الخميس، 18 يناير 2024

13 سورةُ الرَّعدِ مدنية{ الايات 43.}

 

13 سورةُ الرَّعدِ مدنية{ الايات 43.}

سورةُ الرَّعدِ

مقدمة السورة

أسماءُ السُّورةِ:

سُمِّيَت هذه السُّورةُ بسُورةِ (الرَّعد)

بيان المكي والمدني:

سورةُ الرَّعدِ مِن السُّوَرِ المُختَلَفِ فيها؛ فقيل: إنَّها مدنيَّةٌ

، وحُكِي الإجماعُ على ذلك . وقيل: إنَّها مكِّيَّةٌ

مقاصد السورة:

موضوعات السورة:

 

من أهمِّ الموضوعاتِ التي تناولَتْها هذه السُّورةُ:

1- الإشارةُ إلى القُرآنِ الكريمِ وكَونِه حَقًّا مِن عندِ الله تعالى.

2- سوقُ عددٍ مِن الأدلةِ التي تدُلُّ على قُدرةِ اللهِ تعالى الباهرةِ ووحدانيتِه.

3- حكايةُ جانبٍ مِن أقوالِ المشركينَ المتعلقةِ بالبعثِ معَ الردِّ عليهم.

4- بيانُ كمالِ عِلمِ الله سبحانه وإحاطتِه بكلِّ شَيءٍ، وعظيمِ سلطانِه، وحكمتِه فيما يَقْضيه ويقدِّرُه.

5- ضَربُ مثلينِ للحَقِّ والباطلِ، وعقدُ مقارنةٍ بينَ مصيرِ أتباعِ الحقِّ، ومصيرِ أتباعِ الباطلِ، مع بيانِ أوصافِهما.

6- حكايةُ بعضِ مقترحاتِ الكفَّارِ ومطالبِهم المتعنتةِ معَ الردِّ عليهم.

7- بيانُ حسنِ عاقبةِ المتَّقينَ، وسوءِ عاقبةِ المكذِّبينَ.

8- تسليةُ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّا أصابَه.

================

غريب الكلمات-مشكل الإعراب-المعنى الإجمالي

 

تفسير الآيات-الفوائد التربوية-الفوائد العلمية

 

 واللطائف

 

بلاغة الآيات

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات



فهرس القرآن | سورة الرعد مدنية | رقم السورة: 13 - عدد آياتها : 43 عدد كلماتها : 854 - اسمها بالانجليزي : The Thunder
سورة الرعد مكتوبة كاملة بالتشكيل | كتابة وقراءة

 
 
  الٓمٓرۚ تِلۡكَ ءَايَٰتُ ٱلۡكِتَٰبِۗ وَٱلَّذِيٓ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ (1) ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ ٱلَّذِي مَدَّ ٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَٰسِيَ وَأَنۡهَٰرٗاۖ وَمِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ جَعَلَ فِيهَا زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِۖ يُغۡشِي ٱلَّيۡلَ ٱلنَّهَارَۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٞ مُّتَجَٰوِرَٰتٞ وَجَنَّٰتٞ مِّنۡ أَعۡنَٰبٖ وَزَرۡعٞ وَنَخِيلٞ صِنۡوَانٞ وَغَيۡرُ صِنۡوَانٖ يُسۡقَىٰ بِمَآءٖ وَٰحِدٖ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ (4) ۞وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٞ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍۗ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ (5) وَيَسۡتَعۡجِلُونَكَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبۡلَ ٱلۡحَسَنَةِ وَقَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِمُ ٱلۡمَثُلَٰتُۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغۡفِرَةٖ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلۡمِهِمۡۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ (6) وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦٓۗ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٞۖ وَلِكُلِّ قَوۡمٍ هَادٍ (7) ٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَيۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ (8) عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ ٱلۡكَبِيرُ ٱلۡمُتَعَالِ (9) سَوَآءٞ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّيۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ (10) لَهُۥ مُعَقِّبَٰتٞ مِّنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ يَحۡفَظُونَهُۥ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ وَإِذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ سُوٓءٗا فَلَا مَرَدَّ لَهُۥۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَالٍ (11) هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَيُنشِئُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعۡدُ بِحَمۡدِهِۦ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ مِنۡ خِيفَتِهِۦ وَيُرۡسِلُ ٱلصَّوَٰعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمۡ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلۡمِحَالِ (13) لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسۡتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيۡءٍ إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيۡهِ إِلَى ٱلۡمَآءِ لِيَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ (14) وَلِلَّهِۤ يَسۡجُدُۤ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَظِلَٰلُهُم بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ۩ (15) قُلۡ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ قُلِ ٱللَّهُۚ قُلۡ أَفَٱتَّخَذۡتُم مِّن دُونِهِۦٓ أَوۡلِيَآءَ لَا يَمۡلِكُونَ لِأَنفُسِهِمۡ نَفۡعٗا وَلَا ضَرّٗاۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِي ٱلظُّلُمَٰتُ وَٱلنُّورُۗ أَمۡ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلۡقِهِۦ فَتَشَٰبَهَ ٱلۡخَلۡقُ عَلَيۡهِمۡۚ قُلِ ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُوَ ٱلۡوَٰحِدُ ٱلۡقَهَّٰرُ (16) أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَسَالَتۡ أَوۡدِيَةُۢ بِقَدَرِهَا فَٱحۡتَمَلَ ٱلسَّيۡلُ زَبَدٗا رَّابِيٗاۖ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيۡهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبۡتِغَآءَ حِلۡيَةٍ أَوۡ مَتَٰعٖ زَبَدٞ مِّثۡلُهُۥۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡحَقَّ وَٱلۡبَٰطِلَۚ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذۡهَبُ جُفَآءٗۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمۡكُثُ فِي ٱلۡأَرۡضِۚ كَذَٰلِكَ يَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَالَ (17) لِلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱلَّذِينَ لَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُۥ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لَٱفۡتَدَوۡاْ بِهِۦٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ سُوٓءُ ٱلۡحِسَابِ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ (18) ۞أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ (19) ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ ٱلۡمِيثَٰقَ (20) وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ وَيَخَافُونَ سُوٓءَ ٱلۡحِسَابِ (21) وَٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ رَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ وَيَدۡرَءُونَ بِٱلۡحَسَنَةِ ٱلسَّيِّئَةَ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ (22) جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ يَدۡخُلُونَ عَلَيۡهِم مِّن كُلِّ بَابٖ (23) سَلَٰمٌ عَلَيۡكُم بِمَا صَبَرۡتُمۡۚ فَنِعۡمَ عُقۡبَى ٱلدَّارِ (24) وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهۡدَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ مِيثَٰقِهِۦ وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ وَيُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱللَّعۡنَةُ وَلَهُمۡ سُوٓءُ ٱلدَّارِ (25) ٱللَّهُ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ وَفَرِحُواْ بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا مَتَٰعٞ (26) وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَآ أُنزِلَ عَلَيۡهِ ءَايَةٞ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهۡدِيٓ إِلَيۡهِ مَنۡ أَنَابَ (27) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ (28) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ طُوبَىٰ لَهُمۡ وَحُسۡنُ مَـَٔابٖ (29) كَذَٰلِكَ أَرۡسَلۡنَٰكَ فِيٓ أُمَّةٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهَآ أُمَمٞ لِّتَتۡلُوَاْ عَلَيۡهِمُ ٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَهُمۡ يَكۡفُرُونَ بِٱلرَّحۡمَٰنِۚ قُلۡ هُوَ رَبِّي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَيۡهِ مَتَابِ (30) وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ ٱسۡتُهۡزِئَ بِرُسُلٖ مِّن قَبۡلِكَ فَأَمۡلَيۡتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَيۡفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنۡ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡۗ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلۡ سَمُّوهُمۡۚ أَمۡ تُنَبِّـُٔونَهُۥ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَم بِظَٰهِرٖ مِّنَ ٱلۡقَوۡلِۗ بَلۡ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكۡرُهُمۡ وَصُدُّواْ عَنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٖ (33) لَّهُمۡ عَذَابٞ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَشَقُّۖ وَمَا لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٖ (34) ۞مَّثَلُ ٱلۡجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلۡمُتَّقُونَۖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُۖ أُكُلُهَا دَآئِمٞ وَظِلُّهَاۚ تِلۡكَ عُقۡبَى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْۚ وَّعُقۡبَى ٱلۡكَٰفِرِينَ ٱلنَّارُ (35) وَٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَفۡرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن يُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ قُلۡ إِنَّمَآ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَآ أُشۡرِكَ بِهِۦٓۚ إِلَيۡهِ أَدۡعُواْ وَإِلَيۡهِ مَـَٔابِ (36) وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ حُكۡمًا عَرَبِيّٗاۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا وَاقٖ (37) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَذُرِّيَّةٗۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ لِكُلِّ أَجَلٖ كِتَابٞ (38) يَمۡحُواْ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثۡبِتُۖ وَعِندَهُۥٓ أُمُّ ٱلۡكِتَٰبِ (39) وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعۡضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمۡ أَوۡ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُ وَعَلَيۡنَا ٱلۡحِسَابُ (40) أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَأۡتِي ٱلۡأَرۡضَ نَنقُصُهَا مِنۡ أَطۡرَافِهَاۚ وَٱللَّهُ يَحۡكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكۡمِهِۦۚ وَهُوَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ (41) وَقَدۡ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ فَلِلَّهِ ٱلۡمَكۡرُ جَمِيعٗاۖ يَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٖۗ وَسَيَعۡلَمُ ٱلۡكُفَّٰرُ لِمَنۡ عُقۡبَى ٱلدَّارِ (42) وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلٗاۚ قُلۡ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدَۢا بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡ وَمَنۡ عِندَهُۥ عِلۡمُ ٱلۡكِتَٰبِ (43)

 

 فمن(1-4)

غريب الكلمات:

رَوَاسِيَ: أي: جبالًا ثوابِتَ، وأصلُ (رسو): يدلُّ على ثباتٍ

.

زَوْجَيْنِ: أي: صِنفَينِ ونَوعَينِ، وأصلُ (زوج): يدل على مُقارنةِ شَيءٍ لشَيءٍ .

صِنْوَانٌ: أي: مُجتمِعٌ، والصِّنوانُ مِن النَّخلِ: النَّخلتانِ والنَّخلاتُ يجمَعُهنَّ أصلٌ واحِدٌ، وتتشَعَّبُ منه رؤوسٌ فتصيرُ نخيلًا، وأصلُ (صنو): يدلُّ على تقارُبٍ بين شَيئينِ

مشكل الإعراب:

 

قولُه تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا

بِغَيْرِ عَمَدٍ: جارٌّ ومجرورٌ، في موضِعِ نصبٍ على الحالِ مِن السَّمَوَاتِ، تقديرُه: خاليةً عن عمَدٍ. تَرَوْنَهَا: في موضِعِ نصبٍ حالٌ ثانيةٌ مِن السَّمَوَاتِ، أي: رفَعَها مرئيَّةً لكم بغيرِ عمَدٍ. أو مُستأنفةٌ لا محلَّ لها مِن الإعرابِ؛ جيءَ به للاستشهادِ على كونِ السَّمواتِ مَرفوعةً كذلك، وعلى ذلك فالضَّميرُ المنصوبُ في تَرَوْنَهَا للسَّمَواتِ. وقيل: ضَميرُ النَّصبِ في تَرَوْنَهَا عائِدٌ على عَمَدٍ أي: بِغَيرِ عَمَدٍ مَرْئيَّةٍ، وعليه فجملةُ تَرَوْنَهَا في محَلِّ جَرٍّ صِفةٌ لـ  عَمَدٍ، وهذا التخريجُ يَحتَمِلُ وَجهَينِ: أحدُهما: انتفاءُ العَمَدِ والرؤيةِ جَميعًا، أي: لا عَمَدَ فلا رؤيةَ، يعني: لا عَمَدَ لها فلا تُرى. وإليه ذهب الجُمهورُ. والثاني: أنَّ لها عمَدًا ولكِنْ غيرُ مَرئيَّةٍ

المعنى الإجمالي:

 

افتُتِحَت هذه السُّورةُ الكريمةُ ببَعضِ الحروفِ المقطَّعةِ، وقد سبق الكلامُ عنها في أوَّلِ سورةِ البَقَرةِ، ثُمَّ أخبَر الله تعالى أنَّ هذه الآياتِ العظيمةَ هي آياتُ القُرآنِ المُعجِزِ، العظيمِ الشَّأنِ، الذي أُنزِلَ عليك- أيُّها النَّبيُّ- بالحَقِّ الذي لا يلتَبِسُ بالباطلِ، ولكنَّ أكثرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بأنَّ القرآن هو الحَقُّ، مع وضوحِه وجلائِه؛ عِنادًا وتكبُّرًا، وأنَّ اللهَ تعالى الذي أنزلَ هذا الكِتابَ هو الذي رفعَ السَّمواتِ السَّبعَ بقُدرتِه مِن غيرِ عمَدٍ، كما تَرَونَها، ثمَّ علا على العرشِ عُلُوًّا يليقُ بجلالِه وعَظَمتِه، وذلَّل الشَّمسَ والقمرَ لمنافعِ العبادِ، كلٌّ منهما يدورُ في فَلَكِه إلى يومِ القيامةِ، يُدبِّرُ سُبحانَه أمورَ الدُّنيا والآخرةِ، ويُوضِّحُ لكم الآياتِ الدَّالةَ على قُدرتِه؛ لتُوقِنوا بالمعادِ إليه، وبوعدِه ووعيدِه. وهو الذي جعل الأرضَ متَّسِعةً ممتدَّةً، وهيَّأها لِمعاشِكم، وجعل فيها جِبالًا تُثبِّتُها، وأنهارًا لشُربِكم ومَنافِعِكم، وجعل فيها مِن كلِّ الثَّمَراتِ صِنفينِ اثنينِ، فكان منها الأبيضُ والأسودُ، والحُلوُ والحامِضُ، وجعل اللَّيلَ يُغطِّي النَّهارَ بظُلمتِه، إنَّ في ذلك لَعِظاتٍ لقومٍ يتفكَّرونَ فيها فيتَّعِظونَ.

وإنَّ الأرضَ ذاتَها فيها عجائِبُ؛ فيها قِطَعٌ مِن الأرضِ يُجاوِرُ بعضُها بعضًا، منها ما هو طيِّبٌ يُنبتُ ما ينفَعُ النَّاسَ، ومنها سَبِخةٌ مالِحةٌ لا تُنبِتُ شيئًا، وفي الأرضِ الطَّيِّبةِ بساتينُ مِن أعنابٍ، وزروعٌ مُختلِفةٌ، ونخيلٌ مُجتمِعٌ في منبتٍ واحدٍ، وغيرُ مجتمِعٍ فيه، كلُّ ذلك في تربةٍ واحدةٍ، ويشرَبُ مِن ماءٍ واحدٍ، ولكنَّه يختلِفُ في الثِّمارِ والحَجمِ والطَّعمِ وغيرِ ذلك؛ فهذا حُلوٌ، وهذا حامِضٌ، وبعضُها أفضَلُ مِن بعضٍ في الأكُلِ، إنَّ في ذلك لَعلاماتٍ لِمَن كان له قلبٌ يعقِلُ عن اللهِ تعالى أمْرَه ونهيَه.

تفسير الآيات:

 

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1).

المر.

تقدَّم الكلامُ عن هذه الحروفِ المقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ البَقَرةِ

.

تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ.

أي: هذه آياتُ القُرآنِ، الرَّفيعةُ الشَّأنِ العاليةُ المراتِبِ .

وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ.

أي: وهذا القرآنُ الذي أُنزِل إليك- يا مُحمَّدُ- مِن رَبِّك لا مِن غَيرِه، هو الحَقُّ؛ فاعتَصِمْ به واعمَلْ بما فيه، ووجَب لثُبوتِ حَقِّيَّتِه أن يؤمِنَ به جميعُ النَّاسِ .

وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ.

أي: ولكنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ بأنَّ القُرآنَ هو الحَقُّ الذي جاء مِن عندِ اللهِ، مع وضوحِ ذلك وثُبوتِه؛ جهلًا منهم وإعراضًا، أو عِنادًا وظُلمًا .

كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] .

اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكر الله تعالى أنَّ أكثَرَ النَّاسِ لا يُؤمِنونَ؛ ذكرَ عَقيبَه ما يدُلُّ على صِحَّةِ التوحيدِ والمعادِ ، فقال:

اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا.

أي: اللهُ هو الذي رفعَ بقُدرتِه العظيمةِ السَّمواتِ السَّبعَ بلا أعمدةٍ، كما ترَونَها .

كما قال تعالى: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [لقمان: 10] .

ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ.

أي: ثمَّ علا اللهُ على عَرشِه العظيمِ عُلوًّا يليقُ بجلالِه وكَمالِه .

وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى.

أي: وذلَّلَ الشَّمسَ والقمَرَ لمصالحِ خَلْقِه، كلٌّ منهما يجري في السَّماءِ إلى وقتٍ معلومٍ، وهو انتهاءُ الدُّنيا ووقوعُ يومِ القيامةِ .

يُدَبِّرُ الأَمْرَ.

أي: يُصرِّفُ أمورَ مَخلوقاتِه كما يريدُ .

يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ.

أي: يبيِّنُ ويوضِّحُ لكم آياتِه الدالةَ على وحدانيتِه وقُدرتِه على البعثِ وغيرِه؛ كي تُوقِنوا بالبعثِ بعد الموتِ، وتُوقِنوا بوَعدِه ووعيدِه .

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكرَ تعالى العالَمَ العُلويَّ؛ شرعَ في ذِكرِ قُدرتِه وحِكمتِه وإحكامِه للعالَمِ السُّفليِّ، فقال :

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ .

أي: واللهُ هو الذي بسطَ لكم الأرضَ طولًا وعَرضًا، فخلَقَها متَّسِعةَ الأرجاءِ؛ لتَنتَفِعوا بها .

كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا [البقرة: 22] .

وقال سُبحانه: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا [النبأ: 6] .

وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا.

أي: وجعل فيها جِبالًا ثابتةً، وأنهارًا جاريةً .

كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا [المرسلات: 27] .

وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ الأنهارَ؛ ذكَرَ ما ينشأُ عن المياهِ، فقال :

وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.

أي: ومِن جميعِ الثَّمَراتِ جعل اللهُ في الأرضِ صِنفَينِ اثنينِ .

كما قال الله سبحانَه: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان: 10] .

وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى [طه: 53] .

وقال تعالى: وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 7] .

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ.

أي: يغطِّي اللهُ باللَّيلِ النَّهارَ، ويغَطِّي بالنَّهارِ اللَّيلَ، فيجعلُ كلًّا منهما ساتِرًا للآخَرِ .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

أي: إنَّ فيما ذكرتُه لكم من عجائبِ مَخلوقاتي لدَلالاتٍ وعَلاماتٍ لِقَومٍ يتفَكَّرونَ فيها، فيستدِلُّونَ بها على وحدانيَّةِ الله تعالى وكمالِ صِفاتِه، ومن ذلك حِكمتُه وقُدرتُه على وقوعِ البعثِ، وأنَّ العبادةَ لا تصلحُ لِغَيرِه سُبحانَه .

كما قال تعالى: إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 3 - 6] .

وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4).

وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ.

أي: ومِن الآياتِ على كمالِ قُدرتِه العجيبةِ وبديعِ صُنعِه وأنَّه سُبحانَه الفاعِلُ المُختارُ وَحدَه: أنْ جعَلَ في الأرضِ بقاعًا مُختلفةً في ألوانِها وأحجامِها، وأنواعِها وطبائِعِ مَنابتِها؛ فهذه- مثلًا- طَيِّبةٌ عَذبةٌ تُنبِتُ ما ينفَعُ النَّاسَ، وهذه سَبِخةٌ مالِحةٌ لا تُنبِتُ شيئًا، مع كونِ تلك البقاعِ مُتجاوِرةً مُتقارِبةً !

وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ.

أي: وفي الأرضِ بَساتينُ مِن أعنابٍ مُتنَوِّعة، وفيها زروعٌ مُختَلِفةٌ .

وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ.

أي: وفي الأرضِ نَخيلٌ مُختلِفةٌ؛ فهناك نَخَلاتٌ يجمَعُهنَّ أصلٌ واحِدٌ في مَنبتٍ واحدٍ، وهناك نَخَلاتٌ مُتفَرِّقاتٌ، كلُّ نخلةٍ منها نابتةٌ مِن أصلٍ مُستقِلٍّ .

يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ.

أي: جميعُ ما ذكَرْناه من الجنَّاتِ والنَّخيلِ والزُّروعِ، يُسقى بماءٍ واحدٍ عذبٍ غيرِ مالحٍ .

وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ.

أي: ونفضِّلُ بعضَ الأعنابِ والزُّروعِ والنَّخيلِ على بعضٍ في الثَّمرِ؛ طَعمًا وشَكلًا، ولونًا ورائحةً، وأوراقًا وأزهارًا ونفعًا، مع كَونِها تُسقَى بماءٍ واحدٍ !!

إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.

أي: إنَّ في اختلافِ قطعِ الأرضِ المتجاوراتِ، واختلافِ ثمارِ الجنَّاتِ لعلاماتٍ واضحاتٍ ودلالاتٍ لمن كان له قلبٌ يفهمُ عن اللهِ ما أخبَر به، فمِن ذلك دلالاتُها على أنَّ الله  بعلمِه وقدرتِه فاوَت بينَ الأشياءِ وخلَقها على ما يشاءُ، وكما أنَّه قادرٌ على ما يريدُ مِن ابتداءِ الخلقِ ثم تنويعِه بعد إبداعِه، فهو قادرٌ أيضًا على إعادتِه بطريقِ الأوْلَى، وأيضًا فالذي خالَف بينَ تلك الأشياءِ، هو الذي خالَف بينَ خلقِه فيما قسَم لهم مِن هدايةٍ وضلالٍ وتوفيقٍ وخذلانٍ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ فيه أنَّ كثرةَ الأدلَّةِ وبَيانَها ووضوحَها، مِن أسبابِ حُصولِ اليَقينِ في جميعِ الأمورِ الإلهيَّةِ، خُصوصًا في العقائدِ الكِبارِ، كالبَعثِ والنُّشورِ، والإخراجِ مِن القُبورِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ فالدَّلائِلُ المذكورةُ كما تدُلُّ على الخالقِ الحكيمِ الذي يستحقُّ العبادةَ وحدَه، فهي أيضًا تدُلُّ على صِحَّةِ القَولِ بالحَشرِ والنَّشرِ؛ لأنَّ مَن قدَرَ على خَلقِ هذه الأشياءِ وتَدبيرِها على عَظَمتِها وكَثرتِها، فلَأنْ يقدِرَ على الحَشرِ والنَّشرِ كان أوْلَى

.

2- قول الله تعالى: لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، فيه دليلٌ على رؤيةِ اللهِ تعالى؛ فقد أجمَع أهلُ اللسانِ على أنَّ اللقاءَ متى نُسِب إلى الحيِّ السليمِ مِن العمَى والمانعِ اقتضَى المعاينةَ والرؤيةَ .

3- قولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ذِكرُ اللَّيلِ والنَّهارِ مع آياتِ العالَمِ السُّفليِّ في غايةِ الدِّقَّةِ العِلميَّةِ؛ لأنَّهما مِن أعراضِ الكُرةِ الأرضيَّةِ بحسَبِ اتِّجاهِها إلى الشَّمسِ، وليسا مِن أحوالِ السَّمواتِ؛ إذ الشَّمسُ والكواكبُ لا يتغيَّرُ حالُها بضياءٍ وظُلمةٍ ، وقيل: عدَّ هذا في تَضاعيفِ الآياتِ السُّفليَّةِ وإنْ كانَ تعلُّقُه بالآياتِ العُلْويَّةِ ظاهرًا، باعتبارِ أنَّ ظُهورَه في الأرضِ؛ فإنَّ اللَّيلَ إنَّما هو ظِلُّها، وفيما فوقَ مَوقِعِ ظِلِّها لا ليلٌ أصلًا، ولأنَّ اللَّيلَ والنَّهارَ لهما تعلُّقٌ بالثَّمراتِ مِن حيثُ العَقْدُ والإنضاجُ، على أنَّهما أيضًا زوجانِ مُتقابِلانِ مثلَها .

4- في قول الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، هذه الآيةُ تقتضي أنَّ كلَّ ثمرةٍ موجودٌ منها نوعانِ، فإن اتَّفق أن يوجدَ في ثمرةٍ أكثرُ مِن نوعينِ فغيرُ ضارٍّ في معنى الآيةِ ، فإنْ قِيل: فلم خصَّ اثنين بالذكرِ، وإنْ كان مِن أجناسِ الثِّمارِ ما يزيدُ على ذلك؟ فالجواب: لأنَّه الأقلُ، إذ لا نوعَ تنقصُ أصنافُه عن اثنينِ .

5- قَولُ الله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ قيَّدَ مِن الأرضِ في هذا المثالِ ما جاورَ وقَرُبَ بعضُه مِن بعضٍ؛ لأنَّ اختلافَ ذلك في الأكلِ أغرَبُ .

6- قولُ اللهِ تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فيه دليلٌ على بُطلانِ قَولِ الطَّبائعيِّينَ ؛ لأنَّه لو كان حدوثُ الثَّمَرِ مِن طَبعِ الأرضِ، والهواءِ والماءِ، وجب أن يتَّفِقَ ما يحدُثُ؛ لاتِّفاقِ ما أوجبَ الحُدوثَ، فلمَّا وقع الاختلافُ، دلَّ على مدبِّرٍ قادرٍ ، فاعِلٍ مُختارٍ، يفعلُ ما يشاءُ، كيفَ يشاءُ، سبحانَه، جَلَّ وعَلَا عَنِ الشُّركاءِ والأندادِ .

7- في قَولِه تعالى: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ دَلالةٌ على تَفضيلِه سُبحانَه بعضَ المَخلوقاتِ على بعضٍ، مع استوائِها فيما تساوَت فيه مِن الأسبابِ .

8- قال الحسنُ في قولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ... إلى قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ: (هذا مَثَلٌ ضرَبَه اللَّهُ تعالى لقُلوبِ بني آدمَ؛ كانتِ الأرضُ طينَةً واحدةً فسَطَحَها، فصارت قِطَعًا مُتجاوراتٍ، فنزَلَ عليها ماءٌ واحدٌ مِن السَّماءِ، فتُخرِجُ هذه زَهرةً وثمَرةً، وتُخرِجُ هذه سَبَخَةً ومِلحًا وخَبَثًا. وكذلك النَّاسُ خُلِقوا مِن آدمَ، فنزَلَتْ عليهم مِن السَّماءِ تذْكِرَةٌ، فرَقَّتْ قُلوبٌ، وخشَعَت قُلوبٌ، وقَسَت قُلوبٌ، ولَهَتْ قُلوبٌ)

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ

- قولُه: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ في إسنادِ الإنزالِ إليه بصِيغَةِ المَبْنيِّ للمفعولِ والتَّعرُّضِ لوصْفِ الرُّبوبيَّةِ مُضافًا إلى ضميرِه عليه السَّلامُ: دلالةٌ على فَخامةِ المُنْزَلِ التَّابعةِ لجَلالةِ شأْنِ المُنْزِلِ وتشْريفِ المُنْزَلِ إليه، وإيماءٌ إلى وجْهِ بِناءِ الخبَرِ

. وقيل: الإتيانُ بـ رَبِّكَ دون اسمِ الجَلالةِ؛ للتَّلطُّفِ .

- وأخبَرَ عنِ الَّذي أُنْزِلَ بأنَّه الْحَقُّ بصيغةِ القَصْرِ، أي: هو الحقُّ لا غيرُه مِن الكُتُبِ، فالقَصْرُ إضافيٌّ بالنِّسبةِ إلى كُتُبٍ معلومةٍ عندَهم، أو القصْرُ حقيقيٌّ ادِّعائيٌّ ؛ مُبالغَةً لعَدَمِ الاعتدادِ بغيرِه مِن الكُتُبِ السَّابقةِ، أي: هو الحقُّ الكاملُ؛ لأنَّ غيرَه مِن الكُتُبِ لم يستكمِلْ مُنتهَى مُرادِ اللَّهِ مِن النَّاسِ؛ إذ كانتْ درجاتٍ مُوصِلةً إلى الدَّرجةِ العُليا .

- قولُه: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ هذه الجُملةُ كالحُجَّةِ على الجُملةِ الأُولى، وتعريفُ الخبَرِ الْحَقُّ وإنْ دلَّ على اختصاصِ المُنْزَلِ بكونِه حقًّا، فهو أعمُّ مِن المُنْزَلِ صريحًا أو ضِمنًا، كالمُثْبَتِ بالقياسِ وغيرِه ممَّا نطَقَ المُنْزِلُ بحُسْنِ اتِّباعِه .

- قولُه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ استدراكٌ، وهو راجعٌ إلى ما أفادَه القَصْرُ مِن إبطالِ مُساواةِ غيرِه له في الحَقِّيَّةِ إبطالًا يقتضي ارتفاعَ النِّزاعِ في أحقِّيَّتِه، وابتداءُ السُّورةُ بهذا تنويهٌ بِما في القُرآنِ- الَّذي هذه السُّورةِ جزءٌ منه- مقصودٌ به تهيئَةُ السَّامِعِ للتَّأمُّلِ ممَّا سَيَرِدُ عليه مِن الكلامِ .

2- قولُه تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ

- قولُه: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ استئنافٌ ابتدائيٌّ هو ابتداءُ المقْصودِ مِن السُّورةِ، وما قبلَه بمنزِلَةِ الدِّيباجَةِ مِن الخُطبةِ؛ ولذا طالَ الكلامُ واطَّرَدَ في هذا الغَرَضِ .

- وفيه الافتِتاحُ باسمِ الجَلالةِ اللَّهُ دون الضَّميرِ الَّذي يعودُ إلى رَبِّكَ؛ لأنَّه مُعَيَّنٌ به لا يشتَبِه غيرَه مِن آلهتِهم؛ ليكونَ الخبَرُ المقصودُ جاريًا على مُعَيَّنٍ لا يحتمِلُ غيرَه؛ إبلاغًا في قطْعِ شائبةِ الإشراكِ. والَّذِي رَفَعَ هو الخبَرُ، وجُعِلَ اسمَ موصولٍ؛ لكونِ الصِّلةِ معلومةَ الدَّلالةِ على أنَّ مَن تثبُتُ له هو المُتَوحِّدُ بالرُّبوبيَّةِ؛ إذ لا يستطيعُ مثلَ تلك الصِّلةِ غيرُ المُتَوحِّدِ، ولأنَّه مُسَلَّمٌ له ذلك . وعلى القولِ بأنَّ جُمْلتي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ خَبَرانِ عن قولِه: اللَّهُ خبرًا بعد خبَرٍ؛ فالموصولُ الَّذِي صفةٌ للمُبتدأِ اللَّهُ؛ جيءَ به للدَّلالةِ على تحقيقِ الخبَرِ، وتعظيمِ شأْنِه .

- وقولُه: تَرَوْنَها استئنافٌ استُشْهِدَ به على ما ذُكِرَ مِن رفْعِ السَّمواتِ بغيرِ عَمَدٍ .

- وعلى القولِ بالاستئنافِ فيكونُ في قولِه تعالى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا فنٌّ رفيعٌ مِن فُنونِ البَلاغةِ، وهو نَفْيُ الشَّيءِ بايجابِه، أي: رفَعَ السَّمواتِ خاليةً مِن العَمَدِ، فالوجْهُ انتِفاءُ العَمَدِ والرُّؤيةِ جميعًا؛ فلا رُؤيةَ ولا عَمَدَ .

- قولُه: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فيه التَّعبيرُ بالجَرَيانِ عنِ السَّيرِ الَّذي فيه سُرْعةٌ .

- وفيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا في سُورةِ (الرَّعدِ): كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى، وفي سُورةِ (لُقمانَ) قال: كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ [لقمان: 29] ، فعبَّرَ بـ (إلى) ولا ثانِيَ له؛ وذلك لأنَّه يُقالُ في الزَّمانِ: جَرَى ليومِ كذا، وإلى يومِ كذا، والأكثرُ اللَّامُ، كما في هذه السُّورةِ وسُورةِ (فاطرٍ): يَجْرِي لِأَجَلٍ [فاطر: 35] ، وكذلك في (يس): تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا [يس: 38] ؛ لأنَّه بمنزِلةِ التَّاريخِ، وأمَّا في سُورةِ (لُقمانَ) فوافَقَ ما قبلَها، وهو قولُه: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ [لقمان: 22] ، والقِياسُ (للَّهِ) كما في قولِه: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] ، لكنَّه حُمِلَ على المعنى، أي: يقصِدُ بطاعتِه إلى اللَّهِ، وكذلك يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [لقمان: 29] ، أي: يجْري إلى وقتِه المُسمَّى له .

- قولُه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ الَّذي تقْتَضيه الفَصاحةُ أنَّ هاتينِ الجُمْلتينِ استِئنافُ إخبارٍ عنِ اللَّهِ تعالى ، وجُملةُ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ تُرِكَ عطْفُها على الَّتي قبلَها؛ لتكونَ على أسلوبِ التَّعْدادِ والتَّوقيفِ؛ وذلك اهتمامٌ باستقْلالِها .

- وفيه مُناسَبة حَسَنةٌ، حيث صِيغَ يُدَبِّرُ ويُفَصِّلُ بالمُضارعِ، على عكْسِ قولِه: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ؛ لأنَّ التَّدبيرَ والتَّفصيلَ مُتَجدِّدٌ مُتَكرِّرٌ بتجدُّدِ تعلُّقِ القُدرةِ بالمقْدوراتِ، وأمَّا رفْعُ السَّمواتِ وتسخيرُ الشَّمسِ والقمرِ فقد تمَّ واستقرَّ دُفعةً واحدةً .

- قولُه: لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ مِن إدماجِ غرَضٍ في أثناءِ غرَضٍ آخرَ؛ لأنَّ الكلامَ جارٍ على إثباتِ الوحدانيَّةِ، وفي أدلَّةِ الوحدانيةِ دَلالةٌ على البعْثِ أيضًا .

3- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

- قولُه: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ عَطْفٌ على جُملةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ؛ فبيْنَ الجُملتينِ شِبْهُ التَّضادِّ؛ حيث اشتملتِ الأُولى على ذِكْرِ العَوالِمِ العُلويَّةِ وأحوالِها، واشتملتِ الثَّانيةُ على ذِكْرِ العَوالِمِ السُّفليَّةِ، والمعنى: أنَّه خالقُ جميعِ العَوالِمِ وأعراضِها .

- قولُه: وَجَعَلَ فِيهَا رَواسِيَ أي: جِبالًا ثوابتَ في أحْيازِها؛ مِن الرَّسْوِ، وهو ثباتُ الأجسامِ الثَّقيلةِ، ولم يذْكُرِ الموصوفَ (الجبالَ)؛ لظُهورِه، ولإغْناءِ غلَبَةِ الوصفِ بها عن ذلك، والتَّعبيرُ عنِ الجبالِ بهذا العُنوانِ؛ لبيانِ تفرُّعِ قَرارِ الأرضِ على ثباتِها .

- قولُه: جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فيه تنْكيرُ زَوْجَيْنِ؛ للتَّنويعِ، أي: جعَلَ زوجَينِ مِن كلِّ نوعٍ، ومعنى التَّثْنيةِ في زَوْجَيْنِ أنَّ كلَّ فرْدٍ مِن الزَّوجِ يُطْلَقُ عليه زوجٌ، والوصفُ بقولِه: اثْنَيْنِ؛ للتَّأكيدِ؛ تحقيقًا للامْتِنانِ ؛ فأكَّدَ به الزَّوجينِ لئلَّا يُفْهَمَ أنَّ المُرادَ بذلك الشَّفْعانِ؛ إذ يُطْلَقُ الزَّوجُ على المجْموعِ، ولكنِ اثْنَيْنِيَّةُ ذلك اثْنَيْنِيَّةٌ اعتِباريَّةٌ، أي: جعَلَ مِن كلِّ نوعٍ مِن أنواعِ الثَّمراتِ الموجودةِ في الدُّنيا ضَرْبَينِ صِنْفَينِ .

- وجيءَ بالفِعْلِ يُغْشِي بصِيغَةِ المُضارعِ؛ لِما يدُلُّ عليه مِن التَّجدُّدِ؛ لأنَّ جَعْلَ الأشياءِ المُتقدِّمِ ذِكْرُها جَعْلٌ ثابِتٌ مُستمِرٌّ، وأمَّا إغْشاءُ اللَّيلِ والنَّهارِ فهو أمْرٌ مُتجدِّدٌ كلَّ يومٍ وليلةٍ .

- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في الإشارةِ بـ ذَلِكَ تنْبيهٌ على عِظَمِ شأْنِ المُشارِ إليه في بابِه .

- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ جعَلَ الأشياءَ المَذْكوراتِ ظُروفًا لـ (آيَاتٍ)؛ لأنَّ كلَّ واحدةٍ مِن الأمورِ المَذْكورةِ تتضمَّنُ آياتٍ عظيمةً، وأجْرى صِفَةَ التَّفكيرِ على لفظِ (قَوْمٍ)؛ إشارةً إلى أنَّ التَّفكيرَ المُتكرِّرَ المُتجدِّدَ هو صِفَةٌ راسِخةٌ فيهم، بحيث جُعِلَتْ مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم، أي: جِبِلَّتِهم، وجيءَ في التَّفكيرِ بالصِّيغةِ الدَّالَّةِ على التَّكلُّفِ (تَفَعَّل) وبصيغةِ المُضارعِ؛ للإشارةِ إلى تفْكيرٍ شديدٍ ومُكرَّرٍ .

- وخَصَّ المتفَكِّرينَ؛ لأنَّ ما احتوَت عليه هذه الآياتُ مِن الصَّنيعِ العَجيبِ، لا يُدرَكُ إلَّا بالتفَكُّرِ .

- وفي خِتامِ هذه الآيةِ بقولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، وقد ختَمَ الآيةَ الَّتي بعدَها بقولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ في قولِه: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ فقال في الأُولى: يَتَفَكَّرُونَ، وفي الآيةِ الَّتي بعدَها: يَعْقِلُونَ؛ وذلك أنَّ التَّفكُّرَ هو المُؤَدِّي إلى مَعرفةِ الشَّيءِ، والعِلْمِ بالآياتِ الَّتي تدُلُّ على وَحدانيَّةِ اللَّهِ تعالى، فهو قَبْلُ؛ فإذا استُعْمِلَ على وجْهِه عقَل ما جُعِلَت هذه الأشياءُ أَمَارَةً له، ودَلالةً عليه؛ فبُدِئَ في الأوَّلِ بما يُحْتاجُ إليه أوَّلًا مِن التَّفكُّرِ والتَّدبُّرِ المُفْضِيَيْنِ بصاحِبِهما إلى إدراكِ المطلوبِ، وخُصَّ الآخَرُ بما يستقِرُّ عليه آخِرُ التَّفكُّرِ مِن سُكونِ النَّفْسِ إلى عِرفانِ ما دلَّتِ الآياتُ عليه، فكان في تقْديمِ ما قُدِّمَ وتأْخيرِ ما أُخِّرَ إشارةٌ إليه ؛ فختَمَ الآيةَ هنا بـ يَتَفَكَّرُونَ، وختَمَها بعدُ بـ يَعْقِلُونَ؛ لأنَّ التَّفكُّرَ في الشَّيءِ سببٌ لِتعقُّلِه، والسَّببُ مُقدَّمٌ على المُسبَّبِ، فناسَبَ تقدُّمُ التَّفكُّرِ على التَّعقُّلِ . وأيضًا لمَّا كان الاستدلالُ في الآيةِ الثَّانيةِ بأشياءَ في غايَةِ الوضوحِ مِن مُشاهدَةِ تجاوُرِ القِطَعِ، والجنَّاتِ وسَقْيِها وتفْضيلِها، جاء ختْمُها بقولِه: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، بخلافِ هذه الآيةِ الَّتي قبلها؛ فإنَّ الاستدلالَ بها يَحتاجُ إلى تأمُّلٍ ومَزيدِ نظَرٍ؛ فجاءَ ختْمُها بقولِه: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .

وقيل: إنَّ مُعْتَبَراتِ الآيةِ الأُولى مِن مَدِّ الأرضِ وما ذُكِرَ بعدَ ذلك أوضحُ للاعتِبارِ، ومُعْتَبَراتِ الثَّانيةِ أغمضُ، فتجاوُرُ قِطَعِ الأرضِ وتقارُبُها في الصِّفاتِ والهيْئاتِ مِن سَهْلٍ وحَزْنٍ، ثمَّ تُخْرِجُ أنواعَ الجنَّاتِ مِن النَّخلِ والأعنابِ وضُروبِ الأشجارِ والنَّباتِ والزَّرعِ، واختلافُ الطُّعومِ في ثَمَراتِها والألوانِ والرَّوائحِ، وتفاوتُ الطِّيبِ والمنافِعِ الحاصِلةِ عن ذلك؛ مِن غِذاءٍ ودواءٍ نافعٍ وضارٍّ، مع تقارُبِ الأرضِ وتجاوُرِها وتشاكُلِها وسَقْيِها بماءٍ واحدٍ، كما قال اللَّهُ تعالى: يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد: 4] ، وهذا ممَّا تنقطِعُ الأفكارُ وتقصُرُ العُقولُ عن عَجيبِ الصُّنعِ الرَّبانيِّ فيه، وأمَّا مُعْتَبَراتُ الأُولى فيُتَوصَّلُ بالفِكرِ إلى الحُصولِ على الاعتِبارِ بها وتعقُّلِها وعجيبِ الحِكمةِ فيها، وغُموضُ ما في الثَّانية بادٍ، ولا يُتَوصَّلُ إلى بعضِ ذلك إلَّا بعدَ طُولِ الاعتِبارِ والتَّأْييدِ منه سبحانه والتَّوفيقِ؛ فلمَّا كان العَقلُ أشرفَ وأعلى ناسَبَه أنْ يُتْبَعَ به ما هو أغمَضُ وأخْفى، وناسَبَ الفِكرَ ما هو أظهَرُ وأجْلى؛ فقيل في عَقِبِ الآيةِ الأُولى: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وفي عَقِبِ الآيةِ الثَّانيةِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، ولو ورَدَ العكْسُ لم يكُنْ ليُناسِبَ .

4- قولُه تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ

- قولُه: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ فيه إعادةُ اسمِ الأرضِ الظَّاهرِ دون ضَميرِها الَّذي هو المُقْتَضى؛ لِيستقِلَّ الكلامُ، ويتجدَّدَ الأُسلوبُ، وأصلُ انتظامِ الكلامِ أنْ يُقال: (جعَلَ فيها زوجينِ اثنينِ، وفيها قِطَعٌ مُتجاوراتٌ)؛ فعدَلَ إلى هذا تَوضيحًا وإيجازًا، والاقتِصارُ على ذِكْرِ الأرضِ وقِطَعِها يشيرُ إلى اختلافٍ حاصِلٍ فيها عن غيرِ صُنْعِ النَّاسِ؛ وذلك اختلافُ المَراعي والكلَأِ .

- قولُه: قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ ليس وَصْفُ القِطَعِ بـ مُتَجَاوِرَاتٌ مقْصودًا بالذَّاتِ في هذا المَقامِ؛ إذ ليس هو مَحَلَّ العِبرَةِ بالآياتِ، بلِ المقْصودُ وَصْفُ مَحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ، تقديرُه: مُختلِفاتُ الألوانِ والمَنابِتِ، كما دلَّ عليه قولُه: وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، وإنَّما وُصِفَت بـ مُتَجَاوِرَاتٌ؛ لأنَّ اختلافَ الألوانِ والمَنابِتِ مع التَّجاوُرِ أشدُّ دَلالةً على القُدرةِ العظيمةِ .

- قولُه: وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ، وَزَرْعٌ، أي: مِن كلِّ نوعٍ مِن أنواعِ الحُبوبِ، وإفرادُه لمُراعاةِ أصْلِه (لأنَّه مصْدرٌ في أصْلِه)، ولعلَّ تقْديمَ ذِكْرِ الجنَّاتِ عليه مع كونِه عَمودَ المَعاشِ؛ لظُهورِ حالِها في اختلافِها ومُباينَتِها لِسائرِها، ورُسوخِ ذلك فيها. وتأْخيرُ وَنَخِيلٌ؛ لئلا يقَعَ بينها وبين صِفَتِها صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ فاصِلَةٌ . وخُصَّ النَّخلُ بذِكْرِ صِفَةِ صِنْوَانٌ؛ لأنَّ العِبرَةَ بها أقْوى، ووجْهُ زيادةِ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ تجْديدُ العِبرَةِ باختلافِ الأحوالِ .

- وأيضًا في قولِه: صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ النَّصُّ على الصِّنْوانِ؛ لأنَّها بمِثالِ التَّجاوُرِ في القِطَعِ، فظهَرَ فيها غَرابَةُ اختلافِ الأُكُلِ .

- قولُه: وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ خُصَّ التَّفضيلُ في الأكُلِ وإن كانت متفاضِلةً في غيرِه؛ لأنَّه غالِبُ وُجوهِ الانتفاعِ مِن الثَّمَراتِ .

- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وهذه الأحوالُ وإنْ كانت هي الآياتِ أنْفُسَها لا أنَّها فيها، إلَّا أنَّه قد جُرِّدَت عنها أمثالُها؛ مُبالَغةً في كونِها آيةً، فـ (في) تجْريديَّةٌ مثْلها في قولِه تعالى: لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ، وحيث كانت دلالةُ هذه الأحوالِ على مَدْلولاتِها أظْهَرَ ممَّا سَبَقَ، عُلِّقَ كونُها آياتٍ بمَحْضِ التَّعقُّلِ؛ ولذلك لم يُتَعَرَّضْ لغيرِ تفضيلِ بعضِها على بعضٍ في الأُكُلِ الظَّاهرِ لكلِّ عاقلٍ، مع تحقُّقِ ذلك في الخَواصِّ والكيفيَّاتِ ممَّا يتوقَّفُ العُثورُ عليه على نوعِ تأمُّلٍ وتفكُّرٍ؛ كأنَّه لا حاجةَ في ذلك إلى التَّفكُّرِ أيضًا. وفيه تعريضٌ بأنَّ المُشركينَ غيرُ عاقِلينَ ؛ فجاءت هذه الجُملةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ مَجيءَ التَّذييلِ، ووصَفَت الآياتِ بأنَّها مِن اختِصاصِ الَّذين يعقِلونَ؛ تعْريضًا بأنَّ مَن لم تُقْنِعْهم تلك الآياتُ مُنَزَّلونَ مَنزلَة مَن لا يعقِلُ، وَزِيدَ في الدَّلالةِ على أنَّ العقْلَ سَجِيَّةٌ للَّذين انتفعوا بتلك الآياتِ بإجْراءِ وَصْفِ العقْلِ على كلمةِ لِقَوْمٍ؛ إيماءً إلى أنَّ العقْلَ مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم .

=====

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (5-7)

ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات:

 

الْأَغْلَالُ: جمعُ غُلٍّ، والغُلُّ: مختصٌّ بما يُقيَّدُ به فيجعلُ الأعضاءَ وسطَه، أو: هو طوقٌ تشدُّ به اليدُ إلى العنقِ، أو حَلْقَةٌ مِنْ حديدٍ أو غيرِه تُحيطُ بالعنقِ تُناطُ بها سلسلةٌ مِنْ حديدٍ، وأصلُ (غلل): تدرُّعُ الشيءِ وتوسُّطُه

.

خَلَتْ: أي: مَضَت وذَهبَت، وأصلُ (خلو): يدُلُّ على تعرِّي الشَّيءِ مِن الشَّيءِ .

الْمَثُلَاتُ: أي: العُقوباتُ النازلةُ على أمثالِهم من المكَذِّبينَ، وأصلُ (مثل): يدلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: وإن تعجَبْ- يا مُحمَّدُ- مِن عدَمِ إيمانِ قَومِك بعدَ هذه الأدلَّةِ، فالعجَبُ الأشدُّ قَولُهم: أئِذا مِتْنا وكُنَّا تُرابًا نُبعَثُ مِن جديدٍ؟! أولئك هم الكافرون برَبِّهم الذي أوجَدَهم من العَدَمِ، وأولئك تكونُ أطواقُ الحديدِ في أعناقِهم يومَ القيامةِ، وأولئك أصحابُ النَّارِ لا يَخرُجونَ منها أبدًا. ويَستعجِلُك الكُفَّارُ بالعذابِ، بدلَ العافيةِ والرَّحمةِ والإمهالِ؛ استهزاءً، وإنكارًا منهم وقوعَ ما تُنذِرُهم به، وقد مضَت عُقوباتُ المكَذِّبينَ مِن قَبلِهم، فكيف لا يَعتَبِرونَ بهم؟ وإنَّ رَبَّك- يا مُحمَّدُ- لَذو مغفرةٍ لذُنوبِ مَن تاب مِن النَّاسِ على ظُلمِهم، وإنَّ ربَّك لَشديدُ العِقابِ على مَن أصرَّ على الكُفرِ والضَّلالِ ومَعصيةِ الله. ويقولُ كُفَّارُ مكَّةَ: هلَّا جاءتْه مُعجزةٌ مِن رَبِّه، وليس ذلك بيَدِك؛ فما أنت إلَّا منذرٌ لقَومِك؛ تحذِّرُهم مِن عِقابِ اللهِ، ولكُلِّ أمَّةٍ رَسولٌ يُرشِدُهم ويدعوهم إلى اللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

 

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ الدَّلائِلَ القاهِرةَ على ما يُحتاجُ إليه في مَعرفةِ المَبدأِ؛ ذكَر بعدَه مَسألةَ المعادِ

.

وأيضًا لما قضَى حقَّ الاستدلالِ على الوحدانيةِ؛ نقَل الكلامَ إلى الردِّ على مُنكري البعثِ، وهو غرضٌ مستقلٌّ مقصودٌ مِن هذه السورةِ، وقد أُدْمِج ابتداءً خلالَ الاستدلالِ على الوحدانيةِ، بقولِه: لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ تمهيدًا لما هنا، ثم نقَل الكلامَ إليه باستقلالِه، بمناسبةِ التدليلِ على عظيمِ القدرةِ، مستخرجًا مِن الأدلةِ السابقةِ عليه أيضًا .

وأيضًا لَمَّا ثبَتَ قَطعًا بما أقام سُبحانَه وتعالى من الدَّليلِ على عظيمِ قُدرتِه، وبما أودَعَه مِن الغرائبِ في مَلَكوتِه التي لا يَقدِرُ عليها سِواه- أنَّ هذا إنَّما هو فِعلُ واحدٍ قَهَّارٍ مُختارٍ يُوجِدُ المَعدومَ، ويُفاوِتُ بين ما تقتَضي الطَّبائِعُ اتِّحادَه؛ كان إنكارُ شَيءٍ مِن قُدرتِه عَجبًا، فقال عطفًا على قَولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ- مشيرًا إلى أنَّهم يقولونَ: إنَّ الوعدَ بالبَعثِ سِحرٌ لا حقيقةَ له -:

وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ.

أي: وإنْ تَعجَبْ- يا مُحمَّدُ- مِن عبادةِ المُشرِكينَ آلهةً لا تضُرُّ ولا تنفَعُ، بعدَما رأَوا مِن آثارِ قُدرةِ اللهِ العظيمةِ ما رأَوْا؛ مِن خَلْقِه الأشياءَ التي تقدَّمَ ذِكرُها؛ فالعجَبُ مِن إنكارِهم البعثَ بقَولِهم: أئِذا صِرْنا تُرابًا بعد مَوتِنا، أئِنَّا لمبعوثونَ خَلقًا جديدًا كما كنَّا في الدُّنيا ؟!

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ   .

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا حكَى اللَّهُ سبحانَه عنهم قَوْلَهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؛ حَكَم عليهم بأمورٍ ثلاثةٍ ، فقال:

أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ   .

أي: أولئك- البَعيدونَ عن كُلِّ خيرٍ ممَّن يُنكِرونَ البَعثَ بعد الموتِ- قد وقَعوا بذلك في الكُفرِ باللهِ تعالى، حيثُ أنكَروا قُدرةَ الرَّبِّ الذي خلَقَهم ويَملِكُهم، ويدَبِّرُ أمورَهم، وكذَّبوا رسلَه .

وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لمَّا حكَمَ عليهم بالكُفرِ في الدُّنيا ذكَرَ ما يَؤُولونَ إليه في الآخِرةِ على سبيلِ الوعيدِ .

وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ.

أي: وهم الذين في أعناقِهم أطواقٌ مِن حديدٍ، يومَ القيامةِ .

كما قال تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 70 - 72] .

وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ.

أي: وأولئك سُكَّانُ النَّارِ، هم ماكِثونَ فيها، لا يَخرُجونَ منها أبدًا .

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يهَدِّدُ المشركين تارةً بعذابِ القِيامةِ، وتارةً بعذابِ الدُّنيا، والقومُ كلَّما هدَّدَهم بعذابِ القيامةِ أنكَروا القيامةَ والبعثَ، والحَشرَ والنَّشرَ، وكُلَّما هدَّدَهم بعذابِ الدُّنيا، طلَبوا منه إظهارَه وإنزالَه؛ على سبيلِ الطَّعنِ فيه، وإظهارِ أنَّ الذي يقولُه كلامٌ لا أصلَ له؛ فلهذا السَّبَبِ حكى اللهُ عنهم أنَّهم يستعجِلونَ الرَّسولَ بالسَّيِّئةِ قبلَ الحَسَنةِ .

وأيضًا لَمَّا تضَمَّنَت الآيةُ السابقةُ إثباتَ القُدرةِ التَّامَّةِ، مع ما سبقَ مِن أدِلَّتِها المحسوسةِ المُشاهَدةِ؛ كان أيضًا من العجَبِ العَجيبِ والنَّبأِ الغريبِ استهزاؤُهم بها، فقال مُعَجِّبًا منهم :

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ.

أي: ويطلُبُ منك كفَّارُ قَومِك- يا محمَّدُ- استخفافًا واستهزاءً؛ أن تُعَجِّلَ لهم العذابَ قبلَ أن يَطلُبوا العافيةَ والإمهالَ، وذلك لشدَّةِ كُفرِهم وتكذيبِهم وعِنادِهم .

كما قال تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] .

وقال سُبحانه: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الحجر: 6-7] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [العنكبوت: 53-54] .

وقال جلَّ ثناؤُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [هود: 7، 8].

وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ.

أي: يَستعجِلونَك بالعذابِ والحالُ أنَّهم يعلمونَ ما حلَّ بالأُمَم المكذِّبةِ مِن قَبْلِهم مِن العُقوباتِ، ولم يتَّعِظوا !

وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْﭢ   .

أي: وإنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- ذُو عَفْوٍ وتجاوزٍ وسَترٍ للنَّاسِ معَ أنَّهم يَظْلِمونَ ويُخْطِئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وذلك إذا تابوا ورجَعوا إلى الله .

وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ.

أي: وإنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- لَشديدُ العِقابِ لمن أصرَّ على ظُلمِه، فيُعاقِبُه على ذلك في الدُّنيا أو في الآخرةِ، أو في كِلا الدَّارَينِ .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى حكى عن الكُفَّارِ أنَّهم طَعَنوا في نبُوَّةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بسبَبِ طَعنِهم في الحَشرِ والنَّشرِ أوَّلًا، ثمَّ طعَنوا في نبُوَّتِه بسبَبِ طَعنِهم في صِحَّةِ ما يُنذِرُهم به مِن نُزولِ عذابِ الاستئصالِ ثانيًا، ثمَّ طعَنوا في نبوَّتِه بأن طلَبوا منه المُعجِزةَ والبيِّنةَ ثالثًا، وهو المذكورُ في هذه الآيةِ .

وأيضًا لَمَّا بيَّنَ الله سُبحانَه أنَّ المُشرِكينَ غَطَّوا آياتِ رَبِّهم المتفَضِّلِ عليهم بتلك الآياتِ وغَيرِها؛ عَجِبَ منهم عجبًا آخَرَ في طلَبِهم إنزالَ الآياتِ، مع كونِها مُتساويةَ الأقدامِ في الدَّلالةِ على الصَّانِعِ وما له من صِفاتِ الكَمالِ، فلمَّا كَفَروا بما أتاهم كانوا جديرينَ بالكُفرِ بما يأتيهم، فقال :

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ.

أي: ويقولُ الكافِرونَ مِن قَومِك- يا مُحمَّدُ- عنادًا وكفرًا، واعتذارًا عن الإيمانِ بك: هلَّا أُنزِلَ على محمَّدٍ مُعجِزةٌ مِن رَبِّه تَدُلُّ على نبُوَّتِه !

كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90 - 93] .

وقال سُبحانه: لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [الفرقان: 7-8] .

إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ.

أي: إنَّما عليك- يا محمَّدُ- أن تُحذِّرَ قَومَك مِن عِقابِ اللهِ إن أصَرُّوا على كُفرِهم، وليس عليك هدايتُهم، ولا إنزالُ الآياتِ التي يقتَرِحونَها .

وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ.

أي: ولكُلِّ أمَّةٍ رَسولٌ يدعوهم إلى توحيدِ اللهِ، ويُعَلِّمُهم الخيرَ، فيَهتَدونَ به

 

.

كما قال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ [يونس: 47] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [النحل: 36] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر: 24] .

وقال تبارك وتعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] .

الفوائد التربوية:

 

- قال الله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ بيَّن جلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّه ذو مَغفرةٍ للنَّاسِ على ظُلمِهم، وأنَّه شديدُ العِقابِ، فجمعَ بين الوعدِ والوعيدِ؛ ليَعظُمَ رجاءُ النَّاسِ في فَضلِه، ويشتَدَّ خَوفُهم مِن عِقابِه وعَذابِه الشَّديدِ؛ لأنَّ مَطامِعَ العُقلاءِ مَحصورةٌ في جَلبِ النَّفعِ ودَفعِ الضُّرِّ، فاجتماعُ الخَوفِ والطَّمَعِ أدعى للطَّاعةِ، وقد بُيِّنَ هذا المعنى في آياتٍ كثيرةٍ، كقولِه تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 147] ، وقولِه: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 165] ، وقولِه جلَّ وعلا: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49- 50] ، وقولِه: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر: 3] ، إلى غيرِ ذلك من الآياتِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ رَدٌّ على الجَهميَّةِ؛ إِذْ قد عَجِبَ- جلَّ وعلا- مِن كُفْرِ المشركينَ بالبَعثِ، والعَجَبُ عندهم مَنفيٌّ عنه؛ مِن أجلِ أنَّه مِن صِفاتِ المخلوقينَ، وقد حكاه عن نَفسِه- جلَّ وعلا- كما ترى، وليس شَيءٌ مِن صِفاتِه مَخلوقًا- وإنْ شاركَه المخلوقُ فيه بالاسمِ؛ إذ هو مِن المخلوقِ مَخلوقٌ؛ ومنه- جلَّ وعلا- غيرُ مخلوقٍ

.

2- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ دَلالةٌ على أنَّ مَن أنكرَ المعادَ؛ فإنَّه كافرٌ بربِّ العالَمينَ، وإن زعَمَ أنَّه مُقِرٌّ به .

3- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ احتُجَّ به على أنَّ العذابَ المخَلَّدَ ليس إلَّا للكُفَّارِ؛ فقَولُه: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يفيدُ أنَّهم هم الموصوفونَ بالخُلودِ لا غيرُهم، وذلك يدُلُّ على أنَّ أهلَ الكبائرِ لا يُخَلَّدونَ في النَّارِ .

4- قال الله تعالى: وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ والأغلالُ وإن لم تكُن مُشاهَدةً الآن، فهي- لِقُدرةِ المهَدِّدِ بها على الفِعلِ- كأنَّها موجودةٌ .

5- قولُه تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ- الذي فيه إثباتُ الهدايةِ للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلم- مع قولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] - الذي فيه نفيُ هدايتِه مَن أحَبَّ- يُبيِّنُ أنَّ الهُدى الذي أثبَتَه سُبحانَه هو البيانُ والدُّعاءُ، والأمرُ والنَّهيُ، والتعليمُ وما يَتبَعُ ذلك، وليس هو الهُدى الذي نفاه، والذي لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ، وهو جَعلُ الهُدى في القلوبِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ

- قولُه: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا عَطْفٌ على جُملةِ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وصِيغَ بصيغةِ التَّعجُّبِ مِن إنكارِ مُنْكري البعْثِ؛ لأنَّ الأدلَّةَ السَّالِفةَ لم تُبْقِ عُذرًا لهم في ذلك. ويجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ وَإِنْ تَعْجَبْ... عطفًا على جُملةِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [الرعد: 1] ؛ فالتقديرُ: إنْ تعْجَبْ مِن عدَمِ إيمانِهم بأنَّ القُرآنَ مُنَزَّلٌ مِن اللَّهِ فعَجَبٌ إنكارُهم البعْثَ، وفائدةُ هذا هو التَّشويقُ لمَعْرفةِ المُتعجَّبِ منه؛ تَهويلًا له أو نحوه، ولذلك فالتَّنكيرُ في قولِه: فَعَجَبٌ للتَّنويعِ؛ لأنَّ المقصودَ أنَّ قولَهم ذلك صالحٌ للتَّعجُّبِ منه، ثم هو يفيدُ معنى التَّعظيمِ في بابِه، تَبَعًا لِما أفادَه التَّعليقُ بالشَّرطِ مِن التَّشويقِ

.

- قولُه: أَإِذا كُنَّا تُرابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ الاستفهامُ في أَإِذا كُنَّا تُرابًا إنكاريٌّ، وهو مُفيدٌ لكَمالِ الاستبعادِ والاستنكارِ؛ لأنَّهم مُوقِنونَ بأنَّهم لا يكونون في خَلْقٍ جديدٍ بعدَ أنْ يكونوا تُرابًا، والقولُ المَحْكِيُّ عنهم في مَعْنى الاستفهامِ عن مَجْموعِ أمْرَين، وهما: كونُهم تُرابًا، وتجْديدُ خَلْقِهم ثانِيةً، والمقصودُ مِن ذلك العَجَبُ والإحالةُ .

- وتكْريرُ الهمزةِ في قولِهم: أَئِنَّا؛ لتأْكيدِ الإنكارِ .

- والإشارةُ بقولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أَحْرِيَاءُ بما سَيَرِدُ بعد اسمِ الإشارةِ مِن الخبَرِ؛ لأجْلِ ما سَبَقَ اسمَ الإشارةِ مِن قولِهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بعد أنْ رأَوا دلائلَ الخَلْقِ الأوَّلِ، فحَقَّ عليهم بقولِهم ذلك حُكمانِ؛ أحدُهما: أنَّهم كفَروا بربِّهم؛ لأنَّ قولَهم: أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ لا يقولُه إلَّا كافرٌ باللَّهِ، وثانيهما: استحقاقُهمُ العَذابَ .

- وعُطِفَ على هذه الجُملةِ جُملةُ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ مُفْتتحَةً باسمِ الإشارةِ لمِثْلِ الغرَضِ الَّذي افتُتِحَت به الجُملةُ قبلها؛ فإنَّ مضْمونَ الجُملتينِ اللَّتينِ قبلَها يُحَقِّقُ أنَّهم أَحْرِيَاءُ بوَضْعِ الأغْلالِ في أعناقِهم، وذلك جزاءُ الإهانةِ. وكذلك عَطْفُ جُملةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ .

- وفي قولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إعادةُ اسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ ثلاثَ مرَّاتٍ؛ للتَّهويلِ .

2- قولُه تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ

- قولُه: وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ هذه الجُملةُ في مَوضِعِ الحالِ؛ لبَيانِ رَكاكةِ رأيِهم في الاستعجالِ بطريقِ الاستهزاءِ، أي: يستعْجِلونك بها مُستهزِئين بإنْذارِك، مُنْكرين لوُقوعِ ما أنذرْتَهم إيَّاه، والحالُ: أنَّه قد مَضَتِ العُقوباتُ النَّازِلةُ على أمثالِهم مِن المُكَذِّبين والمُستهزِئين، وهو مَحَلُّ زيادةِ التَّعجُّبِ؛ لأنَّ ذلك قد يُعْذَرون فيه لو كانوا لم يرَوا آثارَ الأُمَمِ المُعذَّبةِ مثلَ عادٍ وثمودَ .

- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ، جُملةُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ احتِراسٌ؛ لئلا يحْسَبوا أنَّ المَغفِرةَ المَذْكورةَ مَغفِرةٌ دائمةٌ؛ تعريضًا بأنَّ العِقابَ حالٌّ بهم مِن بعدُ ، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.

3- قولُه تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ

- قولُه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه العُدولُ عنِ الإضْمارِ إلى الموصولِ- حيث لم يقُلْ: (ويقولون)- فإنَّ الَّذين كفروا هم المُستعجِلون؛ لزيادةِ تسْجيلِ الكُفْرِ عليهم، ولِما يُومِئُ إليه الموصولُ مِن تعْليلِ صُدورِ قولِهم ذلك، وصِيغَةُ المُضارعِ وَيَقُولُ تدلُّ على تجدُّدِ ذلك وتكرُّرِه .

- ولكونِ اقتراحِهم آيةً يشِفُّ عن إحالتِهم حُصولَها- لِجهْلِهم بعظيمِ قُدرةِ اللَّهِ تعالى- سِيقَ هذا في عِدادِ نتائجِ عظيمِ القُدرةِ؛ فبذلك انتَظَمَ تفرُّعُ الجُمَلِ بعضِها على بعضٍ، وتفرُّعِ جميعِها على الغرَضِ الأصليِّ .

- قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ فيه قصْرُ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ على صِفَةِ الإنذارِ، وهو قصْرٌ إضافيٌّ، أي: أنت مُنذِرٌ لا مُوجِدٌ خَوَارِقَ عادةٍ، وبهذا يظهَرُ وجْهُ قصْرِه على الإنذارِ دون البِشارَةِ؛ لأنَّه قصْرٌ إضافيٌّ بالنِّسبةِ لأحوالِه نحوَ المُشركين؛ وقد ردَّ اللَّهُ اقتراحَهم مِن أصلِه بهذا القولِ .

- قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ جُملةُ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ تَذْييلٌ بالأعمِّ، أي: إنَّما أنت مُنذِرٌ لهؤلاءِ؛ لهِدايتِهم، وبهذا العُمومِ الحاصِلِ بالتَّذييلِ والشَّاملِ للرَّسولِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّمَ صارَ المعنى: إنَّما أنت مُنذِرٌ لقومِك، هادٍ إيَّاهم إلى الحقِّ؛ فإنَّ الإنذارَ والهُدى مُتلازِمانِ؛ فما مِن إنذارٍ إلَّا وهو هدايةٌ، وما مِن هدايةٍ إلَّا وفيها إنذارٌ، والهِدايةُ أعمُّ مِن الإنذارِ؛ ففي هذا احتباكٌ بديعٌ

==================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (8-11)

ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ

غريب الكلمات:

 

تَغِيضُ: أي: تَنقُصُ، يُقالُ: غاض الماءُ، فهو يَغيضُ؛ إذا نقَص، وأصلُ (غيض): يدُلُّ على نُقصانٍ في شَيءٍ

.

وَسَارِبٌ: أي: بارِزٌ ظاهِرٌ في سَرْبِه، أي: طريقِه، وأصلُ (سرب): يدُلُّ على الاتِّساعِ والذَّهابِ في الأرضِ .

مُعَقِّبَاتٌ: أي: مَلائِكةٌ يَخْلُفُ بعضُها بعضًا في اللَّيلِ والنَّهارِ، وأصلُ (عقب): يدُلُّ على تأخيرِ شَيءٍ، وإتيانِه بعدَ غَيرِه .

وَالٍ: أي ملجأٍ وناصرٍ، وأصْلُ (ولي): يدلُّ على القُرْبِ، سواء مِن حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ، وكلُّ مَن وَلِي أمرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخبِرُ اللهُ تعالى عن تمامِ عِلمِه الذي لا يخفى عليه شيءٌ؛ فهو سُبحانَه يعلَمُ ما تحمِلُ كلُّ أنثى في بَطنِها، أذكَرٌ هو أم أُنثى؟ وشقيٌّ هو أم سعيدٌ؟ إلى غيرِ ذلك من الأحوالِ، وهو تعالى عالمٌ بما تَنقُصُه الأرحامُ وما تزيدُه في بدنِ الجنينِ، ومدةِ الحملِ، وغيرِ ذلك، وكلُّ شَيءٍ مُقدَّرٌ عند اللهِ بمقدارٍ لا يتَجاوزُه، وهو- سبحانَه- عالِمٌ بما خَفيَ عن الأبصارِ، وبما هو مُشاهَدٌ، الكبيرُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه، المُتَعالِ على جميعِ خَلقِه بذاتِه وقَدْرِه وقَهرِه. ويَستوي في عِلمِه تعالى مَن أخفَى القَولَ ومَن جهَرَ به، ويستوي عنده مَن استتَرَ بأعمالِه في ظُلمةِ اللَّيلِ، ومن جهرَ بها في وضَحِ النَّهارِ. وللعبدِ ملائِكةٌ يتعاقبونَ عليه  مِن بينِ يديه ومِن خَلْفِه، يحفظونَه بأمرِ اللهِ. إنَّ اللهَ- سبحانه وتعالى- لا يغيِّرُ نِعمةً أنعَمَها على قومٍ إلَّا إذا غيَّروا ما أمَرَهم به فعَصَوه، وإذا أراد اللهُ بقَومٍ بلاءً فلا مفَرَّ منه، وليس لهم مِن دونِ اللهِ مِن والٍ يتولَّى أمورَهم، فيجلِبُ لهم المحبوبَ، ويدفَعُ عنهم المكروهَ.

تفسير الآيات:

 

اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا تقَدَّم إنكارُهم البَعثَ؛ لتفَرُّقِ الأجزاءِ، واختِلاطِ بَعضِها ببعضٍ، بحيثُ لا يتهيَّأُ الامتيازُ بينها؛ نَبَّه على إحاطةِ عِلمِه، وأنَّ مَن كان عالِمًا بجَميعِ المعلوماتِ هو قادِرٌ على إعادةِ ما أنشأَ

.

وأيضًا لمَّا قامت البَراهينُ العديدةُ بالآياتِ السَّابِقةِ على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى بالخَلقِ والتَّدبيرِ، وعلى عظيمِ قُدرتِه التي أودَعَ بها في المَخلوقاتِ دَقائِقَ الخِلقةِ؛ انتقَلَ الكلامُ إلى إثباتِ العِلمِ له تعالى عِلمًا عامًّا بدقائِقِ الأشياءِ وعظائِمِها، وجُعِلَت هذه الجُملةُ في هذا المَوقِعِ؛ لأنَّ لها مُناسَبةً بقَولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فإنَّ ما ذُكِرَ فيها مِن عِلمِ اللهِ وعَظيمِ صُنعِه صالِحٌ لِأنْ يكونَ دَليلًا على أنَّه لا يُعجِزُه الإتيانُ بما اقتَرَحوا مِنَ الآياتِ، ولكِنَّ بَعثةَ الرَّسولِ ليس المَقصِدُ منها المُنازَعاتِ، بل هي دَعوةٌ للنَّظَرِ في الأدلَّةِ .

اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى.

أي: اللهُ يعلَمُ ما تحمِلُه كلُّ أنثى مِن بني آدمَ وغيرِهم، يعلمُ ما تحملُه على أيِّ حالٍ هو؛ مِن ذُكورةٍ وأنُوثةٍ، وحُسْنٍ وقُبحٍ، وطُولٍ وقِصَرٍ، وسَعادةٍ وشَقاوةٍ، إلى غيرِ ذلك من الأحوالِ .

كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران: 5- 6] .

وقال سُبحانه: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11] .

وقال عزَّ وجَلَّ: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ [النجم: 32] .

وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حدَّثَنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهو الصَّادِقُ المصدوقُ: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ في بَطنِ أمِّه أربعينَ يومًا، ثمَّ يكونُ علَقةً مثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضغةً مثلَ ذلك، ثمَّ يَبعَثُ اللهُ إليه مَلَكًا بأربعِ كَلِماتٍ، فيكتُبُ عَمَلَه، وأجَلَه، ورِزْقَه، وشَقيٌّ أو سعيدٌ، ثم يُنفَخُ فيه الرُّوحُ )) .

وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ.

أي: وهو تعالى عالمٌ بما تَنقُصُه الأرحامُ وما تزيدُه؛ سواءٌ في بدنِ الجنينِ، أو مدةِ الحملِ، وغيرِ ذلك مما يعرِضُ أثناءَ الحملِ مِن الزيادةِ والنقصانِ .

عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مفاتِحُ الغَيبِ خَمسٌ لا يعلَمُها إلَّا اللهُ: لا يعلَمُ ما في غدٍ إلَّا اللهُ، ولا يعلَمُ ما تغيضُ الأرحامُ إلَّا اللهُ، ولا يعلَمُ متى يأتي المطَرُ أحدٌ إلَّا اللهُ، ولا تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ، ولا يعلَمُ متى تقومُ السَّاعةُ إلَّا اللهُ )) .

وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ.

أي: وكلُّ شَيءٍ عندَ الله بقَدْرٍ وحَدٍّ، لا يتجاوَزُه ولا يَقصُرُ عنه، كما لا يزدادُ حَملُ أنثى على ما قُدِّرَ له، ولا ينقُصُ عما حُدَّ له .

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ أنَّه عالِمٌ بأشياءَ خَفيَّةٍ لا يعلَمُها إلَّا هو، وكانت أشياءَ جُزئيَّةً مِن خفايا عِلمِه؛ ذكَرَ أنَّ عِلمَه مُحيطٌ بجميعِ الأشياءِ .

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.

أي: اللهُ عالِمٌ بكُلِّ ما غاب عنكم، وكُلِّ ما تُشاهِدونَه بأبصارِكم، لا يخفَى عليه شيءٌ مِن ذلك كُلِّه .

الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.

أي: هو الكبيرُ في ذاتِه وأسمائِه وصِفاتِه، وهو أكبَرُ مِن أيِّ شيءٍ، وكُلُّ شَيءٍ دُونَه، وهو المُستَعلي على جميعِ خَلْقِه، بذاتِه وقَدْرِه وقَهرِه .

سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا تأكيدُ بَيانِ كَونِه عالِمًا بكُلِّ المَعلوماتِ .

وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الله تعالى أنَّه عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ على العُمومِ؛ ذكَرَ تعالى تعلُّقَ عِلمِه بشَيءٍ خاصٍّ مِن أحوالِ المُكَلَّفينَ .

وأيضًا لَمَّا كانت العادةُ قاضيةً بتفاوُتِ العِلمِ بالنِّسبةِ إلى السِّرِّ والجَهرِ، والقُدرةِ بالنِّسبةِ إلى المتحَفِّظِ بالحَرَسِ وغَيرِه؛ أتبَعَ ذلك سبحانَه بما نفى هذا الاحتمالَ عنه، على وَجهِ الشَّرحِ والبَيانِ؛ لاستواءِ الغَيبِ والشَّهادةِ بالنِّسبةِ إلى عِلمِه ، فقال:

سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ.

أي: يستوي في عِلمِ اللهِ- تعالى- وسَمعِه مَن أسرَّ مِنكم بقَولٍ، ومن جهَرَ به؛ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، فالسِّرُّ والجهرُ عنده سواءٌ .

كما قال تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 13- 14] .

وقال سُبحانه: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه: 7] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16] .

وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمعُه الأصواتَ؛ لقد جاءت المجادِلةُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا في ناحيةِ البَيتِ، تَشكو زَوجَها، وما أسمَعُ ما تقولُ، فأنزلَ اللهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة: 1] )) .

وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ.

أي: ويستوي في عِلمِ اللهِ وبَصَرِه مَن هو مُختَفٍ في ظُلمةِ اللَّيلِ، ومَن هو ظاهِرٌ يمشي في ضَوءِ النَّهارِ؛ فكِلا الحالَينِ عنده سَواءٌ .

كما قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .

وقال سُبحانَه: أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [هود: 5] .

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا تقَدَّمَ أنَّ مَن أسَرَّ القَولَ ومَن جهرَ به، ومَن استخفَى باللَّيلِ وسَرَب بالنَّهارِ؛ مُستَوٍ في عِلمِ اللهِ تعالى، لا يخفَى عليه مِن أحوالِهم شَيءٌ- ذكَرَ أيضًا أنَّ لذلك المذكورِ مُعَقِّباتٍ: جماعاتٍ مِن الملائكةِ تَعقُبُ في حِفظِه وكِلاءتِه .

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ.

أي: للعَبدِ ملائِكةٌ يتعاقَبونَ عليه، فيأتيه بعضُهم عَقِبَ بَعضٍ، مِن بينِ يَدَيه ومِن خَلْفِه فيَحفظُونَه ويَحرُسونَه بأمرِ الله وإذنِه، فإذا جاء القدرُ خلَّوا بينَه وبينَه

إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ

أي: إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بقَومٍ مِن نِعمةٍ فيُزيلُها عنهم، حتى يغَيِّروا ما كانوا عليه مِن طاعةِ اللهِ بمَعصيتِه، وشُكرِه بكُفرِه، وأسبابِ رِضاه بأسبابِ سَخَطِه، فإذا غيَّروا غيَّرَ عليهم؛ جزاءً وِفاقًا .

كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ [الأنفال: 53- 54] .

وقال سُبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] .

وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ

أي: وإذا شاء اللهُ أن يُصيبَ قَومًا بهلاكٍ وعَذابٍ وشِدَّةٍ، فإرادتُه لا بُدَّ أن تنفُذَ فيهم؛ فإنَّه لا رادَّ لِمَا قضاه اللهُ .

كما قال تعالى: وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام: 147] .

وقال سُبحانه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج: 16] .

وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ

أي: وما للقومِ الذين أرادَهم الله بسوءٍ مِن أحدٍ سِواه يتولَّى أمرَهم، ولا ناصِرٍ مِن دُونِه يمنَعُهم مِن عذابِه

 

.

كما قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [يونس: 107] .

الفوائد التربوية:

 

1- قَولُ الله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ فيه أنَّه تعالى مُحيطٌ عِلمُه بأقوالِ المكَلَّفينَ وأفعالِهم، لا يَعزُبُ عنه شيءٌ مِن ذلك

.

2- الذُّنوبُ تُزيلُ النِّعَمَ ولا بُدَّ، فما أذنبَ عبدٌ ذنبًا إلَّا زالت عنه نِعمةٌ مِن الله بحسَبِ ذلك الذَّنبِ، فإن تاب وراجَعَ رجَعَت إليه أو مِثلُها، وإن أصَرَّ لم ترجِعْ إليه، ولا تزالُ الذُّنوبُ تُزيلُ عنه نِعمةً، حتى تُسلَبَ النِّعَمُ كُلُّها؛ قال الله تعالى: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ .

3- متى رأيتَ تكديرًا في حالٍ، فاذكُرْ نِعمةً ما شُكِرتْ، أو زَلَّةً قد فُعِلتْ، واحذَرْ مِن نِفارِ النِّعَم، ومُفاجأةِ النِّقَم، ولا تغتَرِرْ بِسَعةِ بِساطِ الحِلْم؛ فرُبَّما عُجِّلَ انقباضُه، وقد قال اللهُ عَزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ، ومَن تأمَّلَ ما قَصَّ اللهُ تعالى في كتابِه مِن أحوالِ الأُمَمِ الذين أزال نِعَمَه عنهم، وجدَ سبَبَ ذلك جميعِه إنَّما هو مُخالَفةُ أمرِه وعِصيانُ رُسُلِه، وكذلك من نظَرَ في أحوالِ أهلِ عَصرِه وما أزال اللهُ عنهم مِن نِعَمِه، وجد ذلك كُلَّه مِن سُوءِ عواقِبِ الذُّنوبِ، فما حُفِظَت نعمةُ اللهِ بشَيءٍ قَطُّ بمثلِ طاعتِه، ولا حَصَلت فيها الزِّيادةُ بمِثلِ شُكرِه، ولا زالت عن العبدِ بمِثلِ مَعصيتِه لرَبِّه؛ فإنَّها نارُ النِّعَم التي تعمَلُ فيها كما تعمَلُ النَّارُ في الحطَبِ اليابِسِ، ومن سافَرَ بفِكرِه في أحوالِ العالَمِ، استغنى عن تعريفِ غَيرِه له .

4- قَولُ الله تعالى: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ يتولَّى أمورَهم، فيجلِبُ لهم المحبوبَ، ويدفَعُ عنهم المكروهَ؛ فلْيَحذَروا من الإقامةِ على ما يكرهُ اللهُ؛ خشيةَ أن يحُلَّ بهم من العقابِ ما لا يُرَدُّ عن القومِ المُجرمينَ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ استَدلَّ به من قال: إنَّ الحامِلَ تحيضُ

، وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.

2- قولُ الله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ استدَلَّ به من قال: إنَّ مُدَّةَ الحَملِ تكونُ أقَلَّ مِن تِسعةِ أشهُرٍ وأكثَرَ منها .

3- أهلُ السنةِ يثبتونَ للهِ العلوَّ والعظمةَ بكلِّ اعتبارٍ، ومثلُ هذا وصفُه سبحانَه بأنَّه (الكبيرُ المتعالي)، فالكبيرُ يُوصفُ به الذاتُ وصفاتُها القائمةُ، فهم يُثبتونَ للهِ سبحانَه العظمةَ الذاتيةَ والمعنويةَ، والعلوَّ الذاتيَّ والمعنويَّ، والجمالَ والجلالَ الذاتيَّ والمعنويَّ .

4- الإرادةُ في قَولِه تعالى: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ إرادةٌ كونيَّةٌ، والإرادةُ الكونيَّةُ هي مشيئتُه سُبحانه وتعالى لِمَا خلَقَه، وجميعُ المخلوقاتِ داخِلةٌ في مشيئتِه وإرادتِه الكونيَّةِ، وتُقابِلُها الإرادةُ الدِّينيَّةُ الشَّرعيَّةُ، وهي المتضَمِّنةُ لمحبَّتِه ورِضاه؛ المُتناوِلةُ لِمَا أَمَرَ به وجَعلَه شَرعًا ودِينًا، وهذه مُختصَّةٌ بالإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ، كقَولِه تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ

 

[البقرة: 185] .

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ

- قولُه: اللَّهُ يَعْلَمُ... استئنافٌ؛ لبيانِ بُطلانِ قولِهم ذلك ونظائرِه مِن استعْجالِ العذابِ وإنكارِ البعْثِ

.

- قولُه: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ صِيغَ الخبَرُ يَعْلَمُ بصيغَةِ المُضارِعِ المُفيدِ للتَّجدُّدِ والتَّكريرِ؛ لإفادةِ أنَّ ذلك العِلْمَ مُتكرِّرٌ، مُتجدِّدُ التَّعلُّقِ بمُقْتضى أحوالِ المعلوماتِ المُتنوِّعةِ والمُتكاثِرةِ .

2- قوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ

- جُملةُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ تذْييلٌ وفَذْلَكَةٌ ؛ لتعْميمِ العِلْمِ بالخَفِيَّاتِ والظَّواهرِ، وهما قِسْما الموجوداتِ .

- وقَولُه: الْمُتَعَالِ أخرَجَه مَخرجَ (التَّفاعُل)؛ ليكونَ أدَلَّ على المعنى وأبلغَ فيه .

3- قوله تعالى: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ

- قولُه: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ... هذه الجُملةُ استئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ مضمونَها بمنزِلةِ النَّتيجةِ لعُمومِ عِلْمِ اللَّهِ تعالى بالخَفِيَّاتِ والظَّواهرِ ، وهذا مِن بابِ ذِكْرِ الخاصِّ بعد العامِّ .

- وقولُه: سَوَاءٌ مِنْكُمْ... فيه العُدولُ عنِ الغَيبةِ المُتَّبعَةِ في الضَّمائرِ فيما تقدَّمَ إلى الخطابِ هنا في قولِه: سَوَاءٌ مِنْكُمْ؛ لأنَّه تعليمٌ يصلُحُ للمؤمنين والكافرين، وفيه تعريضٌ بالتَّهديدِ للمُشركين المُتآمرين على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ .

- وتقْديمُ الإسْرارِ والاستِخفاءِ على الجَهرِ والعَلانيةِ؛ لإظهارِ كَمالِ عِلْمِه تعالى؛ فكأنَّه في التَّعلُّقِ بالخَفِيَّاتِ أقْدَرُ منه بالظَّواهِرِ، وإلَّا فنِسْبتُه إلى الكلِّ سَواءٌ .

- والاستخفاءُ هنا: الخَفاءُ؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للمُبالغَةِ في الفِعلِ مثلَ: استجابَ .

- ذُكِرَ الاستخفاءُ مع اللَّيلِ؛ لكَونِه أشَدَّ خَفاءً، وذُكِرَ السُّروبُ مع النَّهارِ؛ لِكونِه أشَدَّ ظُهورًا .

4- قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ

- قولُه: مُعَقِّبَاتٌ فيه مُبالغَةٌ؛ صِيغَةُ التَّفعيلِ فيه للمُبالغَةِ في العقب، وعَقَّبَه: إذا جاء على عَقِبِه؛ كأنَّ بعضَهم يَعْقُبُ بعضًا، أو لأنَّهم يعْقُبون أقوالَه وأفعالَه فيكتُبونها ، وجُمِعَت (المُعَقِّباتُ) باعتبارِ كثرةِ الجماعاتِ .

- قولُه: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُستعملٌ في معنى الإحاطةِ مِن الجِهاتِ كلِّها- على أحدِ القولينِ في التفسيرِ-. وأُفْرِدَ الضَّميرانِ في مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ؛ لأنَّ كلًّا منهما عائدٌ إلى أحدِ أصحابِ تلك الصِّلاتِ، حيث إنَّ ذِكْرَهم ذِكْرُ أقسامٍ مِن الَّذين جُعِلوا سواءً في عِلْمِ اللَّهِ تعالى .

- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ مُعترِضَةٌ بين الجُمَلِ المُتقدِّمةِ المَسُوقَةِ للاستدلالِ على عظيمِ قُدرةِ اللَّهِ تعالى، وعِلْمِه بمَصْنوعاتِه، وبين التَّذكيرِ بقوَّةِ قُدرتِه، وبين جُملةِ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا [سورة الرعد: 12]، والمقصودُ تحذيرُهم مِن الإصرارِ على الشِّرْكِ بتحذيرِهم مِن حُلولِ العِقابِ في الدُّنيا في مُقابَلَةِ استعجالِهم بالسَّيِّئةِ قبلَ الحَسَنةِ.

- وجُملةُ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ تصريحٌ بمفهومِ الغايةِ المُستفادِ مِن حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ؛ تأكيدًا للتَّحذيرِ؛ لأنَّ المَقامَ لكونِه مَقامَ خوفٍ ووَجَلٍ يقْتَضي التَّصريحَ دون التَّعريضِ ولا ما يقْرُبُ منه.

- وجُملةُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ زيادةٌ في التَّحذيرِ مِن الغُرورِ؛ لئلا يَحسَبوا أنَّ أصنامَهم شُفعاؤهم عند اللَّهِ .

- قولُه: لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ في (ما) إبهامٌ، لا يتَّضِحُ المُرادُ منها إلَّا بسِياقِ الكلامِ، واعتقادِ مَحذوفٍ يتبيَّنُ به المَعْنى، والتقديرُ: لا يُغَيِّرُ ما بقومٍ مِن نعمةٍ وخَيرٍ إلى ضدِّ ذلك حتَّى يغيِّروا ما بأنْفُسِهم مِن طاعتِه إلى توالي مَعصيَتِه .

- قولُه: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ فيه الاقتصارُ على قولِه: سُوءًا؛ لأنَّ سِياقَ الكلامِ في الانتقامِ مِن العُصاةِ، وإلَّا فالسُّوءُ والخيرُ إذا أرادَ اللَّهُ تعالى شيئًا منهما فلا مَردَّ له؛ فذِكْرُ السُّوءِ مُبالغَةٌ في التَّخويفِ

====================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (12-14)

ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ

غريب الكلمات:

 

الصَّوَاعِقَ: جمعُ صاعِقةٍ: وهي النَّارُ التي تنزِلُ مِن السَّماءِ عندَ اشتدادِ الرَّعد، وأصلُ (صعق): يدلُّ على شِدَّةِ صَوتٍ

.

الْمِحَالِ: أي: القُوَّةِ والأخذِ، والمكْرِ والإهلاكِ، يُقالُ: ماحَلْتُه مِحالًا: إذا قاوَيتَه حتى يَبينَ لك أيُّكما أشَدُّ، والمَحْلُ: الشِّدَّةُ والمَكْرُ والكَيدُ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ لنا الله تعالى مَظهرًا مِن مَظاهِرِ قُدرتِه، فيقولُ سبحانَه: هو الذي يُريكم مِن آياتِه البَرقَ، فتَخافونَ أن تنزِلَ عليكم منه الصَّواعِقُ المُحرِقةُ، وتَطمعونَ أن يَنزِلَ معه المطَرُ، وبِقُدرتِه سُبحانه يُوجِدُ السَّحابَ المُحمَّلَ بالماءِ الكثيرِ لِمَنافِعِكم، ويُسبِّحُ الرَّعدُ بحَمدِ اللهِ تَسبيحًا يدُلُّ على خُضوعِه لرَبِّه، وتُنزِّهُ الملائِكةُ رَبَّها؛ خوفًا منه سُبحانَه، ويُرسِلُ اللهُ الصَّواعِقَ المُهلِكةَ فيُهلِكُ بها مَن يشاءُ مِن خَلْقِه، والكُفَّارُ يُجادِلونَ في وحدانيَّةِ الله وقُدرتِه على البَعثِ، وهو شديدُ القُوَّةِ والبَطشِ بمن عصاه، وله- سُبحانه- دَعوةُ التَّوحيدِ- لا إلهَ إلَّا اللهُ- فلا يُعبَدُ ولا يُدعَى إلَّا هو، والآلِهةُ التي يَعبُدونَها مِن دونِ الله لا تُجيبُ دُعاءَ مَن دعاها، وحالُهم معها كحالِ عَطشانَ يمُدُّ يَدَه إلى الماءِ ويُشيرُ إليه بالإقبالِ إلى فيه، فلا يصِلُ إليه، وما دُعاءُ الكافرينَ لتلكَ الآلهةِ إلَّا غايةٌ في البُعدِ عن الصَّوابِ.

تفسير الآيات:

 

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ.

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا خَوَّفَ العبادَ بقَولِه: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ [الرعد: 11] ، أتبَعَه بما يشتَمِلُ على أمورٍ دالَّةٍ على قُدرةِ الله تعالى وحِكمَتِه، تُشبِهُ النِّعَمَ مِن وَجهٍ، والنِّقَمَ من وجهٍ

، فقال تعالى:

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا.

أي: اللهُ هو الذي يُريكم البَرقَ- وهو النُّورُ اللَّامعُ الذي يسطَعُ في السَّماءِ مِن بينِ السَّحابِ- خوفًا مِن الصَّواعِقِ، وطَمعًا في الانتفاعِ بالمطَرِ .

وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ .

أي: ويخلق اللهُ السَّحابَ الثِّقالَ بما يَحمِلُه مِن مياهٍ كثيرةٍ .

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) .

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ.

أي: ويُنزِّهُ الرَّعدُ اللهَ عن النَّقائصِ تنزيهًا مُتلبِّسًا بحَمدِه تعالى، بوَصفِه بصِفاتِ الكَمالِ؛ مَحبَّةً له وتعظيمًا .

كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء: 44] .

عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أقبلَتْ يهودُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فقالوا: يا أبا القاسِمِ، إنَّا نسألُك عن خمَسةِ أشياءَ، فإنْ أنبأتَنا بهنَّ، عرَفْنا أنَّك نبيٌّ واتَّبَعناك، فأخَذ عليهم ما أخَذ إسرائيلُ على بَنيه؛ إذ قالوا: اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، قال: هاتوا،... قالوا: أخبِرْنا ما هذا الرَّعدُ؟ قال: ملَكٌ مِن ملائكةِ اللهِ عزَّ وجلَّ مُوكَّلٌ بالسَّحابِ، بيَدِه أو في يَدِه مِخراقٌ مِن نارٍ، يزجُرُ به السَّحابَ، يسوقُه حيثُ أمَرَ الله. قالوا: فما هذا الصوتُ الذي يُسمَعُ؟ قال: صوتُه، قالوا: صدقْتَ...)) .

وعن رجُلٍ مِن بني غِفارٍ صَحِبَ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: سَمِعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ اللهَ يُنشئُ السَّحابَ، فيَنطِقُ أحسَنَ المَنطِقِ، ويضحَكُ أحسَنَ الضَّحِكِ)) .

وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ.

أي: وتنزِّهُ الملائكةُ اللهَ؛ خوفًا منه سُبحانه .

وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ  .

أي: ويُرسِلُ اللهُ الصَّواعِقَ مِن السَّماءِ، فيُهلِكُ بها مَن يشاءُ مِن خلقِه، وهؤلاء الكفارُ المكذبونَ للرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، معَ هذه الآياتِ التي أراهم اللهُ، يجادلونَ في قدرةِ الله على البعثِ، وإعادةِ الخلقِ، وفي وحدانيته .

وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ.

أي: واللهُ قويٌّ، شديدُ الأخذِ، عظيمُ الكيدِ والمَكرِ بمن طغَى وتمادَى في الكُفرِ به .

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها استئنافٌ ابتدائيٌّ بمَنزلةِ النَّتيجةِ ونُهوضِ المُدَلَّلِ عليه بالآياتِ السَّالفةِ التي هي براهينُ الانفرادِ بالخَلقِ الأوَّلِ، ثمَّ الخَلقِ الثَّاني، وبالقُدرةِ التامَّةِ التي لا تُدانيها قدرةُ قديرٍ، وبالعِلمِ العامِّ، فلا جرَمَ أن يكونَ صاحِبُ تلك الصِّفاتِ هو المعبودَ بالحَقِّ، وأنَّ عِبادةَ غَيرِه ضَلالٌ .

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ.

أي: لِلَّه وحدَه الدَّعوةُ الحَقُّ والصِّدقُ- وهي كلمةُ التَّوحيدِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ- فهو المُستحِقُّ وَحدَه للعبادةِ والدُّعاءِ دونَ ما سواه .

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ.

أي: والذين يَعبُدُهم المُشرِكونَ ويَدعونَهم مِن دونِ اللهِ لا يُجيبونَ دُعاءَهم بأيِّ شَيءٍ ممَّا يُريدونَه- قليلًا كان أو كثيرًا- ولا ينفعونهم إلَّا كما ينتَفِعُ من يبسطُ كفَّيه إلى الماءِ، ويدعوه ليرتفِعَ إلى فَمِه، وهذا غيرُ ممكنٍ؛ فالماءُ جمادٌ لا يشعُرُ ببَسطِ كَفَّيه ولا بعطَشِه، ولا يقدِرُ أن يُجيبَ دُعاءَه ويبلُغَ فَمَه، وكذلك ما يدعونَه؛ جمادٌ لا يُحِسُّ بدُعائِهم، ولا يستطيعُ إجابَتَهم، ولا يقدِرُ على نَفْعِهم .

وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ.

أي: وما دُعاءُ الكافرينَ لآلهتِهم إلَّا في ضياعٍ وخَسارٍ؛ لأنَّهم لا ينتَفِعونَ بدُعائِهم

 

.

كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّـكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [النحل: 86- 87] .

وقال سُبحانه: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ [فصلت: 48] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف: 5] .

الفوائد التربوية:

 

قَولُ الله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ فاللهُ تعالى هو الذي ينبغي أن يُصرَفَ له الدُّعاءُ، والخَوفُ والرَّجاءُ، والحُبُّ، والرَّغبةُ والرَّهبةُ، والإنابةُ؛ لأنَّ ألوهيَّتَه هي الحَقُّ، وألوهيَّةُ غَيرِه باطِلةٌ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا جاء هنا بطريقِ الخِطابِ على أسلوبِ قَولِه: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [الرعد: 10] ؛ لأنَّ الخَوفَ والطَّمَعَ يَصدُرانِ مِن المُؤمنينَ، ويُهَدَّدُ بهما الكَفَرةُ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قولُه تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ استئنافٌ ابتدائيٌّ على أُسلوبِ تَعدادِ الحُجَجِ، الواحدةُ تِلْوَ الأُخرى؛ فلأجْلِ أُسلوبِ التَّعْدادِ- إذ كان كالتَّكريرِ- لم يُعْطَفْ على جُملةِ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ، وقد أَعْرَبَ هذا عن مَظْهرٍ مِن مَظاهِرِ قُدرةِ اللَّهِ، وعَجيبِ صُنْعِه، وفيه مِن المُناسبَةِ للإنذارِ بقولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ... [سورة الرعد: 11] أنَّه مِثالٌ لتصرُّفِ اللَّهِ بالإنعامِ والانتقامِ في تصرُّفٍ واحدٍ، مع تذْكيرِهم بالنِّعمةِ الَّتي هم فيها، وكلُّ ذلك مُناسِبٌ لِمَقاصدِ الآياتِ الماضيةِ؛ فكانت هذه الجُملةُ جَديرةً بالاستقلالِ، وأنْ يُجاءَ بها مُستأْنَفةً؛ لتكونَ مُستقِلَّةً في عِدادِ الجُمَلِ المُستقِلَّةِ الواردةِ في غرَضِ السُّورةِ

.

- وافتُتِحَت الجُملةُ بضميرِ الجَلالةِ هُوَ دون اسمِ الجَلالةِ المُفْتَتَحِ به في الجُمَلِ السَّابقةِ، فجاءت على أُسلوبٍ مُختلفٍ؛ مُراعاةً لكونِ هاتِه الجُملةِ مُفرَّعَةً عن أغْراضِ الجُمَلِ السَّابقةِ؛ فإنَّ جُمَلَ فواتِحِ الأغراضِ افتُتِحَت بالاسمِ العَلَمِ؛ كقولِه: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [سورة الرعد: 2]، وقولِه: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى [سورة الرعد: 8]، وجُمَلَ التَّفاريعِ افتُتِحَت بالضَّمائرِ؛ كقولِه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [سورة الرعد: 4]، وقولِه: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [سورة الرعد: 3].

- وفي قولِه تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا فنٌّ رائعٌ مِن فُنونِ البلاغةِ، وهو صِحَّةُ الأقسامِ؛ وهو عِبارةٌ عنِ استيفاءِ المعنى مِن جميعِ أقسامِه ووُجوهِه، بحيث لا يُغادِرُ المُتكلِّمُ منها شيئًا؛ ففي هذه الآيةِ استَوْفى قِسْمَيْ رؤيةِ البَرْقِ؛ إذ ليس فيها إلَّا الخوفُ مِن الصَّواعقِ والطَّمعُ في الأمطارِ، ولا ثالثَ لهذينِ القِسمينِ .

- قولُه: خَوْفًا وَطَمَعًا فيه تقديمُ الخوفِ على الطَّمَعِ؛ ووجْهُ ذلك ظاهرٌ؛ لأنَّ المَخوفَ عليه النَّفْسُ أو الرِّزقُ العَتيدُ، والمَطْموعَ فيه الرِّزقُ المُترقَّبُ .وقيل: قُدِّمَ الخوفُ على الطَّمَعِ؛ إذ كانت الصَّواعقُ يجوزُ وقوعُها مِن أوَّلِ برْقَةٍ، ولا يحصُلُ المطرُ إلَّا بعدَ تواتُرِ الإبراقِ؛ لأنَّ تواترَه لا يكادُ يُخْلَفُ، وليكونَ الطَّمعُ ناسِخًا للخوفِ، كمجيءِ الرَّخاءِ بعد الشِّدَّةِ، والفَرَجِ بعد الكُرْبَةِ؛ فيكونَ ذلك أحلى مَوقِعًا في القُلوبِ، ويشهَدُ لهذا قولُه: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ [الشورى: 28] ؛ فجاءَ معنى الآيةِ على ما جاء؛ رحمةً مِن اللَّهِ سبحانه بخلْقِه وبُشْرى لعبادِه .

2- قوله تعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ

- قولُه: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ فيه عطْفُ الرَّعْدِ على ذِكْرِ البرْقِ والسَّحابِ؛ لأنَّه مُقارِنُهما في كثيرٍ مِن الأحوالِ .

- قولُه: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ فيه الْتِفاتٌ عن درجةِ الخِطابِ إلى الغَيبةِ؛ إيذانًا بإسقاطِ هؤلاءِ المُجادِلين، وهم الكَفَرةُ المُخاطَبون في قولِه تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ، وإعراضًا عنهم، وتعديدًا لجِناياتِهم لدى كلِّ مَن يستحقُّ الخِطابَ . وقيل: أُعيدَ الأُسلوبُ هنا إلى ضَمائرِ الغَيبةِ؛ لانقضاءِ الكلامِ على ما يصلُحُ لمَوعِظةِ المؤمنين والكافرين، فتمحَّضَ تخويفُ الكافرين .

3- قوله تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ

- قولُه: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المُبتدأِ؛ لإفادةِ التَّخصيصِ، أي: دعوةُ الحقِّ مِلْكُه لا مِلْكُ غيرِه، وهو قصْرٌ إضافيٌّ. وقد صرَّحَ بمفهومِ جُملةِ القصْرِ بجُملةِ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ [سورة الرعد: 14]؛ فكانت بَيانًا لها، وكان مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ تُفْصَلَ ولا تُعْطَفَ، وإنَّما عُطِفَت؛ لِما فيها مِن التَّفصيلِ والتَّمثيلِ، فكانت زائدةً على مِقدارِ البَيانِ، والمقصودُ بَيانُ عدَمِ استحقاقِ الأصنامِ أن يدعُوَها الدَّاعون .

- قولُه: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ فيه تشبيهٌ تمثيليٌّ رائعٌ، أي: إلَّا استجابةً كاستجابةِ الماءِ مَن بَسَطَ كفَّيه إليه يطلُبُ منه أنْ يبلُغَ فاهُ، وما هو ببالِغِه؛ فالماءُ جَمادٌ لا يشعُرُ ببَسْطِ كفَّيه ولا بعَطَشِه وحاجتِه إليه، ولا يقدِرُ أنْ يُجيبَ دُعاءَه ويبلُغَ فاهُ، وكذلك ما يدْعونَه، جَمادٌ لا يُحِسُّ بدُعائِهم، ولا يستطيعُ إجابتَهم، ولا يقدِرُ على نفْعِهم. وقيل: شبَّهَ الكفَّارَ في دُعائِهم لأصنامِهم عند ضرورتِهم برجُلٍ عطشانَ لا يقدِرُ على الماءِ، وفي قِلَّةِ جَدْوى دُعائِهم لآلهتِهم بمَن جلَسَ على شَفيرِ بئْرٍ وأرادَ أنْ يغرِفَ الماءَ بيدَيه ليشرَبَه، فبسَطَهما ناشِرًا أصابَعه، فلم تَلْقَ كفَّاهُ منه شيئًا ولم يبلُغْ طَلِبَتَه مِن شُرْبِه؛ فلا هو يبلُغُ قعْرَ البئْرِ إلى الماءِ، ولا الماءُ يرتفِعُ إليه؛ كذلك ما يدعو الكفَّارُ مِن الأوثانِ، جمادٌ لا يُحِسُّ بدُعائهم، ولا يستطيعُ إجابتَهم، ولا يقدِرُ على نَفْعِهم . وهذا التَّشبيهُ مِن غيرِ مُلاحظةِ التَّشبيهِ في جميعِ مُفرداتِ الأطرافِ؛ فإنَّ الماءَ في نفْسِه شيءٌ نافِعٌ بخلافِ آلهتِهم، والمرادُ: نَفْيُ الاستجابةِ رأْسًا، إلَّا أنَّه قد أُخْرِجَ الكلامُ مَخْرَجَ التَّهكُّمِ بهم، فقيل: لا يستجيبون لهم شيئًا مِن الاستجابةِ إلَّا استجابةً كائنةً في هذه الصُّورةِ الَّتي ليست فيها شائبَةُ الاستجابةِ قطْعًا، فهو في الحقيقةِ مِن بابِ التَّعليقِ بالمُحالِ .

- وتنْكيرُ (شيءٍ) في قولِه: بِشَيْءٍ؛ للتَّحقيرِ، والمُرادُ أقلُّ ما يُجابُ به مِن الكلامِ .

- وجُملةُ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ عطْفٌ على جُملةِ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ؛ لاستيعابِ حالِ المَدْعُوِّ وحالِ الدَّاعي؛ فبيَّنَتِ الجُملةُ السَّابقةُ حالَ عجْزِ المَدْعُوِّ عنِ الإجابةِ، وأُعقِبَت بالتَّمثيلِ المُشتمِلِ على كِنايةٍ، واشتَمَلَ ذلك أيضًا بالكِنايةِ على خَيبةِ الدَّاعي .

- قَولُه: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ فيه إظهارٌ في موضعِ الإضمارِ، حيث قال: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ ولم يقُلْ: (وما دُعاؤُهم)؛ وذلك لأنَّ دُعاءَ الكافرينَ لَمَّا كان مُنحَصِرًا في الباطِلِ، أظهر تعميمًا، وتعليقًا للحُكمِ بالوَصفِ

=======================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (15-18)

ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ

غريب الكلمات:

 

بِالْغُدُوِّ : جمع غَداةٍ: وهي أولُ النَّهَارِ، وأصلُ (غدو): يدُلُّ على زَمانٍ

.

وَالْآصَالِ: جمع أُصُلٍ، والأُصُلُ: جَمْعُ أَصِيلٍ: وهو آخِرُ النَّهَارِ، وأصلُ (أصل): يدلُّ على ما كان مِن النَّهارِ بعدَ العَشيِّ .

الْقَهَّارُ: أي: الغالبُ، والقاهرُ لكلِّ شيءٍ وحدَه، والقهرُ: الغلبةُ والتذليلُ معًا، وأصلُ (قهر): غلبةٌ وعلوٌّ .

أَوْدِيَةٌ: جمعُ الوادي، وسُمِّي واديًا لخروجِه وسيلانِه، وأصلُ الوادي: الموضعُ الذي يسيلُ فيه الماءُ، ومنه سُمِّي المفْرَجُ بينَ الجبلينِ واديًا .

زَبَدًا رَابِيًا: أي: غُثاءً طافيًا عاليًا فوقَ الماءِ، وأصلُ (زبد): يدلُّ على تولُّدِ شَيءٍ عن شَيءٍ، وأصلُ (ربو): يدلُّ على الزِّيادةِ والنَّماءِ والعُلُوِّ .

حِلْيَةٍ: أي: ما يُتحَلَّى ويُتَزيَّنُ به، وهو المَصوغُ من الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وأصلُ (حلي): يدُلُّ على تحسينِ الشَّيءِ .

جُفَاءً: مُطَّرَحًا مَرميًّا؛ مِن قَولِهم: جفأ الوادي غُثاءَه: إذا رماه، وأصلُ (جفأ): يدلُّ على نبُوِّ الشَّيءِ عن الشَّيءِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقول تعالى: ولِلَّه وَحدَه يَسجُدُ خاضِعًا مُنقادًا كُلُّ مَن في السَّمواتِ والأرضِ، فيَسجُدُ ويخضَعُ له المؤمِنونَ طَوعًا واختيارًا، ويخضَعُ له الكافِرونَ رَغمًا عنهم؛ لأنَّهم يَستكبِرونَ عن عبادتِه، وحالُهم وفِطرتُهم تُكَذِّبُهم في ذلك، وتسجُدُ لله ظِلالُ المَخلوقاتِ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، قلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ ومُدَبِّرُهما؟ قُل: اللهُ هو الخالِقُ المدَبِّرُ لهما، ثمَّ قُلْ لهم مُلزِمًا بالحُجَّةِ: أتَّخَذتُم غَيرَه معَبودينَ لكم، وهم لا يَقدِرونَ على نَفعِ أنفُسِهم أو ضَرِّها، فَضلًا عن نَفعِكم أو ضَرِّكم، وترَكتُم عبادةَ مالِكِها؟! قلْ لهم: هل يستوي الكافِرُ الذي هو أعمَى البَصيرةِ، والمؤمِنُ الذي هو البصيرُ المُهتدي؟ أم هل يستوي الكُفرُ الذي هو ظُلماتٌ، والإيمانُ الذي هو نورٌ؟ أم جَعَلوا لله سُبحانَه شُرَكاءَ معه في الخَلقِ خَلَقوا مِثلَ خَلقِ اللهِ، فاختلطَ عندهم خلقُ اللهِ بخَلقِ شُرَكائِهم؟! قُل لهم: اللهُ وَحدَه هو خالِقُ كُلِّ شَيءٍ لا شريكَ له في الخَلقِ، وهو الواحِدُ القهَّارُ الذي يستحِقُّ الألوهيَّةَ والعبادةَ، لا الأصنامُ والأوثانُ التي لا تضرُّ ولا تنفَعُ.

ثمَّ ضربَ اللهُ سُبحانَه مثَلًا للحَقِّ والباطلِ بماءٍ أنزَلَه من السَّماءِ، فجَرَت به أودِيةُ الأرضِ بقَدْرِ صِغَرِها وكِبَرِها، فحمَلَ السَّيلُ غُثاءً طافيًا فوقَه لا نفْعَ فيه، وضربَ مثلًا آخرَ: هو المعادِنُ يُوقِدونَ عليها النَّارَ لِصَهرِها؛ طلَبًا للزِّينةِ- كما في الذَّهَبِ والفِضَّةِ- أو طلَبًا لمنافِعَ ينتفِعونَ بها- كما في النُّحاسِ- فيخرجُ مِنها خَبَثُها ممَّا لا فائدةَ فيه، كالذي كان مع الماءِ، بمِثلِ هذا يضرِبُ اللهُ المَثَلَ للحَقِّ والباطِلِ؛ فالباطِلُ- كغُثاءِ الماءِ والمعادِنِ- يتلاشَى أو يُرْمَى؛ إذ لا فائدةَ منه، والحقُّ- كالماءِ الصافي والمعادِنِ النَّقيَّةِ- يبقَى في الأرضِ للانتفاعِ به، كما بيَّنَ لكم هذه الأمثَالَ، كذلك يضرِبُها للنَّاسِ؛ ليتَّضِحَ الحَقُّ مِن الباطِلِ، والهُدَى من الضَّلالِ.

ثمَّ بيَّن الله سبحانه بعدَ ذلك عاقبةَ أهلِ الحقِّ، وعاقبةَ أهلِ الباطلِ، فقال: للمُؤمنينَ الذين أطاعوا اللهَ ورَسولَه الجنَّةُ، والذين لم يُطيعوه وكَفَروا به لو كانوا يَملِكونَ كُلَّ ما في الأرضِ وضِعْفَه معه لبَذَلوه؛ فداءً لأنفُسِهم مِن عذابِ اللهِ يومَ القيامةِ، ولن يُتَقبَّلَ منهم، أولئك يُحاسَبونَ على كُلِّ ما أسلَفوه مِن عمَلٍ سيِّئٍ، ومَسكَنُهم ومَقامُهم جهنَّمُ تكونُ لهم فِراشًا، وبِئسَ الفِراشُ الذي مَهَدوه لأنفُسِهم.

تفسير الآيات:

 

وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15).

وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا.

أي: ولله يَسجُدُ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ طائعينَ

ومكرهينَ؛ سجودَ ذلٍّ وقهرٍ وخضوعٍ، فكلُّ أحدٍ خاضعٌ لقدرِ اللهِ، مقهورٌ تحتَ سلطانِه، لا يقدرُ أن يمتنعَ عليه .

كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج: 18] .

وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ.

أي: ولِلَّهِ تَسجُدُ ظِلالُ المَخلوقاتِ في أوَّلِ النَّهارِ، وفي آخِرِه .

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل: 48-49] .

قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما ذكَر الله تعالى أنَّ المخلوقاتِ كلَّها تسجدُ له طوعًا وكرهًا؛ لذا كان هو الإلهَ حقًّا، المعبودَ المحمودَ حقًّا، وكانت إلهيةُ غيرِه باطلةً، ولهذا ذكَر بطلانَها، وبرْهَن عليه .

وأيضًا فإنَّه لَمَّا نهَضَت الأدِلَّةُ الصَّريحةُ بمظاهِرِ الموجوداتِ المتنَوِّعةِ على انفرادِه بالإلهيَّةِ، مِن قَولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد: 2] ، وقَولِه: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [الرعد: 3] ، وقولِه: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى [الرعد: 8] ، وقولِه: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [الرعد: 12] الآيات، وبما فيها مِن دَلالةٍ رَمزيَّةٍ دَقيقةٍ، مِن قَولِه تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرعد: 14] ، وقَولِه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ [الرعد: 15] ، إلى آخِرِها- لا جرَمَ تهيَّأَ المَقامُ لتَقريرِ المُشرِكينَ تقريرًا لا يجِدونَ معه عن الإقرارِ مَندوحةً، ثمَّ لتَقريعِهم على الإشراكِ تَقريعًا لا يسَعُهم إلَّا تجَرُّعُ مَرارتِه؛ لذلك استؤنِفَ الكلامُ وافتُتِحَ بالأمرِ بالقَولِ؛ تنويهًا بوضوحِ الحُجَّة ،، فقال تعالى:

قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ.

أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لِمُشركي قَومِك: مَن خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ ومالِكُهما ومُدَبِّرُهما؟ قُل: ربُّها الذي خلَقَها وأوجَدَها هو اللهُ المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحدَه دونَ غَيرِه .

قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا.

أي: قُل- يا محمَّدُ- لِمُشركي قَومِك: أفاتَّخَذتُم مِن دونِ اللهِ آلهةً لا تملِكُ أن تجلِبَ لأنفُسِها نفعًا، ولا أن تدفَعَ عن أنفُسِها ضَرًّا، فضلًا عن غَيرِها، فتَعبُدونَها وتترُكونَ عِبادةَ اللهِ الذي بِيَدِه وحدَه النَّفعُ والضَّرُّ ؟!

كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] .

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ.

أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ مِن قَومِك: هل يَستوي الأعمى الذي لا يُبصِرُ شَيئًا، والبَصيرُ الذي يُبصِرُ؟ لا شَكَّ أنَّهما لا يستويانِ، فكذلك لا يستوي الموَحِّدُ لله، والمُشرِكُ به .

أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ.

أي: وهل تستوي الظُّلُماتُ التي لا يُرى فيها شيءٌ، والنُّورُ الذي تُرى فيه الأشياءُ بوُضوحٍ؟ لا شَكَّ أنَّهما لا يستويانِ؛ فكذلك لا يستوي الشِّركُ والإيمانُ .

أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ.

أي: أجَعَلوا لله شُرَكاءَ يَعبُدونَهم مع اللهِ؛ خَلَقوا مثلَ خَلقِ اللهِ- تعالى وتقَدَّسَ-، فتَشابهَ خَلقُ الشُّركاءِ بخَلقِ اللهِ عِندَهم، فجَعَلوها شُرَكاءَ لله بسبَبِ ذلك؟! أي: ليس الأمرُ كذلك، فلا عُذرَ للمُشرِكينَ في عبادتِها، وهم مُعتَرِفونَ بأنَّها لا تخلُقُ شيئًا .

كما قال تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [لقمان: 11] .

قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.

أي: قُل- يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ: اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وقد خلَقَكم وخلَقَ آلهَتَكم، فكيف تعبُدونَها مع اللهِ، وهو المستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه ؟!

كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] .

وقال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] .

وقال سُبحانه: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل: 20، 21].

وقال عزَّ وجلَّ حاكيًا قولَ إبراهيمَ- عليه السَّلامُ- لِقَومِه: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95- 96].

وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.

أي: واللهُ هو الواحِدُ الذي لا ثانيَ له، الغالِبُ لجميعِ خَلقِه، المستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه دون ما سواه .

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (17).

أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا.

أي: أنزلَ اللهُ مِن السَّحابِ مطَرًا فاحتمَلَتْه الأوديةُ بقَدْرِ كِبَرِها وصِغَرِها، فأخذ كلُّ وادٍ بحسَبِ سَعَتِه .

وهذا مَثَلٌ ضرَبَه اللهُ، فشَبَّه تعالى ما أنزَلَه من العِلمِ والإيمانِ إلى القُلوبِ بالماءِ الذي أنزَلَه من السَّماءِ إلى الأرضِ، وشبَّه القلوبَ الحاملةَ للعِلمِ والإيمانِ بالأوديةِ الحاملةِ للسَّيلِ؛ فقَلبٌ كبيرٌ يسَعُ عِلمًا عَظيمًا، كوادٍ كبيرٍ يسَعُ ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ يسَعُ عِلمًا قَليلًا، كوادٍ صغيرٍ يسَعُ ماءً قليلًا، فحَمَلت القلوبُ مِن هذا العِلمِ بقَدَرِها، كما سالت الأوديةُ مِن الماءِ بقَدَرِها، فهذا تقسيمٌ للقُلوِب بحَسَب ما تحمِلُه مِن العِلمِ والإيمانِ إلى مُتَّسِعٍ وضَيِّقٍ .

فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا.

أي: فاحتمَلَ الماءُ الذي يسيلُ في الأوديةِ بعد نزولِ المطَرِ زبَدًا مُرتفِعًا فوقَ الماءِ طافيًا على سَطحِه .

وهذا بيانٌ للحَقِّ في ثَباتِه والباطِلِ في اضمِحلالِه؛ فالحَقُّ هو الماءُ الباقي الذي أنزَلَه اللهُ مِن السَّماءِ، والباطِلُ هو الزَّبَدُ الذي لا يُنتفَعُ به، فإنَّه يضمَحِلُّ ويَعْلَقُ بجَنَباتِ الأوديةِ، وتدفَعُه الرِّياحُ، فكذلك يذهَبُ الكُفرُ ويتلاشَى .

وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ.

أي: ومِن الذي يُوقِدُ عليه الناسُ في النَّارِ؛ ليذوبَ، مِن معادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ طلبًا لحِليةٍ يتزيَّنونَ بها، ويتجمَّلون، أو من معادِنِ الحديدِ، والنحاسِ، والرصاصِ وغيرِها؛ طلَبًا لِمَتاعٍ يتمَتَّعونَ به، وينتفِعونَ، كالأواني والآلاتِ المصنوعةِ- خبثٌ يعلو فوقَ ما أُذِيب مِن تلك المعادنِ، كما يعلُو الزَّبَدُ على الماءِ، فلا يُنتفعُ به، ويذهبُ باطلًا .

كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ.

أي: كما مثَّل اللهُ بقاءَ الإيمانِ وبُطلانَ الكُفرِ إذا اجتمعا، بما يبقى مِن ماءِ السَّيلِ وخالِصِ المَعادِنِ التي يُوقَدُ عليها في النَّارِ- كذلك يُبيِّنُ اللهُ مثَلَ الحَقِّ والباطِلِ .

      .

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا نبَّهَ اللهُ تعالى بهذا الفَصلِ- وهو قولُه: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ- على عُلُوِّ رُتبةِ هذا المثَلِ؛ شرَعَ في شَرحِه، فبدأ بما هو الأهَمُّ في هذا المَقامِ، وهو إبطالُ الباطِلِ الذي أضَلَّهم .

فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء.

أي: فأمَّا الزَّبَدُ- الذي كان يعلو السَّيلَ، ويعلو المعادِنَ عند الإيقادِ عليها- فيذهَبُ ضائِعًا مُضمحِلًّا مَرمِيًّا لا يُنتفَعُ به .

وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ.

أي: وأمَّا ما ينفَعُ النَّاسَ- مِن الماءِ الصَّافي والمعادِنِ الخالِصةِ- فيبقى في الأرضِ ويَستقِرُّ، فينتفِعُ به النَّاسُ .

عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ مثَلَ ما بعَثَني الله به- عزَّ وجلَّ- من الهُدى والعِلمِ، كمَثَلِ غيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طَيِّبةٌ قَبِلَت الماءَ، فأنبَتَت الكَلأَ والعُشبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبُ أمسَكَت الماءَ، فنفعَ اللهُ بها النَّاسَ، فشَرِبوا منها وسَقَوا ورَعَوا، وأصاب طائفةً منها أخرى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كَلأً؛ فذلك مثَلُ مَن فَقُهَ في دينِ اللهِ، ونفَعَه بما بعَثَني اللهُ به، فعَلِم وعلَّم، ومثَلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يقبَلْ هُدى اللهِ الذي أُرسِلتُ به )) .

كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ.

أي: كما مثَّل اللهُ لكم هذا المثَلَ لبقاءِ الحَقِّ وذَهابِ الباطِلِ، كذلك يضرِبُ اللهُ لكم الأمثالَ؛ ليتَّضِحَ لكم الحَقُّ مِن الباطِلِ .

كما قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] .

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] .

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا بيَّنَ تعالى الحَقَّ مِن الباطِلِ، ذكَرَ أنَّ النَّاسَ على قِسمَينِ: مُستجيبٍ لرَبِّه، فذكَرَ ثوابَه، وغيرِ مُستجيبٍ، فذكَرَ عقابَه، فقال :

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى.

أي: للذينَ أجابوا ربَّهم فآمَنوا به وأطاعوه ورَسولَه؛ الجزاءُ الحسَنُ في الدُّنيا، والجنَّةُ في الآخرةِ .

كما قال سُبحانَه مُخبِرًا عن ذي القَرنينِ أنَّه قال: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف: 87- 88] .

وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] .

وقال سُبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] .

وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ.

أي: والذين لم يُؤمِنوا برَبِّهم ولم يطيعوه ورَسولَه؛ لو أنَّهم يَملِكونَ كُلَّ شَيءٍ في الأرضِ، ويَملِكونَ مِثلَه معه، لقدَّموه فداءً؛ لتخليصِ أنفُسِهم من عذابِ النَّارِ يومَ القيامةِ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .

أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ.

أي: أولئك الكُفَّارُ- الذين لم يستجيبوا لربِّهم- يُؤخَذون يومَ الحسابِ بجميعِ ذُنوبِهم صَغيرَها وكبيرَها، ولا يَغفِرُ اللهُ شيئًا منها، فلا يقبَلُ لهم حَسَنةً، ولا يتجاوَزُ لهم عن سيِّئةٍ .

كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .

وقال سُبحانه: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 8 - 10] .

وعن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من حُوسِبَ يومَ القيامةِ عُذِّبَ. فقلتُ: أليس قد قال اللهُ عزَّ وجلَّ: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 8] ؟! فقال: ليس ذاك الحِسابَ، إنَّما ذاك العَرضُ، مَن نوقِشَ الحِسابَ يومَ القيامةِ عُذِّبَ )) .

وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.

أي: ومسكَنُ الكُفَّارِ ومَقامُهم يومَ القيامةِ نارُ جهنَّمَ، وبئسَ الفِراشُ جهنَّمُ

 

.

الفوائد التربوية:

 

قولُ الله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ يُستفادُ منه أنَّ الباطِلَ وإن علا في وقتٍ، فإنَّه يضمَحِلُّ، ويبقى الحَقُّ ظاهِرًا لا يشوبُه شَيءٌ مِن الشُّبُهاتِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال اللهُ تعالى في سورةِ آلِ عِمرانَ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83] ، وعامَّةُ السَّلَفِ على أنَّ المرادَ بالاستسلامِ استِسلامُهم له بالخُضوعِ والذُّلِّ، لا مجرَّدُ تَصريفِ الرَّبِّ لهم، كما في قَولِه تعالى هنا: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وهذا الخضوعُ والذُّلُّ هو أيضًا لازِمٌ لكُلِّ عبدٍ، لا بدَّ له مِن ذلك، وإن كان قد يَعرِضُ له أحيانًا الإعراضُ عن رَبِّه والاستكبارُ، فلا بُدَّ له عند التَّحقيقِ مِن الخُضوعِ والذُّلِّ له، لكِنَّ المؤمِنَ يُسلِمُ له طَوعًا فيُحِبُّه ويُطيعُ أمْرَه، والكافِر إنَّما يخضَعُ له عند رَغبةٍ ورَهبةٍ، فإذا زال عنه ذلك أعرَضَ عن رَبِّه

.

2- جُملةُ لَا يَمْلِكُونَ صِفَةٌ لـ أَوْلِياءَ، والمقصودُ منها تنبيهُ السَّامعينَ للنَّظَرِ في تلك الصِّفَةِ؛ فإنَّهم إنْ تدبَّروا عَلِموها، وعَلِموا أنَّ مَن كانت تلك صِفَتَه فليس بأهلٍ لأنْ يُعْبَدَ .

3- في قَولِه تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ احتَجَّ سُبحانه على تَفَرُّدِه بالإلهيَّةِ بتفرُّدِه بالخَلْقِ؛ وعلى بُطلانِ إلهيَّةِ ما سواه بعَجزِهم عن الخَلْقِ، وعلى أنَّه واحدٌ بأنَّه قَهَّارٌ- والقَهرُ التامُّ يستلزِمُ الوَحدةَ- فإنَّ الشَّرِكةَ تُنافي تمامَ القَهرِ ، فلا توجدُ الوحدةُ والقهرُ إلَّا للهِ وحدَه، فالمخلوقاتُ وكلُّ مخلوقٍ فوقَه مخلوقٌ يقهرُه، ثم فوقَ ذلك القاهرِ قاهرٌ أعلَى منه، حتَّى ينتهيَ القهرُ للواحدِ القهَّار، فالقهرُ والتوحيدُ متلازمانِ متعينانِ لله وحدَه، فتبيَّن بالدليلِ العقليِّ القاهرِ، أنَّ ما يُدعَى مِن دونِ الله ليس له شيءٌ مِن خلقِ المخلوقاتِ، وبذلك كانت عبادتُه باطلةً .

4- قَولُ الله تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ساق ذلك في أُسلوبِ الغَيبةِ؛ إعلامًا بأنَّهم أهلٌ للإعراضِ عنهم؛ لكَونِهم في عِدادِ البَهائِم؛ لقَولِهم ما لا يُعقَلُ بوجهٍ مِن الوُجوهِ .

5- قال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فنفَى أن يكونَ خالقٌ غيره، ونفَى أن يكونَ شيءٌ سواه غير مخلوقٍ، فلو كانت الأفعالُ غيرَ مخلوقةٍ له، لكان خالقَ بعضِ الأشياءِ لا خالقَ كلِّ شيءٍ، وهو بخلافِ الآيةِ .

6- في قَولِه تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا إشارةٌ إلى أنَّ السَّماءَ تَرِدُ- في اللُّغةِ والقُرآنِ- بمعنى العُلُوِّ؛ لأنَّ الماءَ يَنزِلُ مِن السَّحابِ لا مِن السَّماءِ التي هي السَّقفُ المحفوظُ !

7- قولُ الله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ أصلٌ في الصَّوغِ والأواني المُنطَبِعةِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموات وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ

- وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموات وَالْأَرْضِ طَوْعًا فيه قصْرٌ، أي: يسجُدُ للَّهِ وحدَه لا لشيءٍ غيرِه استقلالًا ولا اشتراكًا؛ فالقصْرُ ينتظِمُ القلْبَ والإفرادَ

. وعدَلَ عن ضميرِ الجَلالةِ إلى اسمِه تعالى العَلَمِ؛ تبَعًا للأُسلوبِ السَّابقِ في افتتاحِ الأغراضِ الأصليَّةِ .

- مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فيه تخصيصُ انقيادِ العُقلاءِ بالذِّكْرِ مع كونِ غيرِهم أيضًا كذلك؛ لأنَّهم العُمدَةُ، وانقيادَهم دليلُ انقيادِ غيرِهم، والعُمومُ المُستفادُ مِن (مَن) الموصولةِ عُمومٌ عُرفيٌّ يُرادُ به الكَثْرةُ الكاثِرَةُ .

- قولُه: وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فيه تخصيصُ هذينِ الوقتينِ مع أنَّ انقيادَها مُتَحَقِّقٌ في جميعِ أوقاتِ وُجودِها؛ لأنَّ الظِّلالَ إنَّما تعظُمُ وتكثُرُ فيهما .

- وفي قولِه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وفي سورةِ (النَّحلِ) قال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...، وقال في سورةِ (الحجِّ): أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ...، فخصَّصَ آيةَ (الرَّعدِ) بـ (مَن) ولم تَتكرَّر؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ ما في هذه السُّورةِ تقدَّمَ آيةَ السَّجدَةِ ذِكْرُ العُلْويَّاتِ مِن البرْقِ والسَّحابِ والصَّواعِقِ، ثمَّ ذِكرُ الملائكةِ بتسبيحِهم، ثمَّ الأصنامِ والكفَّارِ، فبدَأَ في آيةِ السَّجدَةِ بذِكْرِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ؛ ليُقَدِّمَ ذِكْرَهم، وأتْبَعَهم مَن في الأرضِ فذَكرَهم تَبعًا. ولم يُكرِّر (مَن) فيها كما كرَّرها في سورة (الحَجِّ)؛ استخفافًا بالأصنامِ والكفَّارِ، وأمَّا في سورةِ (الحجِّ) فتقدَّمَ ذِكْرُ المؤمنين وسائرِ الأديانِ؛ فَقُدِّم مَنْ فِي السَّمَوَاتِ؛ لشرَفِهم وتعظيمًا لهم ولها، ثمَّ ذَكَر وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؛ ليُقَدِّمَ ذِكْرَ المؤمنين؛ لأنَّهم هم الَّذين تقدَّمَ ذِكْرُهم، وأمَّا في سُورةِ (النَّحلِ) فقد تقدَّمَ ذِكْرُ ما خلَقَ اللَّهُ على العُمومِ، ولم يكن فيه ذِكرُ الملائكةِ والرَّعدِ ولا الإنسِ بالتَّصريحِ؛  فاقتَضَتِ الآيةُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ فقال في كلِّ آيةٍ ما يناسِبُها .

وقيل: إنَّ وُرودَ (مَن) في سُورةِ (الرَّعدِ) لا سُؤالَ فيه، فإنَّ قَبولَ الأوامِرِ وامتثالَ الطَّاعاتِ بالقصْدِ والاختيارِ بمَشيئةِ اللَّهِ سبحانه- إنَّما يكونُ مِن أصحابِ العُقولِ، وهم الملائكةُ والإنسُ والجِنُّ، وهم المَقْصودونَ في الآيةِ، فورَدَتْ بـ (مَن) الواقِعةِ على العُقلاءِ؛ لهذا قيل: طَوْعًا وَكَرْهًا [الرعد: 15] ؛ لأنَّ ذلك إنَّما يكونُ ويُسْتَوْضَحُ مِن العاقِلِ، فالآيةُ وارِدَةٌ على ما ينْبَغي. وأمَّا آيةُ (النَّحلِ) فمُراعًى فيها لفْظُ (دابَّة) الوارِدُ فيها؛ إذ هو عامٌّ للعاقِلِ وغيرِه، فورَدَتِ الآيةُ بـ (ما) الواقِعَةِ على الأنواعِ والأجناسِ مُناسِبَةً لِما تقدَّمَ مِن الإطلاقِ والعُمومِ .

- ومِن المُناسَبَةِ الحَسَنةِ أيضًا أنَّ في سُورةِ (النَّحلِ) زيادة: وَالْمَلَائِكَةُ [النحل: 49] ، ولم يرِدْ ذلك هنا في سُورةِ (الرَّعدِ)؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ قولَه تعالى في آيةِ (النَّحلِ): وَالْمَلَائِكَةُ تخصيصٌ لهم؛ لجَليلِ حالِهم، فعُيِّنوا بالذِّكْرِ مع دُخولِهم في العُمومِ المُتقدِّمِ، وهذا كقولِه تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] ، مع دُخولِهما تحتَ لفْظِ الملائكةِ. ثمَّ أَكَّدَ الوارِدُ في آيةِ (النَّحلِ) ما ورَدَ فيها مِن لفْظِ (دابَّة). ولم يُخَصَّصوا بالذِّكْرِ في آيةِ (الرَّعدِ)؛ لأنَّه لم يقَعْ هناك لفْظُ (دابَّة)، الَّذي هو الموجِبُ لِتَعْيِينِ الملائكةِ وتخصيصِهم بالذِّكْرِ، فكلٌّ على ما يجِبُ ويُناسِبُ .

2- قوله تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ

- قولُه: قُلِ اللَّهُ حكايةٌ لاعترافِهم وتأْكيدٌ له عليهم؛ لأنَّه إذا قال لهم: مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لم يكُنْ لهم بُدٌّ مِن أنْ يقولوا: اللَّهُ، كقولِه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون: 86-87] ، وهذا كما يقولُ المُناظِرُ لصاحبِه: أهذا قولُك؟ فإذا قال: هذا قولي، قال: هذا قولُك، فيَحْكي إقرارَه؛ تقريرًا له عليه واستيثاقًا منه، ثم يقولُ له: فيلْزَمُك على هذا القولِ كَيْتَ وكَيْتَ. ويجوزُ أنْ يكونَ تلْقينًا، أى: إنْ كَفُّوا عنِ الجوابِ فلقِّنْهم، فإنَّهم يتلقَّنونَه، ولا يقدِرون أنْ يُنكرِوه؛ فلأنَّه لَمَّا كان السُّؤالُ عن أمرٍ واضحٍ لا يمكِنُ أنْ يدفَعَ منه أحدٌ، كان جوابُه مِن السَّائلِ، فكانَ السَّبْقُ إليه أفصحَ في الاحتجاجِ إليهم وأسرعَ في قطْعِهم في انتظارِ الجوابِ منهم؛ إذ لا جوابَ إلَّا هذا الَّذي وقعَتِ المُبادرةُ إليه . وقيل: لكونِ الاستفهامِ غيرَ حقيقيٍّ جاءَ جوابُه مِن قِبَلِ المُستفهِمِ، وهذا كثيرٌ في القُرآنِ، وهو مِن بَديعِ أساليبِه .

- قولُه: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ استفهامٌ على سبيلِ التَّوبيخِ والإنكارِ . وفيه إعادةُ فِعْلِ الأمرِ بالقولِ قُلْ الَّذي هو تفريعٌ على الإقرارِ بأنَّ اللَّهَ ربُّ السَّمواتِ والأرضِ؛ لقصْدِ الاهتمامِ بذلك التَّفريعِ؛ لِما فيه من الحُجَّةِ الواضِحةِ، فالاستفهامُ تقريرٌ وتوبيخٌ وتسفيهٌ لرأْيِهم بناءً على الإقرارِ المُسَلَّمِ .

- قولُه: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا فيه وصْفُ الأولياءِ هاهنا بعدَمِ المالِكِيَّةِ للنَّفعِ والضَّرِّ في ترشيحِ الإنكارِ وتأْكيدِه، كتقْييدِ الاتِّخاذِ بالجُملةِ الحاليَّةِ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ في قولِه تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف: 50] ؛ فإنَّ كلًّا منهما ممَّا يَنْفي الاتِّخاذَ المَذْكورَ ويُؤكِّدُ إنكارَه .

- قولُه: نَفْعًا وَلَا ضَرًّا فيه عطْفُ الضَّرِّ على النَّفعِ؛ استقصاءً في عجْزِهم؛ لأنَّ شأْنَ الضَّرِّ أنَّه أقربُ للاستطاعةِ وأسهلُ .

- ونكَّرَ نَفْعًا ليعُمَّ، وقدَّمَه؛ لأنَّ السِّياقَ لطَلَبِهم منهم، والإنسانُ إنَّما يَطلُبُ ما ينفَعُه .

- وفيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا [الرعد: 16] ، وقال في سُورةِ (الفُرقانِ): وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [الفرقان: 3] ؛ فقُدِّمَ (النَّفعُ) على (الضَّرِّ) في سُورةِ الرَّعْدِ، وعُكِسَ ذلك في سُورةِ الفُرقانِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ آيةَ (الفُرقانِ) قد عُطِفَ عليها بالواوِ المُشْرِكَةِ في الإعْرابِ والمعنى قولُه تعالى: وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] ، وقُدِّمَ قبلَها ما عُطِفَت عليه بالواوِ أيضًا، وذلك قولُه تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3] ؛ فقد اتَّفقَت هذه الجُمَلُ المَعْطوفاتُ في انطِواءِ كلِّ جُملةٍ منها على مُتَقابِلَيْنِ كالضِّدَّيْنِ، ففي الأُولى عدَمُ الخلْقِ في قولِه: لَا يَخْلُقُونَ مُقابِلًا للخلْقِ والحياةِ، وبُنِيَ مَجْموعُها على تأْخيرِ أشرَفِ المُتَقابِلَيْنِ، ففي الأُولى الإشارةُ إلى الخلْقِ في قولِه تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وكذا في الثَّانيةِ الضَّرُّ والنَّفعُ، والنَّفعُ أشرَفُ، وفي الثَّالثةِ الموتُ والحياةُ، والحياةُ أشرَفُ، فرُوعِيَ تَناسُبُ الآيِ على ما أوضَحْنا، فقُدِّمَ الضَّرُّ على النَّفعِ في آيةِ (الفُرقانِ). أمَّا آيةُ (الرَّعدِ) فلم يعرِضْ فيها ما يحمِلُ على ما ذُكِرَ مِن التَّناسُبِ، فجاءت مِن حيث أُفْرِدَت على ما يجِبُ مِن تقْديمِ النَّفعِ الَّذي هو مَطْلَبُ العاقِلِ، وكأنْ قد قيل فيها: إذا لم ينْفَعوا أنفُسَهم فكيف ينْفَعونَكم؟! ثمَّ أُتْبِعَ بما يكْمُلُ به التَّعريفُ بحالِ مَن اتَّخَذوهم أولياءَ مِن أنَّها لا تضُرُّ ولا تنفَعُ، فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ؛ فإنَّه لمَّا تقدَّمَ قبلَ الجُمَلِ المذْكورةِ في سُورةِ (الفُرقانِ) قولُه سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] ، ناسَبَ هذا مِن ذِكْرِ آلهَتِهم وَصْفُها بأنَّها لا تخلُقُ، فقيل: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3] ؛ ليحصُلَ مِن وَصْفِه سبحانه بأنَّه خالِقُ كلِّ شيءٍ، وأنَّ آلهَتَهم لا تخلُقُ شيئًا ما أفْصَحَ به مِن توبيخِهم وتقْريعِهم في قولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] ، وتناسَبَ هذا أوضَحَ تناسُبٍ وأبْيَنَه، ولا يمكِنُ خلافُه، ثمَّ بُنِيَ عليه ما بعدَه لتَناسُبِ ذلك كلِّه، وحصَلَ منه أنَّ الوارِدَ في كلٍّ مِن السُّورتَيْنِ لا يمكِنُ فيه العَكْسُ بوجْهٍ .

- قولُه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ فيه إعادةُ الأمرِ بالقولِ؛ للاهتمامِ الخاصِّ بهذا الكلامِ؛ لأنَّ ما قبله إبطالٌ لاستحقاقِ آلهتِهم العبادةَ، وهذا إظهارٌ لِمَزِيَّةِ المؤمنين باللَّهِ على أهلِ الشِّركِ؛ لأنَّ قولَه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ تضمَّنَ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ دعا إلى إفرادِ اللَّهِ بالرُّبوبيَّةِ، وأنَّ المُخاطَبين أثْبَتوا الرُّبوبيَّةَ للأصنامِ؛ فكانَ حالُهم وحالُه كحالِ الأعمى والبصيرِ وحالِ الظُّلماتِ والنُّورِ، ونفْيُ التَّسويةِ بين الحالينِ يتضمَّنُ تشبيهًا بالحالينِ، وهذا مِن صِيَغِ التَّشبيهِ البليغِ. وأَمْ للإضرابِ الانتقاليِّ في التَّشبيهِ .

- وفي قولِه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ اخْتِيرَ التَّشبيهُ في المُتَقابِلاتِ- العمى والبصَرِ،  والظُّلمةِ والنُّورِ-؛ لتَمامِ المُناسبَةِ؛ لأنَّ حالَ المُشركين أصحابِ العَمَى كحالِ الظُّلمةِ في انعدامِ إدراكِ المُبْصَراتِ، وحالَ المؤمنين كحالِ البصَرِ في العِلْمِ، وكحالِ النُّورِ في الإرشادِ .

- قولُه: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي فيه إظهارُ حرْفِ (هل) بعد (أم)؛ لأنَّ فيه إفادةَ تحقيقِ الاستفهامِ، وذلك ليس ممَّا تُغْني فيه دلالةُ (أم) على أصلِ الاستفهامِ .

- قولُه: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ أي: بل أجَعَلوا، ومعنى الهمزةِ الإنكارُ، وقولُه: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صِفَةٌ لـ شُرَكَاءَ داخِلةٌ في حُكْمِ الإنكارِ؛ فالكلامُ بعدَ (أم) استفهامٌ حُذِفَت أداتُه؛ لدَلالةِ (أم) عليها ، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ والتَّغليطِ، فتضمَّنَ هذا الاستفهامُ التَّهكُّمَ بهم؛ لأنَّه معلومٌ بالضَّرورةِ أنَّ هذه الأصنامَ وما اتَّخَذوها مِن دونِ اللَّهِ أولياءَ، وجعَلوهم شُركاءَ- لا تقدِرُ على خلْقِ ذَرَّةٍ، ولا إيجادِ شيءٍ البتَّةَ .

- قولُه: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ فيه الانتقالُ مِن خطابِهم إلى الإخبارِ عنهم غائبًا؛ إعراضًا عنهم، وتنبيهًا على تَوبيخِهم في جَعْلِ شُركاءَ للَّهِ، وتعجيبًا منهم، وإنكارًا عليهم، فالْتفَتَ عنِ الخطابِ إلى الغَيبةِ؛ إعراضًا عنهم؛ لِما مضى مِن ذِكرِ ضَلالِهم .

- قولُه: شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ فيه تعريضٌ بِرَكاكَةِ رأْيِهم، وتَهَكُّمٌ بهم ، والفرقُ بين التَّهكُّمِ والهَزْلِ الَّذي يُرادُ به الجِدُّ: أنَّ التَّهكُّمَ ظاهرُه جِدٌّ وباطِنُه هَزْلٌ؛ لِمَجيئِه على سبيلِ الاستهزاءِ والسُّخرِيَةِ، هذا على ما تعارَفْناه بيننا، والهَزْلُ الَّذي يُرادُ به الجِدُّ ظاهِرُه هَزْلٌ وباطِنُه جِدٌّ، وفي قولِه تعالى: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ في سِياقِ الإنكارِ تَهَكُّمٌ بهم؛ لأنَّ غيرَ اللَّهِ لا يخلُقُ خلْقًا البتَّةَ؛ لا بطريقِ المُشابَهَةِ والمُساواةِ، ولا بطريقِ الانحطاطِ والقُصورِ، فقد كان يكْفي في الإنكارِ عليهم أنَّ الشُّركاءَ الَّتي اتَّخذوها لا تخلُقُ مُطلقًا، ولكنْ جاءَ قولُه تعالى: كَخَلْقِهِ؛ تهكُّمًا يَزِيدُ الإنكارَ تأْكيدًا .

- قولُه: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَذْلَكَةٌ لِما تقدَّمَ ونتيجةٌ له؛ فإنَّه لمَّا جاءَ الاستفهامُ التَّوبيخيُّ في أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، وفي أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كان بحيث يَنتجُ أنَّ أولئك الَّذين اتَّخذوهم شُركاءَ للَّهِ، والَّذين تبيَّنَ قُصورُهم عن أنْ يمْلِكوا لأنفُسِهم نفعًا أو ضرًّا، وأنَّهم لا يخلُقونَ كخَلْقِ اللَّهِ؛ إنْ هم إلَّا مخلوقاتٌ للَّهِ تعالى، وأنَّ اللَّهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، وما أولئك الأصنامُ إلَّا أشياءُ داخِلةٌ في عُمومِ كلِّ شيءٍ، وأنَّ اللَّهَ هو المُتَوَحِّدُ بالخلْقِ، القهَّارُ لكلِّ شيءٍ دونَه .

- قولُه: الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فيه حذْفُ مُتعلِّقِ هذينِ الاسمينِ؛ لِتَعَيُّنِ موضوعِ الوَحدةِ ومُتعلِّقِ القَهْرِ .

3- قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ.

- هذا مَثَلٌ ضرَبَه اللَّهُ تعالى للحقِّ وأهلِه والباطِلِ وحزْبِه؛ فمثَّلَ الحقَّ وأهلَه بالماءِ الَّذي يُنزِلُه مِن السَّماءِ، فتَسيلُ به أوديةُ النَّاسِ، فيَحْيَونَ به وينفَعُهم أنواعَ المَنافِعِ، وبالفِلِزِّ الَّذي ينتفِعونَ به في صَوْغِ الحُلِيِّ منه واتِّخاذِ الأواني والآلاتِ المُختلِفةِ، ولو لم يكُنْ إلَّا الحديدُ الَّذي فيه البأْسُ الشَّديدُ لَكَفى به، وأنَّ ذلك ماكِثٌ في الأرضِ، باقٍ بقاءً ظاهِرًا، يثبُتُ الماءُ في مَنافِعِه، وتَبْقى آثارُه في العُيونِ والبئارِ والجبوبِ، والثِّمارِ الَّتي تنبُتُ به ممَّا يُدَّخَرُ ويُكْنَزُ، وكذلك الجواهِرُ تَبْقى أزمِنةً مُتطاولِةً، وشبَّهَ الباطِلَ في سُرعةِ اضْمِحلالِه ووَشَكِ زَوالِه وانسِلاخِه عنِ المَنفعَةِ بزَبدِ السَّيلِ الَّذي يُرْمَى به، وبزَبَدِ الفِلِزِّ الَّذي يطْفو فوقَه إذا أُذِيبَ .

- وفي قوله: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ جِيءَ في هذا التسجيلِ بطريقةِ ضرْبِ المَثلِ بحالَيْ فَريقينِ في تلقِّي شيءٍ واحدٍ انتَفَع فريقٌ بما فيه مِن منافِعَ، وتعلَّق فريقٌ بما فيه من مَضارَّ. وجِيء في ذلك التمثيلِ بحالةٍ فيها دَلالةٌ على بديعِ تَصرُّفِ الله تعالى؛ ليَحصُلَ التخلص مِن ذِكر دلائل القُدرةِ إلى ذِكر عِبَر الموعظةِ. وهذا تَشبيهٌ تمثيليٌّ (مُركَّب)، حيث شبَّهَ إنْزالَ القُرآنِ الَّذي به الهُدى مِن السَّماءِ بإنْزالِ الماءِ الَّذي به النَّفعُ والحياةُ مِن السَّماءِ، وشبَّهَ وُرودَ القُرآنِ على أسماعِ النَّاسِ بالسَّيلِ يمُرُّ على مُختلِفِ الجِهاتِ؛ فهو يمُرُّ على التِّلالِ والجبالِ فلا يستقِرُّ فيها، ولكنَّه يمْضي إلى الأوديةِ والوِهادِ فيأخُذُ منه كلٌّ بقدْرِ سَعَتِه، وتلك السِّيُولُ في حالِ نُزولِها تحمِلُ في أَعالِيها زَبَدًا، وهو رَغْوَةُ الماءِ الَّتي تَرْبو وتَطْفو على سطْحِ الماءِ، فيذهَبُ الزَّبَدُ غيرَ مُنْتَفَعٍ به، ويبْقى الماءُ الخالِصُ الصَّافي ينتفِعُ به النَّاسُ للشَّرابِ والسَّقْيِ. ثمَّ شُبِّهَت هيئةُ نُزولِ الآياتِ وما تحْتَوي عليه مِن إيقاظِ النَّظَرِ فيها، فينتفِعُ به مَن دخَلَ الإيمانُ قُلوبَهم على مقاديرِ قُوَّةِ إيمانِهم وعمَلِهم، ويمُرُّ على قُلوبِ قومٍ لا يشعُرونَ به؛ وهم المُنكِرون المُعرِضون، ويُخالِطُ قُلوبَ قومٍ فيتأمَّلونَه، فيأْخُذونَ منه ما يُثِيرُ لهم شُبُهَاتٍ وإلحادًا. شبَّهَ ذلك كلَّه بهيئةِ نُزولِ الماءِ؛ فانحِدارُه على الجبالِ والتِّلالِ وسَيَلانُه في الأوديةِ على اختلافِ مقاديرِها، ثمَّ ما يدفَعُ مِن نفْسِه زَبَدًا لا يُنْتَفَعُ به، ثمَّ لم يلْبَثِ الزَّبَدُ أنْ ذهَبَ وفَنِيَ، والماءُ بَقِيَ في الأرضِ للنَّفعِ. ولمَّا كان المقصودُ التَّشبيهَ بالهيئةِ كلِّها جيءَ في حِكايةِ ما تَرَتَّبَ على إنْزالِ الماءِ بالعطْفِ بفاءِ التَّفريعِ في قولِه: فَسَالَتْ وقولِه: فَاحْتَمَلَ؛ فهذا تمْثيلٌ صالِحٌ لتَجْزِئةِ التَّشبيهاتِ الَّتي تَرَكَّبَ منها، وهو أبلَغُ التَّمثيلِ .

- ومِن مَحاسنِ البلاغةِ أيضًا في هذه الآيةِ: أنَّه شبَّهَ الحقَّ بِما يخلُصُ مِن جِرْمِ هذه المَعادِنِ مِن الأقْذارِ والخبَثِ ودَوامِ الانتفاعِ بها، وشبَّهَ الباطِلَ بالزَّبَدِ والمُجتمِعِ مِن الخبَثِ والأقْذارِ، ولا بقاءٌ له ولا قيمةٌ، وفصَّلَ ما سَبَقَ ذِكْرُه ممَّا يُنْتَفَعُ به ومِن الزَّبَدِ، فبدَأَ بالزَّبَدِ؛ إذ هو المُتأخِّرُ في قولِه: زَبَدًا رَابِيًا، وفي قولِه: زَبَدٌ مِثْلُهُ. ولكونِ الباطِلِ كِنايةً عنه وُصِفَ مُتَأَخِّرًا، وكأنَّه- واللَّهُ أعلمُ- يَبدَأُ في التَّفصيلِ بما هو أهمُّ في الذِّكْرِ. وأُفْرِدَ الزَّبَدُ بالذِّكْرِ ولم يُثَنَّ وإنْ تقدَّمَ زَبَدانِ؛ لاشتراكِهما في مُطلَقِ الزَّبَدِيَّةِ، فهما واحدٌ باعتبارِ القَدْرِ المُشْترَكِ .

- قولُه: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فيه حذْفُ المضافِ، والتقديرُ: مَثَلَ الحقِّ ومَثَلَ الباطِلِ؛ والحذْفُ للإنباءِ عن كَمالِ التَّماثُلِ بين المُمَثَّلِ والمُمَثَّلِ به؛ كأنَّ المَثَلَ المَضروبَ عينُ الحقِّ والباطِلِ، وبعدَ تحقيقِ التَّمثيلِ، مع الإيماءِ في تَضاعيفِ ذلك إلى وُجوهِ المُماثلَةِ على أبدَعِ وُجوهٍ وآنَقِها، وبيَّنَ عاقِبةَ كلٍّ مِن المُمَثَّلَيْنِ على وجْهِ التَّمثيلِ، مع التَّصريحِ ببعضِ ما به المُماثلَةُ مِن الذَّهابِ والبقاءِ؛ تَتِمَّةً للغرَضِ مِن التَّمثيلِ؛ مِن الحثِّ على اتِّباعِ الحقِّ الثَّابتِ، والرَّدعِ عنِ الباطلِ الزَّائدِ، فقيل: فَأَمَّا الزَّبَدُ... .

- وتنْكيرُ أَوْدِيَةٌ؛ لأنَّ المطرَ يأْتي على تَناوُبٍ بين البِقاعِ، فيَسيلُ بعضُ أوديةِ الأرضِ دونَ بعضٍ .

- فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ وإيثارُ التَّمثيلِ بها على الأنهارِ المُستمِرَّةِ الجَرَيانِ؛ لوُضوحِ المُماثَلَةِ بين شأْنِها وشأْنِ ما مُثِّلَ بها .

- قولُه: بَقَدَرِهَا سبَبُ ذِكْرِه أنَّه مِن مواضِعِ العِبرَةِ؛ وهو أنْ كانت أَخاديدُ الأوديةِ على قدْرِ ما تحتمِلُه مِن السِّيولِ بحيث لا تَفيضُ عليها، وهو غالِبُ أحوالِ الأوديةِ، وهذا الحالُ مقصودٌ في التَّمثيلِ؛ لأنَّه حالُ انصرافِ الماءِ لنَفْعٍ لا ضُرَّ معه؛ لأنَّ مِن السِّيولِ جَواحِفُ تجرُفُ الزَّرعَ والبيوتَ والأنعامَ، وأيضًا هو دالٌّ على تَفاوُتِ الأوديةِ في مَقاديرِ المياهِ، ولذلك حظٌّ مِن التَّشبيهِ؛ وهو اختِلافُ النَّاسِ في قابِلِيَّةِ الانتفاعِ بما نزَلَ مِن عند اللَّهِ، كاختلافِ الأوديةِ في قَبولِ الماءِ على حسَب ما يسيلُ إليها مِن مَصابِّ السِّيولِ، وقد تمَّ التَّمثيلُ هنا ، وقوله أيضًا: بِقَدَرِهَا هو من بابِ الاحتراسِ، أي: بمقدارِها الَّذي عرَف اللَّهُ أنَّه نافعٌ للممطورِ عليهم غيرُ ضارٍّ، وإلا فلو طمَا واستحالَ سيلًا لاجتاحَ الأخضرَ واليابسَ ولأهلَك الحَرْثَ والنَّسلَ .

- قولُه: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا فيه تعريفُ السَّيل؛ لأنَّه قد فُهِم مِن الفعل قَبْلَه، وهو قوله تعالى: فَسَالَتْ، وهو لو ذكر لكان نكرةً، فلمَّا أُعيدَ أُعيدَ معرفةً نحو: رأيتُ رجلًا فأكرمتُ الرَّجُلَ، وهكذا تطرد القاعدةُ في النَّكِرةِ إذا أُعيدتْ .

- وإنَّما وُصِفَ الزَّبَدُ بقولِه تعالى: رَابِيًا، أي: عاليًا مُنتفِخًا فوقه؛ بيانًا لِما أُرِيدَ بالاحتمالِ المُحْتَمَلِ؛ لكونِ الحَمِيلِ غيرَ طافٍ كالأشجارِ الثَّقيلةِ، وإنَّما لم يُدْفَعْ ذلك الاحتمالُ بأنَّ يقالَ: (فاحْتَمَلَ السَّيْلُ فوقه)؛ للإيذانِ بأنَّ تلك الفوقيَّةَ مُقْتَضى شأْنِ الزَّبَدِ لا مِن جِهَةِ المُحْتَمِلِ؛ تحقيقًا للمُماثَلَةِ بينه وبين ما مُثِّلَ به مِن الباطِلِ الَّذي شأْنُه الظُّهورُ في بادي الرَّأْيِ مِن غيرِ مُداخلَةٍ في الحقِّ .

- قولُه: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ عِبارةٌ جامِعَةٌ لأنواعِ الفِلِزِّ، مع إظهارِ الكِبْرياءِ في ذِكْرِه على وجْهِ التَّهاوُنِ به كما هو شأنُ الملوكِ، وذلك أنَّ فيه عدولًا مِن الاسمِ إلى تصويرِ حالةٍ هي أحطُّ حالاتِ هذه الجواهرِ، أي: هذه التي تعدُّونها أنفسَ الجواهرِ، وتتَّخِذون منها الحليَّ، وتَتزيَّنون بها، هي هذه التي تُوقِدونَ عليها .

- والضَّميرُ في يُوقِدُونَ للنَّاسِ؛ أُضْمِرَ مع عدَمِ سَبْقِ الذِّكْرِ؛ لظُهورِه .

- وفي زيادةِ فِي النَّارِ إشعارٌ بالمُبالَغَةِ في الاعتمالِ للإذابةِ، وحُصولِ الزَّبَدِ كما أُشيرَ إليه، وعدَمُ التَّعرُّضِ لإخراجِه مِن الأرضِ؛ لعدَمِ دَخْلِ ذلك العنوانِ في التَّمثيلِ، كما أنَّ لعنوانِ إنزالِ الماءِ مِن السَّماءِ دَخْلًا فيه حسبما فُصِّلَ فيما سلف، بل له إخلالٌ بذلك .

- قولُه: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ، وهذا تمثيلٌ آخَرُ ورَدَ استطرادًا عَقِبَ ذِكْرِ نظيرِه، يُفيدُ تقريبَ التَّمثيلِ لقومٍ لم يُشاهِدوا سِيولَ الأوديةِ؛ فقرَّبَ إليهم تمثيلَ عدَمِ انتفاعِهم بما انتفَعَ به غيرُهم بمِثْلِ ما يُصْهَرُ مِن الذَّهبِ والفضَّةِ في البَواتِقِ ؛ فإنَّه يقذِفُ زَبَدًا ينتَفي عنه وهو الخبَثُ، وهو غيرُ صالِحٍ لشيءٍ، في حين صَلاحِ مَعدنِه لاتِّخاذِه حِلْيَةً أو مَتاعًا، فالكلامُ من قَبِيلِ تعدُّدِ التَّشبيهِ القريبِ .

- قولُه: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ فيه تقْديمُ المُسنَدِ -وهو مِمَّا يُوقِدُونَ- على المُسنَدِ إليه -وهو زَبَدٌ- في هذه الجُملةِ؛ للاهتمامِ بالمُسنَدِ؛ لأنَّه موضِعُ اعتبارٍ أيضًا ببديعِ صُنْعِ اللَّهِ تعالى؛ إذ جعَلَ الزَّبَدَ يطْفو على أرَقِّ الأجسامِ -وهو الماءُ- وعلى أغلظها -وهو المعدنُ- فهو ناموسٌ مِن نَواميسِ الخِلْقَةِ، فبالتَّقديمِ يقَعُ تَشْويقُ السَّامِعِ إلى ترقُّبِ المُسنَدِ إليه .

- وعدَلَ عن تسمِيَةِ الذَّهبِ والفضَّةِ إلى الموصوليَّةِ بقولِه: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ؛ لأنَّها أخصَرُ وأجمَعُ، ولأنَّ الغرَضَ في ذِكْرِ الجُملةِ المَجْعولةِ صِلَةً، فلو ذُكِرَت بكيفيَّةٍ غيرِ صِلَةٍ -كالوصفيَّةِ مَثَلًا- لكانت بمنزِلَةِ الفَضْلَةِ في الكلامِ، ولَطالَ الكلامُ بذِكْرِ اسم المعدنَيْنِ مع ذِكْرِ الصِّلَةِ؛ إذ لا مَحيدَ عن ذِكْرِ الوَقودِ؛ لأنَّه سبَبُ الزَّبَدِ، فكان الإتيانُ بالموصولِ قضاءً لحقِّ ذِكْرِ الجُملةِ مع الاختصارِ البديعِ، ولأنَّ في العُدولِ عن ذِكْرِ اسمِ الذَّهبِ والفضَّةِ إعراضًا يُؤْذِنُ بقِلَّةِ الاكتراثِ بهما؛ ترفُّعًا عن وَلَعِ النَّاسِ بهما؛ فإنَّ اسمَيْهما قد اقتَرَنا بالتَّعظيمِ في عُرْفِ النَّاسِ .

- وفائدةُ قولِه: ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ كالفائدةِ في قولِه: بَقَدَرِهَا؛ لأنَّه جمَعَ الماءَ والفِلِزَّ في النَّفعِ في قولِه: وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ؛ لأنَّ المعنى: وأمَّا ما ينفَعُهم مِن الماءِ والفِلِزِّ؛ فذُكِرَ وجْه الانتفاعِ ممَّا يُوقَدُ عليه منه ويُذابُ، وهو الحِلْيَةُ والمَتاعُ ، وذُكِرَ لإيضاحِ المُرادِ مِن الصِّلَةِ، ولإدماجِ ما فيه مِن مِنَّةِ تسخيرِ ذلك للنَّاسِ؛ لشِدَّةِ رغبتِهم فيهما ، وفي ذِكْرِ مُتعلِّقِ ابْتِغَاءَ تنبيهٌ على مَنفعَةِ ما يوقِدونَ عليه .

- وجُملةُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ مُعترِضَةٌ، وهي فَذْلَكَةُ التَّمثيلِ ببَيانِ الغرَضِ منه، أي: مِثْلُ هذه الحالةِ يكونُ ضَرْبُ مَثَلٍ للحقِّ والباطِلِ، وقد عُلِمَ أنَّ الزَّبَدَ مَثَلٌ للباطِلِ، وأنَّ الماءَ مَثَلٌ للحقِّ، فارْتَقَى عندَ ذلك إلى ما في المَثَلَيْنِ مِن صِفَتَيِ البقاءِ والزَّوالِ؛ ليتَوَصَّلَ بذلك إلى البِشارةِ والنِّذارةِ لأهلِ الحقِّ وأهلِ الباطِلِ، فصارُ التَّشبيهُ تعريضًا وكِنايةً عنِ البِشارةِ والنِّذارةِ .

- وفي قولِه: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ تغْيِيرُ تَرْتيبِ اللَّفِّ الواقعِ في الفذْلَكَةِ المُوافِقِ للتَّرتيبِ الواقعِ في التَّمثيلِ؛ لمُراعاةِ المُلاءمَةِ بين حالتَيِ الذَّهابِ والبقاءِ وبين ذِكْرَيْهما؛ فإنَّ المُعتَبَرَ إنَّما هو بقاءُ الباقي بعد ذَهابِ الذَّاهِبِ لا قبْلَه ؛ فجُملةُ فَأَمَّا الزَّبَدُ معطوفةٌ على جُملةِ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا مُفَرَّعَةً على التَّمثيلِ، وافتُتِحَت بـ فَأَمَّا؛ للتَّوكيدِ، وصَرْفِ ذِهْنِ السَّامِعِ إلى الكلامِ لِما فيه مِن خَفِيِّ البِشارةِ والنِّذارةِ، ولأنَّه تَمامُ التَّمثيلِ .

- وعبَّرَ عنِ الماءِ بـ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ؛ للإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وهو البَقاءُ في الأرضِ؛ تعريضًا للمُشركين بأنَّ يعرِضوا أحوالَهم على مَضمونِ هذه الصِّلَةِ، واكْتُفِيَ بذِكْرِ وجْهِ شَبَهِ النَّافِعِ بالماءِ وغيرِ النَّافِعِ بالزَّبَدِ عن ذِكْرِ وجْهِ شَبَهِ النَّافِعِ بالذَّهبِ أو الفضَّةِ وغيرِ النَّافِعِ بزَبَدِهما؛ استغناءً عنه .

- وجُملةُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَذْييليَّةٌ؛ لِما في لفْظِ الْأَمْثَالَ مِن العُمومِ، فهو أعمُّ مِن جُملةِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ؛ لدلالتِها على صِنْفٍ مِن المَثَلِ دون جميعِ أصنافِه، فلمَّا أعقَبَ بمَثَلٍ آخَرَ- وهو فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً- جيءَ بالتَّنبيهِ إلى الفائدةِ العامَّةِ مِن ضرْبِ الأمثالِ، وحصَلَ أيضًا توكيدُ جُملةِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ؛ لأنَّ العامَّ يندرِجُ فيه الخاصُّ. فالإشارةُ بـ كَذَلِكَ إلى التَّمثيلِ السَّابِقِ في جُملةِ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، أي: مِثْلَ ذلك الضَّربِ البَديعِ يضرِبُ اللَّهُ الأمثالَ، وهو المقصودُ بهذا التَّذييلِ .

- وأيضًا قولُه: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فيه تفخيمٌ لشأْنِ هذا التَّمثيلِ، وتأكيدٌ لقولِه: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ؛ فالإشارةُ بـ كَذَلِكَ للتَّنويهِ بذلك المَثَلِ، وتنْبيهِ الأفهامِ إلى حِكْمتِه وحِكْمةِ التَّمثيلِ، وما فيه مِن المَواعظِ والعِبَرِ، وما جمَعَه مِن التَّمثيلِ والكِنايةِ التَّعريضيَّةِ، وإلى بَلاغةِ القُرآنِ وإعجازِه، وذلك تبهيجٌ للمؤمنِينَ وتَحدٍّ للمُشركِينَ، ولِيُعلمَ أن جُملةَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً لم يُؤْتَ بها لمُجَرَّدِ تشْخيصِ دَقائقِ القُدرةِ الإلهيَّةِ والصُّنْعِ البديعِ، بل ولضَرْبِ المَثَلِ؛ فيُعْلَمُ المُمَثَّلُ له بطريقِ التَّعريضِ بالمُشركين والمؤمنِينَ؛ فيكونُ الكلامُ قد تمَّ عندَ قوله: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ، كما في شأْنِ التَّذييلِ .

- وفي هذه الآيةِ ما يُعرَفُ في البلاغةِ بمُراعاةِ النظيرِ، وذلك في ألفاظِ (الماء) و(السيل)، و(الزبد) و(الرَّبو)، وفي ألفاظ (النَّار) و(الإيقاد)، و(الحِلية) و(المتاع) .

4- قولُه تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ

- قولُه: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى... استئنافٌ بَيانيٌّ لجُملةِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ؛ ففي ذِكْرِ هذه الجُملةِ زيادةُ تنبيهٍ للتَّمثيلِ وللغرَضِ منه مع ما في ذلك مِن جَزاءِ الفريقينِ، وفي العُدولِ إلى الموصولينَ وصِلَتَيْهما في قولِه: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا إيماءٌ إلى أنَّ الصِّلَتَيْنِ- الاستجابةَ، وعدَمَ الاستجابةِ- سببانِ لِما حصَلَ للفريقينِ .

- وفي قولِه: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى تقْديمُ المُسنَدِ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا؛ لأنَّه الأهمُّ؛ لأنَّ الغرَضَ التَّنويهُ بشأْنِ الَّذين استجابوا مع جَعْلِ الحُسْنى في مَرتبةِ المُسنَدِ إليه، وفي ذلك تنويهٌ بها أيضًا ؛ فـ الْحُسْنَى مُبتدأٌ، وخبَرُه في قولِه: لِلَّذِينَ، ووَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مُبتدأٌ، خبَرُه ما بعدَه، وغايَرَ بين جُمْلتَيِ الابتداءِ؛ لِما يدلُّ عليه تقْديمُ الجارِّ والمَجْرورِ في الاعتِناءِ والاهتمامِ، أو مِن الاختصاصِ، على رأيٍّ آخَرَ . وقيل: أُجْرِيَ الخبَرُ عن وعيدِ الَّذين لم يستجيبوا على أصْلِ نظْمِ الكلامِ في التَّقديمِ والتَّأخيرِ؛ لقِلَّةِ الاكتِراثِ بهم .

- وأيضًا قولُه: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ فيه مِن تَهويلِ ما يلْقاهم ما لا يُحيطُ به البَيانُ؛ فالموصولُ وَالَّذِينَ مُبتدأٌ، والشَّرطيَّةُ كما هي لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ... خبَرُه، لكنْ لا على أنَّها وُضِعَت موضِعَ السُّوءَى، فوقَعَت في مُقابلةِ الحُسنى الواقِعَةِ في القَرينةِ الأُولى؛ لمُراعاةِ حُسْنِ المُقابلَةِ؛ فصارَ كأنَّه قيل: والَّذين لم يستجيبوا له السُّوءَى كما يُوهِمُ؛ فـ (إنْ) الشَّرطيَّةُ وإنْ دلَّت على كَمالِ سوءِ حالِهم، لكنَّها بمعزِلٍ مِن القيامِ مَقامَ لفْظِ (السُّوءَى) مَصحوبًا باللَّامِ الدَّاخِلةِ على الموصولِ أو ضميرِه، وعليه يدورُ حُصولُ المَرامِ، وإنَّما الواقِعُ في تلك المُقابَلةِ سُوءُ الْحِسَابِ في قولِه: أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ، وحيث كان اسمُ الإشارةِ الواقِعُ مُبتدأً في هذه الجُملةِ عِبارةً عنِ الموصولِ الواقِعِ مُبتدأً في الجُملةِ السَّابقةِ، كان خبرُها -الجُملةُ الظَّرفيَّةُ- خبرًا عنِ الموصولِ في الحقيقةِ، ومُبيِّنًا لإبهامِ مضمونِ الشَّرطيَّةِ الواقِعَةِ خبرًا عنه أوَّلًا؛ ولذلك تُرِكَ العَطْفُ، فصارَ كأنَّه قيل: والَّذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحِسابِ، وذلك في قوَّةِ أنْ يقالَ: وللَّذين لم يستجيبوا له سوءُ الحسابِ مع زيادةِ تأْكيدٍ؛ فتمَّ حُسْنُ المُقابَلةِ على أبلَغِ وجْهٍ وآكدِه .

- وفيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ، وفي سُورةِ المائدةِ قال: لِيَفْتَدُوا بِهِ [المائدة: 36] ؛ وذلك لأنَّ (لو) وجوابَها يتَّصِلانِ بالماضي، فقال في هذه السُّورةِ لَافْتَدَوْا بِهِ، وجوابُه في المائدةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وهو بلفْظِ الماضي، وقولُه: لِيَفْتَدُوا بِهِ عِلَّةٌ وليس بجوابٍ؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ .

- قولُه: أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ فيه الإتيانُ باسمِ الإشارةِ في أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أَحْرِيَاءُ بِما بعدَ اسمِ الإشارةِ مِن الخبَرِ بسَبَبِ ما قبْلَ اسمِ الإشارةِ مِن الصِّلةِ

========================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (19-24)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ

غريب الكلمات:

 

الْأَلْبَابِ: العقولِ الزكيَّة، مفردُها لُبٌّ، وأصْل اللُّبِّ: الخُلُوصُ والجَوْدةُ، والشَّيء المُنتقَى

.

الْمِيثَاقَ: الميثاق: عقدٌ مؤكَّدٌ بيمينٍ وعهدٍ، أو العهدُ المُحكَمُ، وأصله: العقدُ والإحكامُ .

وَيَدْرَءُونَ: أي: يَدفَعونَ، وأصلُ (درأ): يدُلُّ على دفعِ الشَّيءِ .

عُقْبَى الدَّارِ: أي: تصيرُ الجنَّةُ آخِرَ أمْرِهم، والعُقبَى: العاقِبةُ، وهي الشَّيءُ الذي يقَعُ عَقِبَ شَيءٍ آخَرَ، وقد اشتُهِرَ استِعمالُها في آخِرةِ الخيرِ، وأصلُ (عقب): يدُلُّ على تأخيرِ شَيءٍ، وإتيانِه بعدَ غَيرِه .

عَدْنٍ: أي: إِقَامَةٍ، واستقرارٍ، وثباتٍ، يُقَال: عدن بالمكانِ إِذا أقامَ به، واستقرَّ، وأصلُ (عدن): يدلُّ على الإقامةِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مُبَيِّنًا أنَّ المُهتدينَ والضَّالِّينَ لا يستوونَ، فيقولُ له: هل الذي يعلَمُ أنَّ ما جاءك- يا محمَّدُ- مِن عندِ اللهِ هو الحَقُّ فيؤمِنُ به، كالأعمى عن الحَقِّ الذي لم يؤمِنْ؟ إنَّما يتَّعِظُ وينتفعُ بما أنزلَه الله إليك مِن القرآنِ أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ، الذين يوفونَ بالعهدِ الذي بينَهم وبينَ الله تعالى مِن الأوامرِ والنَّواهي، والعهدِ الذي بينَهم وبينَ النَّاسِ، ويستمرُّون على الوفاءِ به، فلا يقعُ منه نقضٌ له، وهم الذين يَصِلونَ كلَّ ما أمَرَهم اللهُ بوَصلِه، مِن الإيمانِ باللهِ والأرحامِ وغير ذلك، ويخافونَ رَبَّهم أن يُحاسِبَهم على كلِّ ذُنوبِهم، ولا يغفِرُ لهم منها شيئًا، وهم الذين صَبَروا؛ طلبًا لرِضا ربِّهم، وأدَّوا الصَّلاةَ على أتمِّ وُجوهِها، وأدَّوا مِن أموالِهم زكاتَهم المفروضةَ، والنَّفَقاتِ الواجِبةَ، في الخَفاءِ والعَلَن، ويَدفعونَ بالعَمَلِ الصَّالحِ السَّيئَ من الأعمالِ، أولئك الموصوفونَ بهذه الصِّفاتِ لهم العاقِبةُ المحمودةُ في الآخرةِ.

تلك العاقِبةُ هي جنَّاتُ عَدنٍ يُقيمونَ فيها لا يزولونَ عنها، ومعهم الصَّالِحونَ مِن الآباءِ والزَّوجاتِ والذُّرِّيَّاتِ؛ من الذُّكورِ والإناث، وتدخُلُ الملائِكةُ عليهم مِن كلِّ بابٍ؛ لتهنِئتِهم بدُخولِ الجنَّةِ، تقولُ الملائِكةُ لهم: سَلِمْتُم مِن كُلِّ سُوءٍ؛ بسبَبِ صَبرِكم في الدُّنيا، فنِعْمَ عاقبةُ الدَّارِ الجنَّةُ!

تفسير الآيات:

 

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّه لَمَّا افترَقَ حالُ من أجاب ومَن أعرَضَ في الجزاءِ، وكان ما مضى مُستوفيًا طُرُقَ البَيانِ بإيضاحِ الأمرِ بالجُزئيَّاتِ والأمثلةِ مع التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، فكان جديرًا بترتيبِ الأثَرِ عليه- تسبَّبَ عنه الإنكارُ على مَن سَوَّى بين العالمِ العامِلِ وغَيرِه؛ التفاتًا إلى قَولِه تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [الرعد:16] ، وسَوَّى بين الحَقِّ والباطِلِ؛ التفاتًا إلى قَولِه تعالى: كَذِلَكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ[الرعد:17] فحَسُنَ قَولُه

:

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى.

أي: أهذا الذي يعلَمُ أنَّ القُرآنَ الذي أنزَلَه اللهُ عليك- يا محمَّدُ- حَقٌّ لا شَكَّ فيه، فيؤمِنُ به ويتَّبِعُه- كالذي هو أعمَى القَلبِ، لا يعلَمُ ما أنزَلَ اللهُ في كِتابِه، ولا يفهَمُه ولا يتَّبِعُه؟! أفهذا كهذا؟! لا يستويانِ .

كما قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: 58] .

إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ.

أي: إنَّما يتَّعِظُ بآياتِ اللهِ ويَعتَبِرُ بها أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ الصَّحيحةِ .

كما قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] .

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20).

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ .

أي: الَّذين يُوفُونَ بالعهدِ الذي بينَهم وبينَ الله تعالى مِن الأوامرِ والنَّواهي، والعهدِ الذي بينَهم وبينَ النَّاسِ، كالوفاءِ بالعقودِ في المعاملاتِ، وأداءِ الأماناتِ إلى غير ذلك .

وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ.

أي: ولا يقعُ منهم نقضٌ لهذا العهدِ المؤكَّد، فهم مستمرُّون على الوفاءِ به .

وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21).

وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ.

أي: ومِن صفاتِ أُولي الألبابِ أنَّهم يَصِلونَ كُلَّ ما أمَرَ اللهُ بوَصلِه؛ مِن الإيمانِ باللهِ وطاعتِه، وعبادتِه وَحدَه لا شريكَ له، وصلةِ الأرحامِ، وغيرِ ذلك .

وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ .

أي: ويخشونَ رَبَّهم، إن خالفوا أوامِرَه فقَطَعوا ما أمَرَهم بوَصلِه .

وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ.

أي: ويخافونَ مُناقشةَ اللهِ لهم عن جميعِ أعمالِهم وعدمِ مَغفرةِ ذُنوبِهم .

وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22).

وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ.

أي: والذين صبَروا على طاعةِ اللهِ وعن مَعاصيه، وعلى أقدارِه المؤلِمةِ، طَلبًا لرِضوانِه وثَوابِه .

وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ.

أي: وأدَّوُا الصَّلواتِ بأركانِها وشُروطِها، وواجِباتِها، في مَواقيتِها، خاشعينَ فيها .

وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً.

أي: وأخرجوا الزَّكَواتِ المفروضةَ، والنَّفَقاتِ الواجِبةَ مِن الأموالِ التي رزَقناهم، فأعطَوها لمُستحِقِّيها في الخفاءِ وفي العَلَنِ .

كما قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274].

وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ.

أي: ويدفعونَ بالعملِ الصالحِ السيِّئَ مِن الأعمالِ .

كما قال تعالى: إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34-35] .

أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.

أي: أولئك- المؤمِنونَ الذين ذكَرْنا أوصافَهم- لهم في الآخِرةِ الجنَّةُ .

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23).

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ.

أي: لهم جَنَّاتُ مُكثٍ وإقامةٍ دائِمةٍ، يدخُلونَها هم والصَّالِحونَ مِن آبائِهم وأمَّهاتِهم وأزواجِهم وأولادِهم .

كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21].

وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ.

أي: والملائِكةُ يَدخُلونَ على المؤمنينَ مِن كُلِّ بابٍ؛ للسَّلامِ عليهم، وتهنِئتِهم بدُخولِ الجنَّةِ .

سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24).

أي: تقولُ الملائكةُ لأهلِ الجنَّةِ: سَلَّمَكم اللهُ- أيُّها المؤمِنونَ- من العذابِ والأهوالِ والشُّرورِ في الآخرةِ ؛ بسبَبِ صَبرِكم في الدُّنيا، فنِعمَ عُقبى الدَّارِ الجنَّةُ .

عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((هل تدرونَ أوَّلَ مَن يدخُلُ الجنَّةَ مِن خَلقِ اللهِ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: أوَّلُ من يدخُلُ الجنَّةَ مِن خَلقِ اللهِ الفُقَراءُ المهاجِرونَ، الذين تُسَدُّ بهم الثُّغورُ، ويُتَّقى بهم المَكارِهُ، ويموتُ أحَدُهم وحاجتُه في صَدرِه لا يستطيعُ لها قَضاءً، فيقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ لِمَن يشاءُ مِن ملائكتِه: ائتُوهم فحَيُّوهم، فتقولُ الملائكةُ: نحن سُكَّانُ سمائِك، وخِيرتُك مِن خَلقِك، أفتأمُرُنا أن نأتيَ هؤلاءِ فنُسَلِّمَ عليهم؟! قال: إنَّهم كانوا عبادًا يعبُدوني لا يُشرِكونَ بي شيئًا، وتُسَدُّ بهم الثُّغورُ، ويُتَّقى بهم المكارِهُ، يموتُ أحَدُهم وحاجتُه في صَدرِه، لا يستطيعُ لها قضاءً ، قال: فتأتيهم الملائكةُ عند ذلك، فيدخُلونَ عليهم مِن كُلِّ بابٍ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ))

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى حقيقٌ بالعبدِ أن يتذكَّرَ ويتفَكَّرَ أيُّ الفريقينِ أحسَنُ حالًا وخيرٌ مآلًا، فيُؤثِرُ طريقَه، ويَسلُكُ خَلفَه، ولكِنْ ما كلُّ أحدٍ يتذكَّرُ ما ينفَعُه ويضُرُّه

.

2- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فيَصِلونَ ما بينهم وبينَ رَبِّهم بعبوديَّتِه وَحدَه لا شَريكَ له، والقيامِ بطاعتِه، والإنابةِ إليه والتوكُّلِ عليه، وحُبِّه وخَوفِه ورَجائِه، والتَّوبةِ إليه، والاستكانةِ له، والخُضوعِ والذِّلَّةِ له، والاعترافِ له بنِعمَتِه وشُكرِه عليها، والإقرارِ بالخَطيئةِ والاستغفارِ منها؛ فأمَرَ الله بهذه الأسبابِ التي بينه وبينَ عَبدِه أن تُوصَلَ، وأمَرَ أن نَصِلَ ما بيننا وبينَ رَسولِه بالإيمانِ به وتَصديقِه، وتَحكيمِه في كُلِّ شَيءٍ، والرِّضا لحُكمِه والتَّسليمِ له، وتقديمِ محبَّتِه على محبَّةِ النَّفسِ والولَدِ والوالِدِ والنَّاسِ أجمعينَ- صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه- وأمَرَ أن نَصِلَ ما بيننا وبين الوالِدَينِ والأقرَبينَ بالبِرِّ والصِّلةِ، وما بيننا وبينَ الزَّوجاتِ بالقيامِ بحُقوقِهنَّ، ومُعاشَرتِهنَّ بالمعروفِ، وأن نَصِلَ ما بيننا وبين الجارِ القَريبِ والبعيدِ بمُراعاةِ حَقِّه، وحِفظِه في نَفسِه ومالِه وأهلِه بما نحفَظُ به نفوسَنا وأهلينا وأموالَنا، وأن نَصِلَ ما بيننا وبين الرَّفيقِ في السَّفَرِ والحَضَرِ، وأن نَصِلَ ما بيننا وبين عُمومِ النَّاسِ بأن نأتيَ إليهم بما نحِبُّ أن يأتوه إلينا؛ فهذا كلُّه مما أمَرَ اللهُ به أن يُوصَلَ .

3- السببُ الذي يجعَلُ العبدَ واصِلًا ما أمَرَ اللهُ به أن يُوصَلَ: خَشيةُ اللهِ وخَوفُ يومِ الحسابِ؛ ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، أي: يخافونَه فيمنَعُهم خوفُهم منه، ومن القدومِ عليه يومَ الحسابِ، أن يتجَرَّؤوا على معاصي اللهِ، أو يُقَصِّروا في شيءٍ ممَّا أمرَ اللهُ به؛ خوفًا مِن العقابِ ورجاءً للثَّوابِ ، ولا يمكِنُ لأحدٍ قَطُّ أن يَصِلَ ما أمَرَ اللهُ بوَصلِه إلَّا بخَشيتِه، ومتى ترَّحَلَت الخشيةُ مِن القَلبِ، انقطَعَت هذه الوُصَلُ .

4- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ، فلم يكتَفِ منهم بمجَرَّدِ الصَّبرِ، حتى يكونَ خالصًا لوجهِه سبحانَه .

5- قال تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ثمَّ ذكَرَ لهم ما يُعينُهم على الصَّبرِ، وهي الصَّلاةُ، فقال: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وهذان هما العَونانِ على مصالحِ الدُّنيا والآخرةِ، وهما الصَّبرُ والصَّلاةُ؛ قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 153] .

6-  قال الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ في التَّقييدِ بالصَّلاحِ قَطعٌ للأطماعِ الفارغةِ لِمَن يتمَسَّكُ بمُجَرَّدِ حَبلِ الأنسابِ .

7- قولُ الله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فيه إشارةٌ إلى أنَّ الصَّبرَ عِمادُ الدِّينِ كُلِّه .

8- في قَولِه تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ دَلالةٌ على أنَّ الفوزَ بالمطلوبِ المحبوبِ، والنَّجاةَ مِن المكروهِ المرهوبِ، ودخولَ الجَنَّةِ؛ إنَّما نالوه بالصَّبرِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلى قَولِه: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ جمَع مقاماتِ الإسلامِ والإيمانِ كلَّها؛ حيث اشتَمَل على فِعلِ المأمورِ، وتركِ المحظورِ، والصَّبرِ على المَقدورِ

.

2- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ فيه إثباتُ الوجهِ لله عزَّ وجلَّ .

3- قَولُ الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فيه دليلٌ على أنَّ الدَّرَجةَ تعلو بالشَّفاعةِ، وأنَّ الموصوفينَ بتلك الصِّفاتِ يقتَرِنُ بعضُهم ببعضٍ- لِما بينهم مِن القَرابةِ والوُصلةِ- في دُخولِ الجنَّةِ؛ زيادةً في أُنسِهم .

4- الإكثارُ مِن تَردادِ رسلِ الملكِ أعظمُ في الفخرِ، وأكثرُ في السرورِ والعزِّ، قال الله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، ولمَّا كان إتيانُهم مِن الأماكنِ المعتادةِ- مع القدرةِ على غيرِها- أدلَّ على الأدبِ والكرمِ؛ قال تعالى: مِنْ كُلِّ بَابٍ .

5- يجزئُ السَّلامُ مع حذفِ اللَّامِ، فلو قال القائلُ: «سلامٌ عليكم» أجزأَ؛ قال تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لكن باللامِ أولَى؛ لأنَّها للتفخيمِ والتكثيرِ .

6- في قَولِه تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ إشارةٌ إلى أنَّ مِن الملائكةِ ملائِكةً مُوَكَّلينَ بتحيَّةِ أهلِ الجنَّةِ .

7- قولُ الله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ لَمَّا كان الصبرُ هو الذي نشأ عنه تلك الطَّاعاتُ السَّابقةُ؛ ذكَرَت الملائكةُ أنَّ النَّعيمَ السَّرمديَّ إنَّما هو حاصِلٌ بسبَبِ الصَّبرِ، ولم يأتِ التَّركيبُ بالإيفاءِ بالعَهدِ، ولا بغيرِ ذلك .

8- لَمَّا كانت الجنَّةُ دارَ السَّلامةِ مِن كُلِّ عَيبٍ وشَرٍّ وآفةٍ، بل قد سَلِمَت مِن كُلِّ ما ينغِّصُ العَيشَ والحياةَ- كانت تحيَّةُ أهلِها فيها سَلامًا، والرَّبُّ يُحيِّيهم فيها بالسَّلامِ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 23- 24] .

9- السَّلامُ شُرِعَ على الأحياءِ والأمواتِ بتقديمِ اسمِه على المُسلَّمِ عليهم؛ لأنَّه دُعاءٌ بخيرٍ، والأحسَنُ في دُعاءِ الخيرِ أن يتقَدَّمَ المدعوُّ به على المدعوِّ له، قال تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، ومِن ذلك قولُه تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: 73] ، وقولُه: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109] ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ [الصافات: 79] ، سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130] ، وأمُّا الدُّعاءُ بالشَّرِّ فيُقدَّمُ فيه المدعوُّ عليه على المدعُوِّ به غالبًا، كقولِه تعالى لإبليسَ: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي [ص: 78] ، وقولِه: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ [الحجر: 35] ، وقولِه: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: 98] ، وقولِه: وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ [الشورى: 16] ، وسِرُّ ذلك- والله أعلَمُ- أنَّ في الدُّعاءِ بالخيرِ قَدَّموا اسمَ الدُّعاءِ المحبوبِ الذي تشتهيه النُّفوسُ وتَطلُبُه، ويَلَذُّ للسَّمعِ لَفظُه، فيَبدأُ السَّمعُ بذِكرِ الاسمِ المحبوبِ المَطلوبِ، ويبدأُ القَلبُ بتصَوُّرِه، فيُفتَحُ له القَلبُ والسَّمعُ، فيبقى السَّامِعُ كالمُنتَظِر لِمَن يحصُلُ هذا، وعلى من يحُلُّ، فيأتي باسمِه فيقولُ: عليك أو لك، فيحصُلُ له من السُّرورِ والفَرَحِ ما يبعَثُ على التَّحابِّ والتَّوادِّ والتَّراحُمِ، الذي هو المقصودُ بالسَّلامِ، وأمَّا في الدُّعاءِ عليه ففي تقديمِ المدعوِّ عليه إيذانٌ باختصاصِه بذلك الدُّعاءِ، وأنَّه عليه وَحدَه، كأنَّه قيل له: هذا عليك وَحدَك لا يَشرَكُك فيه السَّامِعونَ، بخلافِ الدُّعاءِ بالخيرِ؛ فإنَّ المطلوبَ عُمومُه، وكلَّما عَمَّ به الدَّاعي كان أفضَلَ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ

- قولُه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ تفريعٌ على جُملةِ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى... الآيةَ؛ فالكلامُ لنَفْيِ استواءِ المؤمنِ والكافرِ في صورةِ الاستفهامِ؛ تنبيهًا على غَفلةِ الضَّالينَ

.

- إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ فيه قصْرٌ بـ (إنَّما)، وهو قصْرٌ إضافيٌّ، أي: لا غيرُ أُولي الألبابِ؛ فهو تعريضٌ بالمُشركين بأنَّهم لا عقولَ لهم؛ إذ انتَفَت عنهم فائدةُ عُقولِهم .

- قولُه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ فيه دُخولُ همزةِ الإنكارِ على الفاءِ أَفَمَنْ؛ لإنكارِ أنْ تقَعَ شُبهَةٌ في تشابُهِهما بعدما ضُرِبَ مِن المَثَلِ، في أنَّ حالَ مَن عَلِمَ أنَّما أُنْزِلَ إليك مِن ربِّك الحقُّ فاستجابَ، بمعزِلٍ مِن حالِ الجاهلِ الَّذي لم يستبْصِرْ فيستجيبَ، كبُعْدِ ما بين الزَّبَدِ والماءِ، والخَبَثِ والإبريزِ ؛ فإيرادُ الفاءِ بعد الهمزةِ لتَوجيهِ الإنكارِ إلى ترتُّبِ توهُّمِ المُماثلَةِ على ظُهورِ حالِ كلٍّ منهما بما ضُرِبَ مِن الأمثالِ وبين المصيرِ والمآلِ، كأنَّه قيل: أبعدما بُيِّنَ حالُ كلٍّ مِن الفريقينِ ومآلُهما يُتَوَهَّمُ المُماثلَةُ بينهما ؟!

- قولُه: كَمَنْ هُوَ أَعْمَى، أي: كمَن لا يعلَمُ ذلك، إلَّا أنَّه أُريدَ زيادةُ تقْبيحِ حالِه فعُبِّرَ عنه بالأعْمى ، وقيل: شَبَّه الكافِرَ والجاهِلَ بالأعمَى؛ لأنَّ الأعمَى لا يهتدي لرُشدٍ .

2- قوله تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ

- قولُه: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ فيه إعادةُ اسمِ الموصولِ وما عُطِفَ عليه مِن الأسماءِ الموصولةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ صِلاتِها خِصالٌ عظيمةٌ تقْتَضي الاهتمامَ بذِكْرِ مَن اتَّصَفَ بها، ولدفْعِ تَوَهُّمِ أنَّ عُقْبى الدَّارِ لا تتحقَّقُ لهم إلَّا إذا جمَعوا كلَّ هذه الصِّفاتِ .

- وجُملةُ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ جُملةٌ توكيديَّةٌ لقولِه: يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ؛ لأنَّ العهدَ هو الميثاقُ، ويلزَمُ مِن إيفاءِ العهدِ انتفاءُ نَقيضِه . وقيل: قولُه: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ تعميمٌ بعد تخصيصٍ، وفيه تأْكيدٌ للاستمرارِ المفهومِ مِن صِيغَةِ المُستقبَلِ ؛ فالميثاقُ يستغرِقُ جميعَ المَواثيقِ، وبذلك يكونُ أعمَّ مِن (عهدِ اللَّهِ)، فيشمَلُ المواثيقَ الحاصِلةَ بين النَّاسِ مِن عُهودٍ وأَيْمانٍ، وباعتبارِ هذا العُمومِ حصَلَت مُغايرةٌ ما بينه وبين عَهْدِ اللَّهِ، وتلك هي مُسَوِّغَةُ عطْفِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ على يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مع حُصولِ التَّأْكيدِ لمعنى الأُولى بنَفْيِ ضِدِّها، وتعريضًا بالمُشركين؛ لاتِّصافِهم بضِدِّ ذلك الكَمالِ؛ فعطْفُ التَّأكيدِ باعتبارِ المُغايرةِ بالعُمومِ والخُصوصِ .

3- قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ

- قولُه: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ... فيه إطنابٌ في التَّعبيرِ عنِ الرَّحِمِ- على أحدِ القولينِ في التفسيرِ- بطريقةِ اسمِ الموصولِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ؛ لِما في الصِّلةِ مِن التَّعريضِ بأنَّ واصِلَها آتٍ بما يُرْضي اللَّهَ؛ لينتَقِلَ مِن ذلك إلى التَّعريضِ بالمُشركين الَّذين قطَعوا أواصِرَ القَرابةِ بينهم وبين رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن معه مِن المؤمنين، وأساؤوا إليهم في كلِّ حالٍ، وكتَبوا صحيفةَ القَطيعَةِ مع بَني هاشمٍ .

- قولُه: أَنْ يُوصَلَ جيءَ بهذا النَّظْمِ؛ لزيادةِ تقْريرِ المقصودِ- وهو الأرحامُ- بعد تقريرِه بالموصوليَّةِ ، وذلك على أحدِ وجهي التفسيرِ. وقيل: قال: بِهِ أَنْ يُوصَلَ دونَ (بوَصلِه)؛ ليكونَ مأمورًا بوَصلِه مرَّتينِ، ويُفيدَ تجديدَ الوَصلِ- كُلَّما قطَعَه قاطِعٌ- على الاستمرارِ .

4- قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ

- قولُه: وَالَّذِينَ صَبَرُوا لمَّا كان الصَّبرُ على الوجْهِ المذْكورِ مِلاكَ الأمرِ في كلِّ ما ذُكِرَ مِن الصِّلاتِ السَّابقةِ واللَّاحِقةِ: أُورِدَ على صِيغَةِ الماضي؛ اعتناءً بشأْنِه، ودلالةً على وُجوبِ تحقُّقِه؛ فإنَّ ذلك ممَّا لا بُدَّ منه؛ إمَّا في نفْسِ الصِّلاتِ، كما فيما عَدَا الأُولى والرَّابعةِ والخامسةِ، أو في إظهارِ أحكامِها، كما في الصِّلاتِ الثَّلاثِ المَذْكوراتِ؛ فإنَّها وإنِ استغْنَت عنِ الصَّبرِ في أنفُسِها حيث لا مَشَقَّةَ على النَّفْسِ في الاعترافِ بالرُّبوبيَّةِ والخشيَةِ والخوفِ، لكنْ إظهارُ أحكامِها والجرْيُ على مُوجبِها غيرُ خالٍ عنِ الاحتياجِ إليه ، ففيه مجيءُ الصِّلَةِ هنا بلفْظِ الماضي، وفي المُوصِلين قبْلَ ذلك بلفْظِ المُضارِعِ في قولِه: الَّذِينَ يُوفُونَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ، وما عُطِفَ عليهما؛ على سبيلِ التَّفنُّنِ في الفَصاحةِ؛ لأنَّ المُبتدأَ هنا في معنى اسمِ الشَّرطِ بالماضي كالمُضارِعِ في اسمِ الشَّرطِ، فكذلك فيما أشبَهَه، وأيضًا اختصاصُ هذه الصِّلةِ بالماضي وتَيْنِكَ بالمُضارِعِ؛ لأنَّ تَيْنِكَ الصِّلَتَيْنِ قُصِدَ بهما الاستصحابُ والالتباسُ دائمًا، وهذه الصِّلَةُ قُصِدَ بها تقدُّمُها على تَيْنِكَ الصِّلَتَيْنِ وما عُطِفَ عليهما؛ لأنَّ حُصولَ تلك الصِّلاتِ إنَّما هي مُترتِّبَةٌ على حُصولِ الصَّبرِ وتقدُّمِه عليها؛ ولذلك لم تأتِ صلتُه في القُرآنِ إلَّا بصِيغَةِ الماضي؛ إذ هو شَرطٌ في حُصولِ التَّكاليفِ وإيقاعِها. واللَّهُ أعلمُ . وقيل: جاءتِ الصِّلاتُ الَّذِينَ يُوفُونَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ وما عُطِفَ عليهما بصيغةِ المُضارِعِ في تلك الأفعالِ الخمسةِ؛ لإفادةِ التَّجدُّدِ كِنايةً عنِ الاستمرارِ، وجاءت صِلَةُ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وما عُطِفَ عليها- وهو وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا- بصيغةِ المُضِيِّ؛ لإفادةِ تحقُّقِ هذه الأفعالِ الثَّلاثةِ لهم وتمكُّنِها من أنفُسِهم؛ تنويهًا بها؛ لأنَّها أُصولٌ لفضائلِ الأعمالِ .

- قولُه: صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ فيه احتِراسٌ، حيث انْتَفَى بقولِه: ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أنْ يكونَ صبْرُهم ناشِئًا عن حُبِّ الجاهِ والشُّهرةِ، أو ليقالَ: ما أصبَرَه، وأحمَلَه للنَّوازِلِ، وأوْقَرَه عند الزَّلازلِ! لئلا يشمَتَ به الأعداءُ !

- في قولِه: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً أفرَدَ الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالذِّكرِ، وإن كانتا داخِلَتينِ في الجُملةِ الأولى؛ تنبيهًا على كونِهما أشرَفَ مِن سائِرِ العباداتِ . وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّه نبَّهَ على هاتينِ الخَصْلَتَيْنِ: العِبادةِ البَدَنيَّةِ، والعِبادةِ الماليَّةِ؛ إذ هما عَمودُ الدِّينِ، والصَّبرُ عليهما أعظَمُ صبْرٍ؛ لِتكرُّرِ الصَّلواتِ، ولِتعلُّقِ النُّفوسِ بحُبِّ تحصيلِ المالِ .

- قولُه: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فيه تقْديمُ المجرورِ بِالْحَسَنَةِ على المنْصوبِ السَّيِّئَةَ؛ لإظهارِ كَمالِ العِنايةِ بالحَسَنةِ .

- وفيه إعادةُ أُسلوبِ التَّعبيرِ بالمُضارِعِ في المعطوفِ على الصِّلَةِ وهو قولُه: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِالسَّيِّئَةَ؛ لاقتضاءِ المَقامِ إفادةَ التَّجدُّدِ؛ إيماءً إلى أنَّ تجدُّدَ هذا الدَّرْءِ ممَّا يُحْرَصُ عليه؛ لأنَّ النَّاسَ عُرْضَةٌ للسَّيِّئاتِ على تفاوُتٍ، فوصَفَ لهم دواءَ ذلك بأنْ يدْرَؤوا السَّيِّئاتِ بالحَسَناتِ .

- قولُه: أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ دلَّ اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ على أنَّ المُشارَ إليهم جَديرونَ بالحُكْمِ الوارِدِ بعد اسمِ الإشارةِ؛ لأجْلِ ما وُصِفَ به المُشارُ إليهم مِن الأوصافِ .

- وفي قولِه: لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ قُدِّمَ المجرورُ على المُبتدأِ؛ للدَّلالةِ على القصْرِ، أي: لهم عُقْبى الدَّارِ لا للمُتَّصِفينَ بأَضْدادِ صِفاتِهم، فهو قصْرٌ إضافيٌّ .

5- قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ

- قولُه: يَدْخُلُونَهَا جُملةٌ حاليَّةٌ؛ وهي حالٌ مِن جَنَّاتُ، أو مِن ضميرِ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، والمقصودُ مِن ذِكْرِها استحضارُ الحالةِ البَهيجَةِ .

- قولُه: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ وذِكْرُ مِنْ كُلِّ بَابٍ كِنايةٌ عن كثْرَةِ غِشْيانِ الملائكةِ إيَّاهم، بحيث لا يخْلو بابٌ مِن أبوابِ بيوتِهم لا تدخُلُ منه ملائكةٌ .

6- قوله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ

- قولُه: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فيها بِشارةٌ بِدَوامِ السَّلامةِ ؛ حيث عُبِّرَ بالجُملةِ الاسميَّةِ.

- قولُه: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ تفريعُ ثناءٍ على حُسنِ عاقِبتِهم، والمخصوصُ بالمدْحِ محذوفٌ؛ لدلالةِ مَقامِ الخِطابِ عليه، والتَّقديرُ: فنِعْمَ عُقْبى الدَّارِ دارُ عُقْباكم

==================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (25-27)

ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ

غريب الكلمات:

 

يَبْسُطُ: أي: يُوسِّعُ، وأصلُ (بسط): يدُلُّ على امتِدادِ الشَّيءِ

.

وَيَقْدِرُ: أي: يُضَيِّقُ، يقال: قَدَرْتُ عليه الشيءَ: إذا ضيَّقتَه، كأنَّما جعلتَه بقَدْرٍ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ ونِهايتِه .

مَتَاعٌ: أي: متعةٌ، وانتفاعٌ، وأصل (متَع): المنفعةُ وامتدادُ مدَّةٍ في خيرٍ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

بعد أنْ ذكَرَ اللهُ تعالى صِفاتِ أولئك الأوفياءِ، وما أعدَّ لهم مِن ثوابٍ جَزيلٍ؛ أتبَعَ ذلك بوَصفِ الأشقياءِ، وبيَّنَ أنَّهم الذين لا يُوفونَ بعَهدِ اللهِ مِن بعدِ ما أكَّدوا التزامَهم به، وقَبولَهم له، وهم الذين يَقطَعونَ ما أمَرَهم اللهُ بوَصلِه، ويُفسِدونَ في الأرضِ، أولئك الموصوفونَ بهذه الصِّفاتِ السيئةِ لهم اللعنةُ، ولهم ما يَسوءُهم في الدَّارِ الآخرةِ مِن العذابِ.

اللهُ يُوسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يشاءُ مِن عِبادِه، ويُضيِّقُه على مَن يشاءُ منهم، وفَرِحَ الكُفَّارُ بنعيمِ الحياةِ الدُّنيا فَرَحَ بَطَرٍ وطُغيانٍ، وما نعيمُ هذه الحياةِ الدُّنيا بالنِّسبةِ للآخرةِ إلَّا شَيءٌ قليلٌ يُتمتَّعُ به، سُرعانَ ما يزولُ. ويقولُ الكُفَّارُ: هلَّا أُنزِلَ على محمَّدٍ مُعجِزةٌ مِن رَبِّه؛ لنؤمِنَ برِسالتِه. قلْ لهم: إنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يشاءُ مِن عبادِه، ويَهدي إليه مَن رجَعَ وتاب، وليس ضلالُ مَن يضِلُّ لعدمِ نزولِ آيةٍ، ولا هدايةُ مَن يهتدي بسببِ إنزالها.

تفسير الآيات:

 

وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى صِفاتِ السُّعَداءِ، وذكَرَ ما ترتَّبَ عليها مِن الأحوالِ الشَّريفةِ العاليةِ؛ أتبَعَها بذِكرِ حالِ الأشقياءِ، وذِكرِ ما يترتَّبُ عليها من الأحوالِ المُخْزيةِ المكروهةِ، وأتبعَ الوَعدَ بالوعيدِ، والثَّوابَ بالعقابِ؛ ليكونَ البيانُ كامِلًا

.

وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ.

أي: والذين لا يُوفونَ بعهدِ الله، مِن بعدِ تأكيدِه عليهم، وتغليظِه، وتوثيقِه، إنما يقابلونَه بالإعراضِ والنقضِ .

وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ.

أي: ويَقطعونَ ما أمَرَ اللهُ بوَصلِه؛ من الإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ، والأرحامِ .

وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ.

أي: ويُفسِدونَ في الأرضِ بالكُفرِ والمعاصي والصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ .

أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.

أي: أولئك لهم الطَّردُ والإبعادُ مِن رَحمةِ اللهِ، ولهم ما يَسوءُهم في جهنَّمَ .

اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا حكَمَ اللهُ تعالى على من نقَضَ عَهدَه في قَبولِ التَّوحيدِ والنبُوَّةِ بأنَّهم ملعونونَ في الدُّنيا، ومُعَذَّبونَ في الآخرةِ، فكأنَّه قيل: لو كانوا أعداءَ اللهِ، لَمَا فتَحَ اللهُ عليهم أبوابَ النِّعَمِ واللَّذَّاتِ في الدُّنيا! فأجاب اللهُ تعالى عنه بهذه الآيةِ، وهو أنَّه يبسطُ الرزقَ على البعضِ، ويضيِّقُه على البعضِ، ولا تعلُّقَ له بالكفرِ والإيمانِ، فقد يوجدُ الكافرُ موسَّعًا عليه دونَ المؤمنِ، ويوجدُ المؤمنُ مضيَّقًا عليه دونَ الكافرِ، فالدُّنيا دارُ امتحانٍ ، فقال:

اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ.

أي: اللهُ وَحدَه هو الذي يُوَسِّعُ الرِّزقَ لِمَن يشاءُ، ويُضَيِّقُ الرِّزقَ على من يَشاءُ، بحسَبِ ما تَقتضيه حِكمتُه .

كما قال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [العنكبوت: 62] .

وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

أي: وفَرِحَ الكُفَّارُ- الذين وسَّعَ اللهُ أرزاقَهم- بنعيمِ الحياةِ الدُّنيا فَرَحَ بَطَرٍ وطُغيانٍ، وغَفَلوا عن الآخرةِ .

كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7- 8] .

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ.

أي: وما نعيمُ الحياةِ الدُّنيا في جَنبِ نَعيمِ الآخرةِ إلَّا شَيءٌ حَقيرٌ، وتمتعٌ ضئيلٌ لا قيمةَ له، سرعانَ ما ينقضي ويزولُ .

كما قال تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 77] .

وقال سُبحانه: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38] .

وعن المُستَورِد رضيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((واللهِ ما الدُّنيا في الآخرةِ إلَّا مِثلُ ما يجعَلُ أحَدُكم إصبَعَه هذه في اليَمِّ ، فلْينظُرْ بم ترجِعُ؟ )) .

وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضيَ اللهُ عنهما، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الدُّنيا مَتاعٌ، وخَيرُ مَتاعِ الدُّنيا المرأةُ الصَّالحةُ) ) .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى طَعْنَهم فى نبُوَّةِ مُحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِقَولِه بالحَشرِ والمعادِ، ثمَّ طعْنَهم فيه؛ لأنَّه أنذَرَهم بحلولِ عَذابِ الاستِئصالِ؛ ذكَرَ أنَّهم طَعَنوا فيه؛ لأنَّه لم يأتِ لهم بمُعجزةٍ مُبَيِّنةٍ، كما فعل الرُّسُلُ مِن قَبلِه، فقال تعالى :

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ.

أي: ويقولُ الكُفَّارُ من قَومِك- يا محمَّدُ-: هلَّا أُنزِلَ على مُحمَّدٍ مُعجِزةٌ مِن رَبِّه؛ حتى نؤمِنَ بأنَّه رَسولُ اللهِ .

كما قال تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 90 - 93] .

قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ.

أي: قُلْ- يا محمَّدُ- لِقَومِك الذين يقتَرِحونَ عليك إنزالَ آيةٍ: إنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يشاءُ مِن عِبادِه فيَخذُلُه عن الإيمانِ بي، ويهدي إليه من رجَعَ وتاب فيُوَفِّقُه لاتِّباعي، وليس ضلالُ مَن يضِلُّ منكم لأنَّه لم تنزلْ عليَّ آيةٌ مِن ربِّي وفقَ ما تقترحونَ، ولا هدايةُ مَن يهتدي منكم بسببِ إنزالها عليَّ، وإنما ذلك بيدِ اللهِ وحدَه

 

.

كما قال تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى: 13] .

الفوائد التربوية:

 

1- في قَولِه تعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ التَّحذيرُ مِن قطيعةِ الرَّحِمِ؛ فإنَّها سببٌ لِلَعنةِ اللهِ وعقابِه

.

2- قول الله تعالى: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ فيه دليلٌ على أنَّ الفرحَ بالدُّنيا حرامٌ منهيٌّ عنه ، وهو مَذمومٌ مُطلقًا؛ لأنَّه نَتيجةُ حُبِّها، والرِّضا بها، والذُّهولِ عن ذَهابِها ، أمَّا الفَرَحُ بها لِكَونِها وَسيلةً إلى أمرٍ مِن أمورِ الآخرةِ فغَيرُ مذمومٍ ، فالمذمومُ هو الفَرَحُ بالدُّنيا المحضةِ، والأَشَرُ والبَطَرُ، وهذا هو الذي ذَمَّ اللَّهُ به الإنسانَ بقَولِه تعالى: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ

 

[هود: 10] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- في قَولِه تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ دَلالةٌ على أنَّ الآياتِ التي يَقتَرِحُها الكُفَّارُ ليُؤمِنوا؛ لا تُوجِبُ هِدايةً، وإنَّما اللهُ هو الذي يهدي ويُضِلُّ

.

2- قولُ الله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ، وفيه سؤالٌ: كيفَ طابَق هذا الجوابُ قولَهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ؟

الجوابُ: أنَّ المعنى: قلْ لهم: إنَّ الله أنزَل عليَّ آياتٍ ظاهرةً، ومعجزاتٍ قاهرةً، لكنِ الإضلالُ والهدايةُ مِن الله، فأضلَّكم عن تلك الآياتِ، وهدَى إليها آخرينَ، فلا فائدةَ في تكثيرِ الآياتِ والمعجزاتِ.

وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّه كلامٌ جرَى مجرَى التعجبِ مِن قولِهم؛ لأنَّ الآياتِ الباهرةَ المتكاثرةَ، التي ظهَرت على يدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كانت أكثرَ مِن أن تشتبِهَ على العاقلِ، فلمَّا طلبوا بعدَها آياتٍ أُخَرَ، كان محل التعجبِ والإنكارِ، فكأنَّه قيل لهم: ما أعظمَ عنادَكم!! إنَّ اللهَ يضلُّ مَن يشاءُ، كمَن كان على صنيعِكم، مِن التصميمِ على الكفرِ، فلا سبيلَ إلى هدايتِكم، وإن أُنزلتْ كلُّ آيةٍ! ويهدي مَن كان على خلافِ صنيعِكم

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ

- قولُه: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ زِيادةُ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ للزِّيادةِ في تَشنيعِ النَّقضِ، أي: مِن بعدِ توثيقِ العهدِ وتأْكيدِه

، ومِنْ مُتعلِّقَةٌ بقولِه: يَنْقُضُونَ، وهي لابتداءِ الغايةِ، ويدلُّ على أنَّ النَّقضَ حصَلَ عَقِيبَ توثُّقِ العهدِ مِن غيرِ فَصْلٍ بينهما، وفي ذلك دليلٌ على عدَمِ اكْتِراثِهم بالعَهدِ؛ فإثْرَ ما استوثَقَ اللهُ منهم نقَضُوه .

- قولُه: أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ فيه تكريرُ (لهم)؛ للتَّأْكيدِ، والإيذانِ باختلافِهما واستقلالِ كلٍّ منهما في الثُّبوتِ .

2- قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وقال في سُورةِ القَصَص: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص: 82] ، وفي سُورةِ العَنكَبوت قال: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [العنكبوت: 62] ، وفي سُورةِ سبَأٍ: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ: 39] ، وفي سُورةِ الرُّومِ قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الروم: 37]، وقال في الشُّورى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الشورى: 12] ؛ ووجهُ ذلك: أنَّه زادَ في العنكبوتِ مِنْ عِبَادِهِ ولَهُ؛ مُوافَقةً لِبسْطِ الكلامِ على الرِّزقِ المذكورِ فيها صريحًا، وزاد في القَصَصِ مِنْ عِبَادِهِ؛ مُوافَقةً لذلك، وإنْ كان لفْظُ (الرِّزقِ) فيه تضمُّنًا، وزَادَ لَهُ في ثاني مَوضعَيْ سبَأٍ وهو قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ: 39] ؛ لأنَّه نزَلَ في المُؤمنينَ، وما قبلَه في الكافرينَ .

- ومِن المناسبةِ كذلك في قولِه: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ اختِصاصُ ما هنا وما في سُورةِ القَصَصِ والعَنكبوتِ والرُّوم بلفْظِ (اللَّه)، وفي الِإسراءِ وفي سَبَأٍ- في موضعينِ- بلفْظِ (الرَّبِّ)، وفي الشُّورى بإضمارِ لفْظِ (اللَّه)؛ مُوافَقةً لِتقدُّمِ تكرُّرِ لفْظِ (الله) في السُّورِ الأربعِ، ولِتقدُّمِ تكرُّرِ لفْظِ (الرَّبِّ) في المواضِعِ الثَّلاثةِ، ولِتقدُّمِ تكرُّرِ الِإضمارِ في الشُّورى .

- قولُه: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ جُملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ استئنافًا بيانيًّا، جوابًا عمَّا يَهجِسُ في نُفوسِ السَّامعينَ مِن المُؤمنينَ والكافرينَ مِن سماعِ قولِه: أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ، وأفاد تَقديمُ المُسنَدِ إليه على الخبَرِ الفِعْليِّ في قولِه: اللَّهُ يَبْسُطُ تَقويةَ الحُكمِ وتأكيدَه؛ لأنَّ المقصودَ أنْ يعلَمَه النَّاسُ، ولفْتُ العُقولِ إليه، وليس المَقامُ مَقامَ إفادةِ الحصْرِ ؛ إذْ ليس ثمَّةَ مَن يزعُمُ الشَّركةَ للهِ في ذلك، أو مَن يزعُمُ أنَّ اللهَ لا يفعَلُ ذلك؛ فيُقْصَدُ الرَّدُّ عليه بطريقِ القصْرِ .

- قولُه: وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ جِيءَ في جانِبِ الكافرينَ بضَميرِ الغَيبةِ؛ إشارةً إلى أنَّهم أقلُّ مِن أنْ يفْهَموا هذه الدَّقائقَ؛ لِعُنْجُهِيَّةِ نُفوسِهم؛ فإنَّهم فَرِحوا بما لهم في الحياةِ الدُّنيا، وغَفَلوا عنِ الآخِرةِ؛ فالفرَحُ المذكورُ فرَحُ بطَرٍ وطُغيانٍ .

- وتنْكيرُ مَتَاعٌ؛ للتَّقليلِ .

3- قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذين كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ

- قولُه: وَيَقُولُ الَّذين كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ هذه الجُملةُ تكريرٌ لِنظيرتِها السَّابقةِ وَيَقُولُ الَّذين كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد: 7] ؛ فأُعِيدَت تلك الجُملةُ إعادةَ الخَطيبِ كلمةً مِن خُطبتِه؛ ليأتِيَ بما بقِيَ عليه في ذلك الغرَضِ بعد أنْ يَفْصِلَ بما اقْتَضى المَقامُ الفصْلَ به، ثمَّ يتفرَّغَ إلى ما ترَكَه مِن قبلُ؛ فإنَّه بعد أنْ بيَّنَتِ الآياتُ السَّابقةُ أنَّ اللهَ قادرٌ على أنْ يُعَجِّلَ لهمُ العذابَ، ولكنَّ حِكمتَه اقتَضَت إنظارَهم؛ ليتحَدَّى عبيدَه؛ فتبيَّنَ ذلك كلُّه كَمالَ التَّبيينِ .

- قولُه: وَيَقُولُ الَّذين كَفَرُوا فيه إيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ- حيثُ لم يقُلْ: (ويقولون)- مع ظُهورِ إرادتِهم عَقِيبَ ذكْرِ فرَحِهم بالحياةِ الدُّنيا؛ لِذمِّهم، والتَّسجيلِ عليهم بالكُفرِ فيما حُكِيَ عنهم مِن قولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ .

- قولُه: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ فيه إيثارُ صِيغَةِ الماضي أَنَابَ؛ للإيماءِ إلى استدْعاءِ الهِدايةِ لسابقةِ الإنابةِ، كما أنَّ إيثارَ صِيغَةِ المُضارِعِ في الصِّلةِ الأُولى؛ للدَّلالةِ على استِمرارِ المشيئةِ حسَبَ استمرارِ مُكابرتِهم

=============================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (28-30)

ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ

غريب الكلمات:

 

طُوبَى لَهُمْ: أي: طيبُ العيشِ لهم، أو: الخيرُ وأقصَى الأُمنيةِ، أو: طوبى: شجرةٌ في الجنةِ، وقيل: بل هي إشارةٌ إلى كلِّ مستطابٍ في الجنةِ، وأصلُ (طيب): خلافُ الخبيثِ

.

مَآبٍ: أي: مرجعٍ، ومنقلَبٍ، وأصلُ (أوب): الرجوعُ .

مَتَابِ: أي: تَوبتي ومَرْجعي وأَوْبتي، وأصلُ (توب): يدلُّ على الرجوعِ

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يُبَيِّنُ اللهُ تعالى أنَّ الذين يستحِقُّونَ الهِدايةَ هم الذين آمنوا، وسَكَنَت قُلوبُهم إلى ذِكرِ اللهِ، ألا بِذِكرِ اللهِ تسكُنُ القُلوبُ، ويزولُ اضطرابُها. إنَّ هؤلاء المؤمنينَ الذين امتلأتْ قلوبُهم بالإيمانِ الصَّحيحِ، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ، لهم حالٌ طَيِّبةٌ، ومَرجِعٌ حسَنٌ إلى رِضوانِ اللهِ  وجنَّتِه، ومِثلَ ذلك الإرسالِ للأنبياءِ السَّابقينَ أرسَلْناك- أيُّها الرَّسولُ- بكتابٍ تبلِّغُه للنَّاسِ وتَقرَؤُه عليهم، كما أرسَلْنا رسُلًا إلى أمَمٍ مِن قَبلِك، وحالُ قَومِك الجُحودُ بوَحدانيَّةِ الرَّحمنِ، قلْ لهم- يا محمدُ: إن الذي كفَرْتُم به أنا مُؤمِنٌ به، وهو ربِّي وَحدَه، لا معبودَ بحَقٍّ سواه، عليه توكلتُ، وإليه مَرجِعي.

تفسير الآيات:

 

الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

ذكَرَ سُبحانَه وتعالى في هذه الآية الحَضَّ على ذِكرِ اللهِ، وأنَّه به تحصُلُ الطُّمأنينةُ؛ ترغيبًا في الإيمانِ، فبِذكرِه تعالى تطمئِنُّ القُلوبُ لا بالآياتِ المُقتَرَحةِ، بل ربَّما كُفِرَ بَعدَها فنزلَ العذابُ، كما سلَفَ في بعضِ الأمَمِ

.

وأيضًا لَمَّا قال اللهُ تعالى في الآيةِ التي سَبَقَت: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ يعني: أنَّ الآيةَ التي يَقتَرِحونَها لا تُوجِبُ هِدايةً، بل اللهُ هو الذي يهدي ويُضِلُّ- نَبَّهَهم هنا على أعظَمِ آيةٍ وأجَلِّها، وهي: طُمأنينةُ قُلوبِ المؤمِنينَ بذِكرِه الذي أنزَلَه؛ إذ يستحيلُ في العادةِ أن تطمئنَّ القلوبُ وتسكنَ إلى الكذبِ والافتراءِ والباطلِ ، فقال:

الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ.

أي: ويهدي الله الذين آمنوا وتسكُنُ قُلوبُهم، ويزولُ قَلقُها واضطِرابُها بذِكرِ اللهِ تعالى، ومِن ذِكرِه: القُرآنُ .

أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ.

أي: ألا بذِكرِ اللهِ تَسكُنُ قُلوبُ المؤمنينَ، ويزولُ عنها قلَقُها واضطِرابُها، وحَريٌّ بها ألَّا تَطمئِنَّ لشَيءٍ سِوى ذِكرِه سُبحانَه .

الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29).

أي: الذين آمَنوا بكُلِّ ما يجِبُ عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا- تصديقًا لهذا الإيمانِ- الأعمالَ الصَّالِحةَ- أولئك لهم حالٌ طَيِّبةٌ، وحُسنُ مَرجِعٍ؛ وذلك بما ينالونَ مِن رِضوانِ اللهِ وكَرامتِه في الدُّنيا والآخرةِ، فلهم كَمالُ الخيرِ والطُّمَأنينةِ، والفَرَحِ والسُّرورِ، ولهم النَّعيمُ الدَّائمُ، ومِن جملةِ ذلك شَجرةُ طُوبَى التي في الجنَّةِ .

كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّ رَجُلًا قال له: يا رسولَ اللهِ، طوبى لِمَن رآك، وآمَنَ بك، قال: طوبى لِمَن رآني وآمَنَ بي، ثمَّ طوبى، ثمَّ طوبى، ثمَّ طوبى لِمَن آمنَ بي ولم يَرَني، قال له رجُلٌ: وما طُوبى؟ قال: شجَرةٌ في الجنَّةِ مَسيرةَ مئةِ عامٍ، ثِيابُ أهلِ الجنَّةِ تخرُجُ مِن أكمامِها ) .

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ(30).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما حكَى الله عن الكافرينَ قولَهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؛ جاءَهم الجوابُ في هذه الآيةِ؛ لأنَّ الجوابَ السَّابِقَ بقَولِه: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ جوابٌ بالإعراضِ عن جَهالتِهم، والتعَجُّبِ مِن ضَلالِهم، وما هنا هو الجوابُ الرَّادُّ لِقَولِهم .

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ.

أي: كما أرسَلْنا الأنبياءَ مِن قَبلِك بوَحيِنا، وأعطَيناهم كُتُبَنا- يا محمَّدُ- أرسَلْناك بهذا القُرآنِ إلى قومٍ قد مَضَت مِن قَبلِهم جماعاتٌ أرسَلْنا لهم رسُلًا، فلستَ ببِدْعٍ مِن الرُّسُلِ حتى يَستَنكِرَ قومُك رسالتَك، ويَطلُبوا منك آياتٍ مُقترَحةً لإثباتِها، ولك بهم أُسوةٌ حَسَنةٌ حين كَذَّبَتْهم أقوامُهم واستهزَأتْ بهم في عدَمِ الإجابةِ إلى آياتِهم المُقتَرَحةِ، فصبروا على ذلك، وكما أوقَعْنا بأسَنا بأولئك، فلْيحذَرْ قَومُك مِن حُلولِ العذابِ بهم .

كما قال تعالى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 69-70] .

لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ.

أي: أرسَلْناك- يا مُحمَّدُ- إلى قَومِك لِتقرَأَ عليهم أعظَمَ الآياتِ والمُعجِزاتِ، وهو القُرآنُ الذي لستَ تقولُه مِن تِلقاءِ نَفسِك، بل هو وحيٌ أوحاه اللهُ إليك ليَهتَدوا به، ولم نُرسِلْك لإجابةِ ما يقتَرِحونَ مِن الآياتِ؛ ليَحصُلَ لهم الاهتداءُ للحَقِّ .

كما قال تعالى: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [النمل: 92] .

وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـنِ.

أي: والحالُ أنَّ قَومَك- يا محمَّدُ- يَجحَدونَ ويُكَذِّبونَ بوَحدانيَّةِ اللهِ، ويُنكِرونَ اسمَ اللهِ (الرَّحمن) فلم يُقابِلوا رَحمَتَه- التي أعظَمُها أنْ أرسَلْناك إليهم رَسولًا، وأنزَلْنا عليك القُرآنَ ليَهتَدوا به- بالقَبولِ والشُّكرِ والانقيادِ للحَقِّ، بل قابلوها بالإنكارِ والرَّدِّ، والاستمرارِ على الكُفرِ والشِّركِ .

كما قال تعالى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ [الأنبياء: 36] .

وقال سُبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان: 60] .

قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا تضَمَّنَ كُفرُهم بالرَّحمنِ كُفرَهم بالقُرآنِ ومَن أُنزِلَ عليه، وكان الكُفرُ بالمُنعِم في غايةِ القَباحةِ، كان كأنَّه قيل: فماذا أفعَلُ حينئذٍ أنا ومَنِ اتَّبَعني؟ فكان أنْ بدأَ جوابَهم عن الكفرِ بالموحِي؛ لأنَّه أهمُّ ، فقال:

قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ.

أي: إنْ كفَرَ هؤلاء الذين أرسلتُك إليهم- يا مُحمَّدُ- بالرَّحمنِ، فقل لهم: الذي كفَرْتُم به أنا مُؤمِنٌ به، ومُقِرٌّ ومُعتَرِفٌ له بالربوبيَّةِ والألوهيَّةِ؛ فهو ربِّي الذي أوجَدَني وربَّاني بنِعَمِه، لا أكفُرُ إحسانَه كما كفَرْتُموه أنتم، وهو اللهُ الذي لا معبودَ بحَقٍّ سِواه .

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ.

أي: على اللهِ وَحدَه اعتمَدْتُ في جميعِ أموري، وإليه وحدَه مرجِعي وأَوْبَتي، فلا أرجعُ في جميعِ شُؤوني- مِن عباداتٍ وحاجاتٍ- إلَّا إليه

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- قال الله تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ فالقُلوبُ حَقيقٌ بها وحَرِيٌّ ألَّا تطمَئِنَّ لشَيءٍ سِوى ذِكرِه؛ فإنَّه لا شيءَ ألَذُّ للقُلوبِ ولا أشهَى ولا أحلَى مِن محبَّةِ خالِقِها، والأُنسِ به ومَعرفتِه، وعلى قَدرِ مَعرفتِها باللهِ ومَحبَّتِها له، يكونُ ذِكرُها له

.

2- قال الله تعالى: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ومِن ذِكرِ اللهِ: القُرآنُ؛ فالقُلوبُ حين تعرِفُ معانيَ القُرآنِ وأحكامَه تطمَئِنُّ لها؛ فإنَّها تدُلُّ على الحَقِّ المُبِين المُؤَيَّدِ بالأدلَّةِ والبَراهين، وبذلك تطمئِنُّ القلوبُ، فإنَّها لا تطمئِنُّ القلوبُ إلَّا باليقينِ والعِلمِ، وذلك في كتابِ اللهِ مضمونٌ على أتَمِّ الوُجوهِ وأكمَلِها، وأمَّا ما سواه من الكتُبِ التي لا تَرجِعُ إليه، فلا تطمئِنُّ بها، بل لا تزالُ قَلِقةً مِن تعارُضِ الأدلَّةِ، وتضادِّ الأحكامِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، فيه سُؤالٌ: أليس أنَّه تعالى قال في سورةِ الأنفالِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2] ، والوَجَلُ ضِدُّ الاطمئنانِ، فكيف وصَفَهم هاهنا بالاطمِئنانِ؟

الجوابُ: أنَّ الطُّمَأنينةَ إنَّما تَعتري قُلوبَهم إذا سَمِعوا ذِكرَ اللهِ؛ لِمَا انشرَحَت له صدورُهم مِن مِعرفةِ الحَقِّ وتيقُّنِه، فقُلوبهُم مُطمَئِنَّةٌ غايةَ الطُّمَأنينةِ إلى مَعرفةِ الحَقِّ، عالِمونَ أنَّه حَقٌّ لا يُخالِجُهم شَكٌّ، ومع هذا يخافونَ مِنَ اللهِ ألَّا يتقَبَّلَ منهم أعمالَهم ونحوَ ذلك، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون: 60] ، ويَخافونَ الزَّيغَ والذَّهابَ عن الهُدى، كما قال تعالى: رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا

[آل عمران: 8] .

وأيضًا فالله تعالى إذا ذُكِرَ وَجِلَت القلوبُ، فحصَل لها اضطرابٌ ووجلٌ لما تخافُه مِن دونِه، وتخشاه مِن فواتِ نصيبِها منه، فالوجلُ إذا ذُكِر حاصلٌ بسببٍ مِن الإنسانِ، وإلَّا فنفسُ ذكرِ الله يُوجِبُ الطمأنينةَ؛ لأنَّه هو المعبودُ لذاتِه، والخيرُ كلُّه منه .

2- أخبَرَ الله تعالى أنَّ القُلوبَ تَطمَئِنُّ بالقرآنِ- أي: تَسكُنُ إليه مِن قَلَقِ الجَهلِ والرَّيبِ والشَّكِّ- كما يطمَئِنُّ القَلبُ إلى الصِّدقِ، ويَرتابُ بالكَذِب، فقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، وجعلَ هذا من أعظَمِ الآياتِ على صِدقِه، وأنَّه حَقٌّ مِن عِندِه، ولهذا ذكَرَه جَوابًا لِقَولِ الكُفَّارِ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فقال: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أي: بكِتابِه الذي أنزَلَه، وهو ذِكرُه وكلامُه، ولو كان في العَقلِ الصَّريحِ ما يُخالِفُه لم تطمَئِنَّ به قلوبُ العُقَلاءِ .

3- الأصلُ في إزالةِ قَسوةِ القُلوبِ بالذِّكرِ قَولُه تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ .

4- قَولُ الله تعالى: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فيه إيماءٌ إلى أنَّ القُرآنَ هو مُعجِزتُه؛ لأنَّه ذَكَرَه في مُقابلةِ إرسالِ الرُّسُلِ الأوَّلينَ، ومُقابلةِ قَولِه: وَيَقُولُ الَّذِيَن كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، وقد جاء ذلك صريحًا في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت: 51] ، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما من الأنبياءِ نَبيٌّ إلَّا أُوتيَ مِن الآياتِ ما مِثلُه آمَنَ عليه البشَرُ، وإنَّما كان الذي أُوتيتُ وحيًا أوحاه اللهُ إليَّ) ) .

5- قال الله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ اختيارُ اسمِ (الرَّحمن) مِن بينِ أسمائِه تعالى؛ لأنَّ كُفرَهم بهذا الاسمِ أشَدُّ؛ لأنَّهم أنكروا أن يكونَ اللهُ رَحمنَ؛ قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [الفرقان: 60] ، فأشارتِ الآيةُ إلى كُفرَينِ مِن كُفرِهم: جَحدِ الوَحدانيَّةِ، وجَحدِ اسمِ الرَّحمن، ولأنَّ لهذه الصِّفةِ مَزيدَ اختصاصٍ بتكذيبِهم الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وتأييدِه بالقرآنِ؛ لأنَّ القُرآنَ هُدًى ورحمةٌ للنَّاسِ، وقد أرادوا تعويضَه بالخوارِقِ التي لا تُكسِبُ هَديًا بذاتِها، ولكنَّها دالَّةٌ على صِدقِ مَن جاء بها .

6- في قَولِه تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ دَلالةٌ على أنَّ مَن أنكرَ اسمًا مِن أسماءِ اللهِ الثَّابتةِ في الكتابِ أو السُّنَّةِ؛ فهو كافِرٌ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ

- قولُه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ... استئنافٌ اعتِراضيٌّ؛ مُناسبَتُه المُضادَّةُ لحالِ الَّذين أضَلَّهم اللهُ، والبيانُ لحالِ الَّذين هَداهُم، مع التَّنبيهِ على أنَّ مِثالَ الَّذين ضلُّوا هو عدَمُ اطمئنانِ قُلوبِهم لذِكْرِ اللهِ، وهو القُرآنُ؛ لأنَّ قولَهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يتضمَّنُ أنَّهم لم يعُدُّوا القُرآنَ آيةً مِن اللهِ، ثمَّ التَّصريحُ بجِنْسِ عاقبةِ هؤلاءِ، والتَّعريضُ بضدِّ ذلك لأولئك؛ فذِكْرُها عَقِبَ الجُملةِ السَّابقةِ يُفِيدُ الغَرضَينِ، ويُشيرُ إلى السَّببينِ

.

- وفي قولِه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ العُدولُ إلى صِيغَةِ المُضارِعِ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ؛ لإفادةِ دوامِ الاطمئنانِ وتجدُّدِه حسَبَ تجدُّدِ الآياتِ وتعدُّدِها ، وهو فنٌّ رَفيعٌ مِن فُنونِ البَلاغةِ، حيثُ عدَلَ عن عطْفِ الماضي على الماضي؛ فلم يقُلْ: (واطمأنَّت قُلوبُهم)؛ لِسرٍّ دِقيقٍ مِن أسرارِ هذه اللُّغةِ الشَّريفةِ؛ ذلك أنَّ مِن خَصائصِ الفعلِ المُضارِعِ: أنَّه قد لا يُلاحَظُ فيه زمانٌ مُعيَّنٌ مِن حالٍ أو استقبالٍ، وهما الزَّمانانِ اللَّذانِ يَحتمِلُهما المُضارِعُ؛ فلا يدلُّ إلَّا على مُجرَّدِ الاستمرارِ، والمُرادُ بهذه الآيةِ: أنَّ المُؤمنينَ تطمَئِنُّ قُلوبُهم بصُورةٍ مُطَّرِدةٍ مهما تتالَتِ المِحَنُ، وتعاقَبَتِ الأَرْزاءُ؛ فكأنَّما أعَدُّوا لكلِّ مِحْنةٍ صبرًا، ولكلِّ رُزْءٍ اطْمئنانًا جديدًا؛ فهذا سِرُّ عطْفِ المُضارِعِ وَتَطْمَئِنُّ على الماضي آمَنُوا .

- قولُه: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ افْتُتِحَتِ الجُملةُ بحرْفِ التَّنبيهِ أَلَا؛ اهتمامًا بمضْمونِها، وإغراءً بوعْدِه، وهي بمنزلةِ التَّذييلِ لِمَا في تَعريفِ (القُلوب) مِن التَّعميمِ، وفيه إثارةُ الباقينَ على الكُفرِ على أنْ يتَّسِموا بسِمةِ المُؤمنينَ مِن التَّدبرِ في القُرآنِ؛ لِتطمئنَّ قُلوبُهم .

- وتقديمُ المفعولِ يدلُّ على أنَّها لا تطمئِنُّ إلَّا بذكرِه .

2- قوله تعالى: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ

- قولُه: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ جوابٌ رادٌّ لقولِهم: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؛ فيجوزُ جعْلُ هذه الجُملةِ مِن مقولِ القولِ في قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ...، ويجوزُ جعْلُها مَقطوعةً عنها، وأيًّا ما كان فهي بمَنزلةِ البيانِ لجُملةِ القولِ كلِّها، أو البيانِ لجُملةِ المقولِ، وهو التَّعجُّبُ .

- في الافتِتاحِ باسمِ الإشارةِ كَذَلِكَ تأْكيدٌ للمُشارِ إليه، وهو التَّعجُّبُ مِن ضلالتِهم؛ إذ عَمُوا عن صِفَةِ الرِّسالةِ، والمُشارُ إليه: الإرسالُ المأْخوذُ مِن فعْلِ أَرْسَلْنَاكَ، أي: مثْلَ الإرسالِ البيِّنِ أرسَلْناك، فالمُشبَّهُ به عينُ المُشبَّهِ، إشارةً إلى أنَّه لِوُضوحِه لا يُبَيِّنُ ما وضَحَ مِن نفْسِه .

- قولُه: فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فيه التَّعريضُ بالوعيدِ بمثْلِ مَصيرِ الأُمَمِ الخاليةِ الَّتي كذَّبَت رُسُلَها، وتضمَّنتْ لامُ التَّعليلِ في قولِه: لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ أنَّ الإرسالَ لأجلِ الإرشادِ والهدايةِ إلى ما أمَرَ اللهُ، لا لأجلِ الانتِصابِ لِخوارِقِ العاداتِ .

- قولُه: لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ فيه تَقديمُ المجْرورِ عَلَيْهِمُ على المنْصوبِ الَّذِي أَوْحَيْنَا...، وهو مِن قَبِيلِ: الإبهام ثمَّ البَيان، وفيه ما لا يَخْفَى مِن ترقُّبِ النَّفْسِ إلى ما سَيَرِدُ، وحُسْنِ قَبولِها له عند وُرودِه عليها .

- قولُه: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ فيه العُدولُ عنِ المُضْمَرِ (بِه) إلى المُظْهَرِ المُتعرِّضِ لِوصْفِ الرَّحمةِ بِالرَّحْمَنِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ الإرسالَ ناشئٌ منها، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107] .

- والتَّعبيرُ بالمُضارِعِ يَكْفُرُونَ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ ذلك واستمرارِه .

- وجُملةُ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ نَتيجةٌ لِكونِه ربًّا واحدًا، أو كالنتيجةِ؛ لذلك فُصِلَتْ عنِ الَّتي قبلَها- أي: لم تُعْطَفْ عليها-؛ لِمَا بينهما مِن الاتِّصالِ، وتقديمُ المجْرورَيْنِ- وهما: عَلَيْهِ وإِلَيْهِ-؛ لإفادةِ اختِصاصِ التَّوكُّلِ والمَتابِ بالكونِ عليه، أي: لا على غيرِه؛ لأنَّه لمَّا توحَّدَ بالرُّبوبيَّةِ كان التَّوكُّلُ عليه، ولمَّا اتَّصَفَ بالرَّحمانيَّةِ كان المَتابُ إليه؛ لأنَّ رَحمانيَّتَه مَظِنَّةٌ لِقَبولِه توبةَ عبْدِه

=========================

.

سورةُ الرَّعدِ

الآيتان (31-32)

ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ

غريب الكلمات:

 

يَيْئَسِ: أي: يَعلَمْ ويتبيَّنْ، على إحدَى لغاتِ العربِ، وقِيل: هو مِن اليأسِ المعروفِ، أي: انتفاءِ الطمعِ، وقطعِ الرَّجاءِ

.

قَارِعَةٌ: أي: داهيةٌ تَفجَؤُهم، وسُمِّيَت بذلك لأنَّها تَقرَعُ النَّاسَ، أي: تَضرِبُهم بشِدَّتِها، وأصلُ (قرع): يدلُّ على ضَربِ شَيءٍ .

فَأَمْلَيْتُ: أي: أمهلْتُ وأطلْتُ المُدَّةَ، والإملاءُ: الإمهالُ على جِهةِ الاستدراجِ، وهو مِن المُلاوةِ مِن الزَّمَنِ، وأصلُ (ملو): يدلُّ على امتدادٍ في شَيءٍ؛ زَمانٍ أو غيرِه

 

.

المعنى الإجمالي :

 

يردُّ اللهُ- تعالى- على الكافرينَ الذين طَلَبوا إنزالَ الآياتِ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيقولُ لهم: ولو أنَّ ثَمَّةَ كتابًا يُقرأُ، فتزولُ به الجِبالُ عن أماكِنِها، أو تتشَقَّقُ به الأرضُ أنهارًا، أو يحيا به الموتى ويُكَلَّمونَ- كما طَلَبوا منك- لكان هذا القُرآنُ المُوحَى إلى هذا النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو المتَّصِفَ بذلك دونَ غَيرِه، بل لله وَحدَه الأمرُ كُلُّه، أفلَمْ يَعلَمِ المُؤمِنونَ أنَّ اللهَ لو يشاءُ لهدى النَّاسَ كُلَّهم إلى الإيمانِ به؟ ولا يزالُ الكُفَّارُ تنزِلُ بهم داهيةٌ تَفجَؤُهم وبلاءٌ وعذابٌ، أو يقَعُ ذلك قريبًا مِن ديارِهم، حتى يأتيَ وَعدُ اللهِ وهو موتُهم، أوْ قيامُ السَّاعةِ عليهم، إنَّ اللهَ لا يُخلِفُ الميعادَ.

ولقد استهزأَ الكُفَّارُ برُسُلِي الذين أرسَلْتُهم مِن قَبلِك؛ فأمهلْتُ الذين كَفَروا، مُدَّةً، ثمَّ أحللْتُ عليهم عذابي، فلسْتَ أوَّلَ رَسولٍ كُذِّبَ وعُوديَ، فاصبِرْ على أذاهم.

تفسير الآيتين:

 

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لمَّا ذكَرَ تعالى عِلَّةَ إرسالِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وهي تلاوةُ ما أوحاه إليه؛ ذكَرَ تعظيمَ هذا المُوحَى، وأنَّه لو كان قُرآنًا تُسَيَّرُ به الجبالُ عن مقارِّها، أو تُقَطَّعُ به الأرضُ حتَّى تتزايَلَ قِطَعًا قِطَعًا، أو تُكُلِّمَ به الموتى فتسمَعُ وتُجِيبُ، لكان هذا القُرآنُ؛ لِكونِه غايةً في التَّذكيرِ، ونهايةً في الإنذارِ والتَّخويفِ

.

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى.

أي: ولو أنَّ كِتابًا مِن الكُتُبِ السَّابِقةِ- التي أنزَلَها اللهُ على رُسُلِه - اشتمَلَ على ما هو أكثَرُ مِن الهدايةِ، فكان مصدرًا لإيجادِ العَجائِبِ المَحسوسةِ، بحيث يُقرأُ على الجِبالِ فتَتَزحزَحُ عن أماكِنِها، أو على الأرضِ فتتصَدَّعُ وتنشَقُّ ، أو على الموتَى في قُبورِهم فيَسمعونَ الكلامَ ويُجيبونَه- لكان هذا القُرآنُ المُوحَى إلى مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو المتَّصفَ بذلك دونَ غَيرِه مِن الكتُبِ، أو هو أَولى منها بذلك، فكيفَ تَقتَرِحونَ آيةً غَيرَه؟ ثمَّ إنَّه لم يكُنْ ثمَّ كتابٌ إلهيٌّ كذلك .

كما قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21].

وقال سُبحانه: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا * وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 89 - 93] .

بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا.

أي: ليس ذلك من شأنِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ؛ فذلك كُلُّه إلى اللهِ، وبِيَدِه وَحدَه، فمَرجِعُ الأمورِ كلِّها إليه، ما شاء كان، وما لم يشأْ لم يكُنْ، يهدي من يشاءُ، ويُضِلُّ من يشاءُ، ويأتي بالآياتِ التي تَقتَضيها حِكمتُه؛ فهو الذي أنزل الكِتابَ، وهو الذي يخلقُ العجائِبَ إن شاء، وليس ذلك إلى غيرِه .

أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا.

أي: أفلَم يعلَمِ المؤمنونَ أنْ لو يشاءُ اللهُ لهدَى النَّاسَ كُلَّهم إلى الإيمانِ به مِن غيرِ إيجادِ آيةٍ؟ فاللهُ تعالى قادرٌ على هدايتِهم جميعًا، ولكنَّه لا يشاءُ ذلك، فالهدايةُ والإضلالُ بِيَدِه وَحدَه؛ يهدي مَن يشاءُ بغيرِ إنزالِ آيةٍ، ويُضِلُّ مَن يشاءُ معَ إنزالِها .

وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ.

مُناسَبتُها لِما قَبلَها:

لَمَّا قال الله تعالى: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وعلِمَ المؤمنون أنَّ بَعضَ هؤلاء الكفار لا يؤمِنُ، ضاقت صدورُهم لذلك؛ لِما يُعاينونَه مِن أذى هؤلاء الكُفَّار، فأتبَعَه ما يُسَلِّيهم، فقال تعالى :

وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ.

أي: ولا يزالُ الكفارُ تصيبُهم بسبَبِ ما صنعوا مِن الكُفرِ والتَّكذيبِ؛ داهيةٌ تَفجَؤُهم، ونازلةٌ شديدةٌ تنزِلُ بهم، وبلاءٌ وعذابٌ .

أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ .

أي: أو تقَعُ هذه القارعةُ قريبًا مِن ديارِهم؛ فيَفْزَعونَ منها، ويُصيبُهم الخوفُ مِن تَجاوُزِها إليهم، وهم مُصِرُّون على كفرِهم .

حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ.

أي: حتى يأتيَ وعدُ اللهِ وهو موتُهم، أوْ قيامُ السَّاعةِ عليهم، فإذا جاءَ وعدُ اللَّهِ المحتومُ حَلَّ بهم مِنْ عذابِه ما هو الغايةُ في الشِّدَّةِ .

إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ.

أي: إنَّ اللهَ لا يَنقُضُ وعدَه، وكلُّ ما وعَدَ اللهُ به فهو كائِنٌ لا محالةَ .

كما قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 6].

وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا طلَبَ المُشرِكونَ سائرَ المُعجِزاتِ مِن الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سبيلِ الاستِهزاءِ والسُّخريةِ، وكان ذلك يشُقُّ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان يتأذَّى مِن تلك الكَلِماتِ؛ فاللهُ تعالى أنزل هذه الآيةَ تَسليةً له وتَصبيرًا له على سفاهةِ قَومِه، فقال له :

وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ.

أي: إنْ يَستهزِئْ بك هؤلاءِ المُشرِكونَ مِن قَومِك- يا مُحمَّدُ-، فاصبِرْ على أذاهم، فلسْتَ أوَّلَ رَسولٍ كُذِّبَ وعُوديَ؛ فقد استهزأَ الكُفَّارُ برُسُلِي الذين أرسَلْتُهم مِن قَبلِك، فأمهلتُ أولئك الكُفَّارَ مُدَّةً، ثمَّ أحللْتُ عليهم عذابي حين أصَرُّوا على كُفرِهم وتَكذيبِهم .

فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ.

أي: فانظُرْ- يا مُحمَّدُ- كيف كان عقابي الشَّديدُ لأولئك الكافرينَ، ألمْ أُذِقْهم أليمَ العَذابِ، وأَجعَلْهم عِبرةً وعِظةً؟ فلْيعتَبِرْ كُفَّارُ قَومِك بذلك، ولْيَحذَروا مِن نِقمَتي وعذابي، ولا يغتَرُّوا بإمهالي لهم

 

.

كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ [غافر: 5] .

وقال سُبحانه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [غافر: 21-22] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- حُذِفت التاءُ في قولِ الله تعالى: أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى، وثبتَتْ في الفعلينِ قبلَه؛ لأنَّه مِن بابِ التغليبِ؛ لأنَّ الموتَى تشملُ المذكَّر والمؤنَّثَ

.

2- في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا دَلالةٌ على أنَّ اللهَ سُبحانه إذا أضلَّ عبدًا، لم يكُنْ لأحدٍ سبيلٌ إلى هدايتِه

 

.

بلاغة الآيتين:

 

1- قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذين آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذين كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ

- قولُه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ... جوابُ (لو) محذوفٌ، وتقديرُه: لكان هذا القرآنَ. وقيل: تقديرُه: لكفرتُم بالرحمنِ، وحُذِف لدَلالةِ المَقام عليه، والمُرادُ منه تعظيمُ شأْنِ القُرآنِ، أو المُبالَغَةُ في عِنادِ الكفَرَةِ وتَصميمِهم، كما يقولُ الرَّجلُ لِغُلامِه: لو أنِّي قُمْتُ إليك! ويترُكُ الجوابَ، ويُفيدُ ذلك أيضًا معنًى تعْريضيًّا بالنِّداءِ عليهم بنِهايةِ ضلالتِهم؛ إذ لم يهتَدوا بهَدْيِ القُرآنِ ودَلائلِه

، فحُذِفَ جَوابُ (لو)؛ ليكونَ أبلَغَ في العبارةِ، وأعَمَّ في الفائدةِ . وحذْفُ جوابِ (لو) شائِعٌ في كلامِ العرَبِ، وهو هنا في هذه الآيةِ إيجازٌ عجيبٌ، حيثُ اشتَمَل هذا اللَّفظُ القليلُ على المعاني الكثيرةِ .

- قولُه: سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى فيه تقديمُ المجْرورِ بِهِ في المواضِعِ الثَّلاثةِ على المرفوعِ (الْجِبالُ- الْأَرْضُ- الْمَوْتَى)؛ لِقصْدِ الإبهامِ ثمَّ التَّفسيرِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ؛ لأنَّ بتقديمِ ما حَقُّه التَّأخيرُ تبْقَى النَّفْسُ مُستشرِفَةً ومُترقِّبَةً إلى المُؤَخَّرِ أنَّه ماذا؛ فيتمكَّنُ عند وُرودِه عليها فَضلَ تمكُّنٍ .

- قولُه: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا إضرابٌ عمَّا تَضمَّنَتْه (لَوْ) مِن معنى النَّفيِ؛ فجُملةُ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا عطْفٌ على وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا بحرْفِ الإضرابِ، أي: ليس ذلك مِن شأْنِ الكُتُبِ، بل للهِ الأمْرُ جميعًا؛ فهو الَّذي أنزَلَ الكِتابَ، وهو الَّذي يخلُقُ العَجائبَ إنْ شاء، وليس ذلك إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا عند سُؤالِكم، فأمَرَ اللهُ نَبِيَّه بأنْ يقولَ هذا الكلامَ إجراءً لكلامِهم على خِلافِ مُرادِهم على طريقةِ الأسلوبِ الحَكيمِ؛ لأنَّهم ما أرادوا بما قالوه إلَّا التَّهكُّمَ، فحُمِلَ كلامُهم على خِلافِ مُرادِهم؛ تنبيهًا على أنَّ الأَولى بهم أنْ ينْظروا: هل كان في الكُتُبِ السَّابقةِ قُرآنٌ يتأَتَّى به مثْلُ ما سأَلوه، وقد أفادَتِ الجُملتانِ- المعطوفةُ والمعطوفةُ عليها- معنى القصْرِ؛ لأنَّ العطْفَ بـ (بَلْ) مِن طُرُقِ القصْرِ؛ فاللَّامُ في قولِه: الْأَمْرُ للاستغراقِ، وجَمِيعًا تأْكيدٌ له، وتقديمُ المجْرورِ على المبتدأِ؛ لِمُجرَّدِ الاهتمامِ؛ لأنَّ القصْرَ أُفِيدَ بـ (بَلْ) العاطفةِ .

- قولُه: أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذين آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا استفهامٌ إنكاريٌّ؛ إنكارًا لانتِفاءِ يأْسِ الَّذين آمنوا، أي: فهم حَقيقونَ بزَوالِ يأْسِهم، وأنْ يعلَموا أنْ لو يشاء اللهُ لَهَدى النَّاسَ جميعًا- وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ-، وفي هذا الكلامِ زِيادةُ تَقريرٍ لِمضمونِ جُملةِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ .

- قولُه: أَفَلَمْ يَيْئَسِ، أي: أفلم يُوقِنْ ويعلَمْ؛ قيل: إنَّما اسْتُعْمِلَ اليأْسُ بمعنى العِلْمِ؛ لِتضمُّنِه معناه؛ لأنَّ اليائسَ عنِ الشَّيءِ عالِمٌ بأنَّه لا يكونُ، كما اسْتُعْمِلَ الرَّجاءُ في معنى الخوفِ، والنِّسيانُ في معنى التَّرْكِ؛ لِتضمُّنِ ذلك .

- قولُه: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا، أي: بسبَبِ ما صَنَعوه مِن الكُفرِ والتَّمادي فيه، وأبْهَمَ ما صنَعوا ولم يُبَيِّنْه؛ للقصْدِ إلى تَهْويلِه أو استهجانِه، وهو تَصريحٌ بما أشعَرَ به بِناءُ الحُكمِ على الموصولِ مِن عِلِّيَّةِ الصِّلةِ له، مع ما في صِيغَةِ الصُّنْعِ مِن الإيذانِ برُسوخِهم في ذلك .

- قولُه: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ شُبِّهَتِ القارعةُ بالعَدُوِّ المُتوجِّهِ إليهم، فأُسْنِدَ إليها الإصابةُ تارةً، والحُلولُ أُخْرى .

- قولُه: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ فيه تقديمُ المجرورِ بِمَا صَنَعُوا على الفاعلِ قَارِعَةٌ، وهو مِن إرادةِ التَّفسيرِ إثرَ الإبهامِ؛ لِزيادةِ التَّقريرِ والإحكامِ، مع ما فيه مِن بيانِ أنَّ مَدارَ الإصابةِ مِن جِهَتِهم آثِرَ ذي أَثِيرٍ .

- وجُملةُ: وَلَا يَزَالُ الَّذين كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ مَعطوفةٌ على جُملةِ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ، وهي تَهديدٌ بالوَعيدِ على تعنُّتِهم، وإصرارِهم على عدَمِ الاعترافِ بِمُعجزةِ القُرآنِ، وتهكُّمِهم باستِعجالِ العذابِ الَّذي تُوُعِّدُوا به؛ فهُدِّدُوا بما سيحُلُّ بهم مِن الخوفِ بحُلولِ الكتائبِ والسَّرايا بهم تنالُ الَّذين حلَّتْ فيهم، وتَخويفِ مَن حولَهم، حتَّى يأتِيَ وعْدُ اللهِ بيومِ بَدرٍ أو فتْحِ مكَّةَ ، وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.

- واستعمالُ وَلَا يَزَالُ في أصلِها تدلُّ على الإخبارِ باستِمرارِ شيءٍ واقِعٍ؛ فإذا كانت هذه الآيةُ مكِّيَّةً، تَعيَّنَ أنْ تكونَ نزَلَت عند وُقوعِ بعضِ الحَوادِثِ المُؤلِمةِ بقُريشٍ مِن جُوعٍ أو مرَضٍ؛ فتكونُ هذه الآيةُ تَنبيهًا لهم بأنَّ ذلك عِقابٌ مِن اللهِ تعالى، ووعيدٌ بأنَّ ذلك دائمٌ فيهم حتَّى يأتِيَ وعْدُ اللهِ .

- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ تَذييلٌ لجُملةِ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ؛ إيذانًا بأنَّ إتيانَ الوعْدِ المُغَيَّا به مُحَقَّقٌ، وأنَّ الغايةَ به غايةٌ بأَمْرٍ قَريبِ الوُقوعِ، والتَّأكيدُ بـ (إنَّ)؛ مُراعاةً لإنكارِ المُشركينَ .

2- قوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ فيه وعيدٌ لهم، وجوابٌ عنِ اقتِراحِهم الآياتِ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على سبيلِ الاستهزاءِ، وتَسليةً له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

- والاستهزاءُ: مُبالَغَةٌ في الهزْءِ، مثلَ الاستسخارِ في السُّخريةِ .

- قولُه: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ استفهامٌ معناه التَّعجُّبُ بما حلَّ، وفي ضمْنِه وعيدُ مُعاصِري الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الكُفَّارِ؛ فالكلامُ تَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمُؤمنينَ، ووعيدٌ للمُشركينَ . وفي التَّعبيرِ عنِ العِقابِ بقولِه: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ دَلالةٌ ظاهرةٌ على تناهي كيفيَّةِ هذا العِقابِ في الشِّدَّةِ والفَظاعةِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا: فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ، وفي سُورةِ الحجِّ: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الحج: 44] ؛ فعقَّبَ الأُولى بقولِه: فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ، والثَّانيةَ بقولِه: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ، مع تَساوي الآيتَينِ في مَقصودِ الوعيدِ لِمُكذِّبي الرُّسلِ عليهم السَّلامُ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ العِقابَ أشدُّ موقِعًا مِن النَّكيرِ؛ لأنَّ الإنكارَ يقَعُ على ما لا عِقابَ فيه بالفعْلِ، وعلى ما فيه العِقابُ بالفعْلِ، وأمَّا مُسمَّى العِقابِ فإنَّما يُرادُ به في الغالِبِ أخْذٌ بعَذابٍ مُناسِبٍ لِحالِ المُجْرمِ، إثْرَ مَعصيَتِه، وعَقِيبَ جريمتِه، وقد تقدَّمَ في آيةِ الرَّعدِ قولُه تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الرعد: 32] ، والاستهزاءُ أمْرٌ مُرْتَكبٌ زائدٌ على التَّكذيبِ مِن التَّهاوُنِ، والاستِخفافُ بِجريمةٍ مُرْتَكبةٍ أشنَعُ جريمةً، فناسَبَها الإفصاحُ بالعِقابِ. أمَّا آيةُ الحجِّ فإنَّ الوعيدَ بها للمَذْكورينَ بالتَّكذيبِ ولم يذْكُرْ منهم استهزاءً، قال تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى [الحج: 42- 44] ؛ فلم يُخبِرْ عن هؤلاءِ بغيرِ التَّكذيبِ، وليس كالاستهزاءِ؛ فقد يُؤْمِنُ المُكذِّبُ ويَصلُحُ حالُه، أمَّا المُستهزِئُ فلا يَصلُحُ، وقد كفَى اللهُ نَبِيَّه إيَّاهم؛ قال تعالى: إِنَا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] ؛ فناسَبَ النَّظمَ تَعْقيبُ كلِّ آيةٍ بما يُناسِبُ مُرْتكِبَ مَن قُدِّمَ، ولم يكُنْ عكْسُ الوارِدِ لِيُناسِبَ

==========================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيتان (33-34)

ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ

المعنى الإجمالي:

 

تُبيِّنُ لنا الآياتُ الكريمةُ لونًا مِن الحِجَاجِ مع المُشركينَ، يتضَمَّنُ توبيخًا لهم، وتعجيبًا مِن عُقولِهم، فيقولُ سُبحانه: أفمَن هو قائِمٌ على شُؤونِ جَميعِ العِبادِ- مِن أرزاقٍ وغيرِها- رقيبٌ على ما يَكسِبونَه مِن أعمالٍ، حافِظٌ لها، ومُجازٍ عليها، كمَن ليس كذلك مِن هذه الأصنامِ؟!

وجَعَلوا لله شُرَكاءَ مِن خَلْقِه يَعبُدونَهم، قلْ لهم- يا محمدُ: سمُّوهم بالأسماءِ التي يستحقُّونَها ما دُمتُم جعَلْتموهم شركاءَ لله، ولن يَجِدوا ما يَجعَلُهم أهلًا للعبادةِ، أم تُخبِرونَ اللهَ بشُرَكاءَ في أرضِه لا يعلَمُهم، أم تُسَمُّونَهم شُرَكاءَ بظاهرٍ مِن اللَّفظِ مِن غيرِ أن يكونَ لهم حقيقةٌ! بل حُسِّنَ للكُفَّارِ قَولُهم الباطِلُ، وصُرِفوا عن سبيلِ الله. ومَن يُضِلَّه الله فلا أحدَ يهديه، ويأخذُ بيدِه إلى الحَقِّ والرَّشادِ، ولهؤلاء الكُفَّارِ عذابٌ في الحياةِ الدُّنيا بالقتلِ والأسرِ والخِزي والمصائبِ والآفاتِ، ولَعذابُهم في الآخرةِ أغلظُ وأشَدُّ، وليس لهم من أحدٍ يَمنَعُهم مِن عذابِ اللهِ.

تفسير الآيتين:

 

أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها تفريعٌ على مجموعِ قَولِه تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [الرعد: 30] ، أي: أنَّ كُفرَهم بالرَّحمنِ وإيمانَك بأنَّه ربُّك المقصورةُ عليه الرُّبوبيَّةُ، يتفَرَّعُ على مجموعِ ذلك استفهامُهم استفهامَ إنكارٍ عليهم تسويتَهم مَن هو قائمٌ على كلِّ نفسٍ بمن ليس مِثلَه مَن جعلوهم له شرُكاءَ

.

وأيضًا: لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الوعيدَ للكافرينَ، والجوابَ عن اقتراحِهم الآياتِ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ أورد تعالى على المُشرِكينَ ما يجري مَجرى الحِجاجِ، وما يكونُ توبيخًا لهم وتَعجيبًا مِن عُقولِهم ، فقال:

أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.

أي: أفاللهُ القائِمُ على شُؤونِ جَميعِ عِبادِه- ومِن ذلك أرزاقُهم- العالِمُ بهم وبأحوالِهم، الرَّقيبُ على ما يَكسِبونَه مِن أعمالٍ، الحافِظُ لها، والمُجازي عليها خيرًا وشَرًّا، كمَن ليس بهذه الصِّفةِ مِن الأصنامِ التي لا تسمَعُ ولا تُبصِرُ، ولا تنفَعُ ولا تضُرُّ؟! كلَّا، ليس الأمرُ كذلك .

وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ.

أي: اللهُ هو القائِمُ بأرزاقِ هؤلاء المُشرِكينَ، والمدبِّرُ لأمورِهم، والرَّقيبُ الحافِظُ عليهم أعمالَهم، ومع ذلك جعلوا لله شُرَكاءَ مِن خَلقِه يَعبدونَهم معه! قُلْ- يا محمَّدُ- لأولئك الكُفَّارِ: سَمُّوا هؤلاء الذين أشَركتُموهم في عبادةِ اللهِ بالأسماءِ التي يستحِقُّونَها: هل هي خالقةٌ رازقةٌ، محييةٌ مميتةٌ، أم هي مخلوقةٌ، لا تملكُ ضرًّا ولا نفعًا؟ فإذا سمَّوْها فوصَفوها بما تستحِقُّه مِن الصفاتِ، تبيَّنَ ضلالُهم، فما يسمُّونَهم إلا بما يعلمون أنَّ تلك الأسماءَ لهم حقيقةٌ، كحجرٍ وخشبٍ وكوكبٍ وأمثالِها .

قال تعالى: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [يوسف: 40] .

وقال سُبحانه: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم: 23] .

أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ.

أي: أم الأمرُ- أيُّها المُشرِكونَ- أنَّكم تُخبِرونَ اللهَ بأنَّ معه شُركاءَ في الأرضِ، وهو لا يعلَمُ بذلك؟! وما لا يعلَمُ عالِمُ الغَيبِ والشهادةِ أنَّه موجودٌ، فباطِلٌ، ولو كان موجودًا لعَلِمَه .

أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ.

أي: أم الأمرُ أنَّكم ادَّعيتُم لله شُرَكاءَ بمُجَرَّد ظواهِرِ أقوالِكم التي لا حقيقةَ لها، وإنَّما هي ظَنٌّ وكَذِبٌ، وباطِلٌ .

بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ.

أي: ليس لله شَريكٌ في السَّمواتِ ولا في الأرضِ، ولكِنْ زُيِّنَ للمُشرِكينَ كُفرُهم وشِركُهم وكَذِبُهم على اللهِ .

وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ.

القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:

1- قراءةُ وَصُدُّوا بضمِّ الصادِ على ما لم يسَمَّ فاعِلُه، أي: أُضِلُّوا عن الإيمانِ، قيل: صَدَّهم اللهُ عن اتِّباعِ سَبيلِه؛ لكُفرِهم به، وقيل: صَدَّهم الشَّيطانُ بتَزيينِه .

2- قراءةُ وَصَدُّوا بفتح الصادِ، بإسنادِ الفعل إلى الفاعلِ، أي: صَدُّوا بأنفُسِهم وأعرَضوا عن الإيمانِ، وقيل: صَدُّوا غيرَهم عن الإيمانِ فأضلُّوهم، وقيل: إنَّهم لمَّا زُيِّنَ لهم ما هم فيه وأنَّه حقٌّ، دَعَوا إليه وصَدُّوا النَّاسَ عن اتِّباعِ طريقِ الرُّسلِ .

وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ.

أي: وصُرِفوا- لكُفرِهم بالله- عن طريقِ الإيمانِ المُستقيمِ المُوصِل إليه وإلى دارِ كرامتِه .

كما قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .

وقال سُبحانه: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 9، 10].

وقال عزَّ وجلَّ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [العنكبوت: 38].

وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.

أي: ومَن يُضِلَّه اللهُ عن طريقِ الحَقِّ، ويَخذُلْه عن اتِّباعِه، فلا أحدَ يُوفِّقُه إلى الخيرِ .

كما قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88] .

وقال سُبحانه: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 39] .

لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ (34).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن الكافرينَ بتلك الأمورِ المذكورةِ؛ بيَّنَ أنَّه جمعَ لهم بين عذابِ الدُّنيا، وبين عذابِ الآخرةِ الذي هو أشَقُّ، وأنَّه لا دافِعَ لهم عنه لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ .

وأيضًا فإنَّها استئنافٌ بيانيٌّ نشأ عن قَولِه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ؛ لأنَّ هذا التَّهديدَ يُومئُ إلى وعيدٍ يسألُ عنه السَّامِعُ، وفيه تكمِلةٌ للوعيدِ المتقَدِّمِ في قولِه: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ مع زيادةِ الوعيدِ بما بعدَ ذلك في الدَّارِ الآخرةِ .

لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

أي: لهؤلاءِ الكُفَّارِ عَذابٌ في الحياةِ الدُّنيا بالقتلِ والأسرِ والخِزي، والمصائبِ والأمراضِ والآفاتِ .

وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ.

أي: ولَعذابُهم في الآخرةِ أشَدُّ وأغلَظُ مِن عذابِهم في الدُّنيا .

وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ.

أي: وما لهؤلاءِ الكافرينَ مِن أحدٍ يَقيهم ويمنَعُهم مِن عذابِ اللهِ

 

.

الفوائد التربوية:

 

1- كلُّ نَقصٍ وبَلاءٍ وشَرٍّ في الدُّنيا والآخرةِ، فسَببُه الذنوبُ، ومُخالفةُ أوامِرِ الرَّبِّ؛ فليس في العالَمِ شَرٌّ قَطُّ إلَّا الذُّنوبُ ومُوجِباتُها. وآثارُ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ في القلوبِ والأبدانِ والأموالِ أمرٌ مشهودٌ في العالَمِ، لا يُنكِرُه ذو عَقلٍ سَليمٍ، بل يَعرِفُه المُؤمِنُ والكافِرُ، والبَرُّ والفاجِرُ. وشهودُ العَبدِ هذا في نَفسِه وفي غيرِه، وتأمُّلُه ومُطالعتُه: مِمَّا يُقَوِّي إيمانَه بما جاءت به الرُّسُلُ، وبالثَّوابِ والعقابِ؛ فإنَّ هذا عَدلٌ مَشهودٌ مَحسوسٌ في هذا العالمِ، ومَثوباتٌ وعُقوباتٌ عاجِلةٌ دالَّةٌ على ما هو أعظَمُ منها لِمَن كانت له بَصيرةٌ، ومتى انفتَحَ هذا البابُ للعبدِ انتفَعَ بمُطالعةِ تاريخِ العالَمِ، وأحوالِ الأُمَمِ، ومُجرَياتِ الخَلقِ، بل انتفَعَ بمُجرَياتِ أهلِ زَمانِه وما يُشاهِدُه من أحوالِ النَّاسِ، وفَهِمَ حينئذ معنى قَولِه تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ،  وقولِه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18] فكُلُّ ما تراه في الوجودِ مِن شَرٍّ وألمٍ وعقوبةٍ وجَدبٍ، ونَقصٍ في نَفسِك وفي غَيرِك؛ فهو من قيامِ الرَّبِّ تعالى بالقِسطِ، وهو عَدلُ اللهِ وقِسطُه وإن أجراه على يَدِ ظالمٍ؛ فالمُسلِّطُ له أعدَلُ العادلينَ

.

2- قولُ الله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ هو تعالى المحيطُ بأحوالِ النُّفوسِ جَلِيِّها وخَفِيِّها، ونبَّهَ على بعضِ حالاتِها وهو (الكسب)؛ ليتفكَّرَ الإنسانُ فيما يَكسِبُ مِن خيرٍ وشَرٍّ، وما يترتَّبُ على الكَسبِ في الجزاءِ

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فاللهُ سُبحانَه وتعالى يقومُ عليها بكَسبِها لا بكَسبِ غيرِها، وهذا مِن قيامِه بالقِسطِ

.

2- قال الله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ معلومٌ أنَّ القائِمَ على كُلِّ نفسٍ بما كسَبَت هو اللهُ عزَّ وجَلَّ، فصار الوجودُ كُلُّه قائمًا باللهِ تعالى؛ إيجادًا، وإمدادًا، وإعدادًا .

3- قولُه تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فيه جوازُ وصفِ الله بالقيامِ على التَّقْيِيدِ، وهو أنَّه قَائِمٌ على كلِّ نفسٍ بما كسَبتْ، ولا يجوزُ أَن يُسمَّى قَائِمًا على الإِطلاقِ؛ لأنَّ الشَّرْعَ لم يرِدْ به .

4- قد تضمَّنَ هذا الاحتجاجُ في هذه الآيةِ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ... أساليبَ وخصوصياتٍ:

أحدُها: توبيخُهم على قياسِهم أصنامَهم على اللهِ في إثباتِ الإلهيَّةِ لها قياسًا فاسدًا؛ لانتفاءِ الجهةِ الجامعةِ، فكيف يُسَوَّى مَن هو قائمٌ على كلِّ نفْسٍ بمَن ليسوا في شيءٍ من ذلك؟!

ثانيها: تَجهِيلُهم في جَعْلِهم أسماءً لا مُسمَّياتِ لها آلهةً.

ثالثُها: إبطالُ كونِ أصنامِهم آلهةً بأنَّ اللهَ لا يعلَمُها آلهةً، وهو كِنايةٌ عنِ انتفاءِ إلهيَّتِها.

رابعُها: أنَّ ادِّعاءَهم آلهةً مُجَرَّدُ كلامٍ، لا انطباقَ له مع الواقعِ، وهو قولُه: أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ.

خامسُها: أنَّ ذلك تمويهٌ باطِلٌ روَّجَه فيهم دُعاةُ الكُفْرِ، وهو معنى تَسْميتِه مَكرًا في قولِه: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ.

سادسُها: أنَّهم يَصُدُّونَ النَّاسَ عن سَبيلِ الهُدى .

5- إنَّما قال الله تعالى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ؛ لأنَّه أزيَدُ؛ إن شئتَ بسبَبِ القوَّةِ والشِّدَّةِ، وإن شئتَ بسبَبِ كثرةِ الأنواعِ، وإن شئتَ بسبَبِ أنَّه لا يختَلِطُ بها شيءٌ مِن مُوجِباتِ الرَّاحةِ، وإنْ شِئتَ بسبَبِ الدَّوامِ، وعدمِ الانقطاعِ

 

.

بلاغة الآيتين :

 

1- قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ

- قولُه: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ... احتِجاجٌ عليهم في إشراكِهم باللهِ، يعني: أفاللهُ الَّذي هو قائمٌ رقيبٌ على كُلِّ نَفْسٍ صالحةٍ أو طالحةٍ بِما كَسَبَتْ، يعلَمُ خيرَه وشرَّه، ويُعِدُّ لكلٍّ جَزاءَه؛ كمَن ليس كذلك

؟!

- والاستفهامُ في قولِه: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ إنكاريٌّ، وحُذِفَ خبَرُه تَصريحًا في التَّوبيخِ والزِّرايةِ عليهم على القياسِ الفاسِدِ؛ لِفقْدِ الجِهةِ الجامعةِ لهما، وهذا يُسَمَّى في البلاغةِ: (الإضمار على شَريطةِ التَّفسيرِ)، وهو: أنْ يُحْذَفَ مِن صدْرِ الكلامِ ما يُؤْتَى به في آخِرِه، فيَكونَ الآخِرُ دليلًا على الأوَّلِ .

- قولُه: وَجَعَلُوا للَّهِ شُرَكَاءَ استِئنافُ إخبارٍ عن سُوءِ صنيعِهم، وكونِهم أشْرَكوا مع اللهِ ما لا يصلُحُ للأُلوهيَّةِ؛ نَعَى عليهم هذا الفِعلَ القبيحَ، فهي جُملةٌ مُستقِلَّةٌ، جِيءَ بها للدَّلالةِ على الخبَرِ. أو حاليةٌ، أي: أَفَمَنْ هذه صِفاتُه كمَن ليس كذلك، وقد جعَلوا له شُركاءَ لا شريكًا واحدًا؟! وعلى القولِ بأنَّ هذه الجُملةَ معطوفةٌ على الخبَرِ، إنْ قُدِّرَ ما يصلُحُ لذلك، أي: أَفَمَنْ هذا شأنُه لم يُوَحِّدوه، وجَعَلوا له شُركاءَ؟! ووضَعَ المُظْهَرَ موضِعَ المُضْمَرِ- حيث لم يقُلْ: (وجعَلوا له)-؛ تَقديرًا لِأُلوهيَّتِه، وتَصريحًا بها، وللتَّنصيصِ على وَحدانيَّتِه ذاتًا واسمًا، وللتَّنبيهِ على أنَّهم جعَلوا شُركاءَ لِمَن هو فَردٌ واحدٌ لا يُشارِكُه أحدٌ في اسمِه، وللتَّنبيهِ على اختِصاصِه باستِحقاقِ العبادةِ، مع ما فيه مِن البَيانِ بعد الإبهامِ بإيرادِه مَوصولًا؛ للدَّلالةِ على التَّفخيمِ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ . وقيل: فائدةُ هذا الإظهارِ: التَّعبيرُ عنِ المُسَمَّى باسمِه العَلَمِ الَّذي هو الأصلُ؛ إذ كان قد وقَعَ الإيفاءُ بحَقِّ العُدولِ عنه إلى الموصولِ في الجُملةِ السَّابقةِ، فتَهيَّأَ المَقامُ للاسمِ العَلَمِ، وليكونَ تصريحًا بأنَّه المُرادُ مِن الموصولِ السَّابقِ؛ زِيادةً في التَّصريحِ بالحُجَّةِ .

- قولُه: قُلْ سَمُّوهُمْ فيه تنبيهٌ على أنَّ هؤلاءِ الشُّركاءَ لا يستحِقُّونَ العِبادةَ، وتبْكيتٌ لهم إثرَ تبْكيتٍ، والمعنى: أي: سمُّوهم مَن هُمْ؟ وماذا أسماؤُهم؟ أو صِفُوهم، فانْظروا هل لهم ما يَستحِقُّونَ به العِبادةَ، ويستأْهِلونَ الشَّرِكةَ ؟! وقيل: هذا تهديدٌ، كما تقولُ لِمَن تُهَدِّدُه على شُرْبِ الخَمْرِ: سَمِّ الخمْرَ بعد هذا ، وفيه تعجيزٌ لهم، أي: عيِّنوا أسماءَهم، فقولوا: فُلانٌ وفلانٌ؛ فهو إنكارٌ لِوُجودِها على وجْهٍ بُرهانيٍّ، كما يقولُ المرْءُ لِخَصمِه: إنْ كان الَّذي تدَّعيه موجودًا فسَمِّه؛ لأنَّ المُرادَ بالاسمِ العِلمُ . أو الأمْرُ مُستعمَلٌ في معنى الإباحةِ؛ كِنايةً عن قِلَّةِ المُبالاةِ بادِّعائِهم أنَّهم شُركاءُ، أي: سمُّوهم شُركاءَ، فليس لهم حَظٌّ إلَّا التَّسميةُ، أي: دونَ مُسَمَّى الشَّريكِ .

- قولُه: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ فيه نَفْيُ الشَّيءِ بإيجابِه، أو عكسُ الظَّاهِرِ، وهو مِن مُستَطرَفاتِ عِلْمِ البَيانِ، وحقيقةُ هذا النَّفيِ: أنَّهم ليسوا بشُركاءَ، وأنَّ اللهَ لا يعلَمُهم كذلك؛ لأنَّهم- في الواقعِ- ليسوا كذلك، وإنْ كانت لهم ذواتٌ ثابتةٌ يعلَمُها اللهُ، إلَّا أنَّها مَرْبوبةٌ حادِثةٌ لا آلهةٌ معبودةٌ، ولكنْ مَجِيءُ النَّفيِ بهذه الطَّريقةِ المَتلوَّةِ بَديعٌ لا تَكادُ تُكْتَنَه بَلاغتُه وعِبارتُه .

- قولُه: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ استِفهامٌ إنكاريٌّ توبيخيٌّ ، وهذا احتِجاجٌ بليغٌ على أُسلوبٍ عجيبٍ يُنادي على نفْسِه بالإِعجازِ، ويَدُلُّ على أنَّه ليس مِن كَلامِ البَشرِ لِمَن عرَفَ وأنصَفَ مِن نفْسِه .

- وخَصَّ الأرضَ بنَفيِ الشَّريكِ عنها، وإن لم يكُنْ شَريكٌ البتَّةَ، فقال: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ؛ لأنَّهم ادَّعَوا أنَّ له شُرَكاءَ في الأرضِ لا في غَيرِها . وقيل: قيَّد ذلك بـ (الأرض) لزيادةِ تجهيلِهم؛ لأنَّه لو كان يخفَى عن علمِه شيءٌ، لخفِي عنه ما لا يُرى، ولما خفِيت عنه موجوداتٌ عظيمةٌ بزعمِكم .

- وأَمْ الثَّانيةُ في قولِه: أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ مُتَّصِلةٌ، وهي مُعادِلَةٌ همْزةَ الاستفهامِ المُقدَّرةَ في أَمْ تُنَبِّئُونَهُ، وإعادةُ الباءِ؛ للتَّأْكيدِ بعدَ أَمْ العاطفةِ .

- أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ فيه محذوفٌ، تقديرُه: أفمَنْ هو رقيبٌ على كلِّ نفْسٍ صالحةٍ وطالحةٍ، يَعلمُ ما كسبتْ مِن خيرٍ وشرٍّ، كمَن ليس كذلك مِن شُركائِهم الَّتي لا تضُرُّ ولا تنفَعُ؟! ويَدُلُّ عليه قولُه عَقِبَه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ، ونحوُه قولُه: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ [الزمر: 22] ، والتَّقديرُ: كمنْ قَسَا قَلبُه؛ يدلُّ له قولُه: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 22] .

- وفي قولِه: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ العُدولُ عنِ اسمِ الجلالةِ إلى الموصولِ (مَنْ)؛ لأنَّ في الصِّلةِ دَليلًا على انتِفاءِ المُساواةِ، وتَخطئةً لأهْلِ الشِّركِ في تَشريكِ آلهتِهم للهِ تعالى في الإلهيَّةِ، ونِداءً على غَباوتِهم؛ إذْ هم مُعترِفونَ بأنَّ اللهَ هو الخالِقُ، ولِمَا في هذه الصِّلةِ مِن التَّعريضِ .

- قولُه: بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ فيه وضْعُ الموصولِ لِلَّذِينَ كَفَرُوا موضِعَ المُضْمَرِ (لهم)؛ ذمًّا لهم، وتَسجيلًا عليهم بالكُفْرِ .

- وجُملةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ تَذييلٌ؛ لِمَا فيه مِن العُمومِ .

2- قوله تعالى: لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ

- قولُه: لَهُمْ عَذَابٌ فيه تَنكيرُ عَذَابٌ؛ للتَّعظيمِ .

- قولُه: وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ مِنْ الأُولى صِلةٌ للوقايةِ، ومِن الثَّانيةُ الدَّاخلةُ على وَاقٍ لتأْكيدِ النَّفيِ؛ للتَّنصيصِ على العُمومِ

==================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (35-37)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات:

 

مَثَلُ الْجَنَّةِ: أي: صِفَتُها أو شَبَهُها، وأصلُ (مثل): يدلُّ على مُناظرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ

.

أُكُلُهَا: أي: ثمرُها، وأصْلُ (أكل): يدُلُّ  على تَّنَقُّصٍ

 

.

مشكل الإعراب:

 

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا

مَثَلُ مبتدأٌ، والخبَرُ محذوفٌ، والتَّقديرُ: فيما يُتلى عليكم مَثَلُ الجنَّةِ، وجملةُ تَجْرِي مُفَسِّرةٌ لذلك المَثَل، فلا محلَّ لها من الإعرابِ، ويجوزُ أن تكونَ حالًا مِن العائدِ المحذوفِ في وُعِدَ أي: وُعِدَها المتَّقونَ مُقَدَّرًا جَرَيانُ أنهارِها. وقيلَ: جملةُ تَجْرِي خبَرٌ عن مَثَلُ باعتبارِ أنَّها مِن أحوالِ المضافِ إليه، وهو الجنَّةُ. وقيل غيرُ ذلك

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يذكُرُ اللهُ تعالى ما أعدَّه للمُؤمنينَ في الآخرةِ، فيقولُ: صِفةُ الجنَّةِ التي وعَدَ اللهُ بها المتَّقينَ أنَّ الأنهارَ تجري من تحتِ أشجارِها وقُصورِها، وأنَّ ثَمَرَها دائِمٌ لأهلِها لا ينقَطِعُ، وظِلَّها دائِمٌ لا يزولُ ولا يَنقُصُ، تلك الجنَّةُ هي عاقِبةُ المتقين، وعاقبةُ الكافرينَ باللهِ هي النَّارُ. ثمَّ بيَّنَ أنَّ أهلَ الكتابِ انقَسَموا فِئَتَين: فئةً فَرِحَت بنُزولِ القُرآنِ، وفِئةً أنكَرَته وكَفَرَت ببعضِه، فقال: والذين آتيناهم الكتابَ مِن اليهودِ والنَّصارى ممَن آمَنَ منهم بك يَفرحونَ بالقُرآنِ الذي أنزَلَه الله إليك؛ لِمُوافقتِه ما عندهم، ومن أهلِ المِلَلِ والأديانِ المتحَزِّبينَ عليك- يا محمَّدُ- مَن يكَذِّبُ ببعضِ ما في القُرآنِ الكريمِ، قُلْ لهم- يا محمَّدُ: إنَّما أمَرَني اللهُ بعبادتِه وَحدَه، وألَّا أشرِكَ به شَيئًا، إلى الله وحدَه أدعو النَّاسَ مُخلِصينَ له العبادةَ، وإليه مَرجِعي في جميع أموري.

ثمَّ بيَّنَ- سُبحانَه- أنَّه أرسَلَ رَسولَه بلُغةِ قَومِه كما أرسلَ مِن قَبلِه رُسُلًا بلُغاتِ أقوامِهم، فقال: كما أنزَلْنا الكتُبَ على الأنبياءِ السابقين بلُغاتِهم، أنزَلْنا عليك القُرآنَ محكمًا بلُغةِ العَرَبِ؛ لتحكُمَ به بينَ الناسِ، ولَئِن اتَّبَعتَ أهواءَ المُشرِكينَ- بعد الحَقِّ الذي جاءك مِن الله- ما لك مِن ناصرٍ ينصُرُك ويتولَّى أمورَك، ولا واقٍ يقيك عذابَ اللهِ.

تفسير الآيات:

 

مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ عذابَ الكُفَّارِ في الدُّنيا والآخرةِ، أتبَعَه بذكرِ ثوابِ المتَّقينَ

.

مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ.

أي: صِفةُ الجنَّةِ- التي وعدَ اللهُ بها المتَّقينَ في الآخرةِ- أنَّ الأنهارَ تجري من تحتِ قُصورِها وأشجارِها .

كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] .

أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا.

أي: ما يُؤكَلُ في الجنَّةِ مِن ثمارِها دائِمٌ لأهلِها، لا ينفَدُ ولا ينقَطِعُ عنهم، وظِلُّها أيضًا دائِمٌ لا يزولُ .

كما قال تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 30 - 33] .

تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ.

أي: تلك الجنَّةُ العاليةُ الأوصافِ هي عاقِبةُ المُتَّقينَ الذين امتَثَلوا ما أمَرَهم اللهُ به، واجتَنَبوا ما نهاهم عنه، وعاقِبةُ الكافرينَ بالله هي النَّارُ .

كما قال تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم: 63] .

وقال سُبحانه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20] .

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لما ذكَر أحوالَ المشركين مِن قولِه: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ... [الرعد: 30] ؛ ذكَر فضلَ بعضِ أهلِ الكتابِ في حسنِ تلقِّيهم للقرآنِ، فالذين أُرسل إليهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالقرآنِ انقسَموا في التصديقِ بالقرآنِ فرقًا، ففريقٌ آمنوا بالله وهم المؤمنون، وفريقٌ كفَروا به، وهذا فريقٌ آخرُ أيضًا- أهلُ الكتابِ- وهو منقسمٌ أيضًا .

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ.

أي: والذين آتيناهم التَّوراةَ والإنجيلَ ممَّن آمنَ بك- يا محمَّدُ- مِن اليَهودِ والنَّصارى، يَفرحونَ بالقُرآنِ الذي أنزَلَه الله إليك .

كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة: 121] .

وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ.

أي: ومن أهلِ المِلَلِ والأديانِ المتحَزِّبينَ عليك- يا محمَّدُ- مَن يكَذِّبُ ببعضِ ما في القُرآنِ الكريمِ .

قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ.

أي:  قل- يا مُحمَّدُ-: إنَّما أمَرَني اللهُ بعِبادتِه وَحدَه، وألَّا أُشرِكَ به شيئًا .

كما قال تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] .

وقال سُبحانه: قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [الأنبياء: 108] .

إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ.

أي: إلى اللهِ وَحدَه أدعو النَّاسَ إلى طاعتِه مُخلِصينَ له العبادةَ، وإلى اللهِ مَرجِعي في جميعِ أموري، وإليه مَصيري .

وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا.

أي: وكما أنزَلْنا الكتُبَ على الرُّسُلِ السَّابِقينَ بلُغاتِهم، كذلك أنزَلْنا عليك- يا مُحمَّدُ- القُرآنَ مُحكَمًا مُتقَنًا؛ لِتَحكُمَ به بين النَّاسِ، بلسانِ العَرَبِ .

كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء: 105] .

وقال سُبحانه: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] .

وقال عزَّ وجَلَّ: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] .

وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ.

أي: ولَئن اتَّبَعتَ- يا محمَّدُ- أهواءَ تلك الأحزابِ الكافرةِ بعد ما جاءك مِن العِلمِ الذي علَّمَك اللهُ إياه ، ما لك مِن اللهِ مِن ناصرٍ ينصُرُك ويتولَّى أمورَك، ولا واقٍ يقيك عذابَ اللهِ؛ فاحذَرْ مِن اتِّباعِ أهوائِهم

 

.

كما قال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة: 120] .

وقال سُبحانه: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 145] .

الفوائد التربوية:

 

1- الفرَحُ بالعِلمِ والإيمانِ والسنَّة دليلٌ على تعظيمِه عند صاحِبِه، ومحبَّتِه له، وإيثارِه له على غيرِه؛ فإنَّ فرَحَ العبدِ بالشَّيءِ عندَ حصولِه له، على قَدرِ محبَّتِه له ورغبتِه فيه؛ فمَن ليس له رغبةٌ في الشَّيءِ لا يُفرِحُه حُصولُه له، ولا يَحزُنُه فَواتُه، فالفرَحُ تابِعٌ للمحبَّةِ والرَّغبةِ، قال تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فالفرَحُ باللهِ وبرسولِه، وبالإيمانِ وبالسنَّةِ، وبالعِلمِ وبالقرآنِ: مِن أعلَى مقاماتِ العارفينَ

.

2- في قولِه تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ هذه الآيةُ تتضَمَّنُ النَّهيَ عن اتِّبَاعِ أهواءِ أَحَدٍ في خلافِ شريعتِه وسُنَّتِه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ومن ذلك أهلُ الأهواءِ مِن هذه الأمَّةِ ، وفيها وعيدٌ لأهلِ العِلمِ أن يتَّبِعوا سبُلَ أهلِ الضَّلالةِ بعدما صاروا إليه مِن سُلوكِ السُّنَّة النبويَّة والمَحجَّة المُحمَّديَّة- على من جاء بها أفضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ- كما أنَّه بَعْثٌ للأمَّةِ، وتهييجٌ على الثَّباتِ في الدِّينِ والتصَلُّبِ فيه ، وتحذيرٌ مِن الركونِ إلى تمويهاتِ المشركين

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُه تعالى: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا فيه دَلالةٌ على بقاءِ نعيمِ الجنَّةِ، إلَّا أنَّ الدَّائمَ الذي لا يَنفَدُ ولا يَنقَضي إنَّما هو النَّوعُ، وإلَّا فكلُّ فَردٍ مِن أفرادِه نافِدٌ مُنقَضٍ ليس بدائمٍ

.

2- قولُ الله تعالى: أُكُلُهَا دَائِمٌ يدُلُّ على أنَّ حَرَكاتِ أهلِ الجنَّةِ لا تنتهي إلى سُكونٍ دائمٍ، كما يقولُه أبو الهُذَيل وأتباعُه .

3- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ فيه دليلٌ على أنَّ الرسلَ- صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- لم يخبِروا بما تُحيلُه العقولُ، وتقطعُ باستحالتِه؛ لأنَّ النفوسَ لا تفرحُ بالمحالِ .

4- جمعَ اللهُ تعالى كُلَّ ما يَحتاجُ المرءُ إليه في مَعرفةِ المبدأِ والمعادِ في ألفاظٍ قَليلةٍ منه، فقال: قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ وهذا الكلامُ جامِعٌ لكُلِّ ما ورد التَّكليفُ به، وفيه فوائِدُ:

أوَّلُها: أنَّ كَلِمةَ (إنَّما) للحَصرِ، ومعناه: إنِّي ما أُمِرتُ إلَّا بعبادةِ الله تعالى، وذلك يدُلُّ على أنَّه لا تَكليفَ ولا أمْرَ ولا نَهيَ إلَّا بذلك.

وثانيها: أنَّ العبادةَ غايةُ التَّعظيمِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ المرءَ مُكَلَّفٌ بذلك.

وثالثُها: أنَّ عِبادةَ اللهِ واجِبةٌ، وهو يُبطِلُ قَولَ نُفاةِ التَّكليفِ، ويُبطِلُ القَولَ بالجَبرِ المَحضِ.

ورابعُها: قَولُه: وَلَا أُشْرِكَ بِهِ وهذا يدُلُّ على نفيِ الشُّرَكاءِ والأندادِ والأضدادِ بالكليَّةِ، ويدخُلُ فيه إبطالُ قَولِ كُلِّ من أثبَتَ مَعبودًا سِوى اللهِ تعالى.

وخامسُها: قَولُه: إِلَيْهِ أَدْعُو والمرادُ منه أنَّه كما وجَبَ عليه الإتيانُ بهذه العباداتِ، فكذلك يجِبُ عليه الدعوةُ إلى عبوديَّةِ اللهِ تعالى، وهو إشارةٌ إلى نبُوَّتِه.

وسادسُها: قَولُه: وَإِلَيْهِ مَآبِ وهو إشارةٌ إلى الحَشرِ والنَّشرِ والبَعثِ والقيامةِ، فإذا تأمَّلَ الإنسانُ في هذه الألفاظِ القليلةِ ووقَفَ عليها، عرَفَ أنَّها محتويةٌ على جَميعِ المطالِبِ المُعتَبَرةِ في الدِّينِ .

5- قولُ الله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ توعَّدَ رَسولَه- مع أنَّه معصومٌ-؛ ليمتَنَّ عليه بعِصمتِه، ولتَكونَ أُمَّتُه أُسوتَه في الأحكامِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذين اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ

- قولُه: وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ جُملةٌ مُستأْنَفَةٌ؛ للمُناسَبةِ بالمُضادَّةِ، وهي كالبيانِ لجُملةِ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ

، والمعنى: عُقْبَى الكافرينَ لا غيرُ، وفيه ما لا يخْفَى مِن إطماعِ المُتَّقينَ، وإقناطِ الكافرينَ .

2- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ استِئنافٌ ابتدائيٌّ، انتقَلَ به إلى فَضْلٍ لبعْضِ أهلِ الكِتابِ في حُسْنِ تلقِّيهم للقُرآنِ، بعد الفراغِ مِن ذكْرِ أحوالِ المُشركينَ مِن قولِه: كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ... إلخ؛ ولذلك جاءتْ على أُسلوبِها في التَّعقيبِ بجُملةِ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ .

- قولُه: قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ اتَّصَلَ هذا بقولِه قبلَه: وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ، أي: لم يُعطَفْ عليه؛ لأنَّه جوابٌ للمُنكرينَ، معناه: قُلْ: إنَّما أُمِرْتُ فيما أُنْزِلَ إليَّ بأنْ أعبُدَ اللهَ ولا أشرِكَ به، فإِنكارُكم لِبعضِه إنكارٌ لِعبادةِ اللهِ وتوحيدِه .

- وأفادت إنَّما أنَّه لم يُؤْمَرْ إلَّا بأنْ يعبُدَ اللهَ ولا يُشرِكَ به، أي: لا بغيرِ ذلك ممَّا عليه المُشركونَ؛ فهو قصْرٌ إضافيٌّ دلَّت عليه القرينةُ .

- قولُه: إِلَيْهِ أَدْعُو فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ؛ للتَّخصيصِ، فالمعنى: إِلَيْهِ أَدْعُو خُصوصًا، لا أَدْعو إلى غيرِه، وَإِلَيْهِ لا إلى غَيرِه مَرْجِعي .

3- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ

- قولُه: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ هذا مِن بابِ الإلْهابِ والتَّهييجِ، والبَعثِ للسَّامعينَ على الثَّباتِ في الدِّينِ، والتَّصلُّبِ فيه، وألَّا يَزِلَّ زالٌّ عند الشُّبهةِ بعدَ استمساكِه بالحُجَّةِ، وإلَّا فقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن شِدَّةِ الشَّكيمةِ بمكانٍ .

- قولُه: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ فيه الْتفاتٌ مِن التَّكلُّمِ أَنْزَلْنَاهُ إلى الغَيبةِ مِنَ اللهِ- فلم يَقُلْ: (مِنَّا)- وإيرادُ الاسمِ الجليلِ؛ لِتربيةِ المَهابةِ .

- وأُدْخِلَ على المعطوفِ وَلَا وَاقٍ حرْفُ النَّفيِ (لا)؛ للتَّأكيدِ ، و(مِن) الدَّاخِلةُ على اسمِ الجلالةِ في قولِه: مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ تتعلَّقُ بـ وَلَيٍّ ووَاقٍ، و(مِن) الدَّاخِلةُ على وَلَيٍّ؛ لِتأْكيدِ النَّفيِ؛ تنصيصًا على العُمومِ .

- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا، وفي سُورةِ طَهَ قال: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [طه: 113] ؛ فاختلَفَتِ العِبارةُ في السُّورتينِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ سُورةَ الرَّعدِ لم يَتقدَّمْ فيها شيءٌ مِن القصصِ الإخباريَّةِ، وإنَّما المُتقدِّمُ فيها تَفاصيلُ أحكامٍ مرْجِعُها بجُملتِها إلى اختِلافِ أحوالِ المُكلَّفينَ، وتفْصيلُ أحوالِهم بحَسَبِ ما قَدَّرَه سُبحانَه في أَزَلِه، وما حَكَمَ به عليهم، ثمَّ بيَّنَ تعالى حُكْمَ كلٍّ مِن الفَريقينِ بعدَ وصْفِهم، ثمَّ أعقَبَ بِمآلِ الفَريقينِ؛ فقال فيمَن هداه فعلِمَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [الرعد: 23] إلى قولِه: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 24] ، وأتْبَعَ بحالِ الآخَرينَ المَوصوفينَ بنَقْضِ عهْدِه سُبحانَه، وأخبَرَ بأنَّ لهمُ اللَّعنةَ ولهم سُوءَ الدَّارِ، وبيَّنَ تعالى حُكْمَه في بَسْطِ الرِّزقِ لِمَن يشاءُ وقبْضِه عمَّن يَشاءُ، وأعلَمَ اللهُ تعالى أنَّه يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدي إليه مَن أناب، ثمَّ وصَفَهم بإيمانِهم واطْمئنانِ قُلوبِهم بِذكْرِه، ودارتِ الآياتُ بعدُ على أنَّ كلَّ جارٍ في خلْقِه فبِتَقْديرِه، وتَناسَب ذلك إلى الآيةِ، وكلُّ ما تَقدَّمَ فهو حُكمُه السَّابِقُ في خَلْقِه، فأعقَبَ هذا بقولِه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا [الرعد: 37] . ولَمَّا تقدَّمَ آيةَ سُورةِ طه قَصَصُ مُوسى عليه السَّلامُ، وما جرَى مِن فِتْنةِ قَومِه بعدَه بفعْلِ السَّامريِّ، وما كان مِن قولِ هارونَ عليه السَّلامُ وتذْكيرِه إيَّاهم، وقولِ بَني إسرائيلَ: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه: 91] إلى قولِه: كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا [طه: 99] ، ثمَّ أتبَعَ هذا بما يُلائِمُه إلى قولِه: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا [طه: 113] ، أي: قَصَصًا مَقْروءًا بلِسانِ العرَبِ، مُذَكِّرًا مَن وُفِّقَ لاعتبارِه والاتِّعاظِ به: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه: 113] ؛ فناسَبَ كلٌّ مِن العِبارتينِ مَوضِعَه أتَمَّ مُناسَبةٍ، ولم يكُنِ العكْسُ لِيُناسِبَ

=======================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (38-40)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ

المعنى الإجمالي:

 

يرُدُّ اللهُ تعالى على من كان يُنكِرُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تزَوُّجَه بالنِّساءِ قائلًا: لقد بَعَثْنا قبلَ هذا الرَّسولِ رُسُلًا مِن البَشَرِ، وجَعَلْنا لهم أزواجًا وذُرِّيَّةً، فما بالُكم تُنكِرونَ عليه ما كانوا عليه؟! ثمَّ ردَّ على الكُفَّارِ ما اقتَرَحوه على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الآياتِ بأنَّه ليس في قدرةِ رَسولٍ أن يأتيَ بمُعجزةٍ تدلُّ على صدقِه إلَّا بإذنِ اللهِ؛ لكُلِّ أمرٍ قضاه اللهُ ولكل أجَلٍ قدَّره كتابٌ أُثبِتَ فيه، يمحو اللهُ ما يشاءُ مِن الأقدارِ المكتوبةِ؛ مِن شَقاوةٍ أو سعادةٍ، أو رِزقٍ أو عُمُرٍ، وغيرِ ذلك، ويُبقي منها ما يشاءُ، وذلك فيما يكونُ في أيدي الملائكةِ مِن صحفٍ، وعِندَه أمُّ الكتابِ، وهو اللَّوحُ المحفوظُ.

ثم يقولُ الله تعالى لنبيِّه: وإنْ أريناك- يا محمَّدُ- بعضَ العذابِ الذي توعَّدْنا به المشركين لكفرهم، أو توَفَّيناك قبلَ رؤية ذلك؛ فليس عليك إلَّا تبليغُ الرسالةِ، وعلينا لا عليك الحِسابُ والجَزاءُ.

تفسير الآيات:

 

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّ هذا عَودٌ إلى الرَّدِّ على المُشرِكينَ في إنكارِهم آيةَ القُرآنِ، وتصميمِهم على المُطالبةِ بآيةٍ مِن مُقتَرَحاتِهم تُماثِلُ ما يُؤثَرُ مِن آياتِ موسى وآياتِ عيسى- عليهما السَّلامُ- ببيانِ أنَّ الرَّسولَ لا يأتي بآياتٍ إلَّا بإذنِ اللهِ، وأنَّ ذلك لا يكونُ على مُقتَرَحاتِ الأقوامِ

.

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً.

أي: ولَقد بَعَثْنا- يا محمَّدُ- إلى الأمَمِ الماضيةِ رُسُلًا مِن قَبلِك، فكانوا بشَرًا مِثلَهم، وجَعَلْنا لهم أزواجًا يَنكِحونَهنَّ، ورَزَقْناهم أولادًا؛ فلستَ أوَّلَ رَسولٍ بشَريٍّ أُرسِلَ إلى النَّاسِ، حتى يستغرِبَ قَومُك إرسالَك إليهم .

وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ.

أي: ولا يَقدِرُ أيُّ رَسولٍ أرسَلَه اللهُ تعالى إلى قومٍ أن يأتيَ قَومَه بمُعجِزةٍ تدُلُّ على صِدقِه، إلَّا بأمرِ اللهِ؛ فهو الذي يأتي بالمُعجِزةِ، ويؤيِّدُ بها رسولَه متى شاء .

لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ.

أي: لكلِّ أجلٍ قدَّره الله، ولكلِّ أمرٍ قضاه، كتابٌ أُثبِت فيه، ووقت معلومٌ يقعُ فيه، لا يتقدَّمُ عليه ولا يتأخَّرُ، فلا تكونُ آيةٌ إلاَّ بأجلٍ قد قضاه الله تعالى في كتابٍ .

يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39).

يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ.

أي: يمحو اللهُ ما يشاءُ مِن الأقدارِ المكتوبةِ، فيمحو ما يشاءُ مَحوَه مِن شَقاوةٍ أو سعادةٍ، أو رِزقٍ أو عُمُرٍ، أو خيرٍ أو شَرٍّ، وغيرِ ذلك، ويُبقي منها ما يشاءُ ، وذلك فيما يكونُ في أيدي الملائكةِ مِن صحفٍ .

وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.

أي: وعندَ اللهِ أصلُ الكتابِ، وهو اللَّوحُ المَحفوظُ .

وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

أنَّها عَطفٌ على جُملةِ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ باعتبارِ ما تُفيدُه مِن إبهامِ مُرادِ اللهِ في آجالِ الوعيدِ، ومواقيتِ إنزالِ الآياتِ، فبَيَّنَت هذه الجملةُ أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس مأمورًا بالاشتغالِ بذلك ولا بترَقُّبِه، وإنَّما هو مبَلِّغٌ عن اللهِ لعبادِه، واللهُ يعلَمُ ما يحاسِبُ به عبادَه، سواءٌ شهِدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك أم لم يَشهَدْه .

وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ.

أي: وإنْ أريناك- يا محمَّدُ- في حياتِك بعضَ العذابِ الذي نعِدُ به المُشرِكينَ لكُفرِهم، أو توفَّيناك قبلَ أن نُرِيَك عذابَهم؛ فليس عليك سوى تبليغِهم رسالةَ اللهِ في كِلا الحالَينِ .

وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ.

أي: وعلينا نحنُ- لا عليك- محاسَبةُ العبادِ، ومُجازاتُهم على أعمالِهم؛ ثوابًا أو عِقابًا

 

.

كما قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية: 21-26].

الفوائد التربوية:

 

.

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً فيه أنَّ النِّكاحَ مِن سُنَّةِ المُرسَلينَ

، وفي ذلك ترغيبٌ في النكاحِ وحضٌّ عليه، ونهيٌ عن التبتلِ، وهو تركُ النكاحِ .

2- استُدِلَّ على تفضيلِ النِّكاحِ على التَّخلي لنوافِلِ العبادةِ بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ اختار النِّكاحَ لأنبيائِه ورُسُلِه، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً، وقال في حقِّ آدمَ: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] ، واقتطَعَ مِن زمَنِ كَليمِه عَشرَ سِنينَ في رعايةِ الغنَمِ مَهرًا للزَّوجةِ، ومعلومٌ مِقدارُ هذه السِّنينَ العَشرِ في نوافِلِ العباداتِ، واختار لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أفضَلَ الأشياءِ، فلم يُحِبَّ له تَركَ النِّكاحِ، بل زَوَّجَه بتِسعٍ فما فوقَهنَّ، ولا هَدْيَ فوقَ هَديِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم .

3- قولُ الله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ هذه الآيةُ صَريحةٌ في أنَّ كُلَّ شَيءٍ بقَضاءِ الله وبقَدَرِه، وأنَّ الأمورَ مَرهونةٌ بأوقاتِها .

4- قال الله تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ هذه الآيةُ تدُلُّ أنَّ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يهديَ النَّاسَ هِدايةَ الدَّلالةِ والإرشادِ؛ أمَّا هدايةُ التَّوفيقِ فليسَت على الرَّسولِ، ولا إلى الرَّسولِ؛ فالرَّسولُ لا يجبُ عليه أنْ يهديَهم؛ وليس بقُدرتِه ولا استطاعتِه أنْ يهديَهم، ولو كان بقُدرتِه أن يهديَهم لَهَدى عَمَّه أبا طالبٍ، ولكنَّه لا يستطيعُ ذلك؛ لأنَّ هذا إلى الله سُبحانه وتعالى وَحدَه

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ

- قولُه: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ترْكيبُ (ما كان) يدلُّ على المُبالَغةِ في النَّفيِ

.

- قولُه: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فيه الْتفاتٌ، حيثُ لم يقُلْ: (إلَّا بإذْنِنا) على نَسَقِ أَرْسَلْنَا وجَعَلْنَا؛ لِتربيةِ المَهابةِ، ولِتَحقيقِ مَضمونِ الجُملةِ بالإيماءِ إلى العِلَّةِ .

- قولُه: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ... تَذييلٌ؛ لأنَّه أفادَ عُمومَ الآجالِ؛ فشَمِلَ أجَلَ الإتيانِ بآيةٍ مِن قولِه: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وذلك إبطالٌ لِتوهُّمِ المُشركينَ أنَّ تأخُّرَ الوعيدِ يَدُلُّ على عدَمِ صِدْقِه، وفي هذا الرَّدِّ تعريضٌ بالوعيدِ .

- وفي قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال في سُورةِ الرُّومِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ [الروم: 47] ؛ فقُدِّمَ الرُّسلُ على المجرورِ في سُورةِ الرَّعدِ، وورَدَ في سُورةِ الرُّومِ بتَقْديمِ المَجرورِ على الرسلِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ المُتقرِّرَ في الكتابِ العزيزِ أنَّه إذا ورَدَ اسمُ نَبِيِّنا مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع غَيرِه مِن الرُّسلِ عليهم السَّلامُ مُفْصحًا بأسمائِهم في آيةٍ واحدةٍ؛ فإنَّه يتقدَّمُ اسْمُه ظاهرًا كان أو مُضْمرًا، ثمَّ يُذْكَرُ بعدَه مَن تَضمَّنَته الآيةُ منهم عليهم السَّلامُ، وجَمْعُ المذكَّرِ السَّالمُ مِن ألفاظِ العُمومِ عندَ الأُصوليينَ؛ فقولُه: مِنَ النَّبِيِّينَ يعُمُّ نَبِيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وغيرَه مِن النَّبيِّينَ عليهم السَّلامُ. ثمَّ لمَّا أفصَحَ بمَن ذُكِرَ في الآيةِ مِن أُولي العزْمِ؛ إشعارًا بِتَفضيلِهم على مَن سِواهم، بُدِئَ به عليه السَّلامُ، وقُدِّمَ المجرورُ في قولِه: مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ في سُورةِ الرُّومِ؛ لِمكانِ ضَميرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أمَّا آيةُ الرَّعدِ فمُوازِنٌ لها ومُناسِبٌ ما تَقدَّمَها مِن قولِه تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الرعد: 32] ؛ فتأخَّرَ الضَّميرُ في الآيتَينِ للمُوازَنةِ والتَّقابُلِ، والثَّانيةُ منهما مَحمولةٌ على الأُولى في رَعْي ما ذُكِرَ، وإنَّما تأخَّرَ ضَميرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الآيةِ الأُولى عن ذِكْرِ الرُّسلِ؛ لأنَّ ذِكْرَهم هنا عليهم السَّلامُ لم يَرِدْ مُعَرِّفًا بأحوالِهم وما مُنِحُوا مِن الاصطفاءِ والتَّكريمِ، وإنَّما ذُكِرَ هنا إساءةُ مُكذِّبي أُمَمِهم إليهم، ونَيْلُهم منهم ضُروبَ المَضرَّاتِ، وليس ذلك ممَّا يُعْرَفُ بِمَناصِبِهم في التَّفضيلِ، وإنَّما ذُكِرَ ذلك؛ لِيَتأسَّى بهم نَبِيُّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّبرِ والتَّحمُّلِ، ولِيَقْتَدِيَ بِهُداهم، ثمَّ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السِّيادةُ المَعروفةُ والمكانةُ المُتقرِّرةُ؛ فَتَقَدُّمُ ذِكْرِهم في قولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ [الرعد: 32] ، وتأخيرُ ضَميرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِمَا ذُكِرَ، ثمَّ ورَدَتِ الآيةُ بعدُ؛ فجَرَى الإخبارُ فيها على ذلك؛ إحرازًا للمُناسَبةِ والمُوازنةِ أيضًا؛ فليس ذِكْرُهم مُجْملًا غيرَ مُفصَّلٍ كذِكْرِهم على التَّعيينِ بأَسمائِهم .

2- قوله تعالى: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ جُملةَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ تقْتَضي أنَّ الوعيدَ كائنٌ، وليس تأْخيرُه مُزيلًا له .

3- قوله تعالى: وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ

- قولُه: وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أصْلُه (إنْ نُرِكَ)، و(ما) مَزيدةٌ؛ لِتأكيدِ معنى الشَّرطِ، ومِن ثمَّةَ أُلْحِقَتِ النُّونُ بالفعْلِ .

- والعُدولُ إلى صِيغَةِ الاستقبالِ نَعِدُهُمْ؛ لاستحضارِ الصورةِ، أو للدلالةِ على التجدُّدِ والاستمرارِ؛ أي: نَعِدُهم وعدًا مُتجدِّدًا حسَبَما تقْتَضيه الحِكمةُ مِن إنذارٍ غِبَّ إنذارٍ .

- وفي الإتيانِ بكلمةِ (بَعْضَ) رَمْزٌ إلى إرادةِ بعضِ الموعودِ، وإيماءٌ إلى أنَّه يرى البعْضَ، وفي هذا إنذارٌ لهم بأنَّ الوعيدَ نازلٌ بهم ولو تأخَّرَ .

- قولُه: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ جُعِلُ التَّوفِّي كِنايةً عن عدَمِ رُؤيةِ حُلولِ الوعيدِ، بقَرينةِ مُقابَلتِه بقولِه: نُرِيَنَّكَ .

- قولُه: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (إنَّما) للحصْرِ، والمحصورُ فيه هو البلاغُ؛ لأنَّه المُتأخِّرُ في الذِّكْرِ مِن الجُملةِ المدخولةِ لِحرْفِ الحَصْرِ، والتَّقديرُ: عليك البَلاغُ لا غيرُه؛ مِن إنزالِ الآياتِ، أو مِن تَعجيلِ العَذابِ؛ ولهذا قُدِّمَ الخبَرُ على المُبتدأِ؛ لِتَعيينِ المحصورِ فيه

===========================

 

سورةُ الرَّعدِ

الآيات (41-43)

ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ

غريب الكلمات:

 

أَطْرَافِهَا: أي: جَوانِبِها ونَواحيها، وأصلُ (طرف): يدُلُّ على حَدِّ الشَّيءِ وحَرْفِه

.

لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ: أي: لا رادَّ لحكمِه، ولا يتعَقَّبُه أحَدٌ بتغييرٍ ولا نَقضٍ، والمُعَقِّبُ: الذي يَتْبَعُ الشَّيءَ فيَستَدرِكُه، وأصلُ (عقب): يدلُّ على تأخيرِ شَيءٍ، وإتيانِه بعد غَيرِه

 

.

المعنى الإجمالي:

 

يقولُ الله تعالى: أوَلم يَرَ هؤلاءِ الكُفَّارُ  أن الله ينصُرُ المُسلِمينَ، ويفتَحُ لهم ديارَ المُشرِكينَ أرضًا بعدَ أرضٍ، واللهُ سُبحانَه يحكُمُ ويقضي في خَلقِه بما يشاءُ لا  نقضَ لحُكمِه ولا تغييرَ، وهو سبحانه سريعُ الحِسابِ.

وقد مكرَ الذين مِن قَبلِ مُشرِكي العرَبِ برُسُلِهم، وكفروا بهم، وأرادوا إخراجَهم مِن بلادِهم، فمكَرَ اللهُ بهم، وانتَقم منهم، فلِلَّه المكرُ كلُّه، فأسبابُه بِيَدِه، يعلَمُ ما تعملُ كُلُّ نفسٍ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وسيُجازيها على ما عمِلت، وسيعلَمُ الكُفَّارُ- يوم القيامة لِمَن تكونُ عاقِبةُ الدار الآخرة.

ويقولُ الذين كفروا لك- يا محمَّدُ-: لستَ رَسولًا مِن عندِ اللهِ، قُلْ لهم: يكفيني اللهُ شاهدًا بصِدقي وكَذِبِكم، ومَن عِندَه عِلمُ التَّوراةِ والإنجيلِ مِن اليهودِ والنَّصارى، فإنَّهم يشهدونَ لي أنِّي رسولٌ مِن عندِ اللهِ.

تفسير الآيات:

 

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا وعَدَ اللهُ تعالى رسولَه بأنْ يُريَه بعضَ ما وُعِدوه أو يتوفَّاه قبلَ ذلك؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ آثارَ حُصولِ تلك المواعيدِ وعلاماتِها قد ظهَرَت وقَوِيَت، فقال تعالى

:

أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا.

أي: أوَلم يَنظُرِ الكُفَّارُ أنَّا ننصُرُ المُسلِمينَ، ونفتَحُ لهم ديارَ المُشرِكينَ أرضًا بعدَ أرضٍ، فنَنقُصُ دارَ الكُفَّارِ، ونَزيدُ في دارِ الإسلامِ؟ أفلا يعتَبِرونَ بذلك فيخافونَ ظُهورَهم على أرضِهم، وقَهرِهم إيَّاهم ؟

كما قال تعالى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ [الأنبياء: 44] .

وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.

أي: واللهُ هو الذي يقضي في خَلقِه بما يشاءُ، ويُعاقِبُ مَن يشاءُ، ولا يُبطِلُ أحدٌ حُكمَه بردٍّ أو نقضٍ أو تغييرٍ، فما حكَمَ اللهُ به مِن العِقابِ لا يُبطِلُه أحدٌ، وهو واقِعٌ ولو تأخَّرَ .

وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.

أي: والله سريعٌ مجئُ حسابِه، ومجازاتِه لعبادِه، وهو واقعٌ لا محالةَ، لا يدفعُه دافعٌ، فلا يَسْتعجلوا بالعذابِ؛ فإنَّ كلَّ ما هو آتٍ قريبٌ .

وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42).

وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.

أي: وقد مكرَ الذين مِن قَبلِ مُشرِكي العرَبِ برُسُلِهم، وكفروا بهم وكادُوا لهم، وأرادوا إخراجَهم مِن بلادِهم، فمكَرَ اللهُ بهم، وانتَقم منهم، وجعَل العاقبةَ لعِبادِه المتَّقينَ .

كما قال سبُحانه: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل: 50 - 52].

وقال تعالى: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم: 46] .

وقال سُبحانه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال: 30] .

وقال عزَّ وجلَّ: وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا [نوح: 22] .

قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا.

أي: فلِلَّه المكرُ كُلُّه؛ لأنَّ أسبابَ المَكرِ بِيَدِه، ومكْرُ الكفَّارِ مخلوقٌ لا يضُرُّ إلَّا بعد إذنِه، فكذلك هؤلاء المُشرِكونَ مِن قُريشٍ يمكُرونَ بك يا محمَّدُ، واللهُ مُنَجِّيك مِن مَكرِهم، ومُلحِقٌ ضَرَّ مَكرِهم بهم دونَك .

يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ.

أي: يعلَمُ اللهُ ما تعمَلُ كُلُّ نَفسٍ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، وسيُجازيها على جميعِ أعمالِها؛ الظَّاهرةِ والباطنةِ، ومِن ذلك عِلمُه بما يعمَلُ هؤلاء المُشرِكونَ مِن قَومِك- يا محمَّدُ- وما يَسْعَون فيه مِن المَكرِ بك .

وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ.

أي: وسيَعلمُ الكُفَّارُ يومَ القيامةِ لِمن تكونُ عاقبةُ الدارِ الآخرةِ حينَ يَدْخلون النارَ، ويدخلُ المؤمنونَ الجنةَ ؟

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43).

مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:

لَمَّا تقَدَّمَ قَولُه تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [الرعد:27] ، عطَفَ عليه- بعدَ شَرحِ ما استَتبَعَه- قَولَه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا؛ لِكَونِك لا تأتي بمُقتَرَحاتِهم، مع أنَّه لم يَقُلْ يَومًا: إنَّه قادِرٌ عليها، فكأنَّه قيل: فما أقولُ لهم؟ فقال: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا .

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً.

أي: ويقولُ لك الكُفَّارُ- يا مُحمَّدُ- تكذيبًا بنُبوَّتِك: لستَ رَسولًا مِن عندِ اللهِ !

قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.

أي: قلْ لهم- يا محمَّدُ-: يكفيني اللهُ شاهِدًا عليَّ وعليكم بصِدقي وكَذِبِكم .

وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ.

أي: وأهلُ الكتابِ الذين عِندَهم عِلمُ التَّوراةِ والإنجيلِ؛ فإنَّهم يشهدونَ لي أنِّي رسولٌ مِن عندِ اللهِ، فيَشهدونَ أنَّ الأنبياءَ السَّابقينَ أتَوا بمِثلِ ما أتيتُ به؛ كالأمرِ بعبادةِ اللهِ وَحدَه، والنَّهيِ عن الشِّركِ، والإخبارِ بيومِ القيامةِ والشَّرائعِ الكُلِّية، ويشهدونَ أيضًا بما وردَ في كتُبِهم مِن ذِكرِ صِفاتِي وبِشاراتِ الأنبياءِ بي

 

.

كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 197] .

وقال سُبحانه: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] .

وقال عزَّ وجلَّ: ... وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم [الأعراف: 156- 157] .

الفوائد العلمية واللطائف:

 

1- قال الله تعالى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لكَمالِ حِكمتِه وعِلمِه وعِزَّتِه- سُبحانَه- لا مُعَقِّبَ لحُكمِه، ولا يُعتَرَضُ عليه بالسُّؤالِ؛ لأنَّه لا يَفعَلُ شَيئًا سُدًى، ولا خلَقَ شَيئًا عَبَثًا، وإنَّما يُسألُ عن فِعلِه مَن خرجَ عن الصَّوابِ، ولم يَكُنْ فيه مَنفعةٌ ولا فائِدةٌ

.

2- قولُه تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا فيه سؤالٌ: كيف أثبَتَ لهم مكرًا، ثمَّ نفاه عنهم بقَولِه: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا؟

الجوابُ: معناه أنَّ مكرَ الماكرينَ مخلوقٌ له، ولا يضُرُّ إلَّا بإرادتِه؛ فإثباتُه لهم باعتبارِ الكَسبِ، ونفيُه عنهم باعتبارِ الخَلقِ ، وقيل: وصَفهم بالمكْرِ، ثمَّ جعَل مكْرَهم كَلَا مَكْرٍ بالإضافةِ إلى مَكْرِه؛ فقال: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا، ثمَّ فسَّرَ ذلك بقولِه: يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ؛ لأنَّ مَن علِمَ ما تكسِبُ كلُّ نفْسٍ، وأعَدَّ لها جزاءها، فهو المكْرُ كلُّه؛ لأنَّه يأتيهم مِن حيث لا يعلَمونَ، وهم في غفلةٍ ممَّا يُرادُ بهم ، وقيل: سمَّاها (مكرًا) على عُرفِ تسميةِ المعاقبةِ باسمِ الذنبِ .

3- قولُ الله تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ إنَّما أمَرَ اللهُ باستشهادِ أهلِ الكتابِ؛ لأنَّهم أهلُ هذا الشَّأنِ، وكلُّ أمرٍ إنَّما يُستشهَدُ فيه أهلُه، ومَن هم أعلَمُ به مِن غَيرِهم، بخلافِ مَن هو أجنبيٌّ عنه، كالأمِّيِّين مِن مشركي العرَبِ وغيرِهم، فلا فائدةَ في استشهادِهم؛ لعدمِ خِبرتِهم ومعرفتِهم، واللهُ أعلمُ .

4- قال الله تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ فمَن عنده عِلْمُ الكتابِ فإنه يَشهدُ بما في الكِتابِ الأوَّلِ، وهذا يُوجِبُ تصديقَ الرَّسولِ؛ لأنَّه يَشهدُ بالمِثْل، ويَشهدُ أيضًا بالعَينِ، وكُلٌّ مِن الشَّهادتينِ كافيةٌ، فمتى ثَبَتَ الجنسُ عُلِمَ قطعًا أنَّ المُعَيَّنَ منه .

5- في قَولِه تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ دَلالةٌ على أنَّه ما كان مِن العِلْمِ المَوروثِ عن نبيِّنا محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلنا أنْ نستشهِدَ عليه بما عند أهلِ الكِتابِ .

6- من الحجج المفيدة عند المناظرة أن تحتج على الطائفة بقول بعض علمائِها؛ قال تعالى: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ

 

.

بلاغة الآيات:

 

1- قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا استفهامٌ إنكاريٌّ، والواوُ للعطْفِ على مُقَدَّرٍ يَقتَضيهِ المَقامُ، أي: أَأَنْكَروا نُزولَ ما وعَدْناهم، أو أَشَكُّوا، أو أَلَمْ ينْظُروا في ذلك ولم يَرَوا، والضَّميرُ عائدٌ إلى المُكذِّبينَ العائدِ إليهم ضميرُ نَعِدُهُمْ، والكلامُ تهديدٌ لهم بإيقاظِهم إلى ما دَبَّ إليهم مِن أشباحِ الاضمحلالِ بإنقاصِ الأرضِ، أي: سُكَّانِها

، وذلك على أحدِ أوجهِ التأويلِ.

- قولُه: أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرافِهَا في لفْظِ (الإتيانِ) المُؤْذِنِ بالاستِواءِ المحتومِ، والاستيلاءِ العظيمِ: مِن الفَخامةِ ما لا يَخْفى، كما في قولِه عزَّ وجلَّ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23] .

- قولُه: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ جُملةٌ اعتراضيَّةٌ جِيءَ بها لِتأْكيدِ فَحْوى ما تَقدَّمَها، وفيه الْتفاتٌ بَليغٌ مِن التَّكلُّمِ إلى الغَيبةِ، حيثُ أظهَرَ اسمَ الجَلالةِ بعدَ الإضمارِ الذي في قولِه: أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ، فرجَعَ عن خِطابِ النَّفْسِ إلى الغَيبةِ، وبناءُ الحُكمِ على الاسمِ الجليلِ يَنْطَوي على أعظَمِ الأسرارِ وأبهَرِها؛ ففيه دَلالةٌ على الفَخامةِ، وتربيةِ المَهابةِ، وتَحقيق مَضْمونِ الخبَرِ بالإشارةِ إلى العِلَّةِ، وكذلك فيه تَذكيرٌ بما يَحتوي عليه الاسمُ العظيمُ مِن معنى الإلهيَّةِ والوَحدانيةِ المقتضيةِ عَدمَ المنازِعِ، وأيضًا لتكونَ الجملةُ مُستقِلَّةً بنَفْسِها؛ لأنَّها بمَنزلةِ الحِكمَةِ والمَثَلِ .

- وقولُه: لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ اعتراضٌ في اعتراضٍ؛ لِبيانِ عُلُوِّ شأْنِ حُكمِه جلَّ جلالُه .

- قولُه: وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ كِنايةٌ عنِ الجَزاءِ .

2- قوله تعالى: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ هذا تَسليةٌ لِرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه لا عِبْرَةَ بمَكْرهِم ولا تأثيرَ، بل لا وجودَ له في الحقيقةِ، ولم يُصرِّحْ بذلك اكتفاءً بدَلالةِ القصْرِ المُستفادِ مِن تعليلِه، أي: قوله تعالى: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ .

- وتقديمُ المجرورِ في قولِه: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا للاختِصاصِ، أي: لهُ لا لغيرِه؛ فالقصْرُ في قولِه: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ ادِّعائيٌّ، والعُمومُ في قولِه: جَمِيعًا تنزيليٌّ؛ بتنزيلِ مكرِ غيرِ الله منزِلةَ العدَمِ .

- قولُه: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ كالتَّفسيرِ لِمكْرِ اللهِ تعالى بهم، واللَّامُ تدلُّ على أنَّ المُرادَ بالعُقْبى العاقبةُ المحمودةُ .

3- قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ

- قولُه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه إيثارُ صِيغَةِ الاستقبالِ (يقول)؛ لاستحضارِ صورةِ كلمَتِهم الشَّنعاءِ؛ تعجُّبًا منها، أو للدَّلالةِ على تجدُّدِ ذلك، واستمرارِه منهم .

- قولُه: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا الباءُ الدَّاخِلةُ على اسمِ الجلالةِ، الَّذي هو فاعلُ (كفى) في المعنى؛ للتَّأكيدِ، وأصْلُ التَّركيبِ: كفى اللهُ .

- والموصولُ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ يَجوزُ أنْ يُرادَ به جنْسُ مَن يتَّصِفُ بالصِّلةِ، وإفرادُ الضَّميرِ المُضافِ إليه- لـ (عند)-؛ لِمُراعاةِ لفْظِ (مَن)==

قلت المدون/ التالي سورة إبراهيم بمشيئة الله تعالي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين

  تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد للعثيمين مقدمة التحقيق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالن...