ بَيانِ سُوءِ حالِ عبادتِه، بقولِه تعالى: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ؛ كأنَّه قِيلَ من جِهَتِه تعالى بعْدَ ذِكْرِ عبادتِه لِمَا لا يَضُرُّه ولا ينفَعُه: (يَدْعو ذلك)، ثمَّ قيلَ: (لمَن ضَرُّه أقرَبُ مِن نَفعِهِ واللهِ لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العَشيرُ)؛ فكلمةُ (مَن) وصِيغةُ التَّفضيلِ أَقْرَبُ للتَّهكُّمِ به .

- قولُه: لَمَنْ ضَرُّهُ اللَّامُ للابتداءِ -على قولٍ-، وهي تُفِيدُ تأْكيدَ مَضمونِ الجُملةِ الواقعةِ بعْدَها، فلامُ الابتداءِ تُفِيدُ مُفادَ (إنَّ) مِن التَّأكيدِ .

- قولُه: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فيه إيثارُ (مَن) على (مَا)، مع كونِ مَعبودِه جَمادًا، وإيرادُ صِيغَةِ التَّفضيلِ أَقْرَبُ مع خُلُوِّه عن النَّفعِ بالمرَّةِ؛ للمُبالَغةِ في تَقبيحِ حالِه، والإمعانِ في ذَمِّه . وكونُه أقرَبَ مِن النَّفعِ كِنايةٌ عن تَمحُّضِه للضَّرِّ، وانتفاءِ النَّفعِ منه؛ لأنَّ الشَّيءَ الأقرَبَ حاصِلٌ قبْلَ البعيدِ؛ فيَقْتضي ألَّا يَحصُلَ معه إلَّا الضَّرُّ .

=============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (14-17)

ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ

غريب الكلمات :

 

بِسَبَبٍ: أي: بحَبلٍ، وأصلُ (سبب): يدُلُّ على طولٍ وامتِدادٍ

.

وَالصَّابِئِينَ: جمْعُ صابئٍ، ويُقالُ لكلِّ خارجٍ مِن دِينٍ إلى دينٍ آخرَ، والصابئونَ فِرقٌ؛ منها: الصابئةُ الحُنفاءُ، ومنها صابئةٌ مشركونَ، ومنها صابئةٌ فلاسفةٌ، إلى غيرِ ذلك، وأصلُ (صبأ): يدُلُّ على خروجٍ وبُروزٍ، يُقالُ: صبأَتِ النُّجُومُ؛ إذا خرَجتْ مِن مطالعِها .

وَالْمَجُوسَ: هم أهلُ دينٍ يُثبِتُ إلَهَينِ: إلهًا للخَيرِ، وإلهًا للشَّرِّ، وهم أهلُ فارسَ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: إنَّ اللهَ يُدخِلُ الذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، وعَمِلوا الصَّالحاتِ، جَنَّاتٍ تَجري مِن تَحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ، إنَّ اللهَ يَفعَلُ ما يريدُ. مَن كان يعتَقِدُ أنَّ اللهَ تعالى لن ينصُرَ رَسولَه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّنيا وفي الآخرةِ، فلْيَمدُدْ حَبلًا إلى سَقفِ بَيتِه، ولْيَخنُقْ به نَفْسَه، ثمَّ لْيَنظُرْ: هل يُذْهِبنَّ ذلك ما يجِدُ في نَفسِه مِن الغَيظِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى ناصِرٌ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُتِمُّ نُورِه لا محالةَ.

وكما بَيَّنَ اللهُ تعالى الآياتِ السَّابِقةَ وأوضَحَها، أنزَلَ القُرآنَ آياتُه واضِحةٌ في لَفظِها ومَعناها؛ ولأنَّ اللهَ يَهدي بهذا القُرآنِ إلى الحَقِّ مَن يريدُ هِدايَتَه، أنزَلَه آياتٍ بَيِّناتٍ.

إنَّ الذين آمَنوا باللهِ ورُسُلِه، واليَهودَ والصَّابئينَ والنَّصارى والمجوسَ والذين أشرَكوا؛ إنَّ الله يَفصِلُ بينهم جميعًا يومَ القيامةِ، فيُدخِلُ المُؤمِنينَ الجَنَّةَ، ويُدخِلُ الكافرينَ النَّارَ، إنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ شَهيدٌ، لا يخفى عليه شَيءٌ سُبحانَه.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا بيَّنَ اللهُ سُبحانَه في الآيةِ السَّابِقةِ حالَ عِبادةِ المُنافِقينَ وحالَ مَعبودِهم؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ صِفةَ عِبادةِ المُؤمِنينَ وصِفةَ مَعبودِهم

.

وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالى المجادِلَ بالباطِلِ، وأنَّه على قِسمَينِ: مُقلِّد، وداعٍ؛ ذَكَر أنَّ المُتسمِّيَ بالإيمانِ أيضًا على قِسمَينِ: قِسْمٌ لم يَدخُلِ الإيمانُ قلبَه. والقِسمُ الثاني: المؤمِنُ حقيقةً، وهو الذي صدَّق ما معه من الإيمانِ بالأعمالِ الصَّالحةِ، فأخْبَر تعالى أنَّه يُدخِلُ أصحابَ هذا القسمِ جَنَّاتٍ تَجري مِن تَحتِها الأنهارُ .

وأيضًا لَمَّا ذَكَر أنَّ الأصنامَ لا تَنفَعُ مَن عبَدَها، قابَلَ ذلك بأنَّ اللهَ يَنفَعُ مَن عَبَدَه بأعظمِ النَّفعِ، وهو دُخولُ الجَنَّةِ .

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

أي: إنَّ اللهَ يُدخِلُ يومَ القيامةِ الذين آمَنوا بكُلِّ ما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ- جَناتٍ تَجري الأنهارُ مِن تَحتِ أشجارِها وقُصورِها .

إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.

أي: إنَّ اللهَ يَفعَلُ كُلَّ ما يُريدُ فِعلَه مِن نَفعٍ أو ضُرٍّ دونَ مُمانِعٍ، ويَحكُمُ في خَلقِه في الدُّنيا والآخرةِ بما يَشاءُ، ومِن ذلك إيصالُ أهلِ الجَنَّةِ إليها .

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15).

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ.

أي: مَن كان يَظُنُّ أنَّ اللهَ ليس بناصرٍ رَسولَه مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّنيا والآخرةِ، فلْيُعَلِّقْ حَبلًا في سقفِ بيتِه، ويَشُدَّه في عُنُقِه .

كما قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران: 119] .

وقال سُبحانَه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] .

ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ.

أي: ثُمَّ لْيَختَنِقْ بالحَبلِ، فلْيَنظُرْ حينَها: هل يُذهِبَنَّ صَنيعُه هذا ما يَغيظُه؟! كلَّا، لا يُغْني ذلك عنه شيئًا، وإنما يقَعُ ضَرَرُ كَيدِه على نفْسِه، واللهُ مُتِمُّ نُورِه، وناصرٌ نبيَّه .

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16).

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ.

أي: وكما بَيَّنَّا لكم الآياتِ السَّابِقةَ وأوضَحْناها، كذلك أنزَلْنا القُرآنَ كُلَّه آياتٍ واضِحاتِ الدَّلالةِ .

وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ.

أي: ولأنَّ اللهَ يَهدي بهذا القُرآنِ إلى الحَقِّ مَن يريدُ هِدايَتَه، أنزَلَه آياتٍ بَيِّناتٍ .

كما قال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] .

وقال سُبحانه: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] .

وقال عزَّ وجَلَّ: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15-16] .

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذَكَر قَبْلُ أنَّ اللهَ يَهدي مَن يُريدُ؛ عقَّبَ ذلك ببيانِ مَن يَهدِيه ومَن لا يَهديه؛ لأنَّ ما قَبْلَه يَقتضي أنَّ مَن لا يُريدُ هِدايتَه لا يَهديه، فدَلَّ إثباتُ الهِدايةِ لِمَن يُريدُ على نَفْيِها عمَّن لا يُريدُ .

وأيضًا لَمَّا اشتَمَلت الآياتُ السَّابِقةُ على بيانِ أحوالِ المترَدِّدينَ في قَبولِ الإسلامِ، كان ذلك مَثارًا لأنْ يُتساءَلَ عن أحوالِ الفِرَقِ بَعضِهم مع بَعضٍ في مُختَلفِ الأديانِ، وأن يُسألَ عن الدِّينِ الحَقِّ؛ لأنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَدَّعي أنَّها على الحَقِّ وغَيرَها على الباطِلِ، وتجادِلُ في ذلك، فبَيَّنَت هذه الآيةُ أنَّ الفَصلَ بينَ أهلِ الأديانِ فيما اختَصَموا فيه يكونُ يومَ القيامةِ؛ إذ لم تُفِدْهمُ الحُجَجُ في الدُّنيا .

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

أي: إنَّ المُؤمِنينَ باللهِ ورُسُلِه، واليَهودَ، والصَّابِئينَ ، والنَّصارى، والمجوسَ، والمُشرِكينَ باللهِ- إنَّ اللهَ يَحكُمُ بينهم يومَ القيامةِ، ويُجازي كُلًّا بعَمَلِه؛ فيُدخِلُ المُؤمِنينَ منهم الجنَّةَ، ويُدخِلُ الكافرينَ النَّارَ .

إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

أي: إنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ مِن أعمالِ هؤلاء الأصنافِ، وغَيرِ ذلك مِن الأشياءِ كُلِّها- شَهيدٌ لا يخفى عليه شَيءٌ

 

.

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ [آل عمران: 5] .

الفوائد التربوية :

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ هذه الآيةُ الكَريمةُ فيها مِنَ الوَعدِ والبِشارةِ بنَصرِ اللهِ لدِينِه ولِرَسولِه وعبادِه المُؤمِنينَ ما لا يَخفَى، ومِن تَأيِيسِ الكافرينَ الذين يُريدونَ أن يُطفِئوا نورَ اللهِ بأفواهِهم، واللهُ مُتِمُّ نُورِه، ولو كَرِهَ الكافِرونَ

.

2-  قَولُ اللهِ تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ فيه أنَّ اللهَ فَصَّلَ في هذا القُرآنِ ما فَصَّلَ، وجعَلَه آياتٍ بَيِّناتٍ واضحاتٍ، دالَّاتٍ على جَميعِ المطالِبِ والمسائِلِ النَّافِعةِ، ولكِنَّ الهِدايةَ بيَدِ اللهِ، فمَن أراد اللهُ هدايَتَه، اهتَدَى بهذا القُرآنِ، وجعَلَه إمامًا له وقُدوةً، واستضاءَ بنُورِه، ومَن لم يُرِدِ اللهُ هِدايَتَه، فلو جاءَتْه كُلُّ آيةٍ ما آمَنَ، ولم ينفَعْه القُرآنُ شَيئًا، بل يكونُ حُجَّةً عليه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ الإرادةُ في هذه الآيةِ هي إرادةٌ كونيَّةٌ -وهي التي بمعنى المَشيئةِ-، ويُقابِلُها الإرادةُ الشَّرعيَّةُ -وهي التي بمعنى المحبَّةِ-، كما في قَولِه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ

[البقرة: 185] .

2- قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ، وفي سُورة (البَقرةِ) و(المائدةِ) ذكَرَ أربعةَ أصنافٍ: المُسلمينَ، والذين هادُوا، والنَّصارى، والصَّابئِينَ، ثمَّ قال: مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] ؛ فذَكَر سِتَّ أُممٍ، مِنهم: اثنتانِ شَقِيَّتانِ، وأربعٌ منهم مُنقسِمةٌ إلى شَقيٍّ وسعيدٍ، وحيثُ وعَدَ أهلَ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ منهم بالأجْرِ ذَكَرَهم أربعَ أُممٍ لَيس إلَّا؛ ففي آيةِ الفَصلِ بينَ الأممِ أَدخلَ معهم الأُمَّتَينِ، وفي آيةِ الوَعدِ بالجزاءِ لم يُدخِلْها معهم؛ فعُلِمَ أنَّ الصابئينَ فيهم المؤمنُ والكافرُ، والشَّقيُّ والسَّعيدُ .

3- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ذكَرَ المِلَلَ السِّتَّ؛ ليُبَيِّنَ أنَّه يَفصِلُ بيْنهم يومَ القيامةِ، ولم يُثْنِ عليهم، فلم يُثْنِ سُبحانَه على أحدٍ مِنَ المجوسِ والمُشرِكينَ، كما أثنى على بَعضِ الصَّابِئينَ واليَهودِ والنَّصارى في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] ، وهذا مما استدَلَّ به جمهورُ العُلَماءِ على أنَّ المجوسَ لَيسُوا أهلَ كِتابٍ، فلا تُباحُ ذَبائِحُهم، ولا نِكاحُ نِسائِهم؛ إذ لو كانوا أهلَ كتابٍ لكان فيهم مَن يُثني اللهُ عليه، كما كان في اليَهودِ والنَّصارى

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ استئنافٌ جِيءَ به لبَيانِ كَمالِ حُسْنِ حالِ المُؤمنينَ العابدينَ له تعالى، وأنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يتفضَّلُ عليهم بما لا غايةَ وراءَهُ مِن أجَلِّ المنافعِ، وأعظمِ الخيراتِ

.

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ تَذييلٌ للكلامِ المُتقدِّمِ، وهو اعتراضٌ بينَ الجُمَلِ المُلْتَئمِ منها الغرَضُ. وفي الجُملةِ أيضًا معنى التَّعليلِ الإجماليِّ لاختلافِ أحوالِ النَّاسِ في الدُّنيا والآخرةِ .

2- قولُه تعالى: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ في الكلامِ اختصارٌ، والمعنى: إنَّ اللهَ ناصِرٌ رسولَه في الدُّنيا والآخرةِ؛ فمَن كان يَظُنُّ مِن حاسِديهِ وأعادِيهِ أنَّ اللهَ يَفعَلُ خِلافَ ذلك ويَطمَعُ فيه، ويَغِيظُه أنَّه يَظفَرُ بمَطلوبِه؛ فلْيستقْصِ وُسْعَه ولْيستفرِغْ مَجهودَه في إزالةِ ما يَغيظُه، بأنْ يَفعَلَ ما يفعَلُ مَن بلَغَ منه الغيظُ كلَّ مَبلغٍ، حتَّى مَدَّ حبْلًا إلى سماءِ بَيتِه فاخْتنَقَ، فلْينظُرْ ولْيصوِّرْ في نَفْسِه أنَّه إنْ فعَلَ ذلك، هل يُذهِبُ نَصْرَ اللهِ الَّذي يَغِيظُه ؟

- وفي قولِه: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ تَوبيخٌ، وهذا على جِهَةِ المثَلِ السَّائرِ: (دُونَك الحبْلَ فاختَنِقْ)، وسَمَّى الاختناقَ قطْعًا؛ لأنَّ المُختنِقَ يَقطَعُ نفَسَهُ بحبْسِ مَجاريه، أي: كَنَّى عن الاختناقِ بالقطْعِ؛ فإنَّه لازِمُه، كما تقولُ العربُ: قُطِعَ فُلانٌ؛ إذا اختنَقَ. ولأنَّ المُختنِقَ يمُدُّ السَّببَ إلى السَّقفِ، ثمَّ يَقطَعُ نفَسَهُ من الأرضِ حتَّى يَختنِقَ. وسَمَّى فِعْلَه كيدًا؛ لأنَّه وضَعَه مَوضِعَ الكيدِ، حيث لم يَقدِرْ على غيرِه. أو على سَبيلِ الاستهزاءِ؛ لأنَّه لم يَكِدْ به مَحسودَهُ، إنَّما كاد به نفْسَه .

- وقد فُسِّرَ النَّصرُ بالرِّزقِ؛ فعلى هذا فالكلامُ تامٌّ ولم يَدخُلْه الاختصارُ، والضَّميرُ في يَنْصُرَهُ لكلِّ أحدٍ، وهو راجعٌ إلى (مَنْ)؛ وحينئذٍ تكونُ الآيةُ مُتَّصِلةً بقولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، ويكونُ قولُه: يَدْعُو إلى آخِرِ الآياتِ مُعترِضةً مُؤكِّدةً لِمَعنى تَجهيلِهم، وأنَّ اللهَ هو القابِضُ الباسِطُ، وهو الضَّارُّ النَّافعُ وحْدَه ، وذلك على أحدِ الأوجُهِ في التفسيرِ.

- ويحتملُ أنْ يكونَ مَوقِعُ هذه الآيةِ استئنافًا ابتدائيًّا، أُرِيدَ به ذِكْرُ فَريقٍ ثالثٍ غيرِ الفريقينِ المُتقدِّمَينِ. ويحتملُ أنْ يكونَ مَوقِعُها تذييلًا لقولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج: 11] الآيةَ، بعْدَ أنِ اعتُرِضَ بين تلك الجُملةِ وبين هاتِه بجُمَلٍ أُخرى، فيكونُ المُرادُ: أنَّ الفريقَ الَّذين يَعبدونَ اللهَ على حَرفٍ والمُخبَرَ عنهم بقولِه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ [الحج: 11] ، هم قومٌ يَظنُّونَ أنَّ اللهَ لا يَنصُرُهم في الدُّنيا ولا في الآخرةِ إنْ بَقُوا على الإسلامِ. وعُلِّقَ فِعْلُ لَنْ يَنْصُرَهُ بالمجرورِ بقولِه: فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ؛ إيماءً إلى كَونِه مُتعلَّقَ الخُسرانِ في قولِه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ [الحج: 11] ، ولم تُورَدْ فيه جُملةُ (ومِن النَّاسِ) كما أُورِدَتْ في ذِكْرِ الفريقينِ السَّابقينِ، ويكونُ المقصودُ من الآيةِ تَهديدَ هذا الفريقِ؛ فيكونُ التَّعبيرُ عن هذا الفريقِ بقولِه: مَنْ كَانَ يَظُنُّ ... إلخ، إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ؛ فإنَّ مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُؤْتَى بضَميرِ ذلك الفريقِ، فيُقالُ بعْدَ قولِه: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [الحج: 14] : فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ... إلخ، عائدًا الضَّميرُ المُستتِرُ في قولِه: فَلْيَمْدُدْ على مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [الحج: 11] . والعُدولُ عن الإضمارِ إلى الإظهارِ لوَجْهينِ؛ أحدُهما: بُعْدُ مُعادِ الضَّميرِ، وثانيهما: التَّنبيهُ على أنَّ عِبادتَه اللهَ على حَرفٍ ناشئةٌ عن ظَنِّه أنْ لنْ يَنصُرَه اللهُ في الدُّنيا والآخرةِ إنْ صَمَّمَ على الاستمرارِ في اتِّباعِ الإسلامِ؛ لأنَّه غيرُ واثقٍ بوعْدِ النَّصرِ للمُسلمينَ. والآيةُ -على هذا المعنَى في التفسيرِ- فيها إيجازٌ بَديعٌ؛ شُبِّهَت حالةُ استبطانِ هذا الفريقِ الكُفْرَ وإظهارِهم الإسلامَ على حَنَقٍ، أو حالةُ تَردُّدِهم بين البَقاءِ في المُسلمينَ وبين الرُّجوعِ إلى الكُفَّارِ، بحالةِ المُغْتاظِ ممَّا صنَعَ، فقيل لهم: عليكم أنْ تَفْعلوا ما يَفعَلُه أمثالُكم ممَّن ملَأَهمُ الغيظُ، وضاقت عليهم سُبُلُ الانفراجِ، فامْدُدوا حبْلًا بأقْصى ما يُمَدُّ إليه حبْلٌ، وتَعلَّقوا به في أعْلى مكانٍ، ثمَّ قَطِّعُوهُ؛ تَخِرُّوا إلى الأرضِ -وذلك على قولٍ في التفسيرِ-، وذلك تَهكُّمٌ بهم في أنَّهم لا يَجِدون غِنًى في شَيءٍ مِن أفعالِهم، وإنذارٌ باستمرارِ فِتْنتِهم في الدُّنيا، مع الخُسرانِ في الآخرةِ .

- وقيل: مَفعولُ لِيَقْطَعْ مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ المَقامِ عليه. والتَّقديرُ: ثمَّ لْيَقْطَعْه، أي: لِيَقطَعَ السَّببَ، وهو الحبلُ. والأمْرُ في قولِه: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ للتَّعجيزِ؛ فيُعْلَمُ أنَّ تَعليقَ الجوابِ على حُصولِ شَرْطٍ لا يقَعُ .

- والاستفهامُ في قولِه: هَلْ يُذْهِبَنَّ ... استفهامٌ إنكاريٌّ .

3- قَولُه تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ

- قولُه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ شَبَّهَ ذلك التَّبْيينَ بنفْسِه؛ كِنايةً عن بُلوغِه الغايةَ في جِنْسِه، بحيث لا يُلْحَقُ بأوضَحَ منه، والجُملةُ مَعطوفةٌ على الجُمَلِ الَّتي قبْلَها عطْفَ غرَضٍ على غرَضٍ، والمُناسَبةُ ظاهرةٌ؛ فهي استئنافٌ ابتدائيٌّ .

- قولُه: وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ تَعليلٌ لكونِ القُرآنِ بَيانًا، ومُعَلَّلُه مَحذوفٌ يدُلُّ عليه المذكورُ .

4- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فَذلكةٌ لِمَا تقدَّمَ؛ حيث بيَّنَتْ هذه الآيةُ أنَّ الفصلَ بينَ أهْلِ الأديانِ فيما اختَصَموا فيه يكونُ يومَ القيامةِ؛ إذ لم تُفِدْهمُ الحُجَجُ في الدُّنيا. وهذا الكلامُ بما فيه مِن إجمالٍ هو جارٍ مَجْرى التَّفويضِ، ومِثْلُه يكونُ كِنايةً عن تَصويبِ المُتكلِّمِ طَريقتَه، وتَخْطئتِه طَريقةَ خَصْمِه؛ لأنَّ مثْلَ ذلك التَّفويضِ للهِ لا يكونُ إلَّا مِن الواثقِ بأنَّه على الحقِّ، وذلك مِن قَبِيلِ الكِنايةِ التَّعريضيَّةِ .

- وفي قولِه: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا... إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُدْخِلَت (إنَّ) على كلِّ واحدٍ من جُزأيِ الجُملةِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ والتَّوكيدِ. وحسَّنَ دُخولَ (إنَّ) على الجُملةِ الواقعةِ خبرًا طولُ الفَصْلِ بينهما بالمعاطيفِ، وكونُ خبَرِها جُملةً .

- وقدَّمَ الصَّابئينَ على النَّصارى؛ لتَقدُّمِ زَمانِهم .

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا... فيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث زاد في هذه الآيةِ ذِكْرَ المجوسِ والمُشرِكينَ، ولم يذكُرْهما في آيةِ (البقرةِ): إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ [البقرة: 62] ، وآيةِ (المائدةِ): إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ [المائدة: 69] ؛ لأنَّ الآيتينِ المُتقدِّمتينِ كانتا في مَساقِ بَيانِ فضْلِ التَّوحيدِ والإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ في كلِّ زمانٍ، وفي كلِّ أُمَّةٍ. وزِيدَ في هذه السُّورة ذِكْرُ المجوسِ والمُشرِكينَ؛ لأنَّ هذه الآيةَ مَسوقةٌ لبَيانِ التَّفويضِ إلى اللهِ في الحُكْمِ بين أهْلِ المِلَلِ، فالمجوسُ والمُشرِكونَ ليسوا من أهْلِ الإيمانِ باللهِ واليومِ الآخرِ ، فذكَر المللَ الستَّ هنا؛ ليبينَ أنَّه يفصلُ بينَهم يومَ القيامةِ، أما في سورة (البقرةِ) و(المائدةِ) فذكَرَ أربعةَ أصنافٍ: المُسلمينَ، والذين هادُوا، والنَّصارى، والصَّابئِينَ، ثمَّ قال: مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62] ؛ فدَلَّ على أنَّ هذه الأربعةَ منهم مَن آمَنَ باللهِ واليَومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا، وأولئك هم السُّعَداءُ في الآخرةِ، بخلافِ مَن لم يكُنْ مِن هؤلاء مؤمِنًا باللهِ واليومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا، وبخلافِ مَن كان مِن المجوسِ والمُشرِكينَ؛ فهؤلاء كلُّهم لم يُذكَرْ منهم سعيدٌ في الآخرةِ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للإعلامِ بإحاطةِ عِلْمِ اللهِ بأحوالِهم واختلافِهم، والصَّحيحِ مِن أقوالِهم ، وهو تَعليلٌ لِمَا قبْلَه .

- وأيضًا في قولِه: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ناسَبَ الخَتْمُ بقولِه: شَهِيدٌ الفصلَ بين الفِرَقِ

==============

 

سورةُ الحَجِّ

الآية (18)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غريب الكلمات:

 

حَقَّ: أي: وجَب ولَزِمَ، والحَقُّ في أصلِه: المطابقةُ والموافقةُ، وأصلُ (حَقق): يَدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول الله تعالى: ألم تعلَمْ أنَّ اللهَ سُبحانَه يَسجُدُ له خاضِعًا مُنقادًا مَن في السَّمَواتِ مِنَ الملائكةِ، ومَنْ في الأرضِ مِن المَخلوقاتِ، والشَّمسُ والقَمَرُ، والنُّجومُ والجِبالُ، والشَّجَرُ والدوابُّ؟ ويَسجُدُ له طاعةً واختيارًا كثيرٌ مِن النَّاسِ، وهم المؤمِنونَ، وكثيرٌ مِن النَّاسِ حَقَّ عليه العذابُ فهو مَهِينٌ، وأيُّ إنسانٍ يُهِنْه اللهُ، فليس له أحَدٌ يُكرِمُه؛ إنَّ اللهَ يَفعَلُ في خَلْقِه ما يشاءُ وَفْقَ حِكمَتِه.

تفسير الآية:

 

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

بعد أن أبان اللهُ عزَّ وجلَّ فيما سلف أنَّه يَقضي بين أربابِ الفِرَقِ السَّالفةِ يومَ القيامةِ، وهو شهيدٌ على أقوالِهم وأفعالِهم- أردَفَ هذا ببيانِ أنَّه ما كان ينبغي لهم أن يختَلِفوا، ألَا يَرَوْنَ أنَّ جميعَ العوالمِ العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ: كبيرَها وصغيرَها، شَمسَها وقمَرَها ونجومَها، وجبالَها وحيوانَها ونباتَها- خاضِعةٌ لجَبَروتِه، مُسخَّرةٌ لقُدرتِه

؟!

وأيضًا فهي مرتبطةٌ بمعنى قَولِه: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ إلى قوله: لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الحج: 12-13] ارتباطَ الدَّليلِ بالمطلوبِ؛ فإنَّ دلائلَ أحوالِ المخلوقاتِ كُلِّها -عاقِلِها وجمادِها- شاهدةٌ بتفرُّدِ اللهِ بالإلهيَّةِ، وفي تلك الدَّلالةِ شَهادةٌ على بطلانِ دعوةِ مَن يدعو مِن دونِ اللهِ ما لا يضُرُّه وما لا ينفَعُه .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ.

أي: ألم تعلَمْ أنَّ اللهَ يَسجُدُ له مَن في السَّمَواتِ مِن الملائكةِ، ومَن في الأرضِ مِن الخلقِ مِن الجنِّ وغيرِهم ، والشَّمسُ والقَمَرُ والنُّجومُ في السَّماءِ، والجِبالُ والشَّجَرُ والدوابُّ في الأرضِ ؟

كما قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ [الرعد: 15] .

وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل: 48-49] .

وقال عزَّ وجَلَّ: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن: 6].

وعن أبي ذَرٍّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي ذَرٍّ حينَ غَرَبتِ الشَّمسُ: ((أتدري أين تذهَبُ؟ قُلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ، قال: فإنَّها تذهَبُ حتى تسجُدَ تحتَ العَرشِ، فتَستَأذِنُ، فيُؤْذَنُ لها، ويُوشِكُ أن تَسجُدَ فلا يُقبَلُ منها، وتَستأذِنُ فلا يُؤْذَنُ لها، يُقالُ لها: ارجِعي مِن حَيثُ جِئْتِ، فتَطلُعُ مِن مَغرِبِها، فذلك قَولُه تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 38] )) .

وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.

أي: وكثيرٌ مِن النَّاسِ -وهم المُؤمِنونَ- يَسجُدونَ لله طَوعًا مُختارينَ عابدِينَ .

وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ.

أي: وكثيرٌ مِن النَّاسِ -وهم الكافِرونَ- وَجَب عليهم عذابُ اللهِ؛ لامتِناعِهم عن السُّجودِ للهِ عن طواعِيَةٍ واختيارٍ .

وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ .

أي: ومَن يُهِنْهُ اللهُ فلا يَقدِرُ أحَدٌ أن يُكرِمَه .

إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ.

أي: وذلك لأنَّ اللهَ يَفعَلُ في خَلْقِه ما يَشاءُ، فيُسعِدُ ويُكرِمُ مَن يشاءُ، ويُشقي ويُهينُ مَن يَشاءُ؛ فالخَلقُ خَلقُه، والأمرُ أمرُه

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فإذا كانت المخلوقاتُ كُلُّها ساجِدةً لِرَبِّها، خاضِعةً لِعَظَمتِه، مُستكينةً لعِزَّتِه، عانيةً لِسُلطانِه؛ دَلَّ على أنَّه وَحْدَه الرَّبُّ المعبودُ، والمَلِكُ المَحمودُ، وأنَّ مَن عَدَل عنه إلى عبادةِ سِواه، فقد ضَلَّ ضَلالًا بعيدًا، وخَسِرَ خُسرانًا مُبِينًا

.

2- قال ابن الجوزي: (نظرتُ في قولِ الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، ثم قال: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ... فرأيتُ الجماداتِ كُلَّها قد وُصِفَت بالسجودِ، واستثنى مِن العقلاءِ، فذكرتُ قَولَ بَعضِهم:

ما جحَد الصامتُ مَن أنشَأه ... ومِن ذَوي النُّطقِ أتَى الجُحودُ

فقلتُ: إنَّ هذه لقدرةٌ عظيمةٌ؛ يوهَبُ عَقلٌ للشَّخصِ، ثمَّ تُسلَبُ فائدتُه! وإنَّ هذا لأقوى دليلٍ على قادرٍ قاهرٍ، وإلَّا فكيف يَحسُنُ من عاقلٍ ألَّا يعرِفَ بوجودِه وجودَ مَن أوجدَه؟! وكيف يَنحِتُ صنمًا بيدِه ثم يَعبُدُه؟! غيرَ أنَّ الحقَّ سُبحانَه وتعالى وهَب لأقوامٍ مِن العقلِ ما يُثبِتُ عليهم الحُجَّةَ، وأعمَى قلوبَهم كما شاء عن المحجَّةِ) .

3- قاعِدةٌ شَريفةٌ: النَّاسُ قِسمانِ: عِليَةٌ وسَفِلةٌ؛ فالعِلْيةُ: مَن عرَفَ الطَّريقَ إلى رَبِّه وسَلَكها قاصِدًا الوُصولَ إليه، وهذا هو الكريمُ على رَبِّه. والسَّفِلَةُ: مَن لم يَعرِفِ الطَّريقَ إلى رَبِّه، ولم يتعَرَّفْها، فهذا هو اللَّئيمُ الذى قال الله تعالى فيه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ .

4- المعصيةُ سَبَبٌ لِهَوانِ العَبدِ على رَبِّه، وسُقوطِه مِن عَينِه؛ قال الحَسَنُ البَصريُّ: (هانُوا عليه فعَصَوه، ولو عَزُّوا عليه لعَصَمَهم!)، وإذا هان العبدُ على اللهِ لم يُكرِمْه أحدٌ، كما قال الله تعالى: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، وإنْ عَظَّمَهم النَّاسُ في

الظَّاهِرِ؛ لحاجَتِهم إليهم، أو خوفًا مِن شَرِّهم، فهم في قُلوبِهم أحقَرُ شَيءٍ وأهوَنُه

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فيه سؤالٌ: أنَّ قَولَه: أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ لَفظُه لَفظُ العُمومِ، فيَدخُلُ فيه النَّاسُ، فلِمَ قال مرَّةً أُخرى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ؟

الجوابُ: أنَّه لو اقتَصَر على ما تقَدَّمَ، لأوهَمَ أنَّ كُلَّ النَّاسِ يَسجُدونَ، كما أنَّ كُلَّ الملائكةِ يَسجُدونَ، فبيَّنَ أنَّ كثيرًا منهم يَسجُدونَ طَوعًا دُونَ كثيرٍ منهم، فإنَّه يمتَنِعُ عن ذلك، وهم الذين حَقَّ عليهم العَذابُ

.

2- لا يجوزُ تَسميةُ بعضِ الزُّهورِ بـ «عَبَّادِ الشَّمسِ»؛ لأنَّ الأشجارَ لا تَعبُدُ الشَّمسَ، إنَّما تَعبُدُ اللهَ عزَّ وجَلَّ، كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ، وإنما يُقال عبارةٌ أُخرى ليس فيها ذِكْرُ العبوديَّةِ، كمُراقِبةِ الشَّمسِ، ونحو ذلك مِن العباراتِ .

3- قال الله تعالى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ الإهانةُ إذلالٌ وتَحقيرٌ وخِزيٌ، وذلك قَدْرٌ زائِدٌ على ألَمِ العَذابِ؛ فقد يُعَذَّبُ الرَّجُلُ الكريمُ ولا يُهانُ

 

.

بلاغة الآية:

 

قولُه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ بَيانٌ لِمَا يُوجِبُ الفصْلَ المذكورَ مِنْ أعمالِ الفِرَقِ المذكورةِ، مع الإشارةِ إلى كَيفيَّتِه وكَونِه بطَريقِ التَّعذيبِ والإثابةِ، والإكرامِ والإهانةِ

. أو هي جُملةٌ مُستأنَفةٌ لابتداءِ استِدلالٍ على انفرادِ اللهِ تعالى بالإلهيَّةِ. وما وقَعَ بين هاتينِ الجُملتينِ استِطرادٌ واعتراضٌ .

- والاستفهامُ في قولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ استفهامٌ إنكاريٌّ، والخِطابُ لغيرِ مُعيَّنٍ. ويَجوزُ أنْ يكونَ الخِطابُ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والاستفهامُ تَقريريًّا . والمُرادُ بالرُّؤيةِ العِلْمُ؛ عبَّرَ عنه بها إشعارًا بظُهورِ المعلومِ .

- قولُه: أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ (مَن) يجوزُ أنْ يعُمَّ أُولي العَقْلِ وغيرَهم على التَّغليبِ؛ فيكونُ قولُه: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ إفرادًا لها بالذِّكْرِ؛ لشُهرتِها، واستبعادِ ذلك منها. أو جُعِلَتْ خاصَّةً بالعُقلاءِ؛ لعدَمِ شُمولِ سُجودِ الطَّاعةِ لكُلِّهم . وقيل: إنَّما ذكَر هذه على التنصيصِ؛ لأنَّها قد عُبِدت مِن دونِ الله، فبيَّن أنَّها تسجُدُ لخالقِها، وأنَّها مربوبةٌ مسخَّرةٌ .

- قولُه: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مِن بابِ عطْفِ الخاصِّ على العامِّ مِن حيثُ الفِعْلُ والفاعلُ؛ تَشريفًا لعبادِهِ الصَّالحينَ .

- قولُه: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ جُملةُ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ مُكنًّى بها عن تَرْكِ السُّجودِ للهِ، أي: حَقَّ عليهمُ العذابُ؛ لأنَّهم لم يَسْجُدوا للهِ .

- والآيةُ مِن الاحتباكِ : فإثباتُ السُّجودِ في الأوَّلِ دليلٌ على انتفائِه في الثاني، وذِكرُ العذابِ في الثاني دليلٌ على حذفِ الثَّوابِ في الأوَّلِ .

- وقولُه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ تَذييلٌ لقولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ . والتَّعبيرُ بالفِعْلِ المُضارِعِ ﮏ مُؤذِنٌ بأنَّ إيثارَ المُضارِعِ في الآيةِ للاستمرارِ، لا لِمُطلَقِ الإخبارِ .

- ولَمَّا عُلِمَ بقولِه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ ... أنَّ الكُلَّ جارُونَ معَ الإرادةِ، مُنقادُونَ أتمَّ انقيادٍ تحتَ طوعِ المشيئةِ، وأنَّه إنَّما جُعِلَ الأمرُ والنهيُ للمُكلَّفينَ سببًا لإسعادِ السَّعيدِ منهم، وإشقاءِ الشقيِّ؛ لإقامةِ الحُجَّةِ عليهم على ما يَتعارفونَه مِن أحوالِهم فيما بينهم؛ كان المعنى: فمَن يُكرِمِ اللهُ بتوفيقِه لامتِثالِ أمْرِه فما له مِن مُهينٍ؛ فعُطِفَ عليه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ، ولعلَّه إنَّما ذَكَره وطوَى الأوَّلَ؛ لأنَّ السِّياقَ لإظهارِ القُدرةِ، وإظهارُها في الإهانةِ أتمُّ، مع أنَّ أصلَ السِّياقِ للتَّهديدِ .

- قولُه: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ في مَحلِّ العِلَّةِ للجُملتينِ المُعترضتينِ؛ لأنَّ وُجودَ حَرْفِ التَّوكيدِ في أوَّلِ الجُملةِ معَ عدَمِ المُنكِرِ يُمحِّضُ حَرْفَ التَّوكيدِ إلى إفادةِ الاهتمامِ، فنشَأَ مِن ذلك معنى السَّببيَّةِ والتَّعليلِ، فتُغْني (إنَّ) غَناءَ حَرْفِ التَّعليلِ أو السَّببيَّةِ .

 

-------------

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (19-22)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات :

 

الْحَمِيمُ: أي: الماءُ الشَّديدُ الحَرارةِ، وأصلُ (حمم): يَدُلُّ على الحَرارةِ

.

يُصْهَرُ: أي: يُذابُ، والصَّهرُ: إذابةُ الشَّحمِ، وأصلُ (صهر): يدُلُّ على إذابةِ شَيءٍ .

مَقَامِعُ: أي: سياطٌ ومَطارِقُ ومَرازِبُ، مِن قَولِهم: قَمَعْتُ رأسَه: إذا ضَرَبْتَه ضَربًا عنيفًا، وأصلُ (قمع): يدُلُّ على إذلالٍ وقَهرٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: هذان فَريقانِ اختَلَفوا في شأنِ رَبِّهم وتوحيدِه: أهلُ الإيمانِ وأهلُ الكُفرِ؛ فالذين كَفَروا جُعِلَت لهم ثيابٌ مِن نارٍ يَلْبَسونَها، يُصَبُّ على رُؤوسِهم الماءُ المُتناهي في حَرِّه، يُذابُ بهذا الحَميمِ المصبوبِ فَوقَ رُؤوسِ الكُفَّارِ ما في بُطونِهم والجلودُ، وتَضرِبُهم الملائِكةُ على رُؤوسِهم بمَطارِقَ مِن حَديدٍ، كُلَّما حاولوا الخروجَ مِنَ النَّارِ؛ لشِدَّةِ غَمِّهم وكَرْبِهم، أُعيدُوا فيها، وقيلَ لهم: ذُوقُوا عذابَ النَّارِ المُحرِقةِ.

تفسير الآيات :

 

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لَمَّا ذكَر تعالى أهلَ السعادةِ وأهلَ الشقاوةِ؛ ذكَر ما دار بينَهم مِن الخصومةِ في دينِه

.

وأيضًا لَمَّا كان قَولُه تعالى: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج: ١٨] يُثيرُ سُؤالَ مَن يَسألُ عن بَعضِ تَفصيلِ صِفَةِ العَذابِ الذي حَقَّ على كثيرٍ مِنَ النَّاسِ الذين لم يَسجُدوا لله تعالى؛ جاءت هذه الجُملةُ لِتَفصيلِ ذلك .

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ.

أي: هذان فَريقانِ اختَلَفوا في شأنِ رَبِّهم وتوحيدِه ودينِه، وتعادَوْا وتحارَبوا: المُؤمِنونَ والكافِرونَ؛ فالمُؤمِنونَ يُريدونَ نُصرةَ دينِ اللهِ، وإعلاءَ كَلِمتِه، والكافِرونَ يُريدونَ إطفاءَ نُورِ الإيمانِ، وقَمْعَ الحَقِّ، وإظهارَ الباطِلِ .

عن قَيسِ بنِ عَبَّادٍ، قال: (سَمِعْتُ أبا ذَرٍّ يُقسِمُ قَسَمًا: إنَّ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إنَّها نَزَلت في الذين بَرَزوا يومَ بَدرٍ: حَمزةُ وعَلِيٌّ وعُبَيدةُ بنُ الحارِثِ، وعُتَبةُ وشَيبةُ ابنا ربيعةَ، والوليدُ بنُ عُتبةَ) .

وعن قَيسِ بنِ عَبَّادٍ، عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه أنَّه قال: (أنا أوَّلُ مَن يجثو بينَ يدَيِ الرَّحمنِ للخُصومةِ يومَ القيامةِ)، وقال قيسُ بنُ عَبَّادٍ: وفيهم أُنزِلَت: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ، قال: (هم الذين تبارَزوا يومَ بَدرٍ: حمزةُ وعَليٌّ وعُبَيدةُ -أو أبو عبيدةَ بنُ الحارثِ-، وشَيبةُ بنُ رَبيعةَ، وعُتْبةُ بنُ رَبيعةَ، والوَليدُ بنُ عُتبةَ) .

فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ.

أي: فالذين كَفَروا بالله فُصِّلَت لهم ثِيابٌ مِن نارٍ، فيَعُمُّ العذابُ أجسادَهم .

كما قال تعالى: وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: 49-50].

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ.

أي: يُصَبُّ على رُؤوسِ الكُفَّارِ الماءُ المُغْلَى الشَّديدُ الحَرارةِ .

كما قال تعالى: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان: 47-48] .

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20).

مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:

لمَّا ذكَرَ ما يُعذَّبُ به الجَسدُ ظاهِرُه وما يُصَبُّ على الرَّأسِ؛ ذكَرَ ما يَصِلُ إلى باطنِ المُعذَّبِ .

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20).

أي: يُذابُ بالحَميمِ المصبوبِ فَوقَ رُؤوسِ الكُفَّارِ ما في بُطونِهم -مِنَ اللَّحمِ والشَّحمِ، والأمعاءِ والأحشاءِ -، والجلودُ .

وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21).

أي: وللكُفَّارِ في جهَنَّمَ مَرازِبُ ومَطارِقُ مِن حَديدِ، تَضرِبُهم وتَدفَعُهم بها خَزَنةُ النَّارِ مِن الملائِكةِ .

كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22).

كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا.

أي: كُلَّما أراد هؤلاءِ الكُفَّارُ أن يَخرُجوا مِنَ النَّارِ بسَبَبِ ما نالهم فيها مِنْ غَمٍّ، أُعيدُوا في النَّارِ مرَّةً أُخرى .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 36-37] .

وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.

أي: ويُقالُ لهؤلاء الكافرينَ: ذوقوا عَذابَ النَّارِ المُحرِقَ للقُلوبِ والأبدانِ

 

.

كما قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] .

الفوائد التربوية :

 

حَذَّرَنا اللهُ تعالى في كتابِه مِن النَّارِ، وأخبَرَنا عن أنواعِ عَذابِها بما تتفَطَّرُ منه الأكبادُ، وتتفَجَّرُ منه القُلوبُ؛ حَذَّرَنا منها وأخبَرَنا عن أنواعِ عَذابِها؛ رحمةً بنا؛ لنزدادَ حَذَرًا وخَوفًا، ومن ذلك قولُه تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قال تعالى: اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ والاختِصامُ يَشمَلُ ما وقع أحيانًا مِن التَّحاوُرِ الحقيقيِّ بين أهلِ الأديانِ المذكورةِ، والمعنويَّ؛ فإنَّ اعتِقادَ كُلٍّ مِن الفريقَينِ بحَقِّيَّةِ ما هو عليه وبُطلانِ ما عليه صاحِبُه، وبناءَ أقوالِه وأفعالِه عليه: خُصومةٌ للفَريقِ الآخَرِ، وإنْ لم يَجْرِ بينهما التَّحاوُرُ والِخصامُ

 

.

بلاغة الآيات :

 

1- قَولُه تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ

- قولُه: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ يُثِيرُ سُؤالَ مَن يسأَلُ عن بَعضِ تَفصيلِ صِفَةِ العذابِ الَّذي حَقَّ على كَثيرٍ مِن النَّاسِ الَّذينَ لم يَسْجُدوا للهِ تعالى؛ فجاءت هذه الجُملةُ لتَفصيلِ ذلك. واسمُ الإشارةِ هَذَانِ مُشيرٌ إلى ما يُفِيدُه قولُه تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، والإشارةُ إلى ما يُسْتَفادُ مِن الكلامِ بتَنزيلِه مَنزِلةَ ما يُشاهَدُ بالعينِ

.

- قولُه: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا في قولِه: هَذَانِ تَعيينٌ لطَرَفيِ الخِصامِ، وإزاحةٌ لِمَا عسى يَتبادَرُ إلى الوهْمِ مِن كَونِه بينَ كلِّ واحدةٍ من الفِرَقِ السِّتِّ وبين البواقي، وتَحريرٌ لِمَحلِّه، أي: فريقُ المُؤمِنينَ وفريقُ الكَفَرةِ المُقسَّمِ إلى الفِرَقِ الخَمْسِ . وأُتِيَ باسمِ الإشارةِ الموضوعِ للمُثنَّى هَذَانِ؛ لمُراعاةِ تَثنيةِ اللَّفظِ، وأُتِيَ بضَميرِ الجماعةِ اخْتَصَمُوا؛ لِمُراعاةِ العدَدِ .

- قولُه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ تَفصيلٌ لِمَا أُجْمِلَ في قولِه تعالى: يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .

- قولُه: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ تَعبيرٌ بَليغٌ، كأنَّ الله تعالى يُقدِّرُ لهم نِيرانًا على مقاديرِ جُثَثِهم، تَشتمِلُ عليهم كما تُقطَّعُ الثِّيابُ الملبوسةُ .

- وأيضًا قولُه: قُطِّعَتْ فيه مُبالغةُ القَطْعِ، وصِيغَت صِيغةَ الشِّدَّةِ في القَطْعِ؛ للإشارةِ إلى السُّرعةِ في إعدادِ ذلك لهم .

- جاء قولُه: قُطِّعَتْ بلفْظِ الماضي؛ لأنَّ ما كان مِن أخبارِ الآخرةِ؛ فالموعودُ منه كالواقِعِ المُحقَّقِ .

- قولُه: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيث إنَّه لمَّا ذكَرَ ما يُصَبُّ على رُؤوسِهم؛ إذ يَظهَرُ في المعروفِ أنَّ الثَّوبَ إنَّما يُغطَّى به الجسَدُ دونَ الرَّأسِ؛ فذكَرَ ما يُصِيبُ الرَّأسَ منَ العذابِ .

- وفائدةُ زِيادةِ (مِنْ) في قولِه تعالى: مِنْ فَوْقِ: أنَّها لابتِداءِ الغايةِ في أوَّلِ أمكنةِ الفوقيَّةِ، والحميمُ إذا صُبَّ فوقَهم عن بُعْدٍ، فإنَّه يُدرِكُه الهواءُ، فيَنقُصُ مِن حرارتِه، فإذا صُبَّ فوقَ رُؤوسِهم بالقُرْبِ نزَلَ كما هو؛ فأفادت زِيادةُ (مِن) أنَّه يُصَبُّ فوقَ رُؤوسِهم مِن أقرَبِ أمكنةِ الفوقيَّةِ إليهم حتَّى لَا يَنتقِصَ مِن حرارتِه شَيءٌ .

- وفي الكلامِ تَقسيمٌ وجَمْعٌ وتَفريقٌ؛ فالتَّقسيمُ: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ... إلى قولِه: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، والجَمْعُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إلى قولِه تعالى: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج: 19] ، والتَّفريقُ: قولُه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الحج: 23] ، ورُوعِيَ فيه معنى قولِه تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] ؛ لأنَّه حينَ ذكَرَ فريقَ الكُفَّارِ ما أسنَدَ جزاءَهم إلى اللهِ تعالى، وحين ذكَرَ جزاءَ المُؤمِنينَ أتَى باسْمِه الجامِعِ (الله)، وصَدَّرَ الجُملةَ بـ (إنَّ)، وفصَلَها للاستئنافِ؛ ليكونَ أدَلَّ على التَّفخيمِ والتَّعظيمِ، وذيَّلَ الكلامَ بقولِه: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ. وأمَّا تَوسيطُ قولِه تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ ... الآيةَ؛ فلِلتَّفريعِ على اختلافِ الكَفرةِ، واستبعادِه معَ وُجودِ هذه الآياتِ الصَّارفةِ .

2- قولُه تعالى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ

- أُخِّرَ قولُه: وَالْجُلُودُ؛ إمَّا لمُراعاةِ الفواصلِ، أو للإشعارِ بغايةِ شِدَّةِ الحرارةِ، بإيهامِ أنَّ تأْثيرَها في الباطِنِ أقدَمُ مِن تأْثيرِها في الظَّاهرِ، مع أنَّ مُلابستَها على العكْسِ .

3- قَولُه تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

- قولُه: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ لأنَّ الإعادةَ والرَّدَّ لا يكونُ إلَّا بعْدَ الخُروجِ؛ فالتَّقديرُ: كلَّما أرادوا أنْ يَخرُجوا منها مِن غَمٍّ، فخَرَجوا؛ أُعِيدوا فيها . وفائدةُ الحذْفِ: الإشعارُ بسُرعةِ تَعلُّقِ الإرادةِ بالإعادةِ، وأنَّه حين تَعلَّقَت إرادتُهم بالخُروجِ، حصَلَ وتَرتَّبَ عليه الإعادةُ، كأنَّ إرادةَ الخُروجِ نفْسُ الخُروجِ، فأُعِيدوا بلا مُكْثٍ .

- قولُه: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ هذا القولُ إهانةٌ لهم؛ فإنَّهم قد عَلِموا أنَّهم يَذوقونَه .

- قولُه: وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ فيه إيجازٌ بالحذْفِ؛ تَقديرُه: وقيل لهم: ذُوقُوا، كما في السَّجدةِ: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ

 

[السجدة: 20] .

 

============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (23-25)

ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ

غريب الكلمات:

 

أَسَاوِرَ: جمعُ أَسْوِرَةٍ، وأسْوِرَةٌ جَمعُ سِوارٍ، والسِّوارُ: هو الذي يُلبَسُ في المِعصَم مِن ذَهَبٍ، وهو اسمٌ مُعَرَّبٌ عن الفارسيَّةِ

.

الْعَاكِفُ: أي: المُقيمُ المُلازِمُ، والعُكوفُ: الإقبالُ على الشَّيءِ ومُلازَمتُه على سَبيلِ التَّعظيمِ له، وأصلُ (عكف): يدُلُّ على الإقبالِ والحَبسِ .

وَالْبَادِ: أي: الطَّارِئُ مِنَ البَدوِ، وأصلُ (بدو): يدلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ، وسُمِّيَ خِلافُ الحَضَرِ بَدْوًا مِن هذا؛ لأنَّهم في بَرازٍ مِن الأرضِ، وليسُوا في قُرًى تَستُرُهم أبنِيَتُها .

بِإِلْحَادٍ: أي: ظُلمٍ ومَيلٍ عن الحَقِّ، وأصلُ (لحد): يدُلُّ على مَيلٍ عن استِقامةٍ

 

.

مشكل الإعراب :

 

1-  يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا

قَولُه: وَلُؤْلُؤًا بالنَّصبِ، وفيه أوجُهٌ، أوَّلُها: أنَّه مَعطوفٌ على مَوضِعِ الجارِّ والمجرورِ مِنْ أَسَاوِرَ؛ لأنَّ مَوضِعَهما نصبٌ. والثَّاني: أنَّه مَنصوبٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه الأوَّلُ، أي: ويُحَلَّونَ لُؤلؤًا. الثَّالثُ: أنَّه مَعطوفٌ على أَسَاوِرَ ومِنْ زائِدةٌ فيه عند الأخفَشِ، ويَدُلُّ عليه قولُه تعالى: وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان: 21] .

وقُرِئَ وَلُؤْلُؤًا بالجَرِّ عَطفًا على ذَهَبٍ، ثمَّ يحتَمِلُ أمرينِ؛ أحدُهما: أن يكونَ لهم أساوِرُ مِن ذَهَبٍ وأساوِرُ مِن لُؤلؤٍ، ويَحتَمِلُ أن تكونَ الأساوِرُ مُرَكَّبةً مِن الأمرَينِ معًا: الذَّهَبِ المُرَصَّعِ باللُّؤلؤِ. وقيل: مَجرورٌ عَطفًا على لَفظِ أَسَاوِرَ

.

2- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

قَولُه: جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ: سَوَاءً مَفعولٌ به ثانٍ لـ (جعَلْنا)، ولِلنَّاسِ متعَلِّقٌ بـ (جَعَل)، والْعَاكِفُ فاعِلٌ بـ سَوَاءً؛ لأنَّه مصَدَرٌ بمعنى اسمِ الفاعِلِ، والمعنى: جعَلْناه مُستَويًا فيه العاكِفُ والبادِي. وإنْ قُلْنا (جعل) يتعدَّى لواحدٍ، كانت سَوَاءً حالًا مِن هاءِ جَعَلْنَاهُ. وقُرِئَ سَوَاءٌ بالرَّفعِ، على أنَّه خبَرٌ مُقَدَّمٌ، والْعَاكِفُ مُبتدأٌ مؤخَّرٌ، والجُملةُ في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ ثانٍ لـ (جعل)، أو حالٌ مِن الهاءِ. وخبَرُ إِنَّ محذوفٌ، تقديرُه: (نُذيقُهم مِن عَذابٍ أليمٍ)؛ لأنَّ قَولَه: نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ يَدُلُّ عليه.

وقَولُه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ: بِإِلْحَادٍ جارٌّ ومَجرورٌ مُتعَلِّقٌ بـ يُرِدْ، وقد ضُمِّنَ يُرِدْ معنى (يَهُمُّ) أو (يتلبَّسُ)؛ فلذلك تعدَّى بالباءِ. وقيل: بِإِلْحَادٍ مَفعولٌ به لـ يُرِدْ، والباءُ زائِدةٌ في المفعولِ للتَّأكيدِ، أي: ومَن يُرد فِيهِ إلحادًا بظُلمٍ. وبِظُلْمٍ مُتعَلِّقٌ بـ يُرِدْ، والباءُ فيه للسَّبَبيَّةِ. وقيلَ غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ تعالى: إنَّ اللهَ تعالى يُدخِلُ أهلَ الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ جَنَّاتٍ تجري مِن تحتِ أشجارِها وقُصورِها الأنهارُ، يُزَيَّنونَ فيها بأساوِرِ الذَّهَبِ وباللُّؤلؤِ، ولِباسُهم في الجنَّةِ الحَريرُ، رِجالًا ونساءً. وهداهم اللهُ إلى طَيِّبِ القَولِ، وهداهم إلى طَريقِ اللهِ المحمودِ في أسمائِه وصِفاتِه.

إنَّ الذين كَفَروا بالله، ويَمنَعونَ غَيرَهم مِنَ الدُّخولِ في دينِ اللهِ، ومِن المَسجِدِ الحرامِ -الذي جعَلْناه لجَميعِ المُؤمِنينَ سواءً المُقيمُ فيه والقادِمُ إليه- نذيقُهم مِن عذابٍ أليمٍ مُوجِعٍ، ومَن يُرِدْ في المَسجِدِ الحَرامِ الميْلَ عن الحَقِّ فيرتكِبْ ظُلمًا -وهو قاصِدٌ لذلك- نُذِقْه مِن عذابٍ أليمٍ مُوجِعٍ.

تفسير الآيات:

 

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى ما لأحَدِ الخَصْمَينِ، وهم الكافِرونَ؛ أتبَعَه ما للآخَرِ، وهم المُؤمِنونَ

.

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.

أي: إنَّ اللهَ يُدخِلُ الذين آمَنوا بكُلِّ ما وجَبَ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ- جناتٍ تَجري الأنهارُ مِن تَحتِ أشجارِها وقُصورِها .

يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

في قَولِه تعالى: وَلُؤْلُؤًا قِراءتانِ:

1- قِراءةُ وَلُؤْلُؤًا بالنَّصبِ على معنى: ويُحَلَّونَ لُولُؤًا .

2- قِراءةُ وَلُؤْلُؤٍ بالجَرِّ على معنى: يُحَلَّونَ أساوِرَ مِن ذَهَبٍ وأساوِرَ مِن لُؤلُؤٍ، أو على معنى: يحلَّونَ أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ولُؤلؤٍ، أي: يكونُ السِّوارُ الواحِدُ مُكَوَّنًا مِنَ الذَّهَبِ واللُّؤلؤِ معًا .

يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا.

أي: يُحَلِّي اللهُ المُؤمِنينَ في الجنَّةِ -رِجالًا ونساءً- أساوِرَ مِن ذَهَبٍ، ويُحلَّونَ فيها لُؤلؤًا .

عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعْتُ خليلي صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: ((تَبلُغُ الحِليةُ مِن المُؤمِنِ حَيثُ يَبلُغُ الوُضوءُ)) .

وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ.

أي: ولِباسُ المُؤمِنينَ في الجنَّةِ ثِيابٌ مِن حَريرٍ .

عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه، أنَّه قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لا تلبَسوا الحريرَ؛ فإنَّه مَن لَبِسَه في الدُّنيا، لم يَلبَسْه في الآخِرةِ )) .

وعن حُذيفةَ بنِ اليَمَانِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا تَلبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ، ولا تَشرَبوا في آنيةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ولا تأكُلوا في صِحافِها؛ فإنَّها لهم في الدُّنيا، ولنا في الآخِرةِ )) .

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24).

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ.

أي: وهدى اللهُ المُؤمِنينَ إلى الأقوالِ الطيِّبةِ .

وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ.

أي: وهَدى المؤمِنينَ إلى طريقِ اللهِ المحمودِ في أسمائِه وصِفاتِه .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى بعدَ أن فَصَل بينَ الكُفَّارِ والمؤمنينَ؛ ذكَرَ عِظَمَ حُرمةِ البَيتِ، وعِظَمَ كُفرِ هؤلاء .

وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى ما للفَريقَينِ، وتَضَمَّنَ هذا البيانُ ما للفريقِ الثَّاني مِن أعمالٍ دالَّةٍ على صِدقِ إيمانِهم؛ كرَّرَ ذِكرَ الفريقِ الأوَّلِ؛ لبيانِ ما يَدلُّ على استمرارِ كُفرِهم، ويُؤكِّدُ بيانَ جزائِهم؛ فقال :

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ.

أي: إنَّ الذين كَفَروا باللهِ، ويَمنَعونَ النَّاسَ مِن الدُّخولِ في دينِه، ومِنَ المَسجِدِ الحرامِ -الذي ليس مِلكًا لهم ولا لآبائِهم، بل جعَلْناه للمُؤمِنينَ كافةً سَواءً المُقيمُ منهم فيه والقادِمُ إليه، فهم يسْتَوون في تعظيمِه وأحقيَّةِ أداءِ العباداتِ وإقامةِ الشَّعائِرِ فيه - أولئك الذين كَفَروا نُذيقُهم مِن عذابٍ مُؤلمٍ مُوجِعٍ .

كما قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح: 25] .

وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.

أي: ومَنْ يَهُمَّ أن يَميلَ ويَحيدَ في المَسجِدِ الحَرامِ عن الحَقِّ، ويَنحَرِفَ عن الاستِقامةِ بارتِكابِ ظُلمٍ -وهو قاصِدٌ لذلك- نُذِقْه مِن عذابٍ مُؤلِمٍ مُوجِعٍ .

عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يغزو جَيشٌ الكَعبةَ، فإذا كانوا ببَيداءَ مِن الأرضِ يُخسَفُ بأوَّلِهم وآخِرِهم. قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، كيف يُخسَفُ بأوَّلِهم وآخِرِهم، وفيهم أسواقُهم ومَن ليس منهم؟ قال: يُخسَفُ بأوَّلِهم وآخِرِهم، ثُمَّ يُبعَثونَ على نيَّاتِهم ))

 

.

الفوائد التربوية :

 

1- قال الله عزَّ وجلَّ: الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصالحُ مبنيٌّ على الإيمانِ، فعملٌ بلا إيمانٍ لا فائدةَ منه، فالمنافقون يعملون، ويذكرون الله، ويُصَلُّون، ويتصدَّقون، ولكن ليس عندَهم إيمانٌ؛ فلا ينفعُهم؛ ولهذا يقدِّمُ الله عزَّ وجلَّ الإيمانَ على العملِ الصالحِ

.

2- الإيمانُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن عملٍ، والعملُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن إيمانٍ، فلا يستحقُّ الجنةَ إلَّا مَن جمَع بينَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ؛ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ، وإذا ذُكِر ثوابُ الجنةِ مقيَّدًا أو معلَّقًا بالإيمانِ وحْدَه، فالمرادُ بذلك الإيمانُ المتضمِّنُ للعملِ الصالحِ .

3- العملُ لا ينفعُ صاحبَه إلَّا إذا كان صالحًا؛ قال تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصالحُ هو: الخالصُ الصوابُ؛ أي: ما ابتُغِي به وجهُ الله، وكان على شريعةِ الله .

4- قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فيه أنَّ الأعمالَ بالنيَّاتِ، والأُمورَ بمقاصدِها

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ وهذا على سَبيلِ العُمومِ؛ فإنَّنا نَشهَدُ لكُلِّ مُؤمِنٍ عاملٍ للصَّالحاتِ أنَّه سيَدخُلُ الجنَّةَ، لكِنْ لا نُطَبِّقُ الشَّهادةَ هذه على جميعِ أفرادِ العُمومِ، بمعنى: أن نَخُصَّ واحِدًا بعَينِه إلَّا مَن شَهِدَ اللهُ له بذلك، أو شَهِدَ له رَسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم، أو أجمَعَت عليه الأمَّةُ

.

2- قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فيه الردُّ على الجبريةِ؛ إذ أضاف العملَ إليهم، والجبريةُ يقولونَ: إنَّ الإنسانَ لا يعملُ، ولا يضافُ العملُ إليه إلا مجازًا، وأنَّ عملَه ليس باختيارِه ولا بقصدِه .

3- قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ في هذه الآيةِ الكَريمةِ وُجوبُ احتِرامِ الحَرَمِ، وشِدَّةِ تَعظيمِه، والتَّحذيرُ مِن إرادةِ المعاصي فيه وفِعْلِها ، فالسَّيِّئةُ في الحَرَمِ أعظَمُ منها في غَيرِه، والهَمُّ بها فيه مأخوذٌ به . فمِن خَواصِّ الحَرَمِ أنَّه يُعاقَبُ فيه على الهَمِّ بالسَّيِّئاتِ، وإنْ لم يفعَلْها، فتأمَّلْ كيف عَدَّى فِعْلَ الإرادةِ هاهنا بالباءِ، فقال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ، ولا يُقالُ: «أردتُ بكذا» إِلَّا لَمَّا ضُمِّنَ معنى فِعْلِ «هَمَّ»؛ فإنَّه يُقالُ: «همَمَتُ بكذا»، فتَوعَّدَ مَن هَمَّ بأنْ يَظلِمَ فيه بأنْ يُذيقَه العذابَ الأليمَ .

4- المَعصِيةُ في مكانٍ فاضلٍ أعظَمُ مِنَ المَعصيةِ في مكانٍ مَفضولٍ؛ ولهذا قال الله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ .

5- إنْ قال قائِلٌ: وهل تُضاعَفُ السَّيِّئاتُ في الأمكِنةِ الفاضِلةِ والأزمِنةِ الفاضِلةِ؟

فالجوابُ: أمَّا في الكَّمِّيةِ فلا تُضاعَفُ؛ لِقَولِه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160] ، وهذه الآيةُ مَكِّيَّةٌ؛ لأنَّها مِن سورةِ (الأنعامِ)، وكُلُّها مكِّيَّةٌ، لكِنْ قد تُضاعَفُ السَّيِّئةُ في مكَّةَ مِن حَيثُ الكَيفيَّةُ، بمعنى أنَّ العقوبةَ تكونُ أشدَّ وأوجعَ؛ لِقَولِه تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ .

6- قال الله تعالى في الحَرَمِ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فسَمَّى اللهُ المعاصِيَ والظُّلْمَ إلحادًا؛ لأنَّها مَيلٌ عمَّا يَجِبُ أن يكونَ عليه الإنسانُ؛ إذ الواجِبُ عليه السَّيرُ على صِراطِ اللهِ تعالى، ومَن خالَفَ فقد ألحَدَ .

7- يَقولُ اللهُ تبارك وتعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، ويَقولُ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يَرويه عن رَبِّه تبارك وتعالى في آخِرِ الحَديثِ: ((وإنْ همَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها كتَبَها اللهُ تعالى عِندَه حَسَنةً كامِلةً)) ، كيف نجمَعُ بين الآيةِ والحَديثِ؟

الجوابُ: الجَمعُ بينَ الآيةِ والحديثِ مِن أحَدِ وَجهَينِ:

الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ قَولَه تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ، أي: مَن يَهُمَّ فيَفعَلْ؛ لِقَولِ الله تبارك وتعالى في سورةِ (الأنعامِ)، وهي مَكِّيَّةٌ: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160] ، ولم يَقُلْ: ومَن هَمَّ، بل قال: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ [الأنعام:160] ، فيكونُ المعنى: مَن يُرِدْ فيه بإلحادٍ بظُلْمٍ ويَفعَلْ. وعلى هذا؛ فلا تعارُضَ.

الوَجهُ الثَّاني: أن يُقالَ: إنَّ قَولَه: ((ومَن همَّ بسَيِّئةٍ فلم يَعمَلْها كُتِبَت له حَسَنةٌ) ) هذا في غيرِ مكَّةَ، وتكونُ مكَّةُ مُستَثناةً مِن ذلك، أي: أنَّه يُؤاخَذُ الإنسانُ فيها بالهَمِّ، وفي غَيرِها لا يؤاخَذُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ غُيِّرَ الأسلوبُ فيها بإسنادِ الإدخالِ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يكونَ هذا الكلامُ معطوفًا بالواوِ على جُملةِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج: 19] ، بأنْ يُقالَ: والَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ يُدخِلُهم اللهُ جنَّاتٍ... إلى آخِرِه؛ فعُدِلَ عن ذلك الأسلوبِ إلى هذا النَّظمِ؛ لاسترعاءِ الأسماعِ إلى هذا الكلامِ إذ جاء مُبْتَدَأً به، مُسْتقِلًّا، مُفتتَحًا بحَرفِ التَّأكيدِ، ومُتوَّجًا باسمِ الجلالةِ؛ إيذانًا بكَمالِ مُباينةِ حالِهم لحالِ الكَفرةِ، وإظهارًا لمَزيدِ العنايةِ بأمْرِ المُؤمِنينَ، ودَلالةً على تَحقُّقِ مَضمونِ الكلامِ

.

- وكرَّرَ قولَه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ؛ لأنَّه لمَّا ذكَرَ حُكْمَ أحدِ الخَصمينِ، وهو فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ، لم يكُنْ بُدٌّ مِن ذِكْرِ حُكْمِ الخَصمِ الآخرِ؛ لِمُقارَنتِه له، وإنْ تقدَّمَ ذِكْرُه .

- في قولِه: أَسَاوِرَ أُشِيرَ بجمْعِ الجَمْعِ إلى التَّكثيرِ .

- و(مِن) في قولِه: مِنْ أَسَاوِرَ على القولِ بأنَّها زائدةٌ للتَّوكيدِ؛ فوَجْهُه: أنَّه لمَّا لم يُعْهَدْ تَحليةُ الرِّجالِ بالأساورِ، كان الخبَرُ عنهم بأنَّهم يُحلَّونَ أساورَ مُعرّضًا للتَّردُّدِ في إرادةِ الحقيقةِ؛ فجِيءَ بالمُؤكِّدِ لإفادةِ المَعْنى الحقيقيِّ .

- وقولُه: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ غُيِّرَ أُسلوبُ الكلامِ فيه، حيث عُبِّرَ بالجُملةِ الاسميَّةِ بعْدَ التَّعبيرِ بالفعليَّةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الحريرَ ثِيابُهم المُعتادةُ، أو للمُحافَظةِ على هَيئةِ الفواصلِ .

وقيل: غُيِّرَ الأُسلوبُ للإيذانِ بأنَّ ثُبوتَ اللِّباسِ لهم أمْرٌ مُحقَّقٌ غَنِيٌّ عن البَيانِ؛ إذ لا يُمكِنُ عَراؤُهم عنه، وإنَّما المُحتاجُ إلى البَيانِ أنَّ لِباسَهم ماذا بخِلافِ الأساورِ واللُّؤلؤِ؛ فإنَّها ليستْ مِن اللَّوازمِ الضَّروريَّةِ؛ فجعَلَ بَيانَ تَحلِيَتِهم بها مَقصودًا بالذَّاتِ، ولعلَّ هذا هو الباعثُ إلى تَقديمِ بَيانِ التَّحليةِ على بَيانِ حالِ اللِّباسِ .

وقيل: لمَّا كانتِ التَّحليةُ غيرَ اللِّباسِ، جِيءَ باسمِ اللِّباسِ بعْدَ يُحَلَّوْنَ بصِيغَةِ الاسمِ دونَ (يَلْبَسون)؛ لتَحصيلِ الدَّلالةِ على الثَّباتِ والاستمرارِ، كما دلَّتْ صِيغَةُ يُحَلَّوْنَ على أنَّ التَّحليةَ مُتجدِّدةٌ بأصنافٍ وألْوانٍ مُختلفةٍ، ومِن عُمومِ الصِّيغتينِ يُفْهَمُ تَحقُّقُ مِثْلِها في الجانبِ الآخَرِ؛ فيكونُ في الكلامِ احتباكٌ ؛ كأنَّه قيل: يُحلَّون بها، وحِلْيَتُهم مِن أساوِرَ مِن ذهَبٍ، ولِباسُهم فيها حَريرٌ يَلْبَسونه .

2- قَولُه تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ

- جُملةُ: وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ مُعترِضةٌ، وهي كالتَّكملةِ لوصْفِ حُسْنِ حالِهم لمُناسَبةِ ذِكْرِ الهدايةِ في قولِه: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ . وشُبِّهَ الإسلامُ بالصِّراطِ؛ لأنَّه مُوصِلٌ إلى رِضا اللهِ ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

- وقولُه: الْحَمِيدِ، قيل: أي: المحمودِ نفْسُه أو عاقبتُه، وهو الجنَّةُ؛ فوَجْهُ تأْخيرِ هذه الهدايةِ لرِعايةِ الفواصلِ. وقيل: المُرادُ بالحميدِ: الحَقُّ المُستحِقُّ لِذَاتِه لغايةِ الحمْدِ، وهو اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وصِراطُه الإسلامُ، ووَجْهُ التَّأخيرِ حينئذٍ: أنَّ ذِكْرَ الحمْدِ يَسْتدعِي ذِكْرَ المحمودِ . ويجوزُ أنْ يكونَ الْحَمِيدِ صِفَةً لـ صِرَاطِ، أي: المحمودُ لسالِكِه. فإضافةُ صراطٍ إليه مِن إضافةِ الموصوفِ إلى الصِّفةِ، والصِّراطُ المحمودُ هو صراطُ دينِ الله، وفي هذه الجُملةِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ: إيماءٌ إلى سَببِ استحقاقِ تلك النِّعمِ، وأنَّه الهدايةُ السَّابقةُ إلى دِينِ اللهِ في الحياةِ الدُّنيا ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

3- قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ

- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ هذا مُقابِلُ قولِه: وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج: 24] بالنِّسبةِ إلى أحوالِ المُشركينَ؛ إذ لم يَسبِقْ لقولِه ذلك مُقابِلٌ في الأحوالِ المذكورةِ في آيةِ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج: 19]؛ فمَوقِعُ هذه الجُملةِ الاستئنافُ البَيانِيُّ. وفيه مع هذه المُناسَبةِ لِمَا قبْلَه: تَخلُّصٌ بَديعٌ إلى ما بعْدَه؛ مِن بَيانِ حَقِّ المُسلمينَ في المسجِدِ الحرامِ، وتَهويلِ أمْرِ الإلحادِ فيه، والتَّنويهِ به، وتَنزيهِه عن أنْ يكونَ مأْوًى للشِّرْكِ ورِجْسِ الظُّلمِ والعُدوانِ .

- وقولُه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ... فيه تأْكيدُ الخبَرِ بحَرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ به. وصِيغةُ الماضي كَفَرُوا؛ لأنَّ ذلك الفِعْلَ صار كاللَّقبِ لهم، مثْلُ قولِه: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا [الحج: 23].

- وقولُه: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ والصَّدُّ عن المسجِدِ الحرامِ ممَّا شَمِلَه الصَّدُّ عن سَبيلِ اللهِ؛ فخُصَّ بالذِّكْرِ للاهتمامِ به، ولِيُنْتقَلَ منه إلى التَّنويهِ بالمسجِدِ الحرامِ، وذِكْرِ بِنائِه، وشَرْعِ الحجِّ له مِن عَهْدِ إبراهيمَ .

- والفِعْلُ المُضارِعُ وَيَصُدُّونَ يُرادُ به استمرارُ الصَّدِّ منهم، وتَكرُّرُ ذلك منهم، وأنَّه دأْبُهم؛ ولذلك حسُنَ عطْفُه على الماضي كَفَرُوا .

- وفي التَّعقيبِ بقولِه تعالى: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ عطْفًا على سَبِيلِ اللَّهِ على مِنوالِ العطْفِ السَّابقِ: تَتميمٌ ومُبالَغةٌ .

- وفائدةُ وصْفِ المسجِدِ الحرامِ بقولِه: الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ زيادةُ التَّشنيعِ للصَّادِّينَ عنه ، وللإيماءِ إلى عِلَّةِ مُؤاخذةِ المُشركينَ بصَدِّهم عنه لأجْلِ أنَّهم خالَفوا ما أراد اللهُ منه؛ فإنَّه جعَلَهُ للنَّاسِ كلِّهم، يَسْتوي في أحَقِّيَّةِ التَّعبُّدِ به العاكِفُ فيه، أي: المُستقِرُّ في المسجِدِ، والبادي، أي: البعيدُ عنه إذا دخلَهُ .

- وفي قولِه: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ لم يُبيِّنِ الاستواءَ في ماذا؛ لظُهورِ أنَّ الاستواءَ فيه بصِفَةِ كونِه مَسجدًا إنَّما هي في العبادةِ المقصودةِ منه . والعاكِفُ: هو المُلازِمُ له في أحوالٍ كثيرةٍ، قيل: هو كِنايةٌ عن السَّاكنِ بمكَّةَ، وفي ذِكْرِ العُكوفِ تَعريضٌ بأنَّهم لا يَستحِقُّون بسُكْنى مكَّةَ مَزيَّةً على غيرِهم، وبأنَّهم حين يَمْنعون الخارجينَ عن مكَّةَ مِنَ الدُّخولِ للكعبةِ قد ظَلَموهم باستئثارِهم بمكَّةَ .

- قولُه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ تَذييلٌ للجُملةِ السَّابقةِ؛ لِمَا في (مَن) الشَّرطيَّةِ مِن العُمومِ .

- والباءُ في بِإِلْحَادٍ زائدةٌ للتَّوكيدِ، كما في قولِه: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة: 6] ، أي: مَن يُرِدْ إلحادًا وبُعْدًا عن الحقِّ والاستقامةِ، وذلك صَدُّهم عن زِيارتِه، على قولٍ في التفسيرِ. والباء في بِظُلْمٍ للملابسةِ . وقيل: ضُمِّنَ معنى فِعْلِ «هَمَّ»؛ فإنَّه يُقالُ: «همَمَتُ بكذا» .

============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (26-29)

ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ

غريب الكلمات:

 

بَوَّأْنَا: أي: هَيَّأْنا وبَيَّنَّا وعَرَّفْنا، وأصلُه مِن المَباءةِ: وهي مَنزِلُ القَومِ في كُلِّ مَوضِعٍ

.

رِجَالًا: جمعُ راجِلٍ، أي: مُشاةً، يُقالُ للماشي بالرِّجْل: رَجِلٌ وراجِلٌ، وهو مشتقٌّ من الرِّجْلِ .

ضَامِرٍ: الضَّامِرُ: البَعيرُ المهزولُ الَّذي أتْعَبه السَّفرُ، أو هو كلُّ ما يُركبُ مِن فرَسٍ وناقةٍ وغيرِ ذلك، وقيل: الخَفيفُ اللَّحمِ مِن الأعمالِ لا مِنَ الهُزالِ، وأصلُ (ضمر): يدُلُّ على دِقَّةٍ في الشَّيءِ .

فَجٍّ عَمِيقٍ: أي: مَسلَكٍ بَعيدٍ، والفَجُّ: الشَّقُّ بينَ جَبَلينِ، ويُستعمَلُ في الطَّريقِ الواسِعِ، وأصلُ (فجج): يدُلُّ على تفَتُّحٍ وانفِراجٍ، وأصلُ العُمْقِ: البعدُ سُفلًا .

بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ: أي: الإبلِ والبَقَرِ والغَنَمِ، والبهيمَةُ: مَا استَبْهم عن الجوابِ: أي: استَغْلَق، وما لا نطقَ له؛ وذلك لِما في صوتِه مِن الإبهامِ، وقيل: سُمِّيت بذلك لأنَّها أُبْهِمتْ عن أن تُميِّزَ، وأصلُ (بهم): أن يبقَى الشيءُ لا يُعرَفُ المأتَى إليه، وأصلُ (نعم): يدلُّ على تَرفُّهٍ، وطِيبِ عَيشٍ، وصلاحٍ .

الْبَائِسَ: أي: الذي اشتَدَّتْ حاجتُه وساءَتْ حالُه وافتقَرَ، والبُؤسُ: شِدَّةُ الفَقرِ، يقالُ: بَئِسَ الرَّجُلُ بُؤْسًا: إذا اشتَدَّتْ حاجَتُه، فهو بائِسٌ، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما ضارَعَها .

لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ: أي: لِيُزيلوا أدرانَهم وأوساخَهم، والتَّفَثُ في المَناسِكِ: ما كان مِن نَحوِ قَصِّ الأظفارِ والشَّارِبِ، وحَلْقِ الرَّأسِ والعانةِ، ورَمْيِ الجِمارِ، ونَحْرِ البُدنِ، وأشباهِ ذلك، وأصلُه: يدلُّ على الوَسَخِ .

بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ: أي: بَيتِ اللهِ الحَرامِ، وسُمِّي عَتيقًا؛ لأنَّه أقدَمُ بيتٍ للعبادةِ في الأرضِ، أو لأنَّ اللهَ تعالى أعتَقَه مِن الجَبابرةِ فلم يَظهَرْ عليه جبَّارٌ قَطُّـ، وقِيل غيرُ ذلك، وأصلُ (عتق): يدُلُّ على الحُرِّيَّةِ والقِدَمِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- إذ بَيَّنَّا لإبراهيمَ عليه السَّلامُ مكانَ البَيتِ، وهيَّأْناه له، وقُلْنا له: لا تُشرِكْ بالله شَيئًا في عبادَتِه، وطَهِّرْ -يا إبراهيمُ- بَيتيَ للطَّائِفينَ حَوْلَه، وللقائِمينَ في صلاتِهم، والرَّاكِعينَ السَّاجِدينَ، بتَنزيهِه مِنَ الشِّركِ والكُفرِ، والبِدَعِ والمعاصي، والقبائِحِ وجَميعِ النَّجاساتِ الحسِّيَّةِ والمَعنَويَّةِ.

وأعلِمْ -يا إبراهيمُ- النَّاسَ بوُجوبِ الحَجِّ عليهم، يأتوك مُلَبِّينَ نِداءَك على مُختَلِفِ أحوالِهم، مُشاةً ورُكبانًا على الرَّواحِلِ التي هُزِلَت أبدانُها مِن طُولِ السَّفَرِ ومَشقَّتِه، تأتي هذه الرَّواحِلُ مِن كُلِّ طَريقٍ بعيدٍ؛ لِيَحضُرَ الحُجَّاجُ منافِعَ لهم في أمورِ دينِهم ودُنياهم، ولِيَذكُروا اسمَ اللهِ في أيَّامِ عشرِ ذي الحجَّةِ على ما رزَقَهم مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ.

فكُلوا مِن هذه الذَّبائِحِ، وأطعِموا منها الفَقيرَ الذي اشتَدَّ فَقرُه، ثُمَّ لْيُكمِلِ الحُجَّاجُ ما بَقِيَ عليهم مِن النُّسُكِ، بإحلالِهم وخُروجِهم مِن إحرامِهم، وذلك بإزالةِ ما تراكَمَ مِن وسَخٍ في أبدانِهم، وقَصِّ أظفارِهم، وحَلْقِ شَعرِهم- ولْيُوفُوا بما أوجَبوه على أنفُسِهم في الحَجِّ، ولْيَطَّوَّفوا بالبَيتِ العَتيقِ القديمِ.

تفسير الآيات:

 

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ الكُفَّارِ، وصَدَّهم عن المَسجِدِ الحرامِ، وتوعَّدَ فيه مَن أراد فيه بإلحادٍ؛ ذكَرَ حالَ أبيهم إبراهيمَ، وتَوبيخَهم على سُلوكِهم غيرَ طَريقِه مِن كُفرِهم باتِّخاذِ الأصنامِ، وامتِنانَه عليهم بإيفادِ العالَمِ إليهم

.

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا.

أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حينَ هَيَّأْنا لإبراهيمَ مَكانَ الكَعبةِ، وأنزَلْناه فيه، وعرَّفْناه بالموضِعِ الذي يَبني فيه الكَعبةَ، وقُلْنا له: لا تُشرِكْ بالله شَيئًا في عبادَتِه، وأخلِصْ أعمالَك كُلَّها للهِ وَحْدَه، وابنِ هذا البَيتَ على اسْم اللهِ وَحْدَه .

كما قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ [آل عمران: 96-97] .

وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.

أي: وطَهِّرْ -يا إبراهيمُ- بَيتيَ للطَّائِفينَ حَوْلَه، وللقائِمينَ في صلاتِهم، والرَّاكِعينَ السَّاجِدينَ في صَلاتِهم عِندَه، بتَنزيهِه مِن كُلِّ ما لا يَليقُ به مِنَ الشِّركِ والكُفرِ، والبِدَعِ والمعاصي، والقبائِحِ وجَميعِ النَّجاساتِ الحسِّيَّةِ والمَعنَويَّةِ .

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27).

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا.

أي: وأَعْلِمْ -يا إبراهيمُ - النَّاسَ بوُجوبِ الحَجِّ عليهم، ونادِ فيهم أنْ حُجُّوا أيُّها النَّاسُ بيتَ اللهِ؛ يأتُوا إليك مُشاةً على أرجُلِهم، مُلَبِّينَ نداءَك، حاجِّينَ بَيتَ اللهِ الحرامِ .

وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.

أي: وراكِبينَ على الرَّواحِلِ التي هُزِلَت أبدانُها مِن طُولِ السَّفَرِ ومَشقَّتِه ، والتي تأتي مِن كُلِّ طَريقٍ ومَكانٍ واسِعٍ بَعيدٍ .

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالحَجِّ في قَولِه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ؛ ذكَرَ حِكمةَ ذلك الأمرِ، فقال :

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ.

أي: لأجْلِ أن يَحضُرَ الحُجَّاجُ، فيُحَصِّلوا مَصالِحَ كَثيرةً لهم مِن أمورِ دينِهم ودُنياهم وآخِرَتِهم .

كما قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 198-199] .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حَجَّ هذا البَيتَ، فلم يَرْفُثْ ، ولم يَفسُقْ ؛ رجَعَ كيَومَ ولَدَتْه أُمُّه ) .

وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((العُمرةُ إلى العُمرةِ كفَّارةٌ لِما بيْنهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جَزاءٌ إلَّا الجنَّةُ )) .

وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.

أي: ولِيذكُرَ الحُجَّاجُ اسمَ اللهِ في أيَّامِ عشرِ ذي الحجَّةِ على ما رزَقَهم مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ .

فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.

أي: فكُلوا مِنَ الأنعامِ التي ذكَرْتُم اسمَ اللهِ عليها، وأطعِموا منها مَن ساءت حالُه فاشتَدَّ به الفَقرُ، وضَرَّ به الجوعُ، فلا شيءَ له يُذهبُ جوعَه، ويرفعُ عنه ضرَّه .

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29).

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ.

أي: ثُمَّ لْيُكمِلِ الحُجَّاجُ ما بَقِيَ عليهم مِن مناسِكِ حَجِّهم؛ كرَمْيِ الجِمارِ، وحَلْقِ الرُّؤوسِ، ونَتفِ الآباطِ، وحلقِ العانةِ، والأخذِ مِن الشَّوارِبِ، وقَصِّ الأظفارِ، والطَّوافِ بالبَيتِ، وإزالةِ وَسخِ الأبدانِ .

وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ.

أي: ولْيُوفِ الحُجَّاجُ بما أوجَبوه على أنفُسِهم في الحَجِّ .

وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.

أي: ولْيَطُفِ الحُجَّاجُ طَوافَ الإفاضةِ ببَيتِ الله العتيقِ ؛ الكعبةِ

 

.

الفوائد التربوية :

 

ينبغي للإنسانِ أنْ يَستَحضِرَ أنَّه في مجيئِه إلى مكَّةَ وإحرامِه، أنَّه إنما يفعَلُ ذلك تلبيةً لدُعاءِ الله؛ قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، فالأذانُ بأمْرِ الله يُعتبرُ أذانًا مِن اللهِ، فإذا كان اللهُ هو الذي أذَّنَ، فأنا أجيبُه وأقولُ: «لَبَّيك اللهُمَّ لَبَّيك»

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- عُلِّقت القلوبُ على محبَّةِ الكعبةِ: البيتِ الحرامِ، حتى استطاب المحبُّونَ في الوصولِ إليها هجرَ الأوطانِ والأحبابِ، ولَذَّ لهم فيها السَّفرُ الذي هو قطعةٌ مِن العذاب، فركِبوا الأخطارَ، وجابُوا المفاوِزَ والقِفارَ، واحتملوا في الوصولِ غايةَ المشاقِّ، ولو أمكنهم لسَعَوا إليها على الجفونِ والأحداقِ:

نعمْ أسعَى إليكَ على جُفوني          وإنْ بَعُدت لمسراكَ الطريقُ

وسِرُّ هذه المحبَّةِ هي إضافةُ الرَّبِّ سُبحانَه له إلى نَفْسِه بقَولِه: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ

؛ فقد أضافه الرحمنُ إلى نفْسِه، ولتَعظُمَ محبَّتُه في القلوب، وليكونَ أعظمَ لتطهيرِه وتعظيمِه؛ لكونِه بيتَ الرَّبِّ، للطائفينَ به، والعاكفينَ عنده، المقيمينَ لعبادةٍ من العباداتِ؛ مِن ذكرٍ، وقراءةٍ، وتعلُّمِ عِلمٍ وتعليمِه، وغير ذلك من أنواعِ القُرَبِ .

2- قال الله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فقَرَن الطَّوافَ بالصَّلاةِ؛ لأنَّهما لا يُشرَعانِ إلَّا مُختَصَّينِ بالبَيتِ؛ فالطَّوافُ عندَه، والصَّلاةُ إليه في غالِبِ الأحوالِ، إلَّا ما استُثنيَ مِن الصَّلاةِ عندَ اشتِباهِ القِبلةِ، وفي الحَربِ، وفي النَّافلةِ في السَّفَرِ. والله أعلَمُ .

3- قال الله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ يُؤخَذُ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ: أنَّه لا يَجوزُ أن يُترَكَ عند بَيتِ اللهِ الحَرامِ قَذَرٌ مِنَ الأقذارِ، ولا نَجَسٌ مِنَ الأنجاسِ المعنويَّةِ ولا الحِسِّيَّةِ، فلا يُترَكُ فيه أحَدٌ يَرتَكِبُ ما لا يُرضي اللهَ، ولا أحَدٌ يُلَوِّثُه بقَذَرٍ مِن النَّجاساتِ . فقوله: وَطَهِّرْ يَعُمُّ تطهيرَه مِن النَّجاسةِ الحِسِّيَّةِ، ومِن الكُفرِ والمعاصي والأصنامِ .

4- قَولُ اللهِ تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ عطْفُ وَأَذِّنْ على وَطَهِّرْ بَيْتِيَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ مِن إكرامِ الزَّائِرِ: تَنظيفَ المَنزِلِ، وأنَّ ذلك يكونُ قَبلَ نُزولِ الزَّائِرِ بالمكانِ .

5- في قَولِه تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ دَلالةٌ على اشتِراطِ طَهارةِ ثَوبِ المصَلِّي لِصِحَّةِ صَلاتِه؛ فإنَّه إذا أَمَرَ اللهُ تعالى بتطهيرِ المَحَلِّ -وهو مُنفَصِلٌ عن المصَلِّي- فاللِّباسُ الذي هو مُتَّصِلٌ به يكونُ الأمرُ بتطهيرِه مِن بابِ أَولَى .

6- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ جملةُ يَأْتُوكَ جوابٌ للأمرِ، جعَلَ التأذينَ سَبَبًا للإتيانِ؛ تَحقيقًا لتَيسيرِ اللهِ الحَجَّ على النَّاسِ، فدَلَّ جوابُ الأمرِ على أنَّ اللهَ ضَمِنَ له استجابةَ نِدائِه .

7- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ فيه جوازُ المَشيِ والرُّكوبِ في الحَجِّ .

8- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ استَدلَّ بعضُهم على تفضيلِ حَجِّ الرَّاجِلِ على الرَّاكِبِ بتَقديمِ الله تعالى رِجَالًا على كُلِّ ضَامِرٍ، وأنَّ ذلك دلَّ على أنَّ حَجَّ الرَّاجِلِ أفضَلُ مِن حَجِّ الراكبِ .

9- قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ إنَّما قال: يَأْتُوكَ وإن كانوا يأتونَ الكَعبةَ؛ لأنَّ المناديَ إبراهيمُ، فمَن أتَى الكَعبةَ حاجًّا، فكأنَّما أتى إبراهيمَ؛ لأنَّه أجاب نِداءَه، وفيه تَشريفُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ . وقيل: تعليقُ فعل يَأْتُوكَ بضميرِ خطابِ إبراهيمَ، فيه دلالةٌ على أنَّه كان -في حياتِه- يحضرُ موسمَ الحجِّ كلَّ عامٍ، يبلِّغ للناسِ التوحيدَ، وقواعدَ الحنيفيةِ .

10- قَولُه تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ قد يُؤخَذُ منه بدَلالةِ الإيماءِ : الوعدُ بفتوحاتٍ شاملةٍ لمناطقَ شاسعةٍ؛ لأنَّ الإتيانَ مِنْ كلِّ فَجٍّ عميقٍ، يَدُلُّ على الإتيانِ إلى الحجِّ مِنْ بعيدٍ، والإتيانُ إلى الحجِّ يَدُلُّ على الإسلامِ، وبالتَّالي يَدُلُّ على مجيءِ المسلمينَ مِنْ بعيدٍ، وهو مَحَلُّ الاستدلالِ. والله تعالَى أعلمُ .

11- قولُه: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ الفجُّ: الشَّقُّ بين جَبلينِ تَسيرُ فيه الرِّكَابُ؛ فغَلَبَ الفَجُّ على الطَّريقِ لأنَّ أكثَرَ الطُّرقِ المُؤدِّيةِ إلى مكَّةَ تُسلَكُ بين الجبالِ .

12- قال الله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وقال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة: 203] ، فائِدةُ قَولِه: مَعْلُومَاتٍ وَمَعْدُودَاتٍ التَّحريضُ على هذه الأيامِ، وعلى اغتِنامِ فَضْلِها، أي: لَيسَت كغَيرِها، فكأنَّه قال: هي مَخصوصاتٌ؛ فلْتُغتَنَمْ . وقيل: إنَّ سَببَ تَسميتِها مَعلوماتٍ: الحِرصُ على عِلمِها بحِسابِها؛ لأنَّ وقتَ الحَجِّ في آخِرِها، وكثرةُ ذِكرِ اللهِ تعالى فيها بالتلبيةِ والتكبيرِ ؛ ففي التعبيرِ بالعِلمِ إشارةٌ إلى وجوبِ استفراغِ الجُهدِ، بعدَ القطعِ بأنَّ الشهرَ ذو الحُجَّةِ اسمًا ومُسمًّى في تحريرِ أوَّلِه، وهذا على أنَّ المرادَ بـ (المعلومات) العشرُ مِن ذي الحجَّةِ. وأمَّا أيَّامُ التَّشريقِ، فإنَّها لَمَّا كانتْ مبنِيَّةً على العِلمِ بأمْرِ الشهرِ الذي أُمِرَ به هنا، فأنتجَ العِلمَ بيومِ العيدِ، لم يُحتَجْ في أمرِها إلى غيرِ العَدِّ؛ فلذا عبَّرَ عنها به دون العِلمِ .

13- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ فيه إشارةٌ إلى أنَّ المرادَ به الإكثارُ؛ إذ مُطلَقُ الذِّكرِ مَندوبٌ إليه في كُلِّ وَقتٍ .

14- في قوله تعالى: عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ دَلالةٌ على أنَّه يُشتَرَطُ في الأُضحِيَّةِ أنْ تكونَ مِن بهيمةِ الأنعامِ -وهي: الإبلُ والبَقَرُ والغَنَمُ- فلو ضَحَّى الإنسانُ بحيوانٍ آخَرَ أغلى منها، لم يُجْزِه، وكذلك الهديُ الذي نصَّ الشرعُ على كونِه مِن بهيمةِ الأنعامِ، كما في قولِه تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196] ، وقولِه: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ البقرة: 196].

15- في قَولِه تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ دَلالةٌ على إباحة الأكلِ مِن الهَدْي كلِّه -تطوعِه وفرضِه-؛ إذْ مَخْرَجُ الإباحةِ في الأكلِ عامٌّ، فمَن خصَّ منه شيئًا فعليه أنْ يأتيَ بالبرهانِ .

16- في قَولِه تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ دَلالةٌ على أنَّ المرادَ بالأيَّامِ المعلوماتِ: ما قَبْلَ يومِ النَّحْرِ -وهو عشرُ ذي الحِجَّةِ-؛ وذلك لأنَّه سُبحانه جَعَلَ هذا كلَّه بعد ذِكْرِه في الأيَّامِ المعلوماتِ، وقَضاءُ التَّفَثِ -وهو شَعَثُ الحَجِّ وغُبارُه ونَصَبُه- والطوافُ بالبيتِ؛ إنَّما يكونُ في يومِ النَّحْرِ وما بعدَه، ولا يكونُ قبْلَه، وقد جَعَلَ اللهُ سُبحانَه هذا مرَتَّبًا على ذِكْرِه في الأيَّامِ المعلوماتِ بلَفظةِ «ثُمَّ» .

17- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ فيه دَليلٌ على أنَّ النَّذرَ كان مشروعًا في شريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ .

18- في قَولِه تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ دَلالةٌ على أنَّ الوفاءَ بالنَّذرِ عِبادةٌ؛ لأنَّ قولَه: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ أمرٌ، والأمرُ بوفائِه يدُلُّ على أنَّه عِبادةٌ؛ لأنَّ العِبادةَ ما أُمِرَ به شَرعًا .

19- قَولُه تعالى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ يدُلُّ على وُجوبِ الإيفاءِ بالنَّذرِ؛ فصيغةُ الأمرِ تَقتَضي الوُجوبَ -على الأصَحِّ- إلَّا لدَليلٍ صارفٍ عنه . ففيه دليلٌ على وُجوبِ إخراجِ النَّذْرِ إن كان دمًا أو هَدْيًا أو غيرَه، ويدُلُّ ذلك على أنَّ النَّذرَ لا يجوزُ أن يُأكَلَ منه وفاءً بالنَّذرِ، وكذلك جزاءُ الصَّيدِ، وفِديةُ الأذى؛ لأنَّ المطلوبَ أن يأتيَ به كامِلًا مِن غيرِ نَقصِ لحمٍ ولا غيرِه .

20- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ استُدِلَّ به على أنَّ الطَّوافَ لا يجوزُ داخِلَ البَيتِ، ولا في شَيءٍ مِن هَوائِه ، وأنَّه يَجِبُ الطَّوافُ مِنْ وَراءِ الحِجْرِ؛ لأنَّه مِنْ أصلِ البيتِ الَّذي بناه إبراهيمُ، وإنْ كانت قُرَيْشٌ قد أخْرَجوه مِنَ البيتِ، حِينَ قَصُرَتْ بهم النَّفَقَةُ؛ ولهذا طافَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسَلَّم مِنْ وراءِ الحِجْرِ، وأخبرَ أنَّ الحِجْرَ مِنَ البيتِ، ولم يَسْتَلِمِ الرُّكنيْنِ الشَّامِيَّيْنِ؛ لأنَّهما لم يُتَمَّما على قواعِدِ إبراهِيمَ العتيقَةِ .

21- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ هذا أمرٌ بالطَّوافِ خُصوصًا، بعدَ الأمرِ بالمناسِكِ عُمومًا؛ لِفَضلِه وشَرَفِه، ولِكَونِه المقصودَ، وما قَبْلَه وسائِلُ إليه، ولعَلَّه -واللهُ أعلَمُ أيضًا- لفائدةٍ أُخرى، وهي: أنَّ الطَّوافَ مَشروعٌ كُلَّ وَقتٍ، وسواءٌ كان تابِعًا لنُسُكٍ أم مُستَقِلًّا بنَفْسِه .

22- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ دَلَّ على لُزومِ طَوافِ الإفاضَةِ، وأنَّه لا صِحَّةَ للحجِّ بِدونِه .

23- قَولُ اللهِ تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ختَمَ خِطابَ إبراهيمَ بالأمرِ بالطَّوافِ بالبَيتِ؛ إيذانًا بأنَّهم كانوا يَجعَلونَ آخِرَ أعمالِ الحَجِّ الطَّوافَ بالبيتِ، وهو المُسمَّى في الإسلامِ طَوافَ الإفاضةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قَولُه تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ

- عَطْفٌ على جُملةِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ عطْفَ قِصَّةٍ على قِصَّةٍ. ويُعْلَمُ منها تَعليلُ الجُملةِ المعطوفةِ عليها، بأنَّ المُلحِدَ في المسجِدِ الحرامِ قد خالَفَ بإلحادِه فيه ما أرادَهُ اللهُ مِن تَطهيرِه حينَ أمَرَ ببِنائِه، والتَّخلُّصُ من ذلك إلى إثباتِ ظُلْمِ المُشركينَ وكُفرانِهم نِعمةَ اللهِ في إقامةِ المسجِدِ الحرامِ وتَشريعِ الحجِّ

.

- قولُه: وَإِذْ بَوَّأْنَا (إذ) مَنصوبٌ بفِعْلٍ مُقدَّرٍ، أي: اذكُرْ ذلك الوقْتَ العظيمَ، وعُرِفَ معنى تَعظيمِه مِن إضافةِ اسمِ الزَّمانِ إلى الجُملةِ الفِعليَّةِ دونَ المصدرِ؛ فصار بما يدُلُّ عليه الفِعْلُ منَ التَّجدُّدِ كأنَّه زمَنٌ حاضرٌ .

وتَوجيهُ الأمرِ بالذِّكرِ إلى الوقْتِ، مع أنَّ المقصودَ تَذكيرُ ما وقَعَ فيه من الحوادثِ؛ للمُبالَغةِ في إيجابِ ذِكْرِها؛ لِمَا أنَّ إيجابَ ذِكْرِ الوقْتِ إيجابٌ لذِكْرِ ما وقَعَ فيه بالطَّريقِ البُرهانيِّ، ولأنَّ الوقتَ مُشتمِلٌ عليها، فإذا استُحضِر كانت حاضرةً بتَفاصيلِها كأنَّها مُشاهَدةٌ عِيانًا .

- واللَّامُ في لِإِبْرَاهِيمَ لامُ العِلَّةِ؛ لأنَّ (إبراهيمَ) مفعولٌ أوَّلُ لـ بَوَّأْنَا الَّذي هو مِن باب (أعطى)؛ فاللَّامُ مِثْلُها في قولِهم: (شكرْتُ لك)، أي: شكرْتُك لأجْلِك. وفي ذِكْرِ اللَّامِ في مثْلِه ضَربٌ من العِنايةِ والتَّكرمةِ .

- وقولُه: مَكَانَ الْبَيْتِ فيه إيجازٌ في الكلامِ، كأنَّه قيل: وإذ أعطيناهُ مكانًا لِيَتَّخِذَ فيه بَيتًا، فقال: مَكَانَ الْبَيْتِ؛ لأنَّ هذا حكايةٌ عن قِصَّةٍ مَعروفةٍ لهم، وسبَقَ ذِكْرُها فيما نزَلَ قبْلَ هذه الآيةِ مِن القُرآنِ. والبيتُ مَعروفٌ معهودٌ عند نُزولِ القُرآنِ؛ فلذلك عُرِّفَ بلامِ العهْدِ، ولولا هذه النُّكتةُ لكان ذِكْرُ (مكان) حشْوًا .

- قولُه: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ إضافةُ البيتِ إلى ضَميرِ الجَلالةِ تَشريفٌ للبَيتِ، وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ دلَّ عليه بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ، والتَّقديرُ: وأمَرْناهُ ببِناءِ البيتِ في ذلك المكانِ، وبعْدَ أنْ بَناهُ قُلْنا: لا تُشْرِكْ بي شيئًا، وطَهِّرْ بَيتي .

- قولُه: وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فيه التَّعبيرُ عن الصَّلاةِ بأركانِها؛ ولعلَّ ذلك للدَّلالةِ على أنَّ كلَّ واحدٍ منها مُستقِلٌّ باقتضاءِ ذلك؛ فكيف وقد اجتمَعَتْ ؟!

- ولمْ يَعطِفِ السُّجودَ؛ لأنَّه مِن جِنسِ الرُّكوعِ في الخُضوعِ، ويجوزُ أن يكونَ (القائِمينَ) بمعنى المُقيمين، و(الطَّائِفينَ) بمعنى الطَّارئينَ، فيكونَ المرادُ بالرُّكعِ السُّجودِ فقط المُصَلِّينَ .

2- قَولُه تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ

- قولُه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا مُضاعفةُ الحُروفِ في قولِه: وَأَذِّنْ مُشعِرٌ بتَكريرِ الفِعْلِ، أي: أكثِرِ الإخبارَ بالشَّيءِ .

- الألِفُ واللَّامُ في النَّاسِ للجِنْسِ؛ فيَعُمُّ كلَّ البشَرِ .

- قولُه: رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ الواوُ واوُ التَّقسيمِ الَّتي بمعنى (أو)؛ إذ معنى العَطْفِ هنا على اعتبارِ التَّوزيعِ بين راجلٍ وراكبٍ، والمقصودُ منه استيعابُ أحوالِ الآتِينَ؛ تَحقيقًا للوعْدِ بتَيسيرِ الإتيانِ المُشارِ إليه بجَعْلِ إتيانِهم جوابًا للأمْرِ. وقُدِّمَ قولُه: رِجَالًا؛ لكونِ هذه الحالِ أغرَبَ، ثمَّ ذُكِرَ بعْدَه وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ؛ تَكملةً لتَعميمِ الأحوالِ؛ إذ إتيانُ النَّاسِ لا يَعْدو أحَدَ هذينِ الوصفينِ . وقيل: تقديمُ الرِّجالُ على الرُّكبانِ فيه فائدةٌ جليلةٌ؛ وهي: أنَّ اللهَ تعالى شَرَط في الحجِّ الاستطاعةَ -ولا بُدَّ مِن السَّفَرِ إليه لغالِبِ النَّاسِ- فذَكَر نوعَيِ الحُجَّاجِ؛ لِقَطْعِ تَوَهُّمِ مَن يظنُّ أنَّه لا يجِبُ إلَّا على راكِبٍ، وقَدَّمَ الرِّجالَ؛ اهتِمامًا بهذا المعنى وتأكيدًا. ومِن النَّاسِ مَن يقولُ: قدَّمَهم جَبْرًا لهم؛ لأنَّ نفوسَ الرُّكْبانِ تَزدَريهم وتوَبِّخُهم، وتقولُ: «إنَّ اللهَ تعالى لم يكتُبْه عليكم، ولم يُرِدْه منكم!»، وربَّما توَهَّموا أنَّه غيرُ نافعٍ لهم، فبدأ به؛ جَبْرًا لهم ورحمةً .

- وكلمةُ (كلِّ) في قولِه: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ مُستعمَلةٌ في الكثرةِ، أي: وعلى رواحِلَ كثيرةٍ .

- قولُه: وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ الضَّامِرُ: البعيرُ المهزولُ الَّذي أتعبَه السَّفرُ -على قولٍ في التفسيرِ-؛ فوصَفَها اللهُ تعالى بالمآلِ الَّذي انتهَتْ عليه إلى مَكَّةَ، وذكَرَ سبَبَ الضُّمورِ، فقال: يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أي: أثَّرَ فيها طولُ السَّفرِ، ورَدَّ الضَّميرَ إلى الإبلِ؛ تَكرِمةً لها؛ لقَصْدِها الحجَّ مع أربابِها، كما قال: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا [العاديات: 1] في خَيلِ الجِهادِ؛ تَكرِمةً لها حين سعَتْ في سَبيلِ اللهِ .

- قَولُه: يَأْتِينَ يجوزُ أن يكونَ صِفةً لـ كُلِّ ضَامِرٍ؛ لأنَّ لفظَ (كل) صيَّرَه في معنى الجمعِ، وإذ هو جَمْعٌ لِما لا يَعقِلُ فحقُّه التأنيثُ، وإنما أُسندَ الإتيانُ إلى الرواحِلِ دون النَّاسِ فلم يقُل: (يأتون)؛ لأنَّ الرواحِلَ هي سببُ إتيان الناسِ مِن بُعدٍ لِمن لا يستطيعُ السَّفَرَ على رجلَيه. ويجوزُ أن تُجعَلَ جملةُ يَأْتِينَ حالًا ثانيةً من ضَميرِ الجَمعِ في يَأْتُوكَ؛ لأنَّ الحالَ الأُولَى تَضمَّنتْ معنى التَّنويعِ والتَّصنيفِ؛ فصارَ المعنى: يَأتوكَ جماعاتٍ، فلمَّا تُؤوِّلَ ذلك بمعنى الجماعاتِ جرَى عليهم الفِعلُ بضَميرِ التأنيثِ، وهذا الوجهُ يَتضمَّنُ زِيادةَ التَّعجيبِ مِن تيسيرِ الحَجِّ حتَّى على المُشاةِ . وقيل: يَأْتِينَ فَجمَع؛ لأنَّه أُريدَ بكُلِّ ضامرٍ النوقُ، ومعنى الكلِّ الجَمعُ؛ فلذلك قِيل: يَأْتِينَ .

3- قَولُه تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ

- قولُه: لِيَشْهَدُوا يَتعلَّقُ بقولِه: يَأْتُوكَ؛ فهو عِلَّةٌ لإتيانِهم الَّذي هو مُسبَّبٌ على التَّأذينِ بالحجِّ، فآلَ إلى كونِه عِلَّةً في التَّأذينِ بالحجِّ .

- قولُه: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ أي: لِيَحضُروا، فيُحَصِّلوا منافِعَ لهم؛ فكَنَّى بشُهودِ المنافعِ عن نَيلِها. ولا يُعْرَفُ ما وعَدَهم اللهُ على ذلك بالتَّعيينِ .

- ونكَّرَ المنافِعَ؛ لأنَّه أراد منافِعَ مُختصَّةً بهذه العبادةِ دِينيَّةً ودُنيويَّةً لا تُوجَدُ في غيرِها من العباداتِ؛ فدَلَّ التَّنكيرُ فيها على تَفخيمِ المنافِعِ وتَكثيرِها، بحيثُ لا توجَدُ في غيرِها .

- وفي قولِه: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ كنَّى عن النَّحرِ والذَّبحِ بذِكْرِ اسمِ اللهِ، وفيه تَنبيهٌ على أنَّ الغرَضَ الأصلِيَّ فيما يُتقرَّبُ به إلى اللهِ أنْ يُذكَرَ اسْمُه، وقد حسَّنَ الكلامَ تَحسينًا بَيِّنًا: أنْ جُمِعَ بين قولِه: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وقولِه: عَلَى مَا رَزَقَهُمْ؛ فجُمِعَ بين ذِكْرِ الرَّازقِ والمرزوقِ على طَريقةِ التَّعليلِ، وذلك أنْ رُتِّبَ ذِكْرُ اسمِ اللهِ على الوصْفِ المُناسِبِ، هو كونُه رِزقًا منه، ولو قيل: (لِيَنْحَروا في أيَّامٍ مَعلوماتٍ بَهيمةَ الأنعامِ)، لم يُرَ شَيءٌ من ذلك الحُسْنِ والرَّوعةِ. ومع هذه النُّكتةِ الجليلةِ رُوعِيَ فيه معنى الإجمالِ والتَّفصيلِ .

- وفي جَعْلِ قولِه: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ غايةً للإتيانِ: إيذانٌ بأنَّه الغايةُ القُصوى دونَ غيرِه .

- وأيضًا في قولِه: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عُلِّقَ الفِعْلُ بالمرزوقِ وبُيِّنَ بالبهيمةِ؛ تَحريضًا على التَّقرُّبِ، وتَنبيهًا على الذِّكْرِ . وأُدْمِجَ في هذا الحُكْمِ الامتنانُ بأنَّ اللهَ رزَقَهم تلك الأنعامَ، وهذا تَعريضٌ بطلَبِ الشُّكرِ على هذا الرِّزقِ بالإخلاصِ للهِ في العبادةِ، وإطعامِ المَحاويجِ من عِبادِ اللهِ مِن لُحومِها، وفي ذلك سَدٌّ لحاجةِ الفُقراءِ بتَزويدِهم ما يَكْفيهم لعامِهم؛ ولذلك فُرِّعَ عليه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ .

- قولُه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ الأمْرُ بالأكْلِ منها يحتملُ أنْ يكونَ أمْرَ وُجوبٍ في شَريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ؛ فيكونَ الخِطابُ في قولِه: فَكُلُوا لإبراهيمَ ومَن معه. وقد عُدِلَ عن الغَيبةِ الواقعةِ في ضَمائرِ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، إلى الخِطابِ بذلك في قولِه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ ... إلخ، على طَريقةِ الالتفاتِ، أو على تَقديرِ قولٍ مَحذوفٍ مأْمورٍ به إبراهيمُ عليه السَّلامُ، وفي حِكايةِ هذا تَعريضٌ بالرَّدِّ على أهْلِ الجاهليَّةِ؛ إذ كانوا يَمْنعون الأكلَ مِنَ الهَدايا، ثمَّ عاد الأُسلوبُ إلى الغَيبةِ في قولِه: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ. ويحتملُ أنْ تكونَ جُملةُ فَكُلُوا مِنْهَا ... إلخ، مُعترِضةً مُفرَّعةً على خِطابِ إبراهيمَ ومَن معه تَفريعَ الخبَرِ على الخبَرِ؛ تَحذيرًا مِن أنْ يُمنَعَ الأكْلُ مِن بَعْضِها . وقيل: التفتَ إلى الإقبالِ عليهم، وفي ذلك حَثٌّ على التقَرُّبِ بالضَّحايا والهدايا .

- وفي قولِه: الْبَائِسَ الْفَقِيرَ لم يُعْطَفْ أحَدُ الوَصفينِ على الآخَرِ؛ لأنَّه كالبَيانِ له، وإنَّما ذُكِرَ البائسُ مع أنَّ الفَقيرَ مُغْنٍ عنه؛ لتَرقيقِ أفئدةِ النَّاسِ على الفقيرِ بتَذكيرِهم أنَّه في بُؤْسٍ؛ لأنَّ وَصْفَ (فقير) -لشُيوعِ تَداوُلِه على الألسُنِ- صار كاللَّقبِ غيرَ مُشعِرٍ بمعنى الحاجةِ، وقد حصَلَ من ذِكْرِ الوصفينِ التَّأكيدُ. وقيل: البائسُ الَّذي ظهَرَ بُؤْسُه في ثِيابِه وفي وَجْهِه، والفقيرُ: الَّذي تكونُ ثِيابُه نَقيَّةً ووَجْهُه وَجْهَ غَنِيٍّ؛ فعلى هذا التَّفسيرِ يكونُ البائسُ هو المُسكينَ ، ويكونُ ذِكْرُ الوَصفينِ لقَصدِ استيعابِ أحوالِ المُحتاجينَ .

- وكرَّرَ قولَه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ في قولِه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج: 36] ؛ لأنَّ الأوَّلَ مُرتَّبٌ على ذَبْحِ بَهيمةِ الأنعامِ الشَّاملةِ للبُدْنِ والبقرِ والغَنمِ، والثَّانِيَ مُرتَّبٌ على ذَبْحِ البُدْنِ خاصَّةً، وإنْ وافقَهُ في حُكْمِ ذَبْحِ الآخرينَ .

4- قَولُه تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ

- قولُه: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ (ثمَّ) هنا عطَفَتْ جُملةً على جُملةٍ؛ فهي للتَّراخي الرُّتبيِّ لا الزَّمنيِّ؛ فتُفِيدُ أنَّ المعطوفَ بها أهَمُّ في الغرَضِ المسوقِ إليه الكلامُ مِن المعطوفِ عليه، وذلك في الوَفاءِ بالنَّذرِ والطَّوافِ بالبيتِ العتيقِ ظاهرٌ؛ إذ هما نُسكانِ أهَمُّ مِن نَحْرِ الهَدايا .

- وفي قولِه: بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ شَبَّهَ البيتَ بالعبْدِ العتيقِ في أنَّه لا مِلْكَ لأحدٍ عليه -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، وفيه تَعريضٌ بالمُشركينَ؛ إذ كانوا يَمْنعونَ منه مَن يَشاؤونَ حتَّى جَعَلوا بابَه مُرتفِعًا بدونِ درَجٍ؛ لئلَّا يَدخُلَه إلَّا مَن شاؤوا

 

.

===============

 

سورةُ الحَجِّ

الآيات (30-33)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ

غريب الكلمات:

 

الرِّجْسَ: هو اسمٌ لكُلِّ ما استُقذِرَ مِن عَمَلٍ، وكُلُّ قَذَرٍ رِجسٌ، وأصلُه يدُلُّ على الخُبثِ والقَذارةِ

.

الزُّورِ: أي: الكَذِبِ والفِرْيَةِ على اللهِ، وأصلُ (زور): يدُلُّ على المَيلِ والعُدولِ .

حُنَفَاءَ: جمعُ حَنيفٍ، وهو المُقبلُ على اللهِ، المُعرضُ عمَّا سِواه، وقيل: الحنيفُ: هو المسلمُ المستقيمُ ، وقيل: المائلُ عن الشركِ والدِّينِ الباطلِ إلى التوحيدِ، والدِّينِ الحقِّ المستقيمِ، وأصلُ الحنفِ: الميلُ عن الشيءِ بالإقبالِ على آخَرَ، فالحنفُ ميلٌ عن الضلالةِ إلى الاستقامةِ، وأصلُه ميلٌ في إبهاميِ القدمينِ، كل واحدةٍ على صاحبتِها .

خَرَّ: أي: سَقَط على وَجهِه، وأصلُه يدُلُّ على اضطرابٍ وسُقوطٍ مع صَوتٍ .

سَحِيقٍ: أي: بَعيدٍ، وأصلُ (سحق): يدُلُّ على بُعدٍ .

شَعَائِرَ: جمْعُ شَعيرَةٍ، وهي ما جعَله اللهُ تعالى عَلَمًا لطاعتِه، وأصل (شعر): هنا يدلُّ على عِلْمٍ وعَلَمٍ .

مَحِلُّهَا: المَحِلُّ: الموضِع الذي يَحلُّ فيه نَحْر الهدْي، وقيل: هو وَقتُ النَّحْرِ ومكانُه، وأصلُ (حلل): فَتْحُ الشَّيْءِ